المقالات

09 فبراير 2019

لاهُوتُ الوَقْتِ للوَقْتِ عَلاَمَةٌ

في أي امتحان يكون للوقت علامة، بحيث تكون الإجابة الصحيحة بعد انقضاء الموعد المحدد بلا معنى، لأنها أتت في الوقت الضائع، وبالتالي يكون للوقت الحاسم في تحديد العلامة المؤشر الدقيق للمستوى الذي يؤهل الممتحن للوصول إلى أعلى مستوى. لذلك بكل الجهد نفتدي الوقت، كما نصلي قائلين: (تُوبي يا نفسي ما دُمتِ في الأرض ساكنة) لأن هذا العمر ليس ثابتًا وهذا العالم ليس مؤبدًا. علامة وقتنا هي أعمال الملكوت؛ من دون التعريج بين محبة الله ومحبة العالم؛ إذ لا يمكن أن تنظر إلى السماء بعين وتكون العين الأخري ناظرة إلى الأرض في نفس الوقت؛ حتى تبلغ الشرارة مكان زيت النعمة، وتخرج قوة عظيمة من أيادينا، ولا نسلم إناءنا ليد عدونا الشرير، الذي يزأَر ليُلهينا حتى يختطف إناءنا، التي هي أشواقنا الصالحة التي يجب أن تخدم الله نهارًا وليلاً وكل الأوقات. فعلامة وقتنا هو امتحاننا وسلوكنا على طريق الملك، محروسين بعناية الملائكة القديسين ليلاً ونهارًا، مع كل السالكين بالنهار وبالليل، الذين يجتهدون من أجل حفظ نفوسهم من عثرة المهالك، فيكون تعب جهادنا حلوًا وشهيًا بلا ملل ... لأن الطوبىَ لمن يبقى في تعبه فرح القلب؛ ويدوم فيه بلا تكلف حتى باب الفردوس المفتوح. وكل واحد عمله محسوب له، إن كانت خدمة أو صلاة أو ميطانيات أو عمل خير أو ليتورجيا، فحتى الكلمة الواحدة التي يقولها الإنسان بالمحبة المسيحية في شأن الله للتعزية ... هذا كله محسوب؛ لأن مخلصنا لا يظلمنا بشيء، وكل شيء سوف يُستعلن لنا وقت خروج النفس من الجسد . الإنسان مدعو في حياته الأرضية أن يجعل من الزمن الحاضر وسيلة لتذوق الأبديات، على مسار تصاعد الزمن، لملاحظة علامة الوقت بحرص والالتفات لتحويل بصره في انتباه نحو الوقت المقبول، لأن اليوم يوم خلاص، ويوم غرس وزرع وجمع للحصاد وتخزين، فيكون خلاصنا دائمًا موضع سعي وإكمال، ولا سطوة للزمن علينا، بل يكون الزمن خاضعًا لنا، نقر ونختار مصيرنا، متحررين من المفهوم الدائري للزمن، متجهين إلى أبديتنا في اليوم الثامن الجديد. نملأ آنيتنا زيتًا دون أن نهمل فيها ثقبًا، حتى نصل إلى نهاية سعينا التي هي (علامة للوقت)؛ لئلا يصير الإناء فارغًا مما فيه، بل نحيا أمناء للوصية؛ لأن الله مخفي فى وصاياه، حتى يقبل تعبنا منا ولا يضيع ... حريصين على حالنا مميزين أعمالنا، ولا يلحقنا تفريط. عالمين أن التوبة قائمة الآن ومستعدة، وكل الفضائل تلحقها مثل السلسلة لكل من يجاهد فيها. وشأن التوبة جليل وعظيم، وهي حسنة العاقبة إلى الأبد، كسُلّم خيرات الحياة الدائمة. فنحيا ونجتاز وقتنا دون غفلة ولا استرخاء ولا دفن للوزنات ولا انعدام للنعمة بترك العلل والمطامع في نفوسنا، حتى نمضي إلى الرب بدالة، ووجوهنا مكشوفة وأعمالنا نيّرة؛ كي نستحق الدخول إلى أورشليم السمائية . لكننا لن نقوي على اجتياز الوقت، إلا بقوة ونعمة الله المقدسة، لا نميل يمنة ولا يسرة؛ بل نسلك في الطريق المستقيم كأولاد للنور، بذبيحة الروح المنسحق الخاضع لترتيب الروح القدس، والارتماء على الله والثقة به؛ لأن عنده طعام الفرح وخبز الخلود؛ ومَصل عدم الموت ونبع الخلاص وماء الحياة وحلاوة كل الحلاوة . إيماننا هو منبع التقوي، لذلك منذ الآن ينبغي أن يكون كل واحد منا كنيسة لله، لكي نرسل إلى فوق المجد والإكرام للثالوث الاقدس، باعترافنا بالإيمان الأرثوذكسي. مهتمين بكرمنا في أوان الإثمار؛ حتى لا ندع الثعالب المفسدة تُتلفه، وبشجرة حياتنا لئلا يبدد طرحها طيور السماء، وبكنزنا حتى لا ينقبه السارقون، وبمركبنا التي وسقت الخيرات الملكية لئلا يفسد العدو خطتها ... متمنطقين كجنود بأس في ميدان الركض، حتى يأتي وقتنا لنقول عند علامة النهاية يا ربي يسوع المسيح في يديك أستودع روحي .. القمص أثناسيوس چورچ كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
02 فبراير 2019

التَّعَصُّبُ

التعصب أساسه وسببه يكمن في الآراء المسبقة المشوَّهة عن الآخر المختلف دينيًا... فالجهل دائمًا يقود إلى التعصب، والمقصود هنا هو الجهل بالآخر وعدم الإلمام الصحيح بكينونته وقد سُمي التعصب بالمَقيت؛ لأنه يدفع إلى إلغاء العقل؛ وخوض جدالات وتصورات ينعدم فيها الاحترام؛ ويجعل التربة خصبة للإتهام والتعدي والخوض في أمور لا يفقه فيها المتعامل ألفها من يائها... وانتشار طريقة التجهيل بالآخر المختلف والتحريض عليه؛ هو الذي كرس الازدراء والافتراء وانتقل به من التفكير إلى التكفير، ومن التعايش وقبول الآخر كما هو يدرك نفسه؛ لا بناء على تصورات مغرضة ووهمية مسبقة؛ إلى النفور والتباعد... وجميعها قد صعبت المعاملات والجوار، وفتحت الأبواب على مصراعيها للاعتداءات والمشاحنات التي أودت بحياة البشر وبمقدَّراتهم. لقد جعل التعصب الجو خانقًا وهشًا متوترًا وسريع الاشتعال... قسّم الناس وفرض العُزلة الاجتماعية، وصنف البشر، وتسبب في رفض الإنسان الآخر بحجج دينية تفشّت على نطاق واسع، وللأسف الظروف السيئة تنتج تشريعات سيئة، غير أن الظروف السيئة مرحلية ومؤقتة؛ أما التشريعات فهي مستمرة ودائمة... لكن إدارة الظهر للمواطنة ولتحقيق العدالة والتعايش يسيء إلى الدين نفسه ويؤخر الوطن كله؛ ويجعله مرتعًا للتعصب... لأن الحاضر يصنع المستقبل؛ وما عرف وطن مستقبلاً من دون المواطنين جميعًا؛ ومن دون وحدتهم في المساهمة لبناء هذا الوطن الذي يجمعهم على أرضه. علاج التعصب لا يكون مؤقتًا مثل مخدر أشبه ما يكون بحبة الأسبرين؛ لكنه إعادة صياغة تطال التعليم والإعلام والقوانين ودور العبادة والمؤسسات كلها.... هذا العلاج المخلص هو الذي يحفظ صيغ المواطنة حتى لا تنقلب طريقة التعايش رأسًا على عقب... وقد أوصى السيد المسيح كل مسيحي أن يحب الكل كقريبه؛ وصولاً إلى محبة الأعداء واللاعنين والمبغضين... وأي تعصب يأتي على المسيحي بسبب إيمانه فهو لأجل امتحانه... لذلك لا يستغربه إذن وكأن أمرًا غريبًا قد أصابه (۱ بط ۱۲:٤)... وكل من يُعيَّر بسبب اسم المسيح فالطوبى له وروح المجد والله يحل عليه... وداعة المسيحي تعني المسالمة ولا تعني الخنوع؛ كما أن شجاعته تعني مطالبته بحقه وإلتزامه بواجباته؛ لكنها لا تعني التطاول والتخريب... المسيحي الحقيقي على قدر طاقته يسالم جميع الناس؛ ويسلك بالسلام والمحبة والعطاء بأمانة كما سلك السيد المسيح وأوصى "على الأرض السلام" (لو ۱٤:۲). عكس التعصب (الغيريَّة) التي هي قبول الآخر؛ وهي ثمرة تلاقح الأفكار والمعاملات؛ وهي أيضًا ثمرة جدلية التعددية بين كل البشر الذين خلقهم الله على صورته ومثاله من كل لون وعِرق ودين وقومية... فالغيرية عكس الميكافيلية التي فيها الغاية تبرر الوسيلة... لأن الإله الحق لا يُعبد بالقهر؛ وهو لا يحتاج أن ينصره البشر؛ بل هو الذي ينصرهم ويعينهم... إنه إله الرحمة والعدل الذي لا يرضى بالظلم والقهر وكل صور الإكراه والترهيب... وعلى أساس كلمة الله تأسست الحقوق الإنسانية بدساتيرها وأدبياتها؛ وصارت سبب تقدم الأمم وأثمرت إبداعات إنسانية وتطورات الحضارات؛ والتي نتمنى لبلادنا أن تكون من بينها؛ بل وفي مقدمتها. إن كل المتعصبين على سطح الكرة الأرضية هم ليسوا أصحاب تكوين معرفي متوازن؛ وهم لم يتعرفوا بعد على حقيقة طبيعة الله وكلمته ووصاياه؛ إذ لا يمكن أن يرضى الله بالتعصب المقيت الذي يتسبب في هدر دماء الذين جبلهم؛ ولا يمكن أن يرضى بالحرق والسلب أو بقمع الذين خلقهم ليكونوا أحرارًا... وهو لا يرضى بالعصبيات التي تعصف بجمال خلقته مهما كانت دوافعها ومسمياتها. حوادث كثيرة تأتي في سلسلة بداياتها شرارة معروفة؛ لكن نهاياتها متحولة مجهولة بسبب التعصب ضد الآخر؛ إلى حد اشتهاء إلغائه وإبادته وحرقه، بعد نزع ملكيته وإنسانيته؛ فمن كثرة الاعتياد صار التعصب إدمانًا عند البعض، وتأسيسًا على ذلك كله يمكن القول بأن هذه الأحداث المتكررة هي في سياق واحد تعبر عن غياب التسامح والصدق والمواطنة والتنوير... من له أذنان للسمع فليسمع!!! القمص أثناسيوس چورچ كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
31 يناير 2019

الشهداء المعاصرون والسنكسار

حافظت كنيستنا على سيرة شهدائنا بوضع سيرتهم في السنكسار لتكريمهم كتيجان مجد وقلائد بطولة لجهاد ُمظَفَّر، وكدَرْب مُوصِّل للمدينة التي لها الأساسات في الوطن السماوي الأفضل. ويُعتبر السنكسار دليلاً وكتالوجًا لمعالم رحلة تسير نحو الله والملكوت السماوي.. وهو يحتوي على خريطة تحفظ جهادهم وانتصارهم حتى غلبتهم وعبورهم. وإنْ كُنَّا بعد مذبحة عيد الميلاد في غاية الأسَى والكَمَد بسبب القتل والإبادة المتواصلة وذلك الاستشهاد الجماعي, إلا أن الله يُنهضنا للتذكرة ويُنير أمامنا طريق الحياة والخلود, ويجعل الرجاء يُشرق فينا كمصباح منير في موضع مظلم, كي لا نقف عند البكاء والحزن بل لنجتاز ونفهم أن الآتي سيأتي ولن يبطئ, وهو وشيك أن يختم هذا الزمان ويُنهي مصارعة قوات الحجيم والظلمة. لقد عاصرنا في هذه السنين القليلة استشهاد شهداء كثيرين في التوفيقية وكفر دميان والقوصية والكشح والفكرية والعياط وسمالوط وديروط والأسكندرية والزيتون ونجع حمادي، وسالت دماء غزيرة وعزيزة خَضَّبت كل أرجاء مصر لشهداء أبرار وبررة, لُكِموا وسُلِبوا وأُهْدِروا ونُهِبوا وقُتِلوا وعُذِّبوا, لا لسبب إلا لكونهم مسيحيين. تعمدوا بدمائهم واصطبغوا بها لأجل الشهادة التي كانت عندهم, ثم ذهبوا إلى البيت الأبدي الغير مصنوع بيد. وورثوا ملكوتًا وعرشًا وقُدْسًا وعُرْسًا لا يَفْنىَ ولا يضمحل, فما أتْفَهُ الزمن عندما تقيس به أعمال الروح وما أعظم أيقونات هؤلاء الشهداء اللابسين الثياب البيض اللامعة وفي أيديهم الشبع والسرور وكل مشتهيات الاتقياء, بعد أن ذُبِحُوا بلا ذنب اقترفوه سِوىَ أنهم لا يدينون بما يدين به غيرهم. أليس من يُسْفَك دمُه من أجل الاعتراف العلني يستحق التقنين الكنسي كشهيد وكمعترف, فالتاريخ الكنسي يذكر أنه حتى الموعوظون قبل معموديتهم يُحْسَب لهم استشهادهم ما داموا قد نالوا (الصبغة) معمودية الدم فكم بالحري هؤلاء الشهداء المؤمنون المعمدون المستنيرون. إنني أذكر أن القمص غبريال عبد المتجلي تم تهشيم رأسه بالبلطة لرفضه النطق بالشهادتين, وعند استلام رفاته من المشرحة لم تكن له جمجة, وهناك شهداء آخرون قُطِعتْ ألسنتهم وطُعنوا في صدورهم لأنهم أصَرّوا على نفس الرفض. لقد قال قداسة البابا شنودة الثالث عن شهداء نجع حمادي (إنهم شهداء بالحقيقة وأن دمهم يصرخ عند الله وأن الله اتخذ موقفًا لدمائهم البريئة) وها عشرات الآلاف التي خرجت لتشهد لمذبحتهم ولأجل تكريمهم في كاليفورنيا وسياتل ونيويورك وملبورن وسيدني وإنجلترا وفرنسا وألمانيا واليونان وهولندا وقبرص والنمسا وفي كل مدن العالم، وكذلك وقفة الشموع المضيئة التي وقفتها الآلاف أمام المقر البابوي, إنما تساهم جميعها في الإجماع الشعبي بل والعالمي لتقنين هؤلاء الشهداء في سنكسار الكنيسة المقدسة خاصة بعد هذا الإجماع الموضِّح لليقين الخاص من قِبَل هذه الجموع حول استشهادهم. فعلى المتخصصين في الأدب الاستشهادي وفي أعمال التاريخ أن يحفظوا هذه السير في وديعة خزانة الكنيسة وذاكرتها, لأن شهادة دمهم حفرت على جَبين الكنيسة المعاصرة لَحْنًا حزينًا مجيدًا صادقًا, وصار جزءًا حيًا من تراث وواقع زماننا, وستبقى سيرتهم مُخَلَّدة كما خُلِّدت أرواحهم, إذ بعد أن عاشوا الاستشهاد البطيء (الطويل الأمد) مع بني جنسهم بلغوا حتى سفك الدم بالرصاص وتمزقت أجسادهم فَمَوْهُوم كل من يظن أن أعمال النعمة في أزمنة الاستشهاد هي من أعمال الماضي فقط, لأن الله سيظل يتمم ما وعد به, وهو حي ووعده حق, وهو أمس واليوم وإلى الأبد. وكما كتب الأولون من أمثال القديسين يوليوس الأقفهصي ويوحنا البرلسي وبطرس الجميل لسير الشهداء ينبغي أن تُدَوَّن سير هؤلاء المعاصرين ليستمر ذكرهم حتى تكتمل دورات التاريخ, فيُسَجَّل أنه في سنة 1727 ش وفي عصر الخليفة محمد بن حسني والي مصر قد أطلَقَ يد الغوغاء والسفهاء والرعاع لحرق وسلب ونهب وقتل الأقباط وتصفيتهم بالبطيء.... وقد سجل الأقباط وبطريركهم مَلْحَمَةً من الصمود والثبات والتمسك بالوصايا الإلهية منقطع النظير. إن الظهورات الروحية السابقة لهذه المذبحة كانت تعزية وثباتًا ورسالة تقوية لما هو آتٍ, ولما هو عتيد أن يكون, حتى لا نرتاع إذ ليس المنتهى بعد, وحتى لا تُسرق أكاليلنا, بعد أن صار ذبحنا على الهوية أي بالأسماء التي نحملها, حقًا إننا نواجه قوات ظلامية, لكن ها هي غلبتنا وذبيحة إيماننا. القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
18 يناير 2019

لقَّانُ عِيدِ الغِطَاسِ

في عيد الغطاس نصلي ليتورچيا اللقان لأننا أخذنا التجديد في المعمودية كعُربون حتى نصل بالجهاد والنعمة إلى التجديد التام بصناعة أعمال تليق بالتوبة... فعندما نقف أمام اللقان نتذكر مياه معموديتنا ونذرها في يوم معمودية الرب بنهر الأردن... إستنارةً وضياءً وحالة سوية وقدس أقداس وبهاءً للنفوس؛ فلا نعود لنحمل من جديد نير العبودية؛ بل نثبت في الحرية؛ حرية البنين بممارسة الوصايا. ننظر إلى ليتورچيا لقان عيد الأنوار ونعاين الظهور الإلهي؛ مُصلين لتقديس المياة وبركتها لمسيرة تجديدنا الروحي؛ الذي لن يتم فقط بالمعمودية؛ بل بالعكوف أيضًا على تكميل الوصايا التي يتعين علينا تتميمها بخوف ورعدة... لأن كمال المعمودية يحصل بواسطة الجهاد الروحي وأعمال الحرية التي تليق برتية البنين؛ باذلين كل اجتهاد لنجعل من غير المنظور منظورًا؛ فالذي ليس عنده هذه هو أعمى قصير البصر قد نسي تطهير خطاياه السالفة (٢بط ١ : ٩). وبالإمعان في نص قداس اللقان الليتورچي وتعابيره وقراءاته وألحانه وطقسه؛ نرى ذاك الذي بسط النعمة في ذلك اليوم وأظهر لاهوته بالتعميد؛ وهو يكمل كل بر لأجلنا ولأجل خلاصنا... كي يُهدينا إلى ملكوته حيث نهر الحياة الصافي كالبلور؛ المنبثق من عرش الله والحمَل من أجل شفائنا وشفاء الأمم (رؤ ٢٢ : ٢)، وكلما ندخل إلى عمق التقديس الليتورچي ننهل من اليُنبوع الممتد في جمال العبادة التي تربط ما هو إلهي بما هو بَشَري... من الشخص الأعمق إلى الجماعي المتحد بطاقة نهر الحياة؛ حيث تتحد الليتورچيا بالحياة وتتوحد في سينرچية Συνεργεία للروح والكنيسة عبر المناسبة الطقسية. نتمتع بالآنية الدائمة أو ما يسميه الدارسون (التأوين) بحيث نعيش الآن وهنا عند نهر الأردن أمام فسقية اللقان في لقاء وإلتقاء عميق؛ ويكون حضورنا القداس من أجل التقديس، وهو ما نعترف به كقانون لعضويتنا مع قديسي الكنيسة؛ عندما نردد في ختام القداس (واحد هو الآب القدوس؛ واحد هو الابن القدوس؛ واحد هو الروح القدس) لأن هذا الماء لا يُعطىَ إلا للقديسين (القُدُسات للقديسين)، ونحن بإتحادنا بالقدوس نصير قديسين فيه وبه... لأنه أعطانا نعمة وعطية ومسحة وإستنارة ووشاحًا للخلود ومغطس إعادة الولادة وختم الروح القدس الملوكي الفائق القيمة؛ والتي تأتينا نعمتها مجانية وواحدة للجميع. في النبوات وقراءات قطماروس اللقان نلمس الواقعية الروحية للحدث؛ خلال خدمة الكلمة والعبادة؛ بحيث يكون احتفالنا حيًا لا تفترق فيه الليتورچية عن الحياة. فقد وضع تقليد طقس القداس حَدَث معمودية الرب في بؤرة العبادة ليكون يُنبوعًا واحدًا لا يتغير، ماؤه حي دائم التجديد؛ نتذوق فيه حلاوة وعذوبة إنجيل الملكوت ورموز العبادة المُعاشة... حاضرة في ذاكرة الكنيسة حضورًا واقعيًا؛ في صورة كلية لأيقونة حدث الظهور الإلهي؛ والأعماق الخفية للتدبير... والتي بها فقط ندخل إلى اللاهوت الذي يظهر بديهيًا في الليتورچيا؛ وفيها فقط يمكن أن نحياه؛ لأنه يعبِّر عما لا يُعبَّر عنه، ويقدم الحدث بزَخَم كبير (صوت الآب بالسرور من السماء – الابن في نهر الأردن – الروح القدس بهيئة منظورة مجسَّمة كحمامة – ثم يوحنا المعمدان السابق الصابغ والشهيد). وهكذا بنزول المسيح في نهر الأردن وحلول الروح القدس وإعلان صوت الآب؛ المعبَّر عنه كنسيًا بعيد الإبيفانيا Επιφάνια أي ظهور الثالوث القدوس؛ تكون حقيقة تدشين أول معمودية على الأرض على اسم الثالوث... وهنا نقف نقدم عبادتنا وكأننا في برج إلهي نتحصن ونتذكر مرتبتنا كأحرار وكأبناء وكورثة؛ كي لا نحتقر العطايا السماوية؛ بل نصير ذبائح روحية مقدَّمة على المذبح المقدس الناطق السمائي... نتاجر بالوزنة ولا نطمُرها شاكرين الجَميل الإلهي؛ عاملين حسب معطيات ومقتضيات الموهبة التي تقبلناها؛ مكرِّمين نعمة خلود المعمودية التي وضعت وسكبت في باطننا أنهار الماء الحي... لم نعُد أرضًا قفرةً فيما بعد؛ لأن الرب بصليبه فجَّر فينا ينابيع روحه القدوس وروى أرضنا لتفيض بالشهادة له في كل موضع. مسيحنا هو النهر الأصلي الذي يصبّ في أرضنا أنهارًا هي ثمرة عمله فينا، وكل الأنهار تشهد للنهر الأصلي الحقيقي؛ تسبحه لا بالكلام وإنما بالأعمال وبتصفيق الأيادي؛ لأنه يطلب أفعالنا وأعمالنا وليس أصواتنا فقط... تتدفق فينا نعمته كمياة بلا حدود؛ فيعود ويتطلَّع لكنيسته؛ مُعلنًا أنه يمنحها إمكانيات جديدة على الدوام؛ يتعهدها بالخصب والنماء لتعود مراعيها دسمة مزروعة ومُثمرة؛ ومدنها عامرة مهيئة للسكنى لا كفردوس قديم مفقود بل فردوس حي وميراث إلهي ومياة جارية وأنهار حية وسواقي تُفرّح مدينة الله بالأعمال الصالحة والنافعة... التي تليق بالخراف الناطقة المقدسة المحفوظة في الحظيرة الإلهية - كنيسة الله؛ وبعمل المياة المقدسة التي تطهرنا من الخطايا وتجعلنا حاملين ثمر شركة الطبيعة الإلهية؛ لنحصد نصيب المؤمن (أي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن) "٢كو ٦ : ١٥). ونبدأ في قداس اللقان بعد صلاة الشكر والقراءات الكتابية؛ نذوق المعرفة الكاملة بالعبادة وعُربون كلمة الوعظ التي تصوِّرنا وتُشكِّلنا بحسب المثال الإلهي؛ بتجديد الذهن بالروح الذي يوسِم داخلنا الملامح الإلهية إلى أن تكمُل في نفوسنا بذور التشكُّل بالمسيح وصورة المخلص الذي ضبط الخليقة بعزته؛ ودبر العالم بعنايته؛ وأبدع الخليقة من العناصر الأربعة؛ وكلل دور السنة بالأربعة أزمنة؛ وأخرجنا من العدم إلى الوجود وأنهضنا من سقطاتنا ووهب لنا ملكوته وأحساناته وجعل الخليقة كلها تطيعه وتسبحه وتخافه وتتعبد له... بسط السماء وثبت الأرض وحصن البحر وأفاض الهواء وجدد طبيعتنا بالماء والروح؛ وأغرق الخطية أسفل الماء؛ وأعطانا موهبة المعمودية التي هي بالنسبة لنا (زرع الله فينا) زرعًا لا يفنىَ ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل؛ لكن بكلمة الله الحية الباقية. ويطلب الكاهن الرحمة (اللهم ارحمنا) رافعًا الصليب بالثلاثة شمعات؛ لأن خلاصنا ورحمتنا مقررة بفعل الثالوث القدوس... نصلي جميعًا طالبين المراحم؛ عشرة بل ومئة كيرياليسون من الله الذي خلقنا واعتمد لأجلنا؛ ليس مقابل ثمن ولا إيفاء لشيء؛ بل كهبة محبة خالصة منه... ممجدين أعماله التي تفوق الحصر ونقبل تجديدنا وتوبتنا وشفاءنا الذي يزودنا هو به بمحبته للبشر التي لا حدود لها؛ وببركة مياة اللقان التي تقدست بالصلاة والرشومات؛ عابرين الأردن الحقيقي بفرح الخلاص والمجد والنور المعطىَ لنا. شاكرين وحيد الجنس رئيس كهنتنا الذي رُسم في هذه الرتبة بقرار من الآب، وهو الابن الحبيب الذي سُر به أبوه؛ والذي اشترك في المشي مع الناس ووقف معهم ليعتمد؛ ونزل إلى حقارتنا ووضاعتنا وأخذ شكل العبد ووضع ذاته لأجلنا، فندرك مقاصده وتدبيره الذي بسطه علينا ونسلك حسب تدبير الحياة الجديدة؛ قلبًا لحميًا وروحًا جديدًا. إن كل مَن يتمعن في خدمة لقان عيد الغطاس يشعر بما هو أعمق من مجرد الطقس؛ ويلمس عطشه الدائم لمياة الحياة المُفاضة للنقاوة ولعمل روح الله الذي يرفّ على وجه غمر حياتنا؛ وكأننا في خلق جديد ويقظة للكون... نحيا عند النبع؛ نترك العتيق والأوحال ونقتني قطرات المياة التي تحمل الروح القدس لكل منا؛ والتي تنضح علينا بالبركة وبها ترتوي الخليقة؛ فلم يعُد هذا الماء ماءًا عاديًا (ساذجًا) لكنه أصبح حاملًا لنعمة القداسة... فليس طقسنا شكلاً أو مجرد ممارسة بلا مضمون؛ لكنه عمل تقديس لطبيعة المياة؛ يجعلها حاملة الحياة الجديدة؛ وهو توظيف للماء على نحو تقديسي. وروح الله منشئ الخليقة الذي رفّ على وجه الغمر في سفر التكوين يبارك ويقدس المياة؛ ويجعلها بركة ونعمة لتقديس البشر والحجَر؛ فهي أولاً لتقديسنا ثم لبركة بيوتنا؛ كي تصير ببركتها وبسيرتنا بيوت صلاة؛ بيوت طهارة؛ بيوت بركة، كنائس بيتية تشهد للمسيح في العالم إمتدادًا للكنيسة (ككنائس للسيد الرب) نحتفظ فيها بماء اللقان لمنفعتنا الروحية؛ ونأخذه معنا لبيوتنا كي ننقل ما يجري في خدمة اللقان إلى حياتنا وبيوتنا؛ إذ أن عبادتنا يكمل معناها في دوامها وفي عيشها باستمرار بلا إنفصام ولا إنفصال ولا إفتعال؛ حياتنا إمتدادًا لخِدَمنا الطقسية؛ وبيوتنا هياكل مقدسة للسيد تتجه نحو المسيح مشرقها وشمسها... ونحن الساكنون فيها مغروسون بإيمان الله على مجاري المياة؛ نعطي ثمرًا في أوانه وورقنا لا يذبل وكل ما نصنعه ننجح فيه. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
12 يناير 2019

هِيرُودُسُ مُزْمِعٌ أنْ يَبْحَث عَنِ الصَّبيِّ ليُهْلِكَهُ

يسوع المسيح مخلص العالم؛ كان موضع مطاردة وانتقام وتصفية جسدية منذ ولادته. فكان هيرودس وأعوانه يترقبونه ليُوقعوا به خوفًا منه، بينما هو جاء ليكون لهم به حياة أفضل. حسبوا أنه جاء ملكًا ومسجودًا له؛ ليؤسس حكمًا زمنيًا؛ لكنه وياللعجب جاء ليؤسس ملكوتًا أبديًا لا يتزعزع ولا ينقرض.. وقد قال بفمه الإلهي الطاهر (مجدًا من هذا العالم لستُ أطلب) .. إنه وُلد حقًا لكي يشرق على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لذلك تهللت كل الأمم بمجيئه.. أتى إلى كل واحد لكي يقدس الذين يقبلونه بإخلاص؛ وأعلن نفسه للكل ليقدس كل من يأتي إليه، وليهدي أقدامنا في طريقه وحقه وحياته؛ ولا شيء يساوي معجزة خلاصنا من قبل صلاحه. شابهنا فيما نعانيه على أرض هذه الدنيا من محن وفقر وتآمر بالقتل وافتراءات وتهجير ومطاردة. لذلك أتى الملاك في الحلم إلى يوسف النجار البار: (قُم خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر؛ وابقَ هناك؛ لأن هيرودس مزمع أن يبحث عن الصبي ليهلكه).. ففي كل عصر يوجد هيرودس وطغاة لهم أعوانهم يستبيحون الدماء ويهرقونها ويقدمونها قرابين للآلهة - (آلهة الأمم) – حتى يبقوا في مظلة سلطان رئيس هذا العالم.. أراد هيرودس قتل يسوع الطفل المولود خوفًا على مُلكه، وأراد نيرون قتل أبناء يسوع خوفًا على عرشه، وكلاهما طغاة يرزحون تحت أصفاد سخرية الجحيم وصداه المرعب في الظلمة الدهرية. فقد قيل عن هيرودس عقب موته - (إنه تسلل إلى العرش تسلل الثعلب؛ وحكم حُكم النمر؛ ومات ميتة الكلب) – كذلك نيرون المجنون الذي حرض الغوغاء ليحرقوا روما؛ كي يُلصق التهمة بالمسيحيين!!! فلا شيء جديد تحت الشمس؛ وما أشبه ما جرىَ وصدقيته بما يجري الآن في عالمنا من افتراءات وتعسف وازدراء وهدم وحرق؛ وكأنها من طبائع الأمور. وما كان هروب المسيح له المجد إلى مصر سوى واقعة أو محطة من محطات رحلة الآلام؛ التي فيها حمل رئاسته على كتفيه في طريق الصليب. فهو البداية والنهاية؛ متعجبًا منه كل حين، متألمًا ومنتصرًا في قديسيه - (۲تس ١ : ١٠) – إنه دائمًا هو كما في الماضي هكذا في الحاضر؛ وهو أمس واليوم وإلى الأبد، يتحمل آلامنا ويحمل أحزاننا، وهو مغطىَ بالجروح لأجل أحبائه؛ ومتحملاً ضعفنا الذي لا نقدر ولا نستطيع أن نحمله بدونه، وهو أيضًا الذي يتحمل فينا كلمات التحقير والتكفير.. لأنه فينا مبغَض بواسطة العالم؛ الذي لا يعرفه؛ ومن ثم يرفضه ويعاديه. لذلك لن تكون لنا قوة إلا به؛ ولا تعزية إلا إذا اختبرنا تدابيره الخلاصية؛ لأنها وحدها سبب بركة حياتنا؛ وبمقدار تجديدنا وتوبتنا واستنارتنا سنلمس حضوره العجيب.. فالقرار قرارنا!!! والتدبير هو من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا؛ إذ أنه قائم في وسطنا؛ لكننا لا نعرفه أحيانًا!!! فهل خبرناه وعرفناه وقبلناه وأطعناه؟؟!! لقد فتح لنا فسحات في قلوبنا ليدخل ويتعشى ويسكن ويقيم؛ بل ويملك... أتى إلينا؛ فلنأتِ إليه ونستقبله ليحل فينا. تنازل ليرفعنا؛ فلنمجده ونزيده علوًا ورفعة؛ إلى الأبد رحمته... ليعِيد الله علينا هذه الأيام بالسلام الذي من السموات، وليُنهضنا كي نخدمه ونشهد له كما يليق. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
11 يناير 2019

تَذْكَارُ أطْفَالِ بَيْتَ لحْم

أول شهداء المسيحية الذين استُشهدوا ولم يتم سؤالهم بل قُتلوا حتى قبل أن يتكلموا؛ ولم تكن المسيحية معروفة حينذاك... لكن الكنيسة اعتبرتهم شهداء ولم تستثنِ منهم أحدًا؛ بل اعتبرتهم أول مَن نال هذه الرتبة من أجل اسم المسيح... لم يسجل التاريخ جُرمًا أكثر بشاعة من ذبح هؤلاء الأطفال الرُضع، فلم تشفع لهم براءتهم ولا رضاعتهم ولا أعضاؤهم الليّنة والغضّة أمام جنون وطيش هيرودس الذي انتزعهم من على ثِدِي أمهاتهم؛ في مجزرة جائرة اصطبغوا فيها بالدماء؛ وكانوا سابقين لآلام المخلص الذي غسل بدمه الكريم أرضهم المدنّسة بالمعاصي؛ وخلص بتدبيره الأمصار والأرض كلها. فمع تهليل بيت لحم مدينة الأنبياء التي أينع فيها يسوع المسيح ربنا الكلمة المتجسد بسرّ عجيب؛ والتي سبق وأنبأت الكتب بظهوره المُحيي فيها؛ حيث تمت النبؤات وكملت؛ وقد صار بولادته فيها كل الحُسن والبهاء والجمال والحلاوة والخلاص؛ عندما أتى الله ظاهرًا... رب القوات بصوت القرن... النجم والكنوز والسجود والقرابين والرعاة والمجوس والفرح بالملك المولود؛ حيث رُبطت الشياطين وطُرحت خارجًا؛ وانسحقت بميلاد المخلص في أرض مدينة داود؛ التي فيها سُمعت ووُجدت العلامة التي أبصرت الخليقة كلها نورها فتهللت. لكن الملك هيرودس الأدومي استدعى المجوس سرًا وتحقق من زمان ظهور النجم... الملك الأرضي اضطرب عندما وُلد الملك السماوي؛ اضطرب عندما سمع بعظمة الملك الحق، فالطغاة يتزعزعون أمام القوات الفائقة وأمام انهيار ممالكهم... خطط هيرودس بإحتيال ليخدع المجوس الذين صاروا كارزين له؛ وجازوا في التخوم ليقدموا السجود للملك الآتي لخلاصهم، أتوا من بعيد ليبشروا القريبين... يتقدمهم في ذلك النجمُ حيث كان الصبي مع أمه، وهناك فتحوا كنوزهم وهداياهم؛ كبداءة التقدمة في كنيسة المذود... ثم تركوا طريقهم وتحولوا إلى الطريق حتى لا يلتقوا بهيرودس؛ لم يرتدّوا أو يسلكوا طريقهم القديم كي لا يعودوا إلى هيرودس ثانية. لكن هيردوس استشاط غضبًا بعد أن أحس أن المجوس قد سخروا منه. فامتلأ حسدًا وفقد كل حس آدمي وأصابه سُعار الدم؛ بينما هو الذي لا يستحق أن يعيش؛ وكان من الأفضل له أن يُعلق في عنقه حجر الرحى ويُلقىَ في البحر... لكنه أرسل ليفتش عن الملك الإلهي وقتل جميع الصبيان في بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحقق من المجوس؛ مُريدًا أن يقتل الطفل يسوع في جملتهم، فذبحوا الأطفال على الجبال؛ وسُمعت أصوات البكاء والنواح والعويل في بيت لحم المنسوبة لرحيل (تك ٤٨ : ٧)،(مت ٢ : ١٨)،(رؤ ٦ : ١٠). جرىَ دمهم في مجرى طريق الخلاص وسط الآلام والبكاء وصراخ وزفير الأمهات المرتفع إلى عنان السماء؛ لأنهم ليسوا بموجودين... وقد صارت شهادتهم البريئة الطاهرة ملازمة لفصح المذود وللميلاد الفصحي؛ ولازالت جماجمهم في غرفة كنيسة المهد ببيت لحم... لم يكن ذبحهم محض صدفة؛ لكنه يمثل جزءًا لا يتجزأ من خدمة حياة المخلص؛ لأنهم قدموا عملاً كرازيًا وشهادة حق بريئة أمام العالم كله؛ يمثلون بها كنيسة العهد الجديد وبيعة الأبكار التي حملت البرارة والطهارة ومسكنة الروح... تلك التي لا يطيقها الطغاة وولاة العالم الزمني؛ بل يضطهدونها ويُخرسونها ليكتموا صوت شهادتها. لقد تم عبور هؤلاء الأطفال وصاروا أبكارًا يتنعمون بتبعية الحمل الإلهي أينما وُجد في موكب روحي مقدس يتقدمه الحمل القائم وكأنه مذبوح؛ هم افتدوه؛ بينما هو فاديهم وفادي كل أحد، هم صاروا باكورة كنيسة الأحياء البسيطة القوية بلا تعقيد والحاملة سمات الحق الواضح والمستقر في الصليب؛ علامتها الجوهرية؛ والذي يُفصح عن طبيعة كيانها؛ كنيسة أبكار مرتفعة إلى فوق إلى السماء حيث مساكن النور في المظال الأبدية. هيرودس اضطرب والطغاة أمثاله قتلة لا يهادنون حتى بالرغم من معرفتهم للنبؤات؛ فقد علم أن من بيت لحم سيخرج المدبر الذي سيرعى شعب الله... في بيت لحم أفراتة الصغرى التي ستكون بين ألوف يهوذا لأن منها يخرج المدبر (ميخا ٥ : ١٢)، لكن هيرودس في تجبُّره رأى أن هذا الطفل غريم له، وبدلاً من أن يذهب ليسجد له هو الآخر سجود العبادة؛ إحتال ليدبر له مقتلاً، فذبح هذا السفاح كل أطفال بيت لحم، أما يسوع فقد جاء ليدبر نجاة وخلاص العالم كله. لقد طلب الأثيم الكنز المخفي فذبح الرُضع الأبرياء... لذلك أمست راحيل فاقدة التعزية لرؤيتها ذبح أولاد نسلها ذبحًا جائرًا وموتهم حتفًا في غير أوانه؛ حيث أخذت تنوح عليهم مفجوعة الأحشاء؛ لكنها الآن تسر وإياهم بمعاينتهم في أحضان إبراهيم... وهم الآن شفعاء بدم شهادتهم؛ ومن أجل طلباتهم أمام الحمل الحقيقي سيُنعم الله علينا بالمعونة وبنعمة غفران الخطايا. السلام والطوبىَ والفرح لكم يا مَن نلتم مجدًا وإكرامًا ودالة عظيمة عند المخلص... ويا مَن تكلمتم وأنتم لم تقدروا أن تنطقوا بعد؛ بل تكلمتم بدمائكم وتمنطقت أجسادكم بذبيحة أعضائكم الليّنة والغضّة؛ وقد هيأ الله من أفواهكم سُبحًا للملك الصالح؛ تمشون معه على جبل صهيون كيمام بلا عيب وكفراخ النسور المرتفعة إلى العُلا، وليس مَن يشبهكم، وستسيرون أمام الديان في مجيئه الثاني عندما يأتي على السحاب وتنظره كل عين... فكما شهدتم في مجيئه الأول (ميلاده) ستشهدون في مجيئه الثاني (الدينونة)؛ حيث علامة الصليب تضيء في أياديكم، معطين المجد والكرامة والتسبيح للحي إلى أبد الآبدين؛ مبارِكين الملك الآتي بإسم الرب. القمص أثناسيوس چورچ كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
05 يناير 2019

مُشَاهَدَاتٌ فِي عِيدِ المِيلاَدِ

لا تنشغلوا عن ميلاد المسيح الفصحي.. فقد قتل هيرودس الأطفال جميعًا.. اصطفّ الأطفال للذبح، استُشهدوا من أجل الملك المولود وهم بعد رُضَّع وأعضاؤهم لينة وغضة، لكنهم لم يستسلموا من أجل عظيم القوات. مضى المسيح المولود إلى مصر لكي تأتي معه.. بينما دم ذكي كريم دخل إلى العُرس عوضًا عنه. صوت سُمع في الرامة، نَوْح وعويل، وصوت في السماء بالمجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة. المسيح الملك البتول الكلي الطهارة ابن العذراء مريم الدائمة البتولية، دَعَا له أخصاء بتوليين؛ وسلم أمه البتول على عود الصليب ليوحنا الحبيب البتول؛ لكي يصوِّروا قتله وذبحه الخلاصي من أجل خلاص العالم كله. قدم له الأحباء هداياهم وأنفسهم، تألموا من أجله لأنهم استحقوا مجاورة ميلاده وتدبيره.. حملوا دمهم ودخلوا قدامه للتقدمة، دخلوا بشهاداتهم غير هيَّابين؛ وقدموا عذاباتهم ومُرّ آلامهم ليخبروا بأن الملك الذبيح قد أتى ووُلد من أجل فداء العالم كله. استراحوا على سرير الأجيال بعد أن أتوا من ضيقات عظيمة ولم يرتبكوا؛ لكنهم احتملوا العذاب والذبح كمقيدين ومذنبين؛ لكن كلمة الله لا تُقيَّد.. فتحوا طريق الآلام ومهدوه، وقد أكمله رئيس خلاصنا الذي ختم عليه بذبيحته الكفّارية قائلاً (قد أُكمِل). وها دماء الشهداء الأبرياء لم تخجل بشهادة ربنا المولود، ولم تستحِ بظهوره المحيي الذي به أبطل الموت وأنار الحياة والخلود، وسيُحيي أيضًا معه الذين ماتوا ليملكوا في الأمجاد.. لقد اجتهدوا ليقيموا أنفسهم مزكّين لله بصلاتهم وقرابينهم ونيّتهم ودمائهم.. تبعوا التعليم والسيرة والقصد والشهادة بالتقوى والجهاد الحسن. إن ذبح أطفال عيد ميلادك يارب تقدمة طاهرة أمامك، تقدمة بريئة لك يا من تجسدت لنراك مُكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت الذي ذقته لأجل كل أحد، وقد لاق بك وأنت رب الكل أن تأتي بأبناء كثيرين إلى المجد، وأن تكمل خلاصنا بالآلام الشافية المحيية.. لذلك ندعوك أن تضبط السلام لأولاد بيعتك المتمسكة بك؛ ليحل سلامك في زواياها وأركانها، تفرّق أعداءها وتشفي أوجاعها وتضمد الجراح وتعزي النفوس وتكمل الضعفاء وتسند المرتعشين مداويًا الجميع، أما الذين قتلوا شهداءك واستباحوهم نثق أنك ستجازيهم ضيقًا وخزيًا؛ معطيًا إياهم النقمة والعقاب الأبدي. فلنترك عنا إذن البكاء من أجل ذبح الأطفال؛ لأن الملك المولود سيمسح كل دمعة من عيوننا، فقد وُلد ليكون فرحًا عظيمًا لجميع الشعب، وليبدد الظلام والعتمة والدخان وينير الكون كله.. فكل ما سقط في هذه الطبيعة سيُقيمه، وكل ما قُيِّد سيحله ويحييه وسيحرر كل مرفوض ومرذول، ويفك عبودية الشر والخوف والخطية؛ ليعيده إلى مقامه الملوكي.. لا تحزنوا من أجل الذين ذُبحوا؛ لأن دماءهم لا تذهب عبثًا؛ بل تحمل معها بذار تقوية وكرازية ستطهر العالم من العقيدة الميتة المتحجرة، هذه الدماء التي سُفكت ستتعانق مع دماء أطفال بيت لحم ومع دماء مارمرقس والبابا بطرس وكل شهدائنا المعاصرين، وستصير جميعها ضريبة تحوِّل العالم إلى الله.. وأيضًا الأحياءلم ينشغلوا عن ميلادك؛ بل اكتظت بهم كنائس مصر ليلة عيدك ليكونوا شهداء بالنيّة (مؤمنوك احسبهم مع شهدائك)، ولتكون كنيسة مصر موسومة بالدم والشهادة في يوم ميلادك أيها المخلص. لقد وُلدتَ لتمنحنا نحن الميلاد والوجود، فلا نمضي إلى التراب فيما بعد؛ بل تأخذنا إلى السماء مع كل الذين غسَّلوا ثيابهم وبيّضوها بدم الحمل؛ وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت..لقد وُلدتَ في وسط روث المذود لكي ترقينا وترفعنا من المزبلة وتنزع الخزي عن جبين كل واحد منا، فتسترد الكل وتصالحهم بميلادك الفصحي.. الحَمَل الحقيقي وسط الحملان ورئيس الرعاة وسط الرعاة؛ وملك الملوك وسط المجوس الملوك، يسجدون له ويقدمون هداياهم ذهب مُلكه ولُبان كهنوته ومُرّ آلامه.. ونحن فيه غالبون إذ أن بشارته وميلاده المعجزي الفريد صارا بداية للتاريخ؛ تقودنا إليه النجوم والهدايا والتسبيح وحضرة الملائكة والسجود والفرح والبخور. ففيه تصير لنا الغلبة نحن المُجرَّبون لأجله؛ إذ انتقلت لنا نحن أيضًا بالتمام قوة ميلاده العجيب. لقد تقوَّينا وغلبنا بسبب خلاصه وعنايته بنا، فقد ربحنا به وفيه كل خيرات كاملة، وها كنيستنا المجيدة في مصر التي رجحت كفة شهدائها تقدم لك صلواتها وأصوامها وشهادتها وشهدائها في كل عيد ميلاد؛ كأثمار طيبة ولذيذة ؛وكقرابين وذبائح لائقة مع ذبائح تسبحة كيهك والميلاد؛ مرنمة (قلبي ولساني يسبحان الثالوث القدوس)؛ طالبين الرحمة والمعونة والغفران. إن شعبك وبيعتك في مصر يقدمون لك ذبيحة الإرادة المخلوطة بالظلم والتحقير والافتراء؛ مُماتة كل النهار؛ محسوبة ذبيحة من أجل خاطر اللوغوس، تتمثل بآلامه وتكرِّم دمه الثمين المسفوك لأجلها؛ وتقدم لك في عيدك أعشاب الفصح المرة؛ مع مر ولبان وذهب الهدايا؛ ثابتة بقوتك ضد هجمات إبليس وأعوانه، فلن يصيبها ضرر؛ لأنها شريكة كأس مسيحك؛ بعد أن خلصتنا وارتفعت على الصليب؛ ورفعت كل ما يُعيق شركتنا معك. وارتفعت بالقيامة فهدمت القبر، وارتفعت بالصليب لكي تجمع شتات البشر في ملكوت أبيك. يا وحيد الجنس أحد الثالوث القدوس إن تجسدك ليس مجرد تاريخ ولا أحداث وشروحات؛ بل هو المحبة المتجسدة التي قهرتْ الموت والفساد وتخطتْ الزمان والمكان والحدود، وجمعت المتفرقين والمُقسَّمين إلى واحد.. المجد لك يا محب البشر يا عَلَم الخلاص وراية الحياة. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
29 ديسمبر 2018

ماران آثا - (نداء في نهاية السنة الميلادية وعلامات الأزمنة)

لن ينتهي العالم إلا بمجيء نعمة الرب، لذلك صيغة Μαρανα θα تأتي في صيغة الاعتراف المضارع المستمر (ربنا يأتي). وترد أيضًا في صيغة امر الطلب والترجِّي (تعالَ يا ربنا) كنداء عبادة وصلاة توسلية في اشتياق وترقب (لينتهِ العالم) و (لتأتِ نعمتُك يارب. عندما نستعجل مجيئه؛ ونعيش حاضرنا على رجاء انتظار مجيء ربنا كل يوم لأنه حاضر معنا وحالٌّ بيننا ونحن ننظره كل يوم على المذبح؛ يكسر معنا خبزه، ثم يغيب عن ناظرينا؛ لكنه باقٍ معنا؛ ونحن نترجاه طالبين أن لا يتركنا وأن لا يغيب عنا، فقد وَعَدَنا على كل حال؛ أنه سيشرب معنا من نتاج الكرمة جديدًا في ملكوته (مر ١٤ : ٢٥). ويكفي أننا في مَعِيَّته وتحت ظل جناحَي صليبه نَبِيتُ. نذكر موته ونعترف بقيامته ونبشر بخلاصه كل يوم إلى أن يجيء (١كو ١١ : ٢٦). يأتي إلينا ويقرع أبوابنا ويتعشىَ معنا (رؤ ٣ : ٢٠)، وكل من ذاقه وخَبِر حلاوته؛ تنفتح عينه ويدرك صدق كل ما وعد به. إننا نعيش مواعيده منذ الآن؛ حينما يكسر معنا الخبز كل يوم، مانحًا لنا الغفران والخلود الأبدﻱ. واهبًا لنا حياةً يمتزج فيها الحاضر بالمستقبل. ونحن نلحُّ عليه بلجاجة قائلين له (تعالَ يارب ولينتهِ هذا العالم). ومناداتنا له يا أبانا الذﻱ في السموات؛ تؤكد بأننا لم نأخذ روح العبودية التي للخوف بل روح التبني الذﻱ به نصرخ يا أبا الآب، في جراءة ودالة؛ حتى يأتي ملكوته. فملكوته آتٍ آتٍ حتمًا، ونحن نترقبه بصبر واستعداد؛ لنُعِدَّ له موضع ارتكاز عندما يحُطّ على أرض الشقاء، لعله يجد الإيمان على الأرض (لو ١٨ : ٨)، وهو قد سلمنا نسخة من مشورته فيما هو مزمع أن يعمله. نناديه ونذكر وعوده ومواعيده كل يوم بندًا بندًا؛ لأن كل مشيئة صالحة هي من عنده، مختوم عليها بالدم الكريم؛ ليقودنا بدم صليبه نحو البراءة الكلية والوجود الآتي والثاني الذﻱ للغد الأبدي الخالد؛ نأخذها كوثيقة موثقة مدموغة بالدم القادر بروح إزلي علي التقديس و بفصح العبور؛ فنحلِّق بجرأة ونتراءىَ قدامه؛ طالبين نعمته صارخين بإستغاثة على من نجَّانا وأنقذنا من موت مثل هذا، وهو ينجي وسينجي أيضًا (٢كو ١ : ١٠). لقد جاء في مجيئه الأول (تجسده) لكي يخلصنا؛ وفي مجيئه الثاني (دينونته) لكي يضمنا.. تجسّد ليخلصنا؛ وتكلم ليخلصنا؛ وصُلب ليخلصنا، وتدبير خلاصه هو في كل عمله وإرساليته وحياته وموته وقيامته. وها نحن في هذا الزمان؛ زمان الفوضى اليائسة والعاملة في كل شيء من حولنا... نترجى وجهك يا ربنا الطيب ونمتلئ رهبة في حضورك يا مليكنا محب البشر الصالح، ونتوسل مجيئك الآتي بين الذين صلبوك والذين يصلبونك كل يوم، ونقول لك : ”تعالَ إلينا اليوم يا سيدنا المسيح؛ وأضِئْ علينا بلاهوتك العالي“. فمَن يبحث في هذا العالم عن الجمال؛ إنما يبحث عنك دون أن يدرﻱ؛ لأنك أنت الجمال الكامل والمكمِّل والفائق في القِدم، الذﻱ تنساب النعمة من شفتيه؛ والأبرع جمالاً من بني البشر. وكل من يجُول بفكره نحو الحق إنما يسعى إليك؛ لأنك الحق الحقيقي ( الأليثيا) Αληθεια الواحد والوحيد؛ الذﻱ ينبغي أن يُعرَف. وكل من يفتش عن السلام إنما يبحث عنك لتستقر فيه بسلامك غير الفاني ياملك السلام وذا المجد والاكرام . روحك يعزي كنيستك إزاء محنة التاريخ والعالم ،ويمنحنا غفرانا وصفحا ومصالحة وشركة معك ياغافر الخطايا وماسح الآثام والذنوب ومانح العطايا الي التمام ....ونحن نسبحك ونرتل لك ونباركك ونخدمك ونسجد لك ونشكرك ونمجدك ونعترف لك بلا انقطاع حتي ظهورك الاتي . إن صلاة (ماران آثا) هي نداء قد تسجَّل في (١كو ١٦ : ٢٢)،(رؤ ٢٢ : ٢٠) كفعل رجاء وعُربون تذوُّق لمجيئك الثاني المنتظر في نهاية هذا الدهر، حيث وليمة المسيا المجيدة وسمائن البنين، وعشاء عرس الحمل الملكوتية؛ الروح والعروس يقولان : (تعالَ). ومَنْ يسمع فليقل (تعال) فهَلُمَّ نكمل خطة خلاصنا من جهة مجيئك... بنعمتك ومسرة أبيك الصالح وفعل روحك القدس القدوس، نأتيك عطشىَ فنأخذ ماء حياة مجانًا، ولن نتكلف شيئًا، فقد دفعتَ الثمن واشتريتنا بدمك الذكي الكريم، فاقتننا لك ياالله مخلصنا، وها الشاهد قد صدَّق على هذة الأقوال (نعم أنا آتٍ سريعًا). آمين (تعالَ أيها الرب يسوع). نراك وننظرك في مجد الدهر الآتي. القمص اثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
22 ديسمبر 2018

التَّسْبِحَةُ الكِيَهْكِيّة أيْقُونَةٌ صَوْتِيَّةٌ

التسبحة القبطية هي مستودع خبرات الكنيسة، وهي ليست بهيِّنة، وكل من اختبرها وذاقها وفهم معانيها تأخذه، بحيث لا يجد ما يماثلها في الشمولية والدسم والعمق المستيكي الروحاني... ولغة التسبحة فن فنون بمعنى الكلمة. فن الآباء العظام وتقواهم وخبرتهم... لهذا أُلقي علينا نِير الفهم (تعالَ وانظر!!!) كلمة ولحنًا وعمقًا وسجودًا وتضرعًا وانسكابًا، في حضرة الله وسط شعبه وفي مسكنه ومحل موضعه المستعد. ويكشف قالب التسبحة الأبعاد الكتابية واللاهوتية والعقيدية والروحية، كسيمفونية إيمان الكنيسة وتراثها الحي المُعاش عبر الأجيال، الذي ينقلنا بالفهم الروحي لمعرفة الحق متجاوزين الحرف إلى الروح المحيي، وإدراك الحكمة عند شركة الطغمات السماوية وجماعة المؤمنين وملامسة حضور العريس السماوي، بعين الإيمان حسب وعده الصادق. وبهذا الإيمان عينه نسبحه ونمجده ونسجد له ونباركه ونتضرع إليه بيقين، لأنه معنا وفيما بيننا كائن ويكون، حيث يجتمعا الماضي والمستقبل ليلتقيان في الحاضر المكرَّس. يأتي الشكل الليتورچي للتسبحة الكيهكية دليل تثبيت لمعاينة سر التجسد الإلهي، عبر التعبير النطقي ونصوص الإبصلمودية التي تنطق بالحكمة والمعرفة الإلهية المقترنة باتفاق نغمات الخلاص في لغة صياغات مَحكية معبرة عن الحدث الخلاصي، وفي لغة مرنَمة موزونة ومفعمة بروح التعزية على قيثارات النفوس، داخلة إلى العمق في حضرة مجد الله... وفي نُسك فكري لتقديم الفكر وبقية العقل كذبائح معقولة لله، عبر تصوير نغمي مختبئ بين النغمات والخلايا الصوتية الموسيقية. ويتضمن الإطار الليتورچي للتسبحة كل أنواع الصلوات: التوسلات (Intercessions)، الصلوات (Prayers)، التشفعات (Supplications)، التشكرات(Thanksgivings) فهي مشحونة بالتضرعات والالتماسات والتوسلات والتعهدات والنذورات والتشفعات لأجل الكائنات وجميع الناس (١ تي ١:٢). لهذا تنسكب التسبحة كذبيحة عقلية غنية بالاصطلاحات والمعاني المليئة بالسمو، مثل لهيب لا يمكن إدراكه، ملتهم كل شيء حتى يصل ويُعلَم لدَى الله. في التسبحة الكيهكية نتجه إلى الله إله الكنيسة، نتضرع إليه ونناجيه بالإلهامات والإبداع في التعابير الليتورچية والمديح العبقري، عندما نخاطبه قائلين: يا الله مخلصنا/ الأزلي قبل الأدهار/ الكائن في مجد أبيه/ المهتم بنا والمدبر كل الأمور/ حامل خطية العالم/ الرب المرهوب/ الضابط الكل محيي الأرواح والنفوس/ إله خلاصنا/ الملك الديان/ الرب المعبود/ رب القوات/ الستار وحيد الآب مسياس/ النور الحقاني/ معدن الغفران/ رب الأرباب الفادي الكريم/ مدبر مختاريه/ الكائن في حضن أبيه، ابن الله الكلمة/ المشتاق لخلاص خليقته/ رب جميع البشرية، ملك المجد الواحد من الثالوث/ الله القدير/ رب وإله آبائنا مخلص كل أحد/ إله الرحمة وحياة كل إنسان محب البشر الصالح/ رب الدهور الحي بغير زوال/ الله الآب والابن والروح القدس ثالوث إله واحد رب جميع الآلهة/ الله المتعالي سيدنا القوي الكثير الرحمة/ ابن الله المُنزَّه/ مخلصنا الوسيط يسوع المسيح/ مسيا الرؤوف/ إله الآلهة عمانوئيل إلهنا/ ملك الملكوت الواحد من الثالوث/ المتكئ في حضن أبيه الذي هو فوق كل رئاسة/ صانع الخيرات الأزلي ذو الجلال الدائم إلى الأبد/ إله جميع الأحقاب ذو الاسم المرتفع/ إله إبراهيم الذي بسط يمينه، والجمع الممسوك مع آدم رفعه إليه/ الله المستريح في قديسيه/ الراعي العظيم الذي جمع المؤمنين وألَّفهم مع الملائكة وصيَّرهم وارثين لملكوته الأبدية/ الذاتي مع أبيه من جوهر الإله/ غير المنظور والغير المدنو منه/ المتسربل بالنور والساكن في النور الذي لا يُدنى منه/ ملاك المشورة العظمى/ الكائن والذي كان والذي أتى وسيأتي/ آدم الثاني المسيح الملك/ عمانوئيل مخلص العالم. وبمناداتنا بلجاجة على الله نلتحف بالفرح من أجل حضرته بالسلام والنصرة والحلاوة والبشرَى والكرامة، ومن أجل نوالنا رتبة الفرح والسرور بسرّ التجسد الإلهي الذي حوّل لنا العقوبة خلاصًا... من الحسرة والحيرة وحزن آدم النادم واكتآب الأرض المقفرة الذي صار لنا بالتدبير حُرية وبنوية ومجدًا وخلاصًا ونجاة من ضيق الجنوس ورِقّ الشيطان، والذي به بلغنا أرض الميعاد، وانمحَى الرِقّ وتمزق الصك ونلنا المراد. من أجل هذا نتهلل بالتسبيح والمديح اليسير، وتفرح نفوسنا التي كانت بهيمية (حيوانية)، وقد صارت الآن روحانية، واستمدّت قوام حياتها من قوة الحياة الإلهية، وتتزود زادًا روحانيًا يدسم روحها بدسم سماوي يملأها فرحًا ولسانًا ونعيمًا، فنتقوَى على من بنا يمكرون... وتتقوى شجرة الكنيسة بالتسبيح في السر والإجهار، حاملين هدايا مُرّ البخور والرضا، ولبان التسبيح، وذهب توبة النفوس لنبلغ مذود الملك المولود الآتي... غير المتجسد الذي تجسد، وغير الزمني الذي صار تحت الزمن... الحاضر معنا، وفيه قد خلصنا من الفساد، وتربّينا على معرفة إرادة الله. الكائن بذاته الذي أتى إلى الوجود في ملء الزمان ونلنا به التبني... وهو الملء الذي أخلى نفسه ليكون لنا نصيب في ملئه. القمص أثناسيوس چورچ كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل