المقالات

02 مارس 2021

صِنَاعَةُ التَّوْبَةِ

ما دمنا نُخطئ كل يوم؛ إذنْ فلنتُبْ كل يوم ونجدد أنفسنا بالتوبة. فمراحم الله نحونا لا نهائية وتفوق كل تعبير. التوبة علاجها ليس له حدود؛ وخطايانا الكثيرة يقابلها مراحم لا تُعدّ ولا تُحصىَ... خطايانا المتكررة لن تستعصي إزاء صلاح الله اللانهائي؛ إنها تتلاشى أمام رأفاته التي لا تفرغ؛ هي تقودنا لكي نتبرر. وما لا نستطيع عمله؛ الله يستطيع بقدرته وبدم صليبه أن يكمله. التوبة هي عهد مع الله وتجديد للمعمودية؛ وهي حُكم على الذات؛ بها يتم المصالحة مع الآب وتطهير الوجدان. نعمل مشيئة الله مبتعدين عن شيطان الجولان. نتشبه بالمسيح في أقواله وأفعاله وأفكاره؛ كي ننجو من القصاص العادل بالشفقة الإلهية... يأتي هو ويدحرج القساوة من قلوبنا ويعتقنا من الحبس والظلمة الخارجية... نُرضي الرب كما يُرضي الجنديُ الملك؛ لأننا سنُطالب بدقّة عن ثمار توبتنا؛ وعلى قدر كثرة شدة تقيُّحنا تشتد الحاجة إلى التداوي؛ لا نميل يمينًا ولا يسارًا؛ ولا نلتفت إلى الوراء؛ فنرتدّ إلى خلف ونصير عمود ملح بلا حراك... نتوب عن شرنا وضعفنا حتى لا تصير أواخرنا أشرّ من أوائلنا؛ ويعطينا الله نعمته لكي نقبلها ونحرسها. ففي نعمته يكمُن خلاصُنا؛ وهي التي تسند توبتنا وتقودنا إن كنا نُخلص بحق. بالتوبة نصل إلى كنزنا الذي داخلنا وسُلَّم ملكوته فينا... سائرين بالتوبة؛ لأن الخلاص هو نصيب مَن يسلك حسب قانونها ويُصلح حاله بتوبته. نتوب عن أرواح الكذب والإدانة والطمع والتعظم ومحبة النصيب الأكبر والنجاسة والخبث والرياء... ولا نثق بطين جسدنا مدى الحياة؛ ولا نرتكن إليه حتى نقف أمام المسيح الديان؛ لأن الله لن يأتي بنا إلى الخلاص ضدًا لحرية إرادتنا؛ بل برغبة أنفسنا وتهليل قلوبنا. صناعة توبتنا تنقذنا من الخطأ وتمنحنا نعيم الملكوت. نتوب عن عبودية الخطية؛ وتكون كل كلمة وكل فعل من معلمنا الإلهي هي قاعدة وقانونًا لنا في التقوى والفضيلة والتجديد يومًا فيومًا؛ حيث يتأسس هيكل الثالوث القدوس في داخل قلوبنا؛ نفعل الأمور الصالحة ويكون الله نفسه هو مُبتغانا. نجمع زهور روحية تنسج لنا أكاليل سماوية وتنضح ثمرتنا (الزهور ظهرت) و (الطيب انسكب) عندما يجتذبنا المسيح نفسه إليه ويقرِّبنا منه. لا يذكر خطايانا وتعدِّياتنا فيما بعد؛ لأن التوبة الحقيقية هي معجزة شفاء عظيمة... وهي البشارة المُفرحة الجديدة... وهي عملنا الدائم الذي يلازم حياتنا باستمرار... نغيِّر أذهاننا وسلوكنا ونقوم من غفلتنا... هي (حزن مُفرح)... (حزن) الندم على خطايانا؛ و(فرح) رجاء الغفران. فهي ليست أزمة نفسية إنفعالية؛ لكنها تحوُّل داخلي وروح جديدة؛ نجحد فيها اليأس ونترجىَ حياة مستقيمة. فنحن لسنا في طريق مسدود؛ بل في سعة سكة الحياة؛ ننسى ما هو وراء ونمتدّ إلى ما هو قدام في موقف دائم ما دامت النعمة وافرة والإرادة حاضرة. حزن التوبة مضيء لأنه حزن بحسب مشيئة الله " يُنشئ توبة لخلاص بلا ندامة " (٢كو ١٠:٧). فما التوبة الصادقة إلا حالة (إنسان الحرية)؛ التي تثمر فرحًا وسلامًا وإنفكاكًا من ثقل الخطية وذنبها وعثرتها... إنه (اختبار) سلوك الحياة والبركة؛ ورفض الموت واللعنة. (اختبار) عمل الإرادة الإلهية من أجل المسرة. (اختبار) عمل الأعمال المرضية أمام الله. (اختبار) دعوة واختيار المُعَيَّنين للحياة الأبدية وللمُمسكين بها؛ والتي إليها دُعُوا. ساهرين صاحين متممين خلاصهم بخوف ورعدة... ملتحفين بنعمة الله المُخلِّصة لجميع الناس... حافظين وديعتهم إلى اليوم الأخير. لأن كل من لا يقدم توبة ينال الويلات والتوبيخ والهلاك "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو ٣:١٣)؛ فإن كان الله يتأنّىَ علينا ويتركنا هذه السنة أيضًا؛ فذلك لأنه لا يشاء قطعنا وهلاكنا؛ لكنه يقبل توبتنا ويبررنا؛ ويقبل ثمرنا إن كنا نرجع ونحيا... هو يمكث معنا ويدخل إلينا ويقبل كل من يُقبل إليه... يأتي عندنا ويصنع منزلاً؛ يدخل ويتعشىَ معنا؛ يُقيم فينا ويغفر لنا زلاتنا... كلما نحاسب أنفسنا ونُدرك ضعفنا ثم نقوم لنرجع إليه. وعندما نأخذ خطوة نحوه هو يأتي إلينا مبادرًا ويستقبلنا ويتحنن على كل راجع؛ يركض نحوه ويُلبسه الحُلة (المعمودية) والخاتم (الميرون) ويدعوه إلى ذبيحته المُثَمَّنة (الإفخارستيا) ليأكل ويفرح بالوليمة المجانية. يا لفِعل التوبة المستمر؛ إنه الحدث الفائق الذي نعود به إلى الله ونرجع إليه وتتغير حياتنا مجددًا. إنه سر حلاوة المسيحية في البداية الجديدة - (هَبني يا رب أن أبدأ) – نعرف زيفنا وسقطاتنا ليحل النور محل الظل والظلام؛ وتصير الخطية المتكررة والمحبَّبة مكروهة ومرفوضة بل وغريبة في نور ومعونة جمال المسيح الإلهي. وهي بالجملة معجزة غفران خطايانا وعمل الله المعجزي معنا مثلما مع السامرية والابن الضال؛ نسرع وننزل مع زكا؛ فنلتقي بالقدوس والبار الذي دعانا لنتوب؛ حاملاً خطايانا في جسده على الخشبة؛ وبه نكون أعظم من منتصرين... متحصِّنين بختمه الملوكي الخلاصي العجيب؛ وبعلامة ضمانته المخلِّصة الموسومة لمعونتنا والتي لا تُمحىَ. ويعتبر الآباء أن التوبة هي برهان التقوى وصدق العِشرة المقدسة مع الآب والمسيح والروح القدس. وبها نختبر الثمار اللائقة التي تفتح إضاءة طريق الملكوت؛ كخطّ ونصيب أبدي في فرح لا يُنطق به... نتوب عن كل شر ولا تسودنا الخطية بسلاح الإنجيل وحلول المسيح في إنساننا الباطن. نجاهد لنضبط أنفسنا في كل شيء؛ وبإصرار نرفض تذكارات الشر ومعقولات إبليس وحِيَله... هو يكرر عمله ونحن نكرر رفضنا " قاوموه راسخين في الإيمان " (١ بط ٩:٥). وبتعب التوبة اليومي لا تعود قلوبنا تتقسىَ عبر أزمنة الحياة وحتى غروب العمر؛ لأن التوبة تُقاس بصدق ميل القلب وحرارته ورغبته؛ وبإدراك مقدار الدَّيْن الذي سامحنا به الله... وإله الفرصة الثانية المتجددة هو إله المستحيلات الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا؛ وهو الفخاري الذي يصيغنا من جديد ويصنعنا آنية كرامة له... يعود ويعملنا وعاءً جديدًا كما يحسُن في عينيه. توبتنا هي طريقنا ومسيرة نموّنا. قائدها الروح القدس؛ تصل بنا إلى الشبه الإلهي؛ وهي لا تكمل إلا بإستجابة عمل النعمة فينا وبإتمام الوصايا وعدم التأجيل أو الإهمال والتحول للطابع الحسن؛ حسب متطلبات قصد دعوتنا التي بها نكون مرضيين عنده وغير مرفوضين... وتستمر توبتنا هذه دائمة حتى القبر عندما نربط كل شيء بما يطلبه منا سيدنا وملكنا في الخفاء والعَلَن؛ وفي كل ما يجعلنا مقبولين عنده. متممين عمله الذي يُنشئ فينا إرادة الخلاص والثبات في توبة تستمر (ستين ثانية × كل دقيقة × ستين دقيقة × كل ساعة × عدد سنوات العمر = توبة الحياة وحياة التوبة). تتفق فيها توبتنا مع عظم إحسان الله تجاهنا؛ فتجعله يتحنن ولا يلاحقنا بغضبه؛ إنما يُدركنا بصلاحه: نطلب الحق / نُنصف المظلوم / نُقضي لليتيم / نُحامي عن الأرملة / نتحاجج معه وهو يسير معنا كل الطريق؛ نمشي له خطوة وهو يقترب نحونا أميالاً ليبيِّضنا كالثلج ويُذيقنا حلاوته ويفتح أمامنا الأبواب؛ فندخل إلى المنازل الكثيرة... وكلما ندخل تنفتح أمامنا أبواب جديدة وتنكشف لنا أعماق العجائب؛ وننال فرح توبة الربيع الروحي... نجني بذار بهحة التحرر من الذنب والمَلامة؛ ونحصد بركات النهوض من السقطة والغفلة. وكما خلُصت رَحاب الزانية واللص اليمين الذي صار أول مواطني الفردوس؛ ومثل العشار الذي صار إنجيليًا؛ والمجدِّف الذي نال رتبة الرسولية، هكذا نحن نكمل صناعة توبتنا في كل زمان مهما كان هو لنا زمان توبة. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
01 مارس 2021

الصوم الكبير كنسيًا

للصوم الأربعيني الكبير مكانة خاصة في كنيستنا، فهو أقدس أيام السنة، ونقول عنه إنه صوم سيدي، لأن سيدنا يسوع المسيح قد صامه، لذا فهو من الأصوام الهامة في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية. وتدخل الكنيسة فيه فترة اعتكافها وتوبتها الليتروجية، فهو ربيع السنة الروحية وزمن الاعتكاف والالتقاء مع الله. ورسمت كنيستنا هذا الصوم ووضعته في برنامجها تشبها بربنا يسوع المسيح نفسه الذي صام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل شيئا فيها.. لذلك اعتبرته فترة تخزين روحي للعام كله ولأهمية الصوم الكبير كان الآباء يتخذونه مجالا للوعظ، مثل القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية، والقديس أغسطينوس إبن الدموع أسقف هيبو واللذان اشتهرت عظاتهما في زمن الصوم الكبير.بل وكانت الكنيسة تجعل أيام الصوم الكبير فترة إعداد للمقبلين على العماد بالتعليم والوعظ ليتقبلوا نعمة المعمودية، فكانت تقام فصول للموعوظين خلال هذا الصوم تلقى فيها عليهم عظات لتسليمهم قواعد الإيمان وتثبيتهم، وهكذا ينالون العماد في يوم "أحد التناصير"، لكي يعيدوا مع المؤمنين في الأحد التالي أحد الشعانين، ويشتركوا معهم في صلوات البصخة وأفراح القيامة.. وقد اشتهرت عظات القديس كيرلس الأورشليمي لإعداد الموعوظين للإيمان خلال فترة الصوم، ومن ثم أصبح الصوم الكبير من أهم الأصوام وأقدمها أيضا والصوم الأربعيني المقدس عبارة عن ثلاثة أصوام، الأربعون المقدسة في الوسط يسبقها أسبوع تمهيدي ويعقبها أسبوع الآلام. أسبوع الاستعداد الأربعون المقدسة 55 يومًا أسبوع الآلام ولاهتمام الكنيسة بهذا الصوم سمته الصوم الكبير، وإذا كان السيد المسيح قد صام عنا وهو في غير حاجة إليه فكم بالحري نحن، وقد مهدت الكنيسة لهذا الصوم بصوم يونان، لتعدها أولادها للصوم الكبير قبل أن يبدأ بأسبوعين، ولتجعله ربيعا للنفس والكنيسة، حيث تتجدد الطبيعة البشرية لتزهر في يوم الأزهار العظيم يوم عيد القيامة المجيدة الذي هو عيد الأعياد ولان الصوم الكبير اكبر الأصوام الكنسية وأقدسها لذا رتبت له كنيستنا طقسًا خاصًا، فله الحان خاصة ومردات خاصة، وله قراءات وقطمارس خاص (قطمارس الصوم الكبير) katameooc، وله ترتيبه وطقسه الخاص (الطقس الصيامي)، في رفع بخور باكر ومطانيات وسجدات metanoia وميامر وطلبات ونبوات وقراءات من العهد القديم،وهكذا جعلت الكنيسة للصوم جوا روحيا خاصا، وهو ما سنتأمل فيه عندما عندما ندخل إلى رحلة الصوم الكبير في المنهج الليتورجي التعبدي.ولما كان هذا الصوم اقتداء بالمسيح لذا رتبته الكنيسة، لتدعونا فيه إلى تبعية المسيح، وبهذا تكون قد أدخلت حياته في جسدها لتكون أفعال حياة رب المجد يسوع هي حياة أعضائها، تقتدي به في منهجها الحياتي، وبهذا تصبح حارسة على سر اللاهوت النسكي الذي أسسه الرب بصومه الأربعين المقدسة، ومن هنا أتت عظمة هذا الصوم في انه يأتي تشبها بصوم السيد المسيح الذي جعلته الكنيسة سرا تسلمه لأولادها العابدين وقصدت الكنيسة من وضع هذا الصوم أن يكون موسم توبة جماعية، لأن كنيستنا جموعية، وتدبير هذا الصوم إنما هو تأكيد لمضمون الشركة في جسد المسيح، لتصير توبتنا الجماعية هدف وقصد هذا الصوم من اجل النمو الجماعي والحب الجماعي والحرارة الجماعية والكرازة الجماعية والصلاة الجماعية كما من قلب واحد، في الكنسية مدينة الرب مسكن القديسين ومجمع الأبرار.لأن كنيستنا ليست كنيسة أفراد، ولكنها كنيسة أعضاء، فهي لا تعرف الفردية ولكنها كنيسة جموعية وكنيسة شركة، (شركة مع الثالوث القدوس، شركة مع القديسين، وشركة مع جماعة المؤمنين أعضاء الجسد الواحد). نتقدم فيها لنأكل جسد الحمل الذي بلا عيب، الذي ينزع خطايا العالم، نأكله في بيت واحد، أي في الكنيسة الجامعة المرشوشة بالحب والحاملة سلاح الفضيلة. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية عن كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
المزيد
28 فبراير 2021

تَذْكَارُ سَاوِيرُوس الأنْطَاكِي (تَاجُ السُّرْيَانِ)

حينما نذكر سيرته العطرة؛ إنما نعيِّد ونكمل بشكل خاص ذكرى المعلمين اللابسي الروح، فكلهم تكلموا روحيًا بفمه الطاهر. وُلد ساويروس سنة ٤٥٩ م في أسيا الصغرى وسُمي بإسم جده لأبيه، وقد درس الأدبين اليوناني واللاتيني في المدينة العظمى الأسكندرية مع شقيقيه الأكبرين، وكان له زميل فاضل يُدعى زكريا الفصيح؛ وهو الذي أسهم في قيادته روحيًا حتى نال صبغة المعمودية المقدسة. درس وعشق تعليم أثناسيوس السكندري وباسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي؛ وأيضًا مصنفات السميين الثلاثة غريغوريوس؛ والذهبي الفم وكيرلس الكبير الحكيم، وكانت أقوالهم وكتاباتهم موضع دراسته وتأملات شبابه؛ معتبرًا أن تعليمهم كنهر؛ مَن لا يشرب منه لا ينتفع، ممتدحًا إياهم؛ لأنهم لم يكتفوا بالكلام بل بالجراءة والعمل؛ وأظهروا رغبتهم في الاستشهاد؛ وما كانوا متعلقين بكراسيهم؛ لكنهم غاروا غيرة عظيمة وغربوا عن العالم ليشرقوا في المسيح شمس البر. سافر إلى مدينة طرابلس ببيروت سنة ٤٨٨ م ليدرس البلاغة والشرع ومصنفات علماءالكنيسة الأُوَل، فقادته النعمة الإلهية إلى دعوة حياة الرهبنة ولبس الإسكيم.. فكتب رسالة في الإيمان إلى رؤساء الأديار حول طبيعة المسيح الكريستولوجية (طبيعة واحدة للكلمة المتجسد)؛ ودافع عن الإيمان السليم؛ مستحضرًا النسخ الأصلية لمقالات ورسائل كيرلس السكندري، ثم ألف كتابًا أسماه فيلو لاتيس (محب الحق)؛ دفاعًا عن كيرلس الحكيم قبالة الخلقيدونيين؛ ودحض طومس لاون؛ ناسجًا على منوال آباء كنيسة الأسكندرية (أثناسيوس وكيرلس وديسقوروس). رُسم كاهنًا سنة ٥٠٨ م وكانت خدمته الكهنوتية التي عاشها ورآها وكتب عنها عبارة عن: الاستعداد والتقديس أولاً ثم التعليم ثم التدبير؛ من أجل عمل خدمة بناء جسد المسيح... فكان هادئ الطبع؛ دقيق الفكر؛ متفوق في التعليم؛ ودرس الفلسفة واستعملها استعمالاً حسنًا كسلاح خاص، وقد رفعته النعمة وقادته عبر شروحات الكتب المقدسة وممارسة الليتورجية، واضطلع على علوم الوعظ ومعرفة التفسير الكتابي؛ واستعمل الشرح من أجل اللاهوت... فجاءت عظاته شرحًا لآيات الكتب المقدسة ولتفسير المشاهد الإنجيلية، متتلمذًا على الحُجج الآبائية التي تعلّم منها الفلسفة العالية الحقيقية، مميزًا للتعليم السليم داحضًا شر الهراطقة؛ لأن الحق يجتذب إليه الذين يستحقونه كما يجتذب المغناطيس الحديد، وقد تضمنت مجموعة الباترولوجيا الشرقية (Patrologia Oriantalis) ]فكره وسيرته النابعة من الكنيسة المؤسسة على صخرة الإيمان العقلي الكلمة الإلهي[. عاش مسيرة رسالته الكهنوتية في ثلاث محطات الاستعداد والتقديس ثم التعليم ثم التدبير، فكان استعداده في الانطلاق للرعاية على مثال موسى النبي ويوحنا المعمدان وصموئيل وشخصيات الكتاب المقدس؛ وبالأخص الرسولين بطرس وبولس، كذلك كشف عن حقيقة وجه الكاهن بأنه مكلَّف بواجب تعليم الشعب وتدبيره وتعزيته (عَزّوا عَزُوا شعبي)؛ فيكون للكاهن سمع دقيق وحاسة روحية بواسطة التنقية والنسك؛ كي يدرك الرؤى التي تأتي من الله؛ حتى يشهد ويتكلم (آمنتُ لذلك تكلمتُ) وعندئذ تدخل الكلمة إلى قلب أورشليم لتلامس السامعين وتعبر إلى داخل نفوسهم. تم انتخابه بطريركًا لأنطاكية في مجمع صُور سنة ٥۱۲ م لكنه حاول الإفلات دون جدوى؛ حيث اقتبل رتبة البطريركية السامية؛ ليكون خليفة للقديس بطرس الرسول؛ فرعى رعية الله بأمانة وبر، وفي سنة ٥۱٨ م ثار اضطهاد عنيف على الأرثوذكسيين؛ حيث تم نفي الأساقفة الذين لا يقرون المجمع الخلقيدوني... إلى الحد الذي وصل لإصدار أمر بقطع لسان ساويروس الأنطاكي، فصار هائمًا على وجهه يبحث له عن ملجأ يواريه عن أبصار المضطهِدين؛ فأبحر إلى مصر واستقر فيها مدة عشرين سنة؛ وتنيح سنة ٥۳٨ م في مدينة سخا؛ ثم نقلوه بإكرام جزيل ليُدفن حيث كان يعيش في دير الزجاج (غرب الأسكندرية). وتعيِّد له الكنيسة القبطية في ۲ بابى لتذكار مجيئه إلى مصر؛ وفي ۱٤ أمشير لتذكار نياحته؛ وفي ۱٠ كيهك لتذكار نقل جسده إلى دير الزجاج.. إن اسمه عظيم لأنه خدم القدوس العجيب في قديسيه الذي لعظمته المجد والإكرام والسجود. اذكروني في صلواتكم القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
15 فبراير 2021

عِيدُ دُخُولِ المَسِيحِ إلىَ الهَيْكَلِ

تعيِّد الكنيسة بدخول المسيح إلى الهيكل؛ وهو البكر والابن الوحيد الممسوح من الآب... تقدَّم ليطيع ظلال الناموس ويقدم ذبيحة بحسب ما كانت العادة حينئذٍ؛ بينما هو غير محتاج أن يقدم ذبيحة لأنه هو الذبيحة الحقيقية؛ الذي ظهر في الوقت المعيَّن ليخلص الذين هلكوا؛ وليكون نور إعلان رحمة الأمم وفداء إسرائيل؛ الذي يتقد خلاصه كمصباح وسراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبنا تقدَّم إلى الهيكل كأعمق ما تحمله فريضة تقديم الأبكار من معانٍ؛ صائرًا تحت الناموس ليكمل كل بر وليعتق ويفتدي الجميع من لعنة الناموس... صعد إلى الهيكل لكي يتكرس كحق الله؛ وقدم نفسه رائحة زكية عطرة لكي يقدمنا نحن إلى الله الآب ويمحو العداوة التي استحكمت وينزع عنا سلطان الخطية كان هذا الاحتفال في جوهره عملية تكريس وصعود وتقدمة وذبيحة بذل وقرابين وعبور فصحي... عندما حُمل المسيح إلى الهيكل وهو رضيع على صدر أمه؛ التي قدمتْ ما أعطاها الله إياه - كما نصلي نحن ونقول "نقدم لك قرابينك مما لك على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال... لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك – بينما هو التقدمة الوحيدة المعتمدة؛ التي جعلتنا قريبين بدمه سالكين في نور وجهه ورحمته؛ وإليه تأتي أطراف الأرض ليجدوا عونهم ومجدهم وفي هذا العيد التكريسي يُقدَّم الابن المتجسد لله أبيه كمثل أعلى للتكريس؛ في هيكل قدسه... عندما أكملت أمه العذراء خادمة المشورة الإلهية أيام تطهيرها الأربعين. حملته على ذراعيها وهو حامل كل الأشياء بكلمة قدرته؛ وهو كلمة الله الجالس عن يمين أبيه؛ لكنه جاء إلى الهيكل محسوبًا بين الأبكار بحسب الناموس... تقدم كقدس وكمكرَّس لله بينما هو الممجد والمتعجب منه بالمجد. حملته أمه وهو قابل الكل مع قربانه؛ ليأتي بالذبيحة لهيكل القدس وليتمم صناعة عادة الناموس؛ وهو سيد الناموس وواضعه... وقد أبطل بذبيحته كل ذبائح العهد القديم وشرائعه الطقسية وأحكامه التطهيرية؛ التي كانت رمزًا لذبيحته التي قدمها بروح أزلي لكي يطهر ضمائرنا من أعمالها الميتة؛ ولكي نخدم الله الحي ويطهرنا من خطايانا مطهِّرًا ومقدِّسًا إيانا بغسل الماء بالكلمة. وتقديم المسيح للهيكل هو (فعل ذبائحي) يتزامن مع تطهير أمه القديسة وتقديمها زوج يمام وفراخ الحمام؛ عندما أكملت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى؛ وكان عمر المسيح أربعين يومًا؛ وبينما أمه كلية الطهر أداة الولادة لم تخضع لقوانين الطبيعة؛ فقد ولدته وهي عذراء وبتوليتها مصونة؛ والمولود منها من الروح القدس هو البريء من خطية آدم؛ لكنه أتى إلى الهيكل لإعلان تكريسه وليكمل ما أتى من أجله؛ تكريسًا كاملاً كليًا؛ فصحًا بريئًا؛ فصحًا شريفًا من العيب. بذل به نفسه التي لم تخطئ فداءًا لكل الخطاة؛ وشفع في المذنبين ووهب الخلاص المجاني لكل من يؤمن ويقبَل... وهو الذبيحة الكاملة الفريدة التي تحققت بها وفيها كل ذبائح العهد القديم كظلال ورموز للمرموز إليه؛ مخلصنا الصالح ومنقذنا الوحيد ومنجي نفوسنا من المُهلك. لقد جعل التدبير الإلهي من دخول المسيح إلى الهيكل يومًا احتفاليًا... فها هو سمعان الشيخ البار التقي الذي ينتظر تعزية إسرائيل؛ امتد به العمر طويلاً ليخدم عظمة سر التقوى... ولأنه كاهن قبة التقديس؛ لذلك كان الروح القدس عليه؛ فساقه وقاده لدخول الهيكل لحظة حضور العذراء حاملة المسيح المسيا... وبعد التطهير والذبح والإحراق ورش الدم؛ تعرَّف هذا الحبر البار والنفيس على المسيح في الحال؛ وبجراءة وقدوم أخذه بدالة على ذراعيه؛ وحمل سيد الكل؛ ليتحقق وعد الله له بأن يبقى إلى أن تكتحل عيناه بمرأى مخلص العالم... فروح الله روح النبوة الكاشف الآتيات والحاضرات جعله ينتظر التعزية بتقوى؛ ويتأهل باستعداد للانطلاق من سجن الجسد... فسار بخطوات سريعة ولم يكن إتيانه إلى الهيكل إعتباطيًا أو مجرد صدفة؛ لكنه كان مسوقًا بإلهام من الروح القدس؛ حيث تعرف على المسيح وسط مئات الأطفال ورأى الخلاص رؤية العين؛ وأمسك بالحياة الأبدية بين ذراعيه؛ عندما مد يديه المباركتين نحو سيد الكل وحمل على يديه الذي أخذ بشريتنا على عاتقه؛ وعوضًا عن أن يباركه مثل بقية الأطفال؛ انحنىَ ليتبارك منه "لأن الأصغر يُبارَك من الأكبر" (عب ٧:٧)، فلم يكن سمعان الكاهن هو الذي يقدمه لله؛ بل سمعان قُدِّم لله بواسطته. ساروا به في الهيكل وهو الذي لا تسعه السموات العُلا والذي يسيِّر الأفلاك والنجوم على هُداه... أتت العذراء تحمله وأعطته ليد سمعان الكاهن؛ فهو سر مجدنا وخلاصنا وإكليل فخرنا... حملا الذي يحمل المسكونة كلها على كفه والذي يعلق الأرض على لا شيء... كنز الحياة حملوه طفلاً على الأذرع وسندوا رأسه التي تسند الأكوان وتقيم الجبال الرواسي؛ فلا تميد!! نظروا الأذرع التي فكت أسر الخليقة كلها والوجه الأبرع جمالاً من بني البشر؛ والذي ترتاع الخليقة كلها عندما يحتجب عنها... نظروا عينيه كهدب الصبح وفمه الذي تخرج منه المصابيح؛ واشتموا طيبه كمنبع الطيب والعطر الذي يجعل البحر كقدر عطارة. ففي وسط البر والتقوى والخلاص والبركة والوعد والانطلاق يأتي المخلص لكل من يتوقعه ويترقب حضوره في سعي وانتظار واثق "عَزُّوا عَزُّوا شعبي... طيِّبوا قلب أورشليم... جهادها كمُل... إثمها قد عُفي عنه" (إش ١:٤٠). فعندما بحث سمعان عن مسيح الرب وحمله واحتضنه؛ حمل الحياة ذاتها بيديه الشائختين... احتضنه وطلب منه الانطلاق وسأله أن يحله من رباط الجسد... لينطلق الطير وينكسر الفخ ويرقد بشيخوخة مباركة؛ تتردد ظفراتها الأخيرة "الآن أطلق عبدك أيها السيد؛ لأن عيني قد ابصرتا خلاصك الذي أعددته قدام كل الشعوب". لقد قدم سمعان الشيخ شهادة للخلاص الشامل المقدَّم لجميع الشعوب والأمم؛ بأن الصبي المولود سيميِّز بين فريقين؛ إذ قد وُضع لسقوط (الرافضين) وقيام كثيرين (المؤمنين)؛ لأن علامة صليبه تُقاوَم "لا صورة له ولا جمال مُحتقر ومخزول ورجل أوجاع ومختبر الحزن"... أنه صخرة عثرة وحجر صدمة وكل من يؤمن به لا يعاقب ولا يخزى؛ وتأديب سلامنا عليه وبجراحاته شُفينا. ستُعلن أفكاره في قلوب كثيرة؛ سواء ممن سيؤمنون أو ممن سيقاومون... أمّا يوسف وأمه كانا يتعجبان مما قيل فيه؛ وما ورد أمامهم من شهادة نبوية عن سر الصبي والسيف (رومفايا) أي السيف الكبير الحاد الذي سيجوز في نفس العذراء أمه؛ وهو ما اختبرت مرارته وتجرعتها عند الجلجثة يوم الصليب؛ كما سبق وأُخبرت به. في عيد دخولك يا سيدنا إلى هيكلك نطلب منك وأنت إله ورب الهيكل؛ أن تأخذنا إلى جمال عيدك لنذوق عجيبة خلاصك من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا... كي نعاين جلالك وتسهل لنا طريق التقوى؛ فيكون انطلاقنا وخروجنا من هذا العالم مُفرحًا... من غير خوف ولا خجل ولا وقوع في الدينونة... نسألك أن تمنحنا امتياز رؤيتك وحملك قبل أن نعاين الموت؛ كي نعانقك فنستريح؛ ونباركك؛ فتتقدس العجينة كما أن الأصل مقدس؛ ويتقدس الغصن كما أن الكرمة مقدسة... نتقدم إلى هيكلك لنكون وقفًا أبديًا مكرسًا لك وذبيحة حية مرضية عندك؛ بحُسن عبادة عقلية... أنك حاضر أبديًا وليس لمُلكك انقضاء؛ تمنحنا حياة أصيلة ذات معنى وقيمة؛ قبالة تعقيدات هذه الدنيا وأخطارها... فنصغي لهمساتك الإلهية ونتبعك بكل قلوبنا؛ ونخافك ونطلب وجهك حتى نرجع إلى البيت الأبدي وننطلق إلى المدينة التي لها الأساسات؛ فعندما نأخذك نُمسِك بالحياة ونرى كل شيء من خلالك؛ ومن ثم نقبل أنفسنا ونتصالح مع الكل ويصير تمجيدنا غير منقطع. يا رب في عيدك صيِّرنا مكرَسين لك وعندك؛ واقبلنا تقدمة لك على مذبحك المقدس الناطق السمائي؛ عاملين بأوامرك المقدسة كمسرة أبيك... لأننا في كل دورة حمل ندور حول مذبحك مشاركين سمعان الكاهن البار؛ مقدمين المجد والإكرام (مجدًا وإكرامً؛ إكرامًا ومجدًا) حاملين بشارة خلاصك في أرجاء الأرض؛ مقدمين ذبائح ونذور معقولة لك؛ لأنك قطعت قيودنا ونقلتنا إلى عبادة الروح؛ مُشرقًا علينا بنورك العجيب؛ فنتقرب ونتقدس لك يا قابل القرابين؛ التي بدلاً عنا قدمت ذاتك؛ فإسمح أن نتقدم إلى حضرتك قارعين باب تعطفك؛ كي تُظهر في نفوسنا الشقية مجد أسرارك الخفية. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
08 فبراير 2021

الفَلْسَفَةُ المَسِيحِيَّةُ

الفلسفة هي أوُلىَ العلوم؛ وذلك لكونها تعطي الموجودات معقولياتها ببراهين يقينية. فهي في جملتها عِلم وأيدولوچية وصناعة للمفاهيم وإضاءة للواقع؛ وهي عطية ومعجزة العقل البشري. كذلك هي استخدام لقوانين العقل واكتشاف للمضامين المُنتِجة لكل علم وفكر وحضارة. فالاهتمام بالفلسفة يؤصِّل إنتاج المفاهيم المساعدة في صياغة الإنسان ذي المشروع. لذلك تأتي ضرورة وأهمية الفلسفة المسيحية على اعتبار أنها تُكوِّن إنسان الخليقة الجديدة (إنسان الملكوت). فليس فقط مَن يدرس الفلسفة ولا مَن يكتب عنها؛ بل مَن يتصرف بمقتضاها ومفاهيمها؛ خاصة وأن تعليمنا الإلهي المسيحي مَبني على العقل (الكلمة اللوغوس)؛ وعلى (النور والحق والحياة والحرية). والله الكلمة الأزلي أصبح وعيًا عينيًا؛ والحياة المسيحية حياة تتجسد في أرض الواقع؛ بعد أن أتى المسيح إلى العالم متجسدًا ونصب خيمته بيننا وأصبحت حياتنا صاعدة معه مستترة فيه. وكلمة فلسفة (Philosophy) تعني المُحب للحكمة أو المفتون بالحكمة. والحكمة في الكتاب المقدس هي مصدر الصلاح والخير والاستقامة والفطنة والتعقل والصحو والتمكين... هذه كلها هي آليات الفلسفة المسيحية. لأن كل فيلسوف في الميزان القويم هو المحب لرؤية الحقيقة؛ كما أن الفلسفة هي محصلة التأريخ للفلاسفة أنفسهم الذين برزت أيقوناتهم التنويرية عبر الفكر المسيحي؛ والذين من أشهرهم وأعظمهم القديس "لوقا الطبيب" و"بولس الرسول" و"يوستين" و"بانتينوس" و"كليمنضس" و"ديدموس الضرير" و"أوريجين" و"ترتليان" و"لاكتانتيوس" و"أوغسطينوس" و"الآباء الكبادوك" و"هيلاري" و"إبيفانيوس" و"الحكيم أرسانيوس" و"إفرام السرياني" و"يوحنا الدمشقي" والعظيمان "أثناسيوس وكيرلس السكندريان"؛ وبقية فلاسفة الكنيسة العظماء الذين جمعوا العصب الفكري من طرفيه: طرف النظر (التنظير) وطرف التجربة الواقعية والرعوية ( التطبيق). فكانوا حاذقين في الفكر عمالقة في العمل؛ حيث قادوا الكنيسة والمجامع وصاغوا العقيدة وخدموا الرعاية؛ مدافعين عن الإيمان؛ مفسرين وشارحين؛ زُرَّاع وصيادين؛ وأطباء ومعلمين في حقل الكرازة والبناء وكتابة التفاسير والعظات والرسائل والليتورچيات والمحاورات والميامر والدفاعات والأشعار. عندما تنزل الفلسفة من طابعها النظري المجرد لتلمس الأمور الحياتية اليومية تصير مهمتها علاجية. فاعتماد العلاج كمفهوم فلسفي يجعل من الفلسفة فنًا لتدبير الحياة اليومية؛ أي أن تكون الفلسفة في خدمة الحياة. والفلسفة المسيحية التي ينبغي أن نحياها هي التي تعني بالبعد العملي الاختباري (خبرة)؛ بذلك تُعيد الاعتبار لعالم الحِس ولكتاب الطبيعة المغبوطة وجمال الخليقة وروعة المبصرات وعالَم الله الخالق فتتجه بنا إلى خالقنا وجابلنا منذ البدء؛ والذي هو ليس له بدء. هذا ويُعتبر اللاهوت هو فلسفة ودراسة مُعقلنة للإيمان والعقيدة؛ لأن الفلسفة في معناها حُب الحكمة؛ وهي كفعل اقتداء بالمسيح للتشبُّه بالأصل – (آدم الثاني) – في شركة الطبيعة الإلهية وعيش الفضيلة... حيث يكون التفلسف هو التعقل؛ هذا التعقل لا ينشط بالاستكانة والتقولب والكسل العقلي بل بالتفتيش والبحث والمواظبة والمعرفة: معرفة الله والأبدية / معرفة الإنسان لنفسه (جوهره العقلي) / معرفة زماننا؛ محيطه وما يدور فيه / معرفة عدونا المحتال؛ إبليس. وغياب الفلسفة هو غياب الشكل الأمثل للحياة؛ عندما يكون الإنسان فاقدًا للرؤية والبصيرة والبوصلة والهدف... لأن الفلسفة علاج ودواء (العلاج بالفلسفة أو التداوي بالفلسفة)... أما الفلسفة التي لا تعالج فهي فلسفة باطلة؛ وهي مجرد لغو وكلام فارغ... فحينما يفتقر الإنسان إلى المبادئ الإلهية والمفاهيم الأولية يكون كلامه ورأيُه فارغًا؛ وأحكامه هاوية غير مؤسسة؛ وتفتقر إلى المرجع. لذلك تأتي مهمة الفلسفة في كونها ترياقًا يعالج الفراغ والعدمية والتدنّي واليأس وإنسداد منافذ الحياة؛ بينما كتابنا المقدس لا يحتقر عطية الله حتى لغير المؤمنين؛ بل يوصينا كي نحتضن كل ما هو حق وكل ما هو صحيح بما يتفق مع الفكر الإلهي. والفلسفة تعلمنا أن نفهم الأحداث وأن نفهم ما يدور، أن نفهم ما يحدث؛ وما يقع لندركه؛ وبهذا الفهم تصبح الحياة مقبولة ومستساغة بالرغم من صعوباتها عبر التعزيات الإلهية والوعود؛ والمحفزات والمشجِّعات؛ والمدركات المرنة؛ ونعمة الشكر والاحتمال والصبر في مواجهة التحديات والصدمات. لذلك حقًا تساهم الفلسفة المسيحية العملية في علاج الانفعالات والتصورات والاتجاهات؛ بالحكمة والتروّي والتبصر والتصحيح؛ أو ما يسمَى في الفلسفة (فن التحويل)؛ من الضعف للقوة؛ ومن اليأس للرجاء؛ ومن المرارة للحلاوة؛ ومن الألم للمجد والبنيان؛ عقب النظر إلى المفاهيم والقِيَم ومنطلق الوعي الذاتي على أرضية إنجيلية سلوكية؛ وهو ما اصطُلح عليه بفن المهارة في الحياة؛ لأن الأعمال تتبع المعرفة كما يتبع الظلُ الجسد؛ وغاية كل فلسفة وكل تعليم مسيحي هو الجانب العملي الذي هدفه إصلاح النفس. لا شك أن اقتناء الفلسفة يُوجِد فينا ميكانيزميات السلوك الروحي المتعقل والرزين؛ ويستحضر الوعي التكويني لدينا الذي تشربناه بالقدوة والخبرة والتلمذة والإرشاد والمعرفة. بعيدًا عن العنعنة والتدجين والخمول والانحطاط الفكري؛ لأن القيم والمفاهيم لا تتبلور عندما لا نفهم دلالاتها ولا نتسلمها؛ ومن ثَمَّ لا نتذوقها!!! فكيف لإنسان أن يسمع عن النقد والعقل والإبداع؛ أن يُبدع وينجز ويبتكر؛ بينما هو يحيا في تجهيل وتعتيم؟! وكيف يُحدِّثونه عن قِيَم إنسانية بينما هو يعامَل معاملة أقل من الحيوان؟! يخبرونه عن العزة وكرامته تُهان كل يوم؛ يحدثونه عن الأمانة والقدوة وهم ينافقون ويتلونون ويلعبون بمصيره... يكلمونه عن الدعة والمسكنة وهم متسلطون ومتجبرون وطغاة... يكلمونه عن النسك والفقر وهم متعاظمون في جنون الإرادة الذاتية كالأباطرة. فما أعظم من يعمل بأقواله ويتكلم بأعماله؛ وما أروع الأعمال التي تؤسس للفهم والمعرفة والتمييز والأدب والعدل والاستقامة والمشورات والحريات والمخافة الربانية. ستبقى الفلسفة مجرد أفكار وشعارات جوفاء فارغة من كل قيمة أو معنى؛ ما دامت شروط نضجها غائبة؛ ومضمونها دعائي مُفلس لا أفق له، وما دام التاريخ قد تم تجميده في لحظة واحدة يتم تضخيمها وأسطرتها والمغالاة في تعظيمها بهدف تحقير كل ما دونها؛ وكأنه لم يكن شيء مما كان من قبل. الآن نحن في زمان رياح تحولية كثيرة؛ وفي عصر تحطيم الأوثان ورفض الصنمية... في عصر بات فيه الهدف هو التخلص من النماذج القديمة الموروثة؛ ورفض التسلط والتخبط والقمع والارتباك والمركزية والإلهاء والإلغاء والإملاء والقولبة... وما دام ذلك كذلك؛ فليكن فكر المسيح معلم الأسرار الإلهية هو بوصلتنا؛ هو الذي يعلن لنا سره؛ ويرفعنا إلى قياس قوته... لأن كل فلسفة وحكمة هي من عنده؛ من عند أبي الأنوار؛ ممتحنين ومميزين كل شيء كي نتمسك بالحسن؛ وبكل ما يتفق مع الحكمة الإلهية الفائقة... لأن الحق الساكن فينا لا يخيب ولا يشيخ ولا يتوقف عن النمو؛ لكنه دائم الثمر؛ ما دمنا نقتني تعليم المخلص بوداعة... وكل حكمة حقيقية وفلسفة راقية تقود إلى الله أينما وُجد؛ لأن المفتاح الذي يفتح أسرار كل كنوز الحكمة مستقر عنده وفي يده وحده. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
01 فبراير 2021

أنْبَا أنْدْرَاوُسُ أُسقُفُ دِمْيَاط (رُوَّاد مدارس أحد إسكندرية)

لمدينة الإسكندرية تاريخٌ ناريّ في الغيرة الإلهية على مدى الأجيال المتعاقبة،وقد استمرت كمركز إشعاع كرازي لخدمة مستنيرة ومنيرة في إيقاظ الحِسّ والإدراك لدوائر واسعة من حولها بالامتداد.أيضًا للإسكندرية تاريخٌ عطريٌ ونورانيٌ في بشارة الكلمة والتعليم، طَبَعَ ملامحه على مدارس الأحد فيها، لتصير مدرسةً للروحانية الأرثوذكسية واللاهوت؛منذ بدايات مدرستها القُدسية الأولى.. ومنهجاً للأخلاق والسلوك الإنجيلي، فكراًومنهجاً وتلمذة آبائية واحدة، وممارسة لحياة الأسرار والذبيحة الواحدة نفسها.لذلك نفخر أننا رأينا وعاصرنا تقوى الخدام وقداسة سيرتهم وعمق معرفتهم الاختبارية، وحفظهم لجدة الإيمان العامل؛ الذي عَبَّروا عن مساره من (أورشليم المخدع - إلى أورشليم النفس - ومنها إلى أورشليم المحيط الخاص).فأنتجت مدارس الأحد السكندرية أيضاً للكنيسة ثمارًا من أفخر الثمار؛ والذين من بينهم القمص موسى البسيط «المتنيح أنبا أندراوس أسقف دمياط »، صاحب الهِمّة والغيرة التي دفعته أن يذهب إلى ضواحي الإسكندرية لخدمتها؛ بأُفُق متسع وبالتحلي بمواهب الروح القدس؛ التي انطبعت على وجهه الملائكي، الذي كان كل من يتطلع إليه وهو في الجسد؛ يرى فيه إطلالة وجه المسيح في الوجود التاريخي؛ويستمع إلى صوته الروحاني العذب؛ منشداً نشيد الأبدية بالأفراح التي ارتسمت على وجهه؛ وطعام الحق خارج من فيه؛ وشرابه الروح الذي يعطيه؛ ونَسِيمه رائحة التقديس التي أغنته عن كل عوز خارج عنه... تاركاً لكُرَّاسات خَطِّيَّة مكتوبة؛كتب فيها التسبحة بقيثارة قلبه العفيف؛ وحنجرته ذات الأوتار؛ عارفاً ما يقوله؛ومزيَّنا بالبهجة المثلثة الطوبىَ؛ أحلى من العسل في حضرة مليكنا؛ الذي دعاه لملكوته وقَصَّر عنه لكي يستريح. لذلك سبق وشهد له قدامىَ الخدام بعد رُقاده؛إنه تدرب على روح السفر والترك؛ روح العبور والغُربة؛ روح الانتقال والارتحال؛للاستعداد المبكِّر للرحيل.كان خادمًا نابغة؛ عاش التقليد الكنسي، وذهب إلى القرى البعيدة؛ مكرِّساً حياته على مذبح البتولية الطاهر في نذر الرهبنة؛ من دون أي تغيير أو استحداث زمني متغير؛ حتى صار ناسكاً وراهباً أسقفاً في الكنيسة الفاخرة، وثمرةً ناضجةً أينعت في حقل مدارس الأحد؛ لتُعِدَّ أجيالاً واعدةً؛ أساقفة وكهنة ورهباناً وخداماًوأراخنة ومؤمنين؛ جميعهم متعلمين من الله. هؤلاء الرواد صاروا علاماتٍ على الطريق؛ جعلوا القديم جديداً؛ والماضي أصبح حاضراً بقوة التجديد والإحياء والنمو؛لأنهم ربيع دائم لا ينطفئ سراجُهُ.وُلد نبيه عزيز موسى في ۱٠ أبريل ۱٩۳٠ م وخدم في مدارس الأحد منذ عام ١٩٤٥ م - تخرج من كلية هندسة (جامعة الإسكندرية) سنة ١٩٥٢ ؛ ثم ترهبن عام ١٩٥٥ م بإسم الراهب موسى السرياني البسيط - عُيِّن سكرتيراً للبابا كيرلس السادس عام ١٩٦٠ م - رُسِم أسقفاً عام ١٩٦٩ م، خدم في اجتماع الشباب الخاص بالإسكندرية عام ١٩٤٧ م بكنيسة العذراء محرم بك. والدُهُ المهندس عزيز وإخوته القمص رويس عزيز والقمص انطونيوس عزيز (بمطرانية البحيرة).اهتم بفروع مدارس الأحد في منطقة غيط العنب وكرموز وكوم الدكة؛ وزامله في خدمتها د. بهجت عطالله والخادم جلال فوزي؛ حتى صار أميناً لخدمتها. تخرَّج من كلية هندسة الإسكندرية عام 1952 م، صَمَّم نافورة مياه باب شرقي بالإسكندرية ونفَّذها؛ ونال عنها مكافأة قدرها ٣٠جنيهاً.عاش راهباً وظل راهباً ومتوحدًا يعيش في سيرة ملائكية مُفعَمة بالمحبة والتسامح والمصالحة؛ متمسكًا بما عنده؛ حتى صار الشبه الإلهي يلمع ويضيء في أفعاله؛وبَقِيَتْ سيرة خدمته تشعّ بنورها؛ يسير على نَسْجِهَا الغروس الجُدُد؛ ويكون المزكَّوْن ظاهرين.كتب رسالة لخادم صديق له يقول فيها:- «لا أحب أن أتدخل في مشاكل أَنْأىَ بنفسي عنها؛ لأن خدمة المسيح فرح وسلام.. أسكبُ نفسي أمام الله كي يحل فيَّ الهدوء، ويُبعد عن خدمة أولاده كل شر، ولا يسمح أن نضيِّع وقتنا؛ فيصبح الجو غيرالجو. هذه الخدمة تكونت بالعرق والتعب؛ وعَصَرَتْ الخدامَ فيها التجاربُ؛ وأكلوا خُبْز الوجع. لذلك لازم نتعلم أن تغيب الشمس ويغيب معها شر اليوم؛ لنستيقظ على توبة وفرح ورجاء لا يُخزىَ .«انتقل أنبا أندراوس الأسقف البسيط تلميذ وخادم مدارس الأحد إلى المجد في غروب يوم ٤ أغسطس ١٩٧٢ م عن عمر ٤٢ سنة، وأحدثت نياحته – (اختطافه بغتة) - أَثَراً عميقاً في قلوب الشعب الذين يذكرونه؛ بالذِكر الحسن كخادم أمين وبسيط؛ مغمور بمحبة الله؛ وقد رأوا فيه وداعة المسيح وهدوءه.. يذكرون سيرته كناسك من طراز نادر في وادي الريان؛ وكراهب وسكرتير للقديس البابا كيرلس السادس؛ وكراعٍ يجتاز في المدن والقرى؛ متجولاً في براري بلقاس ودمياط وكفر الشيخ؛ ليخدم حتى وقت إصابته بالحُمَّى الشديدة التي سبقت خروج نفسه من جسده؛ ولأنه ليس عند الله ما هو من قبيل الصدفة؛ فقد انطبق عليه ما جاء في سفرالحكمة لسليمان الحكيم «أما الصِّدِّيق فإنه وإن تَعَجَّلَه الموتُ؛ يستتر في الراحة .»هذا وقد وُضع جسده في مدفن الأساقفة بدير الشهيدة العفيفة دميانة بالبراري؛ نيَّح الله نفسه الطاهرة؛ ونفَّعنا بصلواته وبركة سيرته. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
01 ديسمبر 2020

هِبَةُ الحَيَاةِ المُقَدَّسَةِ

(رِسَالَةُ تَشْجِيعٍ) الحياة هبة مقدسة منحها الله للبشر الذين عليهم أن يتلقفوها ويكرموها ويقدمونها مجددًا إليه تعبيرًا عن فرادتهم كخليقة حية. أعطانا الله العقل لنكون شركاء اللوغوس (عاقلين) نحيا حياة إلهية. فمِن الله خالقنا وفادينا أخذنا أصلنا، أصل حياتنا، نحن جبلته وصنيعة يديه وهو العامل فينا أن نريد وأن نعمل من أجل المسرة، نعترف بنعمته وجُوده وإحسانه ونتجاوب مع عمله الإلهي معنا، نقرّ بنعمة الشفاء الخلاصي التي نلناها، نامين في الفضيلة والجهاد حتى لا نكون قد أخذنا النعمة عبثًا، بل نكون من الذين تاجروا بالوزنات واستثمروا النعمة التي أخذوها. استجابتنا ونموّنا ينبعان أساسًا من المبادرة الإلهية، لأن الله خلقنا وميّزنا بالحرية والعقل والإنجاز. إنه أحبنا أولاً، أحبنا فضلاً، أحبنا ونحن خطاة، إنه يظل معنا لا يتركنا ولا يهملنا ولا يتخلىَ عنا ولا يُقصينا بعيدًا، وعدم أمانتنا لا يُبطل أمانته... إنه أبو الرأفة والمراحم، إنه فينا رجاء المجد، إنه يحل في قلوبنا بالإيمان، ومَن يُقبل إليه لا يُخرجه خارجًا، إنه لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا.إرادتنا هي قلع المركب التي تحركها الريح، المحرك لمركب حياتنا، إمّا إلى بَر الأمان للمسيح ميناء الخلاص للذين في العاصف، وإما للهلاك بعيدًا، لأننا نُبحر في بحر هذا العالم المتلاطم وفقًا لإرادتنا الحرة كما بواسطة الريح، وكل واحد يوجِّه مساره حسبما يريد، إمّا أن يكون تحت إرشاد الكلمة ويقبل نعمة الخلاص ويتجاوب معها ويجاهد قانونيًا فيدخل إلى الراحة والنعيم الأبدي، أو أن تتحطم سفينته ويهلك في العاصف. إرادتنا حُرة في اختيارها وفي قبولها للتناغم والانسجام والتجاوب مع نعمة الكلمة. فالذين يذهبون إلى الملكوت هم الذين سعوا لذلك، والذين ينحدرون للجحيم هم الذين تقسّوا وازدروا.الله يشترك في العمل مع عبيده في كل عمل صالح، نعمته تؤازرنا وتعين ضعفنا وتكمل نقائصنا وتقودنا في مسيرة حياتنا وتسند كل عمل خير فينا، فعندما نصنع الخير ونتقدم إلى ما هو قدام، هذا ليس من أنفسنا، بل من الله صانع الخيرات الإله المحب الوحيد الحكيم. عندما نصير متمثلين به، إله معونتنا وناصرنا وملجأنا وحياتنا الأبدية معًا، به نصنع ببأس (مز ١٢:٦٠) وبه ندوس أعداءنا (مز ٥:٤٤) الخفيين والظاهرين.أعطانا نعمة الحياة والخلود وأوصانا أن لا نفشل لأننا رُحِمنا... أعمالنا به معمولة، فمنه وبه وله كل الأشياء قد خُلقت... إرادته قداستنا وسلامنا وخيرنا، وهو عينه المتكلم فينا بروحه القدوس، فلا يقدر أحد من معاندينا أو مقاومينا أن يُخيفونا، ولا سلطان لأحد على أرواحنا، لأنه قد وهبنا جدّة الحياة وروح النصرة والغلبة حتى لا نفشل... لسنا هالكين ولا خائرين ولا مهزومين ولا مأزومين لأن رجاءنا فيه لا يخزَى، ولأن انتصارنا يعظم بفصحنا الذي أحبنا وفدانا، ويقودنا كل حين في موكب نصرته، والضامن لعهد أفضل.إنه أنعم علينا بالحياة واتخذ شكل العبد لأجلنا، وجعلنا بنين وورثة ورعية مع القديسين وأهل بيت الله، لا عبد ولا سيد، بل الجميع حُر في المسيح الكل وفي الكل... وضع علينا ختمه بشكل واحد للجميع، وأعطانا الوديعة الصالحة (وديعة الإيمان) لنحيا ونعمل ونوجَد ونتاجر بالوزنات ولا نطمرها... ونعمل بحسب معطيات المواهب ووسم المِسحة والأسرار الموهوبة لنا، بعيدًا عن الفراغ واللامعنى في حوار بنّاء مع الإعلان الإلهي وقبول البشارة المفرحة القادرة أن تحرر كياننا وتطلق أنفاسنا لنستنشق هواء الأبدية وحياتها، فلا نرتاع أو نخور أو نرتدّ.لقد أتى بنا الله من العدم إلى الوجود وأعطانا نعمة الخلقة وأعاد خلقتنا بخلاصه لنتبعه ونقتني بهجة وسلامًا وعزاءًا وصبرًا وفهمًا ودالة، ونتزيّن بالفضيلة... لذا كل من يدرك قيمة نعمة الحياة الفائقة لا تأتيه أفكار الابتآس والفراغ والانتحار واللامعنى، تلك التي يقع فيها الهالكون!!! بل يتزين بالمعرفة الصافية ويلجأ بنفسه إلى الله فيستريح، فكلما نحمي نفوسنا بالضمانات الروحية وبوسائط النعمة ونُعدّ قلوبنا بالتجليات الروحية العالية، نصير أرضًا مُفلَّحة ببذار الزارع الإلهي، ونستقبل ندَى النعمة ومطر الروح ونستدفئ بأشعة شمس حياة البر ونتذوق كم أن ربنا صالح للذين يطلبونه وطيِّبٌ للذين يتوقعون بسكون خلاصه.إن عالم اليوم الحاضر الذي يؤمن بالتكنولوچيا إيمانًا أعمىً، هذا العالم الذي يُعاني من الشجار والتلوث الذهني والفكري والروحي، هذا العالم المادي الطاغي الذي وُضع في الشرير، أصبح مستقبله مجرد تكرار مُملّ وهابط للماضي... كرَّس الانعزالية والفردية وضحّل قيمة حياة وروح الإنسان، فتزايدت أعداد البائسين واليائسين بل والمنتحرين، وسط ضجيج الأفكار والمخاوف المتخبطة، يجعلنا بالأحرَى أن نتمسك بوعود رجائنا، ونرفع أفكارنا ونتأمل نعمة الحياة الكائنة فينا، لأننا هيكله وروحه يسكن فينا (١ كو ١٦:٣)، لنا كرامة الإنسان الجديد الذي تقدس وتأصّل بالنعمة، والذي يحيا بكل كيانه الداخلي في الحضرة الإلهية، فيتصور فينا المسيح، ونكون به أعظم من منتصرين، ونُحلِّق على أجنحة النسور، وترتسم في نفوسنا صورة بهاء البر والقداسة، فتتغير أجسادنا وأرواحنا وقلوبنا وعقولنا وأفهامنا ونياتنا بالقوة التقديسية التي تنبثق من عند الآب لتكملنا جميعًا وترسم طبيعتنا بالتمام على جمال الأصل. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
24 نوفمبر 2020

المُشَرَّدُونَ فِي الأَرْضَ

بسبب ويلات الحروب الأهلية والإرهاب الدموي؛ نزح ملايين البشر ، ولازالت الإحصائية الرسمية للمفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين UNHCR غامضة بشكل مطلق بسبب التواتر المتزايد لعمليات التشرد واتساع دوائر المخيمات المكتظة بالنازحين، فمن وجهة اجتماعية يحتاج هؤلاء البشر إلى المأو ى والمأكل والكساء والمياة والإسعافات والخدمات الطبية والتعليم المدرسي؛ الأمر الذي عجزت عنه برامج الغذاء العالمي World Food Programme . الاحتياج الأهم من كل هذا هو حل أزماتهم السياسية التي عقدتها عصابات الأصولية الدموية والمصالح والقوى والفتوات والتشابكات الدولية والإقليمية. مما جعل جحيمهم مستمرًا بلا أي أفق وسط مناخ غاية في الصعوبة؛ يعكس عطش العالم كله للحق والعدل والصلاح والجمال، بل يعكس عطش العالم للمعنى والوجود الذي لا يمكن لأحد أن يتهرب منه، ولا بمقدور أحد أن يصم الأذن أو يغض البصر عنه . العالم اليوم يعيش قانون الغاب "القوي يأكل الضعيف" النمر يأكل الغزال، الذئب يلتهم الحمل، الصقر يقتنص الأرنب، الأسد يفتًرس الجميع، بقاعدة الوحشية، إنتٍ "لي الحق" أن أفتًرسك لأني الأقوى والأشرس. لذلك لا يقاس تقدم الجماعة البشرية بمعيار تقدم العلم والتقنية لكن بقيمة الإنسان، ويقاس بأولية القيم الروحية والأخلاقية؛ حتى ينتصر الضميرالبشري على أغراض الهيمنة والاستعمار والفتوحات والإرهاب الذي سيفنى ويُفقر الإنسان.لقد قل الوعي العام بكرامة الإنسان وبحقه في حرية التعبير والفكر والتنقل والهجرة والجهر بالدين والمشاركة؛ التي هي جوهر كرامة كل كائن بشري ببعده الإنساني التام من غيرانتقاص. إن جميع الأشخاص أُعطُوا عقلاً وإرادة حرة واختيارًا، يلزم على الجميع ضبطها وأتباعها مع جميع أمم الأرض؛ وهو ما تنادي به كنيسة المسيح كضمير لهذا العالم .فهذا العام تحديدًا ترك ملايين من المسيحيين أرض الآباء والأجداد وهجِّروا قسريًا، تخلواعن أرضهم وأرزاقهم ومقتنياتهم وعيشهم الكريم وحضارتهم التي أسهموا في بنائها...حامليين صليبًا ثقيلاً في عيش صعب؛ بعد أن فقدوا كل شيء وخُطفوا وتعذبوا وفقدوا أحباءىم وسلبوا.والآن يعيشوا مصيرا مخيفًا، وصليبهم الأكبر في صمت الأخيار وأصحاب الضمائر عن قضية حياتهم؛ لكننا نضعهم في صلاتنا كل حين وفي أولوية أجندة أعمالنا واهتمامنا،ونقول لهم لستم وحدكم تحملون الصليب... صليب أنكم مسيحيون، فكل منا قيرواني يحمل معكم صليبكم ومهما طال درب الجلجثة فإن أُفق القيامة تحل علينا .إن مسيحنا القدوس اللاجئ الأول، عندما أتى هار بًا إلى مصر من بطش هيرودس الدموي... متغربًا فيها، وقد حُفظت حياته ونجا من مذبحة أطفال بيت لحم ومن يد الناقميين حتى يضمن الحياة للعالم بتدبير خلاصه.ولا زال إلى الآن الذين يطلبون نفس الصبي من أعداء صليبه يسعون قتلاً وحرقًا وإجرامًا وإرعاباً ضد المؤمنيين بإسمه، والحقائق على الأرض مكشوفة أمام الجميع في خديعة الإثم،لكن رجاؤنا عالٍ في ذراع قدس الرب ليعلنها أمام عيون كل الأمم فتًرى كل أطرافها خلاصه وتعمل عمل الدهور كلها... يارب إليك نصرخ يا ضابط الكل أن ترحم جُبلتك التي صنعتها يداك وتجمعها بمراحمك من الشتات. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
17 نوفمبر 2020

دُرُوس فِي ذِكْرَى أَنْبَا أَثَنَاسْيُوس مُطْرَانِ بَنِي سوِيف

عاش انبا أثناسيوس فقيرًا جدًا لا يملك شيئًا، وكل مَن اطَّلع على حياته يجد نذور الكفاف والعفة وفقر الاختيار وحفظ عهود الرهبنة وقوانينها. فكان راهبًا ناسكًا غير معجب بنفسه؛ ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم. وأنموذجًا للأسقف الكنسي "صورة الآب السماوي"، إنجيليًا روحانيًا ولاهوتيًا منهجيًا وراعيًا واقعيًا، وأبًا قائدًا صنع مدرسة من القادة، شغلوا مواقع ريادية في العمل الكنسي المعاصر. مؤسسًا لخدمة متكاملة؛ بناها على معرفه التقوى وبرهان الروح والقوة. لذا تتلمذت له أجيال من المكرسين والخدام والرعاة في كل أنحاء الكرازة المرقسية أحب الليتورجيا وقدم أعظم مثلٍ لليتورجيا ما بعد الليتورجيا في أعمال الدياكونيا والتوزيع والافتقاد والتنمية والرهبنة العاملة، محولاً إيبارشيته إلى خلية نحل وورشة عمل دائمة ودائبة في الكيان الالهي الكنسي الحي بالشركة في خدمة كيان البشر كسامري صالح .وبالرغم من ذلك؛ كان حضوره هادئًا رزينًا، لكنه أيضًا فاعل ومرهوب من دون ضجيج أو بهرجة، مرتقيا بتلاميذه؛ جاعلاً منهم شركاء معه في العمل والتدبير والرسالة علي مستوي حضاري لاهوتي راقي وواقعي .إنه بحق رجل المؤسسات الكنسية المبنية على أساس لاهوتي وعلى نور الإنجيل في واقعية آبائية؛ تعبُر إلى الذين في الشتات لتعينهم.. فكان له دوره الكبير والريادي في الأعمال الموسوعية والتنموية؛ والعمل المسكوني والدياكوني والاجتماعي المعاصر . عاش غريبا في هذا العالم ،معطيا المثل لكل الرعاة بحياته وقدوة سيرته ونسكه الصحيح ،فلم يجمع ويبني كأداة للتعبير عن كيانه وشخصه ،لانه اختبر ان كيانه ووجوده آت ومتطلع الي كمال حياة الدهر الاتي ، لذلك لم يعتمد مفاخر الإنجازات لتكون جوهر عمله الرعوي ، لانه كان يستمد وجوده الكياني من شركته الافخارستية ومن التصاقه بأعضاء المسيح المطروحة والمعذبة ومن تقواه ومخافته وخدمة محبته الكونية universal .كان أيضا فيلسوفًا في ترابط الإنسانية والكنيسة في صورتها الجامعة والخادمة.. لذا صار رائدًا في خدمة التفسير والتكريس والتدريب والتكوين وتربية النشئ ورعاية المغتربين والمهاجرين وجامعي القمامة "الزبَّالين "غير مبتغي أيَّة وجاهة أو صدارة.. فقد قال لي ذات مرة "أن نصيب من يخرج للحرب كنصيب الجالس عند الأمتعة"، وقال أيضاً "إن العبرة ليست في عدد الوزنات لكن فيمن تاجر بها وربح" فالكل من أجل رب واحد؛ له وحده أن يزيد.عاش انبا أثناسيوس ثابتًا علي الدوام في الحق الحاضر، كرجل الإنجيل والكنيسة والتفسير والمبادئ المعاشة بصمت عامل وعمل صامت.. مرتفعًا فوق الأحداث والمصاعب. وقد أرسل الله هيبته أمامه وعمل بسيرته التي تتكلم حتى اليوم تذكارًا وتمجيدًا لعمل الثالوث القدوس الممجد الآن وكل أوان. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل