أعظم من ولدته النساء

17 ديسمبر 2025

أود أن أحدثكم اليوم عن رجل وصفه الرب بأنه أعظم من ولدته النساء ، وأنه أفضل من نبي وسنحاول أن تتأمل في بعض جوانب من حياته يوحنا المعمدان شخصية تقف فى مفترق عهدين يمكن اعتباره آخر أنبياء العهد القديم ويمكن اعتباره من رجال العهد الجديد الملاك الذي أعد الطريق أمام السيد المسيح .
عظمة يوحنا :
وكان يوحنا إنساناً عظيماً ، وفى عظمتة تذكر ثلاث ملاحظات :
أولا : انه كان عظيما بشهادة السماء نفسها كثيرون شهد لهم الناس بالعظمة وكانت شهادات خاطئة أو زائفة أو متعلقة أو عن جهل أما يوحنا المعمدان فكانت عظمته حقيقية ويقينية شهد بها ملاك الرب الذي بشر بميلاده ( لو ١٥:١ ) بل شهد بها الرب نفسه ( متى ۱۱ : ۱۱ ) . وهكذا لصقت العظمة بيوحنا حتى قبل أن يولد.
ثانيا : لم يكن عظيما فقط وانما أعظم من كل البشر وفي هذا قال عنه السيد المسيح نفسه للجموع ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا ؟ أنبياً ؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي فان هذا هو الذى كتب عنه ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ. طريقك قدامك الحق أقول لكم إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان ( متی ۱۱ : ۷ - ۱۱ ) .
ثالثا : كانت عظمة يوحنا عظمة امام الرب :
قال الملاك الذي بشر بميلاده لأنه يكون عظيماً أمام الرب (لو 1 : ١٥ ) حقاً اننا نقف مذهولين أمام عبارة عظيماً أمام الرب فأمام الرب كلنا لا شيء تراب ورماد تختفى كل عظمة ويستد كل فم أما أن يكون إنسان ما عظيماً أمام الرب فهذا شيء عجيب وعجيب جداً يدل على تواضع الرب وتشجيعه الخليقته ويدل أيضاً على قيمة هذا الانسان في قلب الله
فما هو السر في عظمة يوحنا هذه العظمة العجيبة ؟
أعمال عظيمة قد قيلت عنه : منها أنه و يرد كثيرين إلى الرب إلههم. يرد العصاة إلى فكر الأبرار ،و يهيىء للرب شعباً مستعداً و يهيىء الطريق قدام الرب ،و يتقدم أمامه بروح إيليا وقوته وفي كل ذلك نسأل الملاك الذي بشر بميلاده عن سر هذه العظمة العجيبة فيجيبنا بقوله إنه "من بطن أمه يمتلى بالروح القدس" ( لو ١ : ١٥ ) حقاً هذه هي سر عظمة يوحنا سمعنا في الكتاب المقدس أن الروح القدس حل على كثيرين في العهد القديم : حل روح الرب على شمشون وعلى شاول وعلى داود وعلى كثير من الأنبياء ولكن لم نسمع مطلقاً عن أحد من هؤلاء أنه" من بطن أمه "قد امتلأ بالروح القدس هذا الأمر قد اختص به يوحنا المعمدان ، لم يسبقه اليه أحد ومن نتائج هذا الامتلاء انه ارتكض بابتهاج في بطن أمه تحية للجنين الالهى وهو في بطن العذراء لقد أوتى المعرفة التي يميز بها الرب وهو ما يزال جنيناً في الشهر السادس في بطن القديسة اليصابات بل أنه أيضاً أوتى روح العبادة وهو في بطن أمه أمر لم نسمعه عن أحد من الأنبياء أو القديسين من قبل لقد عرف المسيح وآمن به وسجد له في البطن قبل أن يولد المسيح
قالت عنه أمه اليصابات و ارتكض الجنين بابتهاج في بطني لقد ابتهج بالرب فرح به فرح بالخلاص الذي كان مزمعاً أن يأتي إلى العالم من بطن العذراء ! .
عجیب مثل هذا الابتهاج من جنين لا يدرك ولا يعى :
ولكن يزول العجب إذ كان هذا الجنين ممتلئاً من الروح القدس والروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله ، ( ۱ کو ۱۰:۲ ) .
نذير الرب :
كان يوحنا المعمدان مفرزاً للرب قبل أن يولد الله العارف بالمستقبل الفاحص القلوب والمدرك الخفيات كان يعرف من سيكون هذا الانسان يوحنا لذلك اختاره الرب لنفسه . وكما يقول الرسول عن الرب ومختاريه "الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم "هؤلاء مجدهم أيضا ( رو ۸ : ۳۰ ) الله نظر إلى المستقبل فرأى قلب هذا الملاك يوحنا ورأى ماذا يمكن أن يفعل فاختاره لنفسه ودعاه وصار نذيرا للرب قبل أن يولد وخمراً ومسكراً لا يشرب وأعد له الرب نوع خدمته قبل أن يولد إنه يذكرنا بقول الرب لأرمياء النبي "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك جعلتك نبيا للشعوب ، ( ار ١ : ٥ ) "عرفتك " نعم هذه المعرفة السابقة هي سر الاختيار تماماً كما حدث في اختيار الرب ليعقوب دون أخيه عيسو وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيراً أو شراء ولكن الله كان يعرف خاصته يعرف ماذا سيكون يعقوب وماذا سيكون عيسو لذلك قال لأمهما رفقه و في بطنك امتان ومن أحشائك يفترق شعبان وكبير يستعبد لصغير . ( تك ٢٥ : ٢٣ ) ولعل أعظم ما في حياة يوحنا أنه عمد المسيح له المجد أتى إليه السيد المسيح ليعتمد منه كباقى الناس ومن أجل الطاعة قام يوحنا بعماد المسيح واستحق لذلك أن يرى الروح القدس هيئة حمامة وأن يسمع صوت الاب قائلا " هذا هو إبنى الحبيب الذي به سررت " ( متی ٣: ١٦ -١٧ ) وهكذا تمتع بالثالوث الأقدس ، روحاً وحساً.
وتظهر عظمة يوحنا المعمدان فى أنه تم عمله العظيم في مدة قصيرة لعلها ستة أشهر او أزيد قليلا هذه الستة أشهر هي الفرق بين عمره وعمر المسيح وكل منهما بدأ عمله في نحو الثلاثين من عمره وخدم يوحنا هذه الستة أشهر ولما ظهر المسيح بدأ يختفى هو وفى هذه المدة الوجيزة استطاع يوحنا أن يهدى كثيرين إلى التوبة وأن يشهد شهادة قوية للرب وأن يمهد الطريق أمام المسيح وأقنع العالم كله بأن قوة الخدمة ليست في طولها وإنما في عمقها في مدى فاعليتها وتأثيرها أليس عجيباً أن كثير من الخدام النافعين لا يتركهم الرب يخدمون طويلا يكفى أنهم قدموا عينة للخدمة وعينة للبر قدموا شهادة للرب وقدموا مثالا يحتذى واكتفى الله بما فعلوه وأطلقهم بسلام وتبرز عظمة يوحنا في أنه عاش بكماله على الرغم من أن عصره كان مظلما كان عصراً شريراً وكان أشر ما فيه قادته الروحيون من أمثال الكهنة والشيوخ والكتبة والفريسين والصدوقيين وقد قام فيه من قبل بعض المعلمين الكذبة مثل ثوداس ويهوذا الجليلي اللذين تكلم عنهما عمالائيل ( أع ه ) وقد أزاغا كثيرين وكان عصراً يمتاز بالحرفية والبعد عن الروح ويتميز رجال الدين فيه بالرياء والكبرياء وعلى الرغم من وجود أضواء بسيطة مثل حنة النبية وسمعان الشيخ وزكريا الكاهن وأمثالهم إلا أن العصر في مجموعه كان فاسداً يكفى أن الرب وصفه بأنه "جيل فاسق وشرير ' ( متی ۱۲ : ۳۹ ) ولكن يوحنا لم يتلذ من فساد جيله بل على العكس كان بركة لجيله وسبب هداية وتوبة ومن عظمة يوحنا انه كان ابن الجبال كان رجل برية ورجل زهد ونسك وكل ذلك ترك اثره في حياته وفي صفاته طارده الموت من صغره عندما قتل هيرودس الأطفال فأخذوه إلى البرية وعاش في البرارى طوال عمره " ينمو ويتقوى بالروح " ( ۱ : ۸۰) . عاش ناسكاً "و خمراً ومسكراً لا يشرب ."( لو ١٥:١ ) " يلبس وبر الابل ومنطقة من جلد على حقويه ويأكل جراداً وعسلا برياً "( مر ٦:١ ) هكذا تدرب في البرية على حياة الزهد وصدق مار اسحق حينما قال ان مجرد نظر القفر يميت من القلب الحركات العالمية وفي البرية تعلم الصلاة والتامل وتعلم الشجاعة والصلابة وتعلم الايمان أيضا أعده الله في مدرسة البرية كما أعد العذراء في الهيكل فنشأ شجاعاً لا يهاب إنساناً، يصلح أن يكون صاحب رسالة وكانت رسالته هي اعداد الناس للتوبة ومن عظمة يوحنا يوحنا المعمدان انه كان شجاعا جريئا يقول الحق بكل قوة مهما كانت النتائج حقا ان الزاهد لا يخاف أخطأ هيرودس الملك فمن كان يجرؤ أن يوبخه أو يواجهه بكلمة الحق ؟ من الذى يعلق الجرس في عنق القط ؟ ! ليس غير يوحنا المعمدان هو الوحيد الذي استطاع أن يقول لهيرودس "لا يحل لك" القاء هيرودس في السجن فلم يهتم انما يخاف السجن انسان يحب متع العالم وملاذه ويخشى ان يحرمه السجن منها أما إنسان ناسك كيوحنا زهد كل ملاذ العالم وتركها بارادته ففي أي شيء يتعبه السجن ؟ !
ربما يقال له : ستتعطل خدمتك بالسجن ولا ترشد ولا تعمد ولا تهدى الناس إلى التوبة أما يوحنا فلا يهتم ولا يقول : أن كان هذا الباب مفتوحاً من الله فلا يستطيع أحد أن يغلقه .
ان كان الله يريد يوحنا أن يبشر فسيبشر ولا يستطيع أحد في الوجود أن يمنعه وان كان الله لا يريد فلتكن مشيئته بهذا المنطق كان يوحنا يشهد للحق وليحدث بعد ذلك ما يكون وكان ما كان وقطعت رأس يوحنا ولكن هذا الصوت الصارخ في البرية ظل يدوى في أذن هيرودس يزعج ضميره وأفكاره و نومه و صحوه ويقول له فى كل وقت " لا يحل لك " ان صوت يوحنا لم يمت بموت يوحنا بل ظل مدويا ضد أعداء الحق وظل هيرودس يخاف يوحنا حتى بعد موته فعندما أحس هيرودس بكرازة المسيح القوية وبمعجزاته قال لغلمانه « هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات ولذلك تعمل به القوات " !! ( متى ١٤ : ٢ ) .
إن يوحنا قد عامل هيرودس الملك كما عامل باقى الناس كان يدعو الكل إلى التوبة سواء في ذلك الملك
أم الجند أم القادة أم أفراد الشعب الكل سواء أمام شريعة الله الكل في حاجة إلى التوبة الملك محتاج إلى من يوبخه على خطيته كما يحتاج الفرد العادى لكي يتوب وإن لم يتب الملك فيكفي يوحنا أنه شهد للحق وأنه نادى بالتوبة كانت معموديته هي معمودية التوبة ورسالته هي دعوة للتوبة ينادي في الناس "توبوا فقد اقترب ملكوت السموات " (متى ٢:٣) وكان شديداً في دعوته يوبخ وينتهر ويبكت وكان الناس يقبلون تبكيته بقلب مفتوح ونجح يوحنا في خدمته " خرج اليه أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم " ( متى ٦:٣ ) ولما رأى الجموع قد كثرت حوله حول انظارهم منه الى المسيح بذل كل جهده لكي يختفى هو ويظهر المسيح ولعل هذه هي أبرز فضائل يوحنا واقدس أعماله كان يقول لهم " أنا أعمدكم بماء للتوبة ولكن الذي يأتى بعدى سيعمدكم بالروح القدس و نار "( متی ۱۱:۳ ) "أنا عمدتكم بالماء وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس "( مر ٨:١ ) وكما كان يجذبهم إلى معمودية أخرى أفضل من معموديته كان يجذبهم بالأكثر إلى صاحب تلك المعمودية الذي هو أقوى منه وأعلى وأقدم كان ينادى فى الناس "يأتى بعدى من هو أقوى منى الذي لست أنا أهلا أن أنحنى وأحل سيور حذائه" ( مر ٧:١ ) " يأتي بعدی رجل صار قدامي لأنه كان قبلى " ( يو ١ : ٣٠ ) "لست أنا المسيح بل اني مرسل أمامه "( يو ٢٨:٣ ) لم يكن تفكير يوحنا منحصرا في ذاته وانما في المسيح لم يكن يبحث عن مجد ذاته وانما عن ملكوت المسيح كان يدرك تماماً أنه ليس هو النور وانما ليشهد للنور (يو ٨:١) إذن فهو مجرد إنسان جاء للشهادة ليشهد للنور ليؤمن الكل بواسطته كان يعرف أنه مجرد سابق أمام موكب الملك الآتى كل عمله أن يعد الطريق الملك واستطاع يوحنا أن يحفظ طقسه ولا يتجاوز حدوده كانت الذاتية ميتةعند يوحنا لم يكن لذاته وجود في خدمته كان المسيح بالنسبه اليه هو الكل في الكل ليته يكون درسا للخدام الذين يبنون ذواتهم على حساب الخدمة أو يتخذون الخدمة مجرد مجال لاظهار ذواتهم !!
أروع كلمة تعبر عن خدمة يوحنا هي قوله عن المسيح " ينبغى أن ذلك يزيد وأنى أنا أنقص "( يو ٣٠:٣ ) هذه العبارة هي سر نجاح خدمته وهي المبدأ الذي صار عليه في كل خدمته لذلك عندما بدأت كرازة المسيح وأخذت تكتسح خدمة يوحنا ابتهج يوحنا وفرح وقال "اذن فرحى هذا قد كمل و من له العروس فهو الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية والذي لا يؤمن بالإبن ان يرى حياة بل يمكث العريس عليه غضب الله" ( يو ٣ : ٣٦:٢٦ ) حالما تقابل يوحنا مع المسيح قال له « تفضل هذه العروس انها لك اذا تسلمتها لمجرد ان أوصلها لك حقاً انه من واجبي أن أوصلها لك نظيفة ومزينة وأنادى لها أولا بالتوبة وأقول لها أيتها العروس هوذا العريس مقبل فاستعدى للقائه" على أن اعظم ما في حياة يوحنا كان هو عماده للمسيح وفي العماد ترى موقفين عظيمين فى الاتضاع للرب ويوحنا يوحنا يقول اللرب و أنا محتاج أن أعتمد منك أنا أيضاً خاطي أحتاج إلى معمودية التوبة معترفاً بخطاياي كهؤلاء الباقين وأنا محتاج أن أعتمد منك أنت أنني أمام هؤلاء الناس معلم أما أمامك أنت فأنا تلميذ بسيط امام الناس أنا نبى وملاك ولكن أمامك انا عبد وتراب هم يعتمدون منى وأنا أعتمد منك حقاً انني من سبط لاوى ومن بنی هارون كاهن ابن كاهن وأنت حسب الجسد من سبط يهوذا وليس من سبط الكهنوت ولكننى لا أنى أنك مصدر كل سلطة كهنوتية أنت معطى الكهنوت ومنشؤه أنت كاهن إلى الأبد على طقس ملكى صادق كما تنبأ داود في المزمور ( مز ١١٠ : ٤ ) لذلك أنا محتاج أن أعتمد منك ان كل العظمة التي كانت تحيط به لم تنسه ضالة ذاته التي شعر بها أمام المسيح وكأنه يقول " من أنا حتى أعمد المسيح ؟ ! كما قالت أمه من أين لى هذا أن تأتى أم ربي إلى " أنا مجرد تراب ورماد كيف أضع يدى على رأس الرب خالق هذه اليد ؟ !
ان كل الآلاف الذين يأتون اليه لم ينسوه حقيقة نفسه وكل التوبيخات التي يوبخ بها الناس الخطاة لم تنسه توبيخاً يوجه إلى ذاته كشخص - أمام الله - يشعر أنه خاطى وهكذا قال للرب "أنا محتاج أن أعتمد منك " وكانت هذه العبارة تحمل اعترافاً ضمنياً نلاحظ أن الرب لم يقل له "كلا " انك غير محتاج للعماد بل قال له " اسمح الآن لانه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر "( متى ٣ : ١٥ ) ." حينئذ سمح له "! !
ونحن نقف منذهلين أمام عبارة " اسمح الآن " وهي تخرج من فم الرب موجهة إلى واحد من عبيده انه تعبير مؤدب ولطيف ليتنا نأخذه تدريباً روحياً لنا يقول لعبده " اسمح الآن " أنا احتاج الى سماح منك أطلب موافقتك است آمرك وانما اسمح ويقول وحينئذ سمح له ما أعجب هذا أى شرح لى سيفقد هذا الموقف قوته لذلك سأصمت عنه انه درس في الاتضاع وآداب الحديث يقدمه لنا عماد المسيح لنتعلم وتتدرب
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عظة البابا يوم 5/12/1980

عدد الزيارات 19

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل