القيامة وأعماقها الروحية

22 أبريل 2020
Large image

القيامة لقاء عجيب:-
إنها أولاً لقاء صديقين متحدين هذان الصديقان عاشا معاً العمر كله ، منذ الولادة ، بل و قبلها أيضاً ، أثناء الحمل في بطن الأم ، لم يفترقا لحظة واحدة ، و أعني بهما الجسد و الروح كل منهما طبيعة متميزة تماماً الجسد طبيعة مادية ، و الروح طبيعة روحية ، اتحدا في طبيعة واحدة هي الطبيعة البشرية ، لا تستطيع أن تفصل بينهما فتقول هنا الجسد و هنا الروح ، عاشا بهذه الوحدة العجيبة ، التي يعبر فيها الجسد عن كل مشاعر الروح إن فرحت الروح ، يبتسم الجسد و يتهلل و إن حزنت الروح ، يظهر حزنها في عينيه و بعد عمر وحياة ، انفصل الاثنان بالموت و أخيراً يلتقيان في القيامة بعد غربة طويلة ، و يتحدان مرة أخري ! تري ما هي مشاعر الروح و هي تلقي بجسدها ، شريك العمر ، ربما بعد اَلاف أو مئات السنين ، مثلما تلتقي أرواح اَدم و نوح و ابراهيم بأجسادها!!تلتقي الروح بجسدها ، بعد أن رأته يتحول إلي حفنة تراب ، ثم يعود ، و في صورة أبهي من الأول ، بلا أي عيب ، و لا نقص ، حتي العيوب التي كانت فيه اثناء ذلك الزمان السحيق نعم ، يقوم بلا عيب ، لأن العيوب لا تتفق مع النعيم الأبدي و أيضاً يعود و هو أكثر صداقة ، فلا يختلف إطلاقاً في الحياة الأخري مع الروح ، إذ يقوم جسداً روحانياً .
اللقاء العجيب الثاني في القيامة ، هو لقاء شعوب و أجناس التاريخ إنها قيامة عامة منذ اَدم ، تجتمع فيها كل الشعوب و الأجناس ، التي عاشت خلال أجيال و قرون ، بكل ملامحها و لغاتها ، بكل أبطالها و قادتها ألعلها تتعارف و تتفاهم ؟! نعم ، بلا شك لأنه ستكون للكل لغة واحدة هي لغة الروح ، أو لغة الملائكة حقاً ما أعجب هذا اللقاء ! إنه قصة القصص ، و حكاية دهور طويلة و أجمل ما فيه موكب المنتصرين ، الذين جاهدوا خلال حياتهم في العالم و غلبوا انتصروا للحق و القيم . يلقتون و وراء كل منهم رواية روتها الأجيال و يعود العالم شعباً واحداً كما كان ، قبل أن يفترق و يتشتت تري كيف سيكون لقاء الشعوب التي كانت متصارعة من قبل ؟ أتري تبدو أمامهم تافهة " جداً " ، تلك الأسباب التي دعتهم من قبل إلي الصراع ؟!
اللقاء الثالث العجيب ، هو لقاء البشر و الملائكة و هم طبيعة أخري أسمي من طبيعتنا ، و لكن اللقاء بهم هو إحدي متع الأبدية و أسمي من هذا كله بما لا يقاس : لقاؤنا مع الله التقاؤنا به تبارك اسمه - هو النعيم الأبدي ، و لا نعيم بدون الله هنا و يقف قلمي في صمت خاشع ، لأني أمام أمر لا تستطيع الألفاظ أن تعبر عنه لأنه فوق مستوي اللغة في التعبير ، و فوق مستوي العقل في التفكير القيامة إذن هي لقاء عجيب و ماذا أيضاً ؟
القيامة هى انتقال عجيب:-
هي انتقال من المحدود إلي اللا محدود انتقال من هذا العمر المحدود بأيام و سنين ، إلي حياة غير محدود ، بل إلي مجال هو فوق الزمن أتري هل توجد هناك أرض تدور حول نفسها و حول شمس ، و تترجم دوراتها إلي أيام و سنين ؟! أم أننا سنرتفع فوق الزمن بدخولنا في عالم اَخر جديد ! مقاييس الزمن ستنتهي لحظة واحدة في الأبدية ، هي أطول و أعمق من حياة الأرض كلها القيامة أيضاً هي انتقال من المرئيات إلي ما لا يري هي دخول فيما قال عنه الكتاب " ما لم تره عين ، و لم تسمع به أذن ، و لم يخطر علي قلب بشر ، ما أعده الله لمحبي إسمه القدوس " ( 1 كو 2 : 9 ) إنه دخول في عالم الأرواح ، و التقاء مع الملائكة ، و هم أرواح ، تري مع أفراح لم تعرف من قبل في هذا العالم المادي المرئي و هنا تكون القيامة سمواً فوق مرتبة ما تدركه الحواس ، بارتفاع إلي ما لا تدكه سوي الروح .
هي إذن انتقال من ععالم الحواس إلي عالم الروح أو هي اقتناء حواس روحية غير الحواس المادية الحالية ، حواس تري الروح و الروحيات ، و تبهر بها و هنا أصمت مرة أخري هنا نوع من التجلي للطبيعة البشرية تدرك فيه ما لم تكن من قبل ، و تكتسب خواصاً روحية لم تكن تمارسها قبلاً ، و تصبح في القيامة في وضع تستطيع به أن تري ما لا يري ، أو بعضاً منه ، أو تتدرج في الرؤية ، منتقلة من شبع روحي ، إلي شبع أسمي و اسمي ، حياة التجلي و القيامة هي انتقال من عالم الباطل إلي عالم الحق . من عالم الفناء إلي عالم البقاء من عالم كل ما فيه يبطل بعد حين ، إلي عالم باق ليس فيه بطلان عالم كل ما فيه حق و ثابت انتهت منه الخطيئة ، و أصبح كل ما فيه براً و فيه أيضاً ينتقل الإنسان من عشرة إلي عشرة ، أنقي و أبقي و أصفي و ماذا عن القيامة أيضاً ؟
القيامة معجزة متعددة الجوانب:-
1- أنها معجزة ممكنة هنا قدرة الله العجيبة ! كيف يجمع الأجساد مرة أخري بعد أن تحولت إلي تراب ؟! أليس هو الذي خلقها من قبل من تراب ، بل من عدم ، فالتراب كان عدماً قبل أن يكون تراباً و الذي يتأمل القيامة من هذه الناحية ، إنما يتأمل القدرة غير المحدودة التي لإلهنا الخالق ، الذي يكفي أن يريد ، فيكون كل ما يريد ، حتي بدون أن يلفظ كلمة واحدة إنها إرادته التي هي في جوهرها أمر فعال قادر علي كل شئ.
2- نسمي القيامة إذن معجزة ليس لأنها صعبة و إنما لأن عقلنا يعجز عن إدراكها كيف تكون و إن كان العقل يعجز عن الفهم ، فالأيمان يستطيع بسهولة أن يفهم لذلك فالقيامة هي عقيدة للمؤمنين الذي يؤمن بالله و قدرته ، يستطيع أن يؤمن بالقيامة و الذي يؤمن بالله كخالق ، يؤمن به أيضاً مقيماً للموتي أما الملحدون ، فلا يصل إدراكهم إلي هذا المستوي إنهم لا يؤمنون بالقيامة ، كما لا يؤمنون بالروح و خلودها ، كما لا يؤمنون بالله نفسه .
3- القيامة معجزة ممكنة و أيضاً هي معجزة لازمة ، لأجل العدل و لأجل التوازن إنها لازمة من أجل العدل من أجل محاسبة كل إنسان عن أفعاله التي عملها خلال حياته علي الرض ، خيراً كانت أم شراً ، فيثاب علي الخير ، و يعاقب علي الشر و لو لم تكن قيامة ، لتهالك الناس علي الحياة الدنيا ، و عاشوا في ملاذها و فسادها ، غير عابئين بما يحدث فيما بعد أما الإيمان بالقيامة ، و ما يعقبها من دينونة و جزاء ، فإنه رادع للناس ، غذ يشعرون أن العدل ل بد أن ياخذ مجراه في العالم الآخر و هذا الجزاء لا بد أن يكون بعد القيامة و اتحاد الأرواح بالأجساد لأنه ليس من العدل أن تجازي الروح وحدها ، و يترك الجسد بلا جزاء علي كل ما فعله في عصيان الروح أو في طاعتها إذن لا بد أن يقوم الجسد ، و تتحد به الروح ، و يقف الإثنان معاً أمام الله لأن كل أعمالهما علي الأرض كانت معاً كشريكين ملتزمين و القيامة لزمة أيضاً من أجل التوازن ففي الأرض لم يكن هناك توازن بين البشر ، ففيها الغني و الفقير ، السعيد و التعيس ، و المنعم و المعذب فإن لم تكن هناك مساواة علي الأرض ، فمن اللائق أن يوجد توازن في السماء و من لم ينل حقه علي الأرض ، يمكنه أن يناله بعد ذلك في السماء ،و يعوضه الرب ما قد فاته في هذه الدنيا ، إن كانت أعماله مرضية الرب . و قصة الغني و لعازر في الإنجيل المقدس ( لو 16 ) تقدم لنا الدليل الأكيد عن التوازن بين الحياة علي الأرض و الحياة في السماء .
القيامة أيضاً هي معجزة جميلة رائعة لأنها تقدم للعالم الآخر الحياة التالية فالإنسان المثالي الذي تحدث عنه الفلاسفة ، و الذي بحث عنه ديوجين و لم يجده ، و الذي فكر العلماء كيف يكون هذا الإنسان المثالي تقدمه لنا القيامة في العالم الآخر ، في عالم ليست فيه خطيئة علي الإطلاق ، و ليس فيه حزن و لا بكاء ، و لا فساد و لا ظلم ، و لا نقص و لا عيب إنها معجزة تقدمها القيامة ، أو هي شهوة في حياة البر تتحقق بالقيامة و لذلك فالقيامة معجزة مفرحة مفرحة لأن بها تكمل الحياة ، و ينتصر الإنسان علي الموت ، و يحيا إلي الأبد إن الحياة الأبدية هي حلم البشرية التي يهددها الموت بين لحظة و أخري ، و التي تحيا حياة قصيرة علي الأرض ، و علي قصرها مملوءة بالمتاعب و الضيقات ، لذلك يكون فرح عظيم للإنسان أن يتخلص من التعب و من الموت ، و يحيا سعيداً في النعيم البدي إنه حلم يتحقق بالقيامة من هنا نصل إلي حقيقة هامة و هي :
القيامة هى باب الأبدية:-
لولا القيامة لكان الموت حكماً بالفناء و الفناء هو أمر مخيف و هو نهاية مؤلمة تعتبر أقسي مأساة و لكن الله عندما خلق الإنسان ، لم يخلقه للفناء ، و إنما للحياة و إن كان الإنسان قد تعرض للموت بسبب خطيئته ، فإن الله رسم له طريق الخلاص و أقامه من هذا الموت بل إن الله عندما خلق الإنسان ، خلق له شيئاً خالداً هو الروح و الروح لا تموت بموت الإنسان ، بل تبقي حية بطبيعنها و بهذا يختلف الإنسان عن باقي المخلوقات الأخري علي الأرض ، التي تنتهي حياتها و تبيد أما الإنسان فإنه بالقيامة يبدأ من جديد حياة أخري لا تنتهي و هنا تبدو قيمة الإنسان و أفضليته علي غيره من المخلوقات الأرضية و لأن الروح وحدها ، لا تكون إنساناً كاملاً ، لذلك لا بد أن يقوم الجسد و يتحد بها و هكذا لا تكون الحياة الأبدية لجزء واحد من الإنسان هو الروح ، بل تكون للإنسان كله روحاً و جسداً فيعود الإنسان كله إلي الحياة و بهذا تكون القيامة يقظة للإنسان بعد نوم طويل و نقصد بها يقظة لهذا الجسد ، أو للإنسان بمعناه الكامل أما الروح فهي في قظة دائمة إن القيامة هي نهاية للموت فلا موت بعدها إنها نهاية لهذا العدو المخيف لقد انتصر الإنسان علي أعداء كثيرة للبشرية ، ما عدا هذا الذي غلب الجميع لأنه كان عقوبة من الله الذي لا راد لحكمه و لكن الله بالقيامة نجي البشرية من هذا العدو ، و قضي عليه إلي الأبد و اصبحنا أمام جسر يفصل بين حياتين علي أوله الموت ، و في نهايته القيامة فالموت هو نهاية الحياة الأولي ، و القيامة هي بداية الحياة الأخري و المسافة بينهما هي فترة انتظار ، تنتظرها أرواح الذين سبقوا ، حتي يكمل أخوتهم علي الرض جهادهم و اختبارهم علي أن الأبدية التي تقدمها القيامة لا بد تسبقها الدينونة بين القيامة و الأبدية يقف يوم الدينونة الرهيب ، حيث يقف الجميع أمام الله ، ليقدموا حساباً عن كل ما فعلوه بالجسد ، خيراً كان أم شراً يقدمون حساباً عن كل عمل ، و كل فكر ، و كل إحساس و شعور ، و كل نية نووها ، و كل كلمة لفظوها و يمضي الأبرار إلي النعيم الأبدي ، و يمضي الأشرار إلي العذاب الأبدي لذلك فكما أن القيامة فرح للأبرار ، هي ايضاً رعب للملحدين و للأشرار و حتي بالنسبة إلي الأبرار يعيد الله ترتيب مراكزهم ، بحسب أعمالهم فيعطي كل إنسان مركزاً جديداً بحسب ما كان له من نقاوة القلب و الفكر ، و بحسب ما كان له من دقة في تنفيذ وصايا الله ، و من جهاد في نشر الخير و محبة الإنسان ، و أيضاً بحسب ما كان في قلبه من حب لله و اشتياق إليه .
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب تأملات في القيامة

عدد الزيارات 1211

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل