بمناسبة تذكارنا للعذراء في صوم الميلاد المجيد وفي ليالى كيهك المباركة نود أن نتأمل في عبارة قالتها العذراء للملاك المبشر هوذا أنا أمة الرب ليكن لى كقولك ( لو ۱ : ۳۸ ) .
ليكن لى كقولك
لا شك أن العذراء ما كانت تفكر مطلقاً انها ستحبل وتلد ولكن لما جاءتها المشيئة الإلهية تركت مشيئتها الخاصة وفي ملء التسليم للرب قالت "ليكن لى كقولك" ومع أنه بشرها بمخلص يخلص شعبه جاءها الأمر أن تهرب بهذا المخلص إلى أرض مصر إلى بلاد غريبة عنها موضعاً وديانة إلا أنها قالت" ليكن لى كقولك "وكان مجيئها مع الرب سبب بركة لكل أرض مصر حتى الآن لا شك إنها كانت تحب البقاء في الهيكل في حياة الصلاة والتأمل والعبادة ولكن الرب نقلها إلى أماكن متعددة من الهيكل إلى بيت يوسف إلى بيت لحم إلى مصر إلى الناصرة وهي لا تقول سوی "ليكن لي كقولك "مثال آخر : قديس متوحد في جبل الكرمل هو إيليا نقله الرب من حياة العبادة والنسك فى الجبل إلى صميم مشاكل المجتمع مرة يرسله إلى صرفة صيدا حيث تعوله امرأة ومرة يرسله إلى آخاب الملك الذي يزمع قتله ومرة يرسله إلى حيث يقتل كل الانبياء الكذبة وهو في كل ذلك لا يقول سوى" لكن لى كقولك" ليست الوحدة في الكرمل هي هدفى انما هدفى مشيئتك أنا معك ومع مشيئتك حيثما أردتني أن أكون على الجبل معك وفي المدينة معك في التأمل معك وفي الخدمة معك ليس لي أن أقر أنت الذي تقرر وأنا أنفذ .
مثال آخر أرمياء الرقيق الهادي الصغير الذي لا يحتمل المشاكل الذي دموعه في عينيه باستمرار يرسله الرب ليدخل في عمق المشاكل ليوبخ ملوك يهوذا ورؤسائها وكهنتها وشعب الأرض ويحاربونه والكل يخاصمه وهو يكشف خطاياهم ويتنبأ لهم ينبوءات لا تريحهم ليس له أن يقول إلا " ليكن لى كقولك "وإن قال و لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد يقول الرب " إلى كل من أرسلك إليه تذهب و تتكلم بكل ما آمرك به "( أر ١) ومع أن الله وعده أن يجعله مدينة حصينه وعمود حديد وأسوار نحاس إلا انهم القوه في الوحل وهو يغنى بانشودته الجميلة "ليكن لى كقولك " وأخيراً لخص أرمياء النبى اختباراته الروحية في تلك العبارة الخالدة "عرفت يارب أنه ليس للإنسان طريقة ليس لانسان يمشى أن يهدى خطواته " ( ار ۲۳:۱۰ ) يحدث كثيراً أن يحب أحد الرهبان حياة الوحدة والتأمل ثم يدعوه الله إلى خدمة فهل يحتج على الرب ويرفض أم يقول له في استسلام كما قالت مريم" ليكن لى كقولك " سهل علينا أن نطيع الله فيما يوافق هوانا ولكننا في هذه الحالة نكون قد اطعنا هوانا وليس الله أما عبارة" ليكن لى كقولك " فتنطبق حينما نقول معها " لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك " نقولها بلا تذمر بل بملء الثقة مؤمنين بمحبة الله ومؤمنين بحكمته وحسن تدبيره غير مخضعين الأمور لافكارنا الخاصة ودون أن ندخل في جدل مع الله انظروا الى يوسف الصديق وكم عاش في هذا المبدأ اظهر له الله رؤى واحلاماً مؤداها أن أباه وأمه واخوته سيأتون ويسجدون له وإذا الواقع أن اخوته يحسدونه ويلقون به في بئر ثم يبيعونه كعبد وينتهى به الأمر إلى بيت فوطيفار ثم تلفق ضده وضد امانته تهمة رديئة ويلقى في السجن ظلماً ! ! وهو في كل هذا لا يحتج وليس أمامه سوى عبارة" ليكن لى كقولك " لم يقل للرب أين وعودك ؟ وأن الاحلام والرؤى ؟ وأين العدل فيما لاقيته من ظلم ؟ وإنما قال" ليكن لى كقولك" و نفذ الله وعوده له ، ولكن فى الوقت المناسب حسب حكمة الله و حسن تدبيره اننا لا نقول عبارة « ليكن لى كقولك » لاننا نريد أن نخطط لانفسنا ويكون الله بالنسبة الينا جهاز تنفيذ ! !
نحن ندبر وهو ينفذ 11 واثقين بافكارنا وعقولنا وكل تدابير الله معنا نريد أن نراجعها حسب مقاييسنا الخاصة التي كثيراً ما تكون خاطئة وكثيراً ما تخفى عليها عوامل متعددة ... !
قصة ابراهيم أب الآباء مثال رائع لهذا المبدأ الروحي في يوم من الأيام قال له الرب "خذ ابنك وحيدك الذى تحبه اسحق وقدمه لى محرقة على الجبل الذي أريك إياه " أمر يبدو وكأنه ضد الطبيعة البشرية ! كيف يقدم إبنه محرقة ؟ ! أما أبونا ابراهيم فلم يكن فى قلبه ولا فى فكرة سوى عبارة" ليكن لى كقولك" سهل جدا أن نرتل في الكنيسة ترتيلة "حيث قادني اسير "ولكن نحن نسير وفق كلمات الترتيلة ؟ !
أم نحن نسير فى كل ما يحيط بنا لا تقبل إلا ما يوافقنا ، ولا نسير بسهولة فيما يريده الله لنا كلام التسليم لله موجود فقط في الترتيلة وليس في واقع الحياة يعقوب أبو الآباء خطب راحيل لتكون زوجة له وفي يوم الزواج أعطوه ليئه فقبلها لتكون له إلى جوار راحيل قائلا في قلبه" ليكن لي كقولك "وما أعجب حكمة الرب أنه من ليئه هذه التي فرضت على يعقوب ولد المسيح ولما ظهر الرب ليعقوب وباركه في نفس وقت البركة ضربه الرب على حق فخذه فظل يخمع عليه طول حياته وقبل يعقوب هذه الضربة وفي قلبه" ليكن لى كقولك " كل شيء من الله هو نافع ومفيد حتى لو كان لا يبدو لنظرنا كذلك ."كل الاشياء تعمل معا للخير " ان حكمتنا قاصرة وتدبير الله هو فوق فهمنا نتقبله من الله في فرح والقلب يغنى" ليكن لى كقولك " فهمت أنا أو لم أفهم ليس هذا هو المقياس الحقيقي انما المقياس هو محبتك للبشر وحكمتك التي لا تحد وهكذا في نفس قصة داود النبي وعلاقته بالملك مسحه صموئيل النبى ملكاً ثم تركه دون أن يسلمه من الملك شيئاً وإذا به يخدم شاول الملك المرفوض من الله ويذوق منه الأمرين مطارداً من برية إلى أخرى والموت يتهدده فلم يحتج ولم يقل أين الملك والمسحة بل تقبل الأمر في هدوء قائلا في قلبه " ليكن لى كقولك " ان الله يحب الذين يتقبلون تدبيره في وداعة وثقة لا يناقشون الله في شك أو في تذمر لذلك كان البسطاء الودعاء هم المختارون من الله الذي يكشف لهم قلبه ويعلن لهم ذاته ويختارهم لتنفيذ مشيئته لقد اختار الصيادين البسطاء وليس الحكماء والفلاسفة ليكونوا رسله لأنهم هم الذين يقولون في صدق "ليكن لى كقولك"
ان الانسان الذي يحيا حياة التسليم له صفات :
لا يمكن أن يسلم إرادته لله ما لم يثق به كل الثقة ،ولا يثق به إن لم يعرفه ويختبره ويحبه ويوقن تماماً أن الله صانع الخيرات وأن كل ما يعمله هو للخير والذي يحيا حياة التسليم يحيا في الفرح الدائم أما الذي يناقش ويحتج ويتذمر ويراجع كل أعمال الله فإنه يحيا باستمرار فى قلق واضطراب وتعب لا يتمتع بسلام القلب ولا بالفرح الحقيقي يونان النبي اعتمد على فكره أكثر من حكمة الله أمره الله أن يذهب إلى نينوى وينادى عليها فرفض أن يذهب رفض أن يقول "ليكن لى كقولك " وأخذ سفينة وهرب بها إلى ترشيش فماذا كانت النتيجة ؟ هاج البحر واضطربت السفينة والقي يونان في البحر وأعد الله حوتاً عظما فابتلع يونان ولما عاد يونان واستسلم لمشيئة الله قذفه الحوت الى الخارج لينفذ أمر الرب ويسير حسب قوله وكل قصة التمرد التي عاشها لم يستفد منها شيئاً .
تدرب على حياة الطاعة ... طاعة بحب وثقة .
تقول للرب إن أردتني أن أمشى معك على الماء سأمشى ولا شك وإن أردتنى أن أتمشى معك في أتون النار سأسير فيها بفرح الكلمة التي تضعها فى فمى سأنطق بها والكلمة التي تضعها في أذني سأعمل بها أن تكون لى إرادة غير إرادتك لن أدبر حیاتی بفکری بل "ليكن لي كقولك " ما أجمل حياة أيوب الصديق حينما كان في حياة التسليم وأحاطت به الضيقات من كل جانب واحتجت امرأته فقال لها" تتكلمين كلاماً كأحدى الجاهلات الخير من الله نقبل والشر لا تقبل ؟! " ( أى ١٠:٢ ) إن الخير يتوقف على صلاح الله وحكمته ومحبته ولا تحكمه ظواهر الأمور ولا فهمنا القاصر.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عظة البابا يوم 12/12/1980