المقالات

18 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس ملاخى

ملاخى " ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها "" ملا 4: 2 " مقدمة لعل من أطرف ما يقال أن بقالا أخذ يكيل المدح لأحد الرعاة، وكان هذا الراعى قد نصب حديثاً على كنيسة فى المدينة التى يعيش فيها البقال، وإذ سئل البقال عما إذا كان قد سمع الراعى وهو يعظ!!؟ فأجاب، كلا.. ولكنه منذ أن وفد على المدينة وجميع الزبائن الذين ينتمون إلى هذه الكنيسة يدفعون فواتيرهم … أو فى لغة أخرى أن البقال رأى حياة الأعضاء فى تصرفاتهم وأسلوبهم الجديد فى الحياة!!.. وقد لخص احدهم خدمة ملاخى كتب نبوته فى عام 432 ق. م. فى ذلك الوقت الذى عاد فيه نحميا حين استدعاه الملك أرتحشستا حيث يقول فى سفره: « وفى كل هذا لم أكن فى أورشليم لأنى فى السنة الاثنتين والثلاثين لأرتحشستا ملك بابل دخلت إلى الملك وبعد أيام استأذنت من الملك وأتيت إلى أورشليم وفهمت الشر الذى عمله ألياشيب لأجل طوبيا بعمله له مخدعاً فى ديار بيت الرب » " نح 13: 6 و7 " وكان الارتداد رهيباً فى فترة غياب نحميا، وظهر ملاخى لالينادى بعودة نحميا فجأة ليواجه الفساد والشر الذى عاد إليه الشعب بصورة رهيبة، بل من هو أعظم من نحميا، شمس البر الذى يشرق والشفاء فى أجنحته، … إن آخر كلمة فى العهد القديم كانت كلمة « بلعنٍ » … وأول كلمة فى العهد الجديد تواجه هذه اللعنة: « كتاب ميلاد يسوع المسيح » … والمسيح وحده وفيه تتحول اللعنة إلى بركة ويدخل الأمل الضائع فى العهد القديم، فى الرجاء الأبدى فى العهد الجديد، … ولهذا يحسن أن نرى ملاخى من النواحى التالية: ملاخى ومن هو!!؟ يعد ملاخى النبى الثانى عشر من الأنبياء الصغار، وآخر أنبياء العهد القديم - والكلمة - « ملاخى » تعنى « ملاكى » أو « رسولى ». ونحن لانكاد نعرف عن هذا النبى شيئاً خلا اسمه وسفره، وقد ظن البعض أن اسمه لا يشير إلى شخص بقدر ما يشير إلى رسالة، ومن قالوا إن الكلمة « ملاخى » ليست اسم علم بل هى صفة لنبى أو رسول، ولذا قالوا إن عزرا الكاتب هو صاحب سفر ملاخى، غير أن هذا الرأى مردود لاختلاف أسلوب السفر عن سفر عزرا، ومن العجيب أن أوريجانوس كان يعتقد أن كاتب السفر ملاك من السماء!!... غير أن معظم الشراح ودارسى الكتاب يعتقدون أن ملاخى اسم علم لشخص حقيقى، عاش معاصراً لنحميا وتنبأ فى الشطر الأخير من حياة هذا الحاكم العظيم، ووهناك تقليد يقول إنه كان عضواً هو وزكريا فى مجمع اليهود العظيم، وأنه ولد فى بلدة صوفا من سبط زبولون، وأنه مات ولما يزل فى عنفوان شبابه. وقد تنبأ هذا النبى بعد الرجوع من السبى وبناء الهيكل، ومع أن أسلوبه ربما لا يرقى إلى أسلوب أنبياء ما قبل السبى، لكنه قد يتفوق فى الصراحة والقوة وجمال التشبيه وبراعة الحوار، ومن الغريب أنه كان معاصراً سقراط، ودعاه بعضهم «سقراط العبرانى »، إذ كان كالفيلسوف اليونانى العظيم فى طريق العرض والاعتراض والنقاش واستخلاص النتيجة.وفى الواقع إن ملاخى تأثر فى أسلوبه وتفكيره بالأحداث العظيمة التى كانت تجرى فى العالم فى أيامه، الأحداث التى كان لها ولا شك أكبر الأثر فى أمته وشعبه رسالته... ففى النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد كانت الإمبراطورية الفارسية تجتاز مرحلة حاسمة فى تاريخها، فلقد بسط داريوس سلطانه على مصر، وإن كان قد انهزم أمام اليونان فى موقعة الماراثون. وفى عام 485 اعتلى ابنه زركسيس « أحشويرش » حفيد كورش، وأراد أن يثأر لمعركة الماراثون، وجهز أكبر جيش عرف فى التاريخ القديم، ولكنه خسر معركة سلاميس عام 480 ق... كما أن معركة بلاتيه أجهزت على سلطان الفرس الأخير فى أوربا، وفتحت الباب أمام ظهور اليونان كالدولة التى تحل محلها. وفى غمرة هذا الصراع بين الشرق والغرب، سرت فى العالم كله موجة من القلق والفوضى والمادية التى استولت على الشعوب، بما فيها الشعب الإسرائيلى الراجع من السبى، وفى الواقع أن الشعب قد عاد من السبى، وهو يظن أن كل شئ سيتغير إلى الأفضل، ولما لم يحدث هذا التغير سريعاً، انقلب الشعب إلى النقيض وارتد، وفقد كل حماس وغيرة وروحانية، فقل عنده الاعتبار الدينى، وضعفت روح العبادة، وانطوت نفوس الكهنة على إهمال واحتقار خدمة الهيكل، وانحطت حياة الشعب إلى الدرك الأسفل، ووقف ملاخى أمام أمة كانت فى طريقها إلى النقاهة، ولكن مضاعفات المرض ونكسته قاداها إلى ما هو أسوأ وأقسى وأشر!!.. ملاخى والحوار بين اللّه وشعبه قامت نبوة ملاخى على الحوار بين اللّه وشعبه، فإذا كان سقراط فى أثينا يجمع الناس حوله ويناقشهم فى فلسفة الحياة، وكيف يمكن أن يعيش الإنسان فى عالم ضرب فيه الفساد فى أثينا وأورشليم إلى آخر الحدود، حتى أنهم حكموا على سقوط أن يشرب كأساً من السم، ولفظوا الرجل الذى كان أحكم إنسان فى وسطهم،... لكن أورشليم كانت تواجه حواراً أعظم ليس بين إنسان وإنسان، بل بين اللّه والإنسان، ولم يكن وحى ملاخى إلا تسجيلا لهذا الحوار، والكلمة « وحى » فيها معنى الحمل أو العبء أو الثقل أو المسئولية، فالحديث هنا ليس حديث فكاهة أو تسلية أو سمر يقوم بين اثنين، بل هو فى الحقيقة الحديث الجدى العميق الباهظ الثقل لما فيه من أهمية ومسئولية، وسيكون وقعه رهيباً على من يرفض الالتزام أو يتنكب الطريق عنه،... وعلى وجه الخصوص هو رهيب من حيث الطرفين أو من حيث الموضوع، فأما طرفاه فهما: اللّه، والإنسان، أو بتعبير أدق هما: « اللّه » فى وضعه « كأب » و« كسيد »، والإنسان فى وضعه كإبن وعبد،... أما من حيث الموضوع فهو اسمى موضوع فى الوجود: « الحب »، واللّه من جانبه لا يمكن أن يتباعد عن هذا النوع من الحوار، إذ أن « اللّه محبة »، وهو بطبيعته ينتظر أن يقوم كل حوار بيننا وبينه على المحبة، سواء فى العهد القديم أو العهد الجديد،... وهل ننسى ذلك الحوار الذى حدث بين المسيح وتلميذه على بحر طبرية يوم قال المسيح لبطرس ثلاث مرات: « يا سمعان بن يونا أتحبنى أكثر من هؤلاء »... « يا سمعان بن يونا أتحبنى »... « يا سمعان بن يونا أتحبنى »... ورد بطرس مثلثا: « يارب أنت تعلم أنى أحبك » « يارب أنت تعلم أنى أحبك »... « يارب أنت تعلم كل شئ. أنت تعرف أنى أحبك » " يو 21: 15 - 17 "..، وليس عند اللّه بديل أو نظير للمحبة!!... أجل!! فهذا حق، ومن ثم رأينا أوغسطينوس يقول: « أحب وبعد ذلك أفعل ما تشاء »... ولعله ليست هناك مأساة تعادل فقدان الإحساس بالمحبة، الأمر الذى قاله الشعب فى وجه اللّه بجرأة لا يحسد عليها: « بم أحببتنا ». " مل 1: 2 ". وفى الحقيقة لا يبقى للإنسان شئ فى الحياة بعد ذلك، يوم يعجز عن إدراك أن اللّه أحبه وما يزال يحبه!!... ومع ذلك فقد كان اللّه كريماً إذ دخل فى حوار المحبة!!..عاد اللّه بالشعب إلى التاريخ القديم، والتاريخ فى العادة - لمن يعود إليه - أعظم برهان عملى وواقعى على محبة اللّه الفائقة العظيمة، تاريخ الأمة أو البيت أو الفرد،... ويكفى أن يعود شعب اللّه إلى تاريخ يعقوب وعيسو، ومهما نحاول أن نبحث، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى عمق الاختبار الإلهى، وقد تحدثنا فيما سبق عند التعرض لقصة عيسو ويعقوب، عن هذه الحقيقة العجيبة،... والأمل أن يرجع من يرغب فى المزيد من التأمل إلى الشخصيتين اللتين درسناهما فيما سبق بين شخصيات الكتاب،... ولكننا نلاحظ أن الحب الإلهى تأسس أولا على عدم الاستحقاق، إذ أن النعمة وحدها هى التى يستطيع يعقوب أن يرد الأمر إليها فى قصة اختياره دون أخيه، أولا لأن هذا الاختيار حدث قبل أن يفعلا خيراً أو شراً، فهو اختيار أسبق من كل عمل أو تصرف، فإذا قسناه بحسب المنصرف الذى جاء فيما بعد، فإن تصرف يعقوب فى غشه وخداعه وأنانيته وخبثه، كان فى كثير من الأوضاع أبعد من كل تصرف وصل إليه عيسو الذى هو آدوم.وكان الحب الإلهى أكثر من ذلك - منحازاً، إذ أخذ من عيسو ما يبدو أنه حقه باعتباره البكر، ليعطى ليعقوب،... ولم يتعلق الأمر بالاختيار فحسب، بل بالضمان والحراسة والبركة،... ومن المؤكد أن هناك أشياء كثيرة فى عيسو كان يمقتها اللّه ويكرهها، لأنه مهما يبدو فى الظاهر من فضائل فيه، قد لا يصل إليها يعقوب، إلا أنه كان يملك رذيلة الرذائل ومستنقع الأوحال، إذ كان هو الشخص الذى يمكن أن يطلق عليه القول « بلا إله » وهو على أية حال حيوان حتى ولو بدا كالزرافة أو الحمار الوحشى أو أى حيوان جميل الشكل،... ولكنه فى أية صورة هو حيوان، ولا يمكن أن يقارن بالإنسان!!... وكان يعقوب، على العكس، إنساناً به النقائص التى ظل اللّه يعمل على إخراجها منه، وتنقيته منها حتى، أضحى إسرائيل الذى جاهد مع اللّه والناس وغلب..هذه المحبة الإلهية، كانت أكثر من ذلك، المحبة التى باركت يعقوب وأخربت عيسو، أو فى لغة أخرى كانت المعطية للواحد والمقاومة للآخر، فهى تعطى ليعقوب إلى الدرجة التى يقول معها: « صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك. فإنى بعصاى عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين » " تك 32: 10 "... على العكس من عيسو الذى يقول عنه ملاخى: « وأبغضت عيسو وجعلت جباله خراباً وميراثه لذئاب البرية. لأن أدوم قال قد هدمنا فنعود ونبنى الخرب، هكذا قال رب الجنود هم يبنون وأنا أهدم ويدعونهم تخوم الشر والشعب الذى غضب الرب عليه إلى الأبد »... " مل 1: 3 و4 " وشتان بين إنسان يجد المعونة والقوة من اللّه، وآخر يجد الهدم، والتدمير منه كلما فكر فى النهوض للتعمير والبناء،... واللّه فى هذا كله، لابد أن يلتقى حبه بعدالته، إذ أن الهدم الذى يلحق آدوم إلى الأبد، مرتبط بإصراره على أن يكون تخوم الشر. ومن هنا نعلم أن الغضب الإلهى له أسباب ومقوماته!! إنتظر اللّه من شعبه حباً بحب، وشركة بشركة،.. ولكن الشعب لم يرد على اللّه صدى هذه المحبة العظيمة، وخاب انتظار اللّه فيه،... وإذا كان للمرء أن يسأل: وماذا ينتظر اللّه جواباً على حبه؟ إنه ينتظر ما ينتظره كل أب من ابنه، وهل أقل من أن يفعل ما فعله هنرى هفلوك وهو صبى صغير، إذ أطاع أباه، ورفض أن يتزحزح من مكانه فى شوارع لندن المزدحمة ساعات طويلة حتى جاء الليل، وعاد الأب إلى بيته وكان قد نسى ابنه، فى زحام عمله، ولم يتذكر ذلك إلا بعد عودته، فأسرع إلى المكان ليجد ابنه هناك فى انتظار أبيه!!.. « أن أفعل مشيئتك يا إلهى سررت وشريعتك فى وسط أحشائى » "مز 40: 8 " « لأجل ذلك حسبت كل وصاياك فى كل شئ مستقيمة كل طريق كذب أبغضت ».. " مز 119: 128 " وليس الأمر مجرد الطاعة، بل « نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا،.. "1 يو 4: 19 " إننا من هامة الرأس إلى إخمص القدم مدينون له كخالق، وكمعتن، وكفار وهو يستحق كل حب وولاء، أن يكون هو صاحب المركز الأول والأخير فى قلوبنا وحياتنا!!.. ومن حقه علينا أن نغار لمجده وكرامته، وإذا كان الابن لا يقبل قط أن يهان أبوه الأرضى أمام عينيه بأية صورة من الصور، فكم بالأولى الآب السماوى المستحق كل إكرام وإجلال ومجد، ولسنا نصنع فضلا إذ نجند أنفسنا لخدمته، بل هذه هى رسالتنا الوحيدة فى الأرض أو السماء!!!.. ملاخى والكهنة فى أيامه وليست هناك صورة أسوأ من صورة الكهنة فى أيام ملاخى، وحتى يمكن أن نفهم الصورة على وضعها الصحيح، كشف لنا اللّه عن رسالة الكاهن العظيمة: « كان عهدى معه للحياة والسلام وأعطيته إياهما للتقوى فاتقانى ومن اسمى ارتاع هو. شريعة الحق كانت فيه واثم لم يوجد فى شفتيه. سلك معى فى السلام والاستقامة وأرجع كثيرين عن الإثم. لأن شفتى الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود » " مل 2: 5 - 7 " وأية صورة أجمل وأروع من هذه الصورة لخادم اللّه، إذ أنه: أولا: الخادم المدعو من اللّه الذى دخل فى ميثاق مع اللّه: « فينحاس ابن العازار بن هرون الكاهن قد رد سخطى عن بنى إسرائيل يكون غار غيرتى فى وسطهم حتى لم أفن بنى إسرائيل بغيرتى. لذلك قل هأنذا أعطيه ميثاقى ميثاق السلام فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدى لأجل أنه غار للّه وكفر عن بنى « إسرائيل »... " عد 25: 11 - 13 " وما أجمل أن يحس الكاهن أو خادم اللّه أنه إذ يدخل الخدمة مدعواً من اللّه، إنما يدخلها بميثاق وعهد أبدى مع القدير،..ومن ثم تأخذ الخدمة. ثانياً: أعلى مكانة فى ذهنه، إذ هى خدمة اللّه العلى الجدير بكل إجلال واحترام: « ومن اسمى ارتاع.. ثالثا: الخدمة، ينبغى أن تحاط بالمهابة والجلال والاحترام والقدسية.. إذ هى للّه العظيم القدوس،.. ولذا من الواجب أن يكون الممسك بها هو الإنسان الصادق الأمين: « سريعة الحق كانت فيه وإثم لم يجد فى شفتيه » ورجل اللّه لا ينبغى أن تكون هناك شبهة فى صدقه وأمانته وحقه. والخدمة رابعاً: لا يجوز أن يقوم بها إلا من كان سلوكه العملى واضحاً وثابتاً أمام الجميع، وهو مع اللّه فى سلام، ومع نفسه والناس فى استقامة: « سلك معى فى السلام والاستقامة ». وهو خامساً: الإنسان النافع: « وأرجع كثيرين عن الإثم »... إذ هذه هى رسالته العظيمة فى الحياة. وأخيراً هو الإنسان الواسع الإدراك والمعرفة، الذى يطلبه الحائر والمتعثر عندما تبهم أمامه الأمور وتستغلق: « لأن شفتى الكاهن تتحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود ». هذه هى الصورة الوضيئة للكاهن وخادم اللّه،... والتى كان الكهنة فى أيام ملاخى على عكسها تماماً،... ولعل أدق الأوصاف للكاهن فى ذلك الوقت أن: أولا: « الكاهن المحتقر الدنئ »... وما أكثر صور الدناءة التى كان عليها،... ولكن أقساها وأشدها، هو فى تعامله مع الذبيحة التى تقدم للّه إذ كانت تقدم له الذبيحة السليمة، فكان يستبدلها بالعمياء أو العرجاء أو السقيمة، ليحتفظ بفرق الثمن، وهو أشبه بذلك الرجل الذي جاءت قصته فى الأدب الروسى، الذى قيل إنه كان فلاحاً، ومرض ابنه للموت، فنذر للّه حصانه إن شفى الولد وكان الحصان فى ذلك الوقت يساوى عشرين جنيهاً، وشفى الابن، ولكن عز عليه أن يبيع الحصان ويقدم ثمنه كما نذر، وفكر ثم فكر، وأخيراً ذهب إلى السوق ومعه حصانه، وديك أيضاً، وقرر أن يبيع الاثنين معاً، وإذ سأله أحدهم عن الثمن قال: الحصان ثمنه عشرون قرشاً، وإذ هم الرجل أن يدفع الثمن، قال له: لا.. أنا أبيع الاثنين معاً،.. فسأله: وما ثمن الديك؟: قال: عشرون جنيهاً، واشترى المشترى الاثنين وعاد الرجل ليقدم ثمن الحصان كما باعه بمبلغ عشرين قرشاً، لأنه باعه فى السوق بهذا الثمن!!.. وكان الكاهن ثانياً: « الكاهن النفعى » الذى يقبل على الخدمة ويقدرها على قدر ما ينتفع منها، وهو لا ينظر إليها كعهد سام بينه وبين اللّه، بل على قدر ما تعطيه من مغنم أو مكسب مادى. وهو ثالثاً: « الخادم الملول » الذى يتأفف من الخدمة، وهى ثقيلة عليه، ويؤديها كرهاً،... وليس أقسى على النفس من أن نجد خادماً بهذه الصورة، فهو يخدم لأنه مضطر للخدمة، أما بسبب الحاجة أو التقليد، أو العيب أمام المجتمع إذا تخلى عنها، وهو يعظ بدون حياة أو روح أو ثقة فى صدق ما نقول!!.. وهى مأساة من أكبر المآسى التى يتردى فيها الخدام فى كل عصور التاريخ!!.. ملاخى وخطايا الشعب فإذا كان الكهنة بهذه الصورة، فكم يكون الشعب إذاً؟؟.. كانت خطايا الشعب حقاً قاسية وثقيلة، ولعل من أظهرها: أولا: تفشى الطلاق، والزواج بالأجنبيات، وهو الأمر الذى يكرهه اللّه من كل قلبه، ويرى فيه غدراً بالزوجة وغدراً بشخصه هو أيضاً!!.. أما الغدر بالزوجة، فواضح من أن الإنسان يطوح بامرأة شبابه التى ارتبط بها بعهد مقدس أمام اللّه،... واللّه يكره الغدر ويستأصل الغادر، ولكن الأمر هنا أكثر من ذلك، إذ أن الغدر هو أيضاً باللّه ذاته، الذى منع إسرائيل من الاختلاط بالشعوب ليحفظ الزرع المقدس، فلا يأتى أولاد ترتبط أمهاتهم بالوثنية التى - لا شك - ستلحق الأولاد إن آجلا أو عاجلاً: « غدر يهوذا وعمل الرجس فى إسرائيل وفى أورشليم. لأن يهوذا قد نجس قدس الرب الذى أحبه وتزوج بنت إله غريب »... " مل 2: 11 "ولا نظن أن هناك كلمات أقسى من هذه الكلمات فى كل الكتاب المقدس، حتى جاء يسوع المسيح ليقف ضد الطلاق ويرجع الوصية إلى مكانها الأول فى قصد اللّه!!.. وكانت الخطية الثانية عند الشعب: هى عدم المبالاة فى فعل الشر، إلى درجة أنهم تصوروا أن اللّه لا يزجر الشر بل يسر بمن يفعله!!.. وأنه لا يوجد إله عادل يفرق بين الخير والشر فى الأرض: « قد أتعبتم الرب بكلامكم، وقلتم بم أتعبناه؟ بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح فى عينى الرب وهو يسر بهم. أو أين إله العدل؟ »... " مل 2: 17 " وهذا كلام متعب حقاً لقلب اللّه،... ولكن من الحقيقى أيضاً أنه يتردد على اللسان مرات كثيرة عندما نرى الأوضاع مقلوبة فى الأرض،... وقد يأتى سؤال أين إله العدل على لسان الخاطئ الذى ينشد التوبة، ويجد جوابه فى الصليب الذى استوفى فيه اللّه عدله،!!.. زار أحد خدام اللّه من الشباب يوحنا نيوتن وهو فى ضجعة الموت، وكان نيوتن قبل مجيئه للمسيح تاجراً للعبيد، وغارقاً فى أوحال الإثم والخطية!!.. ولكنه عندما جاء للخدمة أصبح الخادم العظيم، والشاعر المسيحى،... وعندما تأسف الخادم الشاب، لأنه سيفارق خادماً عظيماً كهذا الخادم، قال له نيوتن: ياابنى: سأذهب أمامك فى الطريق، وبعد ذلك ستأتى أنت، وعندما تصل إلى السماء وتبحث عنى فإنك ستجدنى غالباً هناك عند قدمى المسيح مع اللص التائب حيث هناك مكانى.فالذين لا يصدقون عدالة اللّه لينظروا إلى الصليب،.. لأن ديان كل الأرض لابد أن يصنع عدلا!!.. وكانت الخطية الثالثة: سلب اللّه فى حقه فى العشور والتقدمة - ولعل ما قاله دكتور ج. كامبل فى هذا الصدد، يوضح لنا الفكرة: « إن طلب اللّه من شعبه يبدو محدداً وهو، أن يعطى العشور.. ومن واجبهم أن يطيعوه.. لكن لا ينبغى أن تخطئ فالشعب فى العادة يقول إن اللّه يطلب العشور. وهذا يغاير تماماً الوضع الحقيقى،.. اللّه طلب العشور - كحد أدنى - وهم فى إهمالهم لا يعطون العشور والتقدمة، فقد سلبوا اللّه بعدم الاستجابة إلى مطلبه وأنا أسأل: ما هو المطلب الإلهى بالنسبة للمسيحى والمسيحية!!؟.. إن اللّه لا يسألك العشور.. البعض يقدم العشور من دخله وقد يكون هذا صحيحاً، لكن إذا كانت هناك مظاهر الصحة من جانب، فإن هناك أيضاً مظاهر الشح من الجانب الآخر،.. بعض الناس لا يهتمون بتقديم العشور، ولهذا لا يقدمونها.. غير أنه يوجد أيضاً من يسلب اللّه لأنه لا يقدم سوى عشور دخله، واللّه لا يقبل العشور إذا كنت تقدمها بمعنى آلى دون شعور.. العشر حسن تماماً إذا كنت تقدمه للّه بكل إحساس... لكن ما أكثر الذين يقدمون وهم ينتظرون الوعد دون أن يحققوا الشروط: أن يفتح كوى السموات ويفيض عليهم بركة... واللّه إذ يقول هاتوا العشور. كأنما يقول: إن بيدك أنت أن تفتح كوى السموات!!.. ولا تتصور أنك مادمت تعيش بالناموس الروحى، فأنت لست مرتبطاً بعطايا مادية.. ويلزم أن نعطى العشور!!.. واللّه لا يطلب العشور منك فحسب لكنه يطلب كل شئ.. وهنا لا ينبغى أن ننسى أن العشور والتقدمة مصحوبان بوعد البركة التى لا توسع!!..وكانت خطايا الشعب اللاحقة لهذا الخطايا، « الحياة المستبيحة »، إذ كان بينهم السحرة والفاسقون، والحالفون زوراً والسالبون أجرة الأجير، الأرملة، واليتيم، ومن يصد الغريب. والسحر طبعاً يلجأ فيه المرؤ إلى طلب الأرواح الشريرة وغايته ليست إلا غاية فاسدة، وقد حاربه الكتاب لأنه يفسد ثقة الإنسان فى اللّه والتطلع إليه، والاعتماد عليه دون الاعتماد على الشيطان!!.. والفسق خطية شنيعة كما نعلم، تلوث جسد الإنسان ونفسه، والكذب مع الأصرار الذى يستند إلى الحلف، دليل على بشاعة الاستهتار والاستهانة باسم اللّه القدوس. والظلم الذي يقع على الأرملة واليتيم والغريب، هو إهانة للّه نفسه، كالسيد والحاكم الأدبى الأبدى بين الناس!!. ملاخى ونبوته عن السيد المسيح وملاخى - كآخر أنبياء العهد القديم - لا يجد حلا لقضية الإثم والفساد والشر والمرض الذى تسببه الخطية، سوى فى اللّه نفسه: « ها أنذا أرسل ملاكى فيهيئ الطريق أمامى ويأتى بغتة إلى هيكله السيد الذى تطلبونه وملاك العهد الذى تسرون به هوذا يأتى قال رب الجنود ».. " مل 3: 1 " ولا بد من الملاحظة هنا أن رب الجنود هو الذى يتكلم، وهو يتكلم عن شخصه المبارك: « فيهيئ الطريق أمامى، وهو السيد نفسه وملاك العهد الذى ننتظره ونسر به »... وقد أوضح السيد المسيح أن هذه النبوة تمت فيه، وأنه أرسل يوحنا المعمدان لتهيئة الطريق أمامه،... اعتقد البعض أن هذا الملاك أو الرسول كان نحميا عندما عاد إلى الهيكل بعد أن رجع إلى بلاده، وقام بثورة عارمة ضد الفساد الذى استشرى، لكن نحميا لم يكن إلا صورة ورمزاً إلى السابق الذى جاء ينادى بمجئ المسيح،... ومن الملاحظ أيضاً أنه فى هذه النبوة، كما يقول أغسطينوس يظهر المجيئان الأول والثانى ليسوع المسيح، فإذا كان مجيئه الأول يحمل معنى التطهير والإحراق للخطية والإثم، فإن مجيئه الثانى سيفصل بين الحق والباطل، والشر والخير، فصلا أبدياً!!.. وقد بين كيف يلجأ السيد إلى التطهير، إذ يعمد إلى النار والغسل، فهو بالنار يمحص وبالغسل يجمل وينظف كما يفعل القصار فى الثياب بالاشنان المنظفة المبيضة، وهو إذ يبدأ بالتطهير، يبدأ بخدامه مباشرة قبل الجميع!!.. وقد ذكر النبى أن إيليا سيأتى قبل مجئ يوم المسيح العظيم المخوف الذى يقضى فيه السيد على كل فساد وشر، واليهود ما يزالون إلى اليوم ينتظرون ظهور إيليا مرة ثانية، غير أن أغلب الشراح المسيحيين يتفقون على أن هذه النبوة إشارة إلى المعمدان الذى جاء بروح إيليا كما أشار السيد المسيح، غير أنه وجد من المفسرين من قال إن إيليا سيأتى مرة أخرى قبل يوم الدينونة ومجئ المسيح الثانى، وأنه إذا كانت النبوة قد تمت مبدئياً فى المعمدان، فإنها ستتم نهائياً وأخيراً بمجئ إيليا ذاته، وستكون رسالته رد قلوب الآباء إلى الأبناء والأبناء إلى الآباء. والبعض يعتقد أن معنى « على » هنا هو « مع » فيقولون إن الآباء مع الأبناء سيستجيبون لنداء النبى، ويوجد من يقول إن الآباء إشارة إلى الآباء الأقديمن، وإن الأبناء سيرجعون بقلوبهم إلى قلوب آبائهم وإيمانهم.وأيان يتجه تيار التفسير وهل هو عن المجئ الأول للمسيح بمفرده أو مجيئيه الأول والثانى، كما يذهب أوغسطينوس، وهل يوحنا المعمدان، هو رسول المسيح الذى جاء سابقاً له بروح إيليا،.. أم أن إيليا سيأتى مرة أخرى الأمر الذى لا نعتقده أو نرجحه.. إلا أن التفسير، مهما اختلف، فهو مركز فى شخص المسيح... وإذا كانت آخر كلمة فى العهد القديم هى كلمة « بلعن » كما سبقت الإشارة، فإن انتزاع الخطية من الأرض، والقضاء على اللعنة، والفصل بين الشر والخير إلى الأبد، لا يمكن أن تكون إلا فى إسمه المجيد العظيم المبارك، له المجد، هللويا إلى الأبد آمين فآمين فآمين!!..
المزيد
11 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس قايين

قايين "وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة" تك 4: 7 مقدمة إن مأساة قايين الكبرى أن كلمة "خطية" وردت لأول مرة في الكتاب المقدس في سياق الحديث عن قصته المفجعة الدامية!! وفي الواقع أن كلمة "خطية" وكلمة "قايين" كلمتان متقابلتان متلازمتان حتى ليسهل أن نضع أحدهما موضع الأخرى ونحن في أمن من الزلل والخطأ والتجني!! أليس قايين هو أول بشري يمكنه أن يقول: "ها أنذا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي" بل أليس قايين هو الأحرى بالقول: "وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية.. فإني أعلم أنه ليس ساكن في (أي جسدي) شيء صالح لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد.. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت".. ولئن كان داود وبولس قد وجدا من ينقذهما من جسد هذا الموت، ومن الخطية الموروثة والفعلية، فإن قايين لم يجد إلى الخلاص سبيلاً، لأنه رفضه، عندما عرض عليه، بغباوة وعناد وحماقة وشر!! في اجتماع ديني وقف ثلاثة: طبيب، ومحام، ومهندس، ليتحدث كل منهم، ويضع تعريفاً للخطية، مستمداً من طبيعة مهنته وعمله، فقال الطبيب "أن الخطية مرض" وقال المحامي: "إنها التعدي" وقال المهندس: "إنها الهدم والتدمير"، وقد كانت الخطية عند قايين هي الثلاثة معاً، إذ كانت المرض، والتعدي، والهدم والتدمير، بل وأكثر من ذلك، إذ لاحقته بأقسى جزاء يلحق بإنسان في هذه الأرض، ألا وهو العذاب والطرد والتشريد وعدم الاستقرار حيثما تجه وأني ساد.. وإذا كان العالم الإنجليزي هكسلي قد دحض نظرية التطور النفسي، ووصف الإنسان الخاطيء بالقول: "أعلم أن هناك دراسة انتهت إلى نتيجة محزنة للنفس كدراسة تطور الإنسانية، فمن وراء ظلام التاريخ إلى اليوم، بين الإنسان أنه خاضع لعنصر وضيع فيه، مسيطر عليه بقوة هائلة!! إنه وحش ولكنه وحش أذكى فقط من الوحوش الأخرى، إنه فريسة واهنة عمياء لدوافع تقوده إلى الخراب، وضحية لأوهام لا نهائية، جعلت كيانه العقلي هما وحملا، وأضنت جسده بالهموم والمتاعب والصراع، لقد بلغ شيئاً من الراحة، وانتهى إلى نظام عملي في الحياة على ضفاف النيل أو ما بين النهرين، ولكنه هو هو لآلاف السنين ما يزال يصارع بحظوظ مختلفة، مصغياً إلى دوافع لا نهائية من الشر والدم والبؤس ليشق طريقه بنفسه بين جشع الآخرين وطمعهم!! لقد قاتل واضطهد الذين حاولوا دفعه وتحريكه عما هو عليه، ولكنه لما تحرك خطوة عاد باكياً ضحاياه بانياً قبورهم".. إذا كان هذا العالم قد وصف الإنسان الخاطيء بهذه الصورة فإنه أعطانا، وهو لا يدري، صورة دقيقة رهيبة لأول قاتل وسافك دم على هذه الأرض!! دعونا إذاَ نتأمل للعظة والعبرة شخصية قايين من هو وما طباعه وأخلاقه؟؟ وما الخطايا المميتة التي ارتكبها؟؟ والعقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه؟؟ قايين من هو وما طباعه؟!! لا يحتاج المرء إلى عناء كبير، وهو يتأمل قصة قايين كما وردت في سفر التكوين. مضافاً إليها ثلاث عبارات أخرى قصيرة حاسمة وردت في العهد الجديد في الرسالة إلى العبرانيين، ورسالة يوحنا الأولى، ورسالة يهوذا –في أن الخطية صنعت من هذا الإنسان مخلوقاً بشعاً مريعاً يقف على رأس المجرمين العتاة في كل التاريخ، ولعل الرسول يوحنا لم يجد لهذا السبب، وصفاً يصف به قايين أدق من القول: "كان قايين من الشرير" أي أنه كان من الشيطان، كما أن الفرع جاء من الأصل، وكما أن الغصن جزء من الشجرة، وكما أن الماء العكر جزء من الينبوع الموحل!! فهو ابن الشيطان وتابعه وربيبه، ومن ثم فكل صفاته وطبائعه أثمة شريرة شيطانية، وإذا كان من المتعذر الإحاطة بها جميعاً، في هذا المقام، فليس أقل من أن نشير في كلمات إلى أهمها وأظهرها، ولعلها: الضراوة والوحشية.. يعتقد بعض الشراح أن قايين كان -من الناحية البدنية- أقوى وأصح من أخيه هابيل، ويرجع هذا في نظرهم لا لأنه استطاع أن يقضي على أخيه ويقتله فحسب، بل لأن حواء إذ لاحظت ضعف هابيل الجسدي، من مولده، إذا قورن بأخيه، أطلقت عليه الاسم هابيل، الذي يعني "الضعف" أو "البطل" بينما يرجح آخرون أن حواء أطلقت هذا الاسم على ابنها الثاني تعبيراً عن ألمها ويأسها ومرارتها وخيبة أملها من الحياة كلها، ومن ابنها قايين، الذي بدا على غير ما كانت تحلم وتتمنى؟ وسواء صح هذا الرأي أو ذاك، فمما لا شك فيه أن قايين يقف على رأس تلك السلسلة الطويلة من الأبناء الذين ولدوا حسب الجسد، بينما يقف هابيل على رأس الصف المقابل من أبناء الموعد والروح!! وكما كان أبناء الجسد يبدون على الدوام في عنف وضراوة ووحشية، وفي مواجهة أبناء الروح، كما بدا اسمعيل في مواجهة اسحق، وعيسو في مواجهة يعقوب، هكذا نرى من اللحظة الأولى في التاريخ البشري كيف يبدو قايين أولهم وأبوهم في ضراوته ووحشيته وعنفه إزاء أخيه الطيب الوادع الآمن هابيل!! الكبرياء والاعتداد بالذات.. وما من شك بأن قايين كان متكبراً، صلفاً، شديد الاعتداد بالنفس، والذات، ويبدو هذا بوضوح من الطريقة التي تخيرها، وهو يقدم تقدمته لله، إذ أنه لم يقدم التقدمة التي أمر بها الله، قدم التقدمة التي ظن هو أنها أفضل وأعظم بحسب تفكيره وعقله، بل أن سقوط وجهه بعد التقدمة يدل إلى حد كبير على أنه كان في الأصل ذا طبيعة متعالية شامخة!! والكبرياء من أشر الرذائل التي تصيب الإنسان، وهي دليل بالغ على الحماقة والغباوة والجهل!! إذ ليس في أي بشري ما يدعوه إلى التسامي والتعالي والتشامخ، إذ يكفي أن ندرك مركزنا إزاء الله والكون والأبدية والحياة والواجب حتى نتضع ونصغر ونتلاشى!! كان الذهبي الفم يقول: إن أساس فلسفتنا التواضع، وكان كلفن يقول: لو أنك سألتني عن النعمة الأولى والثانية والثالثة التي ينبغي أن نتحلى بها في الحياة المسيحية، لأجبتك أنها أولاً وثانياً وثالثاً، وإلى الأبد.. التواضع.. كان جورج واشنطون كرافر من العلماء المبرزين، وقد سأل الله ذات يوم قائلاً: يا رب ما هو الكون؟!! فأجابه الله: يا جورج إن الكون أوسع وأكبر من أن تدركه أنت!! ولعلك تطالبني فيما بعد بالاهتمام به؟!! وإذ أحس العالم المتواضع مركزه من الله والحقيقة سأل إلهه: يا رب ما هو الفول السوداني؟!! فأجابه الله: الآن تسأل سؤالاً يتناسب مع حجمك؟!! اذهب وسأعينك على فهمه!! وقضى جورج المتواضع بقية حياته يجري بمعونة الله تجاربه العديدة على هذا النبات حتى انتهى إلى نتائج مذهلة عجيبة!! الحسد.. والحسد هو الرذيلة النكراء التي تملكت قايين وأسقطت وجهه، عندما رفض الله تقدمته وقبل تقدمة أخيه، وهي الرذيلة الوحيدة التي يقول عنها الكسندر هوايت أنها تولد وتنمو وتثمر في الحال، إذ يكفي أن ترى غيرك يفضل عليك، حتى تشعر في التو واللحظة أن نيران الجحيم بأكملها قد استعرت فيك؟!! ومن القديسين من نجح في مكافحة كثير من الرذائل ولكنه سقط في رذيلة الحسد!! ولقد قيل إن الشياطين عجزت ذات مرة عن إسقاط أحد الرهبان!! مع أنهم جربوه بأنواع مختلفة من التجارب، وإذ اشتكوه إلى رئيسهم قال: دعوه لي، ثم ذهب إليه وقال له: هل علمت أن زميلك اختير أسقفاً على الإسكندرية، وكان هذا كافياً لإسقاطه!!.. ما أحوجنا جميعاً إلى روح وصلاة توماس شبرد مؤسس جامعة هارفورد، ذلك الرجل الذي جرب ذات مرة بأن يحسد زميلاً شاباً من الخدام، لأن مواعظه أخذت المكان الأول على صفحات الصحف، بينما أخذت مواعظه هو مكاناً منزوياً خفياً، وذات يوم ظهرت عظة للشاب قرأها الجميع، وكانت موضع الحديث والتقدير والإعجاب!! وما أن سمع شبرد الناس يتحدثون عنها حتى استعرت نيران ملتهبة في أعماق نفسه، فدخل إلى مكتبه، وهناك اجتاز في تلك الليلة جثسيماني، وفي منتصف الليل انبطح على وجهه في أرض الغرفة، وهو يصارع بعرق ودموع العاطفة البغيضة التي استولت عليه، وقبيل الفجر، كان قد انتصر تماماً، إذ أخذ يصلي بنفس هادئة، ومحبة عميقة، ليبارك الله أخاه وزميله الواعظ، لكي ينجح ويتقدم أكثر فأكثر.. وكانت هذه بمثابة نقطة التحول في حياة الواعظ البيورتاني العظيم!!. وسمع التاريخ عنه، أما زميله الواعظ فلا نكاد نعرف حتى مجرد اسمه!! الأنانية وحب الذات.. وهل هناك من شك في أن قايين كان أنانياً، بل كان غارقاً في الأنانية وحب الذات؟!! ألم ير الدنيا وكأنما هي أضيق من أن تتسع له ولأخيه، وكأنما لا تستطيع أن تحملهما معاً متعاونين متحابين متساندين؟!! بل ألا تبدو هذه الأنانية في قوله لله: "أحارس أنا لأخي" وهي عبارة إن دلت على شيء، فإنما تدل على الإثرة والذاتية وعدم الاهتمام بالآخرين؟!! ومن له في الدنيا أفضل من هابيل، ومن رعايته وحراسته والحدب عليه؟!! ولكنها هي الأنانية التي لا تفكر في الواجب، بل ترى فيه، وفي الاهتمام بالغير، ثقلاً وعبئاً ونكراً، حتى ولو كان هذا الغير هو أعز وأقرب الناس إلينا، أو في لغة أخرى، هو أخونا ابن أمنا وأبينا!!.. لم يقل قايين قولة لويس الخامس عشر المنكرة: أنا وبعدي الطوفان!! لأن الطوفان لم يكن قد جاء بعد ليغرق الدنيا بأكملها، ولكنه أثبت بما قال وفعل أنه أبو لويس وأبو الأنانيين جميعاً على اختلاف أجناسهم ولو أنهم في كل العصور والحقب والأجيال!! هناك صورة مشهورة لمصور بريطاني عنوانها: "أحارس أنا لأخي" وهي عبارة عن مقعد حجري على نهر التيمز، وقد جلس عليه ستة أو سبعة من التعساء البؤساء المشردين، ممن لم يكن لهم مكان في المدينة، فأتوا إلى ذلك المكان ليقضوا فيه ليلتهم، وتراهم في الصورة وقد ناموا وهم جلوس على المقعد، وكان ثلاثة منهم من العمال العاطلين، ورابع من الجنود المسرحين، وإلى جواره امرأة تحتضن طفلها وتميل برأسها على زوجها الجالس إلى جانبها، والجميع مستغرقون في النوم، وعلى مقربة من المكان فندق عظيم، يتلألأ بأنواره الفخمة التي يسكبها هنا وهناك!!.. والمعنى الذي يقصده المصور من صورته هذه، واضح وظاهر، إذ أن هؤلاء البؤساء ليس لهم مكان بين أخوتهم من رواد الفندق الفخم القريب!! الخداع والمكر.. والخداع والمكر من الصفات البارزة في قايين والتي دعته إلى أن يخفي في نفسه أمر مؤامرته وغدره، ثم يدعو أخاه إلى الحقل دون أن يستبين هذا من الأمر شيئاً، وقد قيل في بعض التقاليد أنه تحدث إلى أخيه مهنئاً إياه على الذبيحة التي قبلها الله، وقيل في تقاليد أخرى، أنه دعا أخاه ليذهب وإياه إلى الحقل للتريض والنزهة!! وسواء صح هذا الرأي أو ذاك أو لم يصح فمن المؤكد أن شيئاً خبيثاً شريراً كان يلمع في عيني قايين، وأن هابيل الوادع الآمن لم يستطع تبينه ومن ثم ذهب ضحية ثقته بأخيه الذي لم يكن أهلاً لهذه الثقة!! الكذب.. وكذلك قايين واضح في الجواب الذي رد به على الله عندما سأله قائلاً: "أين هابيل أخوك" إذ قال: "لا أعلم"، وليس عجباً أن يكذب قايين، بل العجب ألا يكذب وهو من الشرير، أي من ذاك الذي قال عنه المسيح "متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب" (يو 8: 44) والكذب من الصفات الأصيلة في الأشرار والشياطين، إذ هم بطبيعتهم منحرفون عن الحق، وكارهون له!! ومن ثم فالشيء من معدنه لا يستغرب، وكل إناء ينضح بما فيه كما تذهب وتقول الأمثال!! العالمية.. ونقصد بالعالمية ههنا ما ذهب إليه أوغسطينس عندما تحدث عن الفرق بين قايين وهابيل في كتابه العظيم: مدينة الله إذ قال: "إن قايين، مؤسس مدينة العالم، ولد أولاً، ودعى قايين أي اقتناء، لأنه بنى مدينة، وبذلك انصرف انصرافاً كلياً للاهتمام بأمجاد العالم وهمومه، ولقد اضطهد ذاك الذي اختير من العالم، أما هابيل فهو أول سكان مدينة لله، وقد ولد ثانياً، وقد أطلقه عليه الاسم هابيل أي البطل، لأنه أبصر بطل العالم، وقد خرج من العالم بموت غير عادي، وهكذا جاء الاستشهاد على الأرض مبكراً، ومن أسف أن الرجل الأول الذي مات من البشر مات من أجل الدين". وإن كنا لا نتفق مع أوغسطينس في الربط بين معنى الاسم قايين والمدينة التي بناها ذلك الرجل القديم، إلا أننا نؤيده تماماً في أن قايين خرج من لدن الرب، ليسكن في أرض "نود" أو أرض "البعد" حيث وضع هناك أساس المدينة المستقلة المنعزلة المتباعدة عن الله!! ولقد ضرب بنوه في هذه المدينة بسهم وافر من الحضارة إذ كان منهم يوبال الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار، وتوبال قايين الضارب كل آلة من نحاس وحديد، ولكنها -أي المدينة- مع ذلك عجزت عن أن تتحقق لهم الراحة والسعادة والبهجة والسلام، إذ ولدت بعيدة عن الله، وفي أحضان الشر والشهوانية والفساد والإثم!! قايين والخطايا المميتة التي ارتكبها رغم تحذير الله.. أما وقد أدركنا طبيعة قايين الشريرة فلنتحول قليلاً لنتأمل الخطايا المميتة التي ارتكبها هذا الرجل، وتزداد هذه الخطايا بشاعة ورهبة وشناعة إذا لاحظنا أن الله لم يتركه ليقدم عليها أو يندفع فيها دون تنبيه أو تحذير!! وهذه الخطايا هي: خطية عدم الإيمان.. وهي أول خطية يبرزها ويحددها الكتاب لنا، وتتمثل في القربان الذي قدمه قايين إلى الرب من ثمار الأرض، على العكس من أخيه الذي قدم ذبيحة لله من أبكار غنمه ومن سمانها!! ولا أحسب أن هناك كلمات أفخم وأدق وأروع من كلمات دكتور أ.ب. سمبسون عندما وصف الاثنين بالقول: "إن الرجلين اللذين وقفا على أبواب عدن ليعبدا الله يمثلان الجنس البشري في انقسامه إلى مؤمنين وغير مؤمنين!!. أما الرجل الأرضي فيبدو في ديانته كما لو أنه أكثر طرافة وكياسة وجمالاً، إذ يقدم من أثمار تعبه ومن أولها وأحسنها!! أو في لغة أخرى، أنه يقدم زهور الربيع العطرة النقية، وثمار الصيف الناضجة الغنية، وربما بدا مذبحه أكثر بهاءً وجمالاً إذا قورن بالمذبح الخشن غير المصقول الذي قدم هابيل عليه الذبيحة العاصية والتي تبدو في صفرة الموت لحمل دام محتضر ملتهب!! غير أن تقدمة قايين في جملتها ليس إلا نكراناً تاماً شاملاً لكل ما قال الله عن لعنته للأرض وأثمارها، وعن حقيقة الخطية والحاجة إلى مخلص مكفر، الأمر الذي أوضحه الله لآدم وحواء عندما صنع لهما أقمصة من جلده، والذي لا شك أنه أكده أكثر من مرة في تعاليمه ووصاياه لكليهما!! ولم تكن ذبيحة هابيل صوى اعتراف وديع متضع بكل هذه، وقبول صريح واضح لطريقة الله في الغفران والقبول".والواقع أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يتحدث بكيفية جازمة عن هذه الحقيقة بالقول: "بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين"، وهل يمكن أن يكون هناك إيمان ما لم يكن هناك إعلان سابق يثق به هذا الإيمان ويرجوه ويعتمد عليه؟!! أجل فهابيل لم يقدم ذبيحته لمجرد التصور أو الاستحسان البشري بل لابد أن الله أعلن من البدء للبشر بوضوح وجلاء أنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة"!! والعمل الأول للإيمان هو أن نثق بما يقول الله عن الخطية!! ولا عبرة بعد ذلك بما يمكن أن يقوله الفكر أو الشعور عنها، فإذا حلا لبعض الفلاسفة والملحدين تجاهلها. فلن يفيد هذا التجاهل شيئاً، وستبقى الخطية رغم ذلك أرهب حقيقة عرفها التاريخ البشري، وإذا زعم غيرهم أن الخطية ضرورة من ضرورات الاجتماع، فزعمهم كاذب وليس الحق فيه، وستبقى الخطية كما قال عنها الآباء الأولون: إنها إرادة الإنسان الفاسدة تعاكس إرادة الله المقدسة، أو كما قال عنها اليهود: إنها العجز عن بلوغ الهدف، أو كما قالوا عنها أيضاً: إنها خضوع الإنسان لرغبات الجسد التي تقاوم إرادة الله، أو كما وصفها الكتاب في تعبير دقيق جامع مانع بالقول: "والخطية هي التعدي" (1يو 3: 4) وأياً كان نوع هذا التعدي ووجهته، وسواء كان موجهاً ضد النفس، أو ضد الآخرين، أو ضد الله مباشرة، فهو على أي حال التعدي الذي يستجلب غضب الله ودينونته ونقمته. وما يصح في القول عن الفكر يصح في القول عن الشعور أيضاً، إذ لا ينبغي أن نزن الخطية أو نقيسها بميزان أو مقياس الشعور، إذ يكفي أن نؤمن بأننا خطاة لأن الله قال هكذا!! وهذا ما فعله هابيل إذ أخذ مكانه كخاطيء فوجد في الحال سبيله إلى الخلاص من خطيته!! على العكس من أخيه الذي كان الشعور هو المضلل الأكبر له، إذ لم يشعر في البداءة بخطيته، أو بحاجته إلى الخلاص!! وعندما شعر بالخطية في النهاية، كان شعوره أفدح وأثقل من اللازم، وأدعى إلى اليأس والقنوط، الأمر الذي دعاه يصرخ صرخته المرة: "ذنبي أعظم من أن يحتمل". على أنه لا يكفي أن يثق الإنسان بما يقوله الله عن الخطية، بل ينبغي أن يثق بما يقوله أيضاً عن الخلاص، وقد قال الله في كلمته في هذا الشأن، فأبى قايين أن يصدقها، وقبلها أخوه بإيمان وخضوع وتسليم، والجنس البشري كله لا يخرج في جميع العصور والأجيال عن واحد من اثنين إما منكر لهذه الكلمة أو مصدق لها، كيف لا والصليب هو الحقيقة الكبرى التي كانت ترمز إليها جميع الذبائح في العهد القديم و"كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله.. لأن اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما للمدعويين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس" (1كو 1: 18، 22-24).كان الاسكتلندي العجوز يركب عربته ذات يوم، وإذا به يسقط تحت ثقل خطاياه، وتبادره نفسه بهذا السؤال الملح: "ماذا تقدم لله لكي يرضى عليك؟!" وفكر في أن يقدم دموعه وخدماته وعهوده وإصلاحاته ولكن هذه جميعها لم تعطه الراحة والأمن والسلام!! وإذا به يسمع صوتاً هامساً من الأعماق يقول له: قدم المسيح!! وإذ قدمه امتلأت حياته كلها بالفرح والبهجة والسلام والسعادة!! ومن الملاحظ أن الله لم يهمل في أن ينبه قايين، بعد أن رفض تقدمته، إلى أنه يحسن أو لا يحسن بالقدر الذي يرفع الذبيحة أو لا يرفعهاوهكذا تكشف لنا هذه القصة القديمة إلى أي حد يهتم الله بإعلان سياسته الثابتة الأبدية في الخلاص!! خطية قتل هابيل.. وهي الخطية الثانية الرهيبة التي ارتكبها قايين، وقد ارتكبها مع سبق الإصرار دون أن ينتفع بتحذير الله وإنذاره، وقد اتسمت هذه الخطية على الأقل بثلاث سمات، إذ كانت أولاً الخطية القريبة من الباب، ولعلنا نستطيع أن نفهم اقترابها من قايين إذا أدركنا معنى القول: "إن أحسنت أفلا رفع وإن لم تسحن فعند الباب خطية رابضة". والشراح في ذلك يذهبون ثلاثة أو أربعة مذاهب، فمنهم من يفسرها بهذا المعنى: إن أحسنت أفلا رفع لوجهك، وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة، وهؤلاء يعتقدون أن الرفع هنا مقصود به الوجه الذي سقط وامتلأ خزياً، وعلى رأس هؤلاء يقف كايل وديلتش وجيزينيس، بينما وجد غيرهم ممن توسع في فهمه لمضمونها فقال إن المقصود هو إن أحسنت أفلا رفع لمركزك على اعتبار أنه البكر، وعلى رأس هؤلاء يقف بشن.. ووجد آخرون ممن فسروها على هذا المعنى: إن أحسنت أفلا رفع لذبيحة، وهؤلاء يذهبون إلى أن مركز قايين بجملته يتحدد على أساس الذبيحة التي يقدمها أو يرفضها، فإذا قدمها فإنه يحسن صنعاً ويسلك السبيل السوي الذي عينه الله وإن لم يحسن إذ ظل على كبريائه وعناده ورفضه فهناك سوء وخطر ينتظرانه عند الباب ولعل لوثر وكلفن في مقدمة الآخذين بهذا الرأي وإن كان لوثر يذهب إلى أن المقصود بالرفع هو رفع حمل الخطية نتيجة الذبيحة بينما يتجه كلفن إلى أن المقصود بالرفع هو القبول الإلهي للذبيحة والمعنيان على أي حال مقتربان ومتفاعلان!! على أن هناك مذهباً آخر طريفاً يقول إن قايين حمل تقدمته المرفوضة التي لم ينظر إليها الرب وألقى بها عند الباب وكان يراها في دخوله وخروجه فتشعل نفسه غضباً وغيظاً ورأى الله أن تجربته هناك فطلب إليه أن يرفعها بالقول: إن أحسنت أفلا رفع للتجربة- حتى لا تتحول إلى وحش كاسر يوشك أن ينقض عليك!! وسواء صح هذا الرأي أو ذاك أو غيره، فمن الواضح أن التجربة كانت قريبة جداً من قايين، وأنها تربض على بابه، فإذا لم يفزع منها ويهرب، فإنها لا تلبث أن تنقض عليه وتفتك إذا حبلت لأن: "كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً" (يع 1: 14 و15). إن الخطية تبدأ أولاً بخيوط أو هي أدق من خيوط العنكبوت تلف بالخاطيء، ثم لا تلبث أن تتحول هذه الخيوط إلى قيود وأغلال دونها القيود والأغلال الفولاذية!! سار فاوست في طريقه مع الشيطان وقد اتفقا على أنه إذا نجح الشيطان في إشباع رغبات فاوست يضحى له عبداً، أما إذا لم يشبعها فإن له الحق أن يتحلل من سيطرته وسيادته، وقبل الشيطان ذلك، وأخذ ينتقل بفاوست من شر إلى شر، ومن متعة إلى متعة، وفي كل مرة يسأله: هل شبع؟! وإذ بالجواب يأتيه على الدوام كلا، واستنفذ الشيطان كل المتع والشهوات والشرور وأعلن ذلك لفاوست!! فقال له هذا: إذاً فأنا حر!! وأجابه الشيطان: أنت حر، وحاول فاوست أن يرجع، ولكنه أدرك أن الخطية قيدته وهو لا يدري بقيود من حديد!!. والسمة الثانية في الخطية التي ارتكبها قايين وحشيتها وقسوتها إذ أنها: رابضة عند الباب" والمعنى في الأصل يشير إلى أن الخطية وحش كاسر يجسم على مقربة من قايين، ويوشك أن يمزقه تمزيقاً، وفي الواقع أن الخطية التي ارتكبها قايين كانت بالغة الفظاعة والوحشية!! كيف لا والصريع أخوه ابن أمه وأبيه، أخوه الحلو البريء الوادع الآمن؟!! أخوه الذي كانت تحلو معه العشرة، وكان يتقاسم وإياه الحياة في ألوانها المتعددة المختلفة!! تخيل أحد الكتاب هابيل وكأنما يصيح في اللحظة الأخيرة لأخيه الغادر المتوحش: أي أخي ابن أمي وأبي ماذا ستفعل؟!! إنك إذ تقتلني ستقتل أبهج ذكريات الحياة عندما كنا نسير هنا وهناك على مقربة من عدن، نلعب ونتحادث ونكافح ونضحك!! بل إنك إذ تقتلني ستقتل أثمن ما فينا على الأرض إذ ستقتل الثقة والصدق والمحبة والشرف والإيثار والأخوة!! ويحك يا أخي لا تفعل هكذا!! ولكن قايين فعل خطيته الشنعاء على أقسى وأرهب وأحط ما يمكن أن يكون الفعل الشنيع. والسمة الثالثة والأخيرة في هذه الخطية: إنه كان من الممكن لقايين أن ينتصر عليها لو أراد، إذ لوح له الله بهذا في القول: "وأنت تسود عليها" أجل فلئن كانت الخطية مقتربة دانية من قايين، ولئن كانت أكثر من ذلك، تتوق وتشتاق إلى الوثوب عليه، إلا أن قايين كان يمكنه أن يتغلب عليها، لو أنه اتجه إلى الله وتمشى وراء إرادته الصالحة!! والله على استعداد أن يساعد كل إنسان مجرب، بل على استعداد أن يهيء له من الأواضع والظروف والمساعدات ما يمكنه من التغلب على تجاربه مهما تبد هذه التجارب مخيفة رهيبة قاسية!! وإذا كانت الطبيعة كلها، كما يقولون، تقف بكل قواتها إلى جوار الإنسان الذي يريد أن يعيش مستقيماً!! فإن الله على استعداد أن يقف بكل سلطانه وقوته إلى جانب الإنسان المجرب الذي يطلبه!! خطية عدم التوبة.. وهي الخطية الثالثة التي يذكرها الكتاب لقايين، ويبدو أن كل خطية ارتكبها كانت تمهد وتعد للخطية التي تأتي بعدها!! فخطية عدم الإيمان بالذبيحة ورفضها، مهدت وأعدت لخطية قتل هابيل، وخطية القتل هذه انتهت به إلى الخطية الثالثة: ونعني بها خطية الإصرار وعدم التوبة!! قال له الله بعد أن ارتكب جريمته: "أين هابيل أخوك" ولم يكن يقصد الله من قوله هذا أن يريه قايين أين يوجد هابيل أخوه؟! فالله يعلم أين يثوي هابيل ويضطجع! ولكن الله قصد أن يثير قايين ويدعوه إلى الاعتراف والتوبة؟! ومن الملاحظ أن الله لم يقل له أين هابيل وحسب بل قال له أين هابيل أخوك، ولعله قصد بذلك أن ينبهه إلى عظم الجرم الذي ارتكبه ضد أخيه!! إن القتل في حد ذاته، بشع رهيب، ولكنه أبشع وأرهب إذا ارتكبه ضد الأخ المحب العزيز.. ولعل هذا القول يعزز إلى حد كبير ذلك التقليد القديم الذي يقول إن قايين بعد أن قتل أخيه حار في أين يخفي جثته!! وإذا به يرى غرابين يتقابلان، ويقتل أحدهما الآخر، وإذا بالغراب القاتل يحفر بمنقاره وقدميه حفرة يدفن فيها الآخر، وإذ رأى قايين هذا المنظر قال: الآن علمت ماذا أفعل بهابيل ثم حفر حفرة ووضعه فيها، ووراه تحت التراب!! وعلى أي حال لقد حاول قايين أن يتخلص من الخطية بالإصرار عليها ودفنها!! ولكن هل يستطيع حقاً أن يدفن الخطية ويغطيها بعيداً عن عيني الله؟!! كلا وألف كلا!! وما عمله إلا الحماقة الكبرى التي كان عليه أن يتحاشاها بالاعتراف الصريح!! كان من الممكن أن يأتي إلى الله ويقول: أنا أعلم أين أخي!! لقد قتلته بحماقتي وشري، وليس لي من عذر أتقدم به إليك سوى أن ألوذ برحمتك التي وسعت كل شيء وتتسع للمجرم والخاطيء والأحمق والشرير: "ارحمني يا الله حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك أمح معاصي اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهرني لأني عارف بمعاصي وخطيتي أمامي دائماً إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك صنعت لكي تتبر في أقوالك وتزكوا في قضائك" ولو قال قايين هذا أو شيئاً من مثل هذا لغفر له الله خطيته الشنيعة..كان أحد ملوك فرنسا يسير في رفقة ملك أجنبي في سجون طولون، وقال الملك الفرنسي للملك الضيف أنه مستعد أن يفرج في الحال عن أي سجين يقع اختياره عليه، وأخذ الملك الضيف يسأل المسجونين واحداً بعد الآخر عن السبب الذي من أجله جاءوا إلى السجن، وإذا بهم جميعاً يدعون أنهم دخلوا السجن ظلماً وعدواناً، إلا واحد لاحت عليه الذلة والانكسار، وإذ سأله الملك عن سبب دخوله السجن أجاب: لقد ارتكبت إثماً كبيراً، ولا أعلم لماذا خففوا الحكم على هكذا مع أني كنت أستحق حكماً أقسى وأشد! وعندئذ وقع اختيار الملك عليه، وقال: أنت هو الشخص الوحيد الذي أجد فيه شيئاً يحتاج إلى الغفران على العكس من جميع هؤلاء الأبرياء المظلومين!.. أجل لأنه "إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم. إن قلنا أننا لم نخطيء نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا". قايين والعقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه.. بعد أن تحدثنا عن قايين وطبيعته الشريرة، والخطايا المميتة التي ارتكبها، يجدر بنا أن ننتهي بالحديث عن العقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه، وهذا العقاب إن تحدث عن شيء، فإنما يتحدث قبل كل شيء عن عدالة الله الساهرة الحية التي لا تموت، وقد بدت هذه العدالة في قصة قايين في أكثر من مظهر إذ كانت أولاً العدالة الكاشفة، أو العدالة التي لا يمكن أن يخفي عليها شيء، أو تبهم لديها الأمور، بل هي العدالة التي تزن الظاهر والخفي بميزان دقيق وهي أيضاً العدالة الساهرة التي لا تغفل أو تنام، بل ترقب وتلاحظ كل ما يجري على الأرض، وترى من حقها التدخل بين الإنسان وأخيه، إذ أن حقها في الواقع أسبق على كل حق، بل أساس كل حق، ومصدر كل حق.. وقد يتصور قايين أنه ليس لأحد حق محاسبته أو محاكمته على ما فعل، ولكنه سرعان ما يتبين أنه واهم، وأن ديان كل الأرض، قد أوقفه أمام كرسيه ليعطي حساباً عما فعل ضد أخيه.. وهي إلى جانب ذلك العدالة الطيبة التي تفزع لموت هابيل، وتستمتع إلى صرخات دمه المرتفعة من الأرض، لتقتص له من قاتله، محققة ما قاله المرنم: "عزيز في عيني الرب موت أتقيائه".. وعلى أي حال فإن عقاب قايين كان عقاباً شاملاً تناوله من كل جانب من جوانب الحياة، وقد ظهر بوضوح على الأقل في أربعة مظاهر: الفشل الروحي وقصة قايين بجملتها ليست إلا قصة الفشل الروحي العميق، على أوسع ما تشمل عليه كلمة الفشل من معنى، لقد دعته أمه قايين أي "اقتناء" إذ قالت: اقتنيت رجلاً من عند الرب" والرأي الراجع أنها دعته بهذا الاسم وهي تعتقد أنه النسل الموعود الذي سيسحق رأس الحية، والذي سيثأر لها من عدوها المكروه البغيض، الذي أخرجها وزوجها ونسلها من جنة عدن بالتجربة والكذب والخداع، ولعل كلمات الكسندر هوايت هي خير ما يمكن أن يقال هنا على وجه الإطلاق!! قال هوايت: "لقد أخطأت حواء في فهمها لقايين إذ ظنته يسوع المسيح!! وعندما رأته يوم مولده لم تعد تذكر حزنها، إذ كانت المرأة المبتهجة السعيدة!!.. بل إن جنة عدن بكل ما فيها من أزهار وثمار لم تعد تصبح بعد موضع الاهتمام أو التفكير من اليوم الذي تدانت فيه السماء من الأرض، واقتنت حواء ابنها البكر من عند الرب!! وليس عجباً أن تخطيء حواء في فهم قايين إذ يكفي أن تضع نفسك موضعها!! لقد جلبت هذه المرأة على نفسها وعلى زوجها الطرد إذ أصغت لأبي الكذاب!! ولكن الله جاءها في محنتها ويأسها، وفتح لها كتاب وعوده بأفضل وعده إذ وعدها بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية، وبذلك يفتديها من كل الشر الذي جلبته على نفسها، وعلى زوجها.. والآن تبارك الرب هوذا نسلها بين يديها، وها هو يأتيها في صورة حلوة مبهجة للقلب، سماوية، في صورة رجل من عند الرب!! فهل تكون حواء بعد ذلك جاحدة القلب ملحدة المشاعر وهي تنظر إلى ابنها على اعتبار أنه النسل الموعود؟؟ وهل تكون مخطئة إذا قالت هذا هو إلهنا الذي انتظرناه، الإله الذي جاء لنا برجل من عنده؟!! ومع كل هذا فنحن نعلم أن قايين لم يكن المسيح!! وأن ملاك البشارة الواقف في حضرة الله عبر عن حواء وسارة وراحيل وحنة وأليصابات وسائر النساء الأخريات في إسرائيل، وجاء إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف، وقال لها: "سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء" "فقالت مريم تعظم نفسي الرب".. أجل لم يكن قايين هو النسل الموعود، أو على الأقل، الأمل الباسم، والأغنية الطروب، واللحن الشادي، في أرض متعبة!! بل كان الإنسان الذي تمثلت فيه المأساة والفشل وخيبة الأمل، على أوسع صورها وأرهب معانيها!! لقد كان عند أبويه في بدء حياته حلماً جميلاً، ولكن سرعان ما تحول إلى كابوس مريع ليس لأبويه فحسب بل لنفسه وأخيه وجميع المتصلين به أو الآتين من نسله!! أجل فليس هناك شيء يبدد الأحلام، ويضيع الأمل كما تفعل الخطية!! العوز المادي لم نعلم كم عاش قايين من السنين، وكم طال به العمر، لكننا مع ذلك نعلم أنه عاش طوال حياته في عوز مادي، وفي احتياج دائم، إذ لعنه الله بضيق ذات اليد، في القول: "فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها" أو في لغة أخرى، إنه وجد الشوك في موضع الزهور، ووجد الحسك في موضع البقول، ووجدت اللعنة الدائمة تصاحب ما يزرع ويستنبت، اللعنة التي ذكرها الكتاب عن جماعة تمشت في طريقه عندما قال: "زرعتم كثيراً ودخلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع. تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأون، والآخذ أجره يأخذ أجره لكيس منقوب.. انتظرتم كثيراً وإذا هو قليل ولما أدخلتموه نفخت عليه.. لذلك منعت السموات من فوقكم الندى ومنعت الأرض غلتها ودعوت بالجر على الأرض وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت وعلى ما تنبته الأرض وعلى الناس وعلى البهائم وعلى كل أتعاب اليدين" أجل فلقد لحقت اللعنة قايين في كل هذه، فكان في عداء دائم مع المحصول الوفير. واللقمة الهانئة، والعيش الرغيد، والحظ الحسن -إن جاز أن نستعمل هذا التعبير- وهكذا أدرك أن الخير المادي كالروحي سواء بسواء يرجع إلى أمر الله ومشيئته وإرادته دون أن يرجع في قليل أو كثير إلى حكمة الإنسان أو يقظته أو تعبه أو مجهوده أو عمله أو ما أشبه مما يظن الناس أنها تحدد المعايش والأرزاق على هذه الأرض!! التعب الجسدي لم تكن لعنة قايين في ذلك العوز المادي الذي سيصاحبه طوال الحياة فحسب بل كانت في التعب الدائم الذي يحرم عليه الاستقرار في بقعة واحدة من الأرض، لقد كان عليه أن ينتقل من مكان إلى مكان سعياً وراء الرزق بما يصاحب هذا الانتقال من تعب وضيق ومشقة، لقد عاقبه الله بالقول: "تائهاً وهارباً تكون في الأرض" والكلمة العبرانية المترجمة "تائهاً" تشير في الأصل إلى حالة التردد والاضطراب والتيه التي تصاحب الإنسان الحائر الذي لا يعرف أين يتجه، أو المعيي الذي يسقط من الجوع، فإذا أضيفت إليها حالة الهروب أو الحالة التي تنشأ من الفزع والخوف وعدم الاطمئنان، أدركنا إلى أي حد كان قايين أشبه بالرحالة المكدود الذي يسعى في البيداء المقفرة أو الجواد التعب الذي يقطع الفيافي من غير هدف!! وهكذا يؤكد الكتاب لنا أن الله لا يمنح أو يمنع اللقمة النهائية فحسب بل يمنح السكن المريح أو الوسادة اللينة!! العذاب النفسي وهو العذاب الذي سجله قايين في القول: "ذنبي أعظم من أن يحتمل إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض فيكون كل من وجدني يقتلني" والشراح مجمعون على أن هذه اللغة ليست بحال ما لغة الاعتراف والتوبة، بل هي لغة اليأس والقنوط لمجرم هاله الحكم القاسي الذي صدر ضده، ومما يشجع على هذا الاعتقاد أن الكلمة "ذنبي" يمكن أن تترجم "عقابي"، والواقع أن قايين كان مأخوذاً بالعقاب أكثر من إحساسه بالجرم!! وكان مدفوعاً بالخوف، أكثر من اندفاعه بالتوبة، ولعل هذا يبرز بوضوح في القول: "كل من وجدني يقتلني" وأين يوجد هذا القاتل والأرض لم تعمر بعد؟!! أهو الخوف من الوحوش كما يزعم بعض المفسرين ممن يقولون أن الكلمة "من" يمكن ترجمتها "ما" وبذلك ينصرف المعنى إلى وحوش الفلاة والبرية؟!! أو هو الخوف من المستقبل حين تأتي ذراري أخرى من آدم تثأر منه للمقتول، كما يذهب آخرون؟!! لا ندري وكل ما ندريه أن صيحته هنا على أي حال ليست إلا صيحة الضمير في قصيدة رائعة، يرينا فيها قايين الرحالة المتعب، وهو يفزع من نجوم الليل، وهمهمة الرياح وخشخشة الأوراق، وصوت العصافير، ويتوهم أنها ضواري كواسر توشك أن تنقض عليه، وتفتك به!! بل رأينا إياه صريع الأرق والضيق والوسوسة والمخاوف! أجل ليس هناك أرهب من صوت الضمير إذا تيقظ، وأقصى من عذاباته إذا حاسب ودان!! والفنان المشهور فيرناند كوكمون يرنا قايين في أخريات حياته، وحوله من تبقى من نسله، وما يزال هو الإنسان المتعب التائه الزائغ البصر الذي يندفع في طريقه دون أن يلوى على شيء أو يستقر على قرار إذ هو أشبه الكل باليهودي التائه الذي حقت عليه لعنة الله بعد أن صلب المسيح!! على أننا لا يمكن أن ننتهي من الحديث عن قايين دون أن نذكر تلك العلامة التي أعطاها له الله لكي لا يقتله كل من وجده، ونحن لا نعلم ما هي؟!! أهي تحول غريب في وجهه كما تزعم بعد التقاليد اليهودية؟!! أم تغير تام في لون جلده؟!! أم هي نوع من الملابس كان عليه أن يرتديه؟!! أم شيء يشبه القرن نبت في رأسه؟!! أم علامة على جبينه؟!! أم غير ذلك من العلامات؟!! لا نعلم، ومن العسير على أحد أن يجزم بنوع هذه العلامة وهيئتها؟!! ولكنها إن تحدثت وأكدت شيئاً فإنها تتحدث وتؤكد أن الله لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر، وإنه في وسط الغضب يذكر الرحمة، وأنه حتى قايين الآثم الشرير الذي لم يرحم أخاه يمكن أن يجد رحمة عند الله.ليت إيمان قايين كان قد اتسع لرحمة أشمل وأعم عند الله، ولم يخف فقط من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خاف بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم، إذاً لشملته رحمة الله، ولالتقى هو وأخوه في السماء في ظلال ذلك الذي هو وسيط عهد جديد، ودمه الذي هو دم رش يتكلم أفضل من هابيل.
المزيد
04 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس عيسو

عيسو "فباع بكوريته ليعقوب..." مقدمة تعد قصة من أعجب القصص وأغربها أمام الذهن البشري!!.. أليست هي القصة التي يقف الإنسان فيها حائراً أمام الاختيار الإلهي: "لأنه وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيراً أو شراً لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو قيل لها أن الكبير يستعبد للصغير كما هو مكتوب "أحببت يعقوب وأبغضت عيسو".. بل أليست هي القصة التي أثارت الصراع الدفين بين عقل إسحق أبيه وقلبه؟.. وقد بلغ هذا الصراع ذروته، يوم طلب إسحق من عيسو أن يتصيد له صيداً ويجهزه ليدرك أن أخاه سبقه إلى أخذ هذه البركة، وإذ تبين إسحق ما فعل الصغير: "فارتعد إسحق ارتعاداً عظيماً جداً وقال فمن هو الذي اصطاد صدياً وأتى به إليَّ فأكلت من الكل قبل أن تجيء وباركته. نعم ويكون مباركاً".. لقد ثاب إسحق إلى رشده وأدرك أنه بارك، من خصصت له بركة السماء دون ذاك الذي أوشك أن يأخذ البركة، وهو مرفوض، بمجرد العاطفة المتحيزة الأبوية.. إن عيسو هو الابن الثاني في مثل المسيح القائل: "ماذا تظنون كان لإنسان ابنان فجاء إلى الأول وقال يا ابني اذهب اعمل اليوم في كرمي، فأجاب وقال ما أريد ولكنه ندم أخيراً ومضى، وجاء إلى الثاني وقال كذلك.. فأجاب وقال: ها أنا يا سيد، ولم يمض".. كان عيسو حسب الظاهر أفضل من يعقوب بما لا يقاس، ولكنه في الحقيقة أتعس وأشر،.. كان الظاهر فيه هو الذي جعله أدنى إلى قلب أبيه وأحب، ولكن وازن القلوب أدرك طبيعته الدنسة الشريرة الملوثة الخربة، ومن ثم رفضه، وقدم عليه الصغير المختار، وهل لنا بعد هذا كله أن نتأمل الرجل الذي يصلح أن يكون نموذجاً عظيماً "للرجل العالمي" على العكس من الآخر الذي أحبه الله، وطهره من الشوائب المتعددة التي لحقت بقصته وحياته،. ومن ثم يمكن أن نرى عيسو من الجوانب التالية: عيسو ذو المظهر الرائع من المؤكد أنك ستفتن به وتحبه، عندما تتطلع إليه لمظهره الخلاب،.. ومن المؤكد أنك ستحبه، كما أحبه أبوه إسحق لما يبدو عليه من جلال الصورة، وجمال المنظر،.. ومن المؤكد أنه كان شيئاً يختلف تماماً في الصورة عن أخيه الأصغر، فهو أشعر بفروة حمراء، متين العضلات، رائع البنيان،.. لو أنه ظهر في أيامنا لكان من أولئك الذين يمكن أن يدخلوا مع العالم في مباريات كمال الأجسام، أو الملاكمة، أو المصارعة، أو ما إلى ذلك من صور يعتز بها من كان البنيان الجسدي عندهم، هو أهم ما يملكون أو يفضلون في هذه الحياة، ومن المؤكد أن قوته البدنية كانت كافية لأن يصرع بها أخاه، عندما فكر أن ينتقم منه، لتعديه عليه في البركة وسلبها منه، كما فعل بالخداع والختال والمكر عندما أخذ البكورية أيضاً.. ومن المؤكد أنه كان سريع الحركة، بطلاً في العدو وهو يجري وراء الحيوانات في الأحراش والغابات يحمل قوسه وسهمه،.. ويصرعها ويحملها على منكبيه، ليهييء منها طعاماً لنفسه وأبيه الذي كان يؤخذ بعظمة ابنه الصياد وما يصطاد من حيوانات شهية دسمة، دون أن يطيش سهمه، وترجع قوسه خائبة إلى الوراء،.. ومن المؤكد أنه كان جذاب المنظر، مهيب الطلعة، يقف نداً للحثيين وغير الحثيين الذين يخشون بطشه فيما لو حاول أحدهم التصدي على بيته الكبير وأسرته العظيمة.. ومن المؤكد أن بنات حث اللواتي تزوج منهم أكثر من واحدة، كن يعجبن به، وتشتهي كل أنثى فيهن أن تكون زوجته أو حبيبته على حد سواء.. ومن المؤكد أنه أكثر من أخيه مروءة وشهامة،.. ولو أن أخاه عاد جائعاً من الحقل، ووجد عنده صيداً، وسأله طعاماً، لأعطى لأخيه من أشهى ما عنده دون أن يطلب ثمناً أو ينتظر مقابلاً،.. وهل لنا أن نراه في كل هذا الإنسان البشوش الضاحك، إنسان المجتمعات الذي يتعلق بالآخرين، ويتعلق الآخرون به، والذي يربط نفسه بصداقات متعددة، حتى أن أربعمائة على استعداد أن يلبوا إشارته عند أقل طلب، بل على استعداد أن يقاتلوا في سبيله ومن أجله، في أي معركة يدفعهم إليها!!.. وهل تتعجب بعد هذا من حب إسحق له وولعه به وكلفه بشخصه، وميله العميق من أن يعطيه البركة رغم أن الوعد بها للأخ الأصغر،.. وهل تتعجب لمن يملك مثل هذه الخلال الصفات من الرجولة والشهامة والكرم والحركة والقوة والشجاعة، كيف لا يأخذ مكانه الطبيعي دون أن يسلب من أخ مهما يكن شأنه، فهو أضأل وأصغر فيها جميعاً من كل الوجوه!!.. على أي حال أن عيسو هو أروع النماذج والصور "لإنسان العالم"، والذي قد يعتبر في كثير من النواحي البدنية والأخلاقية والاجتماعية والعلمية من يصح أن نطلق عليه "إنسان الله"!!.. عيسو ذو الداخل الخرب إذا كان عيسو على هذا المظهر الرائع الخلاب، فكيف يمكن أن يقال أن الله أبغضه وأحب يعقوب؟!! وهنا نحن نقف أمام الحقيقة العظيمة، التي أدركها فيما بعد صموئيل النبي، وهو يتحدث عن الملك المختار لإسرائيل من بين أبناء يسى البيتلحمي، إذ قال له الرب: "لا تنظر إلى منظره وطول قامته، لأني قد رفضته لأنه ليس كما ينظر الإنسان. لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب".. وفي الحقيقة أن عيسو كان خرب الحياة والقلب أمام الله، وإذا صح أن نصفه فلا يمكن أن وصفاً أدق أو أبرع من وصف المسيح للكتبة والفريسيين في أيامه، إذ كانوا يشبهون القبور المبيضة التي تظهر من الخارج جميلة، وهي من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة!!. عيسو الخرب في العلاقة بالله كان عيسو يمثل الإنسان العالمي‎، الخرب العلاقة بالله، وصف كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "مستبيحاً" والكلمة في أصلها اللغوي: تعني الرجل الذي لا "قدس" في حياته،.. أو في لغة أخرى: هو الرجل الذي يعيش في الدار الخارجية، ولا قدس أو قدس أقداس في حياته، الرجل الذي غاب عن الله، وغاب الله عن حياته، فلم يمنحه النعمة التي تلمس قلبه، وتفتحه على العالم غير المنظور، سأل أحدهم هذا السؤال: ألا يوجد ملحدون يبرزون الكثيرين من المؤمنين في صفاتهم ومزاياهم وأخلاقهم في الجوانب الكثيرة من الحياة، فهل هم أفضل عند الله أو الناس من هؤلاء المؤمنين؟!!.. وجاء الجواب: قد يكون هذا صحيحاً، ولكن أضعف مؤمن عند الله، أعظم بما لا يقاس من أي ملحد، مهما تسلح هذا الملحد، بالكثير من المظاهر الخلقية في الحياة!.. ولعل أكبر دليل على ذلك الحيوان نفسه، فإن في الغرائز الحيوانية ما هو أسمى من الإنسان وأجمل وأعظم،.. فمن له شجاعة الأسد؟، أو وداعة الحمام؟ أو وفاء الكلب؟، ولكن الأسد؟ والحمام والكلب –مع هذا التفوق الغريزي- لا يمكن أن يفضل عن الإنسان، لأن الإنسان يملك إلى جانب هذه الصفات: الضمير الذي يؤكد له أن هذه الصفات عطية من الله له، وأنه إذ يستخدمها، إنما يستخدمها كعطية من الله، على العكس من الحيوانات التي لا تعرف شيئاً كهذا ولا تستطيع أن ترد فضل الله بالشكر لأنه أعطاها مثل هذه الصفات!!.. وهذا حال الملحد الذي قد يفعل في كثير من المواطن بالغريزة ما لا يفعله الكثيرون من المؤمنين، فهو مرات أكثر دقة وتعففاً وسمواً دون أن يملك إلى جوارها جميعاً الإحساس بأنها نعم الله في حياته، وأنه يعطي مما أعطاه الله وهو لا يدري،.. على العكس من المؤمن الأضعف، ولكنه الأسمى إحساساً بعطايا الله، والشكر على هذه العطايا والنعم،.. كانت الضربة القاتلة لعيسو أنه ابن الموعد بدون ميراث، وابن المذبح بدون ذبيحة، والابن الذي كان يمكن أن يكون شديد التعلق بالله،.. ولكنه كان وثنياً من هامة الرأس إلى أخمص القدم.. إذ رضى لنفسه أن يكون خرب العلاقة بالله، لا يستيقظ على موعد صلاة، أو يترنم في الغابة أو البيداء لإله، أو يعيش مستمعاً لكلمات أبيه إسحق عن الله!!.. كان عيسو الإنسان الذي يصح أن يقال عنه: بلا إله!!.. عيسو بائع البكورية مثل هذا الإنسان لا معنى للبكورية عنده، إذ هو أعمى عن جميع القيم الروحية في الحياة،.. كان الإنسان البكر هو سيد العائلة وممثلها أمام الله، وهو كاهنها الذي يتقدم بالذبائح نيابة عنها أمام المذبح الإلهي وهو الذي يصلي معها ولها ويباركها بما يأخذ من بركات الله، وهو الذي يرث في المستقبل بعد أبيه نصيب اثنين مما يملك،.. ولكن جميع القيم الروحية كانت بلا معنى أو مذاق أمام عيسو وهو مغلق العين والقلب بالنسبة لها جميعاً، وأقل ما في الحاضر أفضل من كل ما ينتظر في المستقبل، وعصفور في اليد أفضل من عشرة على الشجرة،.. ومن ثم كانت البكورية لا معنى لها ما دامت ترتبط بمستقبل قريب أو بعيد،.. وعندما عرض عليه أن يبيع البكورية بطبق من عدس، كان الطبق أفضل بما لا يقاس وهو يعي عن كل بركات البكورية في المستقبل، وباع عيسو بكوريته بأكلة عدس!.. ومع أن الإعياء قد يكون واحداً من الأسباب التي شجعت عيسو على هذه الصفقة القاسية الخاسرة، إلا أنه بالتأكيد ليس السبب الأول،.. لقد باع عيسو في سره، كما يقول الكسندر هوايت البكورية آلاف المرات، لقد كانت حقيرة في عينيه قبل أن يعرض عليه أخوه ثمنها البخس الغريب!!.. وما يزال عيسو إلى اليوم أبا لكل بائع لبكوريته بمثل هذا الثمن التافه الحقير!!.. هل تتوقف معي للبكاء على الرجل الذي باع هذا الامتياز بمثل هذا الثمن الغريب؟.. وهل تسير معي في درب الحياة لكي نقف عند كل واحد من أبنائه المنكوبين بهذه الضربة القلبية القاسية؟!!.. كم من شاب أضاع عفته، وفقد بكوريته بمتعة وقتية قبيحة لا تلبث أن تنتهي لذتها ونكهتها بانتهاء مذاق العدس الأحمر في فم عيسو القديم،.. وكم فتاة فقدت طهارتها وامتيازها إذ باعت في لوثة جنون أعز ما تملك، ثم عاشت بعد ذلك تعض بنان الندم!!.. لم يقف عيسو في الانحدار عند حد، وبائع البكورية سيفقد معها كل شيء، وقد انفتح طريق الانحدار أمام عيسو بلا توقف أو نهاية، فهو لا يرى بأساً من مخالطة الوثنيين أو إدخالهم حياته وبيته وعائلته، ورأى إسحق ذات يوم، وإذا يهوديت ابنة بيري الحثي وبسمة بنت إيلون الحثي تقحمان عليه البيت وتضحيان كنتين إذ جاء بهما عيسو زوجتين تدخلان بما فيهما من الشر والوثنية إلى عقر داره، وعانى إسحق ورفقة ما عانيا، من هذه الوثنية الشريرة داخل البيت،.. ولم يقف عيسو عند هذا الحد، بل كان زانياً بكل ما تحمل الكلمة من معناها الحرفي!!.. كان عيسو في الحقيقة حيواناً في صورة إنسان، ومهما يكن جسمه الأشعر وفروته الحمراء، فهو على أي حال حيوان كالدب القطبي الجميل الفروة، مهما تسليت بمنظره أو حدقت الرؤية في شكله فهو أولاً وأخيراً حيوان، وحيوان متوحش، حتى ولو كان جميل المنظر، غزير الفروة، رائع البنيان!!.. عيسو فاقد البركة علم إسحق –ولاشك- بالصفقة بين ولديه، وتبادل مركز البكورية بالقسم بينهما، وكان ولا شك أسبق علماً بالنبوة الخاصة بكليهما، عندما قال الرب لرفقة: "في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير" وكان من الطبيعي –والحالة هكذا- أن يعرف إسحق، من هو صاحب البركة والمستحق لها،.. غير أن إسحق كما أشرنا في الصراع بين عقله وعاطفته، استجاب للنداء العاطفي دون نداء العقل والحكمة والصوت السماوي،.. ولا نستطيع أن نفسر معنى القول: "فارتعد إسحق ارتعاداً عظيماً جداً وقال فمن هو الذي اصطاد صيداً وأتى به إليَّ فأكلت من الكل قبل أن تجيء وباركته. نعم ويكون مباركاً" دون أن ندرك أنه في تلك اللحظة التي صعق فيها بما حدث، ثاب إلى رشده، وأدرك أنه مهما تكن عواطفه فإن مشيئة الله أصدق وأحق وأعظم،.. ولهذا صاح في مواجهة بكره: "نعم ويكون مباركاً".. وهنا صرخ عيسو صرخته المرة الأليمة، وأدرك فداحة ما ضاع منه، ولم تكن صرخته تعبيراً عن التوبة الحقيقية لما أضاع بحماقته واستباحته، أو رجوعاً عن الحياة الملوثة التي يتمرغ فيها، أو اقتراباً إلى الله العلي الذي جهله ونسيه أياماً بلا عدد، بل هي نوع من الإحساس بالخسارة التي يحس بها المجرم إذا سجن، والمريض إذا سقط فريسة مرضه المتولد عن الخطية، أو التلميذ الذي يرسب في الامتحان نتيجة إهماله وعدم مذاكرته، أو ما أشبه، دون أن تتحول إلى تغيير الحياة والنهج والأسلوب، ويكفي أن تسمع أنه كان يصرخ لأبيه أن يعطيه بركة ولو صغيرة إلى جانب ما استأثر به أخوه من بركات جليلة مجيدة عظيمة!!.. ولعله من الملاحظ أن الشراح وهم يفسرون قول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع ".. اختلفوا في المقصود بالتعبير: "طلبها بدموع" فرد البعض إلى البركة وليس إلى التوبة آخذين القرينة مما جاء في سفر التكوين، إذ لم تكن صرخة عيسو هناك تعبيراً عن توبة، بل كانت حزناً على خسارة وضياع أصاباه بقسوة بالغة فيما لم يكن قد تنبه إليه سابقاً بفطنة أو تأمل أو وعي،.. وهل كانت صخرة فرعون إلى موسى وهرون توبة عندما قال: "أخطأت إلى الرب إلهكما وإليكما، والآن أصفي عن خطيتي هذه المرة فقط".. لقد كانت رعباً من الضربات المتلاحقة، دون أدنى إحساس بالاتجاه الصحيح أمام الله، وهل كانت صيحة شاول بن قيس تعبيراً عن التوبة، عندما قال لصموئيل: "أخطأت لأني تعديت قول الرب وكلامك لأني خفت من الشعب وسمعت لصوتهم" بقدر ما هي أسى وأسف لقضاء الرب الذي حكم به عليه؟.. إن التوبة الصحيحة أمام الله هي التي ينظر الإنسان فيها إلى الإساءة إلى الله ومجده، قبل أن يراه نوعاً من الخسارة البشرية في شيء، ولذلك قال داود معبراً عنها في خطيته الكبرى: "إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك فعلت".. لكن هذ لم يكن عند عيسو أو معروفاً لديه،.. وقد شجع هذا الشراح الآخرين إلى أن يردوا الكلمة إلى التوبة، ولكنها ليست توبة عيسو، بل هي بالأحرى توبة إسحق التي لم تستطع دموع عيسو أن تغير فكره واتجاهه، بعد أن ارتعد ارتعاداً عظيماً، لأنه أدرك أنه كان موشكاً أن يقع في أقسى خطأ لو أنه أعطى البركة لعيسو، وهي معطاة من الله للابن الآخر الأصغر!!.. وهو إذ يقف من ابنه الصارخ الباكي لا يستجيب على الإطلاق لبكائه ودموعه، إذ كان قد تاب عن الفعل الذي رتب أن يفعله مخالفاً المشيئة الإلهية العالية، ومن ثم نراه يصيح وهو يتمشى وراء هذه المشيئة العظيمة: "نعم ويكون مباركاً".. وأياً كان اتجاه هذا التفسير أو ذاك،.. فإن العلامة الأساسية في كل توبة، هو تحول الاتجاه الكامل عن الماضي، الأمر الذي لم يحدث في حياة عيسو من قرب أو بعد، والذي سار في طريقه البشع إلى النهاية، مما أخرجه تماماً من كل بكورية أو بركة، كانت أساساً له، ثم فقدها بما عاشه من حياة الاستباحة والزنا والبعد المتوالي عن الله في أرض الوثنية والشر!!. عيسو والمصير التعس وأي مصير تعس أكثر من أن يوصف بأنه الإنسان الذي يبغضه الله: "وأبغضت عيسو".. وهل يمكن أن تحل كارثة إنسان أكثر من أن يكون مكروهاً من الله،.. ما أوسع الفرق بين مشاعر الله ومشاعر الناس خطاة كانوا أو قديسين، هذا الرجل الذي أحبه الحثيون والذي سار وراءه أربعمائة رجل، يرون فيه فخر الرجال ومجدهم وعظمتهم،.. هذا الرجل الذي فتنت به الحثيات، وتطلعن إليه كما يتطلع العالم إلى الأبطال والجبابرة والعظماء،. هذا الرجل الذي أحبه أبوه من جماع قلبه، وكان يرى فيه صورة متلالئة مضيئة للرجولة والبهاء والعظمة،.. هذا الرجل بعينه كان مكروهاً وممقوتاً ومبغضاً من الله، أيها الشاب!!.. أيها الشابة: هل عرفتما السر في ذلك؟ كان ذلك لأن عيسو كان موجوداً أمام العالم، ولكنه ميت أمام الله،.. وكان ممدوحاً من البشر، وهو والقيء سواء عند الله،.. وأنت أيها الشاب، وأنت أيها الشابة: احذرا من أن يبيع واحد منكما بأي ثمن بكوريته وامتيازه، وبركته وحياته ومجده أمام الله العلي، احذرا أن تريا الأحمر في طبق عدس أو حفل ماجن، أو رقصة خليعة، أو شرود هناك أو هنا من صور التجارب المختلفة في الأرض فتعزيا بالباطل، وتدفعا أقسى ثمن إذ تطيحا بنقاوتكما وبكوريتكما وبركتكما!!.. لم يكن عيسو ضياعاً لنفسه وحده، بل كان أكثر من ذلك أصل مرارة، يصنع الضياع والانزعاج والمرارة في حياة الآخرين،.. ومن الناس من يكون نبعاً صالحاً يرتوي، ويروي غيره من الناس بالماء العذب القراح،.. ومن الناس من يكون على العكس نبع مرارة لا ينتهي لنفسه وجيله وعصره وأجيال أخرى تتعاقب وتأتي في أثره، وكان عيسو كذلك،.. ولا تحسبن عيسو –وهو يقود أربعمائة رجل وهو بمثابة الزعيم- إنه كان سعيداً، كلا وألف كلا، فإن الذي ينحرف عن خط الحياة الإلهي، والذي يحتقر البكورية والبركة، والذي يتمشى على رأس الناس في العالم، يمكن أن يأخذ كل شيء، ولكنه لابد أن يأخذ كأس العلقم والافسنتين والمرارة جزاءاً وفاقاً للبعد عن الله، لأنه لا سلام قال إلهي للأشرار،.. وعيسو الذي أدخل يهوديت وبسمة إلى بيت أبيه وأمه، فكانتا كلتاهما مرارة لإسحق ورفقة لابد أنه أدخل المرارة لا إلى بيته فحسب الذي لم يعد يعرف هدوءاً أو أمناً أو سلاماً، بل مد المرارة إلى كل من عاشره أو اتصل به أو تعاقب بعده، وهل يمكن لإنسان أبغضه الله، وحلت لعنة القدير عليه بعد أن فقد بركته إلا أن يكون كذلك؟.. عندما رفع عيسو صوته أمام أبيه وبكى وأخذ إسحق يبحث له عن بقايا من بركة هنا أو هناك: "قال له هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك، وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش ولأخيك تستعبد. ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك".. وهكذا عاش أدوم في الصراع لأجيال طويلة مع شعب الله، حتى سمع القول الإلهي الرهيب المخيف: "من أجل ظلمك لأخيك يعقوب يغشاك الخزي وتتعرض إلى الأبد يوم وقفت مقابلة يوم سبت الأعاجم قدرته ودخلت الغرباء أبوابه وألقوا قرعة على أورشليم كنت أنت أيضاً كواحد منهم.. كما فعلت يفعل بك. عملك يرتد على رأسك".. أيها الشاب.. أيتها الشابة: احذرا من بيع البكورية، وفقد البركة، والطريق الذي سلكه عيسو فانتهى به إلى الكارثة والضياع والخراب الأبدي!!..
المزيد
28 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس عوبديا

عوبديا " وإن كان عشك موضوعا بين النجوم فمن هناك احدرك يقول الرب "" عو 4 " مقدمة لا يكاد المرء يعلم شيئاً عن عوبديا النبى، سوى أنه « عابد الرب » أو « خادم الرب » على ما يفهم من معنى اسمه فى اللغة العبرانية، فهو الإنسان الذى يعبد الرب أو يخدمه، وسفره أصغر سفر فى العهد القديم، على أن نبوته كانت - كما هو واضح - عن أدوم، وتقع أرض أدوم شرقى البحر الميت على طول مائة ميل، وعرض عشرين ميلا من أقصى جنوب البحر حتى خليج العقبة، والأرض غير مستوية وجبلية، ممتلئة بالشعاب والمسالك الوعرة، فهى تشبه إلى حد كبير حياة من سكنوها من أبناء أدوم، وأدوم هو عيسو، وقد كان أخا يعقوب، وكما تزاحما فى بطن أمهما، هكذا تزاحم نسلاهما وتصارعا، وقد كان أبناء أدوم كأبيهم، أدنى إلى الوحشية وأقرب، وكانوا شوكة فى جنب الإسرائيليين، وقد ضايقوهم فى عصور متعددة، وانتهزوا فرص هجمات الآخرين عليهم، وتعاونوا على مضايقتهم،... ولذلك رأى عوبديا رؤياه التى كشفها الرب له ضد الأدوميين، ومن خلال رؤياه ستعرف - ما أمكن - على طبيعته، ورسالته، وما من شك بأنه، وهو يندد بشر الأدوميين وصفاتهم القبيحة، كان يكشف فى الوقت نفسه، عن خبيئة نفسه، وكراهيته للخطايا التى يندد بها ولعلنا نستطيع بذلك أن نتابعه فيما يلى:- عوبديا ومحاجئ الصخر كان أدوم يعيش بين محاجئ الصخور، وقد بنى بيوتاً منحوته فى الصخر، ولعله وهو يبنى هذه البيوت، كان يهنئ عبقريته التى تلوذ بالحصون التى لا يمكن اقتحامها،... كان أدوم شديد الاعتداد بعقله وذكائه وحكمته، شأنه فى ذلك شأن كل إنسان لا يعلم أن العقل البشرى، مهما وصل فإنه أحمق وضعيف، إذا لم يأخذ حكمته من اللّه،... وكان عوبديا كعبد أو خادم للّه، يرجع فى كل ما يعمل، إلى الحكمة السماوية النازلة من السماء!... فى أيام الثورة الفرنسية عندما أرادوا أن يلغوا الدين والعبادة، أقاموا معبوداً دعوه « العقل البشرى »... وكانوا يقولون إن العقل هو الإله الذى ينبغى أن نعبده،... والعقل البشرى يحاول اليوم وهو يغزو الفضاء، أن يصنع عشه هناك بين النجوم، إلى الدرجة التى قال فيها « جاجارين » الروسى، وهو يسبح فى الفضاء، إنه بحث عن اللّه هناك ولكنه لم يره،... وهيهات له ولأمثاله أن يروا اللّه، لا لأن اللّه غير موجود، فهو يملأ كل مكان، بل لأنه هو أعمى لا يستطيع أن يبصر أو على حد قول الرسول بولس: « إذ معرفة اللّه ظاهرة فيهم لأن اللّه أظهرها لهم لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولا هوته حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا اللّه لم ليمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا فى أفكارهم وأظلم قلبهم الغبى » " رو 1: 19 - 21 ".. وكما قضى اللّه على جا جارين، سيقضى على كل متحصن وراء عقله ليقول له: « وإن كان عشك موضوعاً بين النجوم فمن هناك أحدرك »... ومن المعلوم أن أدوم كان يتحصن وراء شئ آخر، ثروته المنيعة، والمحفوظة بكيفية يستحيل على المقتحم أو المهاجم أن يصل إليها، وهو فى محاجئ الصخر، وما أكثر الذين يفعلون اليوم فعل أدوم، من أمم وجماعات وأفراد، إذ يتحصنون وراء الثروات الخرافية التى يظنون أنها تحميهم من كدارات الحياة، أو هجمات الأيام والأزمان، وهم يجلسون على تلال من ذهب، لم تعد تكفيهم الألوف أو الملايين، بل دخلوا فيما يطلق عليه البلايين والمليارات!!.. لقد بنوا أعشاشهم فوق الريح كما يقال، ووزعوا أموالهم كاليهود فى سائر أرجاء الأرض،... ولكن كلمة عوبديا تلاحقهم فى كل زمان ومكان: « وإن كان عشك موضوعاً بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الرب »... على أن محاجئ الصخر كانت عند أدوم شيئاً آخر، إذ كانت تمثل القوة،... فبلاده لا يسهل اقتحامها، على أنه من المثير والغريب فى تاريخ الجنس البشرى أن القوة المادية أو العسكرية، والتى يبنيها الإنسان لحمايته والدفاع عنه، تتحول آخر الأمر إلى وحش غير مروض، ويكون صاحبها فى كثير من الأوقات أول ضحاياها، ولعله مما يدعو إلى العجب، أن أقوى دولتين فى العالم الآن، وهما الولايات المتحدة وروسيا الإتحادية وما تملكان من قنابل ذرية وهيدروجينيه، هما أكثر الدول رعباً وخوفاً من الحرب، ومن قوتها المدمرة،... ومهما تحصن الإنسان، ووصل إلى النجوم ليجعلها مراكز غزو فى الفضاء، فإن كلمة عوبديا النبى تلحقه هناك: « وإن كان عشك موضوعاً بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الرب ».. عوبديا وشر أدوم كان الشر القاسى لأدوم، أنه عاش بلا إله، فهذا هو الذى وضع فاصلا بينه وبين أخيه يعقوب،... وقد ورث أبناؤه عنه هذه السمة، فتحولوا عن اللّه، واستقلوا، وعاشوا بلا إله فى العالم، وبنوا عظمتهم على أساس الاستقلال عن اللّه، وعندما يبنى الإنسان عشه بعيداً عن اللّه، فإنه يبنى الكارثة لنفسه مهما كانت عظمته بين الناس!!... ولعل دراسة التاريخ فى ذلك خير شاهد على الحقيقة،... لقد حاول الشيطان أن يبنى عظمته على أساس الاستقلال عن اللّه: « والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام » " يهوذا 6 " وسقط آدم وحواء فى نفس التجربة إذ أرادا أن يكونا مثل اللّه، فطردا من جنة عدن، ليسجل التاريخ مأساة البشر الكبرى فى كل العصور،... لقد خدعتهما الحية بالاستقلال عن اللّه،... ورفض المسيح التجربة عندما حاول الشيطان أن يجربه بالاستقلال:... إن خررت وسجدت لى أعطيك!!.. عندما خرج قايين من حضرة اللّه، إلى أرض نود أو أرض البعد، خرج إلى التيه والضياع، والعذاب، الذى لاحقه الحياة كلها!!.. كانت مأساة الابن الضال القاسية، هى بعده عن بيته، ولم يتذوق الراحة، حتى عاد إلى بيت أبيه، بل ما يحمل البيت من حياة وهدوء وسلام وأمن وراحة، وتعلم ألا يستقل عن أبيه البتة!!.. وكان أدوم آثما إلى جانب ذلك بالكبرياء التى ملأت قلبه، كان الأدومى عملاقا فى الجسد، متحصناً وراء ما سبقت الإشارة إليه سواء فى الذهن أو الثروة أو القوة، ومن ثم ذكر عوبديا « تكبر قلبك » أو خطية الكبرياء والتى لحقت بالكثيرين ممن حاولوا أن يبنوا عشهم بين النجوم. وهل ننسى وصف إشعياء فى الأصحاح الرابع عشر وهو يهجو ملك بابل: « كيف باد الظالم بادت المتغطرسة... الهادية من أسفل مهتزة لك لاستقبال قدومك منهضة لك الأخيلة جميع عظماء الأرض. أقامت كل ملوك الأمم عن كراسيم كلهم يجيبون ويقولون لك أ أنت أيضاً قد ضعفت نظيرنا وصرت مثلنا. أهبط إلى الهاوية فخرك رنة أعوادك تحتك تفرش الرمة وغطاؤك الدود كيف سقطت من السماء يازهرة بنت الصبح؟ كيف قطعت إلى الأرض ياقاهر الأمم. وأنت قلت فى قلبك أصعد إلى السموات أرفع كرسى فوق كواكب اللّه وأجلس على جبل الاجتماع فى أقاصى الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلى. لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب. الذين يرونك يتطلعون إليك يتأملون فيك. أهذا هو الرجل الذى زلزل الأرض وزعزع الممالك؟ » " إش 14: 4 - 16 " وما أكثر الذين جاءوا بعد ملك بابل لينالوا المصير نفسه، نابليون بونابارت، وهتلر، وموسولينى وأمثالهم كل هؤلاء الذين بنوا عشهم، بين النجوم، ومن هناك أحدرهم اللّه القادر على كل شئ!!.. وكان أدوم أيضاً مصاباً بنعرة الجنس، ولم يعد يبالى بأخيه يعقوب، بل يناصبه العداء، وقد فقد كل عواطف الأخوة،... وما يزال العالم إلى اليوم يعانى، أقسى المعاناة من التعصب الجنسى،... كان سسل رودس يقول عن الشعب البريطانى إنه أعظم شعب فى العالم، وها نحن إلى اليوم نرى المشكلة الروديسية بين البيض والسود، وكأنما يلوم البيض اللّه لأنه خلق أجناساً سوداء اللون،... كان فوليتر يقول: سيأتى الوقت الذى يقال مدحاً فى الآخرين: هذا فرنسى المذاق.. وقال أحد السياسيين الأمريكيين: إن اللّه لم يصنع شيئاً أو أحداً يساوى الأمريكيين، ولا أظن أنه سيصنع!!.. وهل هناك حماقات تؤذى البشر أكثر من هذه الحماقات!!؟. وقد تمكنت من أدوم عاطفة من أقبح العواطف وأثرها فى الإنسان، وهى عاطفة الشماتة فضلا عن أنها عاطفة بغيضة جداً فى نظر اللّه إذ هى تيار أسود ملئ بالحقد والضغينة وعدم المروءة، فهى أمر غير إنسانى وقبيح، فمن سوء الأخلاق وضعتها وانحطاط النفس، أن نقف من تعاسات الآخرين وعجزهم وضعفهم موقف المتشفى المبتهج بهذا العجز والألم والتعاسة والضيق!. ولم يقف أدوم عند حدود الشماتة، بل تعدى الأمر إلى الظلم متمشيا مع التعبير الشعبى القائل: عندما تقع البقرة تكثر السكاكين،... وعندما حدثت المأساة لشعب اللّه، فرح أدوم، واتهمهم بكل نقيصة وشر، ووسع دائرة الاتهام، وألصق بهم مالم يفعلوه، وحملهم النتائج القاسية التى وصلوا إليها.. مع أن الخصم النبيل ولا نقول الأخ،... هو الذى لا يضرب إنساناً ساقطاً أمامه!!.. ولا يجهز على بائس مسكين يترنح من الضربات التى تكال له!!.. لكن أدوم أكمل شره بالقساوة الباغية، فقد تربص للضعفاء الهاربين من الغزو على مفارق الطرق ليقضى على المنفلتين، وهم فى عمق بؤسهم وضيقتهم، بشدة ولؤم وخسة!!.. عوبديا وخداع أدوم سقط أدوم فريسة الخداع، ويبدو أن خداعه جاء من اتجاهين: خداع الأصدقاء، وخداع النفس: « طردك إلى التخم كل معاهديك. خدعك وغلب عليك مسالموك. أهل خبزك وضعوا شركاً تحتك. لا فهم فيه »... " عو 7 " والذين يخدعون الآخرين قد يكونون مدفوعين بالخوف أو التملق أو المصلحة،... كان نيرون صاحب صوت منكر، ولكنه كان يعتقد أن صوته من أرخم الأصوات، وكان يلزم الآخرين أن يسمعوا غناءه، وكانوا يبدون إعجابهم الكبير بالصوت، خوفاً على حياتهم من بطشه وانتقامه،... وقد تملق الصوريون والصيداويون وهم « يلتمسون المصالحة لأن كورتهم تقتات من كورة الملك، وفى يوم معين لبس هيرودس الحلة الملوكية وجلس على كرسى الملك، وجعل يخاطبهم. فصرخ الشعب: هذا صوت إله لا صوت إنسان. ففى الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعط المجد للّه. فصار يأكله الدود ومات.. » " أع 12: 20- 23 " والإنسان متى سمح للآخرين أن يخدعوه، فسينتهى به الأمر إلى الاتجاه الآخر، إن يخدع نفسه بنفسه، « تكبر قلبك قد خدعك » " عو 3 ".. «والقلب أخدع من كل شئ وهو نجيس من يعرفه ». " إر 17: 9 " والإنسان من تاريخه الأول إلى اليوم ضحية الخداع،.. وكما ذهب الشيطان إلى أبوينا الأولين فى جنة عدن، وبدأ معهما هناك بقصة الخداع، فهو إلى اليوم يضلل ويخدع فى كل مكان وزمان!!.. ولعله يوحنا ويسلى الذى وعظ ذات يوم عظة رائعة عظيمة، وما أن نزل من المنبر، حتى استقبله أحد السامعين بالقول... « ما أروعها وأعظمها من عظة ». وإذا بالواعظ العظيم يقول: لقد قال لى غيرك ذلك!!.. وقال السامع: ومن هو!!؟ وأجاب الواعظ: إنه الشيطان!!؟.. قالها له قبل أن ينزل من فوق المنبر،... وإذا كان يفعل ذلك فى أقدس الأماكن، فكيف يكون الأمر فى أحطها وأشرها؟!!. عوبديا وسقوط أدوم ونتعرض أخيراً لسقوط أدوم البشع، ولعل أول مظهر من مظاهر سقوطه، كان فى الفرصة الضائعة، لقد أصيب أخوه يعقوب بالنكبة التى كانت تقتضى منه المسارعة إلى المعونة، لا الوقوف موقف المتفرج، أو الإجهاز على بقايا المنفلتين. وما أكثر ما يقف الناس على الطريق فى موكب الحياة، موقف أدوم القديم: « يوم وقفت مقابله يوم سبت الأعاجم قدرته ودخلت الغرباء أبوابه وألقوا قرعة على أورشليم كنت أنت أيضاً كواحد منهم. ويجب أن لا تنظر إلى يوم أخيك يوم مصيبته ولا تشمت ببنى يهوذا يوم هلاكهم ولا تغفر فمك يوم الضيق. ولا تدخل باب شعبى يوم بليهم. ولا تنظر أنت أيضاً إلى مصيبة يوم بليته ولا تمد يداً إلى قدرته يوم بليته. ولا تقف على المفرق لتقطع منفلتيه ولا تسلم بقاياه يوم الضيق »... " عو 11 - 14 " وما أكثر ما يفعل الناس هكذا وهم مشغولون بأنانيتهم وكبرياء قلوبهم.. فى أسطورة وثنية قديمة، أن واحداً من الرؤساء القدامى حفر بئراً، وأمر بألا يشرب منها أحد غيره وغير عائلته، وكانت النتيجة أن البئر لم تعط ماء، فطلب العرافين الذين قالوا له إن البئر لا يمكن أن تعطى ماء إلا إذا شارك الشعب فى الانتفاع بها، فما كان منه، مدفوعاً بأنانيته، إلا أن يصدر قراراً بأن يشرب الشعب منها فى الليل، وهو وبيته يشربون منها فى النهار،... وحدث أن البئر فاضت بالماء عند غروب الشمس، وظلت طوال الليل تعطى ماء، وفى الصباح جفت، وعندئذ علم أن المشاركة الصحيحة هى أن يشرب هو والشعب فى وقت واحد،... وفاضت البئر عندئذ ليلا ونهاراً.. إن الحياة فى حقيقتها هى الإيثار لا الاستئثار وهى الخدمة الباذلة المضحية، وليست الأنانية أو الوصولية أو النفعية التى يعيشها ملايين الناس على الأرض!!.. فى ساحة إحدى الكنائس عبارة مكتوبة: « ما أعطيه أملكه وما أحفظه أفقده »،.. لقد زمجر عاموس - فيما ذكرنا عند التعرض لشخصيته - لحياة الأنانية التى تنسى آلام الآخرين: « ويل للمستريحين فى صهيون.. أنتم الذين تبعدون يوم البلية وتقربون مقعد الظلم، المضطجعون على أسرة من العاج والمتمددون على فرشهم والآكلون خرافاً من الغنم وعجولا من وسط الصيرة، الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف ».. " عا 6: 1 - 6 " إن الأنانية وحدها بشعة كل البشاعة، ولكنها أكثر بشاعة عندما تكون فى مواجهة النفس والمنكوب والمتألم والمتضايق!!.. وسقط أدوم أيضاً عندما لم يدرك أن الزمن دوار، وطوبى للرحماء لأنهم يرحمون.... فى أساطير عيسوب أن الحمار الضعيف المسكين توسل إلى زميله الحصان أن يحمل عنه بعض حمله، وقال له إنه إن لم يفعل فالنتيجة ستكون أنه سيموت، وسيحمل الحصان الكل،... ولم يبال الحصان بالكلام، فسقط الحمار تحت ثقله ومات، ونقل صاحبهما كل حمل الحمار ووضعه على الحصان، بل أكثر من ذلك أنه وضع عليه جثة الحمار الميت، وقال الحصان: يا لى من أحمق! لقد رفضت أن آخذ شيئاً من حمل الحمار، وها أنا لا آخذ حمله فحسب، بل أحمل جثته أيضاً!!.. لعل من أطرف ما قيل، أن أحد المرسلين - وكان جراحاً فى مدارس بالهند رأى ذات يوم عند بابه كلباً صغيراً مكسور القدم، فما كان منه إلا أن جبر ساقه، وقال المرسل إن الشئ الغريب الذى حدث أنه أحس بخربشة فى اليوم التالى عند الباب وعندما فتح الباب وجد الكلب، وقد صحب كلباً آخر صغيراً مكسور الساق، وقد جاء به ليعالج،.. لئن صحت الرواية، فإن الإنسان مرات كثيرة يكون أحط من الحيوان، وأكثر أنانية،... ولعل هذا ما حد برئيس الأساقفة هو يتلى أن يقول: إذا سألتنى أن أخبرك عما يسبب الاضطراب الأكبر، والذى يهدد بأقسى الأخطار، فإنى أستطيع أن أقول لك إنك إذا تطلعت إلى المرآة، هناك سترى أصدق صورة لذلك!.. ومن المؤسف حقاً أن الناس فى كثير من أدوار الحياة تنسى أن الدنيا لا تبقى إنساناً على حال فهى ترفع المنخفض، وتخفض المرتفع، وهى تغنى الفقير وتفقر الغنى، وهى تقوى الضعيف، وتضعف القوى.. إنها الساقية التى تدور بسرعة أو ببطء، لكنها على أية حال تدور!!... وقديماً قال أحدهم للنعمان: إن كنت تعلم يا نعمان أن يدى قصيرة عنك، فالأيام تنقلب وقال آخر: أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتى به الغير وسالمتك الليالى فاغتررت بها وعند صفو الليالى يحدث الكدر والمثير فى الأمر على الدوام، أن الجزاء من جنس العمل: « كما فعلت يفعل بك، عملك يرتد على رأسك. لأنه كما شربتم على جبل قدسى يشرب جميع الأمم دائماً يشربون ويجرعون ويكونون كأنهم لم يكونوا » " عو 15 و16 ".. عندما قبض الإسرائيليون على أدونى بازق وقطعوا أباهم يديه ورجليه، قال الرجل: « سبعون ملكاً مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانو يلتقطون تحت مائدتى. كما فعلت كذلك جازانى اللّه »... " قض 1: 7 " وقال جدعون، « لزبح وصلمناع: كيف الرجال الذين قتلتماهم فى تابور؟ فقالا مثلهم مثلك. كل واحد كصورة أولاد ملك. فقال هم اخوتى بنو أمى. حى هو الرب لو استحييتماهم لما قتلتكما ».. " قض 8: 18 و19 " ولم يدر هامان وهو يجهز الصليب المرتفع ليصلب عليه مردخاى، أنه يجهز لنفسه المصير التعس الذى سيصل إليه!!.. كان أدوم يرى نفسه، كما لاحظنا، القوة والمنعة، وهو « القائل فى قلبه من يحدرنى إلى الأرض » (عو 3) لقد وضع عشه بين النجوم أو أعلى من أن تصل إليه يد بشرية، ولكن المثل الشائع يلحقه: ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع لقد فكر أدوم فى قدرة البشر وهو يلقى على نفسه السؤال: « من يحدرنى إلى الأرض »،... ونسى أنه توجد يد أعلى من كل يد بشرية، خالقة الكواكب والنجوم ذاتها،... « ومن هناك أحدرك يقول الرب!!... " عو 4 " وحسب المقاييس البشرية ماذا ينقص أدوم وقد ارتفع بعشه فوق الزوابع والعواصف والمحن التى تتلف الكرة الأرضية، ولكنها تغلف جوها دون أن تبلغ النجوم، أما الذى يبلغ من المناعة ما يعلو به على الريح، فهو آمن من ثورة الطبيعة والإنسان، ومن غدر الزمان، كما يحلو للمخدوع أن يتصور ولكن هذا الإنسان، فرداً كان أو أمة، ينسى أن المصير دائماً تحكمه اليد الإلهية العليا،... وأن هذه اليد تسمح أن يرتفع الجبار إلى أعلى ما يتصور الخيال البشرى، حتى يسقط سقوطاً ملحوظاً من كل البشر، بل ومن كل التاريخ أيضاً!!.. ويكون سقوطه عظيماً!!.. كان سقوط أدوم رهيباً، لأنه كان سقوطاً من النجوم العالية إلى الأرض أو الحضيض كما يقولون،... وها نحن لا نعرف عن أدوم الآن شيئاً، لقد ضاع وانتهى إلى الأبد، وتحولت جباله وصخوره إلى مقابر رهيبة لمجده وجلاله ومتعته وتاريخه بأكمله،ونحن لا نستطيع أن ننهى القصة دون أن نتعمق إلى ما هو أعظم وأكمل وأبهى، إذ أن الدورة عادت لتصحح الوضع المقلوب، لقد أضحى القوى ضعيفاً، وعاد الضعيف قوياً، وجاءت نهاية أدوم بيد يعقوب جزاءاً وفاقاً لإثمه وشره وخطيته وحقده وانتقامه، ولذلك نقرأ: « ويكون بيت يعقوب ناراً وبيت يوسف لهيباً وبيت عيسو قشا فيشعلونهم ويأكلونهم ولا يكون باق من بيت عيسو لأن الرب تكلم »... " عو 18 " ونحن نسأل عن السر، وهل هو نوع من الانتقام رد به يعقوب على عيسو فى يوم من الأيام!!.. لا نظن إذ أن الأمر أعلى وأسمى، وليس هو مجرد صراع بين جماعات تدور بها الأيام وتلف، بين غالب ومغلوب، لقد أعطانا عوبديا الصورة الصحيحة الحقيقية، إذ ختم نبوته بما يمكن أن نطلق عليه « مسك الختام » فى القول: « ويكون الملك للرب »... " عو 21 " وهذا يحولنا بدورنا من الأرض أو النجوم، إلى من هو فوق الاثنين، إلى الحاكم المطلق الأبدى الذى يضع ولا أحد يرفع، ويرفع ولا أحد يضع!!.. ويقود التاريخ فى كل أدواره صوب النهاية المؤكدة، التى تجعلنا نغنى مع عوبديا بكل بهجة ويقين: « ويكون الملك للرب »..!!..
المزيد
21 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس عزرا

عزرا " عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر فى شريعة موسى "" عز 7: 6 " مقدمة ربما كان عزرا، صاحب المنبر الخشبى، هو أول واعظ فى كل التاريخ، بالمعنى المألوف المعروف الذى نراه الآن فى التفسير والتعليم والوعظ بين الناس!!... وقد سبقه - ولا شك - الكثرون من القادة والأنبياء والملوك الذين تحدثوا بكلمة اللّه إلى الناس بكل حماس وقوة وحمية، فى الحض والزجر والوعظ،... غير أن عزرا يكان يكون الأول من نوعه، الذى صنع منبراً خشبياً، وجمع الناس حوله ليعظهم ويشرح لهم كلمة اللّه، على النحو المألوف الآن عند جميع الوعاظ فى كل مكان،... وحق للبعض أن يدعوه لذلك أبا الوعاظ وأمراء المنابر فى كل التاريخ!!... ومن المهم أن تعلم أن عزرا الكاهن كان أول « كاتب » فى شريعة موسى، بالمعنى الذى عرف به نظام « الكتبة » المشهور فيما بعد!!... أى أن الرجل الذي لا ينسخ الشريعة فحسب، بل يعلمها ويشرحها للناس،... كانت كلمة « الكاتب » قبل عزرا، تقصر على الناسخ الذى ينسخ الكلمة، كباروخ الذى كتب لإرميا،... لكن عزرا الكاتب أعطى الكلمة مفهوماً أعمق وأقوى... فهو الناسخ والشارح الذى يتعمق فى فهمها والوعظ بها للناس، وقصته جديرة بأن تروى للمؤمنين عامة، وللواعظ على وجه الخصوص. ولعلناً نلاحظه بعد ذلك فيما يلى: عزرا من هو!!؟ عندما سقطت بابل العظيمة أمام جحافل الفرس عام 538 ق.م. واعتلى كورش الفارسى عرش الإمبراطورية العظيمة، كان من أول أعماله أن سمح للمسبيين من اليهود الذين سباهم نبوخذ ناصر أن يرجعوا إلى بلادهم كما سبقت الإشارة فى دراسة شخصية زربابل، وقد تمكنوا بعد متاعب كثيرة من بناء الهيكل وتدشينه، وإقامة العبادة فيه حوالى عام 516 ق.م.، وأعقب ذلك فترة تبدلت فيها الأحوال، واختلط الراجعون من السبى بالوثنيين وتزاوجوا معهم، وضعفت عزيمتهم وروحهم المعنوية والدينية، وباتوا فى أمس حاجة إلى مصلح وهاد وواعظ، وقد تحقق لهم ذلك فى شخص عزرا الكاهن الكاتب، الذى أعطاه ارتحشستا الملك عام 458 ق.م. الأمر بالذهاب إلى أورشليم، هو ومن يريد أن يذهب معه من الباقين من السبى فى بابل، وأعطاهم الملك أموالا وقرابين وذبائح تقدم لبيت اللّه. وقد وصل عزرا ومعه حوالى 1700 رجل إلى أورشليم بعد خمسة شهور، وهناك قام بإصلاحه العظيم، وانقضى على ذهابه ثلاثة عشر عاماً، لاندرى هل عاد بعدها إلى بابل أم بقى فى أورشليم؟، وكل الذى نعلم أنه ظهر بعد هذه الفترة إلى جانب نحميا الوالى، وظهر ليكون معلم الأمة وواعظها، والأمير الأول من أمراء المنابر فى التاريخ.ولعله من المناسب أن نذكر أن هذا الرجل كان من سبط لاوى، وقد دون فى سفره نسبه حتى هرون الرأس. وكان حلقياً الكاهن، جده القريب، هو الذى اكتشف سفر الشريعة: فى بيت الرب، ولعل أحداً قص على عزرا الذى ولد فى السبى، ماذا فعل يوشيا يوم قرىء السفر أمامه، وكيف مزق ثيابه، واتضع أمام الرب، وقام باصلاحه العظيم،... وعلى أية حال، فإن عزرا اكتشف هو بنفسه هذا السفر عندما قيل عنه: « هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها » " عز 7: 10 "... ومن المحقق أن عزرا عاش فى بابل وأرشليم، متعظاً بكلمة اللّه، عميق التأمل فيها، يحفظها ويعمل بها قبل أن يطلب من الآخرين العمل بها!!.. وإذا كان من الواضح أن الرجل فوق منبره الخشبى، هو أول الوعاظ وأبوهم بالمعنى المفهوم حديثاِ، فقد حمل دون شك فى أعماقه خصائص الواعظ الناجح، وهذا الواعظ - كما يتعلم الطلاب فى كليات اللاهوت فى علم الوعظ - لا يمكن فصله عن العظة... لأن العظة عند فيلبس بروكس: « أن يقوم إنسان بتوصيل الحق إلى إنسان آخر »... والوعظ بهذا المعنى يشتمل على أمرين: الحق والشخصية، والفرق بين عظة وعظة، أو واعظ وواعظ - هو الفرق فى توافر هذين العنصرين أو غيابهما، أو نقص أحدهما أو اهتزازه أمام السامعين،... ويقول الدكتور جارفى مؤيداً هذا الاتجاه: « إن الوعظ ليس مجرد توصيل معلومات أو معارف، ذلك لأن الوعظ يستغرق شخصية الواعظ كلها، ومن ثم فهو يخاطب شخصية المستمع كلها باعتباره موضوعاً أدبياً أو دينياً، وطالما أن الحق الذى ينادى به ويدعو إليه الوعظ هو أمر يتعلق باللّه والحرية والخلود، كذلك فإن غايته وغرضه هو حفز الإيمان والدعوة إلى النهوض بالواجب وإبقاء جذوة الأمل والرجاء متقدة لا تخبو »... ومن المستحيل الوصول إلى ذلك دون التطلع إلى وجه الواعظ، ومحاولة النظر والتأكد، من أنه يعنى ما يقول، أن أقواله تنبع من وجدانه العميق... ويتفق المختصون بعلم الوعظ على أن من أهم سمات الواعظ أموراً أربعة توفرت بالتمام فى عزرا الواعظ، والكاتب الماهر فى شريعة السماء!!.. ولعل أولها: التقوى!!.. كان عزرا عميق الشركة مع اللّه، وتستطيع أن تبين ذلك، من أنه عاش فى بابل ينهل من الكلمة الإلهية، ويحرص على دراستها وتطبيقها فى حياته. والواعظ الناجح هو المستفيد الأول من العظة،... وقد كانت تقواه بارزة فى أكثر من إتجاه، فهو من أعمق الناس إحساساً بالخطية، ويكفى أن تراه وقد اكتشف فى أورشليم اختلاط الشعب وتزاوجهم مع غيرهم من الشعوب، وقد هاله هذا وأفزعه إلى أبعد الحدود: « فلما سمعت بهذا الأمر مزقت ثيابى وردائى ونتفت شعر رأسى وذقنى وجلست متحيراً، فاجتمع إلى كل من ارتعد من كلام إله إسرائيل من أجل خيانة المسبيين، وأنا جلست متحيراً إلى تقدمة المساء. وعند تقدمة المساء قمت من تذللى وفى ثيابى وردائى الممزقة جثوت على ركبتى وبسطت يدى إلى الرب إلهى. وقلت: اللهم إنى أخجل وأخزى من أن أرفع يا إلهى وجهى نحوك، لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا، وآثامنا تعاظمت إلى السماء. منذ أيام آبائنا نحن فى إثم عظيم إلى هذا اليوم، ولأجل ذنوبنا قد دفعنا نحن وملوكنا وكهنتنا ليد ملوك الأرض للسيف والسبى والنهب وخزى الوجوه كهذا اليوم. والآن كلحيظة كانت رأفة من لدن الرب ليبقى لنا نجاه ويعطينا وتدا فى مكان قدسه لينير إلهنا أعيننا ويعطينا حياة قليلة فى عبوديتنا » " عز 9: 3 - 8 " وإذا كان اليهود اللذين حوله لا يرون هذه الرؤية أو يحسون هذا الإحساس، فإن مرجع الأمر هو أنه أعمق حساً وأكثر إدراكاً للذنب والخطية،... ومع أنه هو شخصياً كان بعيداً عن هذا الإثم، إلا أنه كان عميق التقوى، يحس أن خطايا شعبه هى خطاياه، وآثامهم هى آثامه،... وبعدهم عن اللّه، كأنما يشارك فيه على النحو المفزع القاسى البعيد!!... وكان الرجل، إلى جانب هذا، تقياً فى يقينه بإلهه واعتماده عليه،... كانت كلمته المفضلة أو التى هى شعار حياته، يد اللّه الصالحة علينا، " عز 7: 9، 8: 18 " وقد تكررت مرات فى اختباراته الشخصية وعندما سمح له الملك بالذهاب إلى أورشليم على رأس القافلة التى أشرنا إليها، وزوده بالتبرعات السخية، رأى فى ذلك يد اللّه معه، وقد حمل معه تقدمات تقدر بعملتنا الحالية بحوالى مليون ونصف مليون جنيه، ومثل هذه الثروة تغرى اللصوص، وقطاع الطرق، فى رحلة تستغرق خمسة أشهر، وقد أبى عزرا أن يستعين بقوة حارسة أو يطلب من الملك جيشاً وفرساناً لنجدتهم، لأنه كان قد سبق فأخبر الملك: « إن يد إلهنا على كل طالبيه للخير. وصولته وغضبه على كل من يتركه » " عز 8: 22 " فصاموا وصلوا وساروا فى طريقهم مشمولين بالحراسة والرعاية الإلهية حتى وصلوا إلى أورشليم!!... إن التقوى فى الواعظ هى إحدىِ خصائص النفس الروحية، وهى الحماس الأخلاقى البعيد الجذور الذي ينعكس على الاختبار الدائم فى علاقة الواعظ باللّه، وهى علاقة شركة وصداقة ورفقة طيبه يصبح الإنسان بمقتضاها خليلاً للّه، وهى - فى لغة أخرى - تكريس مهيب للّه،.. وهى ليست جامدة ساكنه، بل هى نشطة متحركة تمضى قدماً، متألقة مزدهية بالحق ومجد وفضائل النعمة المسيحية وبركاتها... وهى ليست شيئاً ينتمى إلى عالم آخر، بمعنى العزوف المتكبر والأنطواء المترفع عن حاجيات الناس ومصالحهم، بل هى تختلط بهم وتعاشرهم وتعاملهم، تندمج فى الحياة مزودة بل مسلحة بالفضائل المسيحية، وهى ليست ضعيفة خائرة، بل هى بطلة قوية، وبطولتها متركزة فى إنتصار الروح الرائع على الجسد، وهى الحقيقة الروحية التى لا تتقبل أى تهادن أو تهاون مع الزيف أو الكذب أو الخداع أو التظاهر أو النفاق، وهى فى الواقعية الروحية تعترف بوجود أعداء الحياة فى جوانبها الخلقية والروحية، ومن ثم تتحداهم، وليس من المبالغة فى شئ أن نذكر أن هذه السمة من سمات الروح هى المطلب الأول فى حياة الواعظ، والضمان لتأثيره وأثره إذ أنها تلهب الواعظ نفسه بالغيرة المتقدة بالحماس النارى، وهى التى تبقى الشعلة حية متوهجة وسط كل اللامبالاة الجليدية، التى ما أكثر ما يجد الواعظ نفسها وهو بجابهها.. إن هذه التقوى هى التى تظفر للواعظ بتقدير موعوظيه وعطفهم ونواياهم الطيبة، بل إن أكثر الناس شراً بينهم، سوف لا يتمالكون أنفسهم من أن يشعروا أن ذلك الحماس الصادق من جانبه، أمر خليق باحترامهم، وجدير بكل أنحناء وتقدير.. ولقد وعد اللّه مثل هذا الواعظ الصادق والأمين بأن يبارك جهوده وأتعابه!!.. ولا حاجة إلى القول إن التقوى بهذا المعنى كانت عميقة الجذور فى حياة عزرا، ولذا كان تأثيره عميقاً وبعيداً كما سنرى فى حياة الشعب والناس!!.. وإلى جانب التقوى كانت المواهب الطبيعية التى زوده بها - للّه، وهى الصفة الثانية فى حياة الواعظ،... والمواهب اللازمة لكل واعظ تبدأ أولا بقدرته على التفكير السليم الواضح، ثم تمتد بعد ذلك إلى العاطفة المتدفقة والفيض الزاحر من المشاعر والأحاسيس التى تتملكه، وهو إلى جانب هذا يحتاج إلى الخيال القوى المجنح الذى يرتفع ويعلو إلى العرش الإلهى، ويتجاوز الحدود المادية والمنظورة بين الناس، وبالإضافة إلى هذا كله لابد أن يتزود بالقدرة على التعبير، وامتلاك ناصية المنطق الفعال،... وأنت لا يمكن أن تقرأ عن عزرا دون أن تحس أنه يمتلكها جميعاً.. الصفة الثالثة فى الواعظ هى المعرفة، والمقصود بالمعرفة هو القدرة على الإحاطة بالكثير من المعلومات والحقائق،... وواضح أن عزرا كان على حظ كبير من الحنكة والدراية والإلمام، فقد كان كما يقول « ألكسندر هوايت » من ذلك النوع الذى تملك (جون كلفن) عندما حكم جنيف، « وجون نوكس » عندما سيطر على أدنبره،... وكان من المستحيل أن يجعله أرتحشستا على رأس العائدين ويزوده بالسلطان الكامل، ما لم يكن واثقاً فى مقدرة الرجل ودرايته وحنكته!!... والأمر الأخير الذى يؤكد أستاذة علم الوعظ ضرورة وجوده فى الواعظ هو المهارة،... وكان عزرا الكاتب الماهر، واحداً من أقدر الناس وأقواهم على المنبر، له تلك الأصالة التى ترتفع به فوق التقليد والمحاكاة وما أشبه، التى تعجز عن إطلاق الحق الإلهى دون تردد أو إبهام أو زيف!! فإذا كانت هذه هى المقاييس الوعظية الفنية، فإن عزرا الكاهن الماهر فى شريعة اللّه، كان من أقدر الوعاظ وأظهرهم، ويحق القول إنه أبوهم التاريخى القديم فى المنبر الذى أقامه، وبحسب مالدينا من معلومات لم يسبقه كاتب آخر أو واعظ مفسر لكلمة اللّه من فوق المنبر الذى درج هويتفيليد أن يدعوه عرشه العظيم!!... عزرا وكتاب الشريعة ولعل عزرا يعطينا هنا الدرس العظيم فى مفهوم العظة، وبعدها، وعمقها فإذا أخذنا بالتقسيم الفنِى للفظ، من حيث ارتباطها بالآية، لوجدنا ما يطلق عليه فى علم الوعظ، العظة الموضوعية، والعظة الآيية، والعظة التفسيرية،.. أما العظة الموضوعية فهى العظة التى تستخلص موضوعاً معيناً من الآية، تركز الحديث عليه، وتأخذ الأقسام فى استقلال عن الآية نفسها، وقد يعطى هذا الاستقلال اتساعاً ليس من السهل أن نجده فى الوعظ الآيى أو التفسيرى إذ يمكن للواعظ أن يعظ عن موضوع معين دون أن يكون محصوراً فى الآية وحدها، بل يمكن أن تمتد جولته فى الكتاب لينتقى من أرجائه الزهور ليجمعها فى باقة جميلة خلابة، دون أن يتقيد بركن معين أو مجموعة معينة من الزهور!!.. ولا نعتقد أن هذا النوع من الوعظ كان الأسلوب الذي لجأ عزرا إليه فى تفسير وشرح كلمة اللّه!!... أغلب الظن أن عزرا كان يتقن الوعظ الآيى أو التفسيرى. والعظة الآيية هى التى تكون الآية لحمتها وسداها، وتأخذ الموضوع الذى تطرقه من تحليلها للآية وشرحها لها، كما أن أقسامها ترجع دائماً إلى كلمات الآية أو أجزائها المختلفة، فهى فى الواقع نوع من التوسع، لما يمكن أن يستنبط من الآية أو ينطبق عليها، ولا شبهة فى أن هذا النوع من الوعظ يغوص فى البحث الكتابى أكثر من الوعظ الموضوعى، وإذا كان هذا الأخير عريضاً إلا أنه أقل عمقاً » والواعظ الماهر فى الوعظ الآىى أشبه بالغواص الذى ينزل إلى الأعماق البعيدة فى البحر بحثاً عن الدرر والجواهر حتى يعثر عليها ويخرجها لتبهر بجمالها الأنظار، والجماهير التى ألفته، والكنائس التى تعودت عليه تكون أقوى وأعمق فى البنيان المسيحى، والعظة التفسيرية هى بنفسها العظة الآيية، مع هذا الفارق، أنها لا تتقيد بآية واحدة، بل قد تكون قطعة كتابية كاملة، يغوص الواعظ فى أعماقها باحثاً عن دور الحق الإلهى فيها!!... وتاريخ الوعظ اليهودى - ابتداء من هذا الرجل العظيم وحتى العصور الحديثة - يميل إلى الوعظ الآيى أو التفسيرى دون الوعظ الموضوعى فهو يعتمد على قوة الكلمة الإلهية، وسلطانها، وفاعليتها فى النفس البشرية!!... وعظ عزرا الشعب من فوق منبر خشبى مرتفع، ومما لا شك فيه أن المنبر كان مرتفعاً ليستطيع الشعب أن يرى الواعظ ويستمع إليه، ولكن الارتفاع له معنى أعمق من ذلك، فالمنبر ينبغى دائماً أن يكون مرفعاً عن المقعد، لأنه يحمل صوت اللّه وسلطانه، ويفهم الجميع بأن الواجب الأول للمستمع أن يكون خاضعاً مطيعاً لكلمة اللّه وأمره، أما الواعظ نفسه فقد كان - كما أشرنا - أميراً من أمراء المنبر وواعظاً نموذجياً مجيداً. إذ وعظ بحياته وسيرته قبل أن يعظ بلسانه وكلامه، إذ كان رجلا غيوراً تقياً مصلياً، وعندما بدأ وعظه، بدأ بداءة الشخص المتمكن من تأملاته ودراسته وإرشاد الروح القدس له، وما أجمل مادة موضوعه! إذ لم تكن هذه المادة فلسفة وعلماً، منطقاً وخطابة وبلاغة، لقد كانت قبل كل شئ وبعد كل شئ، كلمة اللّه التى قرأها ببيان وفسر معناها للسامعين، وهل فعل أمراء المنبر فى كل التاريخ غير ما فعل عزرا قديماً، ففم الذهب، وأوغسطينوس وكلفن ومتى هنرى وتوماس جدوين - كما يقول الكسندر هوايت - لم يفعلوا أكثر مما فعل هذا الأمير الأول، والواعظ المتمكن، والمفسر للكلمة الإلهية الحية الفعالة!!.. ولا يستطيع الإنسان منا وهو يستعرض هذا التاريخ، إلا أن يتذكر كلمات ف. ب. ما ير عندما قال: « إن دراسة عزرا للكتاب تذكرنى بما حدث فى إنجلترا فى حكم الملكة أليصابات، حيث وضعت نسخة من الكتاب المقدس فى كاتدرائية القديس بولس، بعد أن أجيز للجمهور قراءته، ووقف جون بورتر بصوته الرائع يقرأ الكتاب للنفوس التى كانت متعطشة لسماع الكلمة الإلهية »... وهل يمكن نسيان الحب العميق الذي تمكن من مارى جونز الفتاة الفقيرة والتى كافحت، فى الأوقات التى كانت فيها نسخ الكتاب قليلة وباهظة الثمن حتى حصلت على نسخة منه، وعاشت حياتها وهى تدرسه دراسة عميقة حتى حفظت الكثير منه عن ظهر قلب، وعندما ماتت وضعوا هذه النسخة إلى جانب رأسها،... وصنعوا لها تمثالا عظيماً. بعد أن كانت السبب فى إنشاء دار الكتاب المقدس التى تنشره فى العالم، فى إنجلترا وغير إنجلترا!!.. عزرا والإصلاح العظيم الذى قام به كان أثر الكتاب بالغا وعميقاً فى حياة الشعب، وعندما التفوا حول منبر عزرا يفسر لهم كلمة اللّه، يقول نحميا فى الأصحاح الثامن من سفره: « اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التى أمام الباب وقالوا لعزرا ».. " نخ 8: 1 " كانت رغبتهم قوية إلى الدرجة أنهم استمروا من الصباح إلى نصف النهار يستمعون « دون ضجر أو ملل، وقد بدا احترامهم للكلمة فى وقوفهم عندما فتح عزرا السفر، وفى سجودهم للرب عند صلاته. وقد تأثروا إلى درجة الدموع إذ بكوا حين سمعوا كلام الشريعة، ثم ذهبوا يعملوا بما سمعوا وفى الحقيقة إن القياس الصحيح لتأثير الكلمة الإلهية، ليس فى مجرد ما يسكب الإنسان من دموع، قد تكون وقتية، مهما كانت غزارتها، وكثرتها،... بل فيما تترك من أثر فى حياة الإنسان وسلوكه،... عندما وعظ بولس فى أفسس « كان كثيرون من الذين يستعملون السحر يجمعون الكتب ويحرقونها أمام الجميع. وحسبوا أثمانها فوجدوها خمسين ألفاً من الفضة ».. " أع 19: 18، 19 " أو ما يقرب من عشرة آلاف جنيه بعملتنا الحالية،... لقد كانت الكلمة الإلهية أقوى وأفعل من كل سحر شيطانى،... وعندما وعظ سافونا رولا فى فلورسنا أثر وعظه فى الكثيرين من الرجال والنساء والفنانين والموسيقيين، فأحضروا من الصور والزينات والتحف كل ما وجدوه غير لائق بالحياة المسيحية الصحيحة، وجعلوها أكواماً فى ميدان القديس مرقس وأحرقوها،... وقد سبقت الإشارة فى بعض الدراسات إلى الأثر البعيد العميق الذى أحدثه يوحنا ويسلى فى القرن الثامن عشر فى إنجلترا، عندما هوت الحياة الأدبية والروحية إلى الحضيص، ونادى الرجل بإنجيل المسيح وهو ينتقل من مكان إلى مكان ما بين الشوارع والأزقة، والمدن والقرى، والمصانع والمناجم، يعظ يومياً ما بين عظتين وخمس عظات، وكان اللّه معه، ففعل مالا تفعله قوات العالم مجتمعة معاً،... وقد كانت كلمة اللّه حية وفعالة عندما نادى بها عزرا، وليس أدل على هذا من انفصال الكثيرين من القادة والشعب عن الزوجات الوثنيات اللواتى تزوجوا منهن،... والحرص على تقديس يوم السبت والامتناع عن التعامل والبيع والشراء مما كان سارياً فى ذلك الوقت، والأخذ بالحياة المقدسة، والحرص على التدقيق فى مراعاة الفرائض، والطاعة للشريعة الإلهية!!... وقد فعلوا هذا كله بالدخول فى العهد المقدس مع اللّه!!. لقد أدرك الجميع ما قاله دكتور تشارلس رينولدز براون: « إن النجاة أو الدفاع عن مدينة أورشليم لا يتحقق بمجرد بناء سورها فالقرميد والملاط والقلاع والشرفات، قد تحقق دفاعاً جزئياً..، غير أن أعدى أعداء أية مدينة ليس خارجها، بل داخلها، إذ أن أقوى دفاع فى حياة المدينة، ليس ما هو مادى، بل ما هو أدبى وروحى، فإن لم يحرس الرب المدينة بالمبادئ العظيمة والمثل النبيلة المستقرة فى عقول وقلوب مواطنيها، فباطلا يتعب الحارس الذي يحرس أسوارها »... « ومن ثم فإن الانتباه الأعظم ينبغى أن يتحول من أسوار المدينة إلى قلوب الناس الذين يسكنون فيها، إذ يلزم أن تتحول الأفكار إلى السبل الروحية التى يستطيع بها خادم اللّه إنهاض الحياة الروحية وتقويتها فى نفوس الناس، وهو يفتح الكتاب أما مهم معلماً إياهم شريعة اللّه السماوية بفهم وبيان » ومن المهم أن تختم هنا بما ذكره نحميا فى الأصحاح الثامن من جواب الشعب على الكلمة الإلهية إذ ردد بعمق وسجود: آمين آمين!!... والكلمة « آمين » من أكثر الكلمات شيوعاً وترديداً على لسان المؤمنين دون أن يدركوا على الأغلب عمقها وكنهها والكلمة فى أصلها العبرانى تعنى « ليكن هكذا »!!... فعندما نرددها فى صلاة أو ترنيمة أو بركة، نحن نقصد أن نقول فى الختام.. ليكن هكذا يارب، فإذا ردد المؤمنون معاً « آمين »، فإنها تبدو، كما كان المسيحيون القدامى يعتقدون، كالرعد الهارى أو موج البحر الذي يصفق على الصخور!!... وقد كان هناك تقليد عند الربيين اليهود أطلقوا عليه: « آمين اليتيم »... ويقولون إن هذه الآمين، هى التى يقولها الناس بدون وعى أو فهم أو تأمل،... وأن من يقولها يموت ويصبح أولاده يتامى!!... وعلى العكس من ذلك، إذا نطقها إنسان بكل هيبة ووقار وحرص وإيمان، فإن أبواب الفردوس ستفتح أمامه!!... ولا شبهة فى أن المجتمعين حول عزرا، هدر صوتهم كالرعد القاصف وهم يقطعون العهد مع اللّه فى صيحة قوية « آمين آمين ».. وعبر بهم الرجل برزخ الضياع والتقهقر والتعاسة والردة، إلى الحياة المباركة االتى خرجت من سبى أقسى من السبى البابلى، سبى الخطية والإثم والشر!!.. ليتك أيها الخاطئ، فرداً كنت أو بيتاً أو شباً أو كنيسة، تفعل هذا لتفلت من السبى القاسى الرهيب آمين آمين!!..
المزيد
14 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس عاموس

عاموس " لست أنا نبيا ولا أنا ابن نبى، بل أنا راع وجاني جميز "عا 7: 14 " مقدمة فى أوائل القرن التاسع عشر، هاجم واعظ أمريكى شعبى اسمه بطرس أكرز، تجارة العبيد، وكانت هذه التجارة فى ذلك الحين، مما يبيحه القانون، ولا يرى أغلب الناس فيها ضرراً أو شراً، على أن أكرز وأمثاله من المسيحيين، رأوا فيها وصمة عار فى جبين الإنسانية والمسيحية معاً، وأنه يجدر بهم مقاومتها مقاومة الحياة أو الموت،.. ووعظ بطرس أكرز عن الرق، وندد به، وأعلن أنه لابد سيسقط فى يوم من الأيام،.. وكان هناك شاب فى الاجتماع ينصت بكل جوارحه إلى كلمات الواعظ، وقد مست شغاف قلبه، وخرج من المكان ليؤكد لصديق له، أن شيئاً ما فى أعماقه، يحدثه عن الدور الذى سيلعبه فى هذه القضية التعسة، قضية الرق،... وكان هذا الشاب هو الرجل العظيم الذى عرف فيما بعد بمحرر العبيد « إبراهام لنكولن،.. ».كان لنكولن ابن حطاب وكان فقيراً معدماً، ولكنه كان فى الوقت نفسه أميناً صادقاً، نقى القلب، متسامحاً وديعاً، يدرك أنه لا يشترط بالضرورة أن يكون الإنسان غنياً أو متعلماً أو فيلسوفاً، أو ذا مواهب متعددة، حتى يختاره اللّه،... إنما المهم أن يكون نقى القلب، مطيعاً مستعداً أن يسير حيث يرسله السيد،.. كان عاموس النبى رجلاً فقيراً، إذ كان راعى أغنام وجانى جميز، وكلا العملين لا يؤديهما إلا الفقراء المساكين المحتاجون، ومع ذلك فقد أرسله اللّه برسالة رهيبة إلى مملكة إسرائيل، ومن الغريب أن هذه المملكة كانت فى أوج مجدها حين ذهب إليها عاموس، فى أيام يربعام الثانى ملك إسرائيل، ولكن عاموس لم ير المجد، بل رأى الوثنية والشر والفساد والإثم، فتنبأ عليها بالخراب والضياع والهلاك، ومع أننا لا نعلم على وجه التحقيق متى ذهب إلى بيت إيل لكننا نرجح أن نبوته كانت عام 760 ق.م.. وها نحن نتابع قصته فيما يلى: عاموس ومن هو فى قرية تقوع الواقعة على بعد خمسة أميال إلى الجنوب الشرقى من بيت لحم، أو عشرة أميال إلى الجنوب من أورشليم نشأ عاموس. والكلمة « عاموس » من أصل معناه « يثقل » أو « يحمل » وقد ذهب المفسرون لليهود إلى أنه دعى كذلك لأنه كان ثقيل اللسان، ولكن المرجح أن اسمه كان يشير إلى الرسالة الثقيلة التى كان عليه أن يحملها إلى إسرائيل، وما نظن أبداً أن الرجل كان ثقيل النطق، بل يبدو من لهجته أنه كان إنساناً صريحاً بسيطاً وديعاً، صافى النفس والروح والمشاعر، ومع أنه - على الأغلب - لم يكن متعلماً كثيراً، لكنه كان وافر الاطلاع على أسفار موسى والكتب المقدسة،.. وإذ لم يذكر الكتاب شيئاً عن أبيه أو عائلته، يرجح المفسرون أنه كان ينتسب إلى عائلة فقيرة مغمورة، ولكن هذا الإنسان الفقير المغمور الذى لم يدخل مدرسة الأنبياء، أو يولد إبناً لأحدهم، إذ كان راعياً وجانى جميز، تفتحت نفسه إلى اللّه، ولم تتلوث بشرور المجتمعات وضجيج المدن، ولذا فكثيراً ما يشبهونه فى طباعه ومزاياه، بيوحنا المعمدان، الذى عاش فى البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل!!.. عاموس ورسالته سبق لنا فى الحديث عن شخصية أمصيا كاهن بيت إيل، أن تعرضنا للفارق بينه وبين عاموس، أو الفارق بين الخادم المزيف والخادم الحقيقى، وقد حاول أمصيا طرد عاموس من أرض إسرائيل، بدعوى أنه من المملكة الجنوبية، وأن رسالته لا يجوز أن تتعدى أرض يهوذا أى المملكة الجنوبية، وقد رد عليه عاموس بالقول: « لست أنا نبياً ولا أنا بن نبى، بل أنا راع وجانى جميز. فأخذنى الرب من وراء الضأن وقال لى الرب: اذهب تنبأ لبنى إسرائيل » " عا 7: 14 و15 " ولعل هذه العبارة تكشف عن رسالته العظيمة إلى أبعد الحدود!!.. الدعوة إلى الرسالة فوق روابى تقوع عاش عاموس يرعى ضأنه ويجنى الجميز، وأغلب الظن أنه كان سيعيش هكذا، ويموت هكذا لو لم يأته الصوت الذى دعاه إلى النبوة وأخذه من وراء الأغنام. ويرى بعض شراح الكتاب أن الكلمة « من وراء » تشير فى الأصل العبرانى إلى عنصرى المباغتة والأمر، اللذين أحس بهما هذا النبى الراعى،... وقد تحقق عاموس من دعوته، واستجاب لها. وما من شك أن أصواتاً كثيرة كان يمكن أن تهتف فى أذنى عاموس، بأنه ليس كفواً لهذه الخدمة، كما أن هذه الخدمة ليست له، فما هو من سلك الأنبياء، أو من أبنائهم ولم يتدرب فى مدارسهم، فكيف يمكن أن يكون نبياً، ولم يتعلم علومهم؟!!... أليس هذا هو منطق الكثيرين الذى نسمعه فى القرن العشرين؟؟، ممن يظنون أن أبناء الخدام لابد أن يكونوا خداماً مثل آبائهم، يأخذون الخدمة بالوراثة أو ما أشبه،... كما يظنون أنه لابد أن يتوافر فى الخادم العلم العالى، وأنه لا يجوز لضئيل المعرفة أو العلم، ممن لم يصل إلى الشهادات العالية، أو لم يأخذ الدراسات الدينية المنظمة أن يكون خادماً... كلا، لقد كان عاموس نبياً وخادماً للّه دون أن يكون متعلماً، ودون أن يأخذ دروساً لاهوتية معينة... كما أن عاموس كان إنساناً فقيراً مغمور الأصل والنسب، يمتهن أصغر الأعمال والحرف، فكيف يجرؤ على أن يرقى عتبات الملوك والرؤساء والعظماء، ليقرعهم برسائله المرهبة؟!.. لكن الجهل أو الفقر أو وضاعة النشأة، لم تمنع هذا النبى من الإحساس العميق بدعوة اللّه!!.. ألا فلنسمع بعضاً من أقوال جوزيف باركر عن عاموس بهذا الصدد: « إن خدام اللّه لا يصنعون أنفسهم، فليكن المجئ إلى الخدمة مجيئاً ضاغطاً لا يقاوم، مصحوباً بالإحساس العميق لعدم الكفاية، ولتكن حياة الخادم ختما وشهادة ومصداقاً للدعوة، وسيجد اللّه خدامه،.. وأى رجال يدفعهم الناس للخدمة هم رجال مخطئون، قد يكونون لطفاء ولطفاء جداً، وقد يكون بعضهم بهى الطلعة وادع النفس برئ النظرة، له وداعة الأطفال وحلاوتهم، لا يحدث ضجيجاً ما فى مجلس، ولا يؤذى أو يبغض مخلوقاً، … ومع ذلك، فاللّه هو الذى يجد خدامه وقد يكون البعض الآخر خشناً عنيفاً ذا قرون ناطحة، وله تعليم لاهوتى منظم، ولكن المهم هو كيف يتكلم عندما يعظ، وكيف يلتهب ويهدد من جانب، ويرعى ويرفق من الجانب الآخر؟؟.. عندما يلتقى بالمتكبرين الذاتيين يشتعل بالغيرة المقدسة والسخط الإلهى، وعندما يلتقى بالمنبوذين والتعابى والمنفردين والضائعين، يقول قول السيد للمرأة التى أمسكها اليهود ليرجموها « إذهبى ولا تخطئ أيضاً ».. " يو 8: 11 ". مكان الرسالة «إذهب تنبأ لشعبى إسرائيل »... " عا 7: 15 " عندما يرسل اللّه رسولا يقنعه بالمكان الذى سيذهب إليه، وقد يكون هذا المكان بعيداً عن البيئة والأهل والعشيرة، وقد يكون مكاناً مرعباً مرهباً بغيضاً، لكن الواجب الأول علينا هو أن نطيع ونذهب إلى المكان الذى يختاره الرب، كان عاموس من المملكة الجنوبية مملكة يهوذا، وكانت تقوع فى الجنوب من أرض فلسطين لكن اللّه أمر عاموس أن يترك بلده وأهله ومملكته ليذهب إلى بيت إيل فى مملكة الشمال ويتنبأ عليها... إن فشل الكثيرين من الخدام والمرسلين، يرجع إلى أنهم يريدون أن يختاروا لأنفسهم الأماكن التى فيها يعملون!!.. ثقل الرسالة «فأخذنى الرب من وراء الضأن وقال لى الرب إذهب »... كان اسم « عاموس » - كما ذكرنا - يعنى الحمل أو الثقل، نسبة للرسالة الثقيلة التى كان عليه أن يحملها ويبلغها: « فقال السيد: ها أنا واضح زيجاً فى وسط شعبى إسرائيل. لا أعود أصفح له بعد، فتقفر مرتفعات اسحق وتخرب مقادس إسرائيل وأقوم على بيت يربعام بالسيف».. " عا 7: 8 و9 " وما أثقلها من رسالة، تلك التى يهاجم فيها فرد واحد أمة وملكاً وكهنوتاً وشعباً!!.. كان وراء الضأن وفى ظلال الجميز هادئاً وادعاً ساكناً آمناً، فما باله يقتحم المخاطر، ويمضى إلى عرين الأسد ليسمع قول أمصيا للملك: « وقد فتن عليك عاموس فى وسط بيت إسرائيل. لا تقدر الأرض أن تطيق أقواله » " عا 7: 10 " كان أمصيا - كما ذكرنا عند تحليل شخصيته - موتورا من الرجل الذى جاء يتهدده ومجده وكهنوته وبيته ومركزه فى وسط الشعب، وقد توعده وأرهبه، عساه أن يبتعد ويرجع إلى بيته وأمته،... على أن عاموس كان يحس ثقل الرسالة على وجه أشد وأقسى، لأنها كانت تتناول أمة عزيزة عليه، أثيرة على قلبه،... ولكنه لم يكن يستطيع التحول عنها يمنة أو يسرة، أو يتراجع عن إبلاغها، ولو كلفته حياته لأنها صوت الرب الذى تكلم إليه، أو كما قال: « السيد الرب قد تكلم فمن لا يتنبأ » " عا 3: 8 "!!.. غرابة الرسالة كانت رسالة عاموس غريبة لأنها تحدثت عن خراب إسرائيل، فى وقت كان إسرائيل يمرح فى حياة المجد والبذخ والقوة،... ولو أن كاتباً من كتاب التاريخ طلب إليه أن يتحدث عن عصر يربعام الثانى، لتحدث عن المجد والثروة العظمة والسلطان والقوة، وكان آخر ما يفكر فيه كلمة الخراب، لكن عاموس أبصر هذه، وأبصر فيها وخلفها الخطية، فنادى بالسقوط والانهيار، ولكن التاريخ دائماً يعطى صورة صادقة لفكر عاموس ونبوته، فإن الخطية هى السوس الذى ينخر فى عظام الأمة، فى صمت وخفاء، فإذا جاء الانهيار، فإنه يأتى مباغتة ودون توقع من أحد!!.. عاموس والعبادة الكاذبة كانت العبادة الكاذبة فى إسرائيل أس الداء وأساس البلاء، وقد وقف منها عاموس موقف التنديد والهجوم الصارخ، وكان من المستحيل عليه أن يهدأ أو يسكن، والعبادة الوثنية الشريرة تتفشى فى كل البلاد، ففى كل إسرائيل من دان إلى بئر سبع أقيمت المرتفعات المحلية والأنصاب لتمجيد البعل والعجل الذهبى، ويرجح أن بئر سبع والجلجال كانتا المكانين الرئيسيين لعبادة البعل، بينما كانت السامرة وبيت إيل مخصصتين للعجل الذهبى، ومما يدعو إلى الأسف والحزن والغرابة معاً، أن الإسرائيليين أرادوا أن يخلطوا بين النور والظلمة، والحق والباطل، واللّه والشيطان، إذ كانو يحفظون الطقوس،الفرائض، الأعياد، ويقدمون المحرقات والتقدمات والذبائح، ولكن على هذه المذابح الوثنية وبأسلوبها المنحرف الشرير، وها نحن نرى عاموس يتحدث عنها فى أسلوب تهكمى لاذع فيقول: « هلم إلى بيت إيل وأذنبوا إلى الجلجال وأكثروا الذنوب وأحضروا كل صباح ذبائحكم وكل ثلاثة أيام عشوركم » " عا 4: 4 " وقد رأى عاموس كذب العبادة من أكثر من وجه: عبادة من صنع الإنسان فالعبادة التى أقامها بنو إسرائيل فى دان وبيت إيل والجلجال وبئر سبع، عبادة من صنع الإنسان وتفكيره، وما عجول الذهب التى صنعها يربعام بن نباط إلا وليدة فكرة سياسية، فقد أراد أن يبتعد بالإسرائيلين بعد انقسام المملكة عن أورشليم وعبادتها السماوية، ولذا أقام فى دان وبيت إيل عجلى الذهب،... وأما بعد فهو الصورة التى ابتكرها الخيال الوثنى، لتعبر للعابدين عن الإله الذى يتخيلونه أو يتصورونه، وهنا يتم فيهم قول الرسول. « وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد اللّه الذى لا يفنى يشبه صورة الإنسان الذى يفنى والطيور والدواب والزحافات »... " رو 1: 22 و23 " إن كل عبادة كاذبة من أصل بشرى!!.. عبادة الإغراق فى الطقوس والملاحظ فى العبادة التى تحدث عنها عاموس، أنها عبادة طقسية، بل عبادة عمادها الأول والأخير الإغراق فى الطقوس، فالتقدمات والمحرقات والنذور كانت هائلة، وقد سخر النبى من العابدين وهو يقول: « وأحضروا كل صباح ذبائحكم، وكل ثلاثة أيام عشوركم »... والعشور سنوية، وكل ثلاث سنوات، ولكنهم أكثروا من تقدمتها بكيفية مذهلة عجيبة، والواقع أن الإغراق فى الطقوس نوع من الخداع النفسى الذى يلجأ إليه الإنسان لإراحة نفسه وتهدئة ضميره فى العبادة،... وماذا نقول اليوم عن الطقوس التى تصاحب العبادة والأعياد والأفراح والجنائز، الطقوس التى غدت ترتد بنا فى بعض المواطن، إلى ما يشبه الوثنية القديمة التى ندد بها عاموس!!.. العبادة التى لا خير فيها هذه العبادة لا خير فيها على الإطلاق سواء للأمة أو للأفراد، ولعل الدليل على هذا هو المصير المفزع الذى سينتهى إليه الجميع، وما سيصيب أماكن العبادة التى ستدمر تدميراً، فالجلجال ستسبى سبياً، وبيت إيل تصير عدماً، وسيقتحم الرب بيت يوسف كنار تحرق ولا يكون من يطفئها من بيت إيل،.. " انظر عا 5: 5 و6 " ولو أن العبادة كان فيها أدنى خير لغيرت حياة المتعبدين، الذين ظلوا على ما هم فيه من شرور، بل أمعنوا فى آثامهم وضلالهم حتى قال لهم النبى: « يا أيها الذين يحولون الحق إفسنتينا ويلقون البر إلى الأرض »!!.. " عا 5: 7 ". عاموس والعبادة الصادقة لم يكتف عاموس بالتنديد بالعبادة الكاذبة، بل وجه الأنظار إلى العبادة الصادقة، وكشف عن إتجاهها ومضمونها!!.. وهى: العبادة التى تطلب اللّه «اطلبوا " الرب " فتحيوا » "عا 5: 4 و6 " ولم يكن هذا الإله مجهولا أو محدوداً أو ضعيفاً أو مصنوعاً وفق الخيال البشرى، بل هو الإله المتعالى السامى المقتدر « الذى صنع الثريا والجبار ويحول ظل الموت صبحاً ويظلم النهار كالليل الذى يدعو مياه البحر ويصيبها على وجه الأرض يهوه اسمه » " عا 5: 8 " هو الإله الذى: « السموات تحدث بمجده والفلك يخبر بعمل يديه » " مز 19: 1 " الذى يستطيع أن يجعل القوى ضعيفاً، والضعيف قوياً يخرج النور من الظلمة، ويرسل الظلمة إلى النور، إله الطبيعة والإنسان، العارف بكل الأمور، والقادر على كل شئ..!! هذا الإله العظيم يقترب إلى الناس، ويقول: « اطلبونى فتحيوا ». ولعله من اللازم أن نشير دائماً، إلى أن العبادة، وإن بدت لأول وهلة طلب الإنسان للّه، إلا أنها فى الحقيقة هى طلب اللّه للإنسان، والدليل على ذلك مستمد من القول الإلهى: « اطلبوا الرب »... وهو قول يجاهد فيه اللّه وراء الإنسان، ويتجه إلى إرجاعه إلى الوضع الصحيح، فإذا نظرنا إلى العبادة بهذا المعنى، أضحى اللّه أسمى هدف يتجه إليه الإنسان، فهو يتجه إلى الحياة نفسها، فهنلك علاقة دائمة بين وجه اللّه والحياة، وبين الشركة مع السيد، وأفضل ما يمكن أن نصل إليه على الأرض،... إذ أن اللّه - فى الواقع - هو الحياة نفسها، ومن ثم كان الرسول بولس دقيقاً أبلغ الدقة وهو يقول: « لأن لى الحياة هى المسيح » " فى 1: 21 ".. وكان أوغسطينوس على حق وهو يقول: « قد خلقتنا لنفسك وقلوبنا لن تجد الراحة إلا عندك ».. العبادة التى تطلب البر إن العبادة فى إتجاهها إلى اللّه، لابد تتجه حتما إلى حياة البر والحق والقداسة، وهنا يقول عاموس: « أطلبوا الخير لا الشر لكى تحيوا فعلى هذا يكون الرب إله الجنود معكم كما قلتم. ابغضوا الشر وأحبوا الخير وثبتوا الحق فى الباب لعل الرب إله الجنود يتراءف على بقية يوسف ».. " عا 5: 14 و15 " « وليجر الحق كالمياه والبر كنهر دائم » " عا 5: 24 " لقد ضاق اللّه بالطقوس والفرائض: « بغضت كرهت أعيادكم ولست ألتذ بأعتكافاتكم. إنى إذا قدمتم لى محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضى وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عنى ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع » " عا 5: 21 - 23 " هل نعلم أن اللّه يهتم بحياة الحق والخير والبر والأستقامة، وأن هذا أجمل وأفضل وأقدس أمامه، من الاهتمام ببناء الكنائس، ورسومها، وجوقات الترنيم، وما أشبه؟!!.. عاموس والشرور الاجتماعية هاجم عاموس الشرور الاجتماعية التى أبصرها فى إسرائيل، هجوماً عنيفاً صريحاً لاذعاً، وهذه الشرور الاجتماعية ليست قاصرة على إسرائيل القديمة، إذ أن جرثومتها تكمن فى أعماق النفس البشرية الخاطئة، ولذلك ما أكثر ما نراها فى قصة التاريخ فى الشرق والغرب معاً، وما أكثر ما تراها - على وجه أدق وأخص - قبيل سقوط الدول العظيمة، فالذين قرأوا تاريخ سقوط الدولة الرومانية القديمة، أو الثورة الفرنسية، أو الثورة الشيوعية يعلمون أن جميع هذه الدول سقطت بسبب نفس الشرور التى هاجمها عاموس قديماً.. والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون، ولذا سنرى: عاموس والشهوات الحسية إن أقسى مأساة تصاب بها أمة أو أسرة أو فرد، هى الاستسلام للشهوات الحسية العالمية، وقد انغمس إسرائيل فى هذه الشهوات إلى آخر مدى، وليس أدل على ذلك من إنحراف الطبقة الأرستقراطية من النساء والرجال وراء جميع المتع واللذات، وها عاموس فى الأصحاح الرابع من سفره يدعو النساء « بقرات باشان » إذ أبصرهن يرتعن كالبهائم دون فهم أو عقل أو إدراك، فى رياض المتعة والشهوة والشرور، بل كن يحرضن أزواجهن على الطاس والكأس، وفى الأصحاح السادس يتحدث عما يصحب هذا الإغراق الحسى من آثام ودنايا... فساسة صهيون والرؤساء فى جبل السامرة، والنقباء فى أفضل مملكة فى الأرض، الذين يأتى إليهم بيت إسرائيل، يلتمسون الرأى والمعونة والإرشاد والمشورة، هؤلاء قد استكانوا إلى الراحة والأطمئنان والكسل والجمود، وإهمال الواجب... ولم ينتهوا إلى هذا فحسب بل نسوا العبرة التى كان يمكن أن تأتى إليهم ممن سلكو ا ذات السبيل قبلهم من الأمم المجاورة، وخربوا وهلكوا وضاعوا.. « أعبروا إلى كلتة وانظروا واذهبوا من هناك إلى حماة العظمة ثم انزلوا إلى جت الفلسطينيين » " عا 4: 2 " ثم تأمل رعونتهم وحمقهم وغباوتهم إذ « يبصرون يوم البلية » بمثل ما تفعل النعامة الحمقاء المطاردة الهاربة المعيية، عندما تدفن فى الرمال رأسها لتبعد عنها سهم الصياد وقوسه،... وانظر إليهم وقد أصيبوا بالبطنة، فهم يتهالكون على الطعام: « الآكلون خرافاً من الغنم وعجولا من وسط الصيرة » " عا 4: 4 " ومثل هؤلاء، ليس أمتع إلى نفوسهم أو أحلى من جلسات الغناء الماجنة الخليعة: « الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود. الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدهنون بأفضل الأدهان » " عا 4: 5 و6 " مع الجمود التعس عن الإحساس بالمسئولية وآلام الآخرين: « ولا يغتمون على انسحاق يوسف »... وهل يفعل الإغراق فى الشهوات الحسية فى كل الأجيال والأمم والجماعات والأفراد، غير ما فعل أيام عاموس؟ وأليست الشراهة والدعارة، والبلادة والاستهتار، والإستباحة والحيوانية، والضعة والبوهيمية، وجمود الفكر تبلد الشعور والضمير، هى الظواهر التى تصاحب عادة وأبداً – عابدى الجسد وأسرى البطن والشهوة واللذة؟!!.. عاموس والظلم وهل يمكن للشهوات أن تنمو فى تربة دون أن يتبعها الظلم؟، والظلم الرهيب الصارخ القاسى؟؟! وقد صدر هذا الظلم أول ما صدر عن المرأة، المرأة التى كان ينبغى أن تكون شعاراً للحنان والرقة والعطف، فبقرات باشان يصفهن عاموس بالقول: « الظالمة المساكين الساحقة البائسين » " عا 4: 1 " وأغلب الظن أن نساء إسرائيل قد ظلمن هؤلاء المساكين البائسين عن طريق أزواجهن وقد قسا الرجال بدورهم حتى كان يبلغ هذا الظلم مرتبة الإفناء: « المتهمون المساكين لكى تبيدوا بائسى الأرض » "عا 8: 4 " وقد صاحب هذا الظلم الكثير من الآثام والدنايا والشرور، فالرؤساء قبلوا الرشوة، ومن ثم تفشى فى القضاء الاعوجاج، ولم يستطع المسكين البائس أن يقف على قدميه، فجاع وتعرى، وبيع بثمن بخس رخيص: « الضعفاء بفضة والبائس بنعلين » " عا 8: 6 " وغمر الغش الأسواق، لنصغر الإيفة ونكبر الشاقل وتعوج موازين الغش » "عا 8: 5 " كان ظلمهم الأكبر لنفوسهم وللحياة وللواجب، هو طرحهم اللّه وراء الظهر، وضياع العبادة الحية الحيقية الكريمة. عاموس والعقاب القاسى وهذا ينتهى بنا آخر الأمر، إلى ما أعلنه عاموس عن العقاب الإلهى... فالإله العادل القدوس، هيهات أن يسكت أو يتغاضى أو يرضى عن آثام الناس وشرورهم، أو كما قال أحدهم: « قد ينجو الناس من العقاب البشرى كثيراً، فالعدالة البشرية، إذ هى بشرية، بعيدة عن الكمال، ومع ذلك فإن من لا ينجون من هذا العقاب أكثر كثيراً ممن ينجون، وقد يتأخر العقاب، ولكنه سيأتى فى صورة ما، بهذه الكيفية أو بتلك، ولنفرض أن الناس نجوا من العقاب البشرى، فهل يمكن أن ينجوا من مواجهة الضمير؟،... وإذا أمكنهم إسكات الضمير، فهل يمكنهم أن يخلصوا أولادهم من نتائج ما ارتكبوا من خطايا وشرور؟؟.. كلا، فليس هناك من نجاة.. »... لأن من يزرع للجسد فمن الجسد يحصد فساداً،... وقد زرع الإسرائيليون فحصدوا، وحصدوا حصاداً قاسياً شديداً، فقد جاءتهم الساعة التى تحول فيها كل مجدهم وعزهم إلى الهوان والجوع، والخوف والشقاء، فأين أيام بقرات باشان!!؟. لقد أخذن بخزائم فى الأنوف، وأخذت ذريتهن بشصوص السمك، ومن الشقوق خرجن إلى السبى والعار والتعاسة والفجاعة،... وهكذا أيضاً سادة صهيون ونقباء السامرة الذين ألفوا الناعمات نراهم وقد سيقوا سوق الماشية إلى السبى والعار والتشريد!!.. جاء تغلث فلاسر ملك آشور وقضى على بيت إيل، وجاء بعده شلمناصر وأخذ السامرة،... وعندما تبدأ أمة حياتها بالأصنام، كما بدأ يربعام بعجول الذهب، فإنها - إن آجلا أو عاجلا - ستتحطم هى وأصنامها معاً كما حدث لإسرائيل عام 722 ق. م. وليست إسرائيل وحدها بل كل أمم الأرض كما تشهد وتؤكد فصول التاريخ!!... أو كما قال أحدهم: عندما لم يبق فى قرطاجنة سوى الغنى الفاحش، والفقر الذريع، سقطت قرطاجنة تحت أقدام الرومان، وعندما نسيت روما هذا الدرس وتلاشت منها الطبقة المتوسطة سقطت عند أقدام الغزاة البرابرة الذين وفدوا إليها من الشمال!!.. هل لنا - كأفراد أو جماعات أو أمم - أن نطلب طلبة أجور ابن متقية مسا: « اثنتين سألت منك فلا تمنعهما عنى قبل أن أموت: أبعد عنى الباطل والكذب لا تعطنى فقراً ولا غنى، أطعمنى خبز فريضتى لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب، أو لئلا أفتقرو أسرق وأتخذ اسم إلهى باطلا » " أم 30: 7 - 9 ".
المزيد
07 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس صفنيا

صفنيا " اطلبوا البر. اطلبوا التواضع لعلكم تسترون فى يوم سخط الرب "" صف 2: 3 " مقدمة فى تقليد قديم، أن المسيح وهو خارج من مدينة أورشليم، سقط بصليبه أمام أحد البيوت هناك،... وخرج من البيت صاحبه ليصيح بكل قسوة فى وجه السيد: قم أعبر من هذا المكان!!.. ونظر إليه السيد متألما محزوناً وقال ّ: وأنت أيضاً ستعبر،... هذا هو اليهودى التائه فى كل العصور كما يصوره التقليد القديم، والذى لا يمكن أن يعرف الراحة أو يجدها ما لم يعد إلى السيد الذى رفضه وصلبه!!.. وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح،. فإن المؤكد أن مغزاها صحيح وسيبقى صحيحاً حتى يعود اليهودى مرة أخرى إلى يسوع المسيح!!.. إن النداء المشترك لجميع الأنبياء فى العهد القديم لليهود وغير اليهود، هو أن الخطية قاتلة ورهيبة ومدمرة، وأنه لا يمكن أن يفلت من عقابها مخلوق على ظهر هذه الأرض،.. وأن السبيل الوحيد لخلاص الإنسان منها هو الإيمان برحمة اللّه وحنانه وحبه، والعودة إليه بالتوبة الصادقة الكاملة،... وإذا كان بعض الأنبياء، قد ركزوا نبواتهم على الأمم الخاطئة فإن البعض الآخر كان أكثر تركيزاً على خطية اليهود وإثمهم وشرهم،.. وقد تناول صفنيا الاثنين. ولكن اهتمامه الأكبر كان بخطية يهوذا وأورشليم وأنه لا أمل أو رجاء للخلاص من يوم الغضب، يوم العقاب إلا بالتوبة والعودة إلى اللّه،... وقد مد الرجل بصرنا إلى اليوم الأخير، يوم الدينونة الأبدى الذى سيفرق تفرقة نهائية بين الأشرار والأبرار،... ولعلنا بعد ذلك نستطيع متابعة الرجل فيما يلى: صفنيا ومن هو لا يكاد يعرف الشراح ودارسو الكتاب شيئاً عن صفنيا النبى، خارج ما جاء فى سفره ونبوته، ومع ذلك فالعبارات التى ذكرت عنه، كافية لأن تكشف لنا شخصية عظيمة، لعلها كانت من أبرز وأعظم الشخصيات المعروفة فى عصرها، فنسبه يرجع فى الجيل الرابع إلى حزقيا الذى يرجح أغلب المفسرين أنه ملك يهوذا العظيم، ولذا فمن المعتقد أنه كان واحداً ممن جرى فيهم الدم الملكى، والاسم، صفنيا معناه: « الرب يخبئ » أو « الرب يحرس » ويشير إلى الشخص الذى يخبئه الرب ويحرسه فى يوم الخطر والدمار، وحيث أنه تنبأ فى أيام يوشيا الملك فمن المحتمل أن نبوته كانت بين عامى 639 - 608 ق. م، ومع أن أحداً لا يعلم على وجه التحقيق هل كانت نبوته قبل إصلاح يوشيا أم بعده، غير أنه معظم المفسرين المحدثين أمثال ديلتش وروبنسون وكيركبترك، يعتقدون أنه تنبأ قبل الإصلاح ومن المحتمل أن ذلك كان عام 625 ق. م. وعندما بدأ صفنيا نبوته كانت الأمة الأشورية قد أخذت فى التراجع والتقهقر، بعد أن بلغت قمة مجدها، أمام الكلدانيين الذين قاموا بغزواتهم الواسعة فى غرب آسيا، وابتدأ نجمهم يعلو ويرتفع ويسود بسرعة خاطفة وقوة مذهلة!!.. وأسلوب صفنيا يتميز بالصراحة والعنف والقوة والوضوح، ولئن كانت رسالته قد وجهت أولا إلى يهوذا وأورشليم، فإنها قد امتدت بعد ذلك إلى الأمم المجاورة، وأوغلت مع الزمن حتى بلغت يوم الرب الذى كان خراب أورشليم بمثابة رمز وظل ونبوة له... والبعض يقول إنه ربما لا يوجد فى الكتاب ما يعدل نبوته حزناً وألماً، وعلى أى حال فإن الرجل قد صور شناعة الخطية وعقاب اللّه لها، وكان أكثر الأنبياء والرسل فى الحديث عن يوم الرب، ويوم الرب إذا كان يشير مبدئياً إلى العقاب الذى ألم بأورشليم والممالك التى حولها، فإنه يرمز أساساً إلى اليوم الأبدى المخوف بين يدين اللّه المسكونة بالعدل والشعوب بالإستقامة، وحين يظهر الأرض من كل النجاسات والمفاسد، ويقيم العصر المجيد الذى تنزل فيه أورشليم السماوية من عند اللّه كعروس مزينة لرجلها!!.. وحين يحكم اللّه حكمه الأبدى فى المجد العتيد!!.. صفنيا وخطية يهوذا وأورشليم والممالك التى حولهما كان أساس الخطية - كما يفهمها صفنيا - الارتداد عن اللّه: « والمرتدين من وراء الرب » "صف 1: 6 " ومن الملاحظ أن هذا الارتداد جمع بين عبادة البعل، وعبادة اللّه، بين « الكماريم »، وهم الكهنة الذين يلبسون ثياباً سوداء فى خدمة البعل، وكهنة إسرائيل،... ولا مانع عند العابدين من عبادة النجوم والكواكب من فوق السطوح، وعبادة اللّه: والحلف باسم ملكوم،... والحلف باسم اللّه،... هذه الصورة تتحول فى كل العصور إلى ذلك الخلط الذى لا يبعد اللّه تماماً، محاولا أن يرضى النزعة الدينية التى لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عنها إذ الأبدية فى قلبه، ولكن لا مانع من تحويل مجراها إلى الوثنية والخرافة والحماقة التى تتباعد عن اللّه وحقه وقصده ورغبته ومجده، ومن هنا نجد صفنيا يصف يهوذا وأورشليم بالأمة « التى لم تتقرب إلى إلهها » " صف 2: 2 "... ولعل ماكتبه اسبرجن هنا يعد من الروائع، إذ قال: « كثير من الصلوات لا تعتبر صلوات!!. يوجد كلام كثير عن الحق، وكلام كثير لما ينبغى أن نفعله، ولكن ليس هناك سؤال عن اللّه، وليس هناك ذهاب إلى المخدع، وبسط الأمور أمامه، وانتظار رحمته،... ليس هناك فكر عن اللّه لأن العقل ليس قريباً منه، والرغبات تتجه نحو آلاف الطرق المختلفة، لكنها لا تأتى إلى اللّه... ينبغى أن نفكر فيه، ينبغى أن نبحث عنه، ينبغى أن نأتى إليه، كما تأتى الفراخ الصغيرة، عندما يكون صقر فى الجو، وتسمع نداء أمها فتأتى لتحتمى تحت جناحيها، ينبغى أن نجرى إليه بالصلاة حتى يمكن أن نتحقق أنه « بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمى ترس ومجن حقه » " مز 91: 4 " إن مأساة أورشليم أن عقيدتها فى اللّه وصلت إلى الحد الذى كان فيه الناس يقولون بقلوبهم - وإن كانوا لا يذكرون ذلك بألسنتهم -: « إن الرب لا يحسن ولا يسئ » " صف 1: 12 " أو كأنما هو لا يهتم بالتفريق بين الخير والشر، والحق والباطل،... وأنه لا يتدخل ولا يبالى بما يحدث على الأرض، ومن المؤسف أن هذه هى الخطية التى نبصرها اليوم، فى أناس قد يكونون مسيحيين إسماً، وبينهم وبين نفوسهم، أن اللّه لا سلطان له ولا عمل بين البشر!!.. كانت مدينة أورشليم، وهى على هذه الحال، تظن أنها أفضل من غيرها، ولكن صفنيا يصفها بالقول: « ويل للمتمردة النجسة المدينة الجائرة »... " صف 3: 1 " أو فى لغة أخرى، هى المدينة الغارقة فى إثمها وشرها وشهواتها، الجامدة على دروبها أى الشبيهة بالخمر العكرة التى رسب عكارها، فلم تنتقل من إناء إلى إناء لتتنقى!!.. وليس هذا فحسب، بل أكثر من ذلك، أن القادة والرؤساء فى وسطها أشبه بالأسود الزائرة فى قسوتهم،... ولعل أقسى ما تصاب به أمة أن يكون رؤساؤها قسوة القلوب، غلاظ المشاعر،... أما القضاة، فقد كانت شراهتهم لا توصف، إذ كانوا أشبه بذئاب المساء التى تنقض على الفريسة لتأكلها لحماً وعظماً،... ولا تبقى منها شيئاً إلى الصباح،... ولنتصور عالماً يكون قضاته على هذا الوصف، فهل ينصح بعد ذلك، إلا ظلماً وفساداً وشراً وإثماً... أما الأنبياء فهم متفاخرون، أهل غدوات، والكلمة « متفاخرون » تعنى أنهم يتكلمون من أنفسهم، بدون رسالة من الله،... وبذلك يغدرون بالشعب، وما أشر أن ينطق النبى عن الهوى والخداع، إذ يعيش المجموع بذلك فى عالم من الأضاليل والأباطيل، أما الكهنة فهم منجسون إذهم نجسون بأعمالهم وتصرفاتهم، كما أنهم خالفوا الشريعة فى نظمها وفرائضها ووصاياها... وهل يرى اللّه هذا ويسكت وهو الإله العادل الذى لا يفعل ظلماً، ووشيكاً سيظهر حقه وعدله كالنور؟!!.. على أن اللّه، وقد صب سخطه على خطايا يهوذا وأورشليم، لا يمكن أن يترك خطايا الممالك والبلاد التى حولهما، … إن الخطية خطية فى نظر اللّه، سواء يرتكبها اليهودى أو الأممى، فإذا كان اللّه قد ابتدأ ببيته، « فالفاجر والخاطئ أين يظهران؟... " 1 بط 4: 18 ".. وهو هنا يندد بخطايا الفلسطينين فى مدنهم الرئيسية، غزة، وأشقلون، وأشدود، وعقرون، وساحل البحر، ويتحول إلى كبرياء الموآبين وبنى عمون، والكوشيين، وأشور - لأن اللّه لا يمكن أن يسكت على الشر أو يتهاون مع الإثم!!.. صفنيا والتوبة الصحيحة عندما قامت الحرب العالمية الأولى، فتح اللورد غراى " وكان وزير خارجية إنجلترا فى ذلك الوقت " النافذة، وصاح: « على الدنيا السلام »، وأخذ يسأل نفسه: ترى هل نهضت بريطانيا متأخرة أم ضاعت الفرصة؟! وربما سأل تشرشل نفسه هذا السؤال، وهو يتحدث فى الحرب العالمية الثانية عن العرق والدم والدموع!!... ولعل هذا السؤال كان فى ذهن يوشيا الملك وصفنيا النبى، وهما يواجهان خطية الأمة ووثنيتها وشرها وفسادها الذى وصل - كما يقولون - إلى النخاع، وكان السؤال: هل ثمة من رجاء؟!!.. لقد سارع يوشيا بالإصلاح، على النحو الذى استطاعه، وكان بطلا دون شك،... ولكن يبدو أنه جاء متأخراً، وربما كان عابس الوجه والحياة، وهو يقوم بالجهد فى اللحظات الأخيرة،... ولعل صفنيا كان يراقبه فى جهده الكبير، ولكن أغلب الظن أنه كان أكثر تشاؤماً،... فإذا كان الإثنان ينتسبان إلى الملك حزقيا،... فإنها المأساة القاسية، إن واحداً آخر من السبط الملكى، يرى أمته تتجه نحو الخراب بجنون دون أن يتمكن أحد من وقف الكارثة،... إن إصلاح الشعوب، لا ينبغى أن يتناول المظهر، ويهمل الحقيقة، ولا ينبغى أن يتعلل بالشكل، دون الجوهر، أو بالصور المادية دون الروح،... ولعل ما قاله صموئيل شوميكر، وهو يصف أمريكا فى كتابه: « كيف تصبح مسيحياً »، يوضح هذه الحقيقة إذ يقول: « يخيل إلى مرات كثيرة أن الحياة ضاعت من نفس أمريكا، فالحرية التى كانت يوماً غايتنا وشهوتنا، أضحت اليوم ملكنا وفسادنا،... ولابد أن يحدث شئ ثورى فى نفس الأمة، كما حدث فى البلاد التى اكتسحتها الشيوعية،... فإذا كانت هذه البلاد قد فرضت عليها الثورة من الخارج، فإننا ينبغى أن نصنع ثورتنا من الداخل،... ومن واجبنا أن نتبصر الشر الذى يجرى فى العالم، والروح الشريرة فى الشيوعية التى ترغب فى استعباد العالم،... ما هى وماذا تعنى!!؟ غير أننا لا ينبغى أن نقصر النظر على ذلك، بل علينا أن نعرف ماذا أصاب أمريكا من فساد واستباحة ومادية، ولا دينية تنخر فى عظام الأمة،... فالفساد من الداخل، والشيوعية من الخارج يمكن أن يدمرانا، ما لم نردعهما، إنهما يحملان معول التدمير، إنهما يعمياننا عن الحق، ويخدران شبابنا... وخط دفاعنا الأول عن أمريكا لا يمكن أن يكون بعيداً عن أخلاق وإيمان شعبنا »... وهذا يتفق مع ما قاله أمريكى آخر: « إن ما تحتاج إليه الشعوب هو ضمير جديد، ليس ذاك الذى يحاول أن يجد عذراً أو تبريراً لما تفعل، بل الذى يقرر المبادئ التى يلزم أن تنهجها قبل أن تفعل شيئاً،... فأغلب الشعوب - القديمة كيهوذا والحديثة كأمريكا - تعتقد أن ما تفعله دائماً هو الصحيح، وأن ما يفعله أعداؤها دائماً هو الخطأ، وهذا لا يمكن أن يكون الواقع والحق!!... وقد صلى أحد الأمريكيين قائلا: « أبانا السماوى، نحن نصلى أن تنقذنا من نفوسنا. فإن العالم الذى صنعته لنا لنعيش فيه بسلام، قد حولناه إلى معسكر مسلح، إذ نعيش فى خوف دائم من حرب قادمة... ونحن نخاف: « من سهم يطير فى النهار ومن وبأ يسلك فى الدجى ومن هلاك يفسد فى الظهيرة »... ردنا عن طريق أنانيتنا فقد كسرنا وصاياك وأنكرنا حقك، وتركنا مذابحك لنخدم الآلهة الكاذبة من المال والشهوة والقوة،... سامحنا، وساعدنا!!.. فالظلام يتجمع من حولنا ونحن حائرون فى مشورتنا، وإذ فقدنا الإيمان بك، فقدنا الإيمان بأنفسنا،... هبنا الحكمة جميعاً من كل لون أو جنس أو عقيدة، لنستعمل ثروتنا وقوتنا لمساعدة إخوتنا بدلا من تدميرهم، وساعدنا لنتمم مشيئتك كما فى السماء، ولنكون أهلا لوعدك بالسلام على الأرض، واملأنا بإيمان جديد، وقوة جديدة، وشجاعة جديدة لنكسب معركة السلام.. اللهم أسرع إلينا لإنقاذنا قبل أن يحل الظلام!! ».. لم تكن التوبة الصحيحة أيام صفنيا قائمة، ولأجل ذلك لم يتحدث عن عودة من السبى كغيره من الأنبياء، بل تحدث فقط عن بقية انتزع اللّه كبرياءها وتعديها،فأضحت شعباً مسكيناً بائساً يتوكل على الرب: « بقية إسرائيل لا يفعلون إثماً ولا يتكلمون بالكذب ولا يوجد فى أفواههم لسان غش » " صف 3: 13 " ومثل هؤلاء لن يتركهم اللّه، بل بالحرى يفيض عليهم بالبركات والإحسان، فلن يعودوا إلى الاضطراب والقلق والخوف، فاللّه سيكون لهم وفى وسطهم معطياً إياهم بركات التوبة، بركة الترنم والهتاف، بركة القوة فلا ترتخى أيديهم ولا تخور عزائمهم، بركة التعالى والسمو، فلن يكون بينهم متعثر ضعيف مكسور ذليل!!... إن الذين يتوكلون على اللّه لا يمكن أن يصب عليهم حكماً أو قضاء، أو يرسل عليهم من يضايقهم أو يتعبهم، كلا فقد نزع الرب، الأقضية عليك، أزال عدوك ».. " صف 3: 15 " أما الذين ذهبوا إلى السبى، وتاقت نفوسهم إلى بيت اللّه وهيكله، وكانوا محزونين، بل يحسون العار الذى جاء عليهم بسبب الخطية، فهؤلا يقول عنهم: « اجمع المحزونين على الموسم. كانوا منك. حاملين عليها العار » " صف 3: 18 " ويدعوهم إلى الفرح والبهجة والترنم!!.. لأن الرب عاد إليهم ويسكن فى وسطهم!!.. صفنيا ويوم الرب على أن الصورة الأخرى التى رسمها صفنيا عن يوم الرب، كانت صورة رهيبة مرعبة، أخذت شكلها الأول فى غزو الكلدانيين والذى كان مخيفاً إلى أبعد الحدود، وقد وقف هذا الغزو على أبواب أورشليم ويهوذا، على أبشع ما يمكن أن يتصوره الإنسان: « نزعاً أنزع الكل عن وجه الأرض يقول الرب. أنزع الإنسان والحيوان. أنزع طيور السماء وسمك البحر والمعاثر مع الأشرار، وأقطع الإنسان عن وجه الأرض يقول الرب. وأمد يدى على يهوذا وعلى كل سكان أورشليم ».. " صف 1: 2 - 4 "« قريب يوم الرب العظيم قريب وسريع جداً. صوت يوم الرب. يصرخ حينئذ الجبار مراً. ذلك اليوم يوم سخط، يوم ضيق وشدة، يوم خراب ودمار، يوم ظلام وقتام، يوم سحاب وضباب، يوم بوق وهتاف على المدن المحصنة وعلى الشرف الرفيعة، وأضايق الناس فيمشون كالعمى لأنهم أخطأوا إلى الرب فيسفح دمهم كالتراب ولحمهم كالجلة، لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم فى يوم غضب الرب، بل بنار غيرته تؤكل الأرض كلها. لأنه يصنع فناء باغتاً لكل سكان الأرض!!.. » " صف 1: 14 - 18 " « لذلك فانتظرونى يقول الرب إلى يوم أقدم إلى السلب لأن حكمى هو بجمع لأمم وحشر الممالك لأصب عليهم سخطى كل حمو غضبى، لأنه بنار غيرتى تؤكل كل الأرض »... " صف 3: 8 ". ولعل من اللازم أن نشير هنا إلى أن ما تحدث به صفينا كان هو بعينه الذى تحدث عنه الرب يسوع المسيح فى الأصحاح الرابع والعشرين من إنجيل متى، والذى كانت فيه أورشليم وخرابها الرهيب القريب، رمزاً لذلك الخراب النهائى الشامل الذى سيلحق الأشرار فى اليوم الأخير،... وذكره الرسول بطرس فى قوله: « يعلم الرب أن ينفذ الأتقياء من التجربة ويحفظ الأثمة إلى يوم الدين معاقبين » " 2 بط 2: 9 "... وجاء فى رسالة يوحنا الأولى: « بهذا تكملت المحبة فينا أن يكون لنا ثقة فى يوم الدين لأنه كما هو فى هذا العالم هكذا نحن أيضاً " 1 يو 4: 17 " »... وفى سفر الرؤيا: « لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف » " رؤ 6: 17 ".. ولئن كان هذا اليوم يوم نجاة وسرور للمؤمنين، فما أرهبه وما أقساه على الأشرار! كما سبقت الإشارة فى وصفه، أو كما ذكر الرسول بولس فى رسالته إلى أهل تسالونيكى: « وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته فى نار لهيب معطيا نقمة للذين لا يعرفون اللّه والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح الذين سيعاقبون بهلاك أبدى من وجه الرب ومن مجد قوته. متى جاء ليتمجد فى قديسيه ويتعجب منه فى جميع المؤمنين» " 2 تس 1: 7 - 10 ".. إن يوم الرب بالحقيقة إذا كان للأشرار قديماً أو حديثاً أو فى النهاية عقاباً وعذاباً وضياعاً، فهو للمؤمنين أغنية ومجد وسلام، أو كما قال المرنم فى المزمور الثامن والتسعين: « اهتفى للرب يا كل الأرض اهتفوا ورنموا وغنوا، رنموا للرب بعود. بعود وصوت نشيد. بالأبواق وصوت الصور اهتفوا قدام الملك الرب. ليعج البحر وملؤه المسكونة والساكنون فيها. الأنهار لتصفق بالأيادى، الجبال لترنم معاً، أمام الرب، لأنه جاء ليدين الأرض، يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالإستقامة.
المزيد
30 يونيو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شمعي

شمعي "لأن الرب قال له سب داود" 2صم 16: 10 مقدمة كثيراً ما يسأل المؤمن هذا السؤال: ما هي الحكمة في أن يرسل الله من ينغص حياتك، ويقلق راحتك، ويقلب أمنك، ويهدد سلامك؟!!.. وأنت تصرخ مرات بلا عدد أن يرفع الله عنك هذا الضيق أو الشوكة التي تقض مضجعك، وإذا بالمنغص يزداد إمعاناً في شره وظلمه واستبداده وطغيانه، وإذا هو رسول حكمة علوية لا يدرك كنهها إلا من تدرب على معاملات الرب، التي قد تبدو غريبة أو عجيبة لمن هو أقل فهماً وإدراكاً وتأملاً،… ظهر هذا المنغص في طريق داود، ظهر ظالماً قاسياً متشفياً، ولم يره أبيشاي سوى كلب ميت يسب الملك،… ولكن داود كان له رأي آخر، إذ أن شمعي لم يكن عنده مجرد كلب يقطع رأسه أو لسانه، بل هو رسول من الله جاء إليه في اللحظة الدقيقة ليتمم أمراً إلهياً، على الملك أن يقبله بكل خضوع وتسليم واتضاع،… إن شخصية شمعي تعطينا صورة واضحة لا نقف فيها عند الأسباب الثانوية الظاهرة، بل نتغور معها إلى أسباب أعمق خفية إلهية، ولذا يمكن أن نراه من جوانب متعددة على الصورة التالية. شمعي المتعصب الأعمى والتعصب الأعمى هو مفتاح قصة شمعي بن جيرا، لقد كان شمعي من عشيرة بيت شاول بنياميني، لا يمكن أن ينسى أنه ينتسب إلى الأسرة المالكة التي ضاع كرسي الملك منها، وأن داود حل محل شاول، وأن سبط يهوذا أخذ مكان الرئاسة من سبط بنيامين،.. والتعصب الأعمى مهما كان لونه وصورته، هو شر وباء يمكن أن يصيب فرداً أو جماعة، وأنواعه متعددة لا حصر لها،... ولكنها دائماً تخلف الهلاك والدمار وراءها،... فهناك التعصب القومي الذي يكاد يكون خلف أغلب الحروب بين الناس، والذي جعل أبا هنيبال القرطجني يطلب أن يقسم ابنه على المذبح أن يكره روما إلى الأبد،... والذي صنع العداء التقليدي بين اليهود والسامريين، والذي أنشأ أسطورة "ألمانيا فوق الجميع" وقاد العالم في القرن العشرين إلى الحربين العالميتين الأخيريتين بما تركتا من آثار رهيبة مدمرة،... وجعلت استيفن ديكاتور الضابط في البحرية الأمريكية أن يضع شعاراً أمريكياً بشعاً قائلاً: "أنا مع بلدي في الحق أو الباطل على حد سواء"... ولم يستطع أمريكي مسيحي أن يقبل هذا الشعار، فصححه: "أنا مع بلدي في الحق، غير أني أصححه عندما ينساق وراء الباطل"... سخر وينفرد هيلتباي من حماقة التعصب الأحمق، في قصة كتبها تحت عنوان: "صوت الله"... وفيها يتخيل ما يحلم به الناس، من أن جميع الأصوات محفوظة، وقد اخترع أحدهم آلة تستطيع بأن تأتي بهذه الأصوات من الماضي، وقد راق له أن يحضر أمام جمع يتكلم الإنجليزية، صوت المسيح،.. وعندما تكلم السيد حصلت همهمة وتذمر وغضب، لأن الصوت لم يتكلم بالإنجليزية، بل تكلم بالأرامية، كما كان المسيح يتحدث إلى معاصريه في تجسده على الأرض!!... وهناك التعصب العقائدي الذي عذب جاليليو الذي نادى بنظرية دوران الأرض حول الشمس، وأنها كروية، وذات مرة أرغموه أن يركع ويقول أن الأرض مسطحة، وركع وقام ليقول: ولكنها كروية،.. وسجن روجر بيكون لمدة عشر سنوات، وهو يقوم بأبحاثه في الطبيعة والكيمياء، وإذ عرض ما اكتشفه حكم عليه بالسجن بالزعم أنه يتعامل مع الشيطان،... وفي المجال الديني البحت كم ذهب العديد من الشهداء، ضحايا الحماقة والخرافة والجهل، وكم عانى لوثر في القرن السادس عشر، والميثودست في القرن الثامن عشر، ورجال جيش الخلاص في القرن التاسع عشر،.. وهل قرأت قصة ذلك الشاب الزنجي الذي طلب أن ينضم إلى كنيسة من كنائس البيض، أحرج الراعي، إذ أن حياة الزنجي لا تمنعه قط من الانضمام،... ولكن الراعي يعلم أنه سيثير ثائرة البيض إذا سمح له بهذا الانضمام،... وإذا أراد مخرجاً من حريته... قال له: لنصل ونتقابل بعد ذلك،.. وبعد شهور التقى به في الشارع وسأله: لماذا لم يأت إليه مرة أخرى؟.. وأجاب الشاب: لقد صليت وأعطاني المسيح الجواب... وقال الراعي: وماذا قال لك؟!! أجاب! قال لي لا تفزع لأني أنا واقف على باب هذه الكنيسة منذ عشر سنوات وأقرع ولم يفتح لي أحد الباب!!.. وهل نعود لنذكر الحروب الرهيبة التي قامت بين الأديان المختلفة، والاضطهادات الدينية البشعة في كل جيل وعصر، وليس فقط بين الأديان المختلفة، بل بين المذاهب المتعددة في الدين الواحد، وكلها لم تخرج إلا من التعصب الأحمق البغيض.. وربما إلى اليوم لم يعرف العالم كثيرين لهم الخيال الخصب الذي كان ليوحنا بنيان في سياحة المسيحي، والحرب المقدسة... وفي الحرب المقدسة يصور بنيان نفس الإنسان أشبه بالقلعة الحصينة ذات الأبواب الخمسة التي أطلق عليها، باب الأذن، وباب العين، وباب الفم، وباب الأنف، وباب اللمس، ويقصد الحواس الخمس في الإنسان، وعندما يأتي عمانوئيل ليفتح القلعة، يجد عدو الخير قد حصن باب الأذن مثلاً بالمتعصب الأعمى ومعه ستون من الجبابرة الذين لا يبالون بأحد على الإطلاق".. كان شمعي بن جيرا واحداً من هؤلاء المتعصبين التاريخيين بكل ما في كلمة التعصب من معنى... شمعي الوضيع الخسيس ربما ليست هناك فرصة يمكن أن تتعرف فيها على معدن الإنسان وطبيعته وصفاته، كما تراه في وقت المحن والآلام سواء بالنسبة له، أو بالنسبة لغيره من الناس،.. وقد كشف شمعي بن جيرا عن معدنه الخسيس الوضيع، عندما خرج داود في محنته القاسية هارباً من أورشليم أثر ثورة إبشالوم ابنه عليه،.. ولقد كان شمعي "قاسياً" في منتهى القسوة، إذ لاقى داود في أضعف لحظة من لحظات حياته، وإذا كان من المباديء الأساسية في المبارزة أو المصارعة أو الملاكمة التوقف عن المناضلة مع خسم ساقط إلى الأرض، أو سقط سلامه من يده،.. كما لا يعد شهماً أو رجلاً ذاك الذي يفرح أو يشمت ببلية آخر،.. فإن شمعي بني جيرا كان من ذلك النوع القاسي الذي فقد كل مرؤة أو شهامة، تجاه رجل منكوب في محنة من أقسى المحن التي مرت به في حياته!!... وكان شمعي إلى جانب هذا "جباناً" انتهز فرصة مرور داود أمام بحوريم وهي مدينة من مدن سبط بنيامين، وكان حريصاً أن تكون المسافة بعيدة بينه وبين أية محاولة لمطاردته، ليهرب إذا حاول من أحد من رجال داود القضاء عليه، ومن هناك ابتدأ يسب داود ويرمي عليه التراب والأحجار، وذلك منتهى الجبن والضعة،.عندما هرب نابليون من جزيرة ألبا كتبت الصحف الفرنسية عنه "الوحش يهرب من ألبا"، وإذ اقترب من فرنسا كتبت "نابليون يهرب إلى فرنسا".. وإذ دخل فرنسا كتبت "الامبراطور يدخل البلاد".. على أنه كان كاذباً، إذ كان "كاذباً مفترياً" نسب إلى داود ما هو براء منه، بعلم الجميع، لم يكن داود بالنسبة لبيت شاول رجل الدماء "قد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول".. بل بالأحرى الرجل الذي وقع شاول في يده مرتين، ولكنه رفض أن يمسه، ولم يكن داود أكثر من ذلك "رجل بليعال" الرجل الذي تحول عن الرب، وابتعد عنه، وعبد آلهة أخرى،.. كان وصفه بهذه الأوصاف غاية الظلم، وعكس الحقيقة على وجه كامل،... ولكن الإنسان المتعصب ليس هناك حدود لافترائه وكذبه،.. ولا حاجة إلى القول أنه إلى جانب هذا كله كان "غادراً" يطعن الملك الشرعي للبلاد في ظهره، يرحب بالثورة ويتمنى نجاحها، بل يؤكد هذا النجاح بدافع الرغبة الدفينة في قلبه للغدر والخيانة،... وهو في عرف أية قوانين شرعية خائن لمليكه، تحكمه قواعد الخيانة العظمى!!.. شمعي العصا الإلهية المستخدمة على أن شمعي -مع هذا كله- يبدو في نظر داود شيئاً مختلفاً تماماً عن مجرد نظرة أبيشاي أو غيره من السائرين معه من الناس أو الجنود، لم يزد شمعي في نظر أبيشاي عن أكثر من مجرد كلب حقير ينبح، ويلزم إسكاته، أما في نظر داود فكان عصا الله المستخدمة لتأديبه، وهو لهذا يتصرف مع شمعي تصرفاً آخر، فهو "الصامت" الذي لا يشكو بل يقول بالحري: "دعوه يسب" ومع أنه كان يملك أن يتكلم، ومع أن الذين حوله كانوا يملكون ما هو أكثر من الكلام، لكنه مضى في طريقه كأصم، ووضع رأسه ووجهه في التراب، ولعل هذا أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان، عندما يلتقي بالأحمق الذي لا يحمل أن نرد عليه حتى لا نتساوى معه في الحماقة،... ولعلنا في الصمت نمتد إلى آفاق أبعد، وراء ذاك الذي كان أفضل وأعظم من داود: "ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه".. "وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء"... وهنا يحق القول إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!!... وهو "المعترف بالخطأ" وليس بما يزعمه شمعي، فهو بريء من هذا كله، ولكن الضمير في تلك اللحظة كان له حسابه العميق معه،.. إن الذي يظهر أمامه في الطريق، ليس شمعي بن جيرا، بل آخر اسمه، أوريا الحثي ودم أوريا يصرخ في وجهه، ومع أنه يعلم علم اليقين بأن الله غفر خطيته، إلا أن لطمة الضمير كانت تصفعه في تلك اللحظة على وجهه، وهنا لابد من السؤال: ألم يتب إلى الله؟؟ وألم يصرخ مزموره العظيم بهذه التوبة التي قبلها الله، ورفع عنه إثمه وخطيئته؟؟ فهل كان غفران الله كاملاً وشاملاً، أم أن الغفران الإلهي مجزأ ومحدود؟؟.. لا شبهة في أن غفران الله كامل وشامل، ولكن هذا الغفران الكامل لم يمنع الرسول بولس أن يقول بعد سنوات طويلة من غفران الله: "أنا الذي كنت مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ولكنني رحمت إذ فعلت بجهل في عدم إيمان" وقد تعقبته ذكريات الخطية لا لتقلق مضطجعه، بل لكي تعلمه الاتضاع، وإدراك شر الخطية وبشاعتها، فهي حاجز واق يكشف له الضعف البشري يوم تتخلى النعمة الإلهية عن أي إنسان على ظهر هذه الأرض"!!.. وها نحن نرى هنا داود في كل خضوع وتسليم واحترام لمشيئة الله وقضائه وإرادته، وهو يضع "التفسير الصحيح" لتصرفات شمعي،.. وهنا يختلف داود مع أبيشاي -وقد سبق له الاختلاف- في مفهوم العناية عندما عبرا إلى شاول النائم والذي سقط تحت يد داود، وأراد أبيشاي أن يأذن له داود بالقضاء عليه بضربة واحدة، معتقداً بأن الرب قد أوقعه في يده، ولكن داود رفض هذا التفسير، ورأى في الأمر -بالعكس- امتحاناً من الله، لأنه لا يستطيع أن يقتل مسيح الرب ويتبرأ،.. وهنا لا يرى أبيشاي أيضاً إلا الصورة البشرية، كلب ينبح، ومع أن الكلب الذي ينبح يعتبر كلباً حياً، إلا أن أبيشاي يراه أقل من ذلك، إذ هو كلب ميت،.. أما داود فإنه يرى صورة أخرى تختلف كل الاختلاف، إذ يراه عصا الله المؤدبة، ولتكن هذه العصا ما تكون، لكن داود يرى يد الله خلفها، وهنا نحن نقف أمام حقيقة من أضخم الحقائق الكتابية، ألا وهي الأسباب الثانوية والأسباب الأصيلة، أو الأسباب الظاهرة، والأسباب الخفية،... وإذا كانوا يقولون إن في المحيطات والبحار يوجد تياران: التيار الظاهري الذي يدفع الأمواج ويرفعها إلى أعلى أو أسفل، والتيار الخفي العميق الذي يدفع المياه، وهو التيار الصحيح الحقيقي الذي يحرك المياه ويسيرها..كان إبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا الأسباب الثانوية، الظاهرة، لكن السبب الحقيقي هو ما قاله الرب على لسان ناثان: "لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس"... لقد عفا الله عن داود كشخص، ولكنه يعاقبه ويؤدبه كقائد جلب عثرة كبيرة أمام الشعب، وجعل أعداء الرب يسخرون،.. وإذا لم يعاقب الله العثرة، فسيستهين الجميع بالخطية ويشربون الإثم كالماء،.. إذا أصيب الإنسان بمرض الجدري، وشفى منه، ستنتهي آلامه وأخطاره، لكن آثاره ستبقى في الجلد، وسيغفر الله لكل إنسان جاء إليه تائباً، لكن الجسم الذي حطمته الخطية، لا يمكن أن يعود -بعد أن أوغل الإنسان فيها- سليماً كالذي عاش حياته عفا نقياً من بدء الحياة!!.. ومن اللازم أن نعلم أن الله يستخدم جميع الوسائل والناس، ويسيطر على الخير والشر، وعلى الأخيار والأشرار لإتمام مقاصده، ومن القديم قال يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً وأما الله فقصد به خيراً"... وقال شمشمون في أحجيته المعروفة: "من الآكل خرج أكل ومن الجافي خرجت حلاوة".. وقال بولس: "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده".. كان يهوذا الاسخريوطي -وهو يتمم أبشع جريمة في التاريخ- كان يتمم هذا وهو لا يقصد مشورة الله المحتومة التي لابد أن تكون!!.. قال أحدهم ربما لم يكن في ركب داود في ذلك اليوم من استطاع أن يفهم عمق التفسير لكلمات داود سوى ناثان النبي،.. ومن أعظم الأمور عند المؤمنين قدرتهم في التعمق والوصول إلى الأسباب الحقيقية لمعاملات الله معهم في الحياة، بل أن التغور إلى الأسباب الحقيقية سيرفع عن المرء الكثير من الثقل والمرارة، وسيفتح أمامه طريق الرجاء والأمل والانتصار على المحنة والمعاناة،.. أن تتحول من شمعي إلى الله، وأن يختفي الإنسان مهما كان نصيبه أو مسئوليته، وأن نرى الله، ولا شخص غير الله، سنجد السبيل إلى ما هو أفضل وأسمى وأعظم أو كما قال داود في مرة أخرى: "قد ضاق بي الأمر جداً فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان"... لقد اعتنق داود فلسفة طيبة تجاه تصرف شمعي، لقد هون الأمر على نفسه بصورتين: الصورة الأولى إذ قارن بين عمل شمعي وعمل إبشالوم، فإذا كان إبشالوم قد أجاز لنفسه وهو ابن داود أن يثور على أبيه، فكم بالحري هذا البنياميني البعيد، وكانت الصورة الثانية أبعد وأعمق إذ هي صورة الله، الذي سمح لشمعي أن يفعل هذا، ولا توجد بلية في الأرض إلا والرب صانعها، بهذا المعنى البعيد والعميق، إن النظر إلى الإنسان مرات كثيرة انتهى بالناظر إلى طريق مسدود، لكن النظر إلى الله دائماً يتفجر بالرجاء والأمل، كان داود دائماً يعلم أن الله لا يحتقر البتة القلب المنكسر والروح المنسحقة، ولأجل ذلك غطى رأسه ومشى حافياً ذليلاً في ذلك اليوم واستسلم باليقين لمراحم الله الصادقة والكثيرة، وهو يدرك تماماً أن الله لا يسمع سب الرجل الكاذب المفتري المسيء وهو شديد الأمل أن الله لا يرضى بالافتراء والتجني والكذب،.. هل نعي هذا الدرس من داود، أو بالأفضل والأعظم من ابن داود الذي قال فيه الرسول بطرس: "لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزاناً متألماً بالظلم لأنه أي مجد هو إن كنت تلطمون مخطئين فتبصرون بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله لأنكم لهذا دعيتم فإن المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركاً مثالاً لكي تتبعوا خطواته الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشتِم عوضاً وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل"؟!.. شمعي المنافق قضى على الثورة في مهدها، وأدرك شمعي أنه قامر وراهن على الفرس الخاسر، وأسرع لمواجة الموقف فجمع ألفاً من البنياميين ونزل مع رجال يهوذا للقاء الملك، وسقط على وجهه أمام داود واعترف بإثمه وافتراءه، وطلب العفو والصفح والغفران، وهنا يظهر مرة أخرى أبيشاي طالباً القضاء عليه،.. ولكن الملك كان في تلك اللحظة مأخوذاً، مشدود النفس، لا يرغب في توسيع الجراح أو مدها، أو إراقة دماء أخرى بعد مصرع ابنه، فرفض أن يرى نقطة أخرى من دم تراق في يوم النصر، وحلف للرجل ألا يقتله، خاصة وهو لا يأتي بمفرده، بل يأتي بأسلوب ماكر بألف رجل بنياميني معه،.. ومع أن انبطاحه أمام الملك، واعترافه الكامل بإثمه، وطلبه العفو يمكن أن تكون هذه أركان توبة صحيحة لو أنه كان في الداخل، كالخارج قد تاب حقاً، ولم تأت التوبة نتيجة خوفه من الملك وليس حباً فيه، أو رغبة في الولاء له،.. إن توبة شمعي في تصورنا أشبه بتوبة عيسو التي لم تأت إلا لإحساس الندم على الخسارة التي ألمت به لفقدان البركة: "فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع ".. ومع أن داود وعده، وحافظ على وعده معه طيلة حياته، وعفا عنه بقسم أمام الرب.إلا أن السؤال مع ذلك يبقى: ولماذا لم ينس داود مع عفوه هذا عمل الرجل، وذكره لابنه سليمان وهو في ضجعة الموت، طالباً منه أن يتصرف معه بالحكمة، وبالكيفية التي تجعله يحدر شيبته بالدم إلى الهاوية؟؟.. أهو الضعف البشري الذي فرق بين داود في العهد القديم وابن داود في العهد الجديد؟؟ وأن المسيح ارتفع بنا إلى صفح غير المحدود والشامل والكامل، إذا قورن بصفح العهد القديم المحدود والجزئي والناقص؟!!.. أم هي التفرقة التي يدعو إليها بين الإساءة الشخصية إلى داود، والإساءة إليه كمسيح الرب،.. وأنه إذا كان يملك العفو عن الإساءة الشخصية التي توجه إليه كشخص، فإنه لا يملك العفو عن الإساءة التي وجهت إليه كمسيح الرب،.. وهو يطلب أن يتعامل معه بالحكمة التي لا تجعله ينسى أنه كيوآب ثار على الملك الشرعي الممسوح من الله، وعقابه حسب الناموس الموت؟!!.. أم أن الوصية كانت منصرفة أساساً إلى خطورة الرجلين على سليمان كملك، وأنهما أشبه بالحية التي لا يؤمن جانبها، مهما كان مظهرها أملس ناعماً، وما أسرع ما تلدغ متى واتتها الفرصة، وعلى سليمان أن يتعامل معها بكل حكمة وفطنة كما يتعامل من الأفعوان الخطر؟!!.. قد يكون الجواب في واحد من هذه، أو فيها جميعاً معاً،.. لكننا نعلم -على أي حال- أن الرجل كان مرائياً منافقاً يبطن غير ما يظهر، وهو على استعداد الطاعة فقط في الظاهر دون الخفاء، وقد أطاع كارهاً ما أمره به الملك سليمان في البقاء في أورشليم دون الخروج منها، حتى اضطر إلى الخروج بحثاً عن عبدين هاربين، ولم يدر أنه هو كان عبداً هارباً من وعده، والرياء أو النفاق لابد له من عقاب طال الزمن أو قصر!!.. وانتهت قصة شمعي بقتله، وحصد الرجل ما زرع، وكان لابد أن يكون الحصاد من نفس الزرع لأنهم لا يمكن أن يجتنوا التين أو العنب من الشوك أو الحسك!!... ولعل القصة بعد هذا كله ترينا أن الخطأ -مهما كان يسيراً أو جسيماً- لا يمكن علاجه بالنفاق والرياء، بل على العكس سيتحقق الخلاص بالاتضاع والتسليم والصدق والصراحة،.. لقد كانت خطية داود أشنع بما لا يقاس من خطية شمعي، وقد قبل داود من الله ما فعل به شمعي بكل صبر وتسليم وكأنما يقول: "صمت لا أفتح فمي لأنك أنت فعلت" ورفع الرب عن كاهله المحنة القاسية: "لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء". وعلى العكس فليس أقبح أمام الله من الرياء، وحق للسيد المسيح أن يصف نهاية العبد الرديء الشرير الذي يضرب رفقاءه بالقول: "يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائين" وهكذا كان نصيب شمعي بن جيرا كواحد من أظهر المرائين وأخسهم وأوضعهم في كل التاريخ!!..
المزيد
23 يونيو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شمشون

"دعا شمشون الرب وقال يا سيدي الرب اذكرني" قض 16: 28 مقدمة لست أظن أن هناك قصصاً كثيرة، يمكن أن تتحدث عن بطش الخطية وقسوتها وطغيانها، كم تتحدث قصة شمشون الجبار،.. هل لك أن تحدثني عن الشاب الذي التقى في كروم تمنة بشبل أسد يزمجر، ورفض الاثنان أن يفسح أحدهما الطريق للآخر، وانقض الشاب على الأسد ومزقه كشق الجدي وليس في يديه شيء.. وعاد بعد أيام ليرى دبراً من النحل في جوف الأسر مع عسل، فاشتار منه على كفيه، وأكل، وأعطى أبويه معه فأكلا؟؟!! وهل رأيت نفس الشاب وقد أنامته امرأة على ركبتيها، وكان موسى الحلاقة الناعمة أشد فتكاً من أنياب الأسر،.. وذهب العهد الذي يربطه بمصدر قوته، فقلعت عيناه، وربط بسلاسل نحاس، وكان يطحن في بيت السجن؟؟! وهل رأيت شمشمون الأعمى، وقد طحنه الألم، فثاب إلى رشده، وابتدأ شعر رأسه ينبت، وعاد إلى مصدر عهده وقوته؟؟، وهل رأيت النعمة تأخذه في حضنها الأبدي، وهو يصلي أن يغفر الله له، ويذكره؟؟.. وهل رأيت كاتب الرسالة إلى العبرانيين، وهو يكشف عن رحمة الله العظمى، وهي تضم شمشون إلى قائمة أبطال الإيمان في الأصحاح الحادي العشر عن الرسالة؟؟.. أن قصة شمشون تحمل في الواقع أرهب تحذير وأرق نداء، ولعلنا بعد ذلك يمكن أن نراها من الجوانب التالية: شمشون.. من هو؟؟!! دعته أمه شمشون والكلمة عند البعض: شمس وعند آخرين "مشمس" وهي في تصور يوسيفوس تعني "القوة" وربطها البعض بالكلمة شماس، وتعني الخدمة، وهي في المعنى الغالب تفيد النور القوى المبهج، ولد من عائلة من أعظم العائلات في عصرها، كان أبوه -كما يقول يوسيفوس- أعظم رجل في عصره، كان تقياً مقدساً رقيق المشاعر،.. وكانت أمه امرأة عظيمة، ربما تفوقت في إدراكها وتقواها عن أبيه.. ويمكن أن نراه من نواح متعددة الشخص المشمس المنير،.. إنه المنير في ذاته يبدو عندما ولد صحيح البنية جميل الطلعة، وقد أخذ شعره ينساب على كتفيه مع الأيام، ويبدو أنه كان شديد العناية بشعره إذ جعله سبع خصل، وفي هذا كله كان أدنى إلى الشمس الساطعة، فإذا أضفنا إلى ذلك روحه المرحة الحلوة، إذ لم يكن مظلم الوجه، كئيب النفس، بل هو الإنسان المرح، صاحب الفكاهة الحلوة، والأحجية البهة، واللغز الطروب، ولعلك تستطيع ملاحظة هذا كله من أقواله وأفعاله، فهو يحاج أصحابه أحجية، وهو يحرق الأكداس والزرع والكروم بأسلوب مضحك، فهو يجمع ثلاثمائة ابن آوي ويربط كل ذيلين معاً، مع مشعل في وسطهما، وإذا بالثعالب تجري على نحو غريب مضحك، والنار من المشاعل تحرق كل شيء،.. وهو يدخل إلى غزة ويجد الكمين يريد أن يحاصره في المدينة، فإذا به يقلع مصراعي باب المدينة والقائمتين والعارضة، ويحمل الكل على كتفيه ويصعد الجبل مقابل حبرون.. كان صاحب القلب المرح والفم الضحوك،.. وهو المنير في بيته، كانت أمه عاقراً، وكانت تحن إلى ولد، وجاءها رجل، وكان منظره كمنظر ملاك الله مرهب جداً، وتحدث إليها عن الولد المرتقب،.. ومنعها من أن تشرب خمراً أو مسكراً أو تأكل نجساً، لأن الولد سيكون نذيراً للرب من بطن أمه،.. ولم تكن المرأة في حاجة إلى خمر، لأن الخبر في حد ذاته أسكرها وأسكر زوجها، وكان الولد نور البيت المتلألئ المشرق، والأولاد في العادة نور البيوت، فكيف بهم إذا كانوا على النحو الخارق الذي كان عليه شمشون.. وهو المنير في أمته، إذ كان بطل الأمة وملاؤها، تتجه إليه في لحظة من أدق اللحظات عندما خيمت الظلمة والضيق والتعاسة على شعبه وبلاده من اضطهاد الفلسطينيين في ذلك الوقت!!.. وهو المنير في عصره، إذ كان المرهب المخيف، الذي يثير بعضلاته المفتولة، وقوته الخارقة الأصدقاء والأعداء على حد سواء،.. وهل يكون الأمر غير ذلك، والناس إلى الآن في القرن العشرين، تقيم المباريات المحمومة بين المصارعين والملاكمين وأبطال كمال الأجسام، وتجزل لهم العطاء، وتنقل الأقمار الصناعية مبارياتهم، إلى عالم مشدوه ذاهل يكاد يتوقف عن العمل وهو يراقب صراعهم، وملاكماتهم، وألعابهم؟!!.. هذا هو شمشون إذا شئنا أن نتعرف على شخصيته وطبيعته!!.. شمشون وشعره ولا يستطيع الإنسان أن يعرف قصة شمشون على حقيقتها، ما لم يقف عند هذا الشعر العجيب الذي كان ينسدل على كتفيه، والذي طال، ووزعه شمشون إلى سبع خصل، وكان هذا الشعر أشبه بعرف الأسد حول الرجل الجبار، كان رمز العهد أو المعاهدة التي تربطه بالله من بطن أمه،.. فلنقف قليلاً من هذه المعاهدة أو العهد لنرى معناه ومغزاه.. إنه أولاً: العهد السري بينه وبين الله الذي أفرزه من بطن أمه، كان عهد النذير،.. ولم يكن أحد غير أمه وأبيه يعرف مغزى العهد ومعناه، وعندما أدرك الصبي الأمور، عرفته أمه بهذا السر،.. وطوى الشاب السر في صدره، وبقى مكتوماً، حتى عرفته امرأة، وخرج السر من مكمنه الذي كان لا ينبغي أن يخرج منه!!.. وكل مؤمن في الحياة لابد له من شركة سرية مع الله،.. إذ لابد له من علاقة سرية مع خالقه وسيده وفاديه، ولا يمكن أن يكون المؤمن مؤمناً حقاً، دون هذه العلاقة العميقة القوية المباركة،.. إن الفرق بين إنسان العالم وإنسان الله، هو أن إنسان العالم يعيش دائماً في الدار الخارجية، ليست له الحياة أو الشركة أو الرؤى الإلهية، لكن إنسان الله هو الذي يدخل إلى القدس، وإلى قدس الأقداس، وهو الذي يقول في السريرة تعرفني حكمة، وهو الذي يرى ما لا يرى، أو بتعبير أعلى وأسمى: من لا يرى،.. وهو الإنسان الذي ليس له البصر فحسب، بل البصيرة أيضاً،.. وهو أيضاً العهد الأسمى، الذي لا يدانيه عهد، إذ أنه في شعر الرأس، أعلى ما في الإنسان، وموضع الاحترام والتوقير وأي عهد يربطنا بالله لابد أن يأخذ أعلى مكان فينا، ولا يجمل أن نضعه في منطقة أقل، أو أسفل حياتنا وأقدامنا،.. قال واحد من أعظم رجال الموسيقى في التاريخ: إن أية حياة لا يكتب الإنسان في أعلاها "الله" هي حياة فاشلة ضائعة.. والعهد إلى جانب ذلك -كان العهد الظاهر، فهو ليس مجرد العهد السري بين الإنسان وسيده، بل هو الظاهر في أجمل ما يكون المظهر،.. ولم يكن في شمشون ما يلفت النظر أكثر من شعره، وكان الشعر رمز النذر والتكريس، والتكريس- ولو أن أساسه خفي- إلا أن مظهره واضح للجميع، في الحياة الخالصة الكاملة لله أمام الجميع، ولا يجمل بالمؤمن أن يدعي حياة التكريس بمجرد العلاقة الخفية التي تربطه بالله، بل إن هذه الحياة في عمقها وجلالها ومجدها وعظمتها تظهر من انعكاس أثرها في الحياة أمام الناس.. ألم يقل السيد: "فإذا من ثمارهم تعرفونهم؟".. وكان العهد أيضاً عهد القوة، إذ لم تكن قوة شمشون قوة أصيلة، بل هي قوة مكتسبة، وطالما أن العهد يقوم بينه وبين الرب، فهو أشبه بالكهرباء، يسري تيارها طالما يبقى السلك قائماً بين المصدر والاستهلاك، فإذا انفصل الاستهلاك عن المصدر لأي سبب، فإن السيال الكهربائي يتوقف في نفس الثانية التي يحدث فيها الانفصال،.. وكل قوتنا من نبع القوة الإلهية، التي تصنع من الضعيف بطلاً، ومن العاجز أعجوبة، ومن القزم عملاقاً!!.. كان العهد عهد الحماية، إذ لا قوة على الأرض تغلب إنساناً ارتبط بعهده مع الله.. فإذا زمجر أسد في الطريق، وكان الصدام محتوماً، فإن روح الرب يدخل فينا، يحل علينا، وإذا بنا أقوى من كل أسود الدنيا، وإذا وقفنا في معركة مع ألف رجل، ونحن موثقون بالكثير من الحبال المقيدة، فإن لحي حمار طري يمكن أن نصرع به الألف، وحتى لا نجرب بأنها قوتنا الأصيلة، فنحن على شفا الموت ظمأ، حتى يأتي الينبوع من اللحي، ونشرب وننتعش، وترجع روحنا إلينا،.. إن حمايتنا من الله، وطالما العهد بيننا وبين الله،.. فماذا نقول لهذا؟.. إن كان الله معنا فمن علينا!!.. أجل “لولا الرب الذي كان لنا ليقل إسرائيل لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا إذاً لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا إذا لجرفتنا المياه، لعبر السيل على أنفسنا إذاً لعبرت على أنفسنا المياه الطامية، مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم، انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين، الفخ انكسر ونحن انفلتنا عوننا باسم الرب الصانع السموات والأرض!!.. والعهد آخر الأمر إذا انقضى. لا يمكن أن ينقضي من جانب الله،.. ونحن نتعجب في قصة شمشون كيف كان صبر الله عجيباً على ضعفه، ورغم الأخطاء والخطايا المتعددة؟! بقى الله معه، إلى أن غدر هو بالعهد وانفصل عنه!!.. وهي حقيقة واقعة في حياة المؤمنين في كافة الأجيال والعصور، إن نقض العهد لا يمكن أن يأتي على الإطلاق من جانب الله، إذ وإن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لا يقدر أن ينكر نفسه!!.. شمشون وتجربته ولعله من اللازم أن نلاحظ كيف جرب هذا الرجل على النحو الذي قاده إلى السقوط الرهيب: حياة اللهو والمرح كان شمشون في الأساس شاباً ضحوكاً بشوشاً، يميل إلى المرح واللعب والحفلات والألغاز والأحاجي، لم يكن من النوع الانطوائي، المنعزل، المتباعد عن الجماهير، ومع أن هذه الحياة قد تكون في الكثير من الأحايين نعمة كبرى، إلا أنها مرات كثيرة، ما تكون طريقاً قاسياً إلى التجربة، يتحول فيها المرح إلى الهزل، والأحجية إلى النكتة، والنكتة إلى السخرية، والسخرية إلى البذاءة في اللفظ أو الفعل،.. وكثرة الكلام لا تخلو من المعصية، فبالأولى إذ تحول الكلام إلى مجلس المستهزئين: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس". ومن المؤسف أن الكثيرين من المرحين لا يعرفون نقطة التوقف، وقد قال أحدهم: كان مودي مرحاً ولكنه كان تقياً،.. وكلما تعمق الإنسان في الشركة مع الله، وكلما تعمق في حياة التقوى، كلما عرف نقطة التوقف، التي لا تخرجه عن حياة التقوى والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب!!.. المصاهرة الغريبة كانت هذه المصاهرة الغريبة شركاً مزدوجاً إذ كانت شركاً للفلسطينيين، وشركاً لشمشون،.. كانت شركاً للفلسطينيين إذ كانت نقطة الاحتكاك مع شمشون، الاحتكاك الذي سار به إلى سلسلة من المعارك معهم،.. لكنها كانت للأسف شركاً لشمشون ذاته، إذ كانت الفتاة وثنية ومن أعدائه،.. ومن المؤكد أن الفتاة كانت لمنوح وزوجته ما كانت يهوديت ابنة بيري الحثي وبسمة ابنة إيلون الحثي اللتين كانتا مرارة نفس لاسحق ورفقة، وقد لاحق هذا الزواج من البداءة، ما لاحق من متابع لشمشون نفسه، الأمر الذي أدى إلى صراعه مع الفلسطينيين وحرقها وأباها بالنار،.. ومن ثم فمن الحقيقي أن نبارك الأبناء الذي يولدون لآبائهم في الرب!!.. ومن الحقيقي أن نباركهم يوم يأتون لآبائهم، قائلين قد اخترنا الفتاة المؤمنة الشريكة لنا في حياة الإيمان، وحب الله، وخدمته، ومجده في الأرض!!.. يومئذ سيحمد الآباء الرب ويشكرون فضله الذي هدى أبناءهم إلى هذا الاختيار، ولم يسمح لهم أن يقعوا في شرك الوثنيات الجميلات أو الغنيات أو المثقفات، ما دمن في الجمال أو الغنى أو الثقافة، لا يعرفن الرب أو حياة الإيمان المقدسة، التي يقال معها: إن ما جمعه الرب لا يفرقه إنسان!!.. ولا شبهة في أن فتاة تمنة كانت أبعد الكل عن هذه الحياة!!.. عدم الابتعاد عن التجربة ويبدو هنا أن شمشون مثلاً مخجلاً ومخيفاً، لهذه الحقيقة، فهو يذهب إلى الزانية في غزة، وهو يحب دليلة في وادي سورق، وهو يقبل أن ينام على ركبتيها بشعره المقدس، وهو يراها تضع له الكمين تلو الكمين، وهو يلهو معها بهذا العبث الغريب: بماذا قوتك العظيمة، وبماذا توثق لإذلالك" وهو يسمح لها أن تربطه بسبعة أوتار طرية، أو بسبعة حبال جديدة، أو تربط خصل شعره السبع بوتد النسيج والسدى، إلى أن يتحدث -وقد ضاق بعبثها- بسره الكامل الذي لم يعرفه أحد سوى أبويه العجوزين، اللذين كانا وعلى ما هو واضح من الرواية الكتابية -قد ماتا، ولا يعلم سره أحد من الناس إلى أن عرفته دليلة الزانية الفلسطينية،.. وهنا لابد لنا من وقفة تأمل، كيف استمر الرجل عشرين عاماً ينتقل في شراك التجربة، ومع ذلك فهو قاض الأمة. وقائدها، ومعلمها؟؟ وكيف يتركه الله، مثل هذا الوقت الطويل وكيف يصبر عليه، وكيف يساعده، رغم هذا الانهيار الأخلاقي الرهيب عنده؟!! من المؤكد أن الله أرسل إليه أصواتاً كثيرة محذرة، ومن المتصور أن شمشون كانت له نوبات وقتية يعود بها إلى حالة من السوء والخطية،.. ونحن لا نستطيع أن نرميه بالأحجار، ونحن نذكر صبر الله العجيب والعظيم. ربما عشرين سنة أو أكثر من حياتنا، وهو ينبهنا، ويبكتنا، ويتحدث إلينا عن مركزنا وعن العار الذي نسببه لأنفسنا، ولمجده، ونحن نرجع إلى ضعفنا، وقصورنا، وكثيراً ما يأتي التوبيخ لنا حتى من أهل العالم، كما وبخ أبيمالك إبراهيم من أجل سارة وهو يقول له: "ماذا فعلت بنا وبماذا أخطأت إليك حتى جلبت عليَّ وعلى مملكتي خطية عظيمة أعمالاً لا تعمل عملت بي".. على أي حال، لقد صبر الله على شمشون عشرين سنة بأكملها، قبل أن يدخله في أتون العذاب، أو في أشد الضيقات والمتاعب، وكأنما يقول له: "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة"..إن مأساة هذا الرجل أنه كان واثقاً بنفسه أكثر مما ينبغي، وهو لم يتعلم الحكمة التي سمعها لوط: "اهرب لحياتك" أو حكمة يوسف عندما ترك ثوبه وهرب خارجاً من نطاق التجربة وهو يصيح: كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطيء إلى الله!!.. شمشون وسقوطه إن قصة سقوط هذا الرجل درس ينبغي أن يلقنه كل جيل للجيل الذي يأتي بعده، لقد واجه الرجل أسدين، أولهما منظور والثاني خفي، أما الأول فقد جاءه في كروم تمنة في صدر الشباب، وكان شمشون قوياً ببراءته ونقاوته وطهارة شبابه، فحل عليه روح الرب، فشق الأسد كشق جدي ولم يكن معه شيء،.. أما الثاني فقد جاء مختفياً وراء امرأة: "لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو".. جاءه الأول وهو في كمال يقظته، فانتصر عليه، وجاءه الثاني، وهو نائم على ركبتي امرأة فقضى عليه، جاءه الأول بمخالب وأنياب رهيبة، ومع ذلك فقد تمكن منه وصرعه،.. وجاءه الثاني- ومن عجب أن موسي الحلاقة الناعمة كانت هذه المرة أرهب وأشد فتكاً من المخالب والأنياب، فانتهت قوته على ركبة المرأة. في الصراع المنظور تستطيع أن تعلم من أين يأتي الهجوم، وبأي أسلوب يكون، وتعرف كيف تواجهه مهما كانت شدته، والله معك،.. أما في الآخر، فإنك تدخل في صراع رهيب غير منظور، لا تعلم فيه عدد أعدائك، ومن هم، ومن نقط الوثوب التي يريدون أن يثبوا عليك منها: "فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير وبعد أن تتموا كل شيء أن تثبتوا".. هل سمعت أو قرأت عن ذلك الراهب الذي كان يهتم بخدمة بلده في أعلى الجبل، وكان أميناً قوياً متعففاً في الخدمة، وأراد الشيطان أن يمنعه؟. تصارع الاثنان، ووعده الشيطان إذا أمكنه أن يهزمه، فإنه سيقدم له دجاجة في كل يوم، واستطاع الراهب أن يسقط الشيطان تحته، وقام الشيطان ليوفي بوعده، وكان يقدم له فعلاً كل يوم دجاجة يأكلها، ولاحظ الراهب أن الشيطان قدم له أول دجاجة وكانت ممتلئة من اللحم والدسم، ثم لم يلبث أن أخذ حجم الدجاجة ووزنها يتناقص يوماً بعد آخر، حتى جاء يوم لم يقدم الشيطان للراهب سوى قليل من المرق، بعد أن شربه، دخل في عراك مع الشيطان، وتعجب الراهب، إذ سرعان ما سقط تحت قدمي الشيطان فريسة سهلة ميسورة، بعد أن استطعم الدجاج ومرقة!!.. وكم من الناس بدأوا أسوداً يشقون التجارب والإغراءات والصعاب، كشق جدي!! لكنهم على ركبتي امرأة أو أمام مال، أو جاه، أو وظيفة، تأتي موسي الحلاقة على عهد النذير، وتقطع علاقته العظيمة بالله، فيسقط سقوط العملاق الجبار، ويكون سقوطه، كما قال السيد المسيح، عظيماً!!.. شمشون ومأساته انتهى الرجل الضحوك إلى المأساة الغارقة، ولا أعلم كم بكى، أو كم حزن على ما فقد، ولكني أعلم أنه فقد الكثير: فقد الرب وهي أكبر كارثة ألمت به، وأقسى ما فيها أنه لم يعلم أن الرب فارقه!!.. لقد كان الشعر هو الرابط الدائم الذي يربطه بإلهه، ومد يده إلى رأسه الزلحاء، ولم يجد شعرة واحدة هناك،.. لقد حملت دليلة الشعر في حجرها وهكذا ضاعت معاهدته مع الله، وجاء نقض المعاهدة من جانبه، وهيهات أن يأتي من جانب الله،.. وفقد بمفارقة الرب كل شيء، وانتفض وهو يظن أنه ينتفض بعضلات الأمس القوية، ولكن شمشون ضاع، لأنه أضاع شركته مع الله!!.. وليس هناك ما يعدل في الحياة ضياع إنسان يسير بغير الله في العالم!!.. ألم يصح قايين: "إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض؟!!.. وألم يقل موسى: “إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا فإنه بماذا يعلم أني وجدت نعمة في عينيك أنا وشعبك أليس بمسيرك معنا نمتاز أنا وشعبك عن جميع الشعوب الذين على وجه الأرض”؟!.. وألم يصرخ داود: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"؟!!.. عندما يفقد الإنسان ربه سيصيح صيحة شاول بن قيس اليائسة: "وقد ضاق بي الأمر جداً، الفلسطينيون يحاربونني والرب فارقني ولم يعد يجيبني لا بالأنبياء ولا بالأحلام، فدعوتك لكي تعلمني ماذا أصنع فقال صموئيل ولماذا تسألني والرب قد فارقك وصار عدوك"؟!!.. فقد القوة كانت قوة شمشون محفوفة بالخطر على الدوام، لست أعلم لماذا زمجر شبل الأسد في وجهه عند اللقاء في كروم تمنة، وماذا فهم شمشون من هذه الزمجرة، هل أراد كلاهما -وهما في أول طريق الحياة- أن يختبرا كل قوته، وها هي الفرصة الأولى أمام شبل الأسد ليعلم ماذا تستطيع عضلاته الفولاذية أن تعمل، ومن الواضح أنه بهذه الزمجرة كان هو الباديء في الهجوم، أو كما صوره أحدهم كما لو أنه يقول لشمشون: أفسح الطريق، فهو طريقي، ولا يمكن أن تمر فيه إلا فوق جثتي، وقال شمشون للأسد:.. لا.. إن الطريق طريقي أنا، وأنت المعترض بدون وجه حق، وسأجعل منك لغزاً يروى، وقصة، وأحجية تمتحن بها أذهان الناس،.. كان اللقاء الرهيب بين الاثنين بمثابة الامتحان الحقيقي لكليهما من أول الطريق، وحل روح الرب على شمشون فشقه شق جدي وليس معه شيء!!.. على أننا نستطيع أن نفسر الزمجرة بصورة أخرى: هل كان شبل الأسد وكأنما يتحدث إلى شمشون أن ورطة الطريق التي ينهجها من أول خطى حياته كقائد لأمة، كان شمشون في كامل نشوته بين كروم تمنة، وهو ذاهب ليخطب لنفسه فتاة فلسطينية، وكان يسير في الطليعة، وخلفه أبوه وأمه على مساندة بعيدة إلى الوراء، وكانت مهمة خطبة الفتاة ثقيلة على الأبوين لاختلاف الدين، والمذاهب، والمشارب، ولكنهما إزاء إلحاح ابنهما سارا وراءه، فزمجر شبل الأسد، وكأنما يريد أن ينبه شمشون إلى وعورة الطريق، وخطورته،.. علي أي حال لم يفهم شمشون شيئاً من هذا، وقامت المعركة، واندفع في الطريق الموروط، ليلتقي بعد عشرين عاماً مع الأسد غير المنظور الذي فتك به، ولم يجعله إنساناً عادياً فحسب، بل سخرية الناس في كل جيل وعصر،.. وخسر شمشون شهرته التقليدية كبطل العصور كلها في القوة البدنية، على أي حال إنه من الواضح دائماً أن الخطية قتلاها أقوياء، وهي النزيف المستمر لقوة الإنسان في الأرض مهما كان لون هذه القوة في البدن أو الذهن، أو العاطفة، أو الإرادة، وسيتبين الإنسان عندما ينتفض، أن قوته ضاعت دون أن يعلم!!. فقد البصر قلع الفلسطينيون عينيه. وما من شك بأنه صرخ صراخاً مراً، وهم يقلعون العينين، وفي الحقيقة لو أن هاتين العينيين قلعتا من البداءة لما حدث معه ما حدث،.. إن هناك علاقة بين البصر والبصيرة في الإنسان، فإذا انفتح البصر على منظر شهوة ملوثة، أغلقت البصيرة، والعكس صحيح، إذ عندما تفتح البصرية يغض المرء طرفه خشية وخوفاً وفزعاً،.. لم يدرك شمشون هذه الحقيقة، ففتحت عيناه على المحرمات، وكان لابد لهاتين العينين أن تنتهيا إلى ما وصلت إليه، وهو يدور في الظلام، يطلب من الغلام الذي يجره أن يدله على موضع العمودين في معبد الفلسطينيين الذي سيق له ليلعب هناك، إمعاناً في الإيذاء والإذلال، -والخطية دائاً تقلع عيني صاحبها، وتقتل الرؤية الصحيحة لأنها تغشى البصيرة،.. ومن ثم فإن أول علاقات التجديد هي أن يقول الإنسان: "كنت أعمى والآن أبصر".. "لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين".. كانت مأساة شمشون أنه فقد البصيرة من الابتداء، ففقد البصر في النهاية!!.. فقد الحرية ربط بسلاسل نحاس، وقادوه إلى بيت السجن، وهناك سجن، ومن الغريب أنه لم يكن يعلم أن هذه السلاسل من النحاس، بدأت أول الأمر من حرير، وأنها كانت تلتف حول جسده يوماً بعد يوم وهو لا يعلم، كان يهزأ بكل سلاسل، أليس هو الرجل الذي يستطيع -وقد قيد بالحبال الطرية أو الأوتار القوية- أن يحطمها كما لو كانت خيوطاً ناعمة شمتها النار، إنه لم يعرف ما قاله إشعياء، فيما بعد، ويل للجاذبين الإثم بحبال البطل، والخطية كأنه يربط العجلة- سمح الشاب للحية الرقطاء أن تلتف حوله، وهو يعتقد أنه يستطيع أن ينتصر عليها، ولم يدر أنها ستضغط عليه لتحطمه تحطيماً،.. كان شمشون القوي حراً يذهب كيفما يشاء ومتى يشاء، لكنه انتهى إلى الإنسان الأسير مقلوع العينين في سجن غزة!!.. وكان في هذه الحالة جداً بعيداً لأولئك الذين قالوا للمسيح: "إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحراراً، أجابهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد أما الابن فيبقى إلى الأبد، فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً".. كان الاسكندر سيد العالم وعبد الخمر، وانتصر نلسون في ووترلو وكان عبد الشهوة الآثمة،.. وكم يعيش أبطال العالم من كل لون، داخل سجن غزة مع شمشون البطل، وهم يعلمون أو لا يعلمون!!.. فقد المركز إذ هوى من المجد إلى الحضيض، من قائد الأمة إلى الطحن في السجن، إلى أحط عمل، وكان عقوبة المجرمين أو العبيد، أو العمل الذي يترك للإماء الأجيرات، وأي هوان أشد من هذا الهوان؟! وأي عار أقسى من هذا العار؟!.. ولكنها القصة الدائمة للخطية، والتي بدأها الشيطان بنفسه، إذ هوى من مركزه التليد عندما ترك رياسته، وأراد أن يأخذ مكاناً آخر، مكان الله في كبرياء قلبه،.. وهناك المفسرون الذين يبدأون به، وهم يرونه في شخص ملك بابل الذي تعالى وارتفع، في نبوة إشعياء، وسواء كان إشعياء يقصد الشيطان نفسه أو يقصد ملك بابل، أو يقصد أي إنسان آخر، تسقطه الخطية من مركزه المنيع، وهو يقول: "كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم".. فمما لا شك فيه أن الخطية أسقطت شمشون كالزهرة من السماء، من مركزه العظيم التليد لينتهي به المطاف إلى عمل طحان في سجن غزة!!.. شمشون وتوبته والذي لا شبهة فيه، هذه التوبة الأخيرة للجبار العظيم!!.. ما هي عناصرها وكيف حدثت وبماذا أثرت وأنتجت؟!!.. توبة الألم وكان هذا الألم لازماً وضرورياً، لكي يتبين سخط الله وغضبه، وإن ابتداء القضاء من بيت الله،... وحتى لا يتوهم أحد أحد أن الله يمكن أن يهادن الخطية أو يسكت على مرتكبيها، كائناً من يكون، وعلى أي وجه تأتي،.. لم يكن الفلسطينيون هم الذين دفعوا شمشون إلى سجن غزة، بل كان الله، وما من شك أن المدينة التي شهدت تبذله وفجوره، لابد أن تكون مكان سجنه أيضاً،.. هذا هو قضاء الله العادل، لأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً!!.. على أن الله في الوقت عينه جعل الألم رسول الرحمة للإنسان البائس،.. وكم يجعل الله الباب الضيق طريقاً إلى الحياة الأبدية: "وأضيق عليهم لكي يشعروا".. ومع أن الألم في حد ذاته رسول قاس صعب مرهب، لكنه مرات متعددة ما يكون الرسول المناسب للإنسان الموغل في آثامه وخطاياه،.. وقد قيل عن منسى الملك القديم: "فلما تضايق طلب وجه الرب إلهه".. لم تكن هي إذاً قسوة الله، بل هي رحمته الكاملة في غطاء قاس، أو هي لب ولبن جوزة الهند المغطى بالغطاء الخشن الصعب القاسي!!.. توبة التأمل لم يعرف شمشون التأمل وهو على حجر دليلة، ولم يعرفه في ليالي عزه الآثمة،. ولكنه وهو في السجن مقلوع العينين ضعيف القوة يطحن في مذلة ومهانة، فتحت بصيرته على الانحراف الرهيب الذي وصل إليه، وأغلب الظن أن الحياة وقد أضحت ليلاً دائما أمام عينيه، كان يقول لنفسه إنها رحمة من الله أن يصل به إلى هذا الحد من المعاملة،.. إنه بالحري لا يستحق أدنى رحمة،. وقد جعل مجد الله في الحضيض وحق الله في الرغام، وقداسة الله أضحوكة الساخرين، إنه الآن يشكر الله على الظلمة الضاربة حوله، لأنها هي التي فتحت عينيه على العالم الآخر!!.. توبة العهد الراجع أخذ يتحسس شعره، وفي كل يوم يتزايد الشعر، يعود عهده إلى قلبه وذهنه، وهو يسأل الله: هل تعود وتقبل ابنك الضائْع؟؟ وهل يمكن وقد نفضت العهد أن تسترد مرة أخرى لي؟!!.. هل استطاع بصورة ما أن يغني هذه الأغنية: كما أنا وقد نقضت عهدك جهلاً بحبك أهنت مجدك الآن كي لك أكون وحدك آتي أنا يا حمل الله الوديع توبة المصلي على أي حال لقد مات والصلاة على شفتيه، وهي صلاة رائعة عظيمة.. لقد قال الله: إنه مات فعلاً عندما خرج عن الخط الإلهي، وهو يريد أن يسترد هذه الحياة، وهو لا يستطيع أن يستردها في العالم الحاضر بعد أن ضيع كل شيء ولكنه يريد أن يصنع خدمة لله بخروجه إليه معوضاً ما فاته من الخدمة والسنين التي أكلها الجراد -وآمن شمشون برحمة الله الواسعة، وصرخ: اذكرني يا سيدي الرب!! وأنت أيها الخاطيء، هل تستطيع أن تصرخ، وأنت شمشون آخر، لتقول لله: اذكرني يا سيدي الرب: "ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى القبر هل يحمدك التراب، هل يخبر بحقك، استمع يا رب وارحمني، يا رب كن معيناً لي، حولت نوحي إلى رقص، حللت مسحي ومنطتقني فرحاً لكي تترنم لك روحي ولا تسكت، يا رب إلهي إلى الأبد أحمدك!!".. "لا تشمتي بي يا عدوتي، إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي أحتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه حتى يقيم دعواي، ويجري حقي "سيخرجني إلى النور، سأنظر بره، وترى عدوتي فيغطيها الخزي القائلة لي أين الرب إلهك، عيناي ستنظران إليها. الآن تصير للدرس كطين الأزقة".وإذا كان الله قد أجاب شمشون، ورحم من لا يستحق الرحمة، فإنه بكل تأكيد سيرحمك لأنه يسر بالرأفة ويكثر الغفران!!..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل