المقالات

06 أكتوبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس يشوع

يشوع "موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر الأردن" ( يش 1: 2) مقدمة على النصب التذكاري للأخوين يوحنا وتشارلس ويسلي في مقابر وستمنستر في لندن كتبت هذه العبارة: "الله يدفن العاملين.. ويستمر في العمل" وهي عبارة صادقة عظيمة غزيرة المعنى، إذ تبين أن الإنسان يموت، والله يبقى، وأن العالم يسقط من القائد ليتسلمه آخر،.. لأن الله هو العلم الحقيقي الذي يظلل جميع أعلام الأرض "يهوه نسى أو الرب رايتي، كان موسى من الرجال الذين يصح تجاوزاً أن يدعوا "فلتات" في العصور كلها، إذ ليس في كل التاريخ من يمكن أن يرتقي إلى مثاله، سوى أعداد ربما لا تعد على أصابع اليد الواحدة، وصعد موسى على رأس الفسجة، ومات هناك بقبلة من الله، كما ألف التقليد اليهودي أن يقول، ودفنه الله، ولم يعلم قبره حتى اليوم، لأن مكانه الحقيقي كان في السماء، ولئلا يتحول قبره إلى مزار يتجه إليه الإسرائيليون، ويعبدونه، كما عبدوا من قبل العجل الذهبي الذي حطمه وذراه على وجه المياه، ليبقى وجه الله وحده المعبود الذي لا يعبد سواه!!.. مات موسى وحل مكانه يشوع -على الفارق بين الشخصيتين أو المهمتين، مات عملاق التاريخ، وحل محله الثاني- وإن لم يستطع أن يتطاول إلى ارتفاعه ومقامه- وكان إلى جانبه كما يبدو الظل إلى جانب الحقيقة،.. لكن كليهما في الواقع كان ظلاً باهتاً للآتي فيما بعد، الذي قال عنه موسى! "نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون" وقال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه لو كان يشوع أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر". كان موسى أو يشوع رمزاً ليسوع المسيح الآتي في ملء الزمن بعدما يقرب من خمسة عشر قرناً من الزمان!!.. وسيدفن الله العاملين وسيستمر هو في عمله الفدائي العظيم، حتى يرث الأرض وما عليها، وتصبح أعمالك كلها للرب ولمسيحه!!.. وسيبقى مؤكداً ما قالته العجوز التي سمعت صارخاً يقول يوم موت يوحنا ويسلي: ماذا نعمل لقد مات ويسلي؟.. وصرخت المرأة في وجهه قائلة! مات ويسلي ولكن الله حي لا يموت!!.. وها نحن اليوم سنتابع الرجل التالي لموسى، الذي سمع القول الإلهي: موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر الأردن!!.. من يكون هذا الرجل؟!! وما رسالته؟!! وما يد الله في هذه الرسالة؟!! وما هو الرمز البعيد لرسالة الأعظم الآتي فيما بعد؟!! هذا هو موضوع بحثنا ودراستنا في دراسة هذه الشخصيات!!.. يشوع المجهز من الله للعمل بعد موسى كان اسمه في الأصل "هوشع" أو "خلاص" ودعاه موسى "يشوع" أو "خلاص الله" ولد في مصر عبداً في بيت العبودية، ومن نسل يوسف، وسبط إفرايم، وهو الحادي عشر من سلسلة أحفاد يوسف، وكان أبوه "نون" وجده "أليشمع" الذي كان رئيساً لبني إفرايم عند الخروج،.. ومن المؤكد أنه كان فوق العشرين، وربما في الثلاثين من عمره، عندما ترك مصر، إذ كان كما يصفه الكتاب غلام موسى الذي يحرس الخيمة، عندما يتركها الرجل العظيم، وكان هو وزميله كالب بن يفنة اللذين نجوا من الموت، من كل الجيل الذي فوق العشرين الذي سقط في البرية لتمرده وعصيانه على الله!!.. وعلى أي حال لقد جهز الله يشوع في بطن الزمن ليكون الرجل التالي بعد موسى، وكان تجهيز الله له عميقاً وبعيداً، من مطلع الحياة، وربما لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن عناصر هذا التجهيز بدأت أولاً بالمرارة النفسية العميقة، إذ ولد الصغير وشب ليدرك أنه عبد في مصر، تحكمه كل قواعد العبودية القاسية، وكان وهو يتدرج نحو الشباب، تثور نفسه بثورة عارمة هائلة، وهو يرى السخرية والقسوة ومذلة الشعب، ولا أعلم ماذا أصابه هو شخصياً من هذه كلها، إنما أعلم أن الآلام دائماً تعد النفوس النبيلة لمستقبلها العظيم،.. عندما أبصر ابراهام لنكولن فتاة تباع في سوق النخاسة، وتعرض أمام الناس كما تعرض السائمة، يتزايد عليها المشترون، رأى الإنسانية تباع وتشترى في هذه الفتاة، فآلى على نفسه، أنه إذ واتته الفرصة لابد أن يحرر بلاده من هذه الوصمة، ويضع أكثر من ذلك مسماراً كبيراً في نعش الاستعباد، وقد تم له ما أراد، وإن كان قد دفع حياته ثمناً لهذه الحرية الغالية!!.. فإذا كان الاستعباد هو الذي حرك موسى ليكون محرراً للأمة،.. فإنه كان النخاس القاسي في صدر يشوع حتى لا يقع الشعب مرة أخرى فريسة الذل والألم والتعاسة والشقاء،.. كان رائداً من رواد الحرية، دخل الحرب بأمر الله، وكان مثل "غريبلدي" الذي تستهويه المعارك لا في إيطاليا وحدها، بل في كل مكان يرى فيه الاستعباد جاثماً على صدر الناس،.. لكن المرارة وحدها، لم تجهزه، بل لعله أدرك أنه ينتمي إلى جد عظيم تشرب الكثير من روحه وسيرته، وعندما مات هذا الجد في مصر دفن في تابوت وحنط هناك، وحمل التابوت بكل إجلال وإكرام يوم الخروج من مصر، وحمله سبط إفرايم الرحلة كلها، ولعل الشاب يشوع كان يأتي بين الحين والإخر، ليرى التابوت، والرجل المسجى فيه، والتاريخ العظيم لهذا الجد القديم، التاريخ الحافل بأروع السير وأمجد الذكريات، ولعل يشوع وقف مرات متعددة، وهو يعاود معنى الحياة وقصتها، ومغزاها، في هدوء الصحراء وعزلتها، وفي أعماق الليل، حيث تلمع فوقه النجوم وتضيء، ويتذكر يوسف في إيمانه وحياته ووداعته ورسالته، وهو يأمل أن يكون بصورة ما امتداد لهذه القصة العظيمة، وبالأسلوب الذي يريده الله أن يكون،.. في الحقيقة إنه شيء مجيد أن يعود الإنسان في رحلة الحياة إلى ذكريات أبائه وأجداده، والتاريخ البعيد القديم إن كان من حظه أن يكون له مثل هذا التاريخ، ليقول مع بولس: "الله الذي أعبده من أجدادي". ولعله من حظ كل إنسان سعيد أن يسير على الدرب الطويل لآبائه وأجداده، فمن أعطاهم الله مثل هؤلاء الآباء والأجداد، كالركابيين الذين رفعوا رؤوسهم أمام إرميا النبي، قائلين بكل نشوة وفخر: "فسمعنا لصوت يوناداب بن ركاب أبينا في كل ما أوصانا به".. كانت عظام يوسف تتحدث في صمت طوال الطريق إلى يشوع بن نون ابنه!!.. على أن الأمر مع ذلك كان أكثر عنده، إذ كانت هناك صحبة موسى العملاقة، كان يشوع محظوظاً جداً، إذ عاش في صحبة موسى، وفي خدمته، وكانت العلاقة بين الاثنين من أسمى وأعمق وأرقى وأوفى العلاقات على الإطلاق، فموسى أحبه كنفسه وكان دائماً أقرب إلى قلبه من أي شخص آخر، حتى ولو كان هذا الشخص جرشوم وأليعازر ابنيه،.. وكان الغلام يغار لموسى غيرة عظيمة، إذ كان هو الوفاء مجسماً لأبيه الروحي العظيم، وعندما أبصر اليداد وميداد يتنبآن في المحلة، طلب من موسى أن يردعهما، إذ لا يجوز لأحد أن يرتفع إلى مقام القائد العظيم، ورد عليه موسى قائلاً: أتغار أنت لي، دعهما يتنبآ، ويا ليت شعب الرب كله أنبياء،.. وما من شك بأن هذه الصحبة التي عاشت إلى آخر حياة موسى، طبعت يشوع بأقوى الانطباعات وأسماها، وأن الشاب إذ كان قد أخذ من ذكريات يوسف جده الكثير فإنه أخذ الأكثر من الصحبة الرائعة لموسى معلمه وأستاذه!!.. وكان يشوع مجهزاً بالتقوى العميقة، بالتقوى التي صاحبته إلى آخر عمره، في مطلع حياته وفي نشوة الصبا، وحلاوة الأيام، قيل عنه: "وإذا رجع موسى إلى المحلة كان يشوع بن نون لا يبرح من داخل الخيمة".. وفي خيام الحياة، وهو يواجه الشعب، قال قوله العظيم: "إن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون.. أما أنا وبيتي فنعبد الرب".. كان قلبه عامراً بالحب الإلهي، والله في العادة عندما يختار العاملين ينظر: "ليس كما ينظر الإنسان لأن الإنسان ينظر إلى العيني وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب".. وعندما نظر إلى القلوب، لم ير هناك قلباً بعد موسى أصلح لقيادة الشعب من قلب يشوع بن نون!!.. وكان يشوع مؤمناً، وهو من ذلك النوع من المؤمنين الذين لا يبالون بالعدد الذي يمكن أن يقف إلى جوارهم، فسواء وقفوا منفردين، أو وقف إلى جانبهم الجمهور الغفير، فإنهم يحملون ذات الإيمان دون تراجع أو رهبة أو تزعزع، بل إنه من ذلك النوع من المؤمنين الذين يرون كل شيء في ضوء الإيمان، فإذا واجهوا العمالقة بعين الإيمان، فهم في نظرهم أقزام، في الوقت الذي يراهم الغير بالعين المادية، وكأنهم أكثر طولاً، وكأن نفوسهم في الوقت عينه أحقر قدراً وأضأل شأناً!!.. وقد أضاف يشوع إلى الإيمان، اختباره في الحياة والمعارك، لقد خرج من مصر مزوداً بمعجزات الإيمان العظيم، ولقد عبر في البحر الأحمر، وهو يرى المعجزة الكبيرة، وكان كل يوم يلتقط المن المرسل من السماء، وكان يرى المياه تتفجر من الصوان في الصحراء!!.. ولم يقف الأمر عند هذا، بل دفعه موسى في صدر الشباب إلى قيادة المعركة مع عماليق، وذهب الشاب، وحارب العمالقة ورأى السند الإلهي، في عصا موسى المرتفعة، فهو يغلب إذا ارتفعت العصا، وهو يهزم إذا كلت ذراع موسى عن رفعها، وهو يتعلم من هذا كله كم يفعل الإيمان في حياتنا، عندما نؤمن بإله عظيم!!.. وقد كان ليشوع الشجاعة الخارقة التي استندت إلى الإيمان العميق، فإذا كان من مشيئة الله أن يعيش طوال عمره محارباً،.. فإن حربه دائماً ترتكز على الثقة والإيمان بالله!!.. كانت نعمة هذا الإنسان مع كل هذه الوداعة الهائلة، فهو خادم لموسى مخلص غيور وديع متضع، لا يكاد يرى نفسه أهلاً أن ينحني ويحل سيور حذاء قائده العظيم، وأنت لا تسمع منه فخرآً بالانتصار على عماليق، ولا ترى منه مكاناً إلا حيث يأمره موسى، أو حيث يجلس في خيمة الاجتماع دون أن يبارحها وكأنما يستمع إلى صوت من موسى يأتي بعد خمسة عشر قرناً من الزمان: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم!!. كان يشوع بن نون الشاب المجهز بالتواضع لخدمته العظيمة!!. يشوع البديل لموسى وهل يمكن أن يكون هناك بديل لموسى؟ وهل يمكن أن يرفع أحد قامته إلى مستوى قامة موسى؟.. إن موسى فلتة من فلتات الدهر، وقد لا يجد التاريخ في أي سبط من أسباط إسرائيل من يجوز أن يقف إلى جواره، أو يصبح له نداً، إلا واحد من سبط بنيامين سيأتي بعد أربعة عشر قرناً من الزمان، هو شاول الطرسوسي،.. مثل موسى وبولس من أندر الشخصيات التي تخرج إلى معالم الحياة، لتقف وراء ذاك الذي ولد والرئاسة على كتفيه،.. في الحقيقة إن موسى بهذا المعنى ليس له بديل، فهو وحده رجل الشريعة، وهو رجل العبور، وهو الرجل الذي قاد الشعب بحنكة وفطنة ليس لهما ضريب أو مثيل!!.. لكن موسى قد مات، فهل يمكن أن يكون هناك بديل؟!!.. هذه الظاهرة العجيبة نجدها على الدوام في شتى الصور وكافة المجالات أو الميادين، فإنك لن تجد مثيلاً لهوميرس الشاعر الإغريقي، أو شكسبير عند الإنجليز، أو جوته عند الألمان، ولن تجد ضريباً لدانتي والكوميديا الإلهية، وملتون والفردوس المفقود والمردود،.. وفي عالم النحت أو التصوير لن تجد مثيلاً لميشيل أنجلو أو رفائيل، أو هولمان هانت، وفي عالم الموسيقى قد لا تجد كثيراً على مختلف العصور مثل بيتهوفن وموزار وهاندل وغيرهم من العمالقة بين الناس.. وفي الكنيسة لم تجد العصور الأولى من حل محل بطرس ويعقوب ويوحنا، ومهما كان تقديرنا لأغناطيوس وبوليكاربوس وهرمس وأكلمندس،.. فإنهم لا يمكن أن يرتقوا إلى مركز التلاميذ العظام الذين بذروا بذرة المسيحية وراء يسوع المسيح. ومن النادر حقاً أن ترى أوغسطينس، وتوما الأكويني، ولوثر، وملانكثون، وكلفن، وچون فوكس، ويوحنا ويسلي، فهم لا يظهرون إلا لماما مع القرون أو الأجيال!!.. ومع ذلك يأتي السؤال: هل تقف القافلة أو يتوقف الركب، عندما يقال: "موسى عبدي قد مات؟".. كلا وإلى الأبد كلا،.. فموسى في أفضل حالاته، ليس إلا عصا بيد الله، وإذا سقط العلم، فسيأتي آخر بملكات أخرى، وبمواهب أخرى وبوزنات أخرى، لعمل يختلف تماماً عن عمل موسى ورسالته،.. وسيقول الله لمن يأتي: قم اعبر الأردن الآن!!... إن البديل هنا -وللأسف- لم يكن ابني موسى، أو واحداً منهما، بل كان يشوع بن نون،.. إن عمل الله لا يمكن أن يؤخذ بالوراثة، كما أن أولاد الأبطال قد لا يكونون بالضرورة مثل آبائهم، وقد تخلف النار رماد كما يقولون.. وقد يخلف صموئيل النبي العف النبيل، من لا يسير وراءه من أبنائه في ذات المنهج والسلوك والاتجاه،.. ولعل موسى كان خفيض الرأس من هذا الجانب، ولعله كان يتمنى أن واحداً من ولديه يرتفع إلى مستوى الزعامة والقيادة، دونه أن يصبح نكرة أو مجهولاً بين الناس،.. ومع أنها النعمة وحدها هي التي تفصل بين الأولاد أنفسهم، فتجعل واحداً منهما يعقوب والآخر عيسو،.. إلا أن الكثيرين مع ذلك ما يزالون يسألون: لماذا لا يكون أولاد العظماء، عظماء كآبائهم؟! وعلى من تقع التبعة من هذا القبيل، هل تقع على الأب؟ وهل كان موسى مزدحماً بالعمل إلى الدرجة التي لم يعط فيها وقتاً لولديه ليتدربا على القيادة والزعامة؟ أم أن الأم صفورة كانت هي السبب، إذ لم تملأ الفراغ الذي تركه في البيت ازدحام موسى في الخارج بحياة الشعب ومشاكله؟؟ وهل لم تدرك صفورة التي أنقذت موسى عندما لم يختن ابنه الثاني في يوم السفر، إذ كان مزدحماً بالعمل، وافتدته صفورة إذ قامت بعملية الختان لولدها،.. هل لم تستطع صفورة، وقد تعلمت من هذا درساً أن تختن قلب ولديها ليصبحا قائدين عظيمين في إسرائيل؟؟ على أي حال إن الخدمة الدينية لا تورث، وموسى يؤمر وقد أوشكت أيامه على الانتهاء أن يأخذ "يشوع بن نون رجلاً فيه روح وضع يدك عليه".. ويفعل موسى، ويعبر البديل عن ولديه إلى ابنه بالروح المعين من قبل الله!!.. إن البديل قد يختلف عقلاً وأسلوباً عن الذي يأخذ مكانه، ولكنه لابد أن يكون من روحه في الأمانة والغيرة والحب لخدمة الله والتفاني فيها،.. ولابد للبديل -قبل غيره- أن يتأكد أنه لم يأخذ الخدمة استحساناً أو بمشيئة إنسان، بل من الله رأساً، وهو سيستريح ويسعد ويقوى وينتصر، طالما تأكد أنها دعوة الله العليا التي عليه ألا يتردد في قبولها، مهما كانت جبال المشكلات والصعاب أمامه: "لأنه من أنت أيها الجبل العظيم، أمام زربابل تصير سهلاً".. لأنه سيأخذ الضمان الإلهي من الله، الذي كما سار مع موسى سيسير مع يشوع أيضاً!!.. وسيجد الله البديل، وسيمكنه من الخدمة الناجحة، وسيسانده بالصورة العظيمة التي تواجه مشاكل الخدمة المعقدة، ولن يلتفت الناس إلى موسى أو يشوع بقدر ما يلتفتون إلى صانعهما كليهما للخدمة التي سبق فأعدها لهما!!.. ولن نقف هنا قليلاً إلا لنحني الرأس إجلالاً لموسى، الذي -وقد اقترب من النهاية- كان مشغولاً بالبديل: "وقال الرب لموسى اصعد إلى جبل عباريم وانظر الأرض التي أعطيت لبني إسرائيل ومتى نظرتها تضم إلى قومك أنت أيضاً كما ضم هرون أخوك لأنكما في برية صين عندما مخاصمة الجماعة عصيتما قولي أن تقدساني بالماء أمام أعينهم ذلك ماء مريبة قادش في برية صين فكلم موسى الرب قائلاً: "ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلاً على الجماعة، يخرج أمامهم ويدخل أمامهم ويخرجهم ويدخلهم لكي لا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها".. ومن حقنا أ ن نحيي موسى هنا، الذي لم ير نفسه فرداً لا نظير له، بل تمنى آخر يملأ الفراغ الذي يوشك أن يتركه!!.. إنه أشبه بخادم عظيم يرعى كنيسة من أكبر الكنائس، وكان مشغولاً بمن يمكن أن يخلفه، وصلى إلى الله، وجاء الله بالخلف، ونظر إليه الشيخ الكبير في سرير المرض، واقترب منه الخادم الجديد فاحتضنه وقبله، ونام هادئاً، لأن الله يأخذ الخدام، ولكنه يبقى الخدمة على الدوام مستمرة!!.. يشوع والسند العظيم بكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوماً، فكملت أيام بكاء مناحة موسى، ولم يعش يشوع أو الشعب في مناحة على القائد الراحل.. لقد سقط موسى، وذهب العمود الكبير،.. لكن يشوع رأى الأعظم والأمجد، رأى رئيس جند الرب، وخلع يشوع نعله من قدميه لأن الأرض التي يقف عليها أمامه أرضاً مقدسة، لم ير يشوع هذا الرئيس في حياة موسى، ولكنه رآه بعد رحيله،.. لم ير إشعياء رب الجنود إلا في السنة التي توفى فيها عزيا الملك،ولعله من الهام أن نلاحظ أن يشوع في هذه الرؤيا بدأ من الرؤيا التي بدأ منها موسى، إذ أن ملاك الرب الذي ظهر لموسى في العليقة، هو هو بعينه الذي ظهر ليشوع، واستمع يشوع إلى ذات الكلمات التي استمع إليها موسى قال له الله: "اخلع حذاءك من رجليك لأن الأرض التي أنت واقف عليها أرض مقدسة!!.. ولعله من المناسب أن نلاحظ أن الله لم يأت عند موسى، ويقف أو يتوقف عمله، بل مد يده إلى يشوع أيضاً!!.. ومن اليد التي مدها، نراه هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، قد يتغير الناس، ولكنه هو هو لا يتغير: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك كما كنت مع موسى أكون معك لا أهملك ولا أتركك".. وعمل الله لن يصبح بين الناس شيئاً ماضياً فقط، بل لابد أن يصبح حاضراً ومستقبلاً أيضاً، وهذا العمل يتحرك من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، والنعمة الإلهية ستجد دائماً أمامها العمل المناسب الذي ينبغي أن يعمل، والشخص المناسب الذي يمكن أن يكون واسطة هذه النعمة بين الناس،.. إننا ننظر إلى الماضي لا لنتجمد هناك، أو نقرأ قصة لا يجوز أن تتجدد وتتكرر، إن الله إله إبراهيم، هو أيضاً إله اسحق ويعقوب، وإله موسى هو أيضاً إله يشوع وجدعون وصموئيل والأنبياء،.. وإن إله العهد القديم هو هو بعينه إله العهد الجديد، وسيعمل الله طالما كانت هناك قضية منتصبة أمام عينيه، وطالما كان هناك الإنسان الذي يخلع حذاءه توقيراً للرؤيا الإلهية، وهو يرى رئيس جند الرب وقد وقف قبالته وسيفه مسلول في يده! وحقاً إن الله -كما قال أحدهم- لم يفرغ جهده كله مع موسى، بل إن مخازنه مليئة بالنعمة والإحسان والرحمة لمن ينتظر ويستقبل!!.. والدين ليس تراث الماضي أو العمل الذي انتهى مع الأيام!!.. يشوع والمعركة الكبيرة إذا كانت سياسة الله ثابتة لا تتغير، فإن أساليبه بغير حدود أو انتهاء، وهو في كل الظروف والأحوال يطلب أن نتأكد أنه في الطليعة على الدوام،.. وكانت الخطة الأساسية في المعارك المجهولة أن يمضي التابوت واضحاً أمام جميع الشعب، وأن يرى القائد رئيس جند الرب معه، وأن يعلم الكل أن حقيقة المعركة ليست هي جهداً بشرياً خارقاً، أو معركة الأسلحة أو الأعداد المتكافئة، أو المختلفة التكافؤ، بل أن جوهر المعركة: أن الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون!!.. هذه المعركة الكبيرة لا يمكن أن تنجح، حيث هناك الفساد والخطية، والله لا يحارب في معارك الخطاة، وهو لا يمكن أن يساند يشوع وهناك عخان المختلس السارق، ولن تنجح المعركة ما لم تدفن الخطية في وادي غخور، ويصبح هذا الوادي بعد ذلك باباً للرجاء!!.. لم تستطع السبعة الأوتار الطرية التي قيد بها شمشون، أو الخصل السبع من شعر رأسه المربوطة في الوتد، أو سدى النسيج أن تهزمه أو تضعفه، ولكن الجبار سقط عندما ضاعت معاهدته مع الله بحلق شعره،.. إن المعركة الصحيحة الناجحة تتطلب أولاً وأخيراً فحص النفس في حضرة الله، والتخلص من كل شر أو خطية أو دنس أو فساد!!.. والمعركة الكبيرة مع ذلك ليست شيئاً سحرياً يأتي إلى الإنسان وهو قابع في مكانه يحلم بها بل هي جهد واضح يتحقق فيه القول: "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى" وما لم تدس الأقدام المكان، فهو أبعد من متناول طالبيه أو منتظريه!!.. إن الله لا يعطي وعده للكسالى والنيام، لكنه دائماً يعطي أرضه للنفس الراكضة والقدم المتحركة، ولعله من الملاحظ أن الأرض الموعود بها لم يأخذها يشوع أو شعب الله بأكملها، وذلك لأنها توقفوا عن الأخذ، ولم تسع أقدامهم إلى النهاية في أرض الموعد.. هل تذكر أيها المؤمن ماذا قال أليشع ليوآش ملك إسرائيل عندما طلب منه أن يفتح الكوة لجهة الشرق ويرمي سهامه ورمى الملك ثلاث مرات ووقف وغضب أليشع وقال له لو ضربت خمس أو ست مرات لضربت آرام عدوك إلى الفناء ولكنها مأساة المؤمن عندما يقصر إيمانه، وهو يقول ما قاله آخاب: "أتعلمون أن راموت جلعاد لنا ونحن ساكتون عن أخذها".. ما أكثر ما يضيق الواقع عن العطية التي يقصد إلهنا أن يعطيها لكل واحد منا!!.. والمعركة الكبيرة لا تتطلب في واقع الأمر جهداً بشرياً، بل أن الجهد أولاً وأخيراً هو سمة الإيمان في انتظار جهد الله مع الإنسان، أو لغة أخرى في معركة الإيمان!!.. وهل في قدرة إنسان أن يوقف الشمس وحركة الليل والنهار؟؟ وأوقف يشوع الشمس والقمر في المعركة بيقين الإيمان،.. وهل في قدرة البشر أن تسقط أسوار أريحا بمجرد الطواف حولها، والهتاف في آخر طواف؟؟ ولكن: "بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام".. وما تزال هناك إلى اليوم، الأسوار العالية، والقلاع الشامخة التي بناها الشيطان في الأرض، ونحن ربما نرى الشيطان، لكننا نعجز أن نرى رئيس جند الرب الذي يأتي إلينا، وهو يريد أن يكون معنا!! ولا يطلب منا أسلحة بشرية، لأن سلاح الإيمان والصلاة واليقين بأن الذي معنا أقوى من الذي علينا، هو السلاح الوحيد الغالب المنتصر في كل معارك التاريخ!!.. هل تعلم أن الله وضع أمامي وأمامك على الدوام أرضاً يفصلها شاطيء الأردن الممتليء إلى آخر شطوطه، وأن كل جهدك أن تضع قدم الإيمان الثابتة، وسترى العجب لأن الأردن كالبحر الأحمر سينغلق أمامك، وتعبر إلى أرض موعدك وتأخذ هناك عسلك ولبنك، لأنك لست منفرداً في الطريق، بل تسير على الدوام في صحبة الله، رب الجنود!!.. يشوع والنجاح الدائم ما أجمل كلمة النجاح، يسمعها يشوع من الخطوة الأولى، وهي ليست نجاحاً متقطعاً أو محدوداً، بل هي النجاح أينما ذهب واتجه!!.. والنجاح عند يشوع مرتبط بشيء واحد: "إنما كن متشدداً وتشجع جداً لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي لا تحد عنها يميناً ولا شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه لأنك حينئذ تصلح طريقك وحينئذ تفلح. أما أمرتك تشدد وتشجع لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب".. والله يأمر هنا يشوع أن يعود إلى شريعة موسى.. فهو ليس بالإنسان الذي يسير وفق هوى النفس أو حكمة الناس أو حكمته الخاصة، لقد أعطاه الله في الطريق شريعة لا يجوز أن يتنكب عنها يمنة أو يسرة، والشريعة عند يشوع كانت البداءة التي بدأ بها موسى الكتاب العظيم الذي توالت أسفاره بعد ذلك، فيما نعرف الآن بالكتاب المقدس، وهو أعظم كتاب في كل العالم، الكتاب الغني بالنور والحكمة والمعرفة والإرشاد، وقد ألقى به في تربة الأرض الإنسانية، ليخرج لها البستان العظيم الحافل بكل الأزهار والأثمار الرائعة!!.. وما من إنسان أو أمة أمسك به إلا وهداه أعظم هداية، وأروعها على هذه الأرض!!.. كان على يشوع لا أن يقرأ كتاب الشريعة فحسب، بل أن يتخذه صديقاً يومياً يسير معه كل صباح وكل مساء، كان عليه أن يخلق في نفسه وبيته وشعبه عادة التأمل اليومي في كلمة الله،.. وألم يغن صاحب المزمور الأول بهذه الحقيقة عندما قال: "لكن في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل وكل ما يصنعه ينجح".. ومن المؤكد أن الحياة المسيحية تجف وتتنكب طريقها على الدوام. ما لم تنصت إلى الإرشاد الإلهي الذي يأتيها من كلمة الله، وحكمة الله،.. ولقد شاء الله أن يعلم يشوع درساً قاسياً في عدم الإنصات إلى الفهم البشري دون سؤال الله، في قصة الجبعونيين الذي أوهموه بأنهم آتون من بلاد بعيدة، وأن ثيابهم تمزقت، وأحذيتهم تهرأت وخبزهم أصبح فتاتاً يابسة، وهم راغبون في معاهدة صداقة وأمن، وكان حرياً بيشوع أن يعرف من الله الأمر لكنه تعجل ودخل معهم في عهد: "فأخذوا من زادهم ومن فم الرب لم يسألوا".. وسقط يشوع في الفخ، وأضحى الجبعونيين شوكة في جنوب الإسرائيليين إلى المدى البعيد، وما أكثر ما تتجدد قصة الجبعونيين مع أبناء الله في كل العصور عندما لا يأخذ الناس إرشاد الله متوهمين أن الذكاء البشري يمكن أن يعطي الجواب الصحيح!!.. وكلمة الله تعطي الفلاح عندما تسير جنباً إلى جنب مع كل أمور حياتنا!!.. ولقد وجد الكثيرون من العادة اليومية للتأمل في كلمة الله والإنصات إلى صوته فيها كل إرشاد صادق وحكيم، ويكفي أن تقرأ القصص الرائعة في حياة هؤلاء أمثال چورچ مولر، لقد قرأ الكتاب المقدس من البداية إلى النهاية أكثر من مائة مرة، وتعلم منه الفطنة والإرشاد والحكمة في تصريف الأمور، ومعرفة الرأي الإلهي!!.. ولقد تساءل في غضب "ٌإدوارد أرفنج" وهو يتحدث إلى عصره في زجر الأنبياء: "من هو الإنسان الذي يشعر بالجلال والعظمة من تلقى الكلمة المنعشة النازلة إليه من درج السماء؟!! ومن ذا الذي يشعر بوزن الحرف الواحد وقيمته عندما ينزل إلينا من فم الله؟. ومن ذا الذي يشعر بالخوف المثير والرجاء المرهب في كلمات يتعلق معها مصيره الأبدي؟ ومن ذا الذي لا يمتليء صدره بمد العرفان، كلما تذكر الفداء والخلاص بدلاً من الضياع في الهلاك الأبدي؟!!.. هذا الكتاب نتاج الفكر الإلهي، وكمال الحكمة السماوية.كثيراً ما يحظى بالاهتمام من يوم إلى يوم، وربما من أسبوع إلى أسبوع، وكثيراً ما لا يأخذ مكانه اللازم لسعادتنا وراحتنا وصحتنا الروحية، بل كثيراً ما لا نهتم به في أوقات نحن أشد ما نكون حاجة إليه، عند الآلام والضعف والمحن والأحزان!!.. ولو كان للكتب ألسنة تصرخ بها من معاملة الناس، لصرخ هذا الكتاب قائلاً: اسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لقد جئت من حضن الله ومحبته، دون أن ألقي ترحاباً من الناس، وقبولاً كريماً،.. إني أفتح أمامكم أبواب الخلاص، وطريق الحياة الأبدية التي لم تكونوا تعرفونها، ولكني لم ألق ترحاباً بكم، بل إنكم تريدون الفصل بيني وبين سعادة الناس وبطولتهم!!.. والربط مع أمراضهم ونقصهم!!.. إنكم لم تسمحوا أن أرشدكم إلى الحكمة والفطنة، بل بالحرى طوحتم بي خلف مشاغلكم، وألقيتم بي في زوايا إهمالكم ونكرانكم.. ولو أنكم أنصتم لي لأعطيتكم السلام الذي كان لي عندما: "كنت عنده صانعاً وكنت كل يوم لذته فرحه دائماً قدامه.. لأن من يجدني يجد الحياة وينال رضا من الرب ومن يخطيء عني يضر نفسه كل مبغضي يحبون الموت" كان هذا سر النجاح عند يشوع، إذ ظل على الدوام يلهج في ناموس الرب ويعلم الشعب هذا الناموس: "وعبد إسرائيل الرب كل أيام يشوع وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع والذين عرفوا كل عمل الرب الذي عمله لإسرائيل".. يشوع كرمز ليسوع المسيح ولعله آخر ما نختم به الحديث عن يشوع ذلك التشابه القائم بينه وبين المسيح، وكلاهما يحمل اسماً واحداً مع الفارق البعيد بين الرمز والمرموز، والظل والحقيقة، والأصل والتقليد!!.. وهنا يسرح خيال المفسرين المتعبدين والروحيين ويمتد ويمرح.. وعندهم أن موسى وهرون عبراً بشعب الله، ومع ذلك تركاه في القفر حتى أدخله يشوع إلى أرض الموعد، وكان موت موسى ومجيء يشوع بعده رمزاً لبقاء الناموس حتى يأتي يسوع المسيح،.. وقد أضحى يشوع قاضياً وحاكماً للأمة، ابتداء من نهر الأردن، حيث تعمد المسيح وأخذ المعمودية من هناك مركزه النبوي،.. وكما اختار يشوع من النهر اثنى عشر حجراً أقامها للشهادة، اختار المسيح تلاميذه الاثنى عشر وأقامهم للشهادة بين الناس، وكما كانت راحاب الزانية أول من آمن من الأمم، ودخلت في زمرة شعب الله، هكذا أعلن يسوع المسيح وهو يتحدث إلى اليهود عن أن العشارين والزواني سيسبقونكم إلى ملكوت الله!!.. ومهما يكن من أوجه الشبه بين يشوع ويسوع، فمما لا شك فيه أن هناك فارقاً كبيراً بين الراحة التي قدمها يشوع، والراحة التي يقدمها يسوع المسيح، لقد جاء في سفر يشوع: "واستراحت الأرض من الحرب" "فأراحهم الرب حواليهم" "والآن قد أراح الرب إلهكم إخوتكم كما قال لهم" "وكان غب أيام كثيرة بعدما أراح الرب إسرائيل من أعدائهم حواليهم" غير أن هذه الراحة هي التي أشار إليها كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه لو كان يشوع أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يوم آخر إذا بقيت راحة لشعب الله" وليست هذه الراحة إلا الراحة التي يقدمها المسيح وفيه: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" وهي الراحة من الذنب والهم والضيق والمعاناة في هذه الأرض، والطوبى الأبدية: "هنا صبر القديسين، هنا الذين يحفظون وصايا الله وإيمان يسوع.. وسمعت صوتاً من السماء قائلاً: لي أكتب طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن نعم يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم"..
المزيد
29 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس هوشع

هوشع " قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى "" هو 1: 2 " مقدمة من روائع تينسون الشاعر الإنجليزى، قصيدة، لست أدرى مدى ما فى وقائعها من الدقة أو الصحة، وهل هى حقيقة عرفها، وحولها شعراً، أو هى مزاج من الخيال والحقيقة معاً ألهبت شاعريته فسجلها شعراً رفيعاً رقيقاً، والقصة على أية حال تصور جندياً دعى إلى القتال فى الحرب، وغاب سنوات طويلة عن بيته وزوجته، وحسب فى عداد المفقودين، وإذ طال انتظار زوجته دون عودته،... اعتبرته ميتاً وتزوجت بآخر،... على أن الجندى عاد بعد أهوال الحرب، وهو يعتقد أن زوجته باقية على الوفاء لعهد الزوجية والمحبة التى ربطتهما،... ولشد ما روعه أن يسأل صبياً على مشارف القرية التى كان يعيش فيها، عن الزوجة، وإذ بالصبى يذكر أن الزوجة تزوجت بآخر بعد أن فقدت الأمل فى عودة زوجها واعتبرته ميتاً، وهاله الأمر وشق طريقه إلى بيته القديم، وما أن ولج الباب بعد أن فتحه بالمفتاح الذى كان معه، حتى رأى من على بعد غريباً بالبيت، فأغلق الباب فى هدوء، وخرج خارج القرية، وفى الصباح وجدوه جثة هامدة، قال الطبيب بعد فحصها، إنها جثة شاب يبدو أنه مات حزيناً مكسور القلب!!.. ومهما كانت قصيدة تينسون ونصيبها من الدقة أو الصدق، فإن هناك قصة حب قديم لرجل تزوج امرأة خائنة رغم أنه أحبها بجماع قلبه،.. وكان الرجل مثالا ورمزاً وصورة لحب اللّه لعذراء إسرائيل، ومع ذلك فقد تحولت هذه العذراء عن اللّه، وخانته بالزنى مع آخرين!!.. وحقاً قال أحد المفسرين: إن كلمات هوشع كانت دموعاً أكثر منها كلمات. فالجرح العميق الذى أصاب قلب الرجل، علمه أن يفهم معنى الجرح العميق فى قلب اللّه. ومحبته لزوجته الخائنة رغم إثمها وشرها وخيانتها دربته على أن يدرك إلى أى حد لم يستطع إثم إسرائيل وشره وزناه أن يضيع محبة اللّه له!!.. ولعلنا بعد هذا نرى هوشع فيما يلى: هوشع ومن هو يأتى هوشع فى أول القائمة بين الأنبياء الذين يطلق عليهم « الأنبياء الصغار »، وليس معنى هذا أنه أقدمهم، فالبعض يعتقد أن يونان أقدم الكل، وأن يوئيل يتلوه، وأن عاموس يأتى بعد ذلك. وعلى الأغلب يأتى هوشع بعد الثلاثة وهو الذى تنبأ فى أيام يربعام الثانى وكان معاصراً لإشعياء فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا!!.. وقد أرسله اللّه ليكون الصوت الأخير للمملكة الشمالية قبل سقوطها، والكلمة هوشع معناها « خلاص » وإن كان جيروم يأخذها على اعتبار أنها « مخلص ».. ومع أننا لا نكاد نعرف شيئاً عن هذا النبى خارج سفره، إلا أنه من المتفق عليه، أنه من أبناء مملكة إسرائيل،.. ومع أن البعض يعتقد أنه من بيت نبوى، لكن المرجع أنه كان كعاموس الذى لم يكن من سلسلة الأنبياء أو من أبنائهم، وهناك تقليد قديم يقول إنه من سبط يساكر!!.. ولا يمكن أن يذكر هذا النبى دون أن يشار إلى المأساة المحزنة التى حدثت فى حياته، ونعنى بها زواجه بجومر بنت دبلايم، وجومر معناها « تمام » وبلايم معناها « قرصا تين » والاسم يشير إلى المرأة التى وصلت إلى تمام الخطية بنت الشهوة واللذة،.. وقد اختلفت الآراء اختلافاً كبيراً حول زواج هوشع من زانية، ولعل أشهر الآراء هو: الرأى الرمزى والذى يعتقد أن اللّه الذى يكره الخطية ويمقتها، والذى ينادى برجم الزانية، لا يمكن أن يأمر نبياً بأن يتزوج بأمرأة خائنة، والأمر كله رمزى يصور العلاقة التى تربط اللّه بشعبه الخائن على هذا الأسلوب الرمزى الرهيب، وقد أخذ به أوغسطينوس وجيروم وكلفن وكايل، ويذهب لوثر إلى أن المرأة جومر وأولادها وصموا بالزنى، على سبيل التمثيل الرمزى!!.. ويتجه التفكير اليهودى فى العصور الوسطى والذى أخذ به ميمونديس وابن عزرا وكيمتشى إلى الأخذ بفكرة الرؤيا، وأن الأمر كله كان حلماً أو رؤيا رآها النبى وتحدث بها إلى الشعب، وهو يصور العلاقة بين اللّه وأمته!!.. على أن هناك من لا يأخذ بهذين الرأيين، ويقطع بأن المرأة كانت زانية، وأن أولادها أيضاً أولاد زنى، ويتعصب لهذا الرأى دكتور بوسى وهو يقول: « ليس هناك من أساس يمكن أن نحول معه ما يذكره الكتاب كحقائق على اعتبار أنها أمثال، وليس هناك من دليل يساعد على تصور أن أشخاصاً ذكرت أسماؤهم دون أن يقصد اللّه أنهم وجدوا فعلا وعاشوا بين الناس، وليسوا مجرد رموز أو صور تشبيهية!!.. وإلا فلن يبقى لنا بعد ذلك من سبيل لمعرفة الفارق بين ما هو حقيقى أو خيالى!!.. » وهناك رأى حديث نسبياً أخذ به بعض المفكرين فى القرن الثامن عشر، ممن لم يستسيغوا الأفكار السالفة جميعاً، ونادوا بأخذ الزنى بالمعنى الروحى، وقالوا إن زنى جومر يعنى إما أنها كانت امرأة وثنية بعيدة عن شعب اللّه، أو إسرائيلية مرتدة!!.. وأعتقد أن النص الكتابى من الوضوح بحيث يشجع على الأخذ بالفكر الحرفى المادى. وأن جميع المحاولات الأخرى، نشأت أساساً من هول التصور الذى يصدم نفوس الشراح والمفسرين، بخيانة المرأة لزوجها، وثمرة بطن الخيانة البشعة فى أولادها الثلاثة،... وإن كان البعض مع ذلك يعتقد أن النبى كان يجهل هذه الخيانة، وأن اللّه أعلمها له بعد وقوعها، وقد أطلق على الولد الأول « يزرعيل » إعلاناً عن قرب العقاب الذى سيقع على يزرعيل، بخراب الأمة التى حادت عن اللّه، وأن الابنة الثانية « لورحامة »، وتعنى عدم الرحمة، أو الشقاء « التعب الذى سيقع فيه الشعب بدون هدوء أو رحمة »،... وأن الثالث « لوعمى » أو ليسوا شعبى، إعلاناً عن فصم العلاقة بين اللّه وشعبه!!... ويزيد الأمر ترجيحاً أن جومر لم تكتف بزناها، بل هجرت بيت الزوجية، وسارت وراء محبيها، وكانت النتيجة أنهم تخلوا عنها ولفظوها، وكادت تهلك جوعاً، فذهبت إلى سوق العبيد لتبيع نفسها، لعلها تجد من يأويها ويطعمها، وهناك التقى بها هوشع مرة أخرى، ليأخذها، ويعيدها إلى بيته ثانية، ولكن على علاقة جديدة. فلن تكون له زوجة، بل ستبقى أياماً كثيرة بعيدة عن حياتها الأولى، تائبة نادمة، حتى تدرك معنى الحياة الزوجية السليمة دون زيغ أو ضلال!!.. هوشع والعهد المنقوض لم يقف هوشع، وهو يتحدث عن الخطية، عند بعض مظاهرها السلبية أو الإيجابية، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى نبعها التعس القذر، ورآه فى نقض العهد مع اللّه،... ومن المؤكد أنه وهو يكتب وثيقة الاتهام قائلا: « اسمعوا قول الرب يابنى إسرائيل. إن للرب محاكمة مع سكان الأرض » (هو 4: 1)، لم يكن يكتب هذا الاتهام بقلمه ولسانه فحسب، بل كتبه، أكثر من ذلك، بحياته ومأساته، ولقد استمد من ذوب هذه الحياة الحزينة مداد وثيقته الدامغة،... أجل، فإن هوشع صالح بقول الرب من أعماق نفسه الممزقة الدامية،... وهو بذلك يعطينا صورة للخادم العظيم المثالى، الذى لا يبقى على شئ فى حياته دون أن يقدمه على مذبح الرب،... فالحياة والخدمة والشرف والكرامة، وكل مقومات النفس الإنسانية فى أعظم وأرهب وأدق وأروع وأقسى أوضاعها، ينبغى أن توضع على المذبح النارى فى كل ولاء وخضوع وتسليم دون تردد أو تذمر أو تقهقر أو تراجع!!.. كانت خطية إسرائيل الأولى، أو بالحرى، نبع كل خطاياها، هى - التعدى على عهد اللّه ونقضه، كما تعدت جومر بنت دبلايم على عهد الحياة الزوجية مع زوجها هوشع!!.. ولم يقف النبى عند هذه الصورة الخاصة به، بل رمى ببصره إلى الوراء ليراها خطية الإنسان الأولى فى الحياة: « ولكنهم كآدم تعدوا العهد هناك غدروا بى» " هو 6: 7 " والنبى يريد أن يذكر الشعب بأن اللّه صنع مع إسرائيل ما صنع مع الأبوين الأولين، إذ يسر لهما كل سبل الحياة، وأودعهما جنة جميلة بهيجة ظليلة، ولكنهما مع ذلك، تجاوزا عهده وخانا وصيته، وهكذا الإسرائيليون الذين أحسن اللّه إليهم وظللهم بحياة البهجة والنعمة والرضى، ولكنهم مع ذلك تمردوا عليه، وخانوا العهد الذى قطعه بينهم وبينه!!.. فإذا استطاع الإنسان أن يغدر بالعهد مع اللّه، فلا يمكن أن يستقيم أو يستقر فى عهده مع أخيه الإنسان، وسيبعد عن كل وفاء مع اللّه أو الناس على حد سواء، ومن ثم، سيرتكب كافة الخطايا سواء كانت سلبية أو إيجابية، وحق لهوشع أن يرى من الوجهة السلبية الفضائل الضائعة: « لأنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة اللّه فى الأرض » " هو 4: 1 " والأمانة موقف الإنسان من نفسه، والإحسان موقفه من الآخرين، ومعرفة اللّه موقفه من الذات العلية المباركة!!... والخطية فى الواقع ليست وقفاً على ارتكاب الإنسان للرذائل والآثام والشرور بل هى أولا وقبل كل شئ ترك الواجب النبيل العظيم، أو كما وصفها الرسول يعقوب: « فمن يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له » " يع 4: 17 " كانت صلاة الأسقف أثر: « ربى اغفر لى خطايا النسيان والإهمال »..وما أسرع ما جاءت الخطايا الإيجابية فى إثر الخطايا السلبية، فعجت الأرض بخطايا رهيبة: « لعن وكذب وقتل وسرقة وفسق. يعتنفون، ودماء تلحق دماء » " هو 4: 2 " وهل هناك مجتمع أشر وأقسى من مثل هذا المجتمع الفائض بالمرارة والخداع والأغتصاب والنهب والعنف وإراقة الدماء، وفى مثل هذا المجتمع يتساوى رجل الشارع والكاهن والنبى، فالكل قد ضلوا وزاغوا وليس لأحد امتياز على آخر، ولا يستطيع أحد أن يحاكم آخر أو يعاقب آخر، لأن الكل فى الموازين إلى فوق، وعلى حد سواء، ألم يرفض الكاهن المعرفة، وينسى الشريعة؟، وقد هلك الشعب لعدم المعرفة، وتعثر الجميع فيما انتهوا إليه من شرور؟!.. وقد تعاظمت المأساة، لا بالخطية وحدها، بل أكثر من ذلك، بتلك القطرات القليلة من التوبة الزائفة، إذ أن العقاب عندما حل بإسرائيل، حاولوا التوبة، ولكن توبتهم كانت ضعيفة وقتية، أشبه بسحاب الصبح أو الندى الذاهب سريعاً: « فإن إحسانكم كسحاب الصبح وكالندى الماضى باكراً ».. " هو 6: 4 " وعيب هذه التوبة أنها تبدو جميلة المظهر ضائعة المخبر، وأليست هذه توبة الكثيرين الذين إذ يسمعون الكلمة يقبلونها بفرح ولكن ليس لهم أصل فى ذواتهم؟؟ فما أسرع ما تضيع وتتلاشى وتنتهى!!. مثل هذه تقرضها وتقرض أصحابها أقوال الأنبياء إذ تشهد عليهم بالعقم والكذب وعدم الأثر: « لذلك أقرضهم بالأنبياء اقتلهم بأقوال فمى والقضاء عليك كنور قد خرج ».. " هو 6: 5 "ولم ينسى هوشع أن يتحدث عن التوبة الصحيحة الصادقة، والتى فيها يدعو أبناء شعبه للعودة إلى الرب، دعوة جماعية: « هلم نرجع إلى الرب » " هو 6: 1 " والدعوة الجماعية أساس كل قوة وحياة ونهضة، لأن الأفراد فى العادة يتشجعون بعضهم بالبعض، وتسير فيهم موجة عارمة كالتى حدثت يوم الخمسين، عندما آمن عدد كبير فى يوم واحد،... والذى يشجع على العودة أن عقاب اللّه وتأديبه لأولاده، لم يقصد به قط الانتقام، بل هو عقاب الأب لابنه، وأنه بعد أن يفترس يريد أن يشفى ويعالج الجروح التى حدثت فينا، وبعد أن يضرب يريد أن يجبر الكسور التى ألمت بنا!!... وهو على استعداد أن يقصر فترة العقاب، فلا تزيد عن يومين، أو فى عبارة أخرى، لا تزيد عن فترة قصيرة جداً... بل أكثر من ذلك، هو على استعداد أن يأخذ مكاننا فى الألم. والمفسرون اليهود والمسيحيون متفقون على أن العبارة: « يحينا بعد يومين فى اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه » تحدث عن المسيح المنتصر المقام، وإن كنا نحن نرى فيها، على خلافهم، الام الصليب التى تسبق القيامة،... على أن العودة إلى الرب لا يمكن أن تتم إلا بالمعرفة الفكرية والاختبارية له: « لنعرف فلنتبع لنعرف الرب » " هو 6: 3 " أو فى لغة أخرى، ينبغى أن نعرف الرب بعقولنا، ولكن هذه المعرفة ينبغى أن يلحق بها، ويتبعها على الدوام السير وراء الرب، وقد أراد النبى أن يشجع هذا السلوك، فبين أنه سيصحب ببركة الرب، إذ أن اللّه يأتى إلى شعبه ليرويه كما ترتوى الأرض الجافة بالمطر المتأخر الذى طال انتصاره... ولعل النبى خاف أن يكون هذا السلوك مجرد طقوس وفرائض، فبين أن اللّه يهتم بالرحمة أكثر من الذبيحة ومعرفته أكثر من المحرقات: « إنى أريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة اللّه أكثر من محرقات » "هو 6: 6 " إن الرحمة هى الحياة الخفية للإنسان التقى والمعرفة هى التتبع السليم لوصايا اللّه!!.. فإذا رفض الإنسان التوبة، وسلك فى عناد قلبه، فإن العقاب سيكون الجزاء القاسى الرهيب الذى سيتناول الأرض والحيوان والناس، أما الأرض فتصاب باللعن والقحط والجدب، والحيوانات والطيور والأسماك ستذيل وتنتزع نتيجة للمجاعة والجفاف، وكما حدث فى أيام آدم إذ لعنت الأرض بسببه، وفى أيام نوح إذ أغرق الطوفان الإنسان والحيوان وكل شئ معاً، هكذا فى أيام هوشع، وفى كل الأيام، هناك علاقة ثابتة بين الإنسان وسائر المخلوقات فبركته بركتها، ولعنته لعنتها، وذلك وفقاً لناموس العلاقة القائمة بينهما... لذا ينبغى أن نتوقع دائماً ضياع الخير والدسم والبركة من الأرض كلما ازداد الناس إمعاناً فى الشر والإثم والخطية،... أما الناس أنفسهم فسيكون عقابهم من كل جانب، ومن كل لون من ألوان حياتهم، أذ سيتناول الصحة فتذبل أجسامهم، والطعام عندما تجدب الأرض، وتقل المخلوقات فيها،... والنعمة عندما يرفضون النصيحة والإرشاد وكلمة اللّه، وعندما يضل الأنبياء والكهنة فيهم،... والكرامة عندما تسرى بينهم الضعة والهوان، والخراب عندما يلحق بأمهم إسرائيل: « وأنا أضرب أمك » " هو 4: 5 " وعندما يبصر الناس كل هذا قد يقول قصار البصر والمعرفة والإدراك إنها الصدفة أو الظروف السيئة أو يد آشور التى عاثت فى الأرض فساداً،... وأما هوشع فيؤكد أنها يد الرب إذ: « أن للرب محاكمة مع سكان الأرض ».. " هو 4: 1 ".. هوشع والمحبة الغافرة يعتقد أغلب الشراح، أن الشطر الأخير من نبوة هوشع كتب بعد موت يربعام الثانى، فى تلك الأيام التى بدأ فيها مجد إسرائيل بنطفى وينوى فى ظلال النهاية والعدم، ومن المعتقد أن هوشع سمع دون أدنى شك نبوات عاموس النبى الذى جاء من أرض يهوذا إلى إسرائيل لينذره بالمصير المفجع الذى يوشك أن يتردى فيه، ورأى كيف أعطى إسرائيل أذنا صماء للنبى الراعى ونبوءته، ورأى أكثر من ذلك فترة الفوضى والقلق والاغتيال والانهيار التى أعقبت ذلك، ومع أنه لم يعش ليرى الخراب النهائى لبلاده إلا أنه رآه وشيك الوقوع وعلى مقربة منه، إذ لم يكن عسيراً عليه أن يرى شمس أمته تنحدر سريعاً نحو الغروب، على أنه فى تلك اللحظة الحزينة السوداء القائمة، وقف ليرينا منظراً بهيجاً مجيداً رائعاً... فنظر الشفق الجميل الأحمر الذى يرسل شعاعاته الفاتنة قبل أن يغمر الأرض الظلام،... لقد تحدث هوشع عن محبة اللّه العظيمة الغافرة، التى لا يمكن أن تهزمها خطية إسرائيل وإثمه وشره وأصنامه،... وإلى أن نقف عند الصليب لن نرى نبياً بز بحياته وأحزانه ورسائله - هوشع فى إعلان محبة اللّه الغافرة، ولئن كان عاموس يدعى فى نظر الكثيرين الرسول يعقوب فى العهد القديم، فإن هوشع هو الرسول يوحنا!! فى مدينة نيويورك حادت زوجة وزاغت عن الأمانة الزوجية فى علاقتها، بزوجها، وهربت مع آخر، وظلت على هذه الحال فترة من الزمن، لم يلبث بعدها أن هجرها محبها الآخر، وتركها شريدة بائسة ضائعة، وفى يوم من الأيام، التقت بزوجها عرضاً فى الطريق، فحاولت أن تتوارى عن عينيه خجلا وذلا وعاراً، ولكنه وقد أبصرها على هذه الحالة التعسة، عادت إليه ذكرى الأيام القديمة الحلوة، فصاح: مارى!! وأخذها إلى بيته، وقد ضاق به أصدقاؤه ومعارفه لما فعل، ولكن الرجل سار وراء محبة اللّه الغافرة، فانتشل زوجته من أعماق دركات الخطية،... وهكذا فعل اللّه مع إسرائيل إذ أحبه رغم خيانته وإثمه، وأرسل هوشع ليكرز بحياته وأحداثه ورسالته بمحبة اللّه الغافرة، وها نحن سنتبع هذه المحبة، ونحن نذكر بعض ماورد فى الأصحاحين الحادى عشر، والرابع عشر من سفره على النحو التالى: تاريخ المحبة كانت هذه المحبة، ولا شك، محبة أزلية فى قلب اللّه، غير أنها ظهرت عندما ظهر إسرائيل على الأرض، وعلى الإخص عندما كان غلاماً صغيراً عاجزاً فى أرض مصر،... هنا انحنت عليه المحبة أنحناء الأب على الوليد وأمسكت به فى عجزه وقصوره، وأخرجته من أرض مصر، بل هنا سارت معه المحبة سيراً وئيداً رفيقاً هادئاً تدرجه وتدربه على المشى، وترفعه إذا سقط، وتشفى جراحه، وترفع عنه النير عندما تثقل عليه الأحمال، وتولى رعايته وإطعامه وتعليمه، مع أنه كان يتجه بقلبه، مرات كثيرة، نحو البعليم فيذهب إليها وينحنى لتماثيلها المنحوتة، ولكن ذلك كله لم ينتزع المحبة العظيمة نحوه... إن تاريخ محبة اللّه، سابق دائماً لوجودنا ومعرفتنا وإدراكنا ونقصنا وعجزنا وقصورنا وضيعتنا!!.. حزن المحبة على أن إسرائيل - للأسف - قد تجاهل هذه المحبة، وتعامى عن تاريخها، وسار فى طريقه الخاطئ حتى أضحى مثل سدوم وعمورة وأدمة وصبويم، المدن التى قلبها اللّه لشرها، ومع أن صوت العدالة كان يطالب بإبادته والقضاء عليه، لكن صوتاً آخر عميقاً فى قلب اللّه، كان يقول كلا: « لا أجرى حمو غضبى لا أعود أضرب أفرايم لأنى اللّه لا إنسان، القدوس فى وسطك فلا آتى بسخط » " هو 11: 9 "وهذا الصوت هو صوت المحبة، صوت اللّه الذى هو أكثر احتمالا ورأفة من الإنسان، وأقل رغبة فى الانتقام، وفى غمرة هذا النزاع بين العدالة والمحبة نرى حزن اللّه المفعم بالود والإحسان والمشاعر فى القول: « قد انقلب على قلبى اضطرمت مراحمى جميعاً » " هو 11: 8 ".فى إحدى ولايات دولة الهند كانت هناك سيدة غنية من أغنى الأسر، ولها ولد شرير فاسد، ضعيف العقل سفيه التصرف، ومع ذلك، كانت أمه تحبه وتعنى به،... وقد اتهم فى يوم من الأيام بالكثير من الجرائم المنكرة، وحكم عليه بالموت، وقد جاهدت أمه جهاداً جباراً للابقاء على حياته، وعندما قالوا لها إن موته سيريحها ويعفيها من كثير من الآلام والمتاعب... صاحت: أليس هذا هو ولدى... فكيف أتركه!!؟ … لئن صح أن يصدر هذا عن إنسان فيفما يكون حاله وشأنه!!.. فبالأولى إنه يعبر عن محبة اللّه للإنسان الخاطئ!!.. نداء المحبة فى الأصحاح الرابع عشر، يدعو النبى شعب اللّه أن يتوبوا ويرجعوا: « إرجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثرت بإثمك خذوا معكم كلاماً وأرجعوا إلى الرب. قولوا له ارفع كل إثم واقبل حسنا فنقدم عجول شفاهنا. لا يخلصنا أشور. لا نركب على الخيل ولا نقول أيضاً لعمل أيدينا آلهتنا. إنه بك يرحم اليتيم... » " هو 14: 1 - 3 " وهذا هو نداء المحبة العظيمة، الذى يؤكد لاسرائيل أنه رغم سقوطه وتعثره، فإن الرب ما يزال إلهه، وما عليه إلا أن يرجع للرب، ويقدم صلاة التوبة التى يراها اللّه كعجول الذبيحة، كما عليه أن يثق بسيده لا بآشور أو غيرهما من ممالك الأرض فاللّه وحده هو الذى يستطيع أن يقوى الضعيف، ويرحم البائس، وينصف اليتيم، ترى هل يستطيع أن ينصت المتعثرون إلى هذا النداء الحلو الجميل؟!.. انتصار المحبة وقد اختتم هوشع نبوته بانتصار المحبة: « أنا أشفى ارتدادهم، أحبهم فضلا لأن غضبى قد ارتد عنه ».. " هو 14: 4 " وما أكثر ما يرى إسرائيل من خير بعد هذه المحبة المنتصرة، فإنه سيكون لإسرائيل كندى الحياة، يجعله مزهراً كالسوسن، جميلا كالأرز، بهيا كالزيتون، عطرى الرائحة كلبنان عميق الأصول... وهكذا يبصر اللّه فى إسرائيل مالا يراه إسرائيل فى نفسه، وما لا يمكن أن تبصره سوى عين المحبة المنتصرة، أو كما قال أحد المفسرين: « وكما تصبر الأم على ضلال ابنها، وتثق بشئ قد لا ترى منه أدنى علامة، ولكنها تأمل أن يكون يوماً، وتظل متمسكة بالأمل، حتى ولو أثبتت الأيام فشل انتظارها، فيما كانت تحلم به، غير انها تنظر إلى ولدها بقلب الأم، لا بما يبدو منه من خطأ أو عار، ولا فيما هو عليه، بل فيما يمكن أن يكون، فى ضوء رغباتها وأحلامها، وتظل تتعلل بالفكر أن ابنها أعلى وأعظم كثيراً مما يبدو فى ظاهره، ولا يمكن أن تسلم إلى النهاية بشره وبطله وضلاله، وإلا تكون قد فقدت قلب الأم وحنانها، هكذا اللّه أبونا السماوى، يمسك بنا ويتحمل كل ما يرى من مظاهر شرنا، على أمل أن يرى - يوماً ما - الخطية والجنون وقد عبرا عنا، وفى قطار المسيح يسوع نرجع إلى بيت أبينا »...على أحد التلال وقف ولد إنجليزى مع أبيه الذى كان يحدثه عن محبة اللّه، ونظر الأب شمالا إلى اسكتلندا، وجنوباً إلى إنجلترا، وشرقا إلى ألمانيا، وغرباً إلى التلال والمحيط الواسع خلفها، وقال لوالده: إن محبة اللّه يا ولدى متسعة مثل هذه الجهات البعيدة،... وقال الابن: إذاً يا أبى نحن الآن فى وسطها!!.. وإذا كان من المعتقد أن « جومر » بنت دبلايم، قد أثرت فيها محبة هوشع، فعادت إلى بيت الزوجية تقبع فى عقر دارها، تجتر، حزنها وألمها أياماً كثيرة، قبل أن تفهم معنى التوبة والوفاء لزوجها،.. وإذا كان إسرائيل قد عاش فى الآم المنفى والسبى، سنوات طويلة، قبل أن تعود البقية من أسباطه إلى اللّه، وتظهر فى أمثال شاول الطرسوسى بعد مئات من السنين، وإذا كان الابن الضال قد عاد إلى أبيه بعد الجوع والضيق والمشقة والحرمان،... فسنظل دائماً - على أية حال نكون - كما ذكر الغلام الإنجليزى - فى وسط دائرة محبة اللّه وقلبها، لنسمع ما قاله هوشع بن بئيرى فى ختام نبوته، " ربما فى عام 735 ق.م. "،: « أنا أشفى ارتدادهم. أحبهم فضلا لأن غضبى قد ارتد عنه » " هو 14: 4 "..!!...
المزيد
22 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس نوح

نوح "اصنع لنفسك فلكاً" تك 6: 14 مقدمة قد لا يعرف الكثيرون أن قصة نوح كانت من أجمل القصص الكتابية وأعمقها وآثرها وأدناها إلى قلب الواعظ المشهور مودي، وقد لا يعرفون أن مودي لم يكن يمل على الإطلاق من ذكر تأثير هذه القصة عليه في الكثير من مواعظه وأحاديثه وكتاباته، وقد ألف مودي أن يفعل هذا، لأن هذه القصة أراحته وعزته، وكانت بمثابة نقطة التحول في خدمته، في لحظة من أدق وأحرج اللحظات التي مرت به في حياته كلها!!.. كان مودي في ذلك الوقت فاشلاً في الخدمة على أرهب وأدق ما يمكن أن تشتمل عليه كلمة الفشل من معنى، وإذ زاره أحد الأصدقاء ممن يقومون بالتعليم في مدرسة من مدارس الأحد، ورآه مهموماً كئيباً، استفسره عن سر كآبته وحزنه، وإذ أدرك أنه حزين لجدوب خدمته، وعقمها، وعدم إثمارها، أشار عليه أن يعيد تأمله في قصة نوح، قصة ذلك الإنسان الذي ظل يكرز، دون ملل، بين الناس مئة وشعرين عاماً، دون أن يكسب منهم فرداً واحداً لله، ما خلا بيته!! وإذ قرأ مودي القصة من جديد، هاله الفرق الكبير بين إيمان نوح وشجاعته وصلابته وصبره وكفاحه في مواجهة عالم شرير آثم، وإيمانه هو وصبره وجهاده، في عالم مهما يكن شره، فلا يمكن أن يكون ضريباً للعالم قبل الطوفان!! وفعلت القصة فعلها الرائع العجيب فيه، إذ زودته بإدراك ووعي جديد للخدمة، وارتفعت به من وادي الاتضاع واليأس والمذلة والقنوط الذي هبط إليه، إلى قمة النجاح والتقدم والانتصار والعظمة التي بلغها في خدمته فيما بعد!! ولم يعد من ذلك اليوم، كما ألف أن يقول، يعلق عوده على شجر الصفصاف!! وفي الواقع أن هذه القصة ليست خصبة حية عميقة الأثر في حياة الوعاظ فحسب، إذ تتحدث عن أول واعظ وكارز حدثنا عنه الكتاب، بل لعلها من أمتع وأجمل وأقوى القصص التي تتحدث عن رجل لم يكن من صناع التاريخ فحسب، بل كان هو بذاته نقطة بدء جديدة، في التاريخ، والحياة البشرية!!.. من يكون إذاً هذا الرجل العجيب؟!! وما كرازته؟!! وفلكه؟!! وميثاق الله معه؟!! هذا ما أرجو أن نضعه أمامنا ونحن نتناول شخصيته العظيمة!!. نوح من هو وما طباعه وحياته؟!! لعلنا نستطيع أن ندرس الرجل، ونتفهم طباعه وصفاته وأخلاقه في دعة وحق وجلال، إذا أتيح لنا أن نتتبعه من الداخل إلى الخارج، أو من علاقته مع الله في السريرة والنفس، إلى علاقته مع البيت، إلى علاقته مع المجتمع الخارجي، في العالم الذي يحيط به، ويبدو نوح في هذه جميعها وقد اتسم بالخلال التالية: نوح البار القديس وهنا يبدو قلب الرجل وجوهره وأعماقه، بل هنا يبدو أساس ما فيه من عظمة ورغادة وجمال ومجد: "كان نوح رجلاً باراً.. وسار نوح مع الله" "لأني إياك رأيت باراً لدي في هذا الجيل" والبر قبل كل شيء، هو الموقف البريء، غير المدان، من الله، أو في لغة أخرى، هو الموقف السليم، من الوجهة القانونية، إزاء حق الله وبره وعدالته وقداسته، ولكن كيف يتاح للإنسان أن يقف هذا الموقف، والكتاب يشهد: "إنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاعوا وفسدوا ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد"؟! لا سبيل لنا إلا بالبر النيابي: "بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله، لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو بالإيمان بيسوع" وقد كان نوح من المؤمنين بالذبائح التي ترمز إلى هذا الفداء، وهذه الكفارة، وما من شك بأنه درج على تقديم هذه الذبائح كما كان يفعل آدم، وهابيل، وشيث، وأخنوخ، وموسى، وهرون وداود وسائر المؤمنين قبل الصليب!! وما من شك بأنه تعلم من الله كغيره من الأقدمين الذين جاءوا قبل ناموس موسى، الفرق بين الطاهر وغير الطاهر من البهائم والطيور، وكيف تقدم الذبائح من البهائم والطيور الطاهرة دون سواها!! وقد وضح هذا فيما صنعه بعد أن خرج من الفلك إذ بنى مذبحاً للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور وأصعد محرقات على المذبح!!.. والبر أيضاً يعني الحياة المتميزة المستقيمة المنفصلة عن العالم، والمتصلة بالله، وقد كان نوح بهذا المعنى، باراً لدى الله في جيله، إذ لم يعش الحياة التي كان يعيشها معاصروه، وأهل جيله، إذ انفصل عن شرهم ومجونهم وطغيانهم واستبدادهم، وسار مع الله، ولعل سيره مع الله كان بمثابة الامتياز والوقاية والعلاج له من السير مع العالم!! كان نوح هنا أشبه بتلك الشجرة من الصفصاف التي لاحظ البستاني أنها تميل إلى جانب، وحاول عبثاً أن يجعلها مستقيمة منتصبة، وأخيراً ادرك السر، إذ كان هناك مجرى صغير يندفع تحت سطح الأرض، وكانت الشجرة تميل نحوه إذ هو ينبوع ريها ومصدر انتعاشها وقوتها، وما أن عرف البستاني هذا، حتى سارع إلى قفل هذا الينبوع، وتحويله إلى الجانب الآخر المهمل من الشجرة، وما أسرع ما اعتدلت واستقامت بعد ذلك!!.. وليس هناك شيء يحررنا من إغراء العالم ولهوه ومتاعه ومجونه ولذاته سوى الاتصال بالله، والالتصاق به، والسير معه، والحياة والانتعاش والري بالشركة معه!! نوح الحلو الشمائل وما من شك بأن نوحاً كان حلو الشمائل، دمث الأخلاق، رقيق المشاعر، جذاب الشخصية، أطلق عليه أبوه بروح النبوة الاسم "نوح" أي "راحة" إذ قال: "هذا يعزينا عن عملنا وتعب أدينيا من قبل الأرض التي لعنها الرب" وهي لغة إن تحدثت عن شيء، فإنما تكشف لنا الطباع الحلوة الجميلة التي وجد عليها ذلك الإنسان فيما بعد، في علاقته بالناس، على وجه العموم، وعلاقته بأبويه وبيته، على وجه الخصوص، ولعل أفضل مكان يكتشف فيه الإنسان على حقيقته هو بيته، بين أبويه، وأهل منزله، حيث يسقط قناع التكلفة والتظاهر والمواراه، وحيث يبين على الطبيعة دون زيادة أو نقص،.. وقد كان نوح لأبويه بمثابة الابتسامة العذبة في أرض الدموع أو النسمة الرقيقة في الجو اللافح، أو الزهرة العطرة في البرية القاحلة، أو الينبوع الحلو في القفر المجدب!! فكلما ضاق لامك بالتعب والكدح في الأرض وجد في ابنه راحة وعزاء، وكلما اضطرب في علاقته بالأشرار في العالم الذي يحيط فيه، وكادت أنفاسه تختنق، وجد في ابتسامة ابنه وشركته وحلو شمائله ما يغنيه وينسيه عن كل ما في العالم من متاعب!! وكلما أحس الإرهاق يأتيه من هذا الجانب أو ذاك، ونظر إلى ابنه العظيم الغنى بالفضائل إلى جواره ارتقى وارتفع فوق كل تعب وعنت وضيق ومشقة!! وهل هناك في الواقع أفضل من الابن المحب المطيع السامي الأخلاق عندما يتمشى مع أبيه ويشاطره الحياة في ألوانها المختلفة المتعددة!! نوح ذو الشخصية القوية وهذا يعني أن نوحاً لم يكن إنساناً عاطفياً حلو الشمائل فحسب، بل كان أكثر من ذلك إنساناً "كاملاً في أجياله" والكلمة "كاملاً" تفيد توازن الشخصية وتمامها، أي أن شخصيته لم تكن تنمو في جانب على حساب جانب آخر، أو في لغة أخرى، إن عاطفة نوح لم تنم على حساب فكره أو إرادته، والعكس صحيح، أي أن فكره لم يقو على عاطفته مثلاً فيضحى جامداً، أو على إرادته فيمسى متخلفاً!! والكمال هنا كأي كمال بشري كمال نسبي غير مطلق، إذ هو كمال بالنسبة للأجيال التي عاش فيها، وفي الحدود التي يمكن أن يبلغها الإنسان على الأرض، فالصبي عندما يأخذ درجة الكمال في الامتحان، فذلك ليس معناه أنه أصبح مثل معلمه وأستاذه، وأنه ليس في حاجة إلى كمال آخر، بل معناه أنه كامل في حدود سنه واستعداده وإمكانياته وملكاته، وكلما استعت هذه وزادت كلما طولب بالصعود في مدارج الكمال!! وبهذا المعنى يمكننا أن نقول، ونحن في أمن واطمئنان، أن نوحاً كان من أعظم رجال عصره حكمة وأصالة وفكراً، بل لعله كان من أعظم رجال التاريخ ذكاء وصفاء والمعية وهل يمكن أن يكون غير هذا وقد رفعه الله في التاريخ ليكون أبا البشرية كلها من بعد الطوفان؟!! وهل يسمح الله أن يكون مورث البشر إنساناً محدود المدارك ساذج التفكير؟!! وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أيضاً أنه كان من أعظم رجال الأجيال وأقواهم إرادة وعزماً، بل لعل التاريخ لا يعرف شخصيات كثيرة كانت لها صلابة هذا الرجل وقوة إرادته!! كيف لا وقد كانت له الشجاعة والصلابة والقوة التي تجعله يقف في جانب، والعالم كله في جانب؟! كان عصر نوح عصراً بشعاً مريعاً اتسم بخطايا متعددة، إذ كان عصر الشهوة والمجون، العصر الذي سقط فيه أبناء الله –وهم النسل المنحدر من شيث، وليس الملائكة الذين سقطوا كما يظن البعض –تحت إغراء بنات الناس- وهذا النسل المنحدر من قايين- فاتخذوا لأنفسهم منهن نساء كما قادتهم طبيعتهم الجامحة ورغبتهم المدنسة، وكان عصر التمرد والعصيان، أو العصر الذي لا يسترشد فيه الناس بفكر الله، بل كان لهم: "كل ما اختاروا" العصر الذي قيل فيه: "إن شر الإنسان قد كثر وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" وكان أيضاً عصر الظلم والطغيان، العصر الذي فيه: "امتلأت الأرض ظلماً" و"كان في الأرض طغاة في تلك الأيام" وكان أخيراً عصر التعالي والمجد العالمي، العصر الذي كان يسعى الناس إليه وراء العظمة والسؤدد والمجد ومنهم: "الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم".. في هذا العصر عاش نوح، ولو أنه كان أضعف إرادة، وأسلسل قياداً، لانهزم وانهار أمام ما لا يعد ولا يحصى من التجارب والمشاكل والصعوبات التي كانت تواجهه، ولا شك، كل يوم. لكن الرجل عاش، في وسط هذه الظروف القاسية المروعة، وكأنما يجيب ذات الإجابة التي أجاب بها فيما بعد القديس أثناسيوس عندما قالوا له: "إن العالم كله ضدك" فأجاب: "وأنا ضد العالم".. كان نوح من الأبطال وصناع التاريخ الذين إذ يؤمنون برأي أو عقيدة أو مبدأ يقفون إلى جواره، ويعيشون له، ويموتون في سبيله، حتى ولو لم يقف إلى جوارهم أحد على وجه الإطلاق، لأنهم يؤمنون بغلبة الحق، يوماً ما، طال الزمان أو قصر، وسواء رأوا هم هذه الغلبة، أم رأتها أجيال أخرى تأتي بعدهم!! نوح الصبور وهذه سمة بارزة واضحة في طبيعة هذا الرجل وأخلاقه وكان لابد أن توجد فيه، ويكون عليها، وقد خالف جميع الناس الذين عاصرهم وعاش معهم، ونهج في الحياة بأسلوب يتباعد ويتباين عن أسلوبهمعلى أن صبر الرجل، يتضح بأجلى بيان في كرازته المستمرة لمن عاش بينهم مدة مائة وعشرين عاماً دون أن يكسب منهم فرداً واحداً لله، ومع ذلك لم ييأس أو يقنط أو يكل في مجهوده معهموهل يمكن أن يوجد بعد ذلك بين الناس من يضارعه في الصبر والاحتمال والأناة؟إذا استثنيناه لا شك ذاك الذي لم يعش بيننا صابراً فحسب، بل حمل في صبره آلام الأجيال وخطاياهم في جسده على خشبة العار، ومن ثم استحق أن ينفرد وحده بلقب ابن الإنسان، وأن يكون المثال الأول في الصبر، حتى ليمكن أن يقال: "والرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح" (2تس 3: 5). نوح وكرازته ونوح هو أول وأقدم كارز حدثنا عنه الكتاب، وهو يمكن أن يدعى، من هذا القبيل، أبا الكازين والوعاظ، وقد ذكر الرسول بطرس في معرض الحديث عنه نوع الكرازة التي كان ينادي بها إذ كان "كارزاً بالبر" ولا أحسب أن هناك كلمات أروع وأجل من كلمات الكسندر هوايت، وهو يتحدث عن كرازته إذ قال ما موجزه: "لقد أعطانا الرسول بطرس إضافة هامة عن حياة نوح بعد الأربعة الأصحاحات التي ذكرها موسى عنه عندما قال: "حفظ نوح ثامناً كارزاً للبر".. وكواعظ يهمني جداً –بطبيعتي كواعظ، ولأسباب أخرى كثيرة- أن أعرف لماذا لم ينجح نوح في خدمته كواعظ؟ألأنه كان يكرز بالبر؟قد يكون هذافبخبرتي أعرف أن البر هو الشيء الوحيد الذي ينفر منه السامعون، فقد يرحب بعض الناس بأنواع أخرى من الوعظ، كالوعظ الجدلي، والوعظ الدفاعي، والوعظ التاريخي والقصصي، والوعظ العقائدي، والوعظ التبشيري، وقد يطلبونها، ولكنهم جميعاً يتفقون في مقاومة ورفض الوعظ بالبر، الوعظ بالتوبة والإصلاح الوعظ بالأخلاق والتصرف الحسن.. أجل فهذه لا يقبلونها أو يرحبون بها، ويوسيفوس يتبع موسى والرسول بطرس إذ يخبرنا أن نوحاً وعظ الناس وألحف في الحديث معهم إلى درجة أنه خاف من أن يقتلوه، وهناك شيء واحد ينبغي تأكيده، وهو أن نوحاً لم يفسد وعظه بحياته كما يفعل الكثيرون من الوعاظ، إذ له هذه الشهادة طوال كرازته ووعظه أنه سار مع الله، إذ قال له الرب وهو يأمره بصنع الفلك: "لأني إياك رأيت باراً لدي في هذا الجيل"على أن هوايت يستطرد فيقول أنه ربما كان لحام بن نوح أثر في إفساد رسالة أبيه إذ أنه بحياته وتصرفاته وأعماله كان يضعف من قوة تأثير هذه الرسالة على الآخرين ومع أننا نقر هذا الواعظ العظيم والكاتب الألمعي، إلى حد بعيد، في أنه ليس هناك ما يفسد أثر رسالة الكارز والواعظ أكثر من تصرفات بنيه وبناته وأهل بيته، إلا أننا لا نستطيع أن نبلغ هنا مبلغ الجزم في تحديد الأثر الذي تركه حام في رسالة أبيهوكل ما نستطيع أن نقوله هنا هو أن الناس تختلف باختلاف الأجيال في قبول الرسالة أو رفضها، والحياة الدينية موزعة بين المد والجزر باختلاف الظروف والأزمنة والأمكنة والأجواء التي تعيش فيها البشرية، وليس أدل على ذلك من قول السيد المسيح وهو يوازن بين المدن التي صنعت فيها أكثر قواته والمدن القديمة عندما قال: "ويل لك يا كورزين. ويل لك يا بيت صيدا لأنه لو صنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديماً في المسوح والرماد.. وأنت يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية لأنه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت إلى اليوم".. إن مأساة نوح الكارز هو أنه عاش في العصر الذي قال فيه الرب: "لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد" نوح وفلكه وهل يمكن أن يذكر نوح دون أن يذكر الفلك أيضاً؟وأليس قصة نوح مرتبطة إلى حد بعيد بقصة ذلك الفلك الذي كان حداً فاصلاً بين عالم قديم وآخر جديدولعله من اللازم أن نقف قليلاً منه لنسمتع إلى ما يمكن أن يعظ به يتحدث!! وأغلب الظن أنه سيكشف لنا عن هذه الحقائق العظيمة التالية: الفلك وعدالة الله وهل هناك في التاريخ ما هو أعلى صوتاً وأقوى عبارة في الحديث عن عدالة الله كفلك نوح؟لقد أمر الله ببناء هذا الفلك لأن الأرض امتلأت ظلماً، ومن ثم كان لابد أن يضع الله نهاية لهذا الظلم، وهو السيد والملك والحاكم والديان العادل، وكان لابد في الوقت ذاته من أن يصنع تفرقة بين البار والأثيم. فلا يهلك البار مع الأثيم، وإذ وجد لديه إنساناً واحداً باراً مع بيته، أمر بصنع الفلك والدخول فيه، ليقيم بذلك حكم العدالة فلا يقال: "أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً" وإذا كانت الطبيعة البشرية الناقصة، إذا أوتيت شيئاً من النبل وسمو الخلق، تمقت الظلم، وتكره الطغيان، وتنشد العدالة، وتفخر بها، وإذا كان الإغريق قد رمزوا إلى العدالة بامرأة معصوبة العينين، تمسك بيدها ميزاناً للحكم بالعدل بعيداً عن الهوى والحيز والميل، وإذا كان الرومان قد ألفوا بأن يباهوا بأنهم رجال العدالة في كل التاريخ، حتى لقد وجد بينهم بروتس القاضي الروماني، الذي حكم على ولديه بالإعدام، إذ ثبتت خيانتهما، وعصب عينيه ساعة تنفيذ الحكم لكي لا يرى موتهماوإذا كانت العصور الحديثة تعتبر العدالة أعلى مقياس للرقي والتقدم والحضارة في أمة من الأممفهل يكون الله الكامل العادل بطبيعته أقل إحساساً بها من البشر الناقصين؟ إن عدالة الله هي الملاذ الذي يلجأ إليه كل تعس شقي مظلوم في الأرض، وهو العدالة التي تجعلنا نغني مع فيبر قائلين: إن عدالتك يا رب هي الفراش الذي تهجع إليه قلوبنا القلقة، حيث تنام متاعبنا، وتنتهي ضيقاتنا!! الفلك وقداسة الله وقد تحدث الفلك أيضاً عن قداسة الله، إذ أنه تعالى قدوس يكره الخطية، ولا يتصورها، وإذا كانت السماء ليست بطاهرة أمام عينيه، فهل يعقل أن يسكت على الأرض وقد امتلأت بالفساد أمام عينيه؟! لقد كانت الأرض أشبه بالثوب المتسخ، أو الوعاء القذر، الذي لابد أن يغسل وينظف؟! وقد غسلها الله بالطوفان، ليبدأ مع نوح وبيته من جديد!!.. وإذا كان داود دينس الرجل الذي أوتي شيئاً من القداسة –في قصة قلب مدلوثيان لسرولترسكوف- قد حزت في أعماق قلبه خطية ابنته، وكان يتمنى في باديء الأمر أن تظهر بريئة، ولكن لما ثبتت إدانتها اكتسى وجهه بالغضب، وظهر فيه الرجل الإلهي المقدس، فقال لأختها: "لقد ذهبت عنا، لأنها ليست منا، فلتذهب إلى حال سبيلها، وليعمل الرب معها ما يشاء!! كانت ابنة الصلاة، وكانت لا تستحق أن تطرد من ذكرانا!! ولكن لا تدعي من الآن اسمها يجري على لسانك بيني وبينك" إذا كان داود دينس يقف هذا الموقف من الخطية مع ابنته، فهل يكون موقف الله القدوس من الأرض الفاسدة أضعف وأقل؟!! حاشا وكلا!! الفلك ورحمة الله وقد كان الفلك أيضاً إعلاناً عن رحمة الله، لا بالنسبة لنوح فحسب بل بالنسبة أيضاً للذين هلكوا، كيف لا وقد أبى الله أن يباغت الناس بالطوفان بل أمهلهم مئة وعشرين سنة صنع في أثنائها الفلك، وكان كل مسمار فيه، وكل قطعة خشب، تنادي الناس وتحذرهم من الغضب الرهيب الآتي؟! وهل يمكن أن يجد المرء عذراً للعدد الكبير الهائل ممن اشتركوا في بنيانه وصنعه، من عمال وصناع ونجارين وحدادين وغيرهم، ممن كان من المحال أن يصنع الفلك بدونهم؟!! أليس هؤلاء مثالاً لمن يعيشون في جو الخدمة الدينية، أو يقومون بحكم المهنة والعمل بخدمات كثيرة في الكنيسة، والمساعي، ومدارس الأحد، وجمعيات الشبان، والشابات، والنشر، والإذاعة وغيرها من أوجه النشاط الديني، ولكنهم يطرحون آخر الأمر في جهنم النار، حيث دودهم لا يموت، والنار لا تطفأ، ولسان حالهم يقول "ويحنا وبئساً لنا أبعد ما كرزنا للآخرين نصير نحن مرفوضين؟!!". الفلك ومحبة الله على أن الفلك إن تحدث آخر الأمر فإنما يتحدث قبل كل شيء، وبعد كل شيء عن محبة الله العميقة العجيبة غير المتناهية للناس!! كيف لا والفلك ليس إلا رمزاً للخلاص المجاني الكامل المجيد الذي لنا في المسيح يسوع!! لقد صنع الفلك بترتيب الله وحكمته دون أن يكون وليد فكر الإنسان ورأيه ومشورته وتدبيره، وهكذا كان الخلاص منبعثاً من أعماق المشورة الإلهية الأزلية من دون فكر أو شركة للناس!! يضاف إلى هذا أن الخلاص من الطفوان لم يكن إلا بشيء واحد لا غير، ألا وهو الاتجاء إلى الفلك، والدخول فيه، والاحتماء به، وهكذا خلاصنا الأبدي لا يمكن أن يكون سوى بالاندماج في المسيح، فلكنا العظيم، والاحتماء به والاختباء في جنبه المطعون!! وكما احتمل الفلك جميع التيارات واللجج والأمواج المتلاطمة التي كانت تصفعه، وتحيط به من هنا ومن هناك، هكذا احتمل المسيح يوم الصليب جميع تيارات الله ولججه التي طمت عليه!! فإذا كان نوح قد غني، ولا شك، هو وأولاده وبيته، وهم داخل الفلك، لرحمة الله وجوده ومحبته التي أعدت لهم هذا الخلاص العظيم!! أفلا يجمل بنا أن نغني في المسيح لرحمة الله ومحبته الأبدية التي لا تدرك أو توصف!! نوح وميثاق الله معه وآخر ما نختم به الحديث عن نوح هو ذلك الميثاق الذي أقامه الله معه ومع نسله إلى الأبد عندما قال: "وضعت قوسي في السحاب. فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض" وقد دعا الكسندر سملي هذه القوس "مبشر الله في الجو" وفي الواقع أنها إن تحدثت عن شيء فإنما تتحدث أولاً قبل كل شيء عن وجود الله ولطفه وحنانه ورحمته.. خرج نوح من الفلك، وتأمل هنا وهناك، فإذا به يرى من المناظر ما يملأه رعباً وخوفاً وهلعاً، لقد أبصر الدنيا حوله خراباً يباباً، أبصر الله وقد قضى على كل حي!! أين الرجال الذين رآهم مراراً؟!! أين المدن المرتفعة أين الجمال والحياة البشرية العامرة الزاخرة؟!! لقد انقضت هذه كلها، وأضحت أثراً بعد عين، وانتاب نوح، ولا شك، الإحساس الغامر الرهيب بالخوف والقلق والاضطراب!! ألا يمكن أن يتكرر الطوفان مرة أخرى؟!! وألا يمكن أن تحدث هذه المأساة بين بنيه وأحفاده في المستقبل القريب أو البعيد؟!! وصلى نوح، كما يقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي، وتضرع إلى الله، ألا يحدث مثل هذا الطوفان مرة أخرى؟!! وأجاب الله على هذه الصلاة "بأن رفع عينيه إلى فوق، وأراه قوس قزح الجميلة المنظر، وكأنما يقول له لا تفزع يا نوح أو تخف، فأنا لست الإله المنتقم القاسي الرهيب الذي تظنه، بل أنا الآب المحب العطوف الجواد؟!! تأمل قوس قزح هذه، وهل تجدها تشابه قوس الحرب والقتال؟!! كلا فإنك لن تجد في هذه القوس سهماً، بل ستجد القوس نفسها، وقد تجردت من الوتر، وانحنت إلى أسفل لتمس الأرض مساً رقيقاً خفيفاً!!.. وهكذا كان عهد الله وميثاقه مع نوح، عهد الصداقة والمودة والرفق والجود والمحبة التي لا يمكن أن تقهرها خطية أو إثم!! على أن قوس قزح تتحدث مع ذلك عن كمال الله وقداسته، إذ أن هذه القوس مكونة من سبعة ألوان، والسبعة تكون مجتمعة معاً، اللون الأبيض الذي يرمز إلى القداسة والكمال، أو في لغة أخرى أن كل صفات الله تعبر مجتمعة معاً عن قداسته ونقاوته الكلية وأنه مع محبته للخاطيء، ورحمته له، لا يمكن أن يشق الطريق إليه إلا بطلب القداسة والسعي ورائها: "القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" عب 12: 14.وآخر الكل أن هذه القوس تتحدث عن جمال الله وحلاوة الشركة معه؟!! وهل رأيت مثل قوس القزح في الجمال؟!! وهل أدركت أن الميثاق مع الله يأسر القلب، ويملك اللب، ويخلب المشاعر، ويرفع النفس إلى لذة لا توصف أو تداني؟!! وهل علمت أن الحياة مع المسيح لها متعة دونها كل متع الحياة ومسراتها وملاهيها ومباهجها؟! وهل تبينت أن الوجود كله يرقص ويغني أمام عيني من عرف المسيح وعرف منه أو كما قال يوناثان ادواردس بعد تجديده: "لقد بدا جلال الله البارع أمامي في كل شيء، في الشمس، في القمر، في النجوم، في الحياة، في الطبيعة كلها،.. لقد خلق ابن الله العالم لهذه الغاية: أن يظهر من ورائه بصورة ما عظمته ومجده، فعندما نبتهج بالزهر المونق والنسيم الرقيق يمكننا أن نكتشف إحسان المسيح!! وعندما نتأمل الورود العطرة وزنابق الحقل البيضاء يمكننا أن نتبين محبته ونقاوته، وهكذا الأشجار وأغاني العصافير ليست إلا إعلاناً عن فرحة وجوده، والأنهار وتموجات المجاري ليست إلا مظهراً لوقع أقدام نعمته وجماله. وحين نلحظ لمعان الشمس والشفق الذهبي أو قوس قزح الجميلة يمكننا أن نرى جلاله وطيبته، ولهذا دعى المسيح شمس البر، وكوكب الصبح، ونرجس شارون، وسوسنة الأودية!!".
المزيد
15 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس نحميا

نحميا " كيف لا يكمد وجهى والمدينة بيت مقابر آبائى خراب وأبوابها قد أكلتها النار "" نح 2: 3 " مقدمة هل سمعت عن أسطورة « النافذة العجيبة »؟... تلك النافذة التى يقال إنها كانت نافذة سحرية، ورآها رجل إنجليزى كان يعمل كاتباً فى لندن، واشتراها من الشرق، وأحضرها معه، ووضعها مقابله ليطل منها على المدينة وتقول القصة إن الكاتب عندما كان ينظر من النافذة، لم يكن يرى أمامه لندن المزدحمة الممتلئة بالضوضاء والضجيج والأحداث والحوادث، وكل ما يؤلم النفس ويضايقها من تعاسة الفقراء والمتعبين والمحزونين والمرضى، بل كان يبصر أمامه لندن الجميلة الرحبة ذات القصور والحدائق والناس السعداء، كما كان يرى على أعلى حصن فيها علماً أبيض يقف أسفله بطل عظيم يسهر على المدينة ويحرسها من تنين رهيب، وكان الكاتب كلما ضاق بنفسه وعمله وأحزان الناس يلقى بنظره على المدينة من النافذة ليرى صورة أخرى تشجعه وتلهمه وتقويه، صورة المدينة وقد تتحررت من التعاسة والألم أغلب الظن أن نحميا كان يتخيل فى شوشن أورشليم بعد أن عاد إليها المسبيون، وقد خرج فوجهم الأول منذ تسعين عاماً خلت،... وقد تحولت إلى مدينة استطاعت أن تنقض عنها الهوان والخراب والمذلة التى وصلت إليها عندما دكها نبوخذ ناصر دكاً، وهوى بها إلى التراب والحضيض، ولكنه روع وصعق عندما جاء أخوه ضانى، وبعض الزائرين لشوشن، ليخبروه عكس ذلك تماماً، ويحدثوه عن عارها وأبوابها والمحروقة بالنار!!... ولم يعرف نحميا بعد ذلك طعم الحياة والراحة والسعادة، قبل أن يبنى سور المدينة، ويعيد إليها الأمن والراحة والسلام والحياة!!.. إنها قصة بطل تروى فى كل جيل وعصر، لتعلم الأجيال، ما قاله دانيال وبستر عندما سأله أحدهم عما هى أعظم مسئولية تقع عليه فى الحياة؟ … فأجاب: هى مسئوليتى تجاه ابن اللّه!! وها نحن لذلك نتابع القصة فيما يلى: نحميا ومحنته كان نحميا ساقى الملك، ولم يكن يبلغ هذا المركز إلا أعظم الناس وأقربهم إلى قلوب الملوك،... وهو أشبه بمن يطلق عليه الآن وزير البلاط، أو كبير الأمناء،... وهو المسئول عن الشئون الخاصة بالملك، وعن طعامه وشرابه، ولم يكن يصل إلى هذا المركز إلا بعد البحث العميق الدقيق، الذى فيه يطمئن إلى عمق ولائه وإخلاصه، فى وقت كان يتعرض فيه الملوك عادة للموت بدس السم فى الطعام أو الشراب..!! وعندما قدم نحميا الشراب للملك، كان ممتلئاً من الألم والحزن والكآبة التى لاحظها الملك، من الوهلة الأولى، فقال له: « لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض ما هذا إلا كآبة قلب » " نح 2: 2 "... ومع أن نحميا خاف كثيراً لئلا يتسرب الشك فى ولائه إلى الملك،... إلا أن الواقعة فى حد ذاتها كانت تبدو غريبة للناظر العادى،... ولو أننا سألنا جميع الناس عن نحميا، لقالوا إنه الإنسان السعيد المحظوظ المبتهج، الذى يشغل هذا المنصب الجليل الخطير،... بما فيه من مزايا لا تحصى ولا تعد،... وقد كان غريباً أن يكون نحميا كئيباً إلى هذا الحد الملحوظ... ولو أنه كان مريضاً، لرسم المرض خطوطه على وجهه، بما يمكن أن يصاحب ذلك من ألم أو تعاسة أو أنين، لكن الملك نفسه يشهد أنه غير مريض!!... وما أكثر الذين تهون كل الأمور أمام عيونهم طالما كانوا أصحاء لا يشكون داء أو مرضاً، ولكن نحميا الصحيح، المعافى، كان عميق التعاسة والكآبة والألم!!... ومن البادى أيضاً أن حزن نحميا لم يكن بسبب مأساة أو ضيق يعانيه فى بيته وأسرته،... عندما رأى أليشع الشونمية آتية من بعيد أرسل جيحزى ليسألها: « أسلام لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد » " 2 مل 4: 26 "... وهو يعنى أنه إذا كان السلام يحيط بالثلاثة، وأنه ليس فى البيت أمر ينغص من هذا القبيل، فإن أية أخبار أخرى ستبقى أقل شأناً، وأضعف أثراً،... ويمكن للمرء أن يتقبلها بالهدوء والأناة، مهما كانت نتائجها،... ولم يكن يعانى نحميا فى حدود علمنا متاعب من هذا القبيل فى بيته، يمكن أن تعكر صفوه، أو تطبع على وجهه ما رأى الملك من حزن وكآبة!!... إن الكثير من المحن التى يتعرض لها الناس تكون عادة داخل أسوار البيت: الولد فاشل، والبنت متمردة، والزوج أحمق، والزوجة صخابة مقلقة،... ولكن يبدو أن بيت نحميا كان عظيما، وكانت حياته المنزلية ممتلئة بالرضى والهدوء والراحة،... ومع ذلك كان نحميا تعساً حزيناً، لبيته الأوسع والأعظم، فى أورشليم هناك!!... ولم يكن نحميا فى حاجة إلى مادة أو مال، مما يمكن أن يكون سبباً لمذلته وهوانه، فلم يكن يواجه مشكلة مالية، كالأرملة التى جاءت صارخة إلى أليشع لأن زوجها قد مات، وخلف ور اءه ديناً ثقيلا، وجاء المرابى ليأخذ ولديها عبدين،... والدين كما ألفنا أن نقول: هم بالليل ومذلة بالنهار!!... ومع أن خزانة نحميا كانت ممتلئة وفياضة بالكنوز، لكن هذه الكنوز لم تعطه الراحة قط،... وفقر أورشليم يطحنها طحناً، ويحولها أكواماً من الرماد والتراب!!... ولم تكن مشكلة نحميا من مشاكل الوظيفة التى كثيراً ما تقلق الموظفين، لأنهم لم يأخذوا حقهم، أو تخاطهم من هم دونهم درجة وكفاءة،... لقد كان فى مركزه المرموق، الذى سنرى أنه قد ضحى به، بحثاً عن التعب والمشقة،... ومراكز الدنيا كلها، لا تساوى شيئاً إزاءأ إحساس الإنسان بأن عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر،... وأن أبسط خدمة للسيد، لا تساويها تيجان الملوك ومراكز الأمراء والسادة،... عندما دعى وليم كارى أبو المرسليات الحديثة أن يكون وزير الهند فى الوزارة البريطانية، لمعرفته بالهند، وبرجالها، إذ كان المرسل العظيم هناك، أجاب إجابة نحميا: « إنى عامل عملا عظيماً فلا أقدر أن أنزل » " نح 6: 3 "... وعندما قدمت له بلاده مائة ألف جنيه لخدمة قام بها، حول المبلغ كله للعمل المرسلى!!.. ومن الغريب أن نحميا كان مخروناً، لمشكلة تبعد عنه قرابة ألف ميل، والإنسان فى العادة يفزع ويتألم للمشكلة التى تقع على مقربة منه أو على مرمى البصر والمثل الشائع: إن القريب من العين، هو القريب من القلب، فإذا بعد الإنسان عن مكان الفاجعة، فمن السهل تصور إنه لا يعود ينظر إلى المشكلة أو ينشغل بها، ولهذا ما أكثر ما يهرب الهاربون، أو يهاجرون إلى آخر الأرض، إذا ضاقوا بالحياة، فى مكان ما، أوضاقت الحياة بهم فيه، لكن نحميا كان بعيداً عن أورشليم، ولكن أورشليم لم تكن بعيدة عن قلبه وعواطفه وأشواقه وآلامه!!... وكان يمكن لنحميا أن يستريح ويهدأ نفساً، لأن المشكلة تراث قديم، ولدت قبل أن يولد، وهو بعض ضحاياها.إذ ولد هو فى المنفى، فى السبى، وهو لا يستطيع أن يحمل هموم التاريخ،كما أنه لم يصنع هو المشكلة، ومن حقه أن لا يكون مسئولا عنها،... وما أكثر ما يفعل ذلك الكثيرون عندما تتفتح عيونهم على الشر المسيطر فى الأرض، وتحيط بهم المشكلة التى تبدو حياتهم تجاهها صغيرة ضئيلة، فيستسلمون لها استسلام الإنسان الذي لا ينهض فى فكره أن يغير من الواقع أو يبدل منه شيئاً على الاطلاق!!... كان يمكن لجميع هذه العوامل أن تنتزع الأسى والألم من نحميا، ولكن دون جدوى!!.. نحميا وقلبه وضع الملك أرتحشستا يده على سر نحميا فى عبارة واحدة: « ما هذا إلا كآبة قلب» " نح 2: 2 ". وإذا كان الطبيب يعلم بأن سر الحياة مرتبط بالقلب، فأنت صحيح على قدر ما يكون قلبك، وأنت فى خطر داهم، إذا أخذت العلة مكمنها فى هذا القلب،... فكذلك الأمر فى الحياة المعنوية والأدبية والروحية جميعاً، والتى ترتبط بالقلب أعمق الارتباط وأقواه،... فاكشف لى من قلبك، أحدثك من أنت ومن تكون!!... ولأجل هذا قال الحكيم: « فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة»... " أم 4: 23 " وإن أكبر مأساة فى الحياة أن يوصف إنسان بالقول: أنه لا قلب له!!... كان نيرون بلا قلب، غنى وهو يرى روحاً تحترق،... وقد صور تشارلس ديكنز فى قصة مدينتين رجلاً فرنسياً من الطبقة الأرستقراطية وهو يسير مسرعاً فى شوارع باريس بعربته المطهمة، فتدوس العربة فى الطريق طفلا،... وتوقف الرجل، لا ليرى ما حدث للطفل، بل ليرى ما حدث للجواد لئلا يكون قد أوذى فى قدمه، ويلقى بقطعة من النقود فى وجه أبى الطفل الذى جاء ليحمل ابنه الصريع،... إنهار منجم فى الولايات المتحدة، وبترت ذراع غلام اسمه جون ما كدويل، والذى أصبح فيما بعد خادماً شهيراً من خدام اللّه، ولكن الشئ الغريب، أنهم عندما عادوا إلى سجلات الحادث بعد سنوات من وقوعه،... وجدوا أن السجلات قد سجلت مصرع بغل غالى الثمن، كان يقوده غلام صغير،... لقد عنيت السجلات بالبغل الذى كان ثمنه فى ذلك الوقت أغلى من الغلام الذى كان يقوده!!.. وما أكثر الناس الذين يعيشون ويموتون ولو دققنا فى وصفهم لصح القول أنهم عاشوا قساة القلوب!!... بل كان الواحد منهم - فى الحقيقة - من غير قلب!!. وما أكثر القلوب الأنانية التى تغمض عينها فى الدنيا عن كل شئ سوى الدائرة الصغيرة الضيقة التى لا يتجاوز البيت والزوجة والأولاد، وليأت الطوفان بعد ذلك ليأخذ الجميع،... وما أكثر القلوب الشريرة التى لا تستريح إلا إلى عمل الشر ويجافيها النوم إن لم تفعل سوءاً،... لكن قلب نحميا كان شيئاً آخريختلف تماماً عن هذه القلوب، ويحكى السر العظيم فى حياة الرجل،... عندما وقف أمام الملك، كانت يده تحمل الشراب وكان جسمه بكامله أمام إرتحشستا، إلا أن قلبه لم يكن هناك على الإطلاق،.... كان القلب مشغولا طوال الوقت بمدينة حبه وأحلامه وأشواقه البعيدة،... ولو أن واحداً أراد أن يصف نحميا، لصوره بصورة الوطنى العظيم الذى يحن إلى تراب بلاده،... إنه دانتى آخر يسير فى أرض المنفى ولكن، أنظاره وأشواقه وأفكاره تعيش مع فلورنسا، المدينة التى أحبها حتى الموت، وحرم عليه أن يراها طوال حياته على الأرض،... لكن أورشليم، عند نحميا، كانت شيئاً أكثر من هذا،... كانت شيئاً أكثر من أن تكون المدينة التى وصفها للملك مقابر آبائه،... إنها عنده سيدة المدن، مدينة الرؤى والأحلام، إنها المدينة التى علق المسبيون أعوادهم فى بابل على الصفصاف وهم يبكون قائلين: « كيف ترنم ترنيمة الرب فى أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تنسى يمينى - ليلتصق لسانى بحنكى إن لم أذكرك إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحى » " مز 137: 4 - 6 " إن أورشليم فى تاريخها القديم ارتبطت بالرب،... وارتفع المفهوم الوطنى معها إلى المفهوم الدينى،... وقد أطلق عليها المسيح لذلك: « مدينة الملك العظيم »،... وأحبها، وبكاها، وهو يرى خرابها ودمارها الرهيب الوشيك،... وقال لها فى أعمق حديث من الحب والحنان « يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فرخها تحت جناحيها ولم تريدوا هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً » " مت 23: 37 و38 " يقول مثل قديم: « أموت حيثما يكون قلبى »... وفى الحقيقة يمكن أن نضع المثل فى صورة أقوى وأعمق إذا قلنا أعيش وأموت حيثما يكون قلبى!!... وقد عرف الرسول بولس الحقيقة بصورة أدق وأشمل عندما قال: « لأن لى الحياة هى المسيح والموت هو ربح » " فى 1: 21 " وقد ارتبط نحميا بمدينته، أو بتعبير أصح وأعمق بإله مدينته، وهو لهذا لا يرى حقيقة حياته كالوزير صاحب المركز المرموق فى شوشن المدينة االعظيمة،... وإن هذا المركز لا يساوى قلامة ظفر. بالنسبة لروأه وأحلامه، وكل مجده أمام الناس لا يمكن أن يكون شيئاً تجاه الحقيقة الداخلية التى يعيشها فى شوشن أو فى أورشليم. إنه يعيش ليقول مع بولس: « لأن ليس أحد منا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته. لأننا إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن » " رو 14: 7 و8 " وبهذا المعنى عاش نحميا ومات،... وهو يرى تراب أورشليم وأنقاضها أعظم وأجل عنده من تبر شوشن ومجدها،... وبهذا المعنى يمكن أن يحيا المؤمن ويعيش ويموت، وهو يرى كنيسة المسيح، عمود الحق وقاعدته، فى أبسط صورها وأصغرها، أعظم وأمجد من كل قصور الملوك وأمجادها وبهذا المعنى ترك ميشيل فرداى حفلا من أعظم الحفلات، إذ تذكر أن إخوته فى ذلك الوقت يتعبدون كجماعة صغيرة أمام اللّه،... وعنده أن اجتماعهم لا يضارعه أن اجتماع فى الأرض!!... فإذا ذكرنا أن نحميا استبدل مجده وراحته وجلاله وعظمته فى شوشن، بالتعب والشقاء والضيق والأخطار والأسى فى أورشليم، عرفنا كيف تكون الحياة فى جلالها وسموها، وأدركنا معنى ما قاله ليفنجستون عندما حدثوه عن البذل والتضحية والخدمة التى يقوم بها، فقال: أنا لا أعرف أنى قدمت تضحية فى حياتى على الإطلاق!!... إن خدمة المسيح لا يمكن أن تكون تضحية يقوم بها الإنسان، بل هى شرفه العظيم التليد!!.. إن قصة نحميا تنتصب أمامنا على توالى العصور والأجيال، كأروع مثال للحياة التى أدركت هدفها الوحيد الصحيح، وثبتت النظر إليه والتفكير فيه، دون أن تتحول عنه أو تريم قيد أنمله!!... فإذا سألتنى عن حب نحميا، ذكرت لك على الفور إنه أورشليم!!... وإذا تحدثت إلى عن غيرته الملتهبة،... أقول لك إنها لا شئ غير أورشليم!!... وإذا ذكرت لى شجاعته الغريبة والعجيبة فى وسط المخاوف والأهوال والمتاعب،... لقلت لك إنها شجاعة التكريس من أجل أورشليم!!... فإذا سألتنى: ما مثاله العظيم المتكرر على مر الأجيال والعصور؟!! … لقلت لك إنه المثال الذى رأيته فى عشرات الألوف من الأبطال، الذين كرسوا حياتهم من أجل أورشليم السماوية العليا التى هى أمناً جميعاً، … كنيسة اللّه العظيمة، التى يتربص بها الأعداء، ولكن أبواب الجحيم لن تقوى عليها!!.. نحميا والصعاب القاسية أمامه لقد تحدثنا فى دراستنا السابقة عن زربابل وعزرا وغيرهما من القادة والملوك، الذين لم تكن الطريق سهلة ميسورة أمامهم، وهم يكافحون أقسى الصعاب وأرهب المشقات، فى جهادهم المرير المضنى، الموضوع أمامهم،... ولعل السؤال الذى يراود الذهن: لماذا يسمح اللّه لهؤلاء جميعاً بمثل هذه المتاعب التى تؤخر انتصار ملكوت اللّه فى الأرض!!؟... ولماذا لا يعينهم اللّه بضربة سريعة قاضية، يقضى بها على العتاة والأشرار وعمال الإثم!!؟ ولماذا يبقى المسبيون الذين خرجوا من السبى، وكان أملهم أن يعيدوا بناء مدينتهم المحبوبة، وهيكلها وسورها، فى سنوات قليلة، إلى مجدها العظيم، وإذا بهم بعدما يقرب من التسعين عاماً، يرون أبواب المدينة التى أكلتها النار والأنقاض المتراكمة باقية كما هى، تشهد عن الفشل والعار العظيم!!؟... الحقيقة أن المعركة بين الخير والشر، ليست تمثيلية تقوم على مسرح الحياة، بل هى حقيقة واقعة رهيبة، ومن المؤكد أن الخير سينتصر وسيكسب آخر الأمر، ولكن هذا لا يمكن أن يتم إلا بعد الصراع الرهيب بين كنيسة المسيح والشيطان، وبين أبناء اللّه وأبناء ابليس، وبين الخير والشر، وبعد الكر والفر، والضحايا المتناثرة التى تسقط من الجانبين، كسائر الحروب والمعارك التى نشهدها بين الدول والشعوب سواء بسواء!!... بل إن القصة العظيمة لأبطال اللّه كان من المستحيل أن تكتب، دون كفاحهم وجهادهم وتعبهم، ومدى مالاقوا من الأهوال والصعاب والشدائد!!.... فإذا ذكرنا نحميا كمثل من الأمثلة الجديرة بأن تذكر وتروى، لوجدنا أنه كان يسير فى طريق هى أشبه الكل فى أيامنا الحالية بالطريق الممتلئ بحقول الألغام فى الحروب،... لقد خرج من شوشن، وهو يحمل أمر الملك وتوصيته ورسائله، وكان من المتصور أن الطريق ستكون أمامه مفتوحة ومريحة وسهلة، ولكنه مع ذلك وجد العكس... فقد وجد أولا الأعداء المتربصين مثل سنبلط وغيره، ممن سنعرض لهم فى دراستنا التالية،... وقد وصل الأمر بهؤلاء إلى التفكير فى الحرب ضد نحميا، وهدم ما قام به، ولما لم تنجح المؤامرة، استعملوا سلاحاً آخر، ألا وهو سلاح السخرية والسخرية كثيراً ما تثبط العزيمة، وتعوق الاندفاع والتقدم، وكان جواب نحميا على السخرية هو الاستمرار فى العمل، وليس هناك ما ينتصر على السخرية كسلاح العمل الذى لا يأبه للهزء والانتقاد، إذ فشل هذا أيضاً!!... لجأوا إلى الطابور الخامس باشاعة المذمة والتذمر وما أشبه، لتثبيط الهمة وبعث روح الملل فى النفوس،... وكذلك إثارة النفعية عند من تربطهم بالأعداء وصلة من نسب أو صداقة،... وقد قضى نحميا على كل هذه الأساليب، بتحويل العمل من مجرد عمل وطنى، إلى الإحساس بالرسالة الدينية تجاه اللّه، وليس هناك حافز يدفع الإنسان إلى الخدمة القوية الملتهبة، قدر الوازع الدينى عندما يسيطر على الإنسان،... وإلى جانب هذا كله كان نحميا بمثاله العظيم، هو أول العاملين، وأول المضحين، وأول الباذلين... إذ لم يكن الإنسان الذى يجلس ليأمر، بل وقف ليشترك فى المجهود، وعندما يكون القائد بهذه الروح لابد أن يسرى حماسه ومثاله فى الجميع فيعملون بقوة ونشاط وغيره وحمارس!!.. نحميا وعمله كانت مدرسة نحميا واحدة من المدارس الكبرى التى يتعلم فيها الإنسان كيف يعمل، ويتقن العمل،... لقد كان على الرجل قبل كل شئ، أن يخطط لنفسه الأسلوب الذى ينبغى أن يعمل به، والنقطة التى منها يبدأ، ويسير، ويستمر فى العمل،... ومن ثم قام فى الليل وزار موقع العمل على الطبيعة، هو وبعض الرجال معه، ولم يخبر أحداً بما جعله اللّه فى قلبه ليعمله فى أورشليم، والنقطة الأولى فى كل عمل عظيم، هى التفكير فى هدوء وأناة فى محضر الرب، والاتفاق مع اللّه أولا على العمل، والتصميم على القيام به مهما تكلف المرء من جهد أو مخاطر أو مشاق،... أو بعبارة أخرى، أنه ذلك الاقتناع الذى يسود على حياتنا بأننا عاملون مع اللّه، قبل أن يعلم أحد على الإطلاق ما نحن مقدمون عليه، أو فى سبيله بمشيئة اللّه،... فإذا تم لنا هذا الاقتناع، فإن الخطوة التالية هى الانصراف إليه وإنجازه، أو الانتقال به من النظريات إلى العمل بدون أدنى تردد أو تراجع مهما كانت المشقات أو الصعاب أو المتاعب التى تعترض طريقه... كان ديفاليرا القائد والزعيم الإيرلندى العظيم يخطب فى جموع من مواطنيه عندما قبض عليه الانجليز وهو فى منتصف الخطاب عام 1916،.. وأخذ إلى إنجلترا وهناك حكم عليه بالإعدام، وأرسل إلى سجن ويكفيلد حتى يتم إعدامه، ومن العجيب أنه جلس فى زنزانته، وهو يفكر كيف يكمل الخطاب الذى بدأه، ونحن نعلم قصته بعد ذلك، أنه لم يعدم، بل أفرج عنه، وبعد عام تقريباً وقف يخطب، فإذا به يبدأ خطابه بالقول: كما كنت أتحدث إليكم عندما قوطعت بخشونة!!.. والعامل المسيحى قد يقاومه الناس أو يقاطعونه أو يزجون به فى السجون،... ولكنه وقد صمم على عمل اللّه، لابد أن يزيح من أمامه كل تراجع أو تقهقر أو تردد!!.. وضع نحميا فى العمل عدة مبادئ، لعل أهمها، أولا: الاتحاد فى العمل، فبناء السور لم يستأثر به فرد واحد بل كانت تتاح الفرصة للتعاون بين الجميع ومع أن نحميا كان الدافع العظيم خلف البناة، إلا أنه أدرك إدراكاً عميقاً أن العمل الذى يستند إلى مجهود فرد واحد أو قلة من الناس، لابد أن يفشل، ولأجل ذلك نجده قد ضم نفسه إلى العاملين وقال: « فبنينا ». وكل عمل فى الحياة يلزمه التعاون والاتحاد حتى يخرج إلى الوجود فى أحسن صورة، وتلك من البديهيات التى لا تحتاج إلى إيضاح، ولكننا كثيراً ما ننساها، ونحن نقوم بأعمال عظيمة، فيتراكم العمل على فرد بينما يقف آخرون متفرجين أو غير عاملين، أو على الأكثر، مشجعيين ولكن من على بعد!!.. على أن هناك أمراً ثانياً لا يقل أثره عن الإتحاد، ونعنى به تجزئة العمل أو تقسيمه بين العاملين، كل بحسب تخصصه ومقدرته، وقد قال جورج آدم سميث: إن توزيع العمل فى مصنع للدبابيس ينتج مائة ضعف مما ينتجه المصنع بدون توزيع عندما يقوم العمل بالعملية كلها من أولها إلى آخرها، وكلما ارتقت الأمة وتسامت، كلما برز فيها عنصر التخصص بكيفية أو ضح وأدق، وفى كنيسة المسيح هناك مواهب متعددة يلزم استثمارها كل بحسب ما أخذ من موهبة ووزنة،... على أن عامل التخصيص كان أدق وأهم عندما طلب نحميا أن يقوم كل واحد بالعمل فى مكان معين، مقابل بيته، وهذا أمر له دلالته، إذ فضلا عن أن كل إنسان فيه غريزة الملكية التى تجعله يميل إلى أن تكون بقعته من أجمل وأحسن البقاع، والتى تجعله ينزع إلى أن تكون بقعته أيضاً حصينة آمنة، فإن العمل مقابل بيته يثير النخوة والحركة، إذ أنه سيضحى مع الزمن عملاً تذكارياً، فهو إما مثير أبهج الذكريات، أو أقساها لدى صاحبه، كما أنه ينشئ نوعاً من التنافس بين العاملين، إذ أن كل واحد يريد أن يتمم عمله بسرعة وعلى أحسن وجه، وبذلك يحفز كل واحد أخاه على السرعة والإجادة، وفى الوقت عينه يقدم تيسيراً واضحاً لكل من يعمل، إذ أنه يكون قريباً من بيته، وبالحرى قريباً من أدواته ووسائله الخاصة التى تساعده على العمل،... وما أكثر ما تضيع الجهود المخلصة فى خدمة اللّه، إذا خلت من التنظيم الحكيم، والترتيب اللازم.على أنه من اللازم أن نتذكر أن نحميا لم ير أن نهاية عمله هى بناء سور أورشليم، إذ كان يعلم أن السور فى حد ذاته لا قيمة له إذا لم يكن هناك سور روحى يقى الشعب من جموحهم وتمردهم، ولقد كرس جهوده لبناء السور الروحى الأعظم فى حياة الشعب، ولقد استمر نحميا إثنى عشر عاماً بعد أن عينه الملك حاكماً لأورشليم، وهو يعمل على انفراد، أو مع عزرا على بناء الحياة الروحية لشعبه، وقد بدأ ذلك بالعهد الذى قطعه الشعب على نفسه بالتخلى عن الشر والفساد والتمسك باللّه ووصاياه، وقد كان على القادة أنفسهم أن يكونوا فى ذلك قدوة لغيرهم، لأن الإنسان بطبعه مقلد، ويميل للسير فى النهج وراء الرؤساء والسادة، وهذا ما فعله الشعب عندما رأوا قادتهم يسلكون سواء السبيل،.. وقد تمسك الجميع بالشريعة، وظهر هذا التمسك فى الصوم والمسوح والحزن على الخطية، وكل اقتراب إلى اللّه لا يبدو فيه الندم وتبكيت الضمير، أغلب الظن أنه مزيف وغير صحيح، ولا يلبث أن يتراجع أو يضيع مع الأيام،.. وقد بدت ظاهرة التمسك بالذهاب إلى بيت اللّه، وعدم الملل من الوجود هناك، إذ كانوا يقضون ثلاث ساعات فى قراءة الكلمة، وثلاث ساعات أخرى فى الاعتراف والتسبيح والحمد، " نح 9: 3 " على أن التمسك قد تعمق أكثر بالانفصال عن الأجنبيات اللواتى اقترنوا بهن، والتوبة الحقيقية هى التى تمد جذورها إلى أعماق البيت، إذ أن المرأة الشريرة أو الوثنية، كثيراً ما تقود البيت كله إلى الضلال،... ومن المناسب أن نلاحظ هنا أن محبة اللّه ينبغى أن تجب كل محبة أخرى تقف فى الطريق أو تعطل أو تزاحم مكانها فى القلب،.. وقد أضيف إلى هذا كله الحرص على تكريس يوم الرب، دون الانصراف إلى العالم فكراً أو عملا،.. ومن المؤسف أن يختلط هذا اليوم فى حياة الكثيرين من المسيحيين بباقى أيام الأسبوع دون تخصيص أو تقديس، ومن ثم يغطيه الغبار أو التراب الذى ينهال عليه من العالم وزحام الحياة البشرية،... مع أنه اليوم الذى نيبغى أن يكون - على العكس - لنفض التراب وإزالة الأوساخ الروحية التى قد تتراكم على المؤمن فى سيره مع اللّه!!... وقد شجع نحميا الناس على الاعتراف بالخطية والتقصير، وهذا الاعتراف ضرورى للتعمق فى حياة القداسة والسير نحو الكمال،... واهتم أن يشجعهم على الأمانة فى العشور والتقدمة، إذ أن التصرف فى المال، فى العادة، هو واحد من أدق المقاييس وأصدقها فى حياة المؤمن الصحيحة!!.. وما أكثر ما يفعل الناس ما فعله الملك لويس الحادى عشر، إذ أصدر أمراً بهبة قطعة كبيرة من مملكته للعذراء مريم، على أن يبقى ريعها قاصراً عليه، وما أكثر ما يغنى الكثيرون لسيدهم أن يمتلك حياتهم، وفضتهم وذهبهم، دون أن يقدموا شيئاً من هذه الحياة أو الفضة أو الذهب!!... هل لك أيها المؤمن أن تبنى سوراً روحياً حول نفسك الغالية، كالسور الروحى الذى وضعه نحميا قبالة عينيه وهو يبنى سور مدينة أورشليم القديم؟! نحميا ومجده قال يوسيفوس عن نحميا: « كان رجلا صالحاً وباراً، وكان طموحه الكامل أن يجعل أمته سعيدة، وقد أضحت أسوار أورشليم كالنصب التذكارى الأبدى لنفسه العظيمة »... كان مجد الرجل الحقيقى أنه أدرك أن رسالته الصحيحة والحقيقية، ليس أن يكون سياسياً فى شوشن، أو حاكماً فى أورشليم، بل أن يلمس اللّه حياته وخدمته، فتكون جملة وتفصيلا لمجد اللّه فى الأرض!!... ولعل هذا يذكرنا بما فعل نوح وبستر عندما أنهى قاموسه العظيم، وجفف الحبر من الكلمات الأخيرة، ووضع قلمه، وتحول نحو زوجته وزملائه وأمسك بأيديهم، وانحنوا جميعاً على ركبهم، وفى احترام وإجلال، شكروا اللّّّّه لأجل عنايته ومساعدتهم فى هذا العمل العظيم،... كان هذا موقف العالم المبرز، والمسيحى المتواضع، الذى رأى فى وضع قاموس عملا دينياً، لأنه أدرك أن كل عمل فى الأرض، لابد أن ينبع من الإحساس بالرسالة الدينية الموضوعة علينا من اللّه كخدمة مقدسة!!.. وما من شك فى أن نحميا شكر اللّه آلاف المرات، بعد أن وضع الحجر الأخير فى سور المدينة، وهو يدرك أنه عثر على الرسالة الحقيقية التى وضعها اللّه عليه أمام الخرائب والأنقاض!!.. وما من شك بأن مجدى، أو مجدك الحقيقى يبدأ عندما تتفتح بصائرنا على ذات الخرائب والأنقاض التى تركتها الخطية حولنا فى كل مكان ونسعى لبنائها، فهل نكون على نفس النهج أو الصورة التى ذكرها أحدهم وهو يقول: « ما أمجد أن تكون يداً أو مساعداً لما قصد اللّه أن تكون عليه فى الحياة، وما أبشعه من خطأ ألا تكون عقلا أو قائداً فى وسط الناس، وقد أعطاك اللّه الإمكانية الداخلية لأن تكون هكذا.. »...!!... ربما لا يجد المرء كلمات، آخر الأمر، يختم بها حديثه عن نحميا أفضل من كلمات ألكسندر هوايت وهو يقول: « لو أن خادماً شاباً عين للخدمة كنحميا فى شعب كشعب أورشليم فى ذلك الزمن القديم، ولو أنه جاء إلى الخدمة ليرى الأبواب المحروقة بالنار، والأسوار المنهدمة، وبيت اللّه يلحقه العار والضياع فإنه فى أمس الحاجة إلى أن يقرأ سفر نحميا ويحفظه عن ظهر قلب،... وهو فى حاجة إلى أن يجول بين الأنقاض والخرائب كما فعل الساقى القديم، دون أن يخبر أحداً، وكل ما عليه هو أن ينهض باسم « الملك » ويبنى، وأن يأخذ حجارته من محاجر « الملك » وخشبه من غاباته العظيمة، وليعلم أن يد الرب معه،... وعليه أن يعظ أفضل عظاته للشعب الذى طال جوعه أحداً بعد أحد، وعاماً وراء عام، فى خدمته الممتدة،.. وليزر ليلا ونهاراً الرعية التى طالما أهملت، وليكن مثل صموئيل رزر فورد الذى بدأ خدمته فى كنيسة صغيرة فى أسكتلندا، واليوم هى من أكبر الكنائس وأوسعها، وليكن مقصد رعيته، وعلى الدوام يدرس، وعلى الدوام إلى جانب المريض فى سرير مرضه، وعلى الدوام يصلى، وليقل ما قاله نحميا: « ولم أكن أنا ولا أخوتى ولا غلمانى ولا الحراس الذين ورائى نخلع ثيابنا. كل واحد يذهب بسلاحه إلى الماء » " نح 4: 23 ".. وليفرح عند تدشين السور بالفرح العظيم والتسبيح والتحميد بالصنوج والمزامير والقيثارات: « لأن اللّه أفرحهم فرحاً عظيماً، وفرح الأولاد والنساء أيضاً وسمع فرح أورشليم عن بعد » " نح 12: 43 " وهو سيفعل ذلك إذا كان له إيمان باللّه، وحبه لأورشليم والعمل الصعب المضنى الشاق الذى قام به من أجلها!!.. »..
المزيد
08 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس ناحوم

ناحوم " الرب إله غيور ومنتقم "" نا 1: 2 " مقدمة لست أظن أننا نستطيع أن نفهم ناحوم الألقوشى خير فهم، ما لم نضعه جنباً إلى جنب مع يونان بن أمتاى النبى، ولست أظن أننا نستطيع أن نفهم نينوى التى تنبأ عنها الاثنان - وقد جاءت نبوة يونان، على الأغلب، قبل نبوة ناحوم بنحو قرن من الزمان - ما لم نضع رحمة اللّه وعدالته نصب عيوننا، ونحن ندرس الحياة والناس والشعوب والأمم،... لقد هدد اللّه نينوى على لسان يونان وقدم لها الفرصة محددة بأربعين يوماً تنقلب بعدها نينوى إن لم تتب، أمسك أهلها بفرصة الحياة المقدمة لهم فتابوا ورجعوا عن شرورهم وفسادهم وإثمهم وطغيانهم، وعفا اللّه برحمته عن المدينة التائبة، كما يفعل دائماً مع كل آثم وشرير فى الأرض!!.. لكن صك العفو مرهون دائماً بالسير فى حياة النقاوة والاستقامة والبر والأمانة،... فإذا عاد الخاطئ إلى طرقه القديمة، ونسى إحسان اللّه وجوده ورحمته ولطفه، فإن المأساة ستكون أشد وأقسى، كمأساة الناقه من المرض عندما تحدث له المضاعفات ليرتد إلى ما هو أسوأ وأشر فى علته!!... فإذا كان القرن الذى مر بنينوى بعد توبتها، قد أعادها إلى سيرة أشنع وأقسى مما كانت عليه فى الماضى، فإن اللّه الذى كان رحيماً بها، سيتحول إلى الإله الغيور المنتقم، وفى الحالين سنرى لطف اللّه وصرامته على النحو المتوازن الكامل، ومن ثم، يحق لنا بعد ذلك أن نرى ناحوم النبى فيما يلى: ناحوم ومن هو إن الاسم « ناحورم » يعنى « تعزية »، وهو كغيره من الكثير من الكثير من الأسماء العبرانية التى ارتبط معنى اسمها بالرسالة التى أتيح له أن يحملها فيما بعد، فلئن كانت رسالته لأمته تحمل التعزية لها فى محنتها ومتاعبها وآلامها، فإنه هو شخصياً كحامل الرسالة، كان الرجل اللازم فى وقت المحنة والآلام، على أن هذا لا يعنى أن كل اسم يحمل فى ذاته المعنى النبوى لما سيكون عليه فى المستقبل، فما أكثر ما يتمنى الآباء، وهم يعطون أولادهم الأسماء التى تحمل أفضل الآمال،الأمانى والأحلام، ليأتى أولادهم على عكس ما كان يتمنون أو يحلمون،.. كان هناك تلميذان للمسيح، يحملان اسم يهوذا لباوس أو تدروس أو « يهوذا ليس الاسخريوطى » كما جاء فى " يو 14: 22 ".. ويهوذا الإسخريوطى، ولكن شتان بين الاثنين، وبين ما فعلا، والمصير الذى آل إليه كلاهما،... قد يسمى إنسان عبد المسيح، وقد يصبح فعلا عبد يسوع المسيح، أو قد يضحى عبد للشيطان حتى ولو حمل اسم المسيح!!. وغير أن ناحوم كان فى الواقع إسماً على مسمى، فقد حمل رسالة التعزية العميقة لشعبه فى أوقات المحن والمتاعب والمصائب!!.. وقد أطلق عليه « الألقوشى »، نسبة إلى قرية فى الجليل اسمها « القوش » فى سبط نفتالى، وعلى مقربة من كفرناحوم، والتى يقال إنها أخذت اسم ناحوم النبى، كما تذهب بعض التقاليد القديمة، والتى تذهب إلى أن شهرة النبى فى المنطقة هى التى جعلت القاطنين بجوار ألقوش يطلقون اسمه على المكان، والذى أضحى فيما بعد كفرناحوم المرتفعة إلى السماء،... ومن الغريب أن هناك من يعتقد أن النبى ولد فى بلدة تحمل ذات الاسم، وعلى مقربة من الموصل فى العراق، والذين يأخذون بهذا الرأى يعتقدون أن النبى ولد فى السبى، مع المملكة الشمالية، وأنه قد دفن هناك فى مقبرة تضمه ويونان وعوبديا ويفتاح، وأن هذا المكان أضحى مزاراَ يحج إليه الكثيرون ممن يتعلقون برفات الأنبياء والقديسين، على أننا نعتقد أن هذا التقليد المتأخر لا يستند إلى أساس، ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، والواضح أن ناحوم كان على معرفة واضحة بباشان والكرمل وزهر لبنان كما هو ثابت من مطلع سفره، مما يؤكد أنه كان فى بلاده عندما تنبأ عن نينوى، وأنه على الأغلب كان فى أورشليم بعد سقوط السامرة عاصمة المملكة الشمالية، وتهديد الأشوريين المستمر ليهوذا وإسرائيل ومع أن يوسيفوس يذكر أنه تنبأ فى أيام يوثان، لكن المرجح أن وصفه: « ولكن بطوفان عابر يصنع هلاكا تاما لموضعها وأعداؤه يتبعهم ظلام ماذا تفتكرون على الرب؟ هو صانع هلاكا تاما، لا يقوم الضيق مرتين، فإنهم وهم مشتبكون مثل الشوك وسكرانون كمن خمرهم، ويؤكلون كالقش اليابس بالكمال » " نا 1: 8 - 10 " تشير كما يتجه الشراح إلى ضربة اللّه لجيش سنحاريب عندما حاصر أورشليم وقتل ملاك الرب مائة وخمسة وثمانين ألفاً.... ولهذا يتجه كثيرون من المفسرين إلى أن نبوته جاءت بعد نبوة يونان بمائة عام، فإذا كان يونان قد تنبأ على نينوى عام 763 ق. م، فإن ناحوم تنبأ عليها عام 663 ق. م أو حول ذلك التاريخ، وقد سقطت نينوى سقوطها النهائى عام 613 ق.م. أى بعد نحو خمسين عاماً، ولابد لنا أن نشير إلى أن سنحاريب عندما عاد فاشلاً، وذكر عنه إشعياء أنه مات مقتولا بيد ولديه فى بيت نسروخ إلهه، أن هذا كان إتماماً لقول ناحوم: « ولكن قد أوحى عنك الرب لا يزرع من اسمك فى ما بعد. إنى أقطع من بيت إلهك التماثيل المنحوتة والمسبوكة. أجعله قبرك لأنك صرت حقيراً » " نا 1: 41 ".ومن المسلم به على أية حال أن أسلوب ناحوم بلغ الذروة بين الأنبياء الصغار، فهو الأسلوب القوى الواضح ومع أن له حدة السيف، لكنه مع ذلك يرقى فى كثير من المواطن إلى الشعر السامى، والموسيقى الرائعة، ووصفه لجلال اللّه وقدرته وعظمته وسيطرته وانتصاره، من أروع ما جاء فى الكتاب المقدس على الإطلاق!!.. ناحوم والرؤيا الصافية لم تكن نينوى عندما تنبأ عنها ناحوم مدينة ضعيفة، بل كانت توحى، حسب الظاهر، بكل مظاهر القوة والجلال والعظمة وأدق وصف لها هو ما قاله: « أين مأوى الأسود ومرعى أشبال الأسود؟ حيث يمشى الأسد واللبؤة وشبل الأسد وليس من يخوف. الأسد المفترس لحاجة جرائه والخالق لأجل لبواته حتى ملأ مغاراته فرائس ومآويه مفترسات ».." نا 2: 11 و12 " ولنا أن نتصور غابة أو برية يجول فيها الأسد ويصول، وليس أسداً واحداً، بل أسوداً وأشبال أسود، واللبوات!! ومن ذا الذى يفلت من الصيد والقنص والفتك والافتراس،... ولو أننا سألنا السياسيين أو أصحاب النظرة النافذة النابهة، لتحدثوا عن المدينة التى لا تقهر، والشعب الذى لا يخاف، والقوة المتصاعدة وليس فيهم من يخطر بباله أن المدينة يمكن أن تكون وشيكة الضياع أو الهزيمة أو الدمار!!... ولكن ناحوم رأى نهايتها الرهيبة، ووصفها وصفا دقيقاً كما لو أنه يكتب، والجيوش الزاحفة تزحف عليها، وتقرض قصورها، وتأتى على مجدها التليد!!... وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً، إذا تبينا أنها حدثت بعد خمسين عاماً من وقت النبوة،... وفى الحقيقة أن مصدر كل نبوة يتجاوز الفهم والذهن البشرى، سواء طال الزمن أمام قصر، وسواء امتد خمسين عاماً، أو كان يوماً واحداً، وهل فى قدرة إنسان وجيوش سنحاريب تطوق مدينة أورشليم أن يقول: « عن ملك آشور. لا يدخل هذه المدينة ولا يرمى هناك سهما ولا يتقدم عليها بترس ولا يقيم عليها مترسة. فى الطريق الذى جاء فيه يرجع وإلى هذه المدينة لا يدخل يقول الرب. وأحامى عن هذه المدينة وأخلصها من أجل نفسى ومن أجل داود عبدى » " إش 37: 33 - 35 " وبين عشية وضحاها يحدث كل هذا!!.. وهل يمكن أن يصف أحد ما سيحدث بعد نصف قرن من الزمان بهذا الوصف: « نعست رعاتك ياملك آشور اضطجعت عظماؤك، تشتت شعبك على الجبال ولا من يجمع، ليس جبر لانكسارك، جرحك عديم الشفاء كل الذين يسمعون خبرك يصفقون بأيديهم لأنه على من لم يمر شرك على الدوام » " نا 3: 18 و9 ".ومن الملاحظ على الدوام أن الأنبياء الصادقين الذين يرون رؤى الرب كانو ينطقون بها دون تردد أو شبهة، مهما كان تصور الآخرين أو تفكيرهم ألم يقف ميخا بن يملة فى جانب، وأربعمائه نبى لآخاب فى جانب آخر، ويتنبأ على أخآب دون أدنى ذبذبة، وإذ يقول أخآب: « ضعوا هذا فى السجن وأطعموه خبز الضيق وماء الضيق حتى آتى بسلام، فقال ميخا إن رجعت بسلام، فلم يتكلم الرب بى. وقال اسمعوا أيها الشعب أجمعون ». " 1 مل 22: 27 و28 "وألم يقل أليشع للجندى الذى يستند الملك على يده فى قلب المجاعة بالسامرة: « هكذا قال الرب فى مثل هذا الوقت غداً تكون كيلة الدقيق بشاقل وكيلتا الشعير بشاقل »... وإذا بالجندى يجيب: « وقال هو ذا الرب يصنع كوى فى السماء، هل يكون هذا الأمر؟ فقال إنك ترى بعينك ولكن لا تأكل منه».. " 2 مل 7: 1 و2 " بل ألا يبلغ بنا العجب منتهاه، أن نبوخذ نصر يحلم حلماً، ولعله نسيه، ويطلب من حكماء بابل معرفة الحلم وتفسيره، ولكنهم يجيبون بصوت واحد: « ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك لذلك ليس ملك عظيم ذو سلطان سأل أمراً مثل هذا من مجوسى أو ساحر أو كلدانى. والأمر الذى يطلبه الملك عسر وليس آخر يبينه قدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر ».. " د 21: 10 و11 " وإذ عرف دانيال الحلم وأعلنه للملك وفسره له، « خر نبوخذ نصر على وجهه وسجد لدانيال ».. لأن: « اللّه العظيم قد عرف الملك ما سيأتى بعد هذا الحلم حق وتعبيره يقين » " دا 2: 45 و46 "!!.كان ناحوم على يقين كامل بالمصير الذى ستلاقيه نينوى، إذ كانت له الرؤية الصافية المعلنة من اللّه!!.. ناحوم والمدينة المعاقبة لعل من أعجب ما ذكر زينفون، أن نينوى سقطت بسبب فيضان نهر دجلة، الفيضان الذى حطم أبواب الخزان فغرقت المدينة فى المياه، ومكنت المهاجمين من اقتحامها، ودك حصونها،... وهل هذا إلا ما ذكره ناحوم بالضبط فى نبوته عنها: « أبواب الأنهار انفتحت والقصر قد ذاب.. ونينوى كبركة ماء منذ كانت ولكنهم الآن هاربون » " نا 2: 6 - 8 ". وقد يقول الناس إنها الطبيعة، أو قد يقولون إنها قوة الكلدانيين الذين أخذوا طريقهم إلى الظهور ليكتسحوا الممالك، لكننا نعلم على الدوام أن الأمم تقوم وتسقط لا لأسباب سياسية أو إقتصادية أو عسكرية أو اجتماعية، بل قبل وبعد هذه كلها، لأن اللّه حكم بالقيام أو السقوط... قبل مائة عام من تاريخ هذه النبوة، أو مائة وخمسين عاماً قبل سقوط المدينة، جاءها يونان ونادى عليها بالسقوط والانقلاب، وتابت المدينة، ونامت فى التراب والرماد ونجت، وكتب لها فى جوده وحبه كتاب الحياة والنجاة،... لكن الإنسان الذى لا يقرع صدره توبة، سيقرع صدره فزعاً ورعباً وندماً، وهذا ما حدث لنينوى فى المرة الثانية إذ تنبأ النبى عن ملكتها الجميلة باسمها « هصب » قائلا: « وهصب قد انكشفت. اطلعت. وجواريها تئن كصوت الحمام ضاربات على صدورهن »... " نا 2: 7 " « فراغ وخلاء وخراب وقلب ذائب وارتخاء ركب ووجع فى كل حقو وأوجه جميعهم تجمع حمرة » " نا 2: 10 ". وإنها لمأساة الإنسان الذى ينسى العبرة ويهمل التاريخ، ويظن أن الفرصة التى أتيحت له للتوبة تتحول رخصة مستمرة للتهاون أو فعل الشر،... لقد عادت نينوى إلى شهواتها ومسراتها وزناها: « من أجل زنى الزانية الحسنة الجمال صاحبة السحر البائعة أمما بزناها وقبائل بسحرها » " نا 3: 4 "... وكل واحد فى التاريخ يمكنه أن يقول لأعظم دول العالم، وأجمل مدنها ما قاله ناحوم، عن الخراب لابد أن يلحقها، ولا يمكن أن تفلت منه، لا بفيضان نهر أو قنبلة قد تكون ذرية أو هيدروجينية، بل بفيضان غضب اللّه القدوس ضد الخطية!!.. إن الاستباحة والترف والمجون، وعبادة الجسد، هى السوس الذى ينخر فى عظام الأمة، ويقوضها فجأة ودون سابق إنذار، لأن « البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية »،.. " أم 14: 34 ".. كما أن نينوى سقطت لسبب آخر إذ كانت مدينة الدماء: « ويل لمدينة الدماء.. كلها ملآنة كذباً وخطفاً.لا يزول الافتراس ».. " نا 3: 1 " كانت المدينة تبحث عن المال، ولا تريد أن تضع حدوداً لنهبها وعندما دخلها الغزاة وجدوا أمامهم مالا يتصوره عقل من الفضة والذهب والتحف: « انهبوا فضة انهبوا ذهباً فلا نهاية للتحف للكثرة من كل متاع شهى» " نا 2: 9 ".. والأمم التى تشغل بالمال على هذا الوضع، سيأتيها الضياع من الخارج والداخل على حد سواء، مهما علت وارتفعت وعظم شأنها، لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذى إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة!!.. وهل لا يقف المال وراء الاستعمار والمجازر والحروب وصراعات الأمم والبيوت والأفراد، وهل تعاقب الدول فى كل العصور لتسقط كل واحدة الأخرى، وتجعلها تدور فى فلكها حتى يأتى من يسقطها بدوره والحلقة دائبة الدوران،... هل هذه كله إلا بسبب المال وما ترك فى البشر من شراهة وطمع وتآمر وقتل!!؟ … ومع أن هذا هو الظاهر، لكن الحقيقة أنه عقاب اللّه للظلم والكذب والخطف والافتراس، قال أحدهم، وهو يعلق على الحرب العالمية الثانية: « إنى لا أؤمن بوجود اللّه الذى يسمح بالخراب والدمار على هذه الصورة المفزعة » … ورد عليه آخر: أنا أؤمن بوجود اللّه لهذا السبب عينه، لأنه كيف يترك اللّه فجور العالم دون حساب أو عقاب؟!!.. ناحوم والقدرة الغالبة عندما سقطت نينوى العظيمة، كان سقوطها رهيباً وشاملاً، وقد رآه ناحوم فى النبوة كالتين الذى يسقط فى فم الآكل عندما يهز الشجرة: « جميع قلاعك أشجار تين بالبواكير إذا انهزت تسقط فى فم الآكل ».." نا 3: 12 " وفقد الشعب فيها روح الجسارة والبطولة، وهو يستسلم على النحو القريب: « هوذا شعبك نساء فى وسطك. تنفتح لأعدائك أبواب أرضك. تأكل النار مغاليقك » " نا 3: 13 ". وعندما نسأل عن السر فى ذلك، نتحول من البشر إلى اللّه العلى!!.. « الرب إله غيور ومنتقم الرب منتقم وذو سخط. الرب منتقم من مبغضيه وحافظ غضبه على أعدائه. الرب بطئ الغضب وعظيم القدرة ولكنه لا يبرئ البتة. الرب فى الزوبعة وفى العاصفة طريقه والسحاب غبار رجليه.. ينتهر البحر فينشقه ويجفف جميع الأنهار... الجبال ترجف منه والتلال تذوب والأرض ترفع من وجهه والعالم وكل الساكنين فيه. من يقف أمام سخصه ومن يقوم فى حمو غضبه؟ غيظه ينسكب كالنار والصخور تنهدم منه. صالح هو الرب حصن فى يوم الضيق وهو يعرف المتوكلين عليه. ولكن بطوفان عابر يصنع هلاكاً تاماً لموضعها وأعداؤه يتبعهم ظلام » " نا 1: 2 - 8 " « فإن الرب يرد عظمة يعقوب كعظمة إسرائيل لأن السالبين قد سلبوهم وأتلفوا قضبان كرومهم. ترس أبطاله محمر. رجال الجيش قرمزيون. المركبات بنار الفولاذ فى يوم إعداده. والسرو يهتز. تهيج المركبات فى الأزقة. تتراكض فى الساحات. منظرها كمصابيح. تجرى كبالبروق »." نا 2: 2 - 4 " « ها أنا عليك يقول رب الجنود فأحرق مركباتك دخاناً وأشبالك يأكلها السيف وأقطع من الأرض فرائسك ولا يسمع صوت رسلك ».. " نا 2: 13 "« هأنذا عليك يقول رب الجنود فأكشف أذيالك إلى فوق وجهك وأرى الأمم عورتك والممالك خزيك. وأطرح عليك أوساخاً وأهينك وأجعلك عبرة. ويكون كل من يراك يهرب منك ويقول خربت نينوى من يرتى لها؟ من أين أطلب لك معزين »؟... " نا 3: 5 - 7 " ونحن لا نرى هنا أمام الأوصاف الرائعة سوى اللّه، ومع أن اللّه قد استخدم الكلدانيين فى القضاء عليهم، لكن الكلدانيين ليسوا إلا عصا الرب وأداة انتقامه،... وكل النواميس والنظم والناس وسائر المخلوقات المنظورة وغير المنظورة، ليسوا إلا جنوده لتنفيذ أوامره ومجده!!.. واللّه يبدو هنا الإله الساخط فى مواجهة الإثم والخطية والشر، لأن هناك تنافراً أبدياً بينه وبين الفساد، وهو لا يطيق الإثم،... منذ مائة وخمسين عاماً رحم نينوى رحمة واسعة وضاق بها يونان واغتاظ من أجلها،... لكن رحمة اللّه الواسعة كان لا بد أن تعمل فى إنقاذ المدينة،... واللّه كما وصفه ناحوم بطئ الغضب،.. لكن بطء الغضب شئ والسكوت على الإثم وعدم المبالاة شئ آخر، ونحن لابد أن نتذكر أن اللّه « غيور ومنتقم » وغيرة اللّه وقائد أبدية،... وصانع الشمس الملهبة، التى ترسل نارها على الدوام، لا يمكن أن تكون طبيعته هو طبيعة باردة، لا تفرق بين شر وخير، وبين حق وباطل، وبين إثم وبر،.. لأن إلهنا نار أكله!!.. وإذا كان الإنسان الحر يثور ضد الظلم والفساد والشر، وهو على استعداد أن يبذل حياته للدفاع عن كل قضية عادلة،... فإن صانع هذا الإنسان، هيهات أن يكون أضعف غيره منه، أو أقل سخطاً، على الأوضاع المقلوبة فى الأرض.على أن اللّه ليس هو الإله الذى يسخط فحسب، بل هو الإله القادر فى سخصه على أن يقلب الأرض كلها بإصبعه، أو بأقل حركة من أصبعه، وهو الذى يأتى بالطوفان العابر عند ثورة غضبه،... إن البشر قد يحولون غضبهم إلى بكاء أو دموع أو ثورة فاشلة،... لكن اللّه إذا كان بطئ الغضب، لكنه فى الوقت نفسه عظيم القدرة، ومن يقف أمام سخطه، ومن يقوم فى حمو غضبه!!.. من الحق أن الرب طيب ولا حدود لطبيبته،... ولكن من أكبر الحماقات التى يرتكبها الإنسان، أن يتصور الطيبة الإلهية بالمعنى الشائع للمثل الفرنسى « اللّه الطيب » والمقصود به المتساهل تجاه الخطية، والذى يتجاوز عن الإثم، والذى يقف موقف الإهمال وعدم المبالاة أمام صنوف العسف والظلم والطغيان والاستبداد، وهنا ينسى مثل هذا الإنسان، أنه لا يوجد من يجمع بين اللطف والصرامة على النحو الكامل المطلق سوى اللّه!!.. واللّه لطيف رحيم لكل من يأتى إليه تائباً مقراً باثمه وقصوره وشره،... ولكنه هو أيضاً، كما وصفه أيوب فى الأصحاح التاسع من سفره: « هو حكيم القلب وشديد القوة. من تصلب عليه فسلم؟ المزحزح الجبال ولا تعلم، الذى يقلبها فى غضبه، المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها، الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم، الباسط السموات وحده والماشى على أعالى البحر صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب. فاعل عظائم لا تفحص وعجائب لا تعد »... " أيو 9: 4 - 10 " كان اللّه الإله الرحيم على نينوى التائبة يوم يونان، والمنتقم على عصيانها يوم ناحوم! ومن اللازم أن نشير هنا إلى تبدل المواقع وتغير الأوضاع، وابتداء القضاء من بيت اللّه، فإذا كان اللّه قد أهاج الأشوريين أو الكلدانيين على إسرائيل ويهوذا لخطيتهما وإثمهما، إلى الدرجة التى قال معها سنحاريب لحزقيا - يدرى أو لا يدرى معنى قوله: « والآن هل بدون الرب صعدت على هذه الأرض لأضربها. الرب قال لى اصعد على هذه الأرض واضربها »... " إش 36: 10 " فإن هذا الإله عينه هو الذى يتحول على الطغاة ليرد سبى شعبه للسبب عينه، عندما يتوبون ويرجعون إليه، وعندما يستمر الطغاة فى شرهم وظلمهم وإثمهم، أو كما قال ناحوم: « قد ارتفعت المقمعة على وجهك، احرس الحصن، راقب الطريق، شدد المقومين، مكن القوة جداً، فإن الرب يرد عظمة يعقوب كعظمة إسرائيل لأن السالبين قد سلبوهم وأتلفوا قضبان كرومهم »... ومقمعة اللّه فى كل التاريخ والعصور مرفوعة لتضرب كل وجه يتعظم فى حضرة اللّه، أو يستبد أو يطغى أو يرتكب إثما وشراً فى حضرة إله قادر حى دائم منتصر ممجد!!..
المزيد
01 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس ميخا

ميخا "لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد"" مى 4: 3 " مقدمة عاش أفلاطون الفيلسوف اليونانى ما بين عامى 428، 348 ق. م.، ومع أنه كان فى الأصل رجلاً غنياً متمتعاً بخيرات كثيرة، لكن قلبه كان ممتلئاً من الألم والأحزان على مآسى الناس حوله، لقد وجد أن الجهل والشر والتعاسة من نصيب جميع الأمم والقبائل، وجلس الرجل يفكر فى عالم أفضل من العالم الذى يراه، وبات يحلم باليوم الذى ينتهى فيه نزاع الناس، وتموت أطماعهم وتنتهى حروبهم ومخاوفهم، ومن أجل ذلك كتب كتابه « الجمهورية » يتخيل فيه العالم السعيد والجمهورية تقسم الناس إلى ثلاث طبقات، الطبقة العالية طبقة الحكام والرؤساء، والطبقة المتوسطة طبقة رجال الجيش، والطبقة السفلى طبقة التجار والزراع والصناع، ويقول أفلاطون إن الموسيقى والألعاب الرياضية والفضيلة ينبغى أن تنتشر فى جمهوريته هذه، وقد حاول أن يطبق هذا النظام فى مدينة سراكوسا بصقلية إذ كان صديقاً لملكها، غير أنه فشل وطرد وكاد يعرض حياته للهلاك،.. وبعد مدة طويلة أدرك أفلاطون نقطة الخطأ فى جمهوريته، إذ أنه فى البداءة لم يتنبه كثيراً إلى اللّه الذى يحفظ هذه الجمهورية، ويحرسها، ولأجل ذلك عندما كتب كتابه « القوانين » صحح هذا الخطأ، ودعا إلى الإيمان باللّه والدين!!... ولو أن أفلاطون قرأ ما كتبه ميخا وإشعياء من قبله بقرنين ونصف من الزمان لاستطاع أن يفهم كيف يتحقق هذا العصر الذهبى للعالم،... إنه لا يمكن أن يتم إلا باللّه، وفى اللّه،... ولسنا نعلم أيهما كان أسبق فى النبوة عن السلام ميخا أو إشعياء، وإن كان البعض يتصور أن ميخا كان أسبق فى النبوة، مع أنه كان أصغر من إشعياء، وأياً كان الأمر، فإن الفارق بين النبيين أن ميخا كان من طبقة الشعب، بينما كان إشعياء من أعلى الطبقات فى عصره، كما أشرنا عند الحديث عن شخصيته،... وقد عاش ميخا يدافع من الطبقات الكادحة والفقيرة، وحقوق الإنسان، وانتظارات اللّه من البشر، وها نحن نتابع قصته فيما يلى: ميخا من هو كان ميخا المورشتى فى مطلع الحياة وربيع العمر، فى الوقت الذى بلغ فيه إشعياء كمال رجولته وقوتها، وقد كان ميخا من طبدقة العامة وأفراد الشعب بينما كان إشعياء من الطبقة الأرستقراطية، وعلى الأغلب من العائلة المالكة، كما سبقت الإشارة عند دراسة شخصيته، وقد نشأ ميخا فى مورشت، القرية الصغيرة الواقعة على بعد خمسة وعشرين ميلا إلى الجنوب الغربى من أورشليم، والبقعة التى ولد فيها وعاش بقعة جميلة خصبة غنية بالمراعى والأشجار وحقول الحنطة، وما من شك أن مخيا قد تأثر بها، فصفت نفسه، وأرهفت أحاسيسه، وقويت عاطفته، واستجابت حياته لما فى الريف، من صدق واستقامة وصراحة ونقاء وغيرة، وحيث أننا لا نعرف شيئاً عن أبيه أو أمه، فمن المعتقد أنه نبت بين أحضان عائلة ريفية فقيرة، ولكن اسمه « ميخا» أو « من مثل الرب » مما يشجع على أن عائلته كانت تقية تعلى مجد اللّه، وتتمنى أن يسير ولدها فى طريق الرب والتشبه به!!.. ومع أن رسالة ميخا كانت ليهوذا وإسرائيل معاً، إلا أنها على وجه أخص كانت موجهة إلى بنى يهوذا، وقد حدث فى يهوذا كما حدث فى أورشليم، أن تباعدت المسافة بين طبقة الفقراء وطبقة الأغنياء، وانتشر الجشع والاغتصاب والظلم والسلب، مما دفع ميخا، وهو ابن الشعب، ومن صميم أفراده، إلى أن يهب للدفاع عن الحقوق البشرية الضائعة. لقد أبصر ميخا القسوة والوحشية والفساد وضياع الشعور الإنسانى مستولية على الرؤساء والقضاة والكهنة والأنبياء الكذبة، وأبصرهم جميعاً وقد سحقوا المساكين والبؤساء تحت أقدامهم فامتلأ من روح اللّه والقوة والبأس، وكان النبى العظيم الذى استخدمه اللّه لنصرة المظلومين التعساء!!.. هب ميخا للدفاع عنهم، وتحدث عن الخراب والدمار الذى سيلحق بشعبه وأورشليم نتيجة الخطية والإثم والشر والفساد، وبعد أن أبصر صهيون تفلح كالحقل وجبل بيت الرب يضحى شوامخ وعر، مد بصره إلى الأفق البعيد، فرأى فى أحضان المستقبل عصراً ذهبياً مجيداً، يثبت فيه بيت الرب، وتخرج من صهيون الشريعة، عندما يسود المسيح سيادته الكاملة، وتتخضع كل الشعوب تحت موطئ قدميه، وتزول من البشرية أشباح الحرب والمخاوف والمجاعات والمتاعب والمعاثر، ويختم ميخا سفره وهو يرينا سبيل الإنسان العملى إلى هذا السلام!!... ومع أن أسلوبه لا يرقى، ولا شك، إلى مستوى إشعياء، لكنه اتسم بالجزالة والصفاء والقوة، والمنطق والكناية والمجاز، وشدو التعبير،، ومن المرجح أنه بدأ رسالته حوالى عام 725 ق.م. حتى عام 686 ق.م. ميخا والدفاع عن الحقوق البشرية كان ميخا واحداً من أعظم الأبطال القدامى، الذين وقفوا إلى جانب الفقير والمظلوم والضعيف والمستعبد،.. وقد جاء ذكر دفاعه الباسل الذى هز - ولا شك - الأمة بأكملها، أيام الملك حزقيا، كمثال عظيم، لا لدفاعه فحسب، بل أكثر من ذلك لعظمة الملك الذى قبل هذا الدفاع: « إن ميخا المورشتى تنبأ فى أيام حزقيا ملك يهوذا وكلم كل شعب يهوذا قائلا هكذا قال رب الجنود: إن صهيون تفلح كحقل وتصير أورشليم خرباً وجبل البيت شوامخ وعر. هل قتلا قتله حزقيا ملك يهوذا وكل يهوذا. ألم يخف الرب وطلب وجه الرب فندم الرب عن الشر الذى تكلم به عليهم. فنحن عاملون شراً عظيما ضد أنفسنا » " إر 26: 18 و19، ميخا 3: 12 "... والذى يتابع ميخا وهو يتحدث عن الحقوق البشرية الضائعة، يرى تصويراً دقيقاً لكيفية ضياعها، ويحس قبل كل شئ أن « المال » هو السبب الأكبر لضياعها،... إن محبته حقاً هى « أصل لكل الشرور، الذى إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة »... " 1 تى 6: 10 " وهل نشأت كل لوثات التاريخ وشروره وآثامه إلا بسبب المال وما يتبعه من رذائل؟؟ فى ظلمة الليل وعندما يهجع الناس جميعاً فى مضاجعهم، يسهر عبيد المال ليفكروا ماذا يفعلون فى نور الصباح للحصول على المال، وقد قال عنهم ميخا فى مطلع الأصحاح الثانى: « ويل للمفتكرين بالبطل والصناعين الشر على مضاجعهم. فى نور الصباح يفعلونه لأنه فى قدرة يدهم، فإنهم يشتهون الحقول ويغتصبونها والبيوت يأخذونها، ويظلمون الرجل وبيته والإنسان وميراثه »... وهكذا يتطور حب المال بأصحابه من فكرة، إلى شهوة، إلى ظلم، إلى اغتصاب، وما من شك فى أن أى إنسان، يتطور إلى هذه الحال، لا يمكن أن يكون إنساناً بل وحشاً رهيباً جشعاً،.. على أن الأمر الذى يبدو أكثر شناعة وبشاعة هو سقوط الأنبياء والقضاة والكهنة تحت سلطانه،... أما الأنبياء فقد ضللوا الشعب، وخدعوه بنبواتهم الكاذبة، إذ حدثوه بالناعمات، وتكلموا له عن السلام، وأبوا أن يشيروا إلى خطاياه وآثامه، لاستجلاب رضاه، والانتفاع بعطاياه وهباته،... وألا ينطبق هذا على عدد كبير من الخدام الذين يتملقون الأغنياء والسادة والجماهير من أجل المصلحة والمادة والمغنم؟!! كما أن القضاة تفشت بينهم الرشوة، فكرهوا الحق، وعوجوا المستقيم، ورموا بالعدل إلى الأرض... هذا فى الوقت الذى كان فيه الكهنة يعملون بالأجرة، ويخدمون بالثمن!!.. ولكن السؤال: كيف يمكن لميخا وهو رجل فقير أن يقف فى وجه السادة والرؤساء والكهنة والأنبياء؟ وكيف يستطيع أن يندد بآثام المجتمع التى يبصرها دون خوف أو تردد أو تراجع؟!.. لقد كشف ميخا عن السر فى قوله: « لكننى أنا ملآن قوة روح الرب وحقاً وبأساً لأخبر يعقوب بذنبه وإسرائيل بخطيته »... " ميخا 3: 8 " إن ميخا وحده أعجز من أن يرفع صوته فى مواجهة الفساد والطغيان ولكن ميخا وقد امتلأ من روح الرب، أضحى ممتلئاً من القوة والحق والبأس، وإذا كان بطرس قد ضعف أمام الجارية، عندما كان خلواً من هذا الامتلاء، فإنه بعد الامتلاء أضحى القادر على أن يواجه سادة الجارية، مهما كان مركزهم وسلطانهم!!... وهل نستطيع بذلك أن نجد الرجاء العظيم فى أنه «لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحى قال رب الجنود »" زك 4: 6 "؟! … وهل نستطيع أن نتذكر أنه على قدر ما نسمح للروح أن يملأنا، بقدر ما نتحول إلى ميخا آخر أو بطرس أو بولس، أو أبطال الكنيسة الذين صنعوا المعجزات، لأنهم امتلأوا إلى آخر الحدود من روح اللّه القادر على كل شئ؟!.. ومع أن ميخا كان رجلاً وطنياً، لكن وطنيته لم تغط الشر أو تداهن الفساد، ومن ثم نراه يندد بأورشليم أقسى تنديد، فهو لا يرضى لها أن تبنى وتجمل بالدماء والظلم والرذيلة والاعوجاج،... كما أنه لم يعف السادة والرؤساء والكهنة والأنبياء من نتائج سلوكهم الشرير، وإثمهم الفاضح لتوكلهم المزيف على الرب: « قائين أليس الرب فى وطنا لا يأتى علينا شر »... كلا بل سيأتى الشر و« تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً، ووجبل البيت شوامخ وعر » " ميخا 3: 11 و12 " وفى كل مجتمع يقسو فيه الرؤساء، ويتاجر فيه الكهنة، ويحب رجال الدين المال، وتكثر الرشوة، عينيه كانت أو مادية، ويضيع القضاء العادل، لابد أن تحل على هذا المجتمع، بصورة قاسية، كارثة مريعة تأتيه من اللّه المنتقم العادل حارس حقوق الإنسان فى كل الأجيال. ميخا ورؤيا السلام العظيم بعد أن تحدث ميخا عن الخراب والدمار الذى سيلحق بشعبه وأورشليم نتيجة الخطية والإثم والشر والفساد،... وبعد أن أبصر صهيون تفلح كالحقل وجبل بيت الرب يضحى شوامخ وعر، مد بصره إلى الأفق البعيد، فرأى فى أحضان المستقبل، عصراً ذهبياً مجيداً يثبت فيه بيت الرب، وتتخرج من صهيون الشريعة، وتسعى الأمم إلى اللّه، ويسود الدين والسلام والأمن والرخاء والمحبة،... وقد اشترك إشعياء مع ميخا فى التنبؤ عن هذا العصر كما جاء فى إشعياء " 2: 2 - 4، مى 4: 1 - 5 "، ولا يمكن أن نجزم أيهما كان أسبق فى نبوته ورؤياه، فإذا أخذنا بالعمر، فإن إشعياء كان أسبق،... غير أن ميخا ألحق بالنبوة: « لأن جميع الشعوب يسلكون كل واحد باسم إلهه، ونحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد »... وقد شجع هذا البعض على الاعتقاد أن نبوة ميخا كانت أسبق، على اعتبار أنها لم تنس واقع الشعوب المحيطة بشعب اللّه،.. فى بيته بعد أن تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً،... أما إشعياء فقد تجاوز هذه الحقيقة مأخوذاً بالنبوة نفسها، وأثرها، الذى لا يمكن معه الوقوف عند الصورة الجميلة دون النظر إلى الظلال القاتمة!!.. على أية حال إن كليهما دفعا الأجيال إلى التطلع نحو ذلك العالم المجيد المرموق،... وقد اختلف المفسرون، واتجهوا، وجهات مختلفة أشهرها وجهتان، يطلق عليها: ما قبل الألف سنة، و« مابعد الألف سنة »، أما قبل الألف، فتشير إلى مجئ المسيح الثانى حرفياً لمدة ألف عام، أما بعد الألف فتشير إلى المجئ روحياً لمدة ألف سنة، أو مدة طويلة لا يشترط أن تكون حرفياً ألف سنة،... أو فى لغة أخرى أن الخلاف يدور حول جبل الرب، وهل المقصود به الجبل الحرفى، أو أورشليم المدينة التاريخية، التى يعتقد الآخرون بالمعنى الحرفى أنها ستتعود إلى مجدها العظيم التليد، بل إلى مجد لم تعرفه فى تاريخها السابق على الإطلاق،... الأمر الذى لا يقبله أو يأخذ به المؤمنون بالمجئ الروحى، والذين يفسرون الأمر كله تفسيراً روحياً، فأورشليم عندهم، هى أورشليم الروحية التى قال عنها الرسول بولس فى رسالته إلى غلاطية: « وأما أورشليم العليا التى هى أمنا جميعاً فهى حرة »... وكان يفرق فى ذلك بينها وبين: « أورشليم الحاضرة فإنها مستعبدة مع بنيها ».. "غل 4: 25 " وامتدت به التفرقة وهو يتحدث عن الصليب، فكشف عما يعتقده فى معنى « إسرائيل » وهو لا يقصد إسرائيل بحسب الجسد، أو الجنس اليهودى، بل يقصد المؤمنين أبناء اللّه فى القول: « فكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة وعلى إسرائيل اللّه »... " غل 6: 16 " وهو يقابل ما ذكره الرسول يوحنا فى سفر الرؤيا « ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فى ما بعد. وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند اللّه مهيأة كعروس مزينة لرجلها »... " رؤ 21: 1 و2 " ولا يتصور بداهة عند الرسولين، أن الحديث عن أورشليم هو بالمعنى الحرفى، بل بالمعنى الروحى أو « الكنيسة » وهو ما نعتقد أنه التفسير الصحيح لنبوة ميخا وإشعياء،... إن جبل الرب المرتفع هو ذلك الحجر الذى قطع بغير يدين والذى قال عنه دانيال للملك نبوخذ نصر: « كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً وصارت كعصافة البيدر فى الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذى ضرب التمثال فصار جبلا كبيراً وملأ الأرض كلها ».. " دا 2: 34 و35 " وكل هذه إشارة إلى ملك المسيح وكنيسته التى ستملأ الأرض،... والذى لا خلاف عليه - حتى مع الآخذين بالمعنى الحرفى - أنه لا يمكن أن يأتى العصر الذهبى أو يتم السلام فى الأرض دون أن يقبل الجميع من اليهود أو الأمم الرب يسوع المسيح، مخلصاً وفادياً ورباً، كشرط أساسى لإتمام الخلاص وامتداد ملكوت اللّه على الأرض، إذ أن علاقة المسيح بأى إنسان قبل أن ترتبط بمكان أو زمان أو ظرف، هى علاقة روحية شخصية، كما أن خلاصه شامل كامل لم يعد وقفاً على اليهود، بل يتسع ليشمل شعوباً وأمماً كثيرة، إذ أنه خلاص الإنسانية بأكملها، الإنسانية التى جاء المسيح ومات من أجلها ليفتديها ويحررها من اللعنة والخطية والإثم، وهو خلاص أبدى لا يتزعزع أو ينهزم... إن ممالك الأرض تقوم وتسقط... فأين مصر وصور وصيداء، وبابل واشور واليونان وروما!!؟ أين الممالك التى انحنى العالم لسلطانها ومجدها العظيم؟؟... لقد بادت وتلاشت ولم يبق منها إلا قصة تذكر فى التاريخ، وتروى مع الأيام أما خلاص الله فأبدى ثابت إذ: « أن جبل الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه شعوب » " ميخا 4: 1 " أو فى لغة أخرى إن خلاص المسيح سيسمو ويعلو على كل ما شمخت به جبال العالم، ومرتفعات الزمن،... وهو خلاص قوامه حياة البر: « فيعلمنا من طرقه ونسلك فى سبله لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب »... " ميخا 4: 2 " ومن الملاحظ أن هذا الخلاص سيكون عظيما وقوياً ومؤثراً فى حياة الناس إذ سيملأهم بالغيرة المقدسة فيقولون بعضهم لبعض: « هلم نصعد إلى جبل الرب وإلى بيت إله يعقوب »... وهل هذا إلا إعلاناً قوياً عن محبتهم للّه، ومحبتهم بعضهم لبعض؟؟.. قال القديس زافييه لمحدثيه: « أنتم تقولون إنهم سيقتلوننى بالسم وإنه لشرف كبير لخاطئ مثلى لا أجرؤ على الحلم به، ولكنى مستعد أن أموت عشرة آلاف مرة من أجل خلاص نفسى واحدة»... وهذا الخلاص سيكون مصحوباً بالنور: « فيعلمنا من طرقه » وسيادة المسيح وخلاصه لابد أن يصحبهما النور المشرق،.. أليس هو نور العالم ومن يتبعه لا يمشى فى الظلمة؟، ألم يأت ليمنحنا النور الذى به نخلص من الجهل والخرافات والفساد والخطية؟؟.. وخلاص المسيح مرتبط بالسلام: « فيقضى بين شعوب كثيرين. ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل لا ترفع أمة على أمه سيفاً ولا يتعلمون الحرب فى مابعد ».. وهذا الخلاص مرتبط آخر الأمر بالرخاء: « بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب لأن فم رب الجنود تكلم »... " مى 4: 3 و4 ".ومع أن هذا الخلاص فى أحضان المستقبل، ويرتبط بالمسيح، إذ أن آخر الأيام التى ذكرها يعقوب وموسى ودانيال وإشعياء وميخا وغيرهم من الأنبياء تشير إلى عصر المسيا، وقد فرق ميخا على ما يعتقد بعض المفسرين بين هذا العصر، وعصر السبى البابلى الذى قال فيه قبل هذه النبوة مباشرة: « لذلك بسببكم تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً وجبل البيت شوامخ وعر »... ولعل هذا هو السبب الذى جعله يضيف العبارة التى لم ترد فى إشعياء: « لأن جميع الشعوب يسلكون كل واحد باسم إلهه ونحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد » فيرى البعض أنها تتحدث عن سلوك إسرائيل فى السبى، وهم يرفضون العبادة الوثنية التى أحاطت بهم، وكان هذا سر رجائهم وقوتهم وعودتهم من السبى،... ويرى آخرون أنها تشير إلى الكنيسة، وهى تأخذ طريقها إلى الانتصار الكاسح، فى عالم الوثنية والفساد والشر، وهو التصور الأصح فى نظرنا.وقد تحدث ميخا عن هذا الخلاص على أية حال بلهجة الواثق المتأكد: « لأن فم رب الجنود تكلم » " ميخا 4: 4 ".. وهل يتكلم الرب إلا بالصدق، وهل يغفل عن أن يسهر على كلمته ليجربها؟!!.. لئن كان هناك من رجاء أو أمل فى كل التاريخ فى أن نصل إلى الأمن والسلام والاستقرار، والرخاء والمحبة والأخاء، فإن هذا الرجاء أو الأمل يرجع إلى ثقتنا الوطيدة فى كلمة اللّه!!.. وما من شك فى أن الكنيسة المسيحية يقع عليها وحدها الرجاء فى الدفاع عن الحقوق البشرية،... مع أن الإنسان يسير بطيئاً جداً فى الدفاع عن هذه الحقوق،.. وها نحن نرى هيئة الأمم المتحدة وقد أقرت ميثاق « حقوق الإنسان »، وهو ثمرة جهاد طويل منكوب بالحروب والمتاعب والمجازر البشرية، وهو يتكون من اثنتين وعشرين مادة، وهو جزءان: الجزء الأول منه يتكون من أربع مواد، ويسير إلى ضرورة احترام الدولة المشتركة فيه لكل نصوصه وقوانينه، ومساهمتها فى تنفيذ مواده بكل ما تملك من قوة ونفوذ - والجزء الثانى ويتكون من ثمانى عشرة مادة، ويفصل حقوق الإنسان فى الحياة والسلامة والحرية والأمن والملكية والدين والكلام.. غير أن الأمم المتحدة لا تملك قوة تنفيذية تلزم المخالف بهذه الحقوق، وإنما هى أحلام أفلاطون تظهر مرة أخرى على سطح التاريخ كما تمنى فى الجمهورية أو « اليوتوبيا، أى عالم الكمال، الذى كان يحلم به توماس مور أو « المدينة الفاضلة » التى كان يتخيلها فرنسس بيكون!!.. على أن كلمة اللّه، تتجه بنا بكل يقين إلى أورشليم السماوية، إلى مدينة اللّه النازلة من السماء، بمعنى أنها ليست مجرد حلم أو خيال بشرى، أو جهد يقوم به الإنسان فى الأرض، بل هى من صنع اللّه القادر على كل شئ، وبترتيب منه، وعلى الصورة التى قصد أن تكون، أو هى كنيسة المسيح الممجدة السماوية التى جعلت ملتون يقول: " أخرج من غرفتك الملكية يارئيس ملوك الأرض، وألبس ثوب جلالك ومجدك الإمبراطورى المنظور". ميخا والديانة المطلوبة من الإنسان تحدث ميخا عن الخراب الذى جلبته الخطية، والمستقبل اللامع الذى يراود أحلام الإنسان فى كل الأجيال والعصور، وكان لابد أن يتحدث عن السبيل للوصول إلى هذا المستقبل، وأكد ميخا أنه لا يوجد سوى الدين الذى ينقل الإنسان إلى العصر الذهبى اللامع، عصر السلام،... ومن الغريب أن الرئيس « كارتر » وهو يخطو إلى تولى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أكد هذه الحقيقة فى حفل تنصيبه، إذ جعل شعاره ما قاله ميخا فى الأصحاح السادس وهو يعبر تعبيراً عظيماً رائعاً عن مضمون الحياة الدينية: « قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك » " ميخا 6: 8 " وقد لا يعلم الكثيرون أن هذه الآية قد وضعت فى الغرفة الملحقة بالقسم الدينى فى مكتبة الكونجرس فى واشنطون، ومبنى هذه المكتبة من أفخم المبانى فى العالم، وهو يشمل أقساماً عديدة مستقلة لكل العلوم والمعارف، ولكل فرع غرفة مطالعة خاصة به زينت بما يلائمها، وعندما أرادوا أن يضعوا فى غرفة المطالعة بالقسم الدينى آية مناسبة، إستشاروا بعضاً من كبار رجال الدين وأساتذته، وأخيراً تم الاتفاق على الآية المذكورة فى نبوات ميخا!!.. وقد كشف ميخا بهذه الآية عن خلاصة الدين الصحيح، على أروع ما يمكن أن يكون... فالحياة الدينية أولا وقبل كل شئ علاقة شخصية بين الإنسان وربه أينما يكون وكيفما يكون: « قد أخبرك أيها الإنسان »... وفى الحقيقة أن هناك علاقة بين اللّه والأمة، وقد أسس اللّه علاقته مع شعبه على أجمل أسلوب، وهو حتى فى محاكمته للشعب يذكره بهذه العلاقة العظيمة: « ياشعبى ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك؟ أشهد على. إنى أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم ياشعبى أذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور - من شطيم إلى الجلجال لكى تعرف إجادة الرب » " ميخا 6: 3 - 5 "..ومن الحقيقة أيضاً أن هناك علاقة بين اللّه والأسرة: « أما أنا وبيتى فنعبد الرب » " يشوع 24: 15 "... لكن هذا كله، يؤسس على العلاقة الشخصية الفردية بين الإنسان وربه... وهذه العلاقة لا يعرفها الإنسان خيالا أو ظناً أو تصوراً أو هماً بل هى ثمرة إعلان اللّه للبشر: « قد أخبرك »... إذ إن اللّه ليس ساكناً أو ساكتاً فى السموات، بل إنه يسعى وراء كل إنسان ليخبره، وقد أكد السيد المسيح هذه الحقيقة بقوله: «خرافى تسمع صوتى » " يو 10: 27 " إذ أنه يتكلم إلينا بأصوات متعددة، وهو يريد أن ننصت ونسمع، وكلمته فى الكتاب، والضمير، والحوادث، والظروف المحيطة بنا، تتحدث إلينا، وطوبى لمن يصغى لهذه الأصوات،... وهو يؤكد أكثر من ذلك أن هذه الأصوات ملزمة، وليس لى أن أختار قبولها أو رفضها كما يشاء لى الهوى أو الرفض: « وما يطلبه منك الرب »..والديانة المطلوبة فى الواقع ليست شخصية فحسب، بل وروحية أيضاً، إذ أنها ليست مجرد فرائض أو طقوس، ويبدو أن كثيرين تصوروا هذا، وربما سألوا اللّه عن طريق ميخا: « بم أتقدم إلى الرب وأنحنى للإله العلى؟ هل أتقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة؟ هل يسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار زيت؟ هل أعطى بكرى عن معصيتى ثمرة جسدى عن خطية نفسى » " ميخا 6: 6 و7 " على أن اللّه أجاب أن الديانة الحقيقية أعمق من ذلك بما لا يقاس، إذ أنها ديانة روحية لبابها السجود للّه بالروح والحق!!.. وفد على مدينة أدنبره، جماعات لا هم لها دينيا إلا إثارة الإنفعالات والعواطف والتغير من مذهب إلى مذهب،.. وقد كتب أحد وعاظهم إعلاناً فى الصحف عن المجئ الثانى للمسيح تحت عنوان: « ملايين الناس لن يروا الموت »... إذ كانوا يعتقدون أن المجئ سيأتى وشيكاً،... وما أن قرأ أحد خدام اللّه هذا الإعلان. حتى كتب إعلاناً عن عظته المزمع أن يلقيها يوم الأحد تحت عنوان: « ملايين الناس مائتون فعلا »... ومن الواجب إنقاذهم، قبل إشباع غرائزهم وفضولهم، وشكراً للسيد الذى أغنانا بذبيحته عن ألوف الكباش وربوات أنهار الزيت!! والديانة المطلوبة: « أن تصنع الحق »... إذ أن الدين ليس مجرد نظريات غيبية أو تخيلية، بل هو حقيقة عملية »... والحق دائماً مثلث، يبدأ بالحق تجاه اللّه الذى هو الحق، وما نحن إزاء اللّه إلا وكلاء فى كل شئ،... فى العهد القديم لم تكن الأرض ملكاً لأصحابها، وكانت تقسم، ولا يجوز لإنسان أن يبيعها أو يتخلى عنها مطلقاً، لأن الأرض ملك اللّه، والإنسان مجرد وكيل وبهذا المعنى نحن جميعاً وكلاء أمام اللّه!!.. والحق تجاه الآخرين ألا نكيل بكيلين ونزن بميزانين،... أخذ مدير الشركة يقرع أحد الموظفين أمامه، لأن الموظف أخبره بأن ابنه فشل فى الامتحان، ونسب إلى الأب الإهمال وسوء التربية، وما هى إلا لحظات حتى وصلت برقية تقول إن ابن المدير قد رسب فى الإمتحان،... فغمغم قائلا: إن الوقت ما يزال أمامه إذ هو صغير،!!... لم يستطع أن يطبق الحق على نفسه كما طبقه على الآخرين!! والحق تجاه النفس، هو مناقشتها ومحاسبتها على الدوام، والتوفيق معها دون تساهل أو تهاون أو كسل!!.. على أن الديانة أكثر من ذلك هى ديانة الرحمة: « وتحب الرحمة »... فإذا كان الإنسان على الدوام يتجه صوب الحق، فإن الأجمل والأعظم أن يحب الرحمة، وأن يمتلئ قلبه بها، وأن يشفق على الآخرين، وأن يتسامح مع خطاياهم وآثامهم، قتل رجل فى حماقته فى الحرب طفلة فى التاسعة من عمرها، ومات هو، وذهب أبواها إلى زوجة الرجل وقالا: لقد سامحناه إذ كنا ننظر إليه كمريض أكثر منه قاتلا!!.. تحدث أحدهم إلى كلارا بارتون مؤسسة الصليب الأحمر الأمريكى، عن إساءة قاسية حدثت فى حياتها، فأجابت: لقد تعودت أن أنسى إساءات الناس!!... والديانة الرحيمة هى التى تجتهد فى أن تقيل عثرة الآخرين.. قال مدير المدرسة لشاب أخطأ: يا ابنى أنا أعلم أنك تعثرت، وسأكتب عثرتك هذه بقلم رصاص، فإذا لم تتكرر سأمحوها!!... وليس أعظم وأجمل من أن نمد أيدينا إلى الضعيف والمنكوب، والمتألم والعاجز لأنه: « طوبى للرحماء لأنهم يرحمون ».. " مت 5: 7 ".ثم هى آخر الأمر ديانة التواضع: « وتسلك متواضعاً مع الهلاك، والتواضع الصحيح هو النضوج بعينه، إذ هو التواضع أمام عظمة إلهنا، ومن نحن التراب والدود والرمة، أمام إله عظيم مجيد سرمدى!!... بل نتواضع إزاء إحسانه: « صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك »... " تك 32: 10 " وأكثر من هذا كله أمام غفرانه العجيب، ولا نملك هنا إلا أن نقف مع ميخا، وهو يختم سفره بأقوال من أروع الأقوال التى سطرت أمام عين الإنسان فى كل التاريخ: « من هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه. لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يسر بالرأفة. يعود يرحمنا يدوس آثامنا وتطرح فى أعماق البحر جميع خطاياهم. تصنع الأمانة ليعقوب والرأفة لإبراهيم اللتين حلفت لآبائنا منذ أيام القدم »..! " ميخا 7: 18 - 20 "..
المزيد
30 أغسطس 2022

أقوال بعضِ الاباء القديسين الاوائل في الدينونة

قال القديس دوروثاؤس: إنه لا شيء أردأ من الدينونةِ للإنسان، لأن بسببها يتقدم إلى شرورٍ ويسكن في شرورٍ، فمن دان أخاه في قلبهِ وتحدث في سيرتهِ بلسانهِ، وفحص عن أعمالهِ وتصرفاتهِ، وترك النظرَ فيما يُصلِح ذاتَه، وانشغل عما يلزمه بما لا يلزمه من الأمورِ التي ينشأ عنها الازدراءُ والنميمةُ والملامةُ والتعيير،فحينئذ تتخلى المعونةُ الإلهية عنه، فيسقط فيما دان أخاه عليه. أما النميمةُ فتصدر من ذاك الذي يخبر بما فعله أخوه من خطايا شخصية، فيقول عنه إنه فعل كذا وكذا.وأما الدينونة،فبأن يخبر بما لأخيه من خُلقٍ رديء، فيقول إنه سارقٌ أو كذاب أو ما شابه ذلك، فيحكم عليه بالاستمرار فيها وعدم الإقلاع عنها. وهذا النوع من الدينونة صعبٌ جداً،ولذلك شبَّه ربنا خطية الدينونة بالخشبة، والخطية المدانة بالقذى. من أجل ذلك قَبِلَ توبةَ زكا العشار، وصفح عما فعله من آثامٍ، وشجب الفريسي لكونِه دان غيرَه، مع ما له من صدقةٍ وصومٍ وصلاةٍ وشكرٍ لله على ذلك. فالحكم على خليقةِ الله، يليق بالله لا بنا، فدينونةُ كلِّ واحدٍ وتزكيته هي من قبل الله وحده،لأنه هو وحدَه العارف بسرِّ كلِّ إنسانٍ وعلانيته. وله وحده إصدار الحكم في كلِّ أمرٍ وعلى كلِّ شخصٍ. إذ يتفق أن يعمل إنسانٌ عملاً بسذاجةٍ وبقصدٍ يرضي الله، وتظن أنت غير ذلك، وإن كان قد أخطأ، فمن أين تعلم إن كان تاب وغفر الله له، أو إن كان الله دانه في العالم إزاء ذنوبهِ؟فالذي يريد الخلاص إذن،ليس له أن يتأمل غيرَ نقائص نفسِه،مثل ذلك الذي رأى أخاه قد أخطأ فبكى وقال:"اليوم أخطأ هذا الأخ، وغداً أخطئ أنا، وربما يُفسح الربُ لهذا فيتوب، وقد لا يُفسح لي أنا». فبالحقيقة ويلٌ لمن يدين أخاه فإنه سيُهلك نفسَه بكونِه صار دياناً، ولكونهِ يؤذي الذين يسمعونه.وعنه يقول النبي: "ويلٌ للذي يسقي أخاه كأساً عكرة». وكذلك: «ويلٌ للذي من قِبلهِ تأتي الشكوك». أما أصلُ هذا كلِهِ فهو عدم المحبة، لأن المحبةَ تغطي كلَّ عيبٍ. أما القديسون فإنهم لا يدينون الأخَ، لكنهم يتألمون معه كعضوٍ منهم، ويشفقون عليه ويعضدونه ويتحايلون في سبيلِ خلاصِهِ، حتى ينشلونه كالصيادين الذين يرخون الحبلَ للسمكةِ قليلاً قليلاً حتى لا تخرق الشبكةَ وتضيع، فإذا توقفت سَوْرةُ حركتِها حينئذ يجرونها قليلاً قليلاً، هكذا يفعل القديسون، فإنهم بطول الروح يجتذبون الأخَ الساقطَ حتى يقيموه، كما فعل شيخٌ إذ جلس على الماجورِ الذي كانت تحته المرأة، لكي لا يجدها أولئك الدين نمُّوا على الأخ ... بشفقةٍ ومحبةٍ، لا باستنقاصٍ وتعيير. شيخٍ من الشيوخ القديسين أنه سكن قريباً من الديرِ، وكان ذا نفسٍ راجحةٍ في الصلاح، فجاوره أخٌ راهب.واتفق في غيبة الشيخِ أن طغى الأخُ وفتح قلايتَه، ودخل فأخذ زنابيلَه ومصاحِفَه.فلما رجع الشيخُ وفتح قلايته، لم يجد زنابيلَه ولا باقي حاجاته، فجاء إلى الأخِ ليخبره بما جرى له.وبدخولهِ قلاية الأخ وجد زنابيله ومصاحفه في وسطِها، لأن الأخَ لم يكن بعد قد خبأها. فلمحبةِ الشيخ، رأى ألا يحرجه، أو يوبخه، أو يخجله، فتظاهر بوجود ألم في بطنِهِ، ويحتاج الأمر لزوالهِ إلى قضاء الحاجة، فدخل بيتَ الراحةِ وأبطأ فيه وقتاً طويلاً، حتى إذا تأكَّد أن الأخَ خبأها، خرج الشيخُ وبدأ يكلمه في أمورٍ أخرى ولم يوبخه. وبعد أيامٍ قليلةٍ، عثروا على زنابيل الشيخ عند الأخ، فأخذه قومٌ وطرحوه في الحبسِ، فلما سمع الشيخُ أنه في الحبسِ ولم يكن يعرف العلةَ التي من أجلها حُبس، قام وجاء إلى الرئيس، وقال له: "اصنع محبةً وأعطني بيضاً وخبزاً قليلاً». فقال له ذاك: «من البيِّن أنه يوجد عندك اليوم ضيوفٌ». فقال له: «نعم». فأخذ الشيخُ ما طلبه، ومضى إليه في الحبسِ، ليجد الأخُ غذاءً من الطعام.فلما دخل ليفتقدَه، خرَّ الأخُ على رجليه وقال:"يا معلم، لقد جيء بي إلى ههنا، لأني أنا هو الذي سرقتُ زنابيلك، ومصاحفك تجدها عن فلان، وثوبك تجده أيضاً عند فلان».فقال له الشيخُ: "بالحقيقيةِ يا ولدي، اِعلم تماماً أني لستُ من أجل هذا الأمر دخلتُ إلى الحبس، ولم أعلم بوجهٍ من الوجوه أنك جئتَ من أجلي إلى ههنا، لكني سمعتُ أنك محبوسٌ فاغتممتُ، وجئتُ مصلحاً لك طعاماً تتغذى به، فاقبل الخبزَ والبيضَ وخذه من أجلِ محبتي».ثم إن الشيخَ خرج إلى أكابر البلد، وأعلمهم بأن هذا الأخ بريءٌ، وسألهم ألا يجلبوا على أنفسِهم خطيئةً. ولكونه معروفاً بينهم بالفضلِ والخيرِ، سمعوا لكلامِه، ولوقتهم أطلقوه، فهذا الأخُ بقي تلميذاً عند الشيخ بقية أيام حياتهِ ولم يكلِّمه بكلمةٍ واحدةٍ قط. وأيضاً قال شيخ: لا تدن الفاسقَ أيها العفيف لئلا تصير مثلَه مخالفاً للناموس، لأن الذي قال لا تزنِ، قال أيضاً لا تدِن. والرسول يعقوب يقول: «إن من حفظ الناموسَ كلَّه، وذلَّ في واحدةٍ منه، صار مُطَالباً بالجميعِ». قال يوحنا السينائي: إنه في حالِ جلوسي في البريةِ الجوانية، جاءني أحدُ الإخوة متفقداً مَن بالدير، فسألتُه:"كيف حالُ الإخوة»؟ فأجابني: «بخيرٍ بصلاتِك».فسألتُه أيضاً عن أخٍ واحدٍ كانت سمعتُه قبيحةً، فأجابني: "صدقني يا أبي، إنه لم يتُب بعد منذ ذلك الوقتِ الذي أُشيعت عنه فيه تلك الأخبار». فلما سمعتُ ذلك قلتُ: «أُف». فعند قولي «أف» أخذني سُباتٌ وكأن نفسي قد أُخذت، فرأيتُ أني قائمٌ قدامَ الجمجمة، والمسيحُ مصلوباً بين لصين، فتقدمتُ لأسجدَ له، ولكنه أمر الملائكةَ الواقفين قدامَه بإبعادي خارجاً قائلاً:"إن هذا الإنسان قد اغتصب الدينونةَ مني ودان أخاه قبل أن أدينه أنا». فوليتُ هارباً، فتعلق ثوبي بالباب وأُغلق عليه، فتخليْتُ عن ثوبي هناك.فلما استيقظتُ قلتُ للأخ الذي جاءني: "ما أردأ هذا اليوم عليَّ». فأجابني: «ولِمَ يا أبي»؟ فأخبرتُه بما رأيتُ وقلت: «لقد عدمتُ هذا الثوبَ الذي هو سُترة الله لي».ومن ذلك اليوم،أقام القديسُ هكذا تائهاً سبعَ سنين في البراري، لا يأكل خبزاً ولا يأوي تحت سقفٍ، ولا يبصر إنساناً.وأخيراً رأى في منامِهِ كأن الربَ قد أمر أن يُعطوه ثوباً.فلما انتبه فرح فرحاً عظيماً، وبعد أن أخبرنا بذلك بثلاثة أيامٍ تنيح.فلما سمعنا ذلك تعجبنا قائلين: «إن كان الصديقُ بالجهدِ يخلص، فالمنافق أين يظهر». من خبر لتادرس الرهاوي: كان بتلك النواحي حبيسٌ قديم، فمضى إليه القديس تادرس الأسقف، وسأله أن يعرِّفه بسيرتهِ من أجلِ الرب فتنفس الحبيسُ الصعداء، وتنهد من صميمِ قلبهِ وذرفت دموعُه وقال: "أما سيرتي فأنا أخبرك بها، فقط لا تُشهرها لأحدٍ إلا بعد انتقالي.فاعلم أيها الأب، أني خدمتُ بديرٍ ثلاث سنوات مع أخٍ أكبر مني، وبعد ذلك جئنا إلى البريةِ في بابل القديمة، وسكنَّا مقابرَ لم يبعد بعضُها عن بعضٍ كثيراً. وكنا نتغذى من الحشائش النامية من ذاتِها من سبتٍ إلى سبتٍ، وكنا إذا خرجنا لنجمع الحشائش لغذائنا، يتراءى مع كلِّ واحدٍ منا ملاكٌ يحفظه. ولم يكن أحدُنا يخاطب الآخر ولا يقترب منه.ففي أحدِ الأيامِ رأيتُ أخي من بُعدٍ قد قفز عن موضعٍ طائراً كأنه نجا من فخٍ، ومضى هارباً إلى قلايتهِ.فلما عجبتُ من قفزتِه، مضيْتُ إلى ذلك الموضع لأتحقق الأمرَ. فوجدتُ هناك ذهباً كثيراً،فأخذتُه ثم جئتُ إلى المدينةِ، وابتعتُ موضعاً حسناً محاطاً بسورٍ وبه عينُ ماءٍ صافٍ، فبنيتُ هناك كنيسةً، وعمَّرتُ موضعاً لضيافة الغرباءِ.وابتعتُ برسمهِ مواضعَ كافيةً للإنفاق عليه، وأقمتُ عليه رجلاً خبيراً بتدبيرِهِ. أما باقي المال، فقد تصدَّقتُ به على المساكين حتى لم أُبقِ لي منه ولا ديناراً واحداً.ثم عدتُ طالباً قلايتي، وفكري يوسوسُ لي قائلاً: "إن أخي من فشلِهِ ما استطاع تدبير ما وجده من المال، أما أنا فقد دبرتُه حسناً».في حال تفكري بهذا، وجدتُ نفسي وقد وصلتُ بقرب قلايتي، ورأيتُ ذلك الملاك الذي كان قبلاً يُفرِّحني، وإذا به ينظر إليِّ نظرةً مفزعةً، قائلاً لي: "لماذا تتعجرف باطلاً؟إن جميعَ تعبك الذي شَغَلْتَ نفسَك فيه كلَّ هذه الأيام، لا يساوي تلك القفزةَ الواحدة التي قفزها أخوك، لأنه ما جاز عن حفرةِ الذهبِ فحسب، بل عبَرَ أيضاً تلك الهوةَ الفاصلةَ بين الغني ولعازر، واستحق لذلك السُكنى في أحضان إبراهيم،من أجل ذلك فقد أصبح حالُك ليس شيئاً بالنسبةِ لحالِه بما لا يقاس، وها هو قد فاتك كثيراً جداً، ولهذا صرتَ غيرَ أهلٍ لأن ترى وجهَه، كما لن تحظى برؤياي معك بعدُ». وإذ قال لي الملاكُ ذلك غاب عن عيني.ثم إني جئتُ إلى مغارةِ أخي فلم أجده فيها، فرفعتُ صوتي باكياً حتى لم يبقَ فيَّ قوةٌ للبكاءِ. وهكذا أقمت سبعةَ أيام أطوفُ تلك البريةَ باكياً، فما وجدتُ أخي، ولا وجدتُ عزاءً، فتركتُ ذلك الموضع نادباً، وجئتُ إلى هنا، فأقمتُ في هذا العمودِ تسعاً وأربعين سنةً محارِباً أفكاراً كثيرة، وشياطين ليست بقليلةٍ، وكان على قلبي غَمامٌ مظلمٌ وحزنٌ لا يمازجه عزاء. وفي السنة الخمسين، في صبيحة الأحد، أشرق على قلبي نورٌ حلو، قشع عني غَمامَ الآلام، وبقيتُ مبتهلاً بقلبٍ خاشعٍ مُنَدَّى بدموعٍ ذاتِ عزاءٍ، فلما جازت الساعة الثالثة من النهار، وأنا ملازمٌ للصلاةِ قال لي الملاكُ: السلامُ لك من الربِّ، والخلاص. فتعزَّى قلبي».قيل:أخطأ أحدُ الإخوةِ فطُرد،فقام الأب بيساريون وخرج معه قائلاً: «وأنا أيضاً خاطئٌ».وحدث مرةً أن هفا أخٌ بالإسقيط، وانعقد مجلسٌ بسببهِ،فقام الأب بيئور، وأخذ خُرجاً وملأه رملاً وحمله على ظهرهِ،كما أخذ كيساً صغيراً ووضع فيه قليلاً من الرملِ وجعله قدامه. فسألوه:"ما هذا الخُرج المملوء كثيراً»؟ فقال: "إنه خطاياي قد طرحتُها وراءَ ظهري حتى لا أنظرها ولا أتعب لأجلِها، أما الرملُ القليل الموجود قدامي، فهو خطايا أخي، وقد جعلتُها قدامي لأدينه عليها».فلما سمع الإخوةُ ذلك انتفعوا، وغفروا للأخِر.
المزيد
25 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس موسى

موسى " بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون "عب 11: 24 مقدمة قد لا يجد المرء في صفحات التاريخ الكثير من الناس، الذين تعرضوا وهم على مفارق الطرق، لما تعرض له هذا الرجل القديم موسى، إذ كان واحداً من الأوائل الذين جاء امتحانهم على ضفاف النيل، ليكتشفوا الفارق المهول بين الطريق الواسع العالمي، وطريق الحياة الأبدية الضيق،.. وقف موسى أمام الطريقين، ورأى الطريق الرحب الواسع، مرصوفاً بالذهب تعبق على جانبيه الزهور، ويرويه النيل بالخضرة والجمال، والحسن والمتعة، والمجد العالمي المذهل!!.. ورأى الطريق الآخر الكرب الضيق، وعلى رأسه الصليب الضيق، والنفي والتشريد، ولم يتردد مع ذلك قط، في أن يختار هذا الطريق الأخير إذ: "أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة".. لقد أدرك موسى أن مأساة الإنسان الغارقة في كل العصور والأجيال أنه ينظر إلى أول الطريق، وليس إلى نهايته، مع أن الوضع المعكوس هو الصحيح إذ: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت".. وهو لا يرضى أن تكون له هذه المأساة، فيتحول آخر الأمر مهما حف به من مجد عالمي إلى جثة محنطة في مقابر الفراعنة القديمة بل أنه لينشد أن يموت بأمر من الله على رأس الفسجة، ولا يدفن في أعظم هرم في مصر الوثنية القديمة!!.. أجل وشتان إلى الأبد، بين موسى كمومياء، وموسى على جبل التجلي مع إيليا والمسيح، كما رآه بطرس ويعقوب ويوحنا!!.. دعونا إذاً نرى هذا الرجل كواحد من أعظم رجال العصور كلها، يقف ربما في الخط الثاني مع بولس والقليلين جداً من أبطال الإيمان خلف ابن الله في السماء.. من يكون؟ وما قصته العظيمة وتاريخه الباقي إلى أن تنتهي الأرض وما عليها، ويسمع الناس الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل؟!.. من هو موسى؟!! عندما يمر الإنسان منا نحن المصريين بمومياء رمسيس الثاني، كثيراً ما يأتي السؤال: هل هذا الملك هو الرجل الذي عاصر موسى كما يذهب بعض المؤرخين أو الشراح ممن يعتقدون أن موسى ولد عام 1578ق.م. وأنه هرب إلى مديان عام 1538ق.م. ورجع إلى مصر عام 1498ق.م.، وأن رمسيس الثاني جاء إلى العرش عام 1567ق.م.، وأن منفتاح حكم مصر عام 1506ق.م.؟.. أم أن موسى جاء بعد هذا التاريخ بفترة قصيرة؟.. لسنا نعلم على وجه التأكيد، ولا نظن أن دراسة الشخصيات التي نعالجها تهتم بالجانب التاريخي المحض، فهذا متروك للدراسات التاريخية، وعلم الآثار،.. ولا نظن أن دراساتنا أيضاً تتجه إلى معارض الفن، حيث نرى رجال الفن من مصورين أو مثالين، وهم يتخيلون شكل موسى أو منظره أو صورته، ولن نقف من موسى، مثلما وقف المثال العظيم مايكل أنجلو، بعد أن أبدع تمثاله العظيم الرائع، وإذ أخذ بالمنظر ضرب بعصاه وهو يصيح: "تكلم يا موسى".. لكننا سنحاول دراسة أخلاقيات موسى ورسالته العظيمة التي تركت طابعها الأدبي والروحي على مر العصور والأجيال!!.. موسى الجميل لم يكن جمال موسى الجمال العادي، ولكنه كان نوعاً من ذلك الجمال الذي وصفه استفانوس بالقول: "ولد موسى وكان جميلاً جداً" والذي قال عنه يوسيفوس المؤرخ اليهودي: "إن جماله كان رائعاً فتاناً مذهلاً، فما من إنسان بهذا الجمال البارع".. وقد هز هذا الجمال أمه وأباه اللذين أخفياه ثلاثة أشهر وهز ابنة فرعون التي رق قلبها للجمال الباكي في سفط وكان مؤشراً عظيماً في الحب الذي أحبت به موسى، فلم تره بعد عبداً لها، بل جعلته ابناً!!.. وقد أضحى هذا الجمال مذهلاً ورهيباً، بعد أن صعد إلى الجبل وعاش مع الله أربعين يوماً،.. ولم تعد العين البشرية قادرة أن تحدق فيه، كما يصعب عليها أن تواجه النور الباهر، ومن ثم ألف موسى أن يغطي وجهه في نظر إلى الناس، حتى يرفع البرقع في خلوته مع الله!!.. موسى المتعلم وصف استفانوس موسى: "تهذب بكل حكمة المصريين".. ومن المعتقد أن مصر رائدة العلم في كل أجيال التاريخ، وقد قال هنري ورد بيتشر، وهو يعطي الفرق بين عظمة مصر وغيرها من الأمم والممالك: "إن روما لم تكن قد عرفت بعد، واليونان كانت مغارة لصوص، ولم يكن في بقاع العالم كله سوى مكان واحد يتألق فيه المجد، وقد كان هذا المكان هو مصر بلد الفلسفة والفن والوثنية".. وفي عصر موسى كانت هناك جامعة في عاصمة البلاد في المكان الذي يطلق عليه الآن "صان الحجر" ومن المرجح أن موسى تعلم في هذه الجامعة حتى بلغ أعلى درجات المعرفة والعلم،.. كانت الجامعة تعلم التاريخ والطب واللاهوت والحساب والجبر والهندسة والعلوم الحربية، ولا شبهة في أن موسى أخذ بالكثير من هذه العلوم، التي اختلط فيها الحق بالباطل، والنور بالظلام ولكنها على أي حال جعلت منه واحداً من أعظم علماء عصره، ومن أعظم علماء العصور كلها، وأنها شكلت فيه ذلك الذهن المنظم العبقري، الذي صفاه الله، في برية مديان ليكون واحداً من أبرع العقول التي أعطاها الله للإنسان على هذه الأرض!!.. وأليس مما يدعو إلى العجب أن الرجل الذي تهذب بكل حكمة المصريين، وكان العملاق العظيم في العهد القديم، يذكرنا بنده الآخر في العهد الجديد، والذي أفرزه الله من بطن أمه، وكان عليه أن يجتاز الطريق، من جامعة طرسوس، إلى رجلي غمالائيل، إلى الخدمة الخالدة التي قام بها بعد ذلك؟!!.. موسى المقتدر لم يكن موسى جميلاً، وعالماً فحسب، بل أكثر من ذلك، كان "مقتدراً في الأقوال والأُفعال" أو جهزه الله ليكون من ذلك النوع من الرجال الذي خلق ليكون قائداً،.. والذي يمكن أن يوصف بصلابة الإرادة، وقوتها. وهنا يكمن الفرق بينه وبين هرون، لم يكن لموسى زلاقة اللسان، التي كانت لأخيه الأكبر هرون،.. إذ كان هرون من أفصح الناس، وأقدرهم في البلاغة والبيان، لكن هرون كان قصبة تهزها الريح، تقوده الجماهير، ولا يقودها، وتدفعه ولا يستطيع ردها، وتثور غاضبة فينجرف في تيارها، ومع أنه رئيس كهنة الله،.. ومع أنه عاش عميق الشركة مع الله، ومع أنه ظل إلى آخر عمره، وهو يقدم البخور العطر أمام الله، إلا أنه كان الإنسان الضعيف أمام أية إرادة أقوى وأصلب من إرادته وشجاعته،.. في ثورة غضب صنع العجل للجماهير، وهو يعلم أنه إثم كبير، وفي لحظة ضعف اكتسحته مريم، عندما تآمرت معه على أخيه الحبيب موسى،.. تستطيع أن تأخذ من هرون أفضله أو أردأه من نوع المصاحبة التي تأتيه من الآخرين،.. أما موسى فهو فرد يصلح أن يكون جيشاً بأكمله،.. يقود ولا يقاد، ويتقدم ولا يتراجع، ويحزم الأمر في مواجهة فرعون أو مصر، أو الإسرائيليين جميعاً، أنه من ذلك الصنف الذي خلق ليكون زعيماً وقائداً، لا يتخاذل في أقسى المعارك، أو أشد المحن، التي يمكن أن يمتحن بها الرجال أو الأبطال في الأرض!!.. موسى الحالم كان موسى -أكثر من كل ما ذكرنا- رجل الرؤيا والأحلام،.. لقد دخلت الأحلام في حياته منذ الصباح الباكر،.. ومن المؤكد أن أمه يوكابد، فتحت عينيه على الرؤيا العظيمة، رؤيا الإنقاذ والتحرير لشعب الله المعذب المضطهد في ذلك التاريخ، ومن المؤكد أن موسى كان على دراية تامة بالنبوات الإلهية التي ذكرها إله لإبراهيم ويعقوب ويوسف،.. ومن المؤكد أنه وعاها إلى الدرجة التي لم يغمض له معها جفن، وهو يجترها ويذكرها كلما أصبح، وكلما أمسى،.. لقد دخلت وإياه إلى قصر فرعون، وعاشت وإياه على ضفاف النيل، وصاحبته صغيراً، وشاباً، ورجلاً اكتملت حياته وقوته ورجولته،.. ومن المؤسف أنها كانت خلفه أيضاً عندما تحول قائلاً: "فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يديه يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا". موسى الحليم لم يكن موسى حالماً فحسب، بل كان حليماً أيضاً، وأكثر من ذلك كان أحلم رجل على وجه الأرض،.. ولم يكن حلمه ناشئاً عن طابع هاديء بارد -كما يبدو هذا في حياة الكثيرين من ذوي الدماء الباردة على ما اصطلح الناس أن يقولوا أو يرددوا- بل كان موسى على العكس، من النوع الملتهب العاطفة، الثائر الوجدان، الغضوب حتى القتل، إذا ما رأى مظلوماً ضعيفاً بين يدي ظالم قاس، أو مستبد باطش متغطرس،.. ومن المسلم به أن ذوي الطباع البادرة لا يصلحون في أوقات المحن والاستعباد والاستبداد،.. ومن المسلم به أن موسى على العكس من ذلك كان يحمل بين جنبيه قلباً ثائراً لا يهدأ أو يسكن أو يستريح حتى تحل قضية شعب مظلوم، سحقه الطغاة إلى الأرض الحضيض والتراب،.. لكنه مع ذلك راضى نفسه على الهدوء، وأخذ نفسه بالسكينة، واحتاج إلى أربعين عاماً في البرية حتى يصبح لا رجلاً حليماً فحسب بل أكثر من ذلك أحلم إنسان في جيله على وجه الأرض!!.. موسى صديق الله لم تكن الصداقة التي تربط موسى بالله مجرد صداقة عادية، بل كانت، من ذلك النوع المباشر العميق، وتختلف كل الاختلاف عن صداقة الشعب بأكمله،.. فإذا درج الشعب على الاقتراب إلى الله في خيمة الاجتماع، كان جميع الشعب إذا خرج موسى إلى الخيمة يقومون ويقفون كل واحد في باب خيمته وينظرون وراء موسى حتى يدخل الخيمة، وكان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة، ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفاً عند باب الخيمة، ويقوم كل الشعب ويسجدون، كل واحد في باب خيمته، ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه، وإذا رجع موسى إلى المحلة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة!!.. فإذا تطاول هرون ومريم على موسى وإذا زعما أنهما ليسا أقل منه بحال من الأحوال، كان جواب الله على هذا الموقف: "اسمعا كلامي. إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فماً إلى فم، وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين".. أجل وهذه الصداقة التي شربت عميقاً من نبع الله تنتهي بنا عبر القرون إلى الصورة المماثلة بين التلاميذ، حيث أحبهم يسوع المسيح إلى المنتهى، وفي الوقت عينه قرب ثلاثة من بينهم، ومن الثلاثة انفرد واحد باللقب العظيم: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"..أجل إن مجال الصداقة -أو بالحري- سباق الصداقة مفتوح أمام الجميع، ترى من يكون موسى العهد القديم، أو يوحنا العهد الجديد في مثل هذا الامتياز الرائع فيمن تأتي بهم العصور اللاحقة عن أحباء الله وأصدقائه؟!! موسى والبيت القديم ولن تستطيع أن تدرس موسى، أو تدرك عظمته الحقيقية دون أن تدخل. بيته القديم، وتلتفت حول أسرته المكونة من خمسة أشخاص، وأول ما يطالعك في البيت، الأبوان عمرام ويوكابد"، وهما المؤمنان اللذان لم يخشيا أمر الملك، ويلقيا بابنهما الجميل في نهر النيل، وهما رأس البيت السعيد المحظوظ، والذي أنجب ثلاثة أولاد، بنتاً وولدين، ولم يتخلف واحد منهم عن الإيمان أو الدور القيادي العظيم، أو كما قال الله على لسان ميخا: "يا شعبي ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك. اشهد على أني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم". إن معنى "يوكابد" على الأرجح "الله مجدك" وقد أدخلت يوكابد الله إلى بيتها وربت مع زوجها أولادها أحسن تربية دينية، فدخل مجد الله البيت وملأه إلى التمام، وأعده ليكون أولاده الثلاثة على رأس الأمة وفي قيادتها، لم يكن البيت -حسب الظاهر- إلا واحداً من البيوت الفقيرة العديدة المستعبدة، يضم خمسة من العبيد لا يملكون من الحياة أو الحرية إلا بالقدر الذي يسمح به سادتهم الطغاة القساة المستبدون،.. ولكن البيت الذي ملأه مجد الرب، كان واحداً من أعظم البيوت التي ظهرت على الأرض، وكان بيت الشجعان الأحرار المتحدين المتكاملين المحبين،.. كانت مريم الابنة الكبرى تتجاوز العاشرة أو تقف عندها، عندما ولد أخوها الصغير موسى، ولنقتطف بعض عبارات "الكسندر هوايت" وهو يصف لنا أبناء هذا البيت،.. إذ قال لمريم وهي ترقب أخاها في السفط على حافة النيل: "أي مريم: أي أيتها الفتاة الصغيرة راقبي جيداً، واحرسي الأخ الصغير، ولا تدعي عينيك تلتفتان هنا أو هناك، فإنك لا تعلمين من تحرسين، وأي كنز تراقبين.. في هذا السفط الصغير كنز من أثمن ما عرفت من ذخائر وكنوز، في هذا السفط الصغير بطل من أبطال التاريخ والأجيال الخالدين على مر القرون.. في هذا السفط ترقد الشريعة والأنبياء، والمدنية والحضارة".. وأدت مريم ولا شك دورها العظيم وهي تشترك مع أبيها وأمها في تربية الصغير، تربية لم تستطع مصر بكل ما فيها من إغراء أن تحوله قيد أنمله عن خط سيره العظيم،.. وعندما ضرب موسى في المنفى لمدة أربعين عاماً، وعاد في الثمانين من عمره ليلتقي بأخيه هرون، ويدعوه ليقف معه في مواجهة فرعون، على أن يكون هرون هو المتقدم في الكلام، يجيب هرون كما يتخيل هوايت: "هل تعني يا أخي أن أتكلم نيابة عنك؟!!.. ما هذا الذي تقول؟!!.. أنا لست أهلاً أن أحل سيور حذائك!!.. أنا لست أهلاً أن أقف إلى جانبك كأخ نحمل اسماً واحداً لعائلة واحدة!!.. سأبقى إلى جوارك صامتاً أبكم لا يتكلم،.. أنا بالعكس في حاجة إليك يا أخي!!.. أنا في حاجة إلى حكمتك!!.. في حاجة إلى صبرك!!.. في حاجة إلى مشورتك!!.. في حاجة إلى أمرك.. أنت أحكم الناس وأفضلهم.. أنت ملك إسرائيل يا موسى، يا أخي وحبيبي!!.. كان موسى يحتاج إلى هرون، وكان هرون أعجز عن السير بدون موسى، كان كلاهما يكمل الآخر، ففي الوقت الذي لم يصل فيه هرون إلى عمق موسى، وقدرته، وصلابته، وشجاعته، وحنكته وحزمه.. كان هرون فصيح اللسان ذهبي الفم، ينقل في الطلاوة الساحرة ما يريد موسى أن يقول لفرعون أو الشعب أو مصر، إذ كان المتكلم باسمه، المفصح عن رسالته أو بتعبير أصح رسالة الله للناس،.. وكانت مريم النبية كبرى الإخوة قائدة النساء، وحبيبة موسى وأخته ومحبته، وكانت أقوى وأذكى، وأشجع من هرون، وهي التي خرجت بالدفوف والرقص والغناء تردد القرار في أغنية موسى على شاطيء البحر الأحمر: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر":..هل وقفت لتتأمل معي قول ابنة فرعون لأم موسى: "اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطي أجرتك"؟.. وأية أجرة يمكن أن تخطر بالبال تستطيع ابنة فرعون أن تعطيها مقابل إرضاع موسى، وتربيته التربية التي عرفها التاريخ فيما بعد في بطل العهد القديم العظيم،.. إنها في الواقع أجرة أعلى مما تستطيع كنوز مصر بأكملها أن تقدم نظيره ومثيله،.. لقد تعلم الصغير قبل أن يدخل عرين الأسد، من هو؟!! ومن شعبه؟!! وما هي رسالته؟!!.. أجل ولن تستطيع أن تعرف حقيقة موسى، قبل أن تعرف هذه الخلفية الدينية العظيمة في بيته القديم!!. ومع أن الغيوم طافت فيما بعد حول هذا البيت القائد المتماسك يوم زواج موسى بالكوشية، التي ظن البعض أنها صفورة، وأن مريم من غيظها أطلقت عليها الكوشية السوداء تندد بها، يوم انقلبت على موسى، الأمر الذي يستبعده الكثيرون، ممن يعتقدون أن موسى تزوج بعد وفاة صفورة أو في حياتها بالكوشية، دون أن يستشير مريم على الأغلب، أو على الأقل تأخذ جانباً من حب موسى لا تقبل أخته أن تعطيه بحال ما لامرأة أخرى. على أي حال كانت غيمة قاسية وصلت إلى حد المؤامرة لإسقاط موسى، الأمر الذي لم يكن يخطر ببال أي إنسان على الأرض،.. ولكنه الحسد الوبيل القاتل، الذي تصرف موسى إزاءه بكل حلمه وحبه وصلاته وضده، حتى انجابت الغيمة، وعادت مريم من عزلة خيمتها، التي قضت فيها أسبوعاً وهي بيضاء كالثلج!!.. وأشرقت الشمس مرة أخرى على البيت القديم الذي كان له أعظم فضل في الحفاظ على إيمان موسى في أرض الأوحال والفساد والوثنية في مصر!!.. موسى والرفض العظيم وهذا الرفض هو الذي قال فيه موسى "لا" بأقوى ما يمكن أن يكون الإصرار في التعبير،.. ونحن نلاحظ في هذا الرفض أن سماته العظيمة، ظهرت أولاً: إنه الرفض الناضج: "لما كبر".. أو في لغة أخرى كان هذا الرفض وليد فكر عميق ثابت مدروس، وازن الحقائق كأجمل وأعظم وأدق ما يمكن أن تكون الموازنة.. لم يكن رفض موسى وليد اندفاع محموم لا يلبث أن يتراجع عندما تهدأ الثورة أو يسكن الانفعال، أو تتراجع الحمي، كان قرار موسى قرار رجل وضع مصر بكل مشتملاتها في كفة.. ووضع عار المسيح في الكفة الأخرى، وأمسك بهذه الكفة الأخيرة الراجحة!!.. ومن المؤكد أن أي إنسان يدرس الحقائق كما يدرسها موسى، لابد أن ينتهي إلى القرار الذي انتهى إليه الرجل القديم،.. كما أن هذا الرفض كان ثانياً: رفض الوثنية المصرية، مهما بدا مظهرها في قصر فرعون، أو مجده، أو عظمته، أو ما يقال أنها الحضارة المصرية التي بلغت أوج مجدها أيام رمسيس الثاني، أو من جاء قبله أو بعده من عظماء الفراعنة!!.. عندما زار "الكسي دي توكفيل" الفرنسي أمريكا في القرن الماضي، قال: لقد بحثت عن عظمة أمريكا في حقولها ومزارعها الغنية الواسعة ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد ذهبت إلى مصانعها الواسعة الكبيرة، ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد تحولت إلى جامعاتها العظيمة وما تلقنه أو تعطي من علم، ولم أجد أمريكا هناك.. حتى ذهبت إلى كنائسها، واستمعت إلى منابرها وهي تنادي بالحق والخير والدين والجمال، ورأيت أمريكا هناك، وستبقى أمريكا عظيمة ومجيدة وخيرة طالما تنادي هذه المنابر برسالة الله، رسالة الحق، وستنتهي أمريكا يوم تنتهي أو تضعف رسالة منابرها الجليلة الرائعة العظيمة!!.. وهذا حق في مصر القديمة أو أمريكا الجديدة،.. وسنقول دائماً لا لأعظم حضارة يمكن أن تكون وثنية بنسيانها الله أو بعدها عن رسالته ومقدساته!!.. كما أن هذا الرفض كان ثالثاً: تغليب الولاء لله على الولاء لكل بشري على هذه الأرض!!.. كان موسى مديناً بالحب والحياة والحرية والعلم والثروة لابنة فرعون، لقد طوقته بدين قل أن يطوق به إنسان آخر على هذه الأرض،.. كان محكوماً عليه بالموت، فأعطته الحياة، كان عبداً كسائر غيره من العبيد فرفعته إلى مستوى الأحرار، ولم تره عبداً لها بل تبنته ابناً محبوباً مدللاً عزيزاً!!.. كان من الممكن أن يبقى دون أن يتعلم حرفاً واحداً من معرفة، فعلمته وهذبته بكل حكمة المصريين، كان من الممكن أن يكون معدماً لا يملك قوت يومه، ففتحت أمامه خزائن مصر يغترف منها كل ما يشاء وكل ما يريد،.. كانت اللمسة الإنسانية العميقة تربط بين موسى وابنة فرعون، فإذا أضيف إلى ذلك أنها أحبته حباً قل أن يحب واحد آخر مثله، إذ ركنت إلى العزلة بعد هروبه من مصر، حتى ماتت كما تقول بعض التقاليد كمدا عليه!!.. إذا كانت هذه هي الرابطة بين ابنة فرعون وموسى، فكيف يصح أن يقال أنه لما كبر: أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون؟!!.. إن موسى مهما كانت الرابطة البشرية التي تربطه بإنسان، فإنها لا يمكن أن تدخل حتى في الموازنة مع رابطته بالله وعقيدته ودينه،.. والهوة هنا واسعة وبعيدة وأبدية وهيهات أن تعبر!!.. ألم يقل السيد: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني"؟.. وكان الرفض رابعاً: تغليباً لعار المسيح تجاه كل مجد عالمي!!.. ولم يضع موسى الموازنة هنا بين غنى أو غنى أو مجد ومجد.. بل بين عار المسيح وخزائن مصر، وبين الذل مع شعب الله والتمتع الوقتي بالخطية،.. وكلمة "المسيح" هنا مرادفة لشعب الله، حتى أنك تستطيع أن تضع التعبيرين أحدهما مكان الآخر، وأننا في أمن من اللبس أو الذلل أو الخطأ،.. وفي العهد الجديد كان الأمر سواء بسواء، حتى أن المسيح تحدث إلى شاول الطرسوسي -وهو يضطهد الكنيسة والمسيحيين- بقوله: شاول شاول لماذا تضطهدني صعب عليك أن ترفص مناخس".. إن موسى كبولس. كلاهما لا يجرؤ البتة على وضع مجد الله جنباً إلى جنب مع مجد العالم، فمجد الله أعلى من أن يقارن به أي مجد أرضي، مهما كانت عظمته وروعته وجلاله في عيون البشر،.. فإن كانت هناك من مقارنة فإن موسى يقبل بالأحرى أن "يذل" مع شعب الله على أن يكون له "تمتع وقتي" بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر،.. وبولس يقبل أن يحسب كل شيء "نفاية" من أجل فضل معرفة المسيح وربحه!!.. إن أعظم من ساروا في الطريق البشري هم أولئك الذين قالوا لكل ما في العالم من مجد: "لا" وحملوا "صليب المسيح" في موكب الخالدين!!.. موسى ومدرسة مديان الكبرى كان من الغريب أن تنقسم حياة موسى من حيث الزمن إلى ثلاثة أقسام متساوية، فهو يقضي في مصر أربعين عاماً كأعظم ما تكون حياة الناس، بين الأبهاء والعظمة والقصور، وهو يقضي الأربعين الثانية راعياً للأغنام، كأبسط ما تكون الحياة بين الناس على ظهر الأرض، وهو يقضي الأربعين الثالثة كأقسى ما يواجه الإنسان من حياة عملية على رأس شعب اشتهر بالشغب والعناد والتمرد!!.. ونحن لا نعلم حكمة الله في ذلك، بل لعل موسى في مديان كان يسأل وهو في الوحدة والهدوء والعزلة والبرية: هل هناك من كلمة لهذه السنوات الطويلة التي هي ثلث عمره في البرية؟!!.. إن الحقيقة أن مدرسة مديان لم تكن تقل بحال ما عن جامعة مصر،.. وقد تعلم موسى في مديان ما لم يستطع أن يأخذه في مصر، لقد تعلم على الأقل: أولاً: الخروج الصحيح من مصر،.. أو بتعبير أصح خروج مصر منه، لقد خرج موسى من مصر، ولكن مصر كان من المستحيل أن تخرج من قلبه وفكره بين عشية وضحاها،.. وكان لابد أن ينتزع من نفسه كل تأثيراتها وسحرها، وفتنتها وجمالها، وإغرائها وأساليبها، وما خلعته عليه من زهو وغرور، وكبر واعتداد، كان الخروج إلى مديان، غسيلاً كبيراً لمخ موسى وحياته في مصر، وما قد تراكم من أوساخ علقت به طوال الأربعين عاماً الأولى من حياته!!.. كما أن الأمر ثانياً كان أكثر من ذلك، إذ هو الخروج من الضجيج إلى الهدوء، والسكون، الوحدة، والعزلة،.. كان على موسى أن يدخل مدرسة الصمت، حيث يغترف هناك من منهل الشركة مع الله ويقوى تأمله، ويزداد إيمانه، وترتفع نفسه دون معطل أو مزعج أو ضجيج، ولا شبهة في أن كتاباته الخالدة، وشرائعه العظيمة التي أخرجها للأجيال، وضع الله أساسها في ذهنه، وهو يتجول منفرداً وحيداً منعزلاً في تلك الصحاري الشاسعة، لقد كانت البرية له كما كانت لإيليا وداود، ويوحنا المعمدان وبولس، فترة من فترات التأمل القوي المخصب العميق. وكانت مديان ثالثاً.. مدرسة التدرب العظيم على أفضل ما وصل إليه من المباديء والمثل الأخلاقية العظمى،.. فحياة الوداعة والتواضع والصبر والحلم والزهد والقناعة، كان من المستحيل أن يبلغها في مدرسة أخرى غير مدرسة مديان،.. كيف لا، وابن ابنة فرعون لم يعد يأنف من أن يكون راعياً بسيطاً من رعاة الأغنام، ولم يأنف الذي ألف حياة القصور ومجد الأبهاء أن ينام فوق الثرى والرمال والصخور.. لقد تعلم موسى كيف يرضى ويتضع، بل كيف يحيا حياة الزهد والخشونة والقناعة، بل أكثر من ذلك رق طبعه، وهدأت نفسه، طبعت على الأناة والوداعة والحلم، حتى وصل به الأمر إلى أن يكون أحلم رجل على وجه الأرض،.. وإلى جانب هذا كله، أزكت مدرسة مديان في أعماق نفسه آلاماً لا توصف تجاه إخوته المعذبين المتألمين في مصر،.. وقد وصفته "ألن نايت تشالمرز" يجلس فوق الرمال في الليل العميق، وهو يفكر في إخوته متطلعاً إلى النجوم اللامعة في السماء، ويقول "أتستطيع أن تتصوره في أعماق الليل، فوق التلال يرعى أغنامه تحت النجوم الساكنة؟ لقد كانت النجوم ذاتها تدينه وتعذبه، إذ كان صمت الليالي يحمل إليه صرخات إخوته المعذبين،.. كان موسى رجلاً مرهف الإحساس تروعه آلام الآخرين، وكان يجلس في مديان حراً لا تصل إليه سياط المصريين، أو عدالة فرعون إزاء ما ارتكب من قتل،.. لكن الأصوات التي تتكلم في جنبات نفسه، وصلته عبر الصحراء التي تفصل بين قصر فرعون، وخيام يثرون،.. كان موسى يصارع في أعماق نفسه قيود الضمير!!.. وهكذا كانت مدرسة مديان مدرسة الله التي دخلها موسى طوال الأربعين العام الثانية من حياته!!.. موسى والدعوة العليا كان موسى مدعوا ولا شك من بطن أمه، وكانت أجراس الدعوة ترن في أذنيه في كل وقت،.. لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه موسى كان وقت الدعوة أو وقت الرسالة التي ينبغي عليه أن يؤديها، وشتان بين الظن والتأكد، وبين الخاطر والرؤيا: "ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته.. فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يده يعطيهم نجاة" وهرب موسى، وعاش في مديان أربعين سنة أخرى كاملة: "ولما كملت أربعون سنة ظهر له ملاك الرب في برية جبل سيناء في لهيب نار عليقة".. لقد خطر بباله أو ظن أنه إذا كان الله يدعو الإنسان، فإنه ولا شك يدعوه في قمة اللياقة، والمواءمة، وهو لا يجد وقتاً أليق من الأربعين عاماً التي اكتملت فيها رجولته، وتهذب بكل حكمة المصريين، ووصل إلى أعلى مركز في بيت فرعون، وكل هذه تقطع في تصوره بأن يوم الحرية قد جاء لإخوته في المنفى والأسر والاستعباد، غير أن الله لا يخضع الدعوة للحدس والظن، ولا يحكمها بالمقاييس والمعايير البشرية، وها نحن نراه في دعوة موسى يقلب كافة الموازين!!.. وقت الدعوة فالدعوة لا تأتي لموسى في الأربعين من عمره، حيث يظن أنه في قمة قوته، وفي كمال لياقته صحياً وذهنياً وروحياً، بل إن الدعوة تأتيه وهو يدخل الثمانين من عمره، حيث ولى الشباب، وانتهى الوقت، وأخذ طريقه يتدحرج في تصوره إلى النهاية والغروب،.. إن الله لا يعمل عندما يظن البشر أنهم أقوياء، يستطيعون أن يعملوا أو يبدعوا أو ينتجوا، بل إنه على العكس يتدخل عند إفلاس الإنسان، وعجزه، وضياعه، وقصوره،.. على أن هذا لا يعني أن الله يدعو الكسالى والمهملين والخاملين والعاطلين، بل يدعو على الدوام من ينهمك في العمل الصغير الوديع المؤتمن عليه،.. وقد جاءت الدعوة إلى موسى عندما كان يرعى غنم يثرون حميه، وستأتيني وتأتيك ونحن نمسك بالأمانة والغيرة، كل ما يضع بين أيدينا من أعمال صغرت أو كبرت على حد سواء!!.. مكان الدعوة لقد جاءته الدعوة في جبل الله حوريب، أو في معنى آخر، إننا لن نحتاج -كما قال أحدهم- إلى كاتدرائية عظيمة، أو مكان عال لكي نرى الله ونبصر مجده، بل في كل مكان حيث نرتفع بقلوبنا وشركتنا معه، سنجد الجبل المقدس ونعلو عليه، ومن المهم أن ندرك أيضاً أن الله التقى بموسى في العزلة والهدوء والبعد عن الناس، ونحن لا نعلم لماذا ساق الرجل الغنم إلى ما وراء البرية؟!! أليجد المرعى الأفضل والأخصب؟!!.. أم لرغبته في أن تتاح فرصة للتأمل الأعمق الأوسع؟.. على أي حال -إن ما يعنينا من الأمر أن الرجل أضحى يميل للنظر، وقوله: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" ينبيء عن نفس مرهفة الحس، صادقة الاستعداد، سريعة التأمل والتجاوب مع ما تبصر أو تشاهد.. وهذا ما ينتظره الله من النفس التي يوجه إليها دعوته ورسالته!!.. مظهر الدعوة ظهر الله لموسى في العليقة، وكانت العليقة تتوقد بالنار ولم تكن تحترق، وقد كان المنظر أسمى إعلان لحضور الله لإنقاذ الشعب وتحريره وخلاصه،.. إذ كان أول كل شيء إعلان الرحمة الفائقة الحد، إذ لم يظهر الله في بلوطة أو شجرة من الأشجار العالية السامقة الارتفاع، المتعالية المنظر، بل ظهر في العليقة الصغيرة والوديعة القصيرة المظهر،.. وعندما ظهر بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان أخذ الصورة عينها، إذ جاء الله السرمدي متجسداً في وليد بيت لحم، بين السائمة مضجعاً في مزود، إذ لم يكن مضجع في المنزل،.. وبالإجماع "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"!! ومع أن النار تأكل كل شيء، لكن العليقة كانت تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق!! والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً".. فإذا كان الله قد حضر غيوراً في النار الملتهبة لإنقاذ شعبه، فإنه لم يحضر دياناً لكي يحرقهم ويقضي عليهم، وإذا كان اللاهوت قد حل في الناسوت في يسوع المسيح، فإنه قد جاء ليخلص، وليس ليدين!!.. هل رأيت هذا المظهر الرائع الذي لم يكتف موسى أن يخلع حذائه من قدميه، وهو يتقرب منه، بل أكثر من ذلك غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله؟ هو.. هو بعينه الذي تكرر على بطاح بيت لحم حيث ذهب الرعاة مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مزود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي، وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة، وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها، ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم!!.. وهو هو الذي خشع أمامه المجوس وخروا، وسجدوا، وفتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً!!.. نداء الدعوة لم تضح الدعوة لموسى ظناً أو خيالاً أو حدساً أو تخميناً، بل أضحت رؤية مؤكدة، ونداء واضحاً، ومن العجيب أن موسى لم يتقبلها بحماس ابن الأربعين من العمر، بل على العكس تهرب وتراجع إلى الدرجة التي أغضبت الله عليه، لقد أدرك بما ليس فيه لبس كيف أن الله سيسنده بالمعجزات، تلو المعجزات، بل وأكثر من ذلك سيسنده بأخيه هرون الذي ينتظره بشوق بالغ، وفرح عميق، وما أجمل ما يقول ف.ب. ماير بهذا الصدد: "إن الله يعرف أين إخوتنا من "الهوارنة" أشقاء النفس الذين نحتاج إليهم لإتمام رسالة الحياة، قد يكونون بعيدين عنا، ولكن الله سيحضرهم إلينا، سيحضرنا إليهم، فلنعش معتمدين على عنايته ومحبته، وهو سيرتب لنا في نهاية كيف نلتقي وإياهم على جبل الله" في بعض البقاع المقدسة، حيث الشركة والألفة والثقة، في المكان الذي يختاره هو لنا، وسينسينا العناق والفرح وقبلة اللقاء أربعين عام المنفى والعزلة والحزن". وإذ نحاول أن نعرف تماماً مركزنا من هذا النداء،.. إنه يتمثل في شيء صغير واحد،.. في عصا موسى،.. لقد تحولت هذه العصا من عصا موسى إلى عصا الله،.. أو في لغة أخرى إن موسى أضحى هو بذاته عصى في يد الله، والعصا في حد ذاتها لا تصنع شيئاً، ولكنها في يد الله تصنع كل شيء أو تصنع المعجزات.. إن الله هو "أهيه الذي أهيه" أو الكائن الذي كائن، أو بمعنى آخر غير المتغير في طبيعته وذاته، هو هو في الماضي كما في الحاضر والمستقبل، لا يناله ضعف أو نقص أو تحول أو قصور، الذي ليس عنده تغيير أو ظل دوران،.. والله الكائن يحتاج مع ذلك إلى "عصا" إلى رجل يستخدمه استخداماً كالعصا، وهو دائماً في متناول يده، وهذه هي سياسته الدائمة في كل أعماله في الأرض!!.. إنه يبحث عن إنسان ليدعوه ويرسله ويعمل به.. أجل نحن على استعداد أن نقول إن موسى لا يستطيع أن يعمل شيئاً من دون الله.. على أنه من الحق، وبكل إجلال وتوقير لله.. إن الله لا يمكن أن يعمل شيئاً من دون موسى!!.. من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟!! هذا هو نداؤه الدائم البحث عن الرجل في كل العصور والأجيال!!. هل ملت للمنظر العظيم؟!! هل رأيت العليقة المتوقدة التي لا تحترق؟!! هل أدركت الرسالة المطلوبة منك في مصر؟ إنها لم تعد رسالة موت لموت بقدر ما هي رسالة حياة لحياة!!.. يا ترى.. هل تقف على مفترق الطرق، لتنتهي إلى القرار الذي لا يمكن أن تندم عليه، والذي يؤهلك للوقوف على الشاطيء الأبدي، لتشترك في أعظم ترنيمة يرنمها الخالدون في العهد القديم أو الجديد على حد سواء؟ وأعني بها الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل!!
المزيد
19 أغسطس 2022

حول التجلي الإلهي

صعد ربنا يسوع المسيح إلى جبل ثابور برفقة ثلاثة من تلاميذه وإذا به يصير مشعاً بكليته أمامهم، ورأوا برفقته موسى وإيليا يتحدثان إليه. ثم سمعوا صوتاً من السحابة يقول: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”.لقد وقع البعض في فخ تفسير التجلي تفسيراً سطحياً، وقالوا إنه مجرد نور حسِّي، كما فعل بعض الهراطقة، ولكن القديس بالاماس دحض مزاعمهم واستفاض في الرد عليهم في ثلاثياته المشهورة. ومما كتب القديس“… أن هذا النور… يسمو على سائر الكائنات فكيف نقدر أن نحتسب حسياً ما يسمو على سائر الكائنالت؟ أي كائن حسي ليس مخلوقاً؟ فكيف يكون ضياء الله مخلوقاً؟ فهذا النور ليس بحصر المعنى حسياً”[1]. يقع جبل ثابور في منطقة الجليل السفلي وعلوه حوالي 600 م. إن قلنا “الرب تجلى” لا نقصد بهذا أنه قد حصل أي تغيير للمسيح يسوع، فهو منذ البدء يلبس الألوهة، وقد ظهر للتلاميذ وللجميع كإنسان لابساً جسداً، بحسب ما تؤمن به الكنيسة أنه إله وإنسان معاً. إذن بالتجلي لم يحصل للرب أي تغيير، بل أنه كشف النقاب عن ألوهته المستترة تحت غطاء الجسد.يقول القديس يوحنا الدمشقي: “… اليوم تُرى أمور غير منظورة للعيون البشرية، جسد أرضي عاكساً تألقاً إلهياً، جسد مائت يدفق مجد الألوهة… تجلى أمامهم الذي هو على الدوام ممجد وساطع ببريق الألوهة، لأنه، إذ هو مولود من الآب من دون بداية، فهو يملك شعاع الألوهة الطبيعي الذي لا بدء له، وهو لم يكتسب في وقت لاحق الكيان ولا المجد…… إنه يتجلى إذن، فلا يأخذ ما لم يكن عليه، بل يظهر ما هو عليه لتلاميذه، فاتحاً أعينهم، وجاعلاً إياهم مبصرين بعد أن كانوا عمياناً…”[2] نلاحظ بدايةً في النص الإنجيلي أن الرب يسوع يطلق عبارة “ملكوت الله” على نور تجليه: “…إن بعضاً من الموجودين هنا لن يذوقوا الموت حتى يروا ابن البشر آتياً في ملكوته” (متى 16: 28، ولوقا 9: 27) لهذا ربط الآباء التجلي بالحياة الأبدية.قبل السقوط، كان آدم، الإنسان الأول، يتأمل في المجد الإلهي، ولكنه تحوَّل عن الجمال الأول وصار اهتمامه منصباً على كل ما هو أرضي. أما بالتجلي فقد أعاد الله للإنسان هذه الخاصيّة، هذه الرفعة، وسمح لبشر مائتين بأن يعاينوا مجده وجماله. بالتجلي شعّ يسوع بمحبته للبشر، و”دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 2: 9)، هو الشمس التي لا تغيب. وقد قال الكتاب: “النور يظهر للصديقين والفرح لمستقيمي القلوب” (مز 66: 11) وأيضاً يترنم داود قائلاً للرب: “ثابور وحرمون باسمك يتهللان” (138: 13) متنبأً عن الفرح الذي يحل على الجبل بالتجلي. الله يحوّل الذين ينيرهم إلى شموس أخرى لأن متى يقول أيضاً “الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم” (متى 13: 43). ما هذا النور الساطع؟ لمَ تشبهونه بالشمس وهو صانعها و”المتسربل بالنور كالثوب”، و”كوكب الصبح”، وهو “النور المولود من النور”؟ هل يمكن تشبيه الله الفائق المجد؟ الذي لا يُقارن؟ هل أراد أن يريهم “المجد الذي كان له “من قبل إنشاء العالم”؟. وابتغى أن يريهم الإله، ابن الله، المتخفّي وراء الجسد البشري والمتجسد لأجل خلاص البشر؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد أراهم مجده”. ولكن، لماذا كتم الإله الذي قبل كل الدهور، ملك الملوك ورب الأرباب، عظمتَه ومجده كل الفترة التي أمضاها مع تلاميذه ولم يظهرهما إلا بهذه الطريقة؟ هل وجد أنهم كانوا، حتى تلك الساعة، عاجزين عن فهم ألوهته؟ يقول القديس افرام السرياني إنه بهذا “أراهم كيف ينبغي أن يأتي في ذلك اليوم الأخير بمجد لاهوته وبجسد ناسوته، وكيف سيتمجدون هم أيضاً”[3]. لم يكن هذا التجلي من أجله، بل من أجل تلاميذه (من أجل الكنيسة كلها). بسبب تواضعه أظهر لهم ألوهته ليروا مجده حتى لا يقعوا في الشك حين يرونه متألماً بالجسد ومائتاً على الصليب، عارياً مرذولاً. “عرفوه ابناً لمريم وأظهر لهم على الجبل أنه ابن الله. شاهدوه يأكل ويشرب، يتعب ويستريح، ينعس وينام، يخاف ويعرق، الأمر الذي لا يتناسب مع ألوهيته”[4]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “صعد إلى الجبل وتجلّى أمامهم، ولمع وجهه كالنور وصارت ثيابه بيضاء كالثلج. لقد شقّ جزئياً باب الألوهة وأراهم الإله الذي يسكن فيه وتجلى أمامهم… لماذا قال الإنجيلي: “أكثر من الشمس” لأنه ليس من كوكب أكثر ضياءً منها. ولماذا قال: “أكثر بياضاً من الثلج”، لأنه ليس من مادة أكثر بياضاً، ولكنه لم يشعّ هكذا، إذ “وقع التلاميذ أرضاً”. فلو كان يشع كالشمس لما وقع التلاميذ أرضاً، إذ كانوا يرون الشمس كل يوم ولا يقعون أرضاً، بل لأنه شعّ أكثر من الشمس وأكثر من الثلج، فلهذا، ولكونهم ما استطاعوا احتمال بهائه، وقعوا أرضاً…”والحقيقة أنه، إذ أشفق على تلاميذه، نزل إلى ضعفهم، أراهم من ألوهته فقط بقدر ما يستطيعون احتماله، “بحسب ما استطاعوا”، تقول الكنيسة في قنداق العيد. فماذا كان حدث لو أنه أراهم مجده الحقيقي؟ أما كانت الدنيا فنيت، لأنه “ينظر إلى الأرض فيجعلها ترتعد ويمسّ الجبال فتدخّن”؟ لو أنه أبدى جوهره، أما كانت الشمس انطفأت والقمر اضمحلّ والأرض فنيت؟ لهذا غلف نفسه بجسد وأتى بعذوبة ودون صخب.إلا أن بطرس، وقد استنار فكره بهذه الرؤيا المغبوطة جداً… لم يعد يريد أن ينفصل عن هذا النور، فقال للرب: “حسن أن نكون هنا….” (لو 9: 33). في الحقيقة لم تكن ساعة التجديد قد حلت بعد: ولكن حين تحلّ فإننا لن نعود بحاجة إلى مظال صنع أيدي الناس. وأكثر من ذلك فإنه ما كان يجب مساواة العبدَين بالسيد، بصنع ثلاث مظال متشابهة، فإن المسيح، كابن حقيقي، هو في حضن الآب (يو 1: 18)، بينما النبيّان، كخادمَين حقيقيَّين لإبراهيم، سوف يسكنان في أحضان إبراهيم. وإذ كان بطرس لا يفقه ما يقول، اقتربت غمامة مضيئة وظللتهم بظلها، قاطعةً حديث بطرس ومظهرةً أية مظلة هي التي تليق بالمسيح. (القديس غريغوريوس بالاماس). (الموعظة الثانية للقديس عن التجلي)[5] ولكن ما هي هذه الغمامة؟ وكيف تظللهم بظلها وهي مضيئة؟ يتساءل القديس غريغوريوس بالاماس: أليست هي النور الذي لا يدنى منه الذي يسكن فيه الله (1 تيم 6: 16) والذي “يلبسه كالثوب” (مز 53: 2-3) لأنه “جعل السماء مركبة له” (مز 53: 2-3) و”جعل الظلمة خباءً له” (مز 17: 12). غير أن الرسول بولس يقول إن الله هو “الوحيد الذي يملك الخلود… الساكن النور الذي لا يدنى منه” (1 تيم 6: 16)، أي إن النور والظلمات هي حقيقة واحدة، وإن كانت الغمامة تظللهم بظلها فبسبب سموّ شعاعها. إلا أن اللاهوتيين يؤكدون أيضاً أن هذا النور – الذي رآه الرسل فيما مضى – لا يدنى منه… كما يؤكد ديونيسيوس العظيم أن النور الذي لا يدنى منه الذي يقال إن فيه يسكن الله هو ظلمة ويضيف: “فيه يولد كل من هو أهل لأن يعرف ويتأمل الله”.(ديونيسيوس الأريوباغي، الرسالة الخامسة) (من الموعظة الثانية للقديس عن التجلي)[6] لقد برهن لنا الرسل أنه يتعذر على أي طبيعة مخلوقة حتى التحديق بالمجد الإلهي، لأنهم ما استطاعوا تحمّل هذه الرؤية الظاهرة لهم على الجبل، بل وقعوا أرضاً، وما كانوا قد رأوا سوى جزء بسيط من المجد الإلهي.يقول الدمشقي: “المجد لم يأتِ على الجسد من خارج بل من الداخل، من ألوهية كلمة الله الفائقة الألوهية والمتحدة بالجسد بحسب الأقنوم على نحو يتعذر وصفه”[7]. وقال فم الذهب إن النور كان على وجه موسى عابراً، مستشهداً بقول الرسول بولس في (2 كور 3: 7).الآب والكلمة والروح القدس يملكون هذا النور بالطبيعة أما الآخرون فيشتركون في النور بالنعمة. وهذا ما نراه في موسى وإيليا. ليست أول مرة يشترك موسى بالنور على جبل ثابور، بل في الماضي أيضاً حين رآه بنو إسرائيل مضيء الوجه ولم يتمكنوا من التحديق فيه (خر 34: 29) هذا ما يبرهنه أحد الآباء الذي يقول: “موسى تلقى على وجه مائت مجدَ الله غيرَ المائت”.“هذا المجد وهذا البهاء سوف يراهما الجميع حين يظهر الرب مشعاً من الشرق إلى الغرب. اليوم رآه الذين صعدوا مع يسوع، إلا أن أحداً لم يرَ جوهر الله ولا طبيعته. وهذا النور الإلهي قد أُعطي بمقياس، ومقسَّماً بدون تجزئة بحسب استحقاق الذين يتلقونه. والبرهان هو أن وجه يسوع يشع أكثر من الشمس وأصبحت ثيابه بيضاء كالثلج. ثم ظهر موسى وإيليا في المجد نفسه إلا أن أحداً منهما لم يشعّ بالقوة نفسها، كالشمس. أما التلاميذ فقد رآوا هذا النور لكنهم لم يتمكنوا من التحديق فيه. بالنتيجة فإن هذا النور يُعطى بمقياس وتجزئة ولكن من دون تقسيم. إنه يجعل الآخرين يعرفونه جزئياً الآن وجزئياً فيما بعد. لهذا يقول الرسول بولس الإلهي: “الآن نعرف جزئياً ونتنبأ جزئياً” (1 كور 13: 9). طبيعة الله لا تتجزأ على الإطلاق ولا هي قابلة للفهم على الإطلاق. ونحن، إذ ندير ظهرنا لهراطقة الأمس واليوم، نؤمن بأن القديسين يرون ويتلقون بالمشاركة ملكوت الله ومجده وبهاءه ونوره الذي لا يدنى منه ونعمته، ولكن لا جوهره…” (القديس غريغوريوس بالاماس ـ الموعظة الثانية)[8] كما ينقل القديس بالاماس، في ثلاثياته، عن القديس مكسيموس قوله إن “التلاميذ انتقلوا من الجسد إلى الروح القدس حتى قبل انتقالهم من هذه الحياة، وذلك من جراء تغيير قد طرأ على عمل حواسّهم أحدثه فيهم الروح القدس”[9]. لمَ سقط الرسل أرضاً؟ ولكن حين تلتمع السحابة المضيئة ويدوي صوت الآب من السحابة يختفي النبيّان ويسقط الرسل أرضاً ويبقى الرب يسوع وحده: حتى يعرف الرسل أن المقصود بابن الله هو وحده وعليهم أن يسمعوا له.“وقع التلاميذ أرضاً ووجوههم نحو الأرض” (متى 17: 6)، ولم يكن ذلك بسبب الصوت، فقد سمعوه مرات كثيرة في مناسبات أخرى: على الأردن، ولكن أيضاً في أورشليم عند اقتراب الآلام الخلاصية، فقد قال يسوع: “يا أبتِ مجِّد اسمك” فجاءه صوت من السماء يقول: “قد مجَّدتُ وسأمجِّد أيضاً” (يو 12: 28) وسمعه الجمع كله ولكن أحداً منهم لم يقع أرضاً. ولكن هنا لم يُسمع الصوت فقط، بل كان هناك أيضاً نور لا يُحتمل يلتمع في الوقت نفسه مع الصوت الذي يدوي. هكذا اعتبر الآباء الحاملو الإله بحصافة أن الرسل سقطوا على وجوههم ليس بسبب الصوت بل إشعاع النور الفائق الطبيعة “خوفاً” كما يقول مرقس (يو 9: 6) بسبب هذا الظهور الإلهي بالتأكيد. (القديس غريغوريوس بالاماس ـ الموعظة الثانية)[10] ماذا يفعل هنا موسى وايليا؟ ظهر لهما موسى وإيليا لأنهما يعتبران قطبين مهمَّين في العهد القديم، ولكنهما وهما يقفان الآن كخادمَين أمام سيد الكل ورب الأرباب.لقد أُحضر موسى من الجحيم (كل القديسين من العهد القديم كانوا في الجحيم، بحسب القديس أبيفانيوس في عظته الشهيرة في نزول المسيح إلى الجحيم) للدلالة على أنه إله الأحياء والأموات.يقول القديس يوحنا الدمشقي: “اليوم موسى يخدم كعبدٍ المسيح… وهذا ما يعنيه برأيي ظهرُ الله (خر 33: 23)، ويعاين بجلاء مجد الألوهة مخبوءاً في فجوة الصخرة كما يقول الكتاب. ولكن الصخرة إنما هي المسيح الإله المتجسد كما علّمنا بولس: “هذه الصخرة كانت المسيح” (1 كور 10: 4)”[11]. لقد كانا يتباحثان مع يسوع بخصوص آلامه وصلبه وقيامته، بخصوص “العمل الذي أعطاه إياه الآب” (يو 17: 4)، أي مجيئه إلى هذا العالم من أجل إتمام خلاص البشر. يسوع أتى وتجسد وليس في فكره غير الجلجلة، أي خلاصنا. يسوع ممتلئ بالمجد على ثابور وفكره في الجلجلة. وكذا كل من ودّ أن يتجلى فعليه أن يمر بالجلجلة. الذي به سررتُ يقول القديس نيقوديموس الآثوسي: “الذي به سررت” تعني بحسب القديس بالاماس، حسب مشيئة الله السابقة في سر تدبير ابنه بالجسد”[12]. لماذا غلب عليهم النوم؟ أليس هذا مفاجئاً؟ أن يناموا فجأة هكذا، على الجبل فيما هم يشهدون أموراً فائقة الوصف؟ يقول القديس اندراوس الكريتي: “… فهم، إذ عجزوا عن احتمال شعاع هذه البشرة التي لا عيب فيها، الذي انبجس كما من نبع، من ألوهة الكلمة، بطريقة فائقة الطبيعة من خلال البشرة التي اتحد بها بحسب الأقنوم، سقطوا على وجوههم، يا للمعجزة! في خروج كامل جداً خارج من الطبيعة، مأخوذين بنوم ثقيل وفزع، مغلقين حواسهم، موقفين تماماً كل حركة فكرية وكل فهم، هكذا كانوا سوية مع الله، في عمق هذه الظلمات الإلهية الفائقة النور وغير المنظورة…”[13] صوت الآب رفعهم يقول القديس افرام السرياني إن “صوت الآب أسقطهم وأما صوت الابن فقد رفعهم بالقدرة الإلهية لأجل تلك الألوهة الحالّة في جسده والمتحدة به بلا تغيّر”[14]. ماذا يعلّمنا التجلي؟ يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “… أنا أشعر بأنه سوف يأتي بالجسد كما ظهر للتلاميذ على الجبل حيث استعلن، والألوهة تنتصر على الجسد الشقي[15].. ويوافقه ذيونيسيوس الأريوباغي الذي يؤكد: “سوف يظهر الرب لخدامه الكاملين (في ذلك اليوم) كما رآه الرسل تماماً على جبل ثابور”. لنتأمل بعيوننا الداخلية هذا المشهد العظيم: طبيعتنا تستقر أبدياً مع نار الألوهة اللاهيولية، ولنترك هنا أقمصتنا الجلدية التي نلبسها منذ معصية آدم وسقوطه، ولنقف في أرض مقدسة مظهرين كل واحد منا بأن أرضه مقدسة بفضيلته وشوقه إلى الله، وبثقة من يقف في نور الله لنهرع كي نستنير من بهائه ونعيش إلى الأبد مستضيئين في مجد البهاء المثلث الشموس والواحد في آن، الآن وإلى دهر الدهور، آمين.
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل