المقالات

12 أبريل 2021

إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السادس من الصوم المقدس المزمـور: «1خَاصِـمْ يَـا رَبُّ مُخَاصِمِيَّ. قَـاتِلْ مُقَاتِلِيَّ. 2أَمْسِـكْ مِجَنًّا وَتُـرْساً وَانْهَضْ إِلَى مَعُونَتِي» (مز 35: 2،1). الإنجيل: «1وَكَانَ حَاضِراً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عِنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. 2فَأْجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: ”أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ 3كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ. 4أَوْ أُولئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ 5كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ“» (لو 13: 1-5). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القدَّاس: لقد أعطى الرب يسوع، في إنجيل قدَّاس هذا الصباح، مَثَلَيْن للكوارث التي يُفَاجأ ب‍ها الناس: أولاً: الكوارث الاجتماعية: ومَثَلُها الذي يُقدِّمه الإنجيل: صِدَامٌ دموي بين الجليليين وجنود الرومان داخل الهيكل، حتى اختلط دم الذبائح بدم مُقدِّميها.ويتبعها كل الكوارث التي يتسبَّب فيها الإنسان نتيجة سوء تفاهُم أو تعدٍّ على حقوق، أو ابتزاز ونَهْب، أو كراهية فئوية أو جنسية أو عِرْقيَّة أو دينية أو استعمارية؛ وهي التي يقع تحتها المظاهرات وما ينشأ عنها، والحروب وما ينشأ عنها، والاضطهادات وما ينشأ عنها. ثانياً: الكوارث الطبيعية: ومَثَلُها الذي يُقدِّمه الإنجيل: سقوط بُرْج على الناس الذين فيه وموت‍هم.ويتبعها كل الكوارث التي تنشأ من الطبيعة، ولا دَخْل للإنسان فيها، كالزلازل والبراكين والأعاصير والعواصف والفيضانات وكـل مـا ينشأ عنها، من اختفاء قارات ومُدن وبيوت وأبراج، وحرائق؛ وكذلك الأوبئة والأمراض والجفاف وتعدِّي الحيوانات. وجهة نظر المسيح فيها عموماً: لم يشأ المسيح أن يدخل في تفاصيل هذه الكوارث، ولكنه أعطى قانونه في أسباب‍ها وكيفية تلافيها: 1. فهو أولاً يرتفع بأسباب‍ها الظاهرة المحدودة، فلا ينسب سببها إلى خطيةٍ ما من جانب المنكوبين، وكأن‍هم أكثر خطية من الذين نَجَوْا أو الذين لم يلحقهم الأذى: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِـنْ كُـلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ...» (لو 13: 2). كذلك الذين قتلهم البُرْج الساقط: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ...» (لو 13: 4). 2. إنذار: الكوارث موجَّهة كإنذارٍ للذين نَجَوْا، وللباقين أيضاً. هذا واضحٌ من قول المسيح: «بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ». أي إنَّ الكارثة عظة تُوجِّهنا للتوبة. هذا في أحكام الله وقوانينه التي تتحكَّم في مصائر الناس. إذن، فعليك إذا تواجَهْتَ مع كارثةٍ، فلا تبحث عن سببها ونتائجها؛ بل أول ما يجب أن يخطُر ببالك أن‍ها إنذارٌ، وهذه عظةٌ لك. فإنْ لم تَتُبْ، فسوف ت‍هلك كذلك. 3. ردُّ فعل: ولكن هناك في هذه العظة والإنذار ما يفيد تماماً أنَّ هذه الكارثة هي نتيجة خطية، وبقوله: ”إنَّ الذين ماتوا لم يكونوا أكثر خطيةً من الباقين“، يُوضِّح أنَّ سبب الكارثة هو خطية الذين ماتوا وخطية الذين نَجَوْا على السواء؛ بمعنى أنَّ الكارثة هي ردُّ فعل لخطية الجماعة كلها.إذن، الكارثة الصغرى التي حدثت هي إنذارٌ لكارثة أكبر قادمة. هذا قانونٌ إلهي سارٍ منذ البدء: فمعروفٌ أنَّ الطوفان كان ردَّ فعل مُباشر لازدياد خطايا البشر بصورةٍ تعدَّت حدودها المسموحة من الله، كأنَّ الله عنده حدودٌ لمستوى الخطية وكثرت‍ها؛ هذا بصورةٍ عامة. كذلك، وبصورةٍ محدودة، خاصة من حيث نوع الخطية. فإنَّ هذا حدث أيضاً في مدينة سدوم وعمورة، إذ تسبَّبت خطية مُضاجعة الذكور وحدها بحَرْق المدينة بأَسْرها. وهي التي نسمع عنها في هذه الأيام، والتي نتج عنها مرض ”الإيدز“. هنا وَضْع سوابق مُطبَّقة، فهي قوانين إلهية مُطبَّقة عن سوابق واضحة جداً ومُسجَّلة من حيث الكَمِّ ومن حيث النوع. 4. هلاكٌ مُعَدٌّ مربوطٌ بالتوبة أو عدمها: ولكن قول المسيح: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ» (لو 13: 3)، إن‍ها نبـوءة واضحة، أنَّ هناك هلاكاً قادماً بسبب الخطية، ولكن مجيء هذا الهلاك القادم مشروطٌ: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا». أي إنَّ الهلاك ال‍مُعدَّ يمكن للتوبة أن ترفعه وتتجاوزه، كما حدث لأهل نينوى، فتوبتهم رَفَعَت عنهم الهلاك ال‍مُعدَّ لهم!! 5. هلاكٌ للجميع: ولكن في قوله: «جميعكم»، يُوضِّح المسيح أنَّ الهلاك القادم خطيرٌ بل ومُريعٌ؛ فهو سيشمل ”الجميع“. وهذا ما تمَّ بالفعل بعد كلام المسيح هذا بأربعين سنة تماماً، عندما اكتسح الرومان أورشليم وهدموها على مَنْ فيها، بأسوارها وأبراجها، حرقوا هيكلها، وذبحوا كل الكهنة الذين تجمَّعوا وان‍همكوا في تقديم الذبائح، واختلط دم الذبائح بدم مُقدِّمي الذبائح، وعلى نفس المذبح، وأُخلِيَت البلاد من جميع سُكَّان‍ها!! فتمَّت النبوَّة بالحرف الواحد.هنا الذي يضمن شدَّة تنفيذ القانون، هـو الرحمة مع القُدرة. فقُدرة الله لان‍هائية في السَّحْق وفي الرحمة معاً. والاثنان واقفان مقابل بعضهما البعض، والواحدة منهما قادرة على تعطيل الأخرى. 6. ولكن الذي يسترعي انتباهنا، أنَّ الكارثتين المذكورتين في هذا الإنجيل، واللتين جعلهما المسيح إنذاراً لِمَا هو آتٍ، قد تَمَّتا بالفعل على المستوى الجماعي؛ إذ ت‍هدَّمت الأسوار بأبراجها على مَن فيها، وذُبِحَ الكهنة مع ذبائحهم.وهكذا اتَّضح، وعلى المستوى التاريخي، أنَّ إنذار المسيح تمَّ بالفعل وعلى نفس مستوى النموذج الذي استخدمه المسيح. 7. التوبة تُغيِّر قضاء الله: ثم إذا بدأنا نحسب قَصْد المسيح من تعليمه وتقديمه لهذا القانون، يتَّضح لنا أنه لم يكن إنذاراً ت‍هديديـاً؛ بل كـان بمثابة رجاءٍ وحثٍّ على التوبة. المسيح يرى الحاضر، ويرى القادم، ويرى وسيلة الخلاص من القضاء الذي سيتحتَّم وقوعه. فهنا تظهر التوبة أمامنا بجلاءٍ، كقوةٍ عُظمى قادرة أن تُغيِّر قضاء الله وقانونه المحتوم.لذلك إذا عُدنـا مرَّة أخرى لقول المسيح: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ»، نراه يكشف، بصِـدْقٍ، كيف أعطى للإنسـان حـقَّ ”الفيتـو“ (أي ”توقيف“) الأحكام والقوانين الحتمية.فالتوبة هي، في حقيقتها، التجاءٌ إلى الله نفسه صاحب القضاء والحُكْم والقانون، وهو نفسه الذي في يده سُلطان رَفْع الخطية التي تستوجب القضاء والحُكْم، وعلى أساسها يستمدُّ القانون سلطانه.والعجيب في شأن الله، كقاضٍ عادلٍ، أنـه أَلزم نفسه تجاه الإنسان. فإذا تاب إليه الإنسان حقّاً، فإنه يستحقُّ ويستوجب العفو المطلق.هنا ترتفع قيمة التوبـة في عينَي أيِّ إنسانٍ، لكي تبلغ إلى قامة الله في قُدرتـه على تنفيذ الحُكْم، وفي نفس الوقت قُدرتـه على رَفْع الحُكْم؛ حيث استمرار الخطية تجعله يُنفِّذ الحُكْم، والتوبة تجعله يلغي الحُكْم. 8. عشرة في كلِّ مدينة: ولكن أغرب ما في كلِّ أحكام الله وقوانينه وقضائه، أنه لا يُلْزِم نفسه ولا يُلْزِم الإنسان بأن يتوجَّب توبـة جميع الخطاة، بل إنه لكي يعفو عن مدينةٍ بأَسْرها صَدَر ضدها الحُكْم بالحرق والإبادة، يكفي أن يتوب عنها عشرة أشخاص أتقياء فقط. هذا أعلنه الله في حديثه مع إبراهيم أبي الآبـاء، وبحوارٍ صادق معه، إذ استطاع إبراهيم أن يكشف - في قانون أحكام الله - كيف أنـه يكتفي بعشرة فقط في مدينةٍ كبيرة يتوبون ويصلُّون عن المدينة كلها، لكي يصدر الحُكْم بالعفو الجماعي (تك 18: 32). 9. مطلوبٌ فدائيون عن كلِّ العالم: من هذا نفهم أنَّ خلاص مدينة وخلاص أُمَّة وخلاص العالم، مُتوقِّفٌ على جماعاتٍ فدائية تُكرِّس حيات‍ها الخاصة للصلاة والتقوى والتوبة عن نفسها وعن الآخرين. فإن أنتم تنبهتُم، تعرفون ما هي مسئوليتكم.روح القانون الإلهي العام الذي يتحكَّم في مصائر الناس والأُمم والشعوب والعالم كله إنَّ رَبْط المسيح الهلاكَ الناتج من الكوارث الاجتماعية والكوارث الطبيعية على السواء بتوبة الإنسان، يكشف بوضوح روح القانون الإلهي الذي يتحكَّم في مصائر الناس والأُمم والشعوب والعالم كله، والذي يقوم على اتِّجاهَيْن: 1 - إن ازدياد مُعدَّل الخطية هو حدُّ القانون السلبي الذي يتحكَّم في مصائر الناس والعالم. 2 - وإنَّ الشقَّ الطبيعي في العالم، بكلِّ حركاته وثوراته، مربوطٌ بالشقِّ الروحي للإنسان. والقديس بولس الرسول يُؤمِّن على ذلك بقوله: «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا» (رو 8: 23،22).فالطبيعة كلها تحت أصابع الله، ونحن بخضوعنا تحت أصابع الله، نحفظ الطبيعة مـن الهلاك. فالشقُّ الطبيعي في العالم، الذي ينذهل العالم من جبروته، والفناء الذي قد يحصل للعالم من جراء خطية الإنسان؛ كلاهما مُرتبطٌ بشدَّةٍ بالشقِّ الروحي للإنسان. أربعة مبادئ أساسية: والآن يمكن أن نستخلص المبادئ الآتية من إنجيل قدَّاس هذا اليوم: 1. إنَّ وراء كل كارثة، خطية تسبَّبت فيها. 2. وإنَّ كل خطية يتبعها كارثة كنتيجة حتمية. 3. وإنَّ كل كارثة هي، بحدِّ ذات‍ها، إنذارٌ للتوبة. 4. وإنَّ التوبة تُوقِفُ حدوث الكارثة. ذلك بالنسبة للفرد أو الجماعة أو الشعب أو المدينة أو العالم، وبحسب نسبة معلومة لدى الله وحده.كما يمكننا أن نفهم، بالوعي المسيحي، ما يجري الآن حولنا: أ - فإنَّ ما يُعانيه الإنسان المسيحي، فوق أنه يدخل حتماً في قانون: «... أَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ» (أع 14: 22)، و«فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يو 16: 33)؛ إلاَّ أنه بالنسبة لإنجيل اليوم، فإنه يَستعلِن لنا سرّاً آخر من أسرار مواجهة العنف، وما يتأتَّى بسببه من كوارث، على ضوء ما واجهه المسيح من آلامٍ وصَلْبٍ وموتٍ. فكما حَمَل المسيح خطايا العالم في جسده، وتحمَّل آلام الإنسان عامةً واحتملها في نفسه، بل كما وهو في أَوْج محنة الآلام والصَّلْب، فقد طلب من الآب السماوي أن يغفر خطايا أعدائه وصالبيه ليرفع غضب الله عنهم. ب - هكذا أصبح منهجنا المسيحي يُحتِّم علينا أن نَعتَبِر أنَّ الآلام والأوجاع التي يُعانيها المسيحيون الأتقياء، هي على مستوى الفديـة، يَفْدون ب‍ها بـلادهم؛ وإذ يتحمَّلون‍ها بشُكرٍ، يرفعون ب‍ها غضب الله عن مُضطهدي‍هم.إذن، فالمنهج المسيحي مؤسَّسٌ على حقيقتين: الأولى: حتمية احتمال الألم. الثانية: حتمية الصَّفْح عن ال‍مُسيئين، ليس هذا فحسب؛ بل والإحسان إليهم، وطلب رَفْع غضب الله عنهم. ألَم يَقُل المسيح: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ» (مت 5: 13)! فالملح يذوب ليُعطي مذاقاً لحياةٍ الآخرين والعالم. ألَم يَقُل أيضاً: «أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ» (مت 5: 14)! والنور يحترق ليُضيء على الآخرين وفي العالم. + «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (مت 5: 44). صـلاة: + ”«يَـا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ» (لو 23: 34). لا تجعل صليـبي وحياتي سبباً لدينـونتهم، أبداً يا رب. أنا مصلوبٌ من أجلهم. اغفر لهم“. هذا هـو الشقُّ الثاني الذي يحكمنا كمسيحيين في هـذا البلد. إنَّ الذين يتألَّمون من كلِّ اضطهادٍ وضيـق، حتى إلى سَفْك الـدم؛ إنمـا يحملون، لا ذنبهم، ولكـن ذنـب الذيـن يضطهدون‍هم، ويطلبون مـن الله لهم الغفـران والرحمـة، حتى لا يغضب الله عليهم. نحـن فدائيون، نفدي الذين يضطهدوننا، ونفدي مدينتنا وبلادنا، لئلا يشملها العقاب! ما أصعب الصليب! ما أمَرَّ الصليب! ولكن، مـا أعظم الصليب! إذ ليس في كـلِّ مـا يُعْرَض على الإنسان مـن كرامـةٍ ومجدٍ ما يُساوي حَمْل الصليب؛ لا على الصدور، بل على الأكتاف حتى السقوط تحته!! ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
26 أبريل 2021

اثنين البصخة إن كنا نتألم معه فسوف نتمجد معه

نريد هذه السنة أن ندخل في المفهوم الروحي والعملي لأسبوع الآلام بالنسبة لحياتنا. طبعاً تعرفون أن أسبوع الآلام هو الاسم الشائع والسائد لهذا الأسبوع. ولكن الاسم المحبوب والطقسي هو أسبوع الفصح، أو أسبوع البصخة، حيث أنهما كلمة واحدة بنطق مختلف. وأصل التسمية هو حمل الفصح، الخروف الذي بدمه مُسح أعتاب بيوت شعب إسرائيل، فكان الملاك المُهلك يعبر عليهم ولا يمسهم سوء. وهذا بالطبع كان رمزاً قوياً للحمل الوديع، للمسيح المصلوب، الذي بدم نفسه مُست أعتاب شفاهنا وحياتنا وعبرنا من الموت إلى الحياة.هو في الحقيقة أسبوع فصح، ويتخذ اسمه من اليوم الأخير، الجمعة الكبيرة، حيث قمة آلامه، يوم ذبح الحمل على الصليب، ولكن لو جمعنا الكلمتين يمكن نسمي أسبوعنا هذا بـ: أسبوع الآلام الفصحية، حيث عبر الرب بنا وبالخطاة وبجسد الخطية، من الموت إلى الحياة والقيامة؛ من العقوبة والغضب الإلهي، إلى التبرير والخلاص الأبدي. اسمعه وهو مُنكسر القلب يتكلم عمَّا سيحدث له: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الأمم فيُهزأُ به ويُقتل». نحن نقولها الآن كأنه كلامٌ عاديٌ، إطلاقاً، ليس الأمر هكذا. المسيح كان يجلس مع تلاميذه في جلسة محبة ودية، وفجأة يتغير مجرى الكلام ويقول لهم هذه الأمور الصعبة، الأمر الذي أذهلهم واستنكروه ورفضوه وانزعجوا من أجله بشدة.نحن للأسف من كثرة ما قرأنا وتحدثنا عن هذا الأسبوع، وحوَّلناه إلى مناسبة طقسية، أُصبنا بداء الاعتياد ولم يعد يؤثر فينا. نريد هذه السنة أن نجوز هذا الأسبوع بحق مع الرب، ليس كاعتياد وطقوس وألحان، ولكن أن نسير على إثر خطواته، نجوزه بعهد أن نتألم كما هو تألم، نتألم معه بحب.في الحقيقة يا أحبائي، من المستحيل أن يجوز أحد آلام المسيح إلا بالحب، وينبض نبضة الحب الإلهي.هناك نوعان من الآلام: آلام طبيعية وآلام جبرية. الآلام الطبيعية مثل أصوامنا أو خدماتنا وعملنا الجسدي، كل هذه لا قيمة لها، ما لم تسندها النعمة، وما لم نعتبرها شركة في آلام المسيح. أما الآلام الجبرية فهي آلام ندخلها بغير هوانا، أو بمعنى أدق تُفرض علينا فرضاً، وهي من المستحيل أن نغلبها ما لو تسندنا نعمته ونعتبرها شركة في آلامه. علينا أن نجوز هذا الأسبوع على أساس القيامة الفعلية، فإذا كان الرب قد تألم؛ فهو أيضاً قام، هذا يعطينا قوة سرية روحية لا نهائية. أقول هذا بالأخص للذين هم يشتكون من آلام جسدية ومن ضعف النفس ومن محاربات الشيطان. أما أنا أقول لهؤلاء: اصبروا، تقووا، الرب معكم، لا تخافوا، الرب معين، الرب ناصر لن يتخلى أبداً. فإذا كنا قد عرفنا أن الرب بعد كل ألاماته المُرة، وبعد الأحزان الشديدة التي ذاقها، وبعد انكسار قلبه ونفسه، وغُصة الموت التي جازها..ففي ضوء القيامة ستكون كل آلامنا أيضاً لذيذة، وليست صعبة أو مصيبة أو مُفاجئة.لذلك تعالوا اليوم نمشي على إثر خطواته، فخطوات المسيح هي هي خطواتك، والذي احتمله هو كله عنك، فإن لم تشترك معه في هذا الاحتمال عينه؛ فلن تأخذ أجره أو ثمرته والتي هي قيامته.هل من الممكن أن هذه السنة نعمل عهداً جديداً مع بعضنا البعض، نأخذ هذا الأسبوع كعهد شركة حقيقية مع الرب؟ فإن كان هو قد تألم من أجلي؛ كيف لا أجوز أنا أيضاً بنفس هذه المشاعر؟ وأنا أعلم تماماً وبيقين وثقة روحية أن الرب صادق والروح أمين، وإنه كما أن الآلام التي جازاها المسيح حوَّلها إلى نُصرة؛ هكذا ستتحول لي أنا أيضاً إلى قيامة وغلبة؛ إن أنا جُزتها صدقاً وإخلاصاً وأمانة. الروح ينتظر مقدار أمانتا للمسيح. ولكن علينا أن نقول: إن الأمر ليس مجرد آلام مُجردة، فإن لم يتحرك القلب بالحب؛ فلن تكون آلاماً فصحية، ستكون مجرد آلام، وهنا، ما أكثر ما قضينا من أسابيع آلام، ولكنها كانت كلها آلاماً بلا ثمر ولا قيمة لها!! ولكن الذي نريده هذه السنة أن تكون آلامنا فصحية، تتحرك فينا وتنتهي بالعبور. نريد أن نفصح (=نعبر) في كل ساعة وفي كل يوم إلى أن نبلغ غاية فصحنا. لا نريدها آلاماً عقيمة، ولكن نريدها آلاماً تحملنا وتحمل هذا الجسد الخاطئ الميت، من حياة إلى حياة أو بالحري من موت إلى حياة، من إيمان ضعيف إلى إيمان قوي، من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح.أتمنى أن يكون لنا في هذه السنة ثمار تُفرِّح الرب وتُفرِّح السماء بنا.هناك كثيرون من أولاده الذين جازوا معه آلام، وعبروا ودخلوا معه في نُصرة أبدية، وعاشوا في ملء حرية أولاد الله وفي ملء قوة النعمة والنصرة على الجسد والعالم، وفي ملء القوة ضد الخطية.يا أحبائي، علامة سُكنى الروح القدس أن تكون هناك فينا قوة ضد الخطية. كل العلامات الأخرى تخطئ، ولكن أن ينتصر الإنسان على الخطية؛ فهذا يسكنه الروح بالتأكيد.لا أريد أن أقترح عليكم اقتراحات كيف تقضون وتسلكون وتصومون وتسهرون خلال هذا الأسبوع، دعوا الروح يُحرككم ويتكلم داخلكم. فقط قدِّموا باقات حب وكلمات عهد ووعد لحياة ليست للعالم، ولا يكون للجسد فيها نصيب، حياة مربوطة بقلب المسيح وتتحرك بحركته، حياة مُنقادة بالروح القدس، كما يُقاد الطفل الصغير في يد أبيه وهو لا يعلم إلى أين يمضي.حياة فيها حب إلهي، ولكن نجوز مع الرب آلامه بحزن حقيقي من أجل الخطايا التي بسببها تألم ومات.ولكن اعلم، إنه ليس فضلاً مني أو منك إنك تتألم خلال هذا الأسبوع، أو أن نفسك تذبل فيك، إنه هو ذبلت نفسه من أجلك قبلاً، سُفك دمه نقطة نقطة حتى أَسلم الروح بسبب خطيتك. فهذه ليست مكرمة منك، ولكنها ضريبة، ضريبة أسبوع الآلام.تعال إلى الرب وقُل له[ أنا عليَّ ضريبة لابد أن أدفعها لك هذه السنة، سأقدمها إليك مُجبراً، ولكن بملء حبي، وبملء فرحتي.أسبوع الآلام هذا كله بسببي أنا وليس بسبب الآخرين، فاعطنى أن أجوزه معك.أعطنى حزناً ليس أقل من حزنك، هبني انكساراً في قلبي كوجعك وانكسار قلبك، امنحني أنيناً كأنينك أعبر معك به هذا الأسبوع وكل المصادمات خطة بخطوة. شهِّر بي، يا رب، افضحني، اكشف خطايا علناً؛ لئلا أُفتضح بعد هذا في السماء.أعطني اتساع قلب واتساع فكر واتساع رؤية حتى أرى ماضيَّ كله فيك، وحتى عندما أتألم لا أكون أكذب على نفسي أو أكذب عليك ولا أكون أتصور أو افتعل.أعطنى يا رب إحساسك بخطايا الناس وكيف هي مررتك.اجعلني أذوق ألمك وبكائك وأنت تبكي على شعبك وأولادك الذين لم يعرفوا زمان افتقادهم.أعطني دموعاً أذرفها معك، لا تجعلني أعيش محصوراً في خطيتي فقط وبعيداً عن صليبك الكبير. لا تحرمني من لمسة صغيرة أرى فيها آلام العالم التي أنت ذقتها].أنا أقول لك: إن الآلام التي تجوزها لو كنت صادقاً، سوف تتحول إلى لذة وفرحة وتوبة بلا ندامة. إنك تستطيع بسهولة أن تفرق آلام المسيح عن هذه التي بحسب العالم. حزن العالم وآلامه يُنشئ توتراً وعدم راحة. هذا الحزن مرفوض. نحن عندما ندخل آلاماً حقيقية مع الرب وفيها نحزن حزن الموت إلا أننا في نهايتها تُبصر عيون قلوبنا القيامة عياناً بياناً، وتهتز قلوبنا فرحاً، وترنم ونقول: آلامك، يا ربي، أنشأت فيَّ فرحاً، آلامك أنشأت في داخلي بهجة قيامة ونوراً، لا أستطيع أن أعبر به. تصرخ وتقول: ما هذا المجد يا ربي، أإلى هذه الدرجة تكون آلامك مُفرحة ومُعزية؟ إذن لماذا نحن محرومين منها؟! ذلك لأننا ارتضينا بالمظاهر، أتقنا الطقس، راجعنا الألحان، ظبَّطنا الهزات، وتكون النتيجة أننا ندخل ونخرج ونحن غرباء عن آلامك.لا نريد هذا، نريد في هذا الأسبوع في كل لحظة، أن يتحرك قلبنا، كما تتحرك أوتار قيثارة بكل آلام الرب معاً، فيخرج من أعماقنا نشيد أعظم آلاف المرات من كل الألحان.من يدخل إلى هذا الأسبوع مدخلاً حقيقياً سوف يحمل البشرية كلها في قلبه، سوف يحمل سقطات الساقطين، سوف يحمل خطية الخطاة في قلبه الصغير هذا، سوف يتسع ويتعجب كيف أن الرب استأمنه على هذه الأسرار والكرامة العليا.هذا هو أسبوع الآلام، ما أمجدها آلاماً وما أعظمه فصحاً.أتمنى لكم جميعاً أن يكون هذا الأسبوع أسبوعاً خالداً في حياتكم لتعيشوا في حقيقة الإنجيل لا تفارقوه ولا يفارقكم لحظة، وتذوقوا في قلوبكم وأرواحكم عمل الروح القدس في القلب، وكيف يعبر الإنسان من مصر إلى كنعان، يعبر ويتجدد من جسد عتيق لإنسان جديد مُنقاد بالروح القدس ليس له مشيئة بعد، وقد نسى زمان الخطية وأوهامها الكاذبة وتصادق مع القادر المقتدر الذي قام باقتدار وانفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات.ولإلهنا المجد دائماً أبدياً أمين المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
27 أبريل 2021

الساعة الحادية عشرة ليوم ثلاثاء البصخة

على مثل الوزنات «وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ».ويبدأ المَثَل في مشروع رحلة بعيدة لإنسان سيد، وبناء عليه دعا العبيد لتسليمهم أمواله، هنا ترتفع العلاقة التي تربط السيد بعبيده إلى أقصى مستوى من التبعية والأمانة التي تصل إلى حد تسليمهم أمواله ليقوموا بعمله، باعتبارهم حائزين على كل إمكانياته، وعلى ثقته أيضاً. والإحساس هنا يكاد يُنْبِئ بأنه جعلهم كأبناء كونه يحمِّلهم مسئولية إدارة أمواله في غيابه، وكأنهم يمثِّلونه شخصياً.«فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ».نحن الذين اختارهم الله في المسيح يسوع لملكوته الأبدي قبل إنشاء العالم لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة. اختارنا وكل واحد منا خلقه بإمكانية وطاقة معيَّنة في المواهب وفي القدرة على استخدام المواهب، وبالتالي بإمكانية للخدمة تتناسب مع الطاقة والمواهب. في حين أعطانا فداءً واحداً وخلاصاً واحداً ودعوة مقدَّسة واحدة متساوية في كل شيء للخلاص.وهكذا بمقتضى حكمة الله الفائقة ومعرفته الكاملة المطلقة التي لا يغيب عنها شيء من أمور الخليقة كلها، ودرايته الكاملة المطلقة بدقائق إمكانياتنا وذكائنا وضعفنا، أعطى كل واحد منَّا وزنات تتكافأ تماماً مع طاقتنا ومقدرتنا ومواهبنا للخدمة، نخدم خلاصنا وخلاص الآخرين لحساب ملكوته الأبدي. فلم يُعطِ لأحد من الوزنات أو من الخدمات ما يفوق طاقته، إلاَّ إذا أقحم إنسان نفسه في خدمة أو عمل يفوق طاقته وإمكانياته، فهذا يُسأل عن عجزه ويُلام في تقصيره ولا يُلام الله بسببه في شيء. ويلاحظ السامع، أن السيد المسافر هذا لم يأخذ صكوكاً ولا كتب شروطاً ولا حذَّر ولا أنذر ولا أوعى وأوصى، بل بكل ثقة أعطى ماله لعبده الأول على أن يتاجر فيه بقدر ما حباه الله من مواهب. والأمانة المطلقة فُرضت هنا باعتبارها العلاقة الأُولى التي تربط السيد بعبيده.وهكذا أعطى العبد الثاني ما يتوافق مع طاقاته وإمكانياته، وكذلك الثالث، ولم يلاحظ قط أن أياً من الثلاثة استكثر الوزنات أو استقلها، مما يوحي أن التوزيع كان عادلاً بمقتضى طاقاتهم حقـًّا. «وسافر للوقت»: وكأن اجتماعه بخدمه كان طارئاً لتسليم هذه الوزنات، على أن عودته ستكون للسؤال عن النتائج بقدر الأهمية التي نعرفها نحن عن موهبة الفداء والخلاص التي منحها للجميع بقدر واحد، وكيف أنه سيأتي ليحاسبنا على الدم الذي سفكه من أجلنا، ونعمة الخلاص الذي أكمله بقيامته من أجلنا.«فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهَكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ».لم يدَّخر جهداً، بل في الحال قام العبد الذي أخذ الخمس وزنات وتاجر بها وربح خمس وزنات أُخر، فكان عند حسن ظن سيده وأثبت جدارته، كما أثبت أن سيده كان حكيماً دقيقاً عالماً بإمكانياته وطاقته تماماً. كذلك العبد الثاني تاجر وربح وزنتين وأضاف إلى برهان الأول برهانه الخاص أنه كان جديراً بالوزنتين، وأن سيده كان حكيماً ومدركاً طاقته تماماً.حدَّد كمية الوزنات. أي أن الطاقة هي من عمل النعمة، وعلى أساس عمل النعمة يمنح الله الوزنات. وعلى هذا الأساس اللاهوتي تتم المحاسبة والعقاب. لأن الذي لم يربح يُعاقب لأنه عطَّل عمل النعمة فأوقف عمل الوزنات. أمَّا الربح فقد زكَّى عمل النعمة. وهكذا ترتد النعمة عليه بالطوبى والبركة والمكافأة.«وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ».إخفاء الوزنة أو الفضة في الأرض يقابلها تعطيل أو إبطال عمل الموهبة أو المميزات الروحية التي أعطاها الله للمؤمن. وهذا يتم عند الذين إمَّا فقدوا الإحساس بقيمة الموهبة أو صار لهم استهتار وازدراء بصاحب الموهبة، وبالتالي عدم اهتمام بمجيئه والحساب الذي سيحاسب به كل إنسان عن ما وهبه إيَّاه. وهنا يتركَّز المَثَل في عدم السهر ورفض العمل وفقدان الإحساس أو الأمانة بالمسيح.«وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا». هنا تحديد الزمان الذي غابه السيد بأنه طويل يوضِّح تأخُّر المجيء الثاني، وهذا ردٌّ على الذين كانوا يظنون أنه سيأتي سريعاً. وأمَّا الحساب فهو ضرورة قصوى كمبدأ إيماني ثابت أن الإيمان بالمسيح هو عمل وحساب على العمل، وإلاَّ انقلب الإيمان المسيحي إلى فوضى. ومرَّة أخرى نفهم الإيمان المسيحي أنه قائم على عطايا ومواهب وامتيازات تحمل قيمة فائقة داخلها لا يكشفها ويستمتع بها إلاَّ الذي يعمل ويجتهد ويتاجر بها. وفي نفس الوقت فإن هذه المواهب والامتيازات الإيمانية سيُطلَب ربحها في حياة كل مؤمن في حساب الدينونة العتيدة. ومثل هذه الوزنات هنا سواء في الخمس أو الاثنتين أو الواحدة هي مجرَّد عيار للمواهب توزن في مقابلها الأعمال. ويتحتَّم أن تكون هذه المواهب قد قدَّمت ما يساويها من أعمال وإلاَّ يُحسب الإنسان أنه اختلس أموال السيد.«فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».أمَّا كونه حسناً أو جيداً فلأنه أثبت أن ما قدَّمه من “عمل” يساوي “طاقته” تماماً، فهنا يكون وزن الشخصية روحياً قد نجح. وأمَّا أنه صالح فلأنه أثبت أمانته للسيد نفسه تماماً، فحَسَب ما استأمنه عليه من عمل شخصياً وُجِدَ أميناً فيه لشخص السيد، فهو صالح. وأمَّا أنه أمين فلأنه قدَّم خمس وزنات مقابل خمس وزنات استلمها، فهو أمين في مال سيِّده. «كنت أميناً في القليل»: القليل هنا هو كل العطايا والمواهب التي تُعطى للإنسان المؤمن ليتاجر بها. ويفرح ويفرِّح الآخرين، مهما كانت قوتها وقدرتها وعظمتها. لأنها هي بوضعها الحالي صورة لعطايا الله في السماء التي لا يمكن أن توصف أو يدركها عقل. وواضح من هذا الكلام أن المسيح إنما يهب لنا هذه المواهب والعطايا لنتاجر بها لحساب الملكوت، فهي الطريقة الوحيدة التي يدرِّبنا بها لكي نرتقي إلى ما هو أعلى وأعظم وأمجد - وما الدينونة الأخيرة أو الوقوف أمام المسيح إلاَّ لكي نسمع منه هذا الصوت الذي سوف يملأ أسماع السمائيين: نِعمَّا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك.«ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا.قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».وبهذا الإجراء يظهر تماماً منهج الرب يسوع المسيح في توزيع المواهب، والحكم النهائي على أداء الأعمال والمهام التي سلَّمها لمختاريه. إذ وضح أن التوزيع للمواهب والعطايا الروحية يتبع نظاماً دقيقاً للغاية مربوطاً بالطاقة التي يحوزها الإنسان، والقدرات الشخصية في مجملها الروحية والنفسية والجسدية. فكل مَنْ هو قادر على احتمال المسئوليات يُعطى من المواهب والنعمة ما يساوي قدرته تماماً. وهكذا تأتي محاكمته أيضاً عادلة للغاية ودقيقة للغاية، حيث تكون محاسبته على الأمانة والجهد والاهتمام الذي أدَّاه في مسئوليته، ولا يدخل فيه الكثرة أو القلة في المواهب. فصاحب الخمس وزنات نال من المديح والمكافأة ما ناله صاحب الوزنتين تماماً وبالحرف الواحد.«ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ».العبد هنا بدأ يدين السيد على سلوكه وأخلاقه ويلصق به بناءً على ذلك تهمةً أنه السبب في كونه مضى وأخفى الوزنة في الأرض، فلا هو انتفع بها ولا نفَّع أحداً.واضح لنا جداً أن غياب المحبة في قلب هذا العبد هي التي فصلت قلبه وذهنه عن سيِّده، كذلك عدم الأمانة وعدم الثقة جعلت الخوف يطغي على الطاعة ويضحِّي برضا السيد. ووصفه للسيد بالقسوة هو مجرَّد تبرير لسلوكه غير الأمين وشعوره غير المحب ولا الخاضع لأوامر السيد. فهو اتهام جزافي ليس عنده ما يبرِّره إلاَّ عجزه عن أن يكون خاضعاً وأميناً ونشيطاً.ونحن يستحيل أن نبرِّر هذا العبد في قوله عن السيد أنه قاسٍ مهما كانت الأسباب التي يتذرَّع بها، لأن سيده علم أولاً أن لديه الطاقة والإمكانية والقدرة على تحمُّل مسئولية إدارة وزنة واحدة، ثم هو أُعطي بالفعل وزنة تساوي طاقته وإمكانياته تماماً. فهو محاصر بين دراية السيد بإمكانياته وطاقته وبين عطية الوزنة التي تساوي طاقته وإمكانياته. هذا فيما يخصّه تماماً، فكونه يخرج بعذر جديد ليس له علاقة بالمسئولية التي ألقاها السيد عليه، وهي مسئولية فيها تكريم ووعد جيد بالمجازاة. هذا شيء يذهلنا إذ بدل أن يدين نفسه ويطلب الرحمة والمعذرة، انطلق يبرِّر نفسه وسلوكه بأن يأتي باللوم على السيد أنه رجل قاسٍ. هذا أضاف إلى قضيته التي تنحصر في التهاون والكسل وعدم الأمانة والاستهانة بأوامر السيد عنصراً خطيراً في الحكم، إذ تعدَّى على شرف السيد كقاضٍ، وذمَّه علناً بأنه قاسٍ، وكأنها محاولة منه لرد القاضي عن أن يكون صالحاً للحكم والقضاء، وهذا يُحسب للعبد شناعة.ومهلاً عزيزي السامع، فلا تتحامل كثيراً على هذا العبد الشرير الكسلان فهو أنا وأنت!! لأن قضية العبد الذي خبَّأ وزنته في التراب، وعاد فاستذنب الله ليتبرَّر هو، هي قضية كل خاطئ يرفض الاعتراف بخطيته أو التوبة عمَّا يصنع، لأنه يقتنع أن الحياة بلا خطية مطلب إلهي غير عادل، فإن كان الله لم يزرع في الجسم الطهارة والتقوى فكيف يطالب أن يحصد ما لم يزرعه؟ وإنها قسوة من الله أن يطالبنا أن نرتفع فوق طبيعتنا التي صنعها لنا. بهذا نكون قد وضعنا أنفسنا موضع العبد الشرير الكسلان الذي لم يتاجر بموهبة النعمة من أجل الطهارة بل طمرها في الجسد (التراب) وعاد يبرِّر نفسه أمام الديَّان.«فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً».أمَّا كونه شريراً فلأنه عصى أمر سيده عصياناً مبيَّتاً، وهي نفس خطية آدم التي جلبت الخراب على بني جنسنا. فأمر الله يُطاع حتى الموت ولا عذر إطلاقاً لعصيان أمر الله. لأن ذلك معناه القطع من الحياة والحكم بالموت. أمَّا كونه كسلاناً ومتوانياً، فواضح لأنه لم يحاول ولو محاولة أن يعمل بالموهبة التي استأمنه عليها سيده، وقد أعطاها له بحكمة ودقة وعدل بما يساوي طاقته وإمكانياته. فسيِّده يعلم أن لا عذر له على الإطلاق. «فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».الذي لا يعمل لا يأكل، أما الذي تاجر وربح وأثبت جدارة فهذا عنده الإمكانية للمزيد، فهو الذي يأخذ الموهبة التي بقيت عاطلة وليس مَنْ يعمل بها. أمَّا الذي ثبت أن ليس عنده الرغبة والإرادة على العمل فالذي أخذه يؤخذ منه. هذا هو “عدل العمل” أو قانون المواهب: “الشجرة التي لا تصنع ثمراً جيِّداً تُقطع وتُلقى في النار. ”واضح لدينا الآن أن عين المسيح مسلَّطة على العمل والجهاد والنشاط والربح فيما يخص المواهب التي سكبها على التلاميذ والكنيسة. فغياب المسيح هو فترة العمل والجهاد العظمى لتكميل الخدمة والبلوغ بالفداء والخلاص إلى أقصى طاقة البشرية في الخدَّام الذين سيسكب المسيح عليهم مواهبه باستمرار، وبقدر طاقتهم وإمكانياتهم في الخدمة. والذي يُبدي نشاطاً أكثر سينال مواهب أكثر، والذي يتراخى ويهمل تُسحب منه المواهب. والمسيح يركِّز على أن فترة انتظار مجيء الرب هي فترة العمل بالمواهب. فالسهر ينبغي أن يكون سهراً عمَّالاً ومنتجاً. على أنه قد تبيَّن لنا أن المكافأة على أمانة الخدمة والعمل بالمواهب ستكون مزيداً من العمل والمواهب فوق، مع فرح لا يُنطق به. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
08 مارس 2021

الصوم إطلالة على الملكوت

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الأول من الصوم المقدس (مر 9: 33-50) بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القداس: في الحقيقة على مدى العصور، كان لهذا الصوم المقدَّس شأنٌ خاص وكبير. وكلمات إنجيل قدَّاس هذا الصباح يمكن أن تُضَمَّ في ثلاثة معانٍ: 1. السائرون على الطريق. 2. المتعاركون في مَن هو أعظم! 3. عثرات الجسد وإمكانية التخلُّص منها. فهذا الإنجيل، إذن، يضع لنا منهجاً متكاملاً، نُطِلُّ منه - للحظة بسيطة ولو لدقائق - على الملكوت. نحن جميعاً نسير على الطريق، وأيُّ عِرَاكٍ في مَن هو أعظم سوف يُخرجنا من الطريق؛ لأن ”الطريق“ في الإنجيل هو المسيح نفسه، كما أنه ”الاتجاه“ نحو ملكوت الله. ثم تأتي عثرات الجسد، إذ تثور أعضاء الجسد وتتصارع فيما بينها مثلما يحدث أن يتصارع الواحد مع الآخر. فالأعضاء تتصارع فينا كيما تُخرِجنا من الطريق. الصوم وموسم هجرة الطيور: وأستطيع تلخيص ذلك، فأقول: إنَّ موسم الصوم يُشبه موسم هجرة الطيور من أوطانها الباردة إلى مناطق أخرى دافئة، وخلال هذه الهجرة تُركِّز الطيور على تحليقها لتصل إلى مقصدها، دون أن تلتفت الإناث منها أو الذكور إلى فراخها الصغيرة الطائرة. وجميع هذه الطيور الطائرة على مسافاتٍٍ طويلة لا يُوجِّهها سوى الغريزة التي لم يستطع الإنسان حتى اليوم تفسيرها. فسِرْب الطيور يصل دائماً في الموعد وخلال نفس الطريق الذي سلكه سابقاً في رحلاتٍ سالفة. فإن كانت الغريزة الطبيعية المغروسة في الطيور، وهي غريزة الهجرة، عجيبة بهذا المقدار؛ فكم يكون أعجب من هذا الغريزة الروحية المُعطاة لنا، وهي غريزة الهجرة إلى الملكوت. ولكن غريزة الهجرة إلى الملكوت، إلى وطننا الحقيقي والكامل، ما تزال غير واضحة في حياتنا. فسِرْب الطيور المُهاجر، والذي يُركِّز كل انتباهه لبلوغ المناطق الدافئة، إذا فكَّر في التعارُك والصراع بين أفراده، أو إذا تحوَّل اهتمام بعض أفراد هذا السِّرْب إلى احتياجه للطعام؛ فقد يُعرِّض حياته للضياع والهلاك. فهجرة الطيور، إذن، هي هجرة صائمة غير مُعتمِدَة على أَكل أو شُرب، وبالتالي لا يوجد ما يُوجِّه هذا السِّرْب المهاجر سوى غريزة الهجرة إلى وطنٍ أفضل. وهناك تفسيرات علمية عديدة ومختلفة لتعليل وتفسير هذه الغريزة عند الطيور المهاجرة. ولكن هذه الغريزة، غريزة الهجرة إلى الملكوت، هي عند الإنسان بصورة أعظم جداً مِمَّا عند الطيور. فلا يوجد إنسانٌ صادقٌ مع نفسه قد هاجر هجرة حقيقية وفَشَلَ. فالهجرة الروحية ذات مفهوم عجيب، فهي هجرة من الذات، هي تركٌ للعشيرة وللوطن الأرضي، كما خرج إبراهيم وهو لا يعلم إلى أين يذهب. هي انطلاق إلى الوطن الجديد، دون أن نعرف الكثير عنه! الهجرة في الطيور من أجل حفظ النوع والحياة. أما بالنسبة للسائرين في طريق الملكوت، فهي هجرة تتضمن معياراً روحياً لحياتنا الروحية، هي هجرة من الوطن والذات، اللذين هما أعظم مُسبِّبات العِرَاك والتشاحُن. وهي هجرة أيضاً من الأَكل (وهو أقلُّها)، أي هجرة صائمة. وكأنما، يا أحبائي، فإنه عن طريق هذا الطير المهاجر، نستطيع أن نُدرك أن الأَكل والشُّرب إنما هما مُعطِّلان لنا في مسيرتنا إلى الحياة الأبدية. وتطبيقاً على حياة الآباء، فإنَّ كل مَن استطاع أن يَعْبُر من ذاته، ومن شهواته؛ يأخذ مكاسب لا توصف من هذا الصوم. فامتناع الإنسان عن الأَكل، يتحوَّل فيه إلى حركة قيامة للجسد لا تقلُّ عن حركة المعمودية والتناول من الأسرار المقدسة. الصوم سرٌّ عميق وطاقة روحية لبلوغ الحياة الأبدية: فالصوم سرٌّ، أو هو في الحقيقة ديناميكية السر، أو الطاقة المُحرِّكة التي تربط ما بين المادة في الإنسان والروح في الله. الصوم طاقة عجيبة لا يمكن تفسيرها، ويمكن القول إنَّ الصوم مادي وروحي بآنٍ واحد، لأنه امتناع عن كل شهوة جسدية. الصوم هو موهبة إنسانية تؤول إلى ديناميكية روحية لاستيعاب سرِّ الخلود. والصوم هو أيضاً دافعٌ للأسرار، وهو التاج الجميل للأسرار. الصوم هـو الهجرة من الأرض إلى السماء، تتحقَّق وتنطبع قوتها فينا كخبرة تزداد كل يوم.والصوم في الكنيسة هو الوسط المُحرِّك للأسرار، ومن خلاله يأخذ الإنسان المهاجر مفعول الصوم القوي داخله. فيستطيع الإنسان، بصومه وبنعمة المسيح التي فيه، أن يُهاجر من الأرض إلى السماء، ومن ذاته إلى الحياة الأبدية.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
16 سبتمبر 2021

يوحنا المعمدان

«لم يَقُم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان،ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه» (مت 11: 11) كلامٌ محيِّر!! هل يقصد المسيح نفسَه أنه أصغر من يوحنا في السنِّ؟! إن أي كلام محيِّر في الإنجيل لابد أن تجد الجواب عليه فيما بعد! فيوحنا المعمدان هو إيليا لأنه أتى بروح إيليا: «وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا هو إيليا المُزمع أن يأتي. مَن له أُذنان للسمع فليسمع» (مت 11: 15،14) كلنا لنا آذان، ولكن المسيح قال: «لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي» (يو 8: 43)! «جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً، فتقولون: به شيطان» (لو 7: 33)!! جاءكم إنسان ناسك يصوم ولا يأكل إلاَّ الجراد. المسيح هنا يُقارن بين نفسه وبين يوحنا (كل الأصحاح يدور حول هذه المقارنة). كان يوحنا يأكل جراداً وعسلاً بريّاً، عاش 30 سنة في البرية، وكان يلبس ثوباً خشناً ومِنْطقة من جلد؛ أما المسيح فجاء كشخصٍ عادي يأكل ويشرب الكتبة والفرِّيسيون قالوا عن يوحنا إن به شيطاناً، وفي كل جيل توجد فئة تتكلَّم بالشرور على الآخرين. وقالوا عن المسيح الذي يأكل ويشرب مثلنا: «إنسان أكول وشريب خمر، مُحبٌّ للعشارين والخطاة» (لو 7: 34). كان يمشي ومعه جمعٌ من العُرْج والعُمي والخطاة (مت 15: 31)، وإلى هذا اليوم نجد هذا الأمر: فإذا أكل رجل الله، لا يعجبنا هذا؛ وإذا صام، لا يعجبنا أيضاً «والحكمة تبرَّرت من جميع بنيها» (لو 7: 35). أي أن الحكمة تبرَّرت من أولاد الحكمة. والحكمة الإلهية التي أرسلت يوحنا هي التي تجسَّدت في المسيح ربنا. الفرِّيسيون رفضوا مشورة الله؛ أما العشارون فاعتمدوا من يوحنا. وفي حياتنا نجد هذه الأصناف: صنف يأكل، ويشكر الله؛ صنف لا يأكل، ويشكر الله؛ صنف آخر، ينتقد هذا وذاك. ليتك، يا أخي، لا تكون من الصنف الثالث. ملكوت السموات: ما هو؟ ”ملكوت“ من كلمة ”ملك“، أي أن الله يملك: «يا ابني أعطني قلبك» (أم 23: 26)، هذا هو عرش الله.توجد قصة عن كارز بالهند، تأثر من كلامه رجل هندي، فأحضر ابنه الصغير وأعطاه للكارز كهدية عن كرازته، ولكن الكارز رفض. فأحضر له الرجل ابنه الأكبر، فرفض أيضاً. فأحضر له زوجته، فرفض. وأخيراً قدَّم له ذاته، فقَبـِلَه. فقال الرجل للكارز: ”أخدمك“. فأجابه الكارز: ”كُن معي لنعبد الله معاً ونخدم معاً“. وهكذا نحن لا يَرضَى الله منا أي شيء نمتلكه، بل قلوبنا هكذا ينبغي أن نُقدِّم للرب قلوبنا كل يوم قائلين: ”أنا أحبك من كل قلبي“. وحبُّ القلب، أن لا يفصلنا عن المسيح شيء.المسيح ليس له شيء أعظم من القلب ليتقدَّس به. وملكوت الله كائنٌ فيك، أي يملك على قلبك. وإذا ملك الله على قلبك تصير مِلْك لله. «ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21)، أي أن الإنسان صار كنيسة أي بيت الله. الله لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي، ولكن في قلبك الذي صنعه. ملكوت الله هو قلبك عندما يسكن الله فيه.ملكوت الله في مناداة يوحنا المعمدان: «يا أولاد الأفاعي. مَن أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي (أي يوم المسيَّا)... والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار... ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لستُ أهلاً أن أحمل حذاءه... الذي رفشه في يده (أي المذراة التي تُستخدم في تذرية القمح)، وسيُنقِّي بيدره. ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيُحْرِقه بنارٍ لا تُطفأ» (مت 3: 7-12). هذا هو تصوُّر يوحنا عن ملكوت الله: المسيَّا الآتي مثل ”مذراوي“ يُفرِّق بين التبن والقمح. إنه ملكٌ حازم، وحُكْمه شديد. ولكن المسيح كان وديعاً.الملك عندما يجلس على كرسيه، يُحاكم المخطئ (هنا موقف دينونة)، ويُبرِّئ البار (هنا المكافأة). ويوحنا المعمدان رأى الملكوت هكذا: الشجرة الجيدة يُكرمها الملك، والشجرة البطَّالة يقطعها.دينونة العهد القديم كانت الرجم، وكان تصوُّر اليهود للمسيَّا أنه يدين على هذه الصورة (والمثال على ذلك المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل - يو 8: 1-11). دينونة المسيح كانت من نوع آخر. المسيح جاء ليدين بالكلمة: «أنا هو نور العالم» (يو 8: 12)، «الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 6: 63). فكلام المسيح يدخل قلب الإنسان، فيدين الإنسان نفسه.المسيح لم يأتِ ليدين الإنسان من خارج بأية واسطة ظاهرة، بل هو يُكلِّمك ”كلمة حياة“ تدخل إلى قلبك فتدين أنت نفسك. هذه هي دينونة المسيح: المسيح داخلك، وأنت تدين نفسك. هو لا يمسك عصا ويضربنا بها: «إن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آتِ لأدين العالم بل لأُخلِّص العالم» (يو 12: 47)، أنا أُلقي الكلمة وأنت تدين نفسك: «مَن رذلني ولم يقبل كلامي فله مَن يدينه. الكلام الذي تكلَّمتُ به هو يدينه في اليوم الأخير» (يو 12: 48). كلمة المسيح هي الفأس التي قال عنها يوحنا المعمدان، تدخل قلبك وتستأصل الشر، ومثل السيف كما قال بولس الرسول: «لأن كلمة الله حية وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدَّين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ» (عب 4: 12). أي أن كلمة الله تقطع الشجرة الشريرة التي في قلبك. وكلمة الله هي الفأس، فعندما تدين نفسك بكلمة الله، فإن الكلمة تقطع الشجرة الشريرة التي فيك. وأما الشجرة الجيدة المثمرة، فهي أيضاً في قلبك، فعندما تتوب بعد سماع الكلمة، فإن هذه الشجرة تُثمر أثماراً تليق بالتوبة.وكلمة الله هي أيضاً تُنقِّي الشجرة كل يوم. وكل يوم تصلِّي وتُسبِّح وترتِّل وتتهلل، فأنت تسقي الشجرة فتنمو إلى فوق. كلمة الله في العهد الجديد هي الدينونة، وهي التعزية والفرح والتهليل. في العهد القديم: الزانية تُرجم بالحجارة؛ أما في العهد الجديد: فالزانية هي نفسي النجسة عندما أُحضرها أمام المسيح كل يوم، وهو قادر أن يُبرِّرها ويُسامحها ويقويها لكي لا تخطئ. كلمة الله هي المذراة، تنقِّي القمح من التبن. أما الإنسان الذي لا يستنير بكلمة الله، فإن نفسه تفسد وتتعفن كما يتعفن التبن مع القمح عندما يُترك بغير تذرية، فلا يصلح للإنسان قمح، ولا للحيوان تبن! لا التبن ينفع، ولا القمح أيضاً يصلح ولا لمزبلة!! هذا هو الإنسان الذي ليست له دينونة في قلبه. في العهد القديم كانت المكافأة خيرات أرضية، أما الدينونة فكانت رجماً بالحجارة. وفي العهد الجديد فالمكافأة تعزيات روحية بالخيرات السماوية، أما الدينونة بكلمة الله التي تدخل القلب فتحكم على الإنسان. الفأس هي البلطة عند الفلاحين. والبلطة هي كلمة الله. إذا دِنْتَ نفسك، تنتقل من الموت إلى الحياة. ? المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
15 مارس 2021

«انصفني من خصمي»قاضي الظلم(1)

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الثاني من الصوم المقدس (لو 18: 1-8) بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القدَّاس: إنجيل هذا الصباح مُركَّز في آياته عن الأيام الأخيرة، وفي الأصحاح السابق (لو 17: 20-37) يتكلَّم المسيح عن علامات الزمان الأخير. ولذلك قال الرب يسوع في إنجيل هذا الصباح لتلاميذه: «وقال لهم أيضاً مَثَلاً» (لو 18: 1)، وذلك لكي يربط المَثَل بالآيات السابقة له. وفي البولس (رو 1: 18-25)، يتكلَّم بولس الرسول عن الخطية حينما تتفشَّى، «لأن غضب الله مُعْلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم»، وبدأ يذكر بولس الرسول العديد من الخطايا المنتشرة. وفي الكاثوليكون (يهوذا 1-8) يتكلَّم يهوذا الرسول عن «سدوم وعمورة والمدن التي حولهما، إذ زنت على طريقٍ مثلهما، ومضت وراء جسدٍ آخر، جُعِلَت عِبْرَةً مُكابدَةً عقاب نارٍ أبدية». وفي الإبركسيس (أع 4: 36-5: 11) تكلَّم عن شناعة الخطية في قصة حنانيَّا وسَفِّيرة. وإنجيل هذا الصباح يتكلَّم عن أرملة تشكو من ظلم خصمها. ولكن يلزمنا أن نفهم أنَّ الكلام في هذا الإنجيل، وإنْ كان يتكلَّم عن الأيام الأخيرة وضيقات الأيام الأخيرة؛ إلاَّ أنه غير محصور في الأيام الأخيرة، ولكن أيضاً في كل ضيقة يُعانيها المؤمنون، لأن المسيح قال: «في العالم سيكون لكم ضيق» (يو 16: 33). ضيقات الأيام الأخيرة هي الصورة النهائية للضيقات التي سنجوزها في العالم، ولا يمكننا أن نَعبُر هذا العالم إلاَّ من خلال الضيقات.إذن، فكل تصوير يختص بالأيام الأخيرة من جهة الضيقات ومن جهة ضرورة الصلاة، ينطبق على كل يوم وكل لحظة نمرُّ بها ونُعاني فيها من الضيقات. في إنجيل لوقا (17: 20-37) يكشف المسيح عن علامات الزمان الأخير، أنها مثل علامات الطوفان وعلامات سدوم وعمورة: «وكما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الإنسان. كانوا يأكلون ويشربون، ويزوِّجون ويتزوَّجون، إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفُلْك، وجاء الطوفان وأهلك الجميع. كذلك أيضاً كما كان في أيام لوط، كانوا يأكلون ويشربون، ويشترون ويبيعون، ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم، أمطر ناراً وكبريتاً من السماء فأهلك الجميع. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يُظْهَر ابن الإنسان». فعلامات آخر الزمان مترتِّبة على كثرة الخطية.ثم أوضح المسيح قائلاً: «إنه في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر. تكون اثنتان تطحنان معاً، فتؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى. يكون اثنان في الحقل، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر». كلام المسيح هنا مُصوَّب على الفردية. والخطورة هنا أن يختبئ الإنسان في الجماعة، أو يختبئ في الأسرة، أو يختبئ في الكنيسة، دون أن يعمل شيئاً. ولذلك يقول المسيح: «اثنتان تطحنان معاً، فتؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى»، أي واحدة تُختَطَف إلى الملكوت، وأخرى لا يكون نصيبها في الملكوت، هنا الاتجاه مباشر للقلب.وبعد أن وصف المسيح الأيام الأخيرة وعلاماتها، ووصف نصيب الإنسان، «قال لهم أيضاً مَثَلاً في أنه ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُمَلَّ». ولم يربط المسيح الصلاة بالأيام الأخيرة فقط، ولكن كل حين. إذن، موضوع الإنجيل هو ”الصلاة بلا ملل“. لماذا تأتي أزمنة الضيق؟ لابد أن نعلم أنَّ الله غير مُغرَم بالضيق. فالله أوجد جنة عَدْن، ووضع فيها آدم «ليعملها ويحفظها» (تك 2: 15)، وهي جيدة جداً، ولكن لما أخطأ آدم وامرأته فسدت الأرض نفسها. ثم تزايد شر الإنسان حتى جاء الطوفان. وهكذا في سدوم وعمورة، كان لوط يحيا في مدينة جميلة وأرض جيدة، لكن الإنسان أفسدها بشرِّه وخطيته. إذن، عمل الله جيد، ولكن الإنسان هو الذي يُفسده. وعندما تتعاظم الخطية تحلُّ العقوبة مباشرة.وواضح جداً ازدياد معدل الإثم والخطية في العالم الحاضر بصورة يلمسها جميع الناس وعلى جميع المستويات. والجميع الآن يصرخ ويئن من ازدياد الخطية وكثرة الإثم، وليس هذا فقط بل تنوُّعها بصورة لم تحدث قط منذ إنشاء العالم، وبانتشار أشد من الوباء.إذن، نحن نمرُّ في ضيقة عُظمى، ولا نستطيع أن نقول إنها الضيقة الأخيرة؛ ولكن من خلال علاماتها نرى أنها ضيقة مُرعبة، فهي ليست أقل من الضيقة الأخيرة. ولكن هناك تزييف واضح، لأن الخطية مستترة تحت أقنعة وهمية وثياب فاخرة. هذه الأقنعة والأشكال المزيَّفة التي تتخفَّى فيها الخطية هي لكي لا تتعرَّى وتنكشف باسمها الحقيقي، ولكي يصير بنو الإثم في غفلة لا يصحون منها. فصارت لهم عيون ولكنها لا تُبصر، وآذان ولكنها لا تسمع؛ لأنهم يرتضون ويُسرُّون بالخطية ولم يريدوا أن يأتوا إلى الرب، فهم لا يسعون إلى التوبة، ولذلك كما قال بولس الرسول: «لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلُصوا. ولأجل هذا سيُرسل إليهم الله عمل الضلال، حتى يُصدِّقوا الكذب. لكي يُدان جميع الذين لم يُصدِّقوا الحق، بل سُرُّوا بالإثم» (2تس 2: 12،11). مَن هي هذه ”الأرملة“ التي تصرخ أمام قاضي الظلم؟ هذه الأرملة تُمثِّل ”الكنيسة“. كنيسة آخر الأيام التي فقدت عريسها، وانغمست في أمور هذا العالم؛ ولذلك تغرَّبت عن عريسها، وعريسها تغرَّب عنها. أصبحت أرملة عندما أخفقت في المتاجرة في الوزنات أي في الروحيات، واضطرت أن تُتاجر في الماديات، تتاجر في مال الظلم، وتتَّكل على مال الظلم. وحينئذ لِمَن تذهب؟ إلى قاضي الظلم لكي ينصفها! اسمعوا كيف يقول الرب في وصفه للكنيسة في العهد القديم: «كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب؟ كيف صارت كأرملة العظيمة في الأمم. السيدة في البلدان صارت تحت الجزية (جزية الخطيئة)، تبكي في الليل بكاءً ودموعها على خدَّيها (لا يرى الدموع إلاَّ أتقياء الله والمفروزين). ليس لها معزٍّ من كل مُحبيها. كل أصحابها غدروا بها، صاروا لها أعداءً» (مراثي إرميا 1: 1-2). ثم مَن هي الأرملة أيضاً؟ هي نفسي أنا ونفسك أنت، التي تغرَّبت عن عريسها كأرملة تصرخ وليس مِن مُجيب. هذه هي أرملة آخر الزمان أيضاً. النفس البشرية تعرَّت، ولكن إذا أفاقت النفس من غفوتها حينئذ سترى حقيقة هذا الكلام بالفعل. وعدو كل برٍّ قد عرَّاها من ثوب النعمة. وعندما عرَّاها من ثوب النعمة، أطلق عليها كلاب الشهوة، بعدما سرق الثوب! فصارت الشهوة تعمل فيها وبقسوة.ولكن، عندما تصرخ النفس متأوِّهة، مثل الأرملة أمام قاضي الظلم، يقول الرب: «أَفلا ينصف الله مختاريه، الصارخين إليه نهاراً وليلاً، وهو متمهِّلٌ عليهم؟ أقول لكم: إنه يُنصفهم سريعاً».فالرب يسمع للصارخين إليه نهاراً وليلاً، يسمع لمختاريه، يسمع للذين تابوا، للذين «غسَّلوا ثيابهم وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف» (رؤ 7: 14)، للذين سهروا وذرفوا الدموع، وسكبوا البكاء المتواصل، وقدَّموا الأصوام والصلوات.مَن هم المختارون؟ هم الصارخون إلى الرب نهاراً وليلاً!ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 يناير 2022

عيد الغطاس رؤية وشهادة

يوحنا المعمدان لم يكن يعرف المسيح، مع أنه سمع عنه كثيراً، وقد راجع بتؤدة في عزلته الطويلة في البرية كل ما قاله الأنبياء عن المسيَّا، ولكن لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً! لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله. وبينما يوحنا يصلِّي وهو في حيرته كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟ سمع صوت الله يرن في أُذنيه: اذهب إلى بيت عبرة عبر الأردن وهناك اِكرز وعمِّد بالماء للتوبة، لأنه من خلال المعمودية سيظهر المسيح لإسرائيل. فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس!! + «وأنا لم أكن أعرفه ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء ... وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس.» (يو 1: 31 - 33) ترك يوحنا عزلته الطويلة في البراري وترك معها كل الوسائل الشخصية التي جاهد أن يكتشف بها المسيَّا، وانطلق يكرز ويعمِّد، بكل غيرة وحماس، مئات وأُلوف؛ وفي قلبه لهفة أشد ما تكون اللهفة أن يرى العلامة، فكان يترقَّب رؤية الروح القدس في كل لحظة، وهو نازل من السماء ليعلن المسيَّا. وكان قلبه يخفق بشدَّة، لعل يكون أيُّ آتٍ إليه هو المسيَّا! سر ظهور المسيح واستعلانه ليوحنا المعمدان: هذه الصورة المبدعة التي يرسمها إنجيل القديس يوحنا لبدء خدمة المعمدان وظهور المسيَّا تحمل في الواقع أسراراً عميقة، فالإنجيل ينبِّه ذهننا بشدَّة: أولاً: أن ظهور المسيح في ذاته واستعلانه عموماً يستحيل أن يتم بالاجتهاد أو الترقُّب، إنما يتم فقط بتدبير الله من خلال معمودية الماء للتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء»، حيث التركيز في معمودية الماء يقع على التوبة «واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.» (مت 3: 6) ثانياً: أن معرفة المسيح شخصيًّا يستحيل أن تتم إلا بواسطة الروح القدس! الروح لم يره أحد وهو نازل من السماء غير يوحنا المعمدان، الرؤية هنا خاصة، انفتاح ذهني لإدراك ما لا يُدرَك واستعلان شخص المخلِّص والفادي «وأنا لم أكن أعرفه ... ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو ...». لأنه إن كنا حقًّا نعيش الغطاس ونعيِّد للغطاس، أي نعيِّد للظهور الإلهي، أي ظهور الابن بالآب والروح القدس معاً، ونعيِّد ليوحنا الرائي والشاهد والمعمِّد، فيتحتَّم أن يكون عندنا يقين هذا الاستعلان، أي المعرفة بابن الله، المعرفة القائمة على يقين الرؤيا والشهادة، أي بالروح القدس والآب! أو كما يقول إشعياء النبي: «عيناً لعين»!! واصفاً ذلك اليوم يوم استعلان المسيح للإنسان إن على الأردن (الغطاس) أو في جرن المعمودية (الإيمان بالمسيح)، هكذا: «صوت مراقبيك، يرفعون صوتهم يترنَّمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون.» (إش 52: 8) «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»: هذه أقوى شهادة سمعتها البشرية من نحو المسيح، لاحظ أن المسيح لم يكن قد بدأ خدمته الجهارية وإجراء آياته ومعجزاته، بل لم يبدأ بعد في الإعلان عن نفسه وعن علاقته بالآب، بل لاحظ أن يوحنا لم يكن يعرف شيئاً عن الصليب والقيامة! فإن كانت شهادة يوحنا بلغت هذا اليقين، وهو لم يتعرَّف بعد على سر الخلاص بذبيحة الصليب وسر التبرير بالقيامة، فكم ينبغي أن يكون يقين شهادتنا نحن وقد أدركنا هذا كله؟ ولكن ما هو إذن سر عجز شهادتنا وضمور معرفتنا للمسيح؟ أليس واضحاً كل الوضوح من حوادث عيد الغطاس، أن ذلك بسبب عدم انتباهنا لدور الروح القدس في فتح الذهن لكشف أسرار الله أمام المعرفة لإدراك حقيقة المسيح لبلوغ يقين الشهادة؟ ولكن لا يزال إنجيل عيد الغطاس يحتجز سرًّا هاماً وخطيراً في هذا الأمر. فالله اشترط على يوحنا المعمدان أن المسيح سيظل مجهولاً عنده، إلى أن يرى الروح نازلاً ومستقرًّا عليه!! هنا دور الروح القدس ليس مجرَّد علامة تشير إلى المسيح؛ بل هو وسيط معرفة، وسيط انفتاح ذهن. الروح القدس أعطى ذهن يوحنا المعمدان قدرة رؤيوية عالية جدًّا، أعلى من درجة النبوَّة التي عاش بها في البراري. لقد سمع المعمدان مراراً كثيرة صوت الله في قلبه من جهة حياته ورسالته التي جاء ليتممها أمام وجه الرب «الذي أرسلني لأعمِّد بالماء، ذاك قال لي». ولكن لم تنفتح عينا ذهنه لمعرفة مَنْ هو المسيح - مع أنه قريبه بالجسد - إلا بنزول الروح القدس! يقين الرؤيا: إن رؤية الأشياء والأشخاص والتعرُّف عليهم عن قرب، يؤدِّي إلى يقينية عقلية، فالعين والأذن مع بقية الحواس توصِّلان إلى المخ صورة متكاملة عن الشيء أو عن الشخص يفهمها العقل، ويختزنها، ويحولها إلى معرفة وإدراك بيقين عقلي هو أشد ما يملكه الإنسان من مفهوم اليقينية! ولكن هناك يقينية أخرى موهوبة للإنسان أعمق جدًّا، وهي أعظم تأثيراً وأكثر شمولاً لمواهب الإنسان وكيانه، ينفتح عليها الإنسان كموهبة إلهامية باطنية في القلب، يدرك بها كل شيء وكل الناس وكل الخليقة، فوق إدراكات العقل والحواس وأعمق بما لا يُقاس، يدرك ما فيها وما لها من حقيقة ومدى ارتباطها السرِّي بالله وبنفسه وكل الكون المنظور وغير المنظور. هذه الموهبة الفائقة على العقل والحواس هي عطية من الله مغروسة في صميم طبيعة الإنسان، وقد يحوزها الحكماء والفلاسفة حتى غير المتدينين وغير المؤمنين بالمسيح. هذه الموهبة أُعطي أن يوجهها الروح القدس ويستخدمها في كشف أسرار الله نفسه والتعرف عليه!! «الروح يفحص كل شيء (في قلب الإنسان ووعيه الروحي) حتى أعماق الله!!» (1كو 2: 10) فإذا حل الروح القدس في إنسان أو انسكب في ذهنه وأناره، كما استنير ذهن يوحنا المعمدان، يعمل في الحال بهذه الموهبة الفائقة التي في طبيعة الإنسان، فينفتح الذهن على أسرار الله، وبالتالي على المسيح بصفته الوسيط الوحيد بين الله والناس، والحامل همَّ البشرية والضامن خلاصها وتجديدها ورفعها إلى حضن الآب. وما قاله يوحنا المعمدان بعد هذه الرؤيا مباشرة عن المسيح مشيراً إليه: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وكأنه يرى مستقبل الخلاص كله والصليب والذبح والموت والقيامة في ومضة خاطفة؛ هذا يوضِّح مدى انفتاح الذهن ساعة حلول الروح القدس، ومدى قدرة الروح القدس في الانطلاق ببصيرة الإنسان لرؤية فائقة شاملة لكل سر الله لمستقبل خلاصنا!! هذه هي يقينية الرؤيا في حضرة الروح القدس وبتوسُّطه، التي لا يقف عند حد حتى أعماق الله، لا يحجزها حاجز لا من الزمان ولا من عجز الإنسان! وبهذا تكون خبرة البشرية بيقينية الرؤيا الممتدة في الله. وكل مستقبل الخلاص، والتي نالتها في يوم عماد المسيح حيث انفتحت البصيرة الإنسانية - ممثَّلة في يوحنا المعمدان - ساعة حلول الروح القدس على المسيح وقت العماد لتكشف أعماق سر الخلاص المكتوم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وتتقابل وجهاً لوجه، بل «عيناً لعين» - كما يقول إشعياء - مع الله الآتي إلينا في المسيح وتشهد له في جرأة: «هذا هو ابن الله»؛ هذه الخبرة التي نالتها البشرية وهي على عتبة العهد الجديد تُعتبر من أثمن ذخائر الكنيسة التي نالتها بحلول الروح القدس على المسيح، فأعطت سر العماد أهميته الفائقة كباب حي فعَّال دخلت منه البشرية في سر الله، حيث رأت خلاصها رؤيا اليقين والشهادة حتى وقبل أن يبدأ أو يتم! ومن هنا صار عيد الغطاس يحمل لنا أول حركة حيَّة من الروح القدس في صميم جسم الكنيسة، أول رعشة أصابت العظام الميتة أصابت يوحنا المعمدان، فانتقلت كخبرة للكنيسة كلها ولا تزال، حيث انتقلت في الحال من يقينية الرؤيا إلى يقينية الحركة، لأن كل رؤية يقينية بالروح القدس هي معرفة الحق، وأما كل شهادة يقينية فهي حركة بالحق! والاثنان فعلان صميميان من أفعال الروح القدس! «الروح القدس يرشدكم إلى جميع الحق»، «الروح القدس يشهد لي.» (يو 15: 26) أي أن استعلان المسيح العام يتم بالمعمودية، بالاعتراف بالخطايا والتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل لذلك جئت أُعمِّد بالماء». أما استعلان المسيح الخاص، أي معرفته معرفة شخصية، فهذا يتم بالروح القدس. يوحنا لم يعتمد بالروح القدس، ولكنه أخذ من رؤية الروح القدس وهو نازل مستقراً على المسيح، نال تعميداً ذهنيًّا تعرَّف به في الحال على الرب. ومع الرؤية الذهنية كانت الرؤية السمعية، لقد انفتحت أذن يوحنا لسماع صوت الله نفسه يشهد لابنه مُعلناً ليوحنا أعظم سر أدركته البشرية، سر علاقة الآب بالابن وعلاقة الحب بينهما، العلاقة التي كانت مخفية عن إدراك كل بني الإنسان واستُعلِنت أول ما استُعلِنت ليوحنا، لبدء الكرازة. + «وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقَّت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السموات أنتَ ابني الحبيب الذي به سررت.» (مر 1: 10 و11) هنا يكشف الإنجيل عن كيف تعرَّف المعمدان ليس فقط على المسيَّا، بل على مَنْ هو المسيَّا: أنت ابني الحبيب!! لذلك يعلن يوحنا المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1: 34) إعلان يوحنا هذا الذي سلّمه للبشرية بالإنجيل نقله إلينا كشهادة عيان وسلَّمه لنا كمن رأى وسمع، رأى الروح رؤيا العين، وسمع صوت الله سماع الأذن بيقين روحي أعمق ألف مرة من اليقين الحسي، لهذا شهد، وشهد بيقين الرؤيا: «وأنا قد رأيت وشهدت». هذا هو عيد أول رؤيا للروح القدس! وهو عيد أول شهادة إنسان للمسيح تمت بالروح القدس، أنه ابن الله. والروح القدس بنزوله من السماء مهَّد في الحال في قلب يوحنا لسماع صوت الآب بوضوح. شهادة المعمدان للمسيح تمَّت بالروح القدس والآب. عيد الغطاس هو في حقيقته عيد الشهادة للمسيح، بالنسبة للكنيسة وبالنسبة لكل نفس تسعى لإدراك المسيح «أنا لم أكن أعرفه». «أنا لم أكن أعرفه»: هذا هو حال يوحنا المعمدان الذي دُعي نبيًّا للعلي من بطن أمه، وتعيَّن أن يتقدَّم أمام وجه الرب ليُعدَّ طرقه بل ويعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا. بينما ظل هو في أشد الشوق لمعرفته، وهذا في الحقيقة هو حالنا نحن، دعينا للخلاص والكرازة بالخلاص بل والشهادة للمسيح ابن الله، ولا نزال في أشد الحاجة إلى معرفته. وإن كنا نشهد فشهادتنا بالكلمة ينقصها يقين المعرفة: «وأنا رأيت وشهدت»!! وكأنما نعيش قبل عيد الغطاس! يقين الشهادة: كانت شهوة المعمدان أن يتعرَّف على المسيح، ولكن بمجرَّد حصوله على ”معرفة المسيح“ انطلق يشهد له في الحال أمام الكهنة واللاويين «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»، «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدَّامي ... الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه ... الذي يعمد بالروح القدس.» (يو 1: 30 و27 و33) هنا يوحنا يلغي نفسه تماماً، فالذي يحل سيور الحذاء في البيت اليهودي هو العبد المشتَرَى!! ثم إن كان المسيح الذي ينادي به هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فيوحنا بهذه الشهادة يصفِّي عمله ورسالته، بل وينهي على كل خدمته، وهو يؤكِّد ذلك بنفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 3: 30) هذا إن كانت المعرفة من الروح القدس حقًّا، لأن عمل الروح الأساسي هو الشهادة للمسيح . لذلك فإن معرفة المسيح إن كانت بالروح القدس فهي طاقة حركة لا يمكن أن تنحبس، بل لابد أن تُستعلن كالنور وتنتقل من إنسان لإنسان: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.» (مر 16: 15) شخص المسيح، عن قرب، جذاب للغاية، معرفته تأسر القلب، وتسبي الروح، وبحلول الروح القدس تصبح حضرة المسيح مالئة لكل كيان الإنسان؛ لأن الروح يأخذ ما للمسيح ويعطينا، فلا يعود الإنسان يشعر بحاجة إلى ذاته أو أن يكون له كيان منفصل أو عمل أو وجود أو أمل ذاتي: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص». هنا تفريغ وملء. معرفة المسيح تفرِّغنا من ذواتنا وتملأنا بالمسيح نفسه بالحق، بالحياة، بالقيامة، بالسلام الفائق للعقل. هذا يضطلع به الروح القدس حتى يمتلئ الإنسان بكل ملء الله، كما يقول الكتاب (أف 3: 19). وفي موضع آخر يقول: «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «وأنتم مملوؤون فيه.» (كو 3: 20) هذا التفريغ من الذات والملء بالمسيح هو الذي يُـخرج الإنسان عن كيانه وعن مكانه، فيطلقه ليبشِّر بلا حدود وبلا قيود، حتى إلى الموت يبشِّر ويشهد بما رأى «وأنا رأيت وشهدت». يستحيل على إنسان تعرَّف على المسيح حقًّا وذاق ونظر طيب الرب، أن يسكت أو أن يستطيع أحد أن يكتم صوته. المسيح عبَّر عنها أنها «مناداة من على السطوح» (مت 10: 27)، والمعمدان عرف ذلك وكان يمارسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (مر 1: 3)! لأن التعبير عن مقدار الأثر والتعلُّق الذي يتغلغل كيان الإنسان الذي انفتح ذهنه بالروح القدس على المسيح، لا يمكن أن تشرحه كلمات بسهولة. الكلام مهما كان بليغاً ورصيناً يظل عاجزاً عن تصوير عذوبة ومحبة وعمق شخص ابن الله. تأثير السيرة على الشهادة: ولكن الشهادة للمسيح تبلغ حد يقينيتها الأعلى، عندما تزكيها سيرة الإنسان نفسه. إن شهادة المسيح ليوحنا المعمدان توضِّح سر نجاح المعمدان الفائق الوصف في التعرُّف على المسيح والشهادة له وسط ظلام الأجيال وعمى الرؤساء والحكماء والعلماء: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحرِّكها الريح (ثبات مبادئ يوحنا)؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ إنسان لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك (خشونة حياة يوحنا وتقشُّفه ونسكه في البراري). لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي! (روح وسيرة يوحنا المعمدان فاقت مستوى جميع الآباء والأنبياء) الحق الحق أقول لكم: إنه لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (الوحيد الذي امتلأ بالروح القدس وهو في بطن أُمه!)» (مت 11: 7 - 9 و11)، وهذا رد ضمني على الذين يعترضون على قيمة المعمودية في الطفولة. والسؤال هنا هو: هل ألغى العهد الجديد عظمة يوحنا وتكريم المسيح له بهذه الشهادة المفرحة جدًّا لنفوسنا؟؟ في الحقيقة ما كتبه الإنجيليون عن يوحنا يمكن تلخيصه في كلمتين: نصرة بالروح، وقوَّة بالروح، وطاعة بلا لوم، وهذه هي العلامة السريَّة لكل ممتلئ بالروح القدس!! إن حياة يوحنا الداخلية وسيرته طابقت متطلبات الشهادة للمسيح تطابقاً فائق الدقة والوصف، لذلك جاءت شهادته بيقين فائق شهد لها الإنجيل!! «يوحنا شهد له.» (يو 1: 15) إن الشهادة للمسيح، لكي ترتفع إلى درجة اليقينية كيقينية شهادة المعمدان تحتاج إلى متطلبات عميقة داخلية مقدَّسة يستحيل استيفاؤها إلا بالملء من الروح القدس!! هذا هو يوحنا المعمدان والمسيح المنحني تحت يده، وهذا هو عيد الغطاس الأول بأعماقه وجذوره الضاربة في أساس الكنيسة وميراثها من جهة الشهادة للمسيح عن رؤيا واستعلان وامتلاء بالروح: «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله». رؤيتنا وشهادتنا: والآن نقلة ختامية من الأردن ويوحنا والمسيح المنحني تحت يد المعمدان إلى واقعنا الكنسي والفردي: أين عيد الغطاس منا؟ ما هي رؤيتنا؟ وما هي شهادتنا؟ نحن لا نتكلَّم عن الرؤى والأحلام، لأن الحكم فيها وعليها من أصعب الأمور بسبب عوامل التزييف الذي يقوم به اللاشعور في تصوير المناظر والأحلام حسب هوى الذات المريضة، هذا بالإضافة إلى عدم نفعها لا بالكثير ولا بالقليل من حيث تغيير السلوك. ولكننا نتكلَّم من جهة رؤيا القلب في يقين الوعي والإرادة، أي النظر الروحي الواعي والدائم للتعرُّف على شخص المسيح كمخلِّص وكفادٍ، في تأمل، في صلاة، في مناجاة، في حب لا تشوبه المنافع الشخصية، أو التنافس، أو الحسد والغرور، أو طلب المجد والمديح والظهور. ثم هل سماؤنا مفتوحة؟ أو بمعنى آخر هل حصولنا على العون الإلهي من الأعالي هو طلبنا الأول والأخير وهو إلحاحنا الذي ننام فيه ونستيقظ به؟ «رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب الذي صنع السماء والأرض.» (مز 120: 1 و2) إن كان هذا رجاؤنا وإلحاحنا وشوقنا وقلقنا، فالروح القدس يسبق ويمهِّد ويُعدُّ القلوب والرؤوس، لأنه لا ينسكب إلا على الرؤوس المنحنية والقلوب التي برَّح بها الحنين، رؤساء ومرؤوسين، فيفك العقول والقلوب من أسر الذات، ويطلق الألسنة من سجن الخطية، يطلقها بالتسبيح والتهليل والشهادة للمسيح بملء الفم والقلب وصحو العقل واليقين وقوة لا تعاند، والعلامة دائماً أبداً أن «المساكين يُبشَّرون.» (لو 7: 22) وإن السماء التي انفتحت لعين المعمدان وقلبه، وسماع صوت الآب، ورؤية الروح القدس نازلاً، بنوع من الاستثناء الذي تجاوز كل خبرات الماضي بكل أمجادها، قد صار هذا لنا حقًّا مشروعاً وميراثاً دائماً، ضمنه المسيح بوعد ثابت لا يمكن الرجوع فيه: «من الآن ترون السماء مفتوحة» (يو 1: 51) وهذا هو تحقيقها: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله» (أع 7: 56). ولماذا كان لنا نحن أيضاً هذا الوعد الذي تحقَّق لإستفانوس الشهيد بالعيان، ولماذا هذا الامتياز الفائق بهذه الرؤيا الدائمة: «من الآن»، إلا لكي نرى ما رأى يوحنا فتدخل شهادتنا منطقة اليقين! «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 ديسمبر 2020

ميلاد المسيح وميلاد الإنسان

وُلِدَ المسيح من روح الله القدوس، ومن عذراء لم تعرف رجلاً تُدعى مريم، فكان ميلاداً إلهيّاً، لم يحدث له نظير قط لا من قبل ولا من بعد! سبق أن تحدَّثَتْ عن هذا الميلاد الأسفار المقدَّسة، وجميع الأنبياء تنبَّأوا عنه بآياتٍ كثيرة، وكانت الحوادث كلها تتَّجه نحوه، وتنتهي إليه، حتى الزمن قيل إنه سيبلغ مِلأَه يوم مجيئه، وقد كان، فبُدئ بالتاريخ جديداً منذ الميلاد. وهكذا لم يكن المسيح نبيّاً ليتنبَّأ عن مجيء أحد آخر، ولا رسولاً ينتهي عند تكميل رسالته، بل كان هو «كلمة الله» صار جسداً، صائراً في صورة الناس آخِذاً شكل العبد! (في 2: 7)، وعاش كإنسان بين الناس، ودَعا نفسه «ابن الإنسان». ولكنه كان ذا مجدٍ إلهي، رآه أخصَّاؤه رؤيا العيان مجداً فريداً «مجداً كما لوحيدٍ من الآب» (يو 1: 14). وهو قال عن نفسه: إن الله أبوه (يو 5: 18). والله ناداه من السماء على مسمعٍ من تلاميذه: «هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا» (مر 9: 7). ولكنه وَضَعَ نفسه كالعبد، اختياراً، باتضاعٍ عجيب ومُذهل، حتى يرفع كل العبيد إلى درجة بنوَّته!! «لا أعود أُسمِّيكم عبيداً... لكني قد سمَّيتكم أحبَّاءَ لأني أَعْلَمتُكم بكلِّ ما سمعته من أبي» (يو 15: 15)، وأخلى نفسه قدر ما أمكنه من كلِّ مجدٍ ظاهر حتى يتفرَّغ لشركة الآلام مع الناس، هذه الآلام التي وُلد خصيصاً لكي يحملها عنهم كاملة، ليرفع لعنتها عن بني الإنسان، ويُتوِّجها في النهاية بموتٍ اختياري، قَبِلَه كقضاء دين وحُكْم تأديب، عن كلِّ خطاة الأرض، ليهبهم بموته براءة. وهكذا لم يَعُد الموت للإنسان قضاء دَيْنٍ وحُكْمَ تأديب عن خطية وعن إثم وتعدٍّ، بل حُكْم براءة وكفَّارة! وقام المسيح من بين الأموات بمجد وجلال ومشيئة سبق أن أعلن عنها، فأَعطى للإنسان بالقيامة قوَّة الغلبة على الموت، وطبيعة الحياة الجديدة الممتدَّة مع الله بعد الموت وإلى الأبد، يستمدُّها الإنسان من المسيح وبروح الله منذ الآن كعربون لِمَا هو آتٍ. فأصبحنا، ونحن الآن في قيامة المسيح، لا يمنعنا الموت عن البقاء في حياةٍ مع الله لا تزول. هكذا احتضن المسيح العالم كله بآلامه وموته وقيامته، فوَهَبَ الإنسان ميلاداً جديداً في ميلاده، وآلاماً شافية بآلامه، وموتاً بموته، وقيامة مُبرَّرة لحياةٍ أخرى أبدية. أو بمعنى آخر، فإنَّ المسيح جعل الإنسان خليقةً جديدة روحية بعد أن كانت خليقةً ترابية وحسب. وصارت حياة الإنسان مُمتدَّة في الله إلى مالان‍هاية. وبالتالي، لم يَعُد تراب الأرض أو الجنس أو اللون أو العنصر الذي ينحدر منه الإنسان، سبب فخر أو علَّة عار فيما بعد! فالإنسان، كل إنسان، قد تجنَّس بالمسيح، وبالتالي بالله في المسيح!! ولم تَعُد المرأة من دون الرجل، ولا العبد من دون الحُر، ولا الفقير من دون الغَني، ولا الجاهل من دون الحكيم، لا كأن‍ها حقوق إنسان تؤخذ بالمنطق أو تؤخذ غِلاباً؛ بل هي عطية الله للإنسان بميلاد المسيح، إذ رَفَع البشرية فيه إلى درجة بنوَّته، فصار الكل أبناء الله يُدْعَوْن!! والبنون متساوون في كلِّ شيء. لقد وُلِدَ الإنسان جديداً يوم ميلاد المسيح، لميراث أبوي محفوظ له في السموات، لفرح لن يُن‍زع منه، ومجد لا يُنطَق به. هو عطاءٌ مجَّاني للإنسان الذي شبع شقاءً عَبْر الدهور، فكما كان ميلاد المسيح أعظم هبات الله للإنسان، هكذا صار لنا هذا الميراث معه في السماء كعطية مجَّانية، كالشمس والهواء للخليقة الترابية، فمَنْ ذا يشتري الشمس أو مَنْ ذا يبيع الهواء؟ هكذا الله في المسيح لا يبيع برَّه بثمن، ولا قيامته ولا ميراثه في المجد. كل مَنْ يسأل يأخذ، ومَنْ يطلب يجد، ومَنْ يقرع يُفتَح له (لو 11: 10). بل وأكثر من ذلك، فإنه يسبقنا إلى باب السؤال عينه: «هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إنْ سَمِعَ أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي» (رؤ 3: 20). إن بنويَّة الله للإنسان قد صارت مَشاعاً على وجه الأرض كلها لكل بني الإنسان، في ميلاد المسيح! + ( + البشرية لم تستوعب ميلاد المسيح بعد، بمعناه الـ ”فوق بشري“، لأن عقلها صار لها فخّاً وعثرة، غير أن‍ها تسير وتتحرَّك نحو هذا الميلاد بحركة تفوق وعيها. فالبشرية يشدُّها إلى أعلى صوتٌ مُبهَم يُقلقها من الداخل ويضطرم فيها اضطراماً، تُعبِّر عنه بمفهومات تنطقها دون أن تكتشف بعد مصدرها العلوي، وتُخرجها كصيحات ترتفع من كل أقطار الأرض معاً وفي نَفَسٍ واحد. فالكل يُنادي بضرورة وحتمية السلام، سلام على مستوى العالم كله!! وحقوق الإنسان لكل إنسان!! وحرية الشعوب، والرأي، والتعبير، والعبادة، وحق تقرير المصير، وعدم الانحياز، ورفع الفوارق بين الطبقات والحياة الأفضل. هذه ليست مجرَّد شعارات، كما يظنُّها رَجُل السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الدِّين، ولكنها خصائص الإنسان الجديد الذي يتعطَّش إليها، لأن‍ها وُهِبَت له لتكون جزءاً حيّاً من كيانه وطبيعته العُليا الجديدة، بدون‍ها كأنَّ الإنسان في شِبْه نوم يجلس في الظلمة وظلال الموت مُذَلاًّ بقيود كأن‍ها من حديد، حتى أشرق عليه نور الله يوم ميلاد المسيح: «أنا هو نور العالم، مَنْ يتبعني فلا يمشي في الظلمة» (يو 8: 12). لأن في المسيح تنازَل الله إلى أعماق كيان الإنسان وأضاء بحبِّه وقداسته كلَّ ظلام طبيعته، وبدَّد كلَّ أحزانه، وقطع كلَّ قيوده وأوهامه، وأعطاه كلَّ ما يتناسب والحياة الأفضل، ونعمة فوق نعمة (يو 1: 16)؛ كل خصائص الإنسان الجديد. وطالما شعر الإنسان أنه فاقدٌ لهذه الصفات، فسيظل حائراً قلقاً، بل ثائراً مُتمرِّداً على كلِّ وضع، لا يفتأ يطلبها بإلحاح ويُحطِّم في سبيلها كلَّ القيود، لأن‍ها روحه الجديدة التي لن يستطعم للحياة بدون‍ها أي معنى. وإن كانت هذه الخصائص التي يُنادَى بها الآن تبدو كأن‍ها مجرَّد حقوق أو أصالة إنسانية أو حق وطني أو تقدُّم حضاري أو افتخار بشري، إلا أنها في حقيقتها تظل تعبِّر تعبيراً خفياً عن امتداد روح الإنسان الجديد نحو الله، والتهيُّؤ المناسب للتلاقي معه على مستوى ميلاد المسيح! المسيح وُلِدَ بجسد من روح الله ومن عذراء؛ جسد إلهي هو، مقدَّس، ممتد، لا حدود له، يشمل البشرية كلها بالتبنِّي؛ فقد قيل في الكتاب إن المسيح هو ”آدم الثاني“، رأس البشرية الجديدة، كل مَنْ قَبِلَه واعتمد باسمه، يولَد له بالروح ويصير ابناً لله فيه! المسيح، إذن، هو رأس البشرية الجديدة بالتبنِّي! لذلك يقول الكتاب: إنه «آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد» (عب 2: 10). هؤلاء في حقيقتهم الروحية هُم جسده الكبير الممتد ليُغطِّي كل أجيال الدهور في السماء والأرض. يقول بولس الرسول عنهم وعنه هكذا: «ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات وما على الأرض، في ذاك» (أف 1: 10). ولكن المسيح لم يبلغ بعد إلى ملء قامته في الإنسان! لأن البشرية لم تبلغ بعد ملء قامتها في المسيح. البشرية إلى الآن تنمو فيه مجرَّد نموٍّ، ولكن لم تكتمل صورت‍ها النهائية لتُطابق صورة المسيح. المسيح بدأ يتصوَّر في الشعارات فقط، وكأن البشرية ”تتوحَّم“ بصورة جنينها الجديد، ولكنها في نفس الوقت تتقيَّأ، وباستمرار، تراثها الميت الذي عافته. فهي الآن في توتُّر بلغ أقصاه: حروب، نزاعات، مجاعات، عداوة، خصام، تحزُّب، تكتُّل، تحدٍّ، حرمان، تجويع، فقر، إباحية، ثورة على التقليد والعفة والروتين والدِّين، وعلى الله نفسه. لماذا هذا التقيُّؤ كله؟ نعم، لماذا هذا كله معاً وفي جيلٍ واحد؟ أليس هذا لأن البشرية تجوز الآن مخاضها الأخير؟ إن‍ها تصرخ متوجعة: «لأن الأجنَّة دَنَت إلى المولد، ولا قوة على الولادة!» (إش 37: 3) البشرية تصرخ بشعارات‍ها الجديدة وكأن‍ها ت‍هذي: سلام عالمي، سلام سلام وليس سلام! مؤتمرات كل يوم في كـل مكان وبلا هدوء، ما هذا؟ البشرية تريد أن تتغيَّر عن شكلها، ولكن لا يسعفها ميراثها التقليدي، سياسياً كان أو اجتماعياً أو اقتصاديّاً أو حتى الدِّيني!! لأن كل ميراثها أصبح يعوزه الروح. لقد تعفَّن القديم كله وأنتن، وقارَبَ على الاضمحلال، وأصبح لا يُشبِع البشرية ولا يُغنِي عن جوع، وليس أمل، في الواقع، إلاَّ في ميلادٍ جديد لبشرية جديدة تولَد من الروح!! هذه هي الحياة الفُضلَى! ولا يمكن أن تكون حياة أفضل من حياة إلاَّ بمقدار عمل الروح، روح الله في التجديد. فالسياسة يعوزها الروح، والاجتماع والاقتصاد والدِّين وكل ضوابط البشرية، إذا لم يضبطها الله بروحه عاملاً في عمق كيان الإنسان بتجديدٍ يشمل الفكر والضمير العالمي، لأَخَويَّة على الأرض تستمدُّ روحها وأصالتها من بنويَّة واحدة لله؛ فسيظلُّ الإنسان يتقيَّأ نفسه. وأي شعار مهما أتقنه ونفَّذه، إنْ هو كان خالياً من روح الإنسان الجديد، أي من عمق معنى التبنِّي؛ فسيخرج هذا الشعار سَقْطاً ميتاً. فالسياسة، مهما ارتقت، إنْ هي لم تَرَ في جميع الأجناس والألوان والشعوب والأوطان أبناءً متساوين لله الواحد، لهم حقوق متساوية في أرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة، فهي سياسة أرضية ميتة وسَقْط ممسوخ متكرر لتقليد ترابي عافَه الإنسان جدّاً وتقيَّأه، وأصبح لا يطيق أن يسمع عنه أو يقرأ له! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
12 يناير 2021

تأملات في التجسُّد والميلاد

«هذا يكون عظيماً، وابنَ العليِّ يُدعَى، ويُعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لمُلْكه نهاية» (لو 1: 33،32).هنا الملاك المبشِّر يُعطي ملامح يسوع المسيح. ولينتبه القارئ، فأُفق الملاك في المعرفة محدود للغاية، وهو يُعطي أوصاف المسيح على مستوى ملائكي فيقول إنه: «يكون عظيماً»، حيث العظمة عظمة ملائكية سمائية تنتهي بالدرجات العظمى، أي أنه سيكون أعظم من الملائكة. ثم يستدرك ويصف علاقته بالله فيُعطيه درجة ابن العليِّ وهو وصف يفوق قدرة ملاك، لأن الملائكة محسوبون أنهم خُلقوا ليخدموا الخلاص للعتيدين أن يرثوه، ولكن الملاك هنا يكشف أول أسرار الابن التي لم يسبق أن سمع بها ملاك أو بشر. فابن العليِّ عليٌّ هو، وأعلى من كل صفوف الملائكة ورؤساء الملائكة. ثم يدخل الملاك في خصائص ابن العليِّ فيصف مُلْكه الكلِّي والأبدي على بيت إسرائيل، ثم يعود ويصف مدى انتشار واتساع مُلْكه الأبدي أن لا نهايةَ زمنيةً له، بمعنى أنه فائق على زمن البشر الذي له نهاية، فمُلْك ابن العليِّ لا نهاية له، لا نهاية زمانية ولا مكانية، أي أنه يملأ السماء ويملأ الأرض، لا حدود له ويصف الملاك أيضاً مستوى تملُّك ابن العليِّ على كرسي داود، باعتبار أن المسيح ابن العليِّ سيكون سليل داود، أي يرث مُلْك داود كوريث شرعي، وهنا يُلمِّح الملاك إلى جنسية ابن العليّ أنه بشريٌّ هو، وهنا يُقْرِن الملاك لاهوت ابن العليِّ بناسوت ميراث داود. وهذا يُعتبر أول استعلان للابن المتجسِّد أنه ابن العليِّ وابن الإنسان معاً، الأمر الذي يشير إلى نوع ملوكيته: إنه وسيط قادر بين العليِّ وبين البشر. فهنا يتحتَّم أن تكون ملوكية ابن العليِّ سماوية وأرضية معاً، تحمل كل ما لله وكل ما للبشر. حيث تصبح المصالحة بين الله والإنسان على مستوى إلهي وملكي، يخدم هذه المصالحة ابنُ العليِّ إلى أبد الآبدين، حيث تضم هذه المصالحة كل أجيال الإنسان، فهي مصالحة أبدية قادرة على التكميل الكامل.لهذا تُعتبر بشارة الملاك المبشِّر للقديسة العذراء مريم سجلاًّ مختصراً وكاملاً لعمل ابن العليِّ المولود من العذراء مريم ومستواه الإلهي الملكي.وبذلك يكون ابن العليِّ، أي الرب يسوع المسيح، صاحب مملكتين: ملكوت السماء، ومملكة الإنسان، بــآنٍ واحد. وهنا نجد الإشارة واضحة لعمل ابـن العليِّ، أن ينقل الإنسان من مملكة الإنسان ليُدخله في ملكوت السموات. وفي هذا كانت مسرَّة الآب ومنتهى مسرَّة الإنسان معاً. وظلَّت هذه المسرَّة مرافقة لابن العليِّ حتى إلى الصليب، فقيل إنه: «من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب» (عب 12: 2)، وهي مسرَّة الآب في السماء، ومسرَّة الناس على الأرض، ومسرَّة الابن الذي أكمل طاعة الآب «حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8).لذلك نحن مديونون لملاك البشارة الذي أعطانا هذا السجلَّ الحافل بعمل ابن العليِّ. «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (مت 1: 23). لمَّا أخطأ آدم وحواء وطُردا من أمام وجه الله، أُصيبت البشرية بابتعاد الله عنها، فصارت تتوالد في عُقْم البُعاد عن الله، بمعنى أن البشرية فقدت قُرْبها من الله الذي كان يَنعم به آدم. بما يعني أن كل أعمال وحياة الناس لم تكن تَنعم بمشورة الله وعمله، ليس إلى جيل بل إلى جيل الأجيال.وأخيراً جاءت القُربَى من لَدُن الله، وتَدَخَّل الله بنفسه في حياة البشر، إذ أرسل ابنه الوحيد المساوي للآب في الجوهر أي في الطبيعة، ليولَد من عذراء طاهرة من بيت إسرائيل في ولادة فائقة على طبيعة البشر، أي بدون رجل، فكان الله الآب بمثابة أب حقيقي فائق للطبيعة البشرية، وأصبح المولود ابن الله الحقيقي (انظر لو 1: 35)، ورأس البشرية الجديدة كلها. وهكذا انعقدت الآمال كلها ورجاء الإنسان في مولود العذراء، فلم تَعُد البشرية متغرِّبة عن الله، بل تحوَّل الإنسان تحوُّلاً فائق الوصف من كونه من بني آدم إلى ابنٍ لله، وصار نسله بالتالي بني الله العَليِّ بالإيمان (انظر غل 3: 26)، إيمان ابن الله الذي دُعِيَ يسوع. وبعد أن كان آدم رأس الجنس البشري، أصبح يسوع المدعو المسيح هو رأس البشرية الجديدة المؤمنة بيسوع المسيح، فكلُّ مَن يولد في الإيمان بيسوع المسيح ابن الله، ينال حق التبنِّي لله (انظر يو 1: 12).ومع التبنِّي لله، صار جنس الإنسان بحسب رأس الجنس كله أي يسوع المسيح، يُدعَى مسيحياً.وبالتالي صار كل بني آدم مسيحيين؛ وبحسب الروح الذي يعمل في الإيمان، أي الروح القدس، صار كل الناس المسيحيين لهم رأس واحد وهو يسوع المسيح، وروح واحد أي الروح القدس. وبمعنى كلِّي، صار كل الناس إنساناً واحداً في المسيح، لا ذكر ولا أنثى فيما بعد بل «جميعاً أبناء الله الحيّ بالإيمان (الواحد) بالمسيح يسوع» (غل 3: 26).وهكذا تحوَّل بنو آدم من جنس البشر إلى جنس يسوع المسيح، ومن الكثرة المتفتتة إلى وحدانية الروح والجنس، ومن الأصل الترابي إلى طبيعة سماوية، ومن ميراث الجسد والآباء والأمهات إلى ميراث ابن الله في السموات، أي الحياة الدائمة الأبدية، لأنه لا يكون للإنسان موتٌ بعد بل انتقال من جنس ترابي إلى جنس سماوي، ومن ميراث ترابي إلى ميراث إلهي أبدي.ومن هنا، بدأت الدعوة وبدأ التبشير بالإيمان بيسوع المسيح إيماناً صادقاً حقيقياً، يتهيَّأ لهذه النقلة السعيدة بالإيمان الصادق الحيِّ بالمسيح يسوع ربنا.على أنه يلزم جداً جداً أن نضع اللمسات الإلهية على معنى الإيمان الحيِّ الصادق بالمسيح يسوع.وما هو الإيمان الحيُّ الصادق بالمسيح يسوع؟ هو أن نقبل قبولاً قلبياً حاراً صليبَ ربنا يسوع المسيح الذي قَبـِلَه هو «من أجل السرور الموضوع أمامه» (عب 12: 2).وما هو السرور الذي كان موضوعاً أمام المسيح وقت الصلبوت؟ هو الحب، الحب الطاغي الذي جعله يحتمل التعذيب وسفك الدم (انظر غل 2: 20)!! وهو حبُّ الآب الذي أطاعه الابن حتى الصليب، وحبُّ المسيح من نحو الإنسان الخاطئ.وهنا ننبه ذهن القارئ أن عصيان آدم لله حُسِبَ خطية عظمى، وكل إنسان يولد لآدم يرث موت الخطية في الطبيعة، فكل بني آدم حُسبوا خطاة في آدم لأن الخطية سادت على الجميع والكل وُلد في الخطية. ولكن، وكما سبق وقلنا، فإن بني آدم بعد أن آمنوا بالمسيح بالقلب والروح والصدق، حُسبوا بني الله في المسيح، أي حُسبوا جميعاً إنساناً واحداً في المسيح.وكما أنه لمَّا أخطأ آدم صار كل بني آدم خطاة، هكذا يصير بنو الله في المسيح كالمسيح قديسين وأبراراً، لأن برَّ المسيح الذي اكتسبه بالصليب والفداء والقيامة منحه كاملاً متكاملاً للإنسان، فصار الإنسان باراً أمام الله بالفداء الذي أكمله المسيح للإنسان الخاطئ.لذلك يُحسب عدم الإيمان بالمسيح والصليب والفداء أنه رجْعَةٌ إلى خطية آدم والبُعاد عن الله. «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يو 1: 4).معروف أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. ولم يعرف الإنسان الظلمة إلاَّ بعد أن أخطأ آدم وتقبَّل عقوبة الموت عقاباً وجزاءً.وكان الموت هو الظلمة عينها حيث تتوقف البصيرة عن معرفة أي شيء. ويُكنَى عن الظلمة بالجهل أو الجهالة، حيث تُحجز عن الإنسان أية معرفة، خاصةً فيما يخص الله وأمور الله.وهكذا عاشت البشرية بعد آدم، إذ تسلَّمت الخطية منه مع عقوبة الموت، فدخلت في ظلام دامس هو بعينه عدم معرفة الله وكل ما يختص بالله. وتَوالَد الإنسان في الظلمة، حتى لم يعرف أنه في ظلمة، لأن ظلمة المعرفة تطمس معالم النفس البشرية.وبينما كان بنو آدم في هذه الظلمة القاتمة، يسود عليهم الموت ومَنْ له سلطان الموت أي إبليس، الذي يُعرف عنه أنه يطمس العين البشرية لكي لا ترى الله ونور الله، بل تبقى في ظلمة العبودية والموت سيِّدٌ عليها (انظر 2كو 4: 4)؛ نقول إنه بينما كان الإنسان عائشاً في الظلمة سابقاً وهو راضٍ عن هذه الظلمة لا يعرف لها مخرجاً، إذ بالله الكثير الرحمة والتحنُّن يدبِّر له مَنْ يخُرجه من هذه الظلمة ويورِّثه النور كحياة.فأَرسل الله كلمته إلى عالمنا المظلم، أي ابنه الوحيد المعروف أنه نور السموات والأرض. ووُلد الكلمة من عذراء قديسة. وهكذا دخل نور الله عالم الإنسان، كإنسان، وحمل كلمة الله حياة الله. وهكذا دخل النور والحياة إلى عالم «الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أف 4: 24).وبالإيمان بالمسيح وبموته وقيامته، قام الإنسان أيضاً من موت الخطية بقيامة المسيح من بعد موتِ الفداء، وبالإيمان بالمسيح حُسِبَ أهلاً أن يرث ميراث الابن في الحياة الأبدية.وما أن دخل شعاع الحياة الأبدية إلى قلب الإنسان الجديد، حتى انفتحت عيناه، فرأى النور الأبدي الذي لا يُطفأ، نور معرفة ابن الله (انظر 2كو 4: 6).فبذبيحة الابن على الصليب تمَّ الفداء من الموت وظلمة الموت، وانبعثت الحياة من وسط ظلمة الموت، وارتفعت إلى السماء لتُعطي الإنسان استعلان معرفة الله وكل ما لله، وصار النور طبيعةً للطبيعة الجديدة للإنسان، فصار الإنسان يرى ويتثبَّت مما يراه من كل حقائق الإيمان. والعجب في كل أمور اللاهوت أنه إذا استَعلَن الإنسان حقيقةً فيه، امتلك هذه الحقيقة عن وعي وبثبوت.وكما يتسلَّط النور على غرفة مظلمة فيصير كل ما فيها تحت نظرك وبصيرتك، هكذا جعل الله - البديع في تدبيره - أنه إذا دخل إنسان إلى معرفة الحق بالإيمان، فإنه يأخذه ويصير شريكاً فيه. هكذا كلُّ مَنْ يشترك في حياة الكلمة، أي يسوع المسيح، فإنه يتملَّكُه ويَستَعلِن له كل أسراره بلا مانع. بهذا يُستعلَن للقارئ العزيز كيف كان تدبير الله منذ الأزل أن يدخل الإنسان في شركة الابن ليصير في شركة الحياة معه (انظر 1كو 1: 9)، وبهذا يُستعلَن له الله بكل وصاياه وتعاليمه، لأن في حياة الكلمة نوراً أزلياً يَستَعلن حق الله لكل ذي جسد يؤمن بالابن، وبصليبه للفداء، وبقيامته للحياة.يقول الكتاب: «كان النور الحقيقي الذي ينير كلَّ إنسان، آتياً إلى العالم» (يو 1: 9). فوظيفة المسيح العظمى هي أنه النور الحقيقي والحياة الأبدية معاً، وقد سلَّم المسيح الإنسان الجديد الحياة والنور معاً ليليق أن يحيا مع الله.فآمنوا بالنور لتعيشوا في النور،لئلا يدرككم الظلام (انظر يو 12: 36،35). «وصوت من السموات قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت 3: 17).هذا أول تعريف باللاهوت، فالصوت الذي جاء من السماء هو حتماً صوت الآب لأنه يقول: «هذا هو ابني».فلأول مرة يُستعلَن الله من السماء أنه آب وابن. ومن هنا جاءت حتمية الروح، فالآب حيٌّ والابن حيٌّ؛ والآب قدوسٌ هو، والابن بالتالي قدوسٌ، ولَزِمَ أن يكون الروح قدُّوساً فعرفناه أنه الروح القدس.وليس في اللاهوت انقسام أو عددية، فالآب والابن والروح القدس هو الله الواحد. فالآب حيٌّ بالروح القدس، والابن حيٌّ بالروح القدس، والروح القدس حيٌّ في الآب والابن، وقد حقَّق لنا المسيح أن الابن كائن في الآب وبالآب، وأن الآب كائن في الابن وبالابن، فالأبوة والبنوة في الله كيان واحد، وتحتَّم أن يكون الروح القدس قائماً في هذا الكيان. ولكن كما قلنا، إن اللاهوت مُنـزَّه عن الانقسام والعددية والمحدودية، فالآب يملأ السموات والأرض، والابن يملأ السموات والأرض، والروح القدس يملأ السموات والأرض. فالآب والابن والروح القدس لاهوت واحد يملأ السموات والأرض.فلما سقط آدم في الخطية وطُرد من أمام الله دبَّر الله كيف يُعيد بني آدم إلى حضرته، لأنه خليقته وقد خلقه الله على صورته ومثاله. وبالرغم من أن آدم أخطأ وأصبح نسله كله وارثاً لموت الخطية، إلاَّ أن الله كان يحب خليقته جداً كما أعلمنا الكتاب: «هكذا أحب الله العالم (عالم الإنسان)» (يو 3: 16).ودبَّر الله لآدم وبنيه خلاصاً من خطية آدم، وعقوبة الموت التي أخذها استحقاقاً لخطيئته، وذلك بأن كلَّف ابنه المحبوب الوحيد أن يتجسَّد، أي يأخذ جسد إنسان على أن يكون بلا خطية، وهذا يُحتِّمه الواقع لأن ابن الله قدوسٌ هو، وحيٌّ بالروح القدس. وأطاع الابن وتجسَّد، أي صار إنساناً بلا خطية، وذلك بأن تجسَّد في بطن عذراء قديسة، ووُلد، ويوم عماده سُمِع الآب من السماء يُناديه: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ».وقد كلَّفه الآب أن يحمل خطية الإنسان في جسده القدوس، ولكن عقوبة الخطية هي الموت، فكان لابد لابن الله الذي سُمِّيَ ”يسوع“ أن يموت بالجسد حاملاً خطية الإنسان ولعنة الناموس، فلَزِمَ أن يموت صَلباً، لأن كل مَنْ يُصلب يكون ملعوناً (غل 3: 3)، فأطاع الابنُ وحمَلَ خطية العالم كله في جسده القدوس مُعلَّقاً على خشبة الصليب، واعتُبـِر ذلك ذبيحة خطية عن العالم كله، ومات ودُفن، ولكنه لأنه ابن الله الحيُّ بالروح القدس، قام بعد أن أدَّى واجب الموت ملعوناً على خشبة، حاملاً في جسده القدوس كل خطية بني آدم. وهكذا لمَّا مات حاملاً خطية الإنسان ماتت الخطية حتماً وبالضرورة.ولمَّا قام من الموت في اليوم الثالث، وهي عقوبة الموت كاملة، وقام بقوة الله والروح القدس الذي فيه، هكذا تمَّم ذبيحة الفداء كاملة على الصليب. ولمَّا قام، أقام الجسد المحسوب أنه جسد الإنسان ككل، وهكذا قام الإنسان بقيامة المسيح وصعد بصعوده إلى السماء. ولمَّا جلس المسيح عن يمين الآب، أجلَس معه كلَّ خاطئ عن يمين الله، وهكذا تمت المصالحة الأبدية بين الله وبني آدم الخطاة جميعاً الذين آمنوا بالمسيح وبصليب المسيح وبقيامته. وهكذا تبرَّر الخاطئ ببرِّ المسيح، وحُسب الخطاةُ أبراراً وقديسين وبلا لوم في المسيح قدَّام الله كخليقة جديدة بالروح مُبرَّرَة ومَفْديّةً.وقول الآب من السماء يوم عماد المسيح: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ»، قالها الآب للابن، فوقعت من نصيب الإنسان، فدخل الإنسان في مسرَّة الله. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل