المقالات

22 يناير 2021

الإبيفانيا

عنصر الإخصاب في الخليقة الجديدة(1) لنا في كل عيد غطاس تأمل وعظة وعبرة وحياة، في عماد المسيح في الماء ونـزول الروح عليه في هيئة مجسَّمة كحمامة.تكلَّمنا وأفَضْنا جدّاً الكلام في دقائق الأمور الخاصة بالجوانب اللاهوتية والروحية، ولكن في هذا المساء نحاول أن نغطِّي هذا الموضوع بفكرة كبيرة على مساحة إنسانية وإلهية عريضة تبدأ من سفر التكوين وتنتهي عند جرن المعمودية. أبدأ كلامي من سفر التكوين (1: 1 - 3) «في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة (لاحظوا هنا كلمة ”ظلمة“ مرادفة لكلمة ”خربة وخالية“) وروح الله يرفُّ على وجه المياه. وقال الله ليكن نور».هنا يبدأ تأملنا، وندخل في الحال في عمق الموضوع: هنا أمامنا الآن عناصر الخليقة الروحانية «من الماء والروح».نرجع للقديس يوحنا الرسول: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 3: 5). إذن، هنا وعلى الأرض بدأ باب مفتوح للدخول إلى ملكوت الله.هذا كله قبل كل خليقة مادية، وقبل خلقة الإنسان الترابي نفسه، بل وقبل سقوطه وموته. هكذا وَضَعَ الله في المشورة العُظمى الإلهية، ليس عودة الإنسان وحسب، بل وخلقته الأخرى التي ستؤهِّله للدخول في مُلك الله! «اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة» (أف 1: 4).هنا في الحقيقة شمول رؤيا يلزم أن يعيش فيها الإنسان المسيحي. فالله لا يتدرَّج في فكره أو يساير الإنسان في مراحله، ويعدِّل ويبدِّل في مشوراته على حسب واقع الإنسان، كما قد يبدو أحياناً حسب قصر النظر الروحي؛ ولكن الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، كامل، وكماله يتسحَّب على فكره وعلى إرادته وعلى كل أعماله بالنسبة لكل إنسان منذ آدم حتى آخر إنسان يولد على الأرض. الإنسان يقوم ويسقط، ولكن الله هو الله، عالٍ وفوق كل عالٍ، في قيام الإنسان وسقوطه.والذي يسترعي انتباهنا جدّاً - أو كما يقولون - بالدرجة الأُولى، أن خلقة الإنسان الروحية كانت معدَّة للإنسان قبل خلقته الجسدية بل وقبل سقوطه، أليس هذا عجباً حقّاً؟ «الذي خلَّصنا ودعانا دعوة مقدَّسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطِيَت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أُظهِرَت الآن بظهور مخلِّصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل» (2تي 1: 10،9).أقف هنا لحظة معكم، فليس مثل هذا الكلام الروحي مقبولاً في هذا العالم بالدرجة التي نقبلها نحن الآن، نحن الذين قبلنا وآمنَّا ووُلِدنا حقّاً من الماء والروح. أعود بكم إلى بعض أفكار غير المولودين من الماء والروح، فلنسمع لقول بعض الفلاسفة العظام الذين أضجرهم موضوع الخلق ومصير الإنسان فمثلاً: نسمع من إمام الوجودية المعارضة وهو ”هيدجر“، وطبعاً يتكلَّم في غيبة كاملة عن الإيمان بالله، فيقول: إن الوجود الإنساني هو استسلام الفكر بأن الإنسان كائن قُذف به في العالم.ثم يعود ويقول: إن الإنسان موجود ليموت. وهذا هو منتهى المأساة الفكرية.ثم إذ يسألونه: أليس هذا عجزاً واستسلاماً؟ يقول: لا، بل يلزم أن نقبل الموت والنهاية بشجاعة ... سراب وخراب!!ثم لا أريد أن أستفيض معكم بما يقوله الفلاسفة الآخرون المعاصرون مثل ”جون بول سارتر“، الذي يجعل مضمون الإنسان أنه ”موجود ناقص يعطي لنفسه الكمال“، أو كما يقول أيضاً: ”إن الإنسان يجتهد ليمنح نفسه وجوداً مطلقاً يخلو من النقص“.الحقيقة والتاريخ كله ينفي ذلك. وفي الحقيقة سارتر هنا يترجم، دون أن يدري، خطية آدم، ويمتد بها ويصرُّ عليها حرفيّاً، إن آدم يريد أن يصير كالله!!ولكن نعود الآن نحن المولودين من الماء والروح، الذين كنا ليس ناقصين فحسب، بل وكنا عدماً بالخطية، كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا فأحيانا الله مع المسيح، وصرنا حائزين على وجودنا الأبدي في الله!!نعود إلى تأمُّلنا في روح الله وهو يرفُّ على وجه الماء والأرض خربة وخالية. عجيبة هنا عناصر الخلقة الروحانية، ولكن بدون أي كائن مخلوق حي!! لماذا؟ لأن عناصر الخليقة الروحية (الملائكة) هنا هي بدون ”إخصاب“ - لو صحَّ اللفظ - أي بدون كلمة الله (أي أن الخلائق الروحية لم تكن مخلوقة على صورة الله).فإذا نحن استطعنا أن نختزل الأزمنة من بداية سفر التكوين - أي خلقة الإنسان من التراب - ثم أزمنة العصيان، ثم السقوط، ثم الموت، ثم الطرد، ونأتي سريعاً بحسب مضمون موضوع عيدنا ”الإبيفانيا“، أي نـزول المسيح إلى الأردن في مثل هذا اليوم؛ نرى أن عنصر الإخصاب بدأ يعمل عمله في الحال بين روح الله والماء. هنا دخلت ”كلمة الله“ الحيَّة الفعَّالة - اللوغوس - ابن الله، الأقنوم الثاني، بين الماء والروح، ليبدأ الله للإنسان الخليقة الجديدة بواسطة المسيح، لتكون على شبه المسيح ومثاله. وهنا المسيح خالقٌ، وكرأس للبشرية الروحانية، وأبٌ مُخصب، «آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد» (عب 2: 10). معمودية يوحنا: كذلك وعَبْرَ اللمحة السريعة التي أريد أن أغطِّي بها هذا الموضوع المتَّسع، لا أريد أن أعبر بسهولة على معمودية يوحنا، التي قيل عنها إنها بالماء فقط للتوبة. هنا، في الحقيقة، الروح القدس غائب، ولا يوجد إلا عنصر التطهير القديم، الماء، الذي يدخل كعنصر مناسب لتطهير الخليقة التـرابية العتيقة لإعدادها، مع الاعتراف بالخطايا والذنوب لقبول الخلقة الروحانية الجديدة بوسيط آخر، أي بعنصر تطهيري فائق آخر غير الماء. عنصر تطهير روحي فائق، هو ناري في حقيقة طبعه، وهو الروح القدس!! وذلك لكي يُبدِّد ما في الخليقة العتيقة من موت وفساد وخطية وهلاك، ويجعلها في حالة من الطُّهر الإلهي - إذا صح هذا التعبير - لتقبل الخليقة السرِّية بواسطة الماء والروح، عنصر الإخصاب ”الكلمة“ اللوغوس، لنولد لله على شكل المسيح وبالمسيح من الماء والروح.إذن، ما هي المحصِّلة التي بلغناها الآن إزاء أو في موازاة محصِّلة مارتن هيدجر الفيلسوف الوجودي الرافض؟إنها محصِّلة عكسية، فالفيلسوف هيدجر يقول إن الإنسان كائن قُذف به في الوجود ليموت.انتبهوا جدّاً هنا: بحسب سفر التكوين وبحسب الإبيفانيا والروح القدس والمسيح، وجدنا أن الإنسان كائن وُجِدَ ليحيا. وما الموت الذي لزم أن يجوزه إلا إعداداً لحياة بلا موت، فالأمر الإلهي بالخلود سبق السقوط والعقاب!! وملكوت الله مُعدٌّ للإنسان قبل أن يُخلَق الإنسان: «تعالوا يا مُبارَكي أبي، رِثوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 25: 34).إن هذه المحصلة أو الحقيقة في مفهوم العماد هي - بحدِّ ذاتها - ليست عنصراً مائياً منعشاً ومُحيياً فقط، بل عنصر رجاء، لا يجب ولا يمكن هدمه بأية فلسفة كانت، لأنها حقيقة نحياها وليس نتمناها. فالحياة الأبدية تسري فينا منذ الآن، والملكوت نعيشه بالروح. السماء انشقَّت: وإذا عُدنا إلى موضوع عماد المسيح في الأردن الذي فيه اعتبرنا أن مجرَّد نـزول المسيح في الماء وحلول الروح القدس يحوي تكامُل العناصر الفعَّالة للخلقة الروحانية: الماء والروح والكلمة، حيث هنا المسيح خالق ورأس الخليقة الجديدة، أقول نلمح ظاهرة مؤكَّدة لهذه الحقيقة تصل إلى حدِّ العجب، إذ أنه بمجرد أن تمَّ نـزول المسيح في الأردن، انشقَّت السماء. ما هذه الدلالة؟ هذه ظاهرة عجيبة حقّاً، لأننا نسمع المقابل لها تماماً عند حادثة تكميل موت المسيح الكفَّاري على الصليب من أجل العالم، إذ نسمع أيضاً أنه قد انشقَّ حجاب الهيكل الذي كان يفصل قدس الأقداس حيث حضرة الله عن القدس حيث وجود الناس، حتى الأطهار منهم - أي الكهنة. وهذا يعني أن الله رفع بنفسه الحجاب المتوسط بينه وبين الإنسان بموت المسيح!! وصار العالم كله مصالَحاً مع الآب بموت ابنه عن خطية العالم كله!! هنا في الأردن، بعماد المسيح نجد السماء نفسها تنشق، وتتكشَّف الحضرة الدائمة لله تعبيراً عن التحام جديد وعجيب بين الله والإنسان، وليس بين السمائيين والأرضيين فقط، وذلك في شخص المسيح!! «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ» (مت 3: 17).إذن، فهنا دلالة قاطعة على رفع الحجاب الأبدي والكوني الذي يحجز الآب في السماء عن الإنسان، حينما يعتمد إنسان في يسوع المسيح. وكأنما الطريق من الأرض إلى السماء قد انفتح بانشقاق السماء في وجه الأرض. وما نـزول الروح القدس في الحقيقة إلا بمثابة الجناحين الجديدين الإلهيَّيْن، جناحَي الحب الإلهي ليسوع المسيح، اللذين أُعطيا للإنسان الجديد المولود من الماء والروح ليطير ويحلِّق بهما في سماء الله في حريَّة البنين.كذلك فإنه بمجرد أن التحمت عناصر الخليقة الروحانية الفائقة، الماء والروح والكلمة، على أرض الشقاء؛ انفتحت السماء، إعلاناً أن الوطن السمائي الذي تأسَّس للإنسان قد صار حقيقة مُشاهَدة ننتظرها ونرجوها؛ بل ونسمع صوتاً من السماء يُعلِن عن هذه المعاهدة الجديدة التي تمَّت في هذه اللحظة، إذ سلَّم الآب ابنه للعالم ليُصالح الجميع ويأتي بهم إليه!! ظهور الروح القدس بهيئة منظورة مجسَّمة كحمامة: كذلك تدخل هذه الدلالة دخولاً مباشراً وعميقاً في مفهوم الخليقة الروحانية الجديدة التي أكملها المسيح لنا في هذا السر المذهل الذي ظهر فيه كخالق للخليقة الروحانية الإنسانية، وكرأس مخصب لأبناء جُدُد لله الآب، لأن ظهور الحمامة نرى المقابل له في أيام الطوفان، عندما كان الماء هو عنصر الموت، لأنه لم يكن يخلو من روح الله. فكانت النقمة تُلازمه، وغضب الله فيه، فكان الماء للموت والهلاك، وظهور الحمامة في آخر لحظات هذه الخبرة المؤلمة في تاريخ البشرية كانت بشارة برفع الغضب الإلهي وبدء رضا الله، عندما عادت وفي فمها غصن زيتون أنبتته الأرض بعد انحسار لعنة الهلاك عنها.هنا في المقابل نرى الروح ينـزل من السماء على هيئة مجسَّمة كحمامة، وذلك عن قصد. فهذه الهيئة لا تُعبِّر إطلاقاً عن شكل الروح القدس أو صورته، فنحن رأينا الروح القدس يوم الخمسين على هيئة نار أيضاً.إذن، فظهور الروح القدس بهذه الهيئة - أي كحمامة - كان تعبيراً عن أن الماء هنا يحوي عنصر الحياة الإلهية، وذلك يتناسب مع عملية الخلق الروحاني الجديد الذي انفتح مجاله للإنسان. وكأنما كان كل زمان البشرية السابق من آدم حتى المسيح هو طوفان مستمر؛ ثم بقبول الكلمة المتجسِّد النـزولَ إلى الماء وبتقبُّله الروح القدس ليكون رأس الخليقة الجديدة، بدأت حياة الإنسان حقّاً مع الله وإلى الأبد. هنا يتضح مرَّة أخرى أمامنا - ونحن بصدد فلسفة الوجوديين الملحدين - أن الحياة التي أعطاها الله للإنسان هي في حقيقتها الأُولى والأخيرة حياة لحياة. والمسيح لن يكون حياةً لموت فيما بعد!! بل وحياة يلازمها نشيد إلهي رائع، في صمت يحكي عنه الروح القدس وهو نازل من السماء كحمامة، وكذلك صوت الله بالسرور؛ هذا النشيد الصامت تعرف القلوب المؤمنة وحدها أن تترجمه. فهو حياة جديدة مفعمة بالسلام!! للقلوب الوديعة!! التي نالت وتنال كل يوم قوة هذا الميلاد عينه من فوق من الماء والروح، مع نور الكلمة، ورضا الآب في السماء!!وهكذا بنـزول المسيح في الأردن، وحلول الروح القدس عليه، وإعلان صوت الآب في السماء، هذا المُعبَّر عنه كنسيّاً بعيد الإبيفانيا، أي ظهور الآب والابن والروح القدس؛ بكل هذا صار، في الحقيقة، تدشينُ أول معمودية على الأرض باسم الثالوث، كبدءٍ فعَّال لا ينتهي ولن ينتهي إلا بانتهاء الزمان، من جهة ميلاد الإنسان ميلاداً جديداً من الله، روحيّاً من فوق، من السماء لحياة أبدية.وهكذا صارت أرض الشوك والشقاء واللعنة، الأرض العاقر التي كانت تسقي الإنسان الألم حتى الموت، والتي كانت تلد الإنسان لتُميته فعلاً، وتتركه للأيام لتُكفِّنه بخطاياه، وتدفنه الأيدي الحزينة كل يوم في أعماق لعنتها، صارت هذه الأرض عينها بميلاد المسيح الكلمة ابن الله متجسِّداً، ثم بنـزوله في الأردن معتمداً والروح القدس حالاً عليه؛ أقول صارت هذه الأرض من داخل الكنيسة ومن داخل جرن معموديتها، بطناً جديدة سماوية تنسل أبناءً لله جُدداً، لسلامٍ وحياةٍ لا تزول. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
23 فبراير 2021

آية يونان النبي

38:12 "حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً". بنوع من برود الأعصاب وعدم الاكتراث، بعد الذي سمعوه من المسيح يطلبون أن يروا آية. وكأنهم لم يروا شفاء الأعمى الأخرس أو بقية المعجزات. ولكن هذا في الحقيقة يُخفي عدم الإيمان وعدم الثقة معاً به وبأعماله، وما هذا الطلب إلاَّ نوعاً من التجربة. وكأنما يكرهون أن يسمعوا تعاليمه ويودُّون لو يسكت ليتسلَّوا بعمل آية. "نريد أن نرى منك آية (من السماء)": لم يعتبروا الأشفية ولا إخراج الشياطين آية، بل أرادوا آية "منك" أي شخصية تخص ذاتك ويكون مصدرها السماء، حتى نتعرَّف عليك بحسب ادعائك أنك أتيت من الله. وهذا فيه كثير من الصدق، لذلك ردَّ عليهم المسيح ردًّا صادقاً حقيقياً مُقنعاً، غير أنهم لم يفهموه بل كان يستحيل أن يفهموه، ولكن لا بد أن يفهموه! 39:12و40 "فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيـَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ". ابتدأ المسيح بوصف الجيل الذي يطلب آية من السماء، أنه جيل فاسق وشرير، بمعنى أنه خرج عن علاقته الأمينة بالله كما تخرج الزانية عن علاقتها بزوجها. وليس ذلك فقط ولكنه جيل يمارس الخروج عن ناموس الحياة الخاضعة لله. وهذا هو الشر عين الشر. والآن فقد صار حالهم كحال أهل نينوى الذين أرسل الله لهم يونان: "وصار قول الرب إلى يونان بن أمتَّاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ عليها لأنه قد صعد شرُّهم أمامي" (يون 1: 1و2)، "بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى" (يون 4:3). واعتبر المسيح نفسه بالنسبة لهذا الجيل الفاسق الشرير كيونان الذي جاء ينذر المدينة. فكما حدث ليونان وهو في طريقه لنينوى لكي ينقذها من الانقلاب الآتي عليها، أن ابتلعه الحوت وظلَّ في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؛ هكذا سيصير المسيح وإنما في باطن الأرض. وهذه هي معجزة الخلاص، لأن بموت المسيح وبقائه في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ تمَّت ذبيحة الكفَّارة ومات المسيح بالجسد، أي بالبشرية التي فيه، وهكذا كفَّر عن خطايا البشرية، وقام بالجسد أي البشرية المفتداة للمصالحة مع الله. لذلك احتُسِبَت الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ في القبر أنها معجزة الجيل الفاسق الشرير - العظمى - لأن بهذه المعجزة الفائقة أُكمِلَت كل المعجزات وتمَّ استعلان المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل والبشرية قاطبة. وطبعاً قال المسيح هذا وهم لا يدرون ما يقول، ولكن كان لازماً جداً أن يرد المسيح على طلبهم، لأنه يبدو أنه كان طلباً صادراً عن رغبة الفهم والمعرفة، إذ لم تكفِهم معجزات الشفاء، وإخراج الشياطين، وهذا حق. فهذه المعجزات جميعاً لا تكفي لكي تحدِّد شخصية المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل. وهكذا أراح المسيح ضميره بأن قال لهم الحق الذي سيفهمونه فيما بعد، حتى وإن طال الزمن حتى الآن!! أمَّا تعليقنا على الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ فهي هكذا: النهار الأول أخذ ضمناً الليل السابق عليه، لأن اليوم اليهودي يُحسب من الغروب إلى الغروب، وأي جزء من النهار أو الليل يُحسب يوماً كاملاً، والمسيح استودع جسده في القبر قبل الغروب ثم دخل ليل اليوم الثاني، وهكذا يُحسب ما قبل الغروب يوماً كاملاً بليلته السابقة.فأول يوم هو يوم الجمعة لأنه حُسب له في القبر لأنه دُفن قبل الغروب + (ليلة السبت صابح السبت + نهار السبت = اليوم الثاني) + (ليلة الأحد صابح الأحد + الفجر = اليوم الثالث). 41:12و42 " رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكَمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا!" أمَّا الآية التي طلبوها فقد قالها لهم ليرضي قلبه وضميره، أمَّا أعمالهم التي يعملونها فهي أنهم لم يسمعوا لا ليوحنا المعمدان ليتوبوا معترفين بخطاياهم ويعتمدوا، ليصيروا قادرين أن يسمعوا للمسيح ويفهموا حتى ينالوا معمودية الروح وسر الملكوت؛ ولا هم سمعوا لنداء المسيح حتى إذا قبلوه غُفرت خطاياهم وتُركت آثامهم. بل قالوا على يوحنا إن به شيطاناً وقالوا على المسيح إنه بشيطان يُخرج الشياطين. وكأن خلفية معرفتهم وفهمهم هي على أساس الشيطان، لينسبوا إليه كل الأعمال حتى الحق. وهنا يواجههم المسيح بالمصير الأسود أن رجال نينوى بل ونساءهم وأطفالهم سيقفون في الدينونة يفتخرون عليهم أنهم تابوا بمناداة يونان النبي. أمَّا هُم فلا للمعمدان اعترفوا وندموا، ولا للمسيح تابوا. فصارت دينونتهم فضيحة لحكمة إسرائيل ومهزأة لأولاد إبراهيم.وزاد المسيح بملكة التيمن أنها جاءت من أقصى الأرض لتسمع حكمة سليمان، أمَّا هم فقد داسوا أقوال الله على فم المسيح وأهانوها. فالذي كالوه للمسيح أشكالاً وألواناً من المراجعة والصدام والمَعْيَرة والإهانة والتهديد بالموت، بل والتعذيب قبل الصليب وعليه، سيصبح يوماً منظراً لكل العالم وهم واقفون يُسألون عنه وقد خرست أفواههم. وهكذا يا إخوة كل مَنْ لم يعمل للدينونة حساباً!! 43:12-45 " إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهذَا الْجِيلِ الشِّرِّيرِ".آخر ما يمكن أن يكشفه المسيح عن هؤلاء المتزعمين لجيل الكتبة والفرِّيسيين، وآخر ما كنَّا نظن أن نفتكر به. فالمسيح يوضِّح هنا سر كل الأمور التي عُرضت علينا والتي ستُعرض من جهة أعمال هؤلاء الحكماء والفهماء اليهود مع رؤساء كهنتهم وكهنتهم وشيوخ الشعب المتضافرين معهم، الذين ظهروا في النهاية عصبة واحدة متحدة قلباً وفكراً ونطقاً: "اصلبه اصلبه". فنحن كنَّا مذهولين من أعمالهم العدائية مع المسيح. لماذا؟ لماذا هذا الصدود المجاني؟ لماذا هذه المقاومة العلنية التي أضعفت إيمان الشعب؟ لماذا هذا الهجوم الفاجر ومحاولة القتل مراراً؟ ولكن عند الصليب انكشف المشهد الأخير عن قتلة محترفين وأعداء للحق والصدق والرحمة والعدل!! والآن فقط وهنا وفي هذه الآية فهمنا سر رؤساء هذا الشعب الذين نكَّدوا على الشعب هذه القرون كلها، والله طالب خلاصهم وطالب ودّهم. يُرسل لهم الأنبياء جماعة وراء جماعة من خيرة رجال النعمة والعظماء حقًّا، أنبياء تفتخر بهم البشرية، ويزيِّنون تاريخ الله مع الإنسان. قاوموهم واضطهدوهم وقتلوهم ثم زيَّنوا قبورهم وجعلوها مزارات. ولكن بقيادة هؤلاء الرؤساء والمعلِّمين والربيين قادوا الشعب من عصيان إلى عصيان، وما كُنَّا ندري أنه لهذا الحد يبلغ بهم فجور العصيان والتمرُّد على الله، مَنْ كان يصدِّق؟ هوذا الآن نصدِّق، فقد كرروا تمرُّدهم هذه المرَّة على ابنه الوحيد الذي أرسله الله يطلب ودّهم ويطالب بالثمر، ثمر آلاف السنين تعزية ومعونة ونعمة وسخاء ومجداً لهذا الشعب الجاحد.والآن عرفنا، ومِنْ هذه الآية، أن الشيطان كان هو الذي يقودهم ويعلِّمهم أصول التمرُّد ويسوقهم أمامه لعبادة الأصنام والشياطين والنجاسة، لكي يغيظ الله بواسطتهم وقد نجح أعظم نجاح. ولمَّا جاء الابن أذاقه المرار بواسطة حكماء هذا الشعب وعلمائه وكتبته وكهنته الذين ورثوا مع الختانة الخيانة، الخيانة لعهد الله وكلامه ووصاياه، واجتمعوا على الابن الوحيد فهزأوا به ومرَّروا حياته ثم قتلوه!وجيل يسلِّم جيلاً حتى صارت عدد الشياطين الساكنة فيهم سبعة شياطين مضافة إلى الواحد، وكلَّها أشرّ منه، هؤلاء طلبوا آية فكانت آية الصليب!حنَّان، قيافا، شيوخ الشعب، كتبة، فريسيُّون، ناموسيُّون، هيرودسيُّون، سنهدرين، مشيخة الشعب، خُدَّام، كلها قِناعات لبسها الشيطان بعدما فرَّق الأدوار على الأبرار الكاذبين، وخرجوا بمظاهرة دينية رائعة يهدِّدون بيلاطس، وخاف بيلاطس طبعاً. اصلبوه أنتم!! لا ليست لنا عادة أن نقتل أحداً!! اقتله أنت. فسلَّمه إليهم فقتلوه!! "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة." (لو 53:22) 46:12-50 " وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ لِلقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَواتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي". جيِّد من القديس متى أن يأتي إلينا هنا بأخبار الأُم الطاهرة والتلاميذ الأتقياء لنشتَمَّ رائحتهم العطرة ونَبِلَّ ريقنا بعد أن نشّفه لنا هؤلاء الكتبة والفريسيُّون ونزحوا علينا روائحهم الكريهة! مسكينة هذه الأُم المباركة القديسة زينة البشرية نبيَّة العهد الجديد وعزاء الأتقياء - جاءت تسأل عن ابنها! هي تعرف سرّه وتعرف سرّها، ولكن استودعت الكل قلبها وانتظرت ماذا ستكشف عنه الأيام. لا تستطيع أن تسير في الشوارع وحدها فجاءت تستند على أهل يوسف. لم تكن تطلب إلاَّ أن تراه فرأته من بُعد وارتاح قلبها وعادت.أمَّا هو فقد وجدها فرصة أن يعرِّفنا بالعائلة الكبيرة التي اتسعت لتضمنا. وهنا يكشف المسيح سر احتوائه للكنيسة الجديدة، كيف تآخى هو مع البشرية عندما صار بـِكْرَها بالتجسُّد، وكيف اتحدوا به في موته وقيامته، وكيف سلَّمنا جسده المقام من الموت لنصير فيه كلنا أعضاءً من لحمه وعظامه. وبالبداية وبالنهاية هي إرادة الآب السماوي التي صنعت منَّا كنيسة حيَّة واحدة إلهية. آباء وأُمهات وإخوة وأخوات، عجنة واحدة مقدَّسة، باكورة من خلائقه، أحبَّ أن يكون فيها هو الرأس فكان، وأحبنا أن نكون فيه الجسد فأعطانا!! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
29 مارس 2021

حديث خاص مع أبناء النور(1)

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الرابع من الصوم المقدس المزمـور: «16أَمَّـا أَنَـا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي. 17مَسَاءً وَصَبَاحًا وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ، فَيَسْمَعُ صَوْتِي» (مز 55: 17،16). الإنجيل: «1وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ:”كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. 2فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. 3فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. 4قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. 5فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ 6فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. 7ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. 8فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. 9وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ“» (لو 16: 1-9). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القداس: حديث اليوم، حديث المسيح الخاص مع أبناء النور، ولكنه يتكلَّم بحزم: «أَعطِ حساب وكالتك»، «وأنـا أقول لكم: اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلْم، حتى إذا فَنيتُم يقبلونكم في المظال الأبديَّـة». ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا المَثَل جيِّداً إلاَّ إذا تَم ضمُّه لمجموعة الأَمثلة التي على شاكلته، فتكون أربعة أمثلة: المثل الأول: الغَني ولعازر (لو 16: 19-31): معيار هذا المثل: ارتباط الحياة بعد الموت بالحياة الأبدية ارتباطاً شديداً، على أساس الفعل، فقد أَورد المثل، الفعل ونتيجة الفعل. فما نعمله على الأرض، تَظهر نتيجته في الحياة الأخرى، هذا ما يُوضِّحه مَثَل الغَني ولعازر. فالغَني كان مُتنعِّماً، وكان يلبس الأَرْجُوان والبَزَّ. الأرجوان هو القطيفة الحمراء، وهو يُلبَس في الشتاء؛ والبَزُّ هو الحرير، ويُلبَس في الصيف. فالغَني كان يتنعَّم كل يوم مُترفِّهاً، والتنعُّم والتَّرفُّه هو فوق طاقة الإنسان العادي أو المتوسط. وأمام باب دار الغَني طُرِحَ مسكين اسمه لعازر، «مضروباً بالقُرُوح، ويشتهي أن يشبع من الفُتات الساقط من مائدة الغَني». هنا المسيح يرفع الحجاب مرةً واحدة، ويُظهِر هذين الوضعَيْن في السماء: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغَني أيضاً ودُفِنَ (وهو يتعذَّب في اللهيب)». طبعاً اللهيب هنا هو لهيب الضمير. وكان الغَني يتوسَّل لأبينا إبراهيم أن يُرسِل لعازر ليَبُلَّ طَرَف إصبعه بماءٍ ويُبرِّد لسانه، وهو نفس الإصبع الذي كان لعازر في حياته البائسة ينبش به القمامة ليعثر على كِسْرة خُبز. المثل الثاني: الغَني الغَبي (لو 12: 16-21): معيار هذا المثل: إمَّا أن تكن‍ز في الأرض، أو تكن‍ز في السماء. فهذا الغَني قال: «أَهدم مخازني وأبني أعظم، وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي: يا نَفْسُ لكِ خيراتٌ كثيرة، موضوعةٌ لسنين كثيرة. استريحي وكُـلي واشربي وافرحي». فقـد عَمِلَ لحساب الأرض، ولم يعمل لحساب ما هو فوق، أي السماء. وفي أيامنا هذه، مِثْل إنسانٍٍ وجد أنَّ أسهمه في شركةٍ ما لم تَعُد تربح كثيراً، فسحب هذه الأسهم ووضعها في شركةٍ أخرى تُعطي أرباحاً أكثر، حتى لو كان القائمون على هذه الشركة هم من النَّصَّابين. ولكننا نسمع المسيح يُعقِّب على هذا المثل بقوله: «هكذا الذي يَكْنِزُ لنفسه وليس هو غنيّاً لله» (لو 12: 21). المثل الثالث: الابن الضال (لو 15: 11-32): معيار هذا المثل: إنسانٌ قادرٌ أن يُعوِّض عن الخسارة المُريعة التي لحقت به وأتلفت حياته في آخر لحظة، بأن يتوب ويرجع إلى أبيه، إلى الله. ونقرأ في المثل أن الأب عندما رأى ابنه آتياً وهو لم يَزَل بعيداً، «تحنَّن وركض ووقع على عُنقه وقبَّله»، وأعاده مرَّةً أخرى إلى رُتبة البنوَّة، وفَرِح به وصنع له وليمة، كما فرحت به السماء أيضاً، لأن هذا الابن «كان ميِّتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجِدَ» (لو 15: 24). + هذا المثل يسند المثَلَيْن السابقَيْن. فهذا الابن «بذَّر ماله بعيشٍ مُسرف». فهو قد أَخَذَ الميراث الذي لأبيه وهو ما يزال حيّاً، وبَذَّره. ونحن عندما نُحوِّل هذه المفهومات إلى الحياة الروحية، نفهم أن هذا الميراث هو لله. فهذا الابن بَذَّر هذه الأموال وأتلفها، وكما قال الابن الأكبر لأبيه: «لَمَّا جاء ابنك هذا الذي أَكَلَ معيشتك مع الزواني، ذبحتَ له العِجْل المُسمَّن». فهذا الإتلاف هو إتلافٌ للجسد والروح. ولكن عندما انحطَّ هذا الابن إلى الحضيض، حتى أنه كان «يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله»، ولم يُعطِه أحد، وانحدر إلى مستوى الخنازير وهي في نظر اليهود ”نجسة“؛ قام من سقطته، ورجع إلى نفسه، وعاد إلى أبيه منكسراً نادماً. ففرِحَ به أبوه، كما فرحت به السماء. وكانت توبته أثمن من كل مقتنيات أبيه. + وإذا وضعنا هذه الأمثلة الثلاثة بجانب بعضها البعض، نجد أنَّ هذا التعليم الذي علَّمه المسيح بأمثالٍ كان ردّاً على كلام بطرس الرسول الذي قال للرب: «ها نحن قد تركنا كلَّ شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟» (لو 19: 27). هنا المقارنة بين ما للأرض وما للسماء! ولذلك كان ردُّ المسيح على بطرس الرسول: «كلُّ مَن ترك... يأخذ مئة ضعف (هنا على الأرض) ويرث الحياة الأبدية» (مت 19: 29). + كما يمكن أن نضع هذه الأمثلة بجانب مَثَل الوزنات والمتاجرة الذي قاله الرب يسوع (مت 25: 14-30). فهذا، إذن، هو قانون ملكوت السموات: القانون الذي يربط الأرض بالسماء، الذي يربط الحياة الحاضرة بالحياة المستقبلة، الذي يربط المال بالروح، الذي يربط الحياة حسب الجسد بالحياة حسب الروح (انظر رو 8: 12-17). المقارنة بين محبة العالم ومحبة الله، ظهرت بوضوح في مَثَل الوزنات، إذ أُعطِيَت وزنات لكل واحد على قَدْر طاقته. فكل مَن تاجر بهذه الوزنات وربح، قال له سيِّده: «نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أميناً في القليل فأُقيمك على الكثير. اُدْخُل إلى فرح سيِّدك». أمَّا العبد البطَّال الذي لم يُتاجر بالوزنة، فقال سيِّده: «اطرحوه إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان». + وأيضاً لو أضفنا إلى هذه الأمثلة، مَثَل: اللؤلوة الكثيرة الثمن، الذي باع التاجر كل ما كان له واشتراها (مت 13: 46،45)؛ فنجد أن هذه مُقايضة جميلة جداً. فكل هذه الأمثلة هامة جداً في حياتنا المسيحية بحسب القانون الذي سيُحاسب به المسيح كل واحد مِنَّا. المثل الرابع: وكيل الظلم (لو 16: 1-9): معيار هذا المثل: الله يُعطينا الحياة التي فيها فُرص. الحياة فيها فُرص، فلابد لنا أن ننتهز هذه الفُرَص ونعمل المقايضة: نبيع الفاني الذي نقتنيه هنا، على أساس الأمثلة التي أوردناها سالفاً؛ ونقتني ما لا يَفْنَى والباقي إلى الأبد. فهذا المَثَل هو عملية مُقايضة، مُقايضة الفاني بالباقي. فالسيِّد «مَدَحَ وكيل الظُّلم إذ بحكمةٍ فعل»، وهي حكمة أهل العالم، حكمة مال الظُّلم، حكمة السلوك حسب الجسد. فالمسيح وضع نفسه في هذا المَثَل أنه هو السيِّد القدوس، وأنَّ كل ما وهبه لنا من مال وصحة وعافية وعينين وأُذنين وجسد ووقت وعقل ومعرفة للمواهب - جسدية وروحية - هذه كلها تُعتَبَر أمانات أودعها فينا ولنا؛ وهو صاحب هذه الأمانات كلها. أمَّا كل واحد مِنَّا، فهو وكيل على هذه الأمانات. فوكيل الظلم - في المَثَل الذي قاله الرب - بدَّد وبذَّر أموال سيِّده، مع أنها ليست مِلْكاً له، لأن هذا الوكيل عَلِمَ أن سيِّده سيأخذ منه الوكالة، وهو ”لا يستطيع أن ينقب (يسرق) ويستحي أن يستعطي (يتسوَّل)“؛ فكيف - بمفهومه - يستطيع الحياة والأَكل والشُّرب، وهو لا يملك شيئاً؟ فهذا الوكيل اختلس أموال هذا السيِّد، على الورق فقط، «ودعا كل واحد من مَديوني سيِّده، وقال للأول: كم عليك لسيِّدي؟ فقـال: مئـة بثِّ زيت (معيار للسوائل). فقال له: خُـذ صكَّك واجلس عاجلاً واكتُب خمسين. ثم قال لآخر: وأنت كم عليك؟ فقال: مئة كُرِّ قمح (مكيال للحبوب). فقال له: خُذْ صكَّك واكتُب ثمانين» (لو 16: 5-7). + «فمدح السيِّد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل». المسيح هنا يُريد أن يقول: ”أنا أُريدكم أن تحوزوا هذه الذهنية، سواء في المال أو الصحة أو كل ما تمتلكونه. فهذه كلها في الأصل ليست مِِلْككم، وأنا صاحب كل هذه الأمانات التي سلَّمتها لكم. فقدِّم أموالك للخير، وأنا أُعوِّضها لك مائة ضعف. ابذل صحَّتك من أجل الآخرين، وأنا أُعيدها لك أقوى وأفضل مما كانت“، كما يقول بولس الرسول: «أمَّا أنـا فبكل سرورٍ أُنْفِقُ وأُنْفَقُ لأجل أنفسكم» (2كو 12: 15). ”أُنفِق“ أي ”أُقدِّم ما عندي“؛ و”أُنفَق“ أي ”أموت من أجلكم“. + وهكذا كـأنَّ المسيح يقول لك: ”ابذل صحَّتك من أجل راحة الآخرين، ولا تخف، فإنني سأُعطيك هنا أجمل وأحسن منها مائة ضعف، ومعها هناك الحياة الأبدية. فكل ما تبذله لحسابي هنا، سأُضيفه أنا لحسابك هناك في الأبدية. أمَّا إن بدَّدتها لحسابك هنا، فقد أضعتها منك هناك إلى الأبد“. هذا المثل دقيقٌ جداً، وهو يُحيِّر النفس، ولا يمكن فهمه إلاَّ على هذا الأساس: إنَّ كل ما عندك من مال وصحة وأب وأُم وأخ وأُخت وامرأة وأولاد... إلخ، كل هذه ليست مِلْكاً لك، وإنما هي مِلْكٌ للمسيح، وهو الذي يهبها لك. فإن ترك الإنسان كل هذه من أجل المسيح، يُعطيه هنا مائة ضعف، وهناك يهبه الحياة الأبدية في السماء. وإذا قدَّم الإنسان عواطفه، تلك التي تربطه بأهله وبالعالم، حُبّاً في المسيح؛ سيهبه المسيح ما هو أقوى منها، سيهبه عواطف أرقى بكثير مما قدَّمه، تنطلق إلى العواطف الروحية. في الحقيقة، فإنَّ مَثَل وكيل الظلم قائمٌ على هذه الفكرة: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلم»، لأن «أبناء هذا الدَّهر أَحْكَم من أبناء النور في جيلهم». وذلك لأن أبناء الظلمة، يأخذون المال التافه الذي مآله إلى الفناء ويتمتَّعون به، ويعملون لهم به أصدقاء؛ بينما أنتم أولاد النور يُمكنكم أن تستغلوا هذا المال وتكسبوا به أصدقاء، ومن خلاله تفوزون بالحياة الأبدية، كما يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «أَوْصِ الأغنياء في الدَّهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يُلقوا رجاءهم على غير يقينية الغِنَى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنًى للتَّمتُّع. وأن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياءَ في أعمالٍ صالحة، وأن يكونوا أسخياءَ في العطاء، كُرماءَ في التوزيع، مُدَّخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل، لكي يُمْسِكوا بالحياة الأبدية» (1تي 6: 17-19). + مـا معنى ”أسخياء في العطاء“؟ أي أن يُعطي الإنسان للآخرين بلا حدود، وعند الاقتصاديين هذا ”تبديد“؛ ولكن المسيح يُحرِّض على هذا طالما للخير ولمساعدة الآخرين: «المُعطي فبسخاء» (رو 12: 18)، «المُعطي المسرور يُحِبُّه الله» (2كو 9: 7). فمَن يكون هذا الإنسان الذي يُعطي وبسرور؟ هو الإنسان الذي يشعر أن هذا المال ليس مِلْكه، بل هو أمينٌ عليه فقط. ولذلك نجد أنَّ الإنسان الذي بلغ هذا الإحساس لا يُبالي أبداً بالأرقام؛ بل يَحسِب هذه الأموال أنها مِلكٌ للربِّ، وهو عندما يهبها للمحتاجين، فهو يردُّها إلى صاحبها، أي إلى المسيح. وبالرغم من أن الآخرين يحسبون ذلك الإنسان الذي يُبدِّد أمواله معتوهاً، وينال منهم السخرية؛ إلاَّ أنه يَعتَبِر هذه الأموال مِلْكاً للمسيح، وهو المسئول عنها، وهو الذي يقول له: ”بِعْ، واعطِ بسخاء وبسرور“، هـذه هي ذهنية وكيل الظلم. ومـن أروع الأمثلة للحياة المسيحية: التصرُّف في كلِّ ما في الحياة على مستوى أنها ليست مِلْكاً لنا. مال الظلم: ”مـال الظلم“: ”الظلم“ بـاللغة اليونـانية ++++++، يعني: ”غير صالح“، ”غير بـار“؛ أمَّا +++++++ فتعني: ”صالح“، ”بار“. وهـذا يعني أنَّ ”مال الظلم“ هو ”مالٌ لا يَمُتُّ للبرِّ بِصِلَة“. ومعروفٌ أنَّ «محبة المال أصل لكلِّ الشرور، الذي إذ ابتغاه قومٌ ضلُّوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة» (1تي 6: 10). ولكن مال الظلم هذا، المال البطَّال، عندما نُبدِّده ونوزِّعه لحساب المسيح يتحوَّل إلى مالِ برٍّ، ينتقل إلى الحياة الأبدية. ونحن نعلم أنَّ «العالم كله قد وُضِعَ في الشرير» (1يو 5: 19)، وأنَّ «الوقت (الزمن) منذ الآن مُقصَّر» (1كو 7: 29)، فهو زمنٌ شرير، وأيام شريرة. ولكن عندما نأخذ هذه الأيام التي تُعتَبَر شريرة، ونستغلها في الصلاة والسجود؛ عندئذ يتحوَّل هذا الزمن المُقصَّر الشرير إلى خلود داخلك، يتحوَّل هذا الزمن الرديء فيك إلى حياةٍ أبدية، وإلى خلود لروحك. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أُعطِيَ له حق تحويل الزمن إلى خلود. فالدقيقة التي تُصلِّيها تتحوَّل فيك إلى خلود، وإلى حياة أبدية في داخلك. إذا صلَّيتَ كل يوم، لا يبقى هذا اليوم كما هو في هذا الزمان الرديء، وإنما يتحوَّل لحساب الله، فيصير ألف سنة في الحياة الأبدية. أمَّا إذا صلَّيتَ سنة في حساب هذا الزمان، فستكون هذه السنة هي الأبدية بعينها بالنسبة لك، بالرغم أنَّ الأبدية ليس فيها أرقام أو أعداد. كلُّ شيء في هذا العالم فانٍ، ولكن المُقايضة تُحوِّل هذا الفاني إلى خالد، إلى حياةٍ أبدية. وهكذا فإنَّ الرب يسوع استطاع أن يُحوِّل هذا العالم المُتغيِّر إلى عالم أبدي. وهو قادرٌ أن يُحوِّل كل ما فيك، مِمَّا لا تتصوَّره، إلى مجدٍ، وإلى حياةٍ أبدية. وأنت نفسك تحوز صداقة مع الملائكة وأرواح الأبرار المُقدَّسين في السماء. «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم»: مَن هم أصدقاؤنا؟ هم الأرواح المُبرَّرة في السماء. فعندما تنتقل من هذا العالم، فسوف تستقبلك الملائكة والأرواح البارَّة بالأحضان؛ لماذا؟ لأنك بذلتَ صحتك من أجل الآخرين، وقدَّمت المال للمحتاجين، وكل ذلك لحساب المسيح؛ فتكون النتيجة أنَّ أولئك الذين خدمتهم هنا على الأرض، يستقبلونك هناك في الأبدية بالفرح والتهليل. وهـذا هـو قانـون المقايضة: ترابٌ بمجدٍ، ملاليم بجواهرَ سمائية. مقدار السعادة والغبطة التي يذوقها الإنسان حينما يبتدئ في التبديد والبَذْل لحساب الله، يحوزها من هنا في هذا العالم. فمهما حصلتَ على تكريمات ومُجاملات وأموال وأرباح وأشياء خاصة لك، فكل هذه لا يمكن أن تُقارَن بالإحساس الداخلي الرائع عندما توزِّع وتبذل كـل ما عندك لحساب المسيح ولخدمة الآخريـن. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
13 يناير 2021

سلامٌ لكِ يا بيت لحم

يا للتعطُّفات الأبوية الرحيمة!! هو خلقنا ولا يزال يحمل مسئولية أنيننا، ويهتمُّ جدّاً بأحوالنا، ولا يطيق أن يرى أولاده تحت ظُلم أو سُخرة أو ضيق، لأنه في كلِّ حال ضيقهم يتضايق جدّاً، ومَنْ يمسُّهم كأنه يمسُّ حَدَقَة عينه.أليس بسبب تعطُّفات الأُبـوَّة الرحيمة التي تملأ طبيعته المجيدة، أرسل لنا ابنه الحبيب ليتجسَّد ويتأنَّس ويصير تحت آلامنا كلها بعينها، فلا يعود الآب يتشارَك معنا في آلامنا تشارُكاً معنوياً فقط، بل تصير ال‍مُشاركة مُشاركة فعلية حقيقية في جسد ابنه!! مَنْ ذا يستطيع بعد ذلك أن ينسى حنان الأُبوَّة التي افتقدنا ب‍ها الآب في المسيح أو يتجاهلها؟ أو مَنْ ذا يتضايق إلى حدِّ التذمُّر مهما بلغت شدَّة الضيقة، بعد أن عرفنا بتأكيد أنه يتضايق معنا ومثلنا؟ وإن كانت أنوار بيت لحم في هذه الأيام ال‍مُباركة تجذب أبصار قلوبنا بشدَّة للتأمُّل في أمجاد البنوَّة المملوءة حبّاً وسلاماً، فإنَّ أصوات الملائكة لا تزال تلحُّ عليَّ جدّاً أن أتكلَّم مُعطياً المجد لله الآب في الأعالي، مُكرِّماً مشاعر الأُبوَّة المتعطِّفة التي صارت منها هذه المسرَّة والنعمة ال‍مُتضاعفة. ومَنْ ذا يستطيع أن يتقدَّم إلى بيت لحم إن لم يجذبه الآب أولاً؟ أو مَنْ ذا قد صار في الابن ولم يسبق أن اختاره الآب؟ هذا هو عيد البنوَّة حقّاً، وهو عيد الأُبوَّة بالضرورة.فإن امتلأت قلوبنا بمشاعر المسرَّة بالابن، فلنا أيضاً شركة مع الآب في مسرَّته: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت 3: 17)، مُمجِّدين مقاصده الرحيمة لنا التي ادَّخرها لنا في المسيح قبل تأسيس العالم. إنَّ الآب إذ رأى وسمع أنين البشرية كلها أرسل ابنه؛ بل إنَّ الآب الرحيم المحب أَظهر لنا قِدَم محبته لنا، إذ ونحن بعد خطاة وُلِدَ المسيح. والعالم وهو غارق في ظلمة الجحود، أحبه الآب هكذا، وأرسل ابنه ليبذل نفسه فدية لأجل الجميع.أيَّة متعة لنا في مشاعر حنان الأُبوَّة! آه أنا محصور في حب الآب! إني أستشعر حبه جدّاً قديماً قبل بيت لحم هذا الذي به عرفني ابنه، وهذا الذي به أيضاً جذبني إليه. ومحبة الآب لا زالت واضحة المشاعر في أعماقي أرى في نورها نور محبة المسيح، وأفهم على هُداها مجد ذبيحة المسيح وتكميل المقاصد المكتومة في أسرار ما قبل الدهور.وفي الحقِّ أنا محصورٌ بين الاثنين، فمن قلب الآب تقبَّلتُ أعظم وأجلَّ مشاعر محبة الله ملموسة منظورة في الحياة الأبدية وطبيعته الإلهية التي أُظهِرَت لنا في المسيح مُتجسِّداً. ومن قلب المسيح المجروح من أجلي تقبَّلتُ أسمى آيات الحب الباذل لرفع نفسي والصعود ب‍ها في طريق النور، طريق مُقدَّس كرَّسه حديثاً بجسده المكسور، ليُوصِّلني أنا بنفسي إلى أعماق قلب الآب.وها أنا كلَّما أنظر المسيح يسوع ربي وأنذهل من فرط حبه واتضاعه وأنفعل في قلبي بحبٍّ لذيذ واضح، لا أملك إلا أن أرفع نظري إلى فوق نحو الآب أبيه وأبي كل أحد، وأرى وأحسُّ بحبه الأبوي، فأنذهل أيضاً من فرط هذا الحب والاتضاع، فيزداد قلبي انفعالاً واضطراباً لذيذاً حتى أكاد أغيب عن وعيي وأستريح من فرط فرحتي التي أثقلت عقلي.كذلك كل مرَّة أتطلَّع فيها إلى الآب وأتقبَّل منه مشاعر الأُبوَّة الرحيمة كما يتقبَّلها ابن عاطل من القوة مستكين في حضن أبيه سيد كل البشر، يمتلئ قلبي شجاعة وينطلق لساني تسبيحاً ومجداً، لا يكمل فرحي ولا ت‍هدأ نفسي حتى أنظر إلى الابن الجالس في حضن أبيه الذي به صار لي مثل هذه الجرأة إلى صدر الله وقدوماً بثقة إلى أُبوَّته الرحيمة ومعرفة بطبيعته المجيدة.فأي تسبيح يا نفسي يمكن أن تُقدِّميه إلى الآب السمائي في ذكرى ميلاد ابنه الحبيب؟ وأي مجد يليق بالأُبوَّة في يوم عيد البنوَّة؟! ولكن مهما مجَّدنا الآب بالمجد اللائق الفائق، فلن نستطيع أن نبلغ شيئاً مما بلغه المسيح في ذلك. فما من عظمة لائقة في موضعها إلاَّ وقدَّمها لأبيه، وما من فرصة مواتية بقولٍ حسن أو عمل مجيد أو آية أو صلاح إلا ونسبهُ للآب! حتى فاق في تمجيده لأبيه كل حدود إمكانيات البشر ولم يستَبْقِ لنفسه منها شيئاً قط مُتمِّماً القول القائل: «لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ» (في 2: 7). ولكن ليس عن تمايُز أو تفاضُل بين الآب ونفسه، حاشا! لأنه هو القائل: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» و«كُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ (للآب)، وَمَا هُوَ لَكَ (للآب) فَهُوَ لِي» (يو 10: 30؛ 17: 10)، بل بكفاءة متساوية وكرامة واحدة متَّحدة.ونحن وإن كُنَّا قد تصوَّرنا أنفسنا في عداوة سابقة، كلَّ واحد منَّا كابن رافض لمحبة أبيه مُتغرِّباً عنه في كورة بعيدة؛ إلاَّ أنَّ الآب الصالح ما فتئ يطلبنا بنداء الحب الصامت ويدعونا إليه ناسياً جهلنا في اشتياقات صلاحه، وبتوسُّط ذبيحة ابنه. وما الصورة التي قدَّمها لنا السيد المسيح في قصة الابن الضال إلاَّ شرحاً لصلاح الأُبوَّة بالأكثر، مُظهراً في ن‍هايتها ال‍مُبدعة كيف تُغسل عيوب البنوَّة في حب الآب فتُنسى.ثم يزيد المسيح قُرباً وتلامساً لصلاح أبيه وحنانه ورقَّة مشاعره من نحونا في مُقارنة لطيفة قصيرة غزيرة المشاعر مزدحمة بالأحاسيس بين أبوَّة الإنسان وأبوَّة الله (انظر: مت 7: 7 -11)، مُقرِّراً في تأكيد كم أنَّ هذه الأخيرة أكثر تعرُّفاً على الخير وأكثر سخاءً في تقديمه.ولقد كان شغل المسيح الشاغل أن يُعرِّف الجميع بكل وسيلة ممكنة وغير ممكنة: مَنْ هو الآب! فلم يكُفَّ فمه الطاهر عن نُطق هذه الكلمة العزيزة عنده أعز من كل شيء، فقد رآه واستعلنه واضحاً ظاهراً في كل عمل وقول، مُعلناً بوضوح أنه مـن حضن الآب جاء، وبالآب يعمل الأعمال كلها، ومن الآب يتكلَّم، ومن عنده يشهد، وله وحده يُمجِّد، وفي الآب هو كائن، وإلى الآب يعود؛ حتى إن التلاميذ فات عليهم عُمق اتضاعه وارتبكت معرفتهم عنه هو فسألوه: «أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا» (يو 14: 8).ويا لعِظَم مسرَّة قلوبنا وغِنَى حظنا في الآب بالابن، لأن المسيح لم يكفَّ بعد عن أن يُعرِّفنا الآب حتى الآن: «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ» (يو 17: 26)، وذلك «ليتمجَّد الآب بالابن» كما مجَّد الآب الابن (يو 14: 13؛ 8: 54).والنفس التي ذاقت حقّاً حب المسيح وتنسَّمت رائحة أقنومه الإلهي وتقلَّبت على جمر نار حبه، لابد وأن تذوق حب الآب أيضاً الذي هو أسمى اختبارات البشرية، هذا الذي يُقال عنه في التصوُّف ”التاورية الثالثة“ أي تاورية (= تأمُّل) الثالوث الأقدس. هذا هو ن‍هاية جميع الهبات وختام مواهب الروح القدس الذي ختم به السيد المسيح صلاته وسؤاله عنا في ن‍هاية رسالته على الأرض: «لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ» (يو 17: 26).ولقد كان الرسل شديدي الإحساس بالآب وما استطاعوا أبداً أن يتذوَّقوا جمال الابن إلا في أبيه، ولا رسالته إلا في إرساليته، بل وما ذكروا الابن إلا بالآب، وما طلبوا سلاماً أو نعمة أو بركة إلا واستمدُّوها من الآب بالمسيح أو في المسيح. وهذا الشعور المقدَّس في تفهُّم الرسل لشخصية الآب يُحدِّده يوحنا الرسول في عبارة موجـزة شاملة مُكمِّلة: «اَلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُـونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (1يو 1: 3).وإن قدَّاسَي القدِّيسَيْن باسيليوس وكيرلس لَتَطبيق عملي لحياة الشركة العميقة مع الآب ومع الابن التي تكلَّم عنها يوحنا الرسول.فيا ليتنا نتذوَّق مشاعر الآب في ذكرى ميلاد ابنه، ونجعلها تنمو في قلوبنا لتحتل في حياتنا وأفكارنا ولغتنا مكان‍ها الأول المناسب. فنحن أبناء الله الآب في يسوع المسيح وشركتنا هي مع الآب ومع الابن.سلامٌ لكِ يا بيت لحم مسقط رأسنا. فقد وُلِدنا فيكِ لله بالمسيح، وصرتِ لنا مكان التبنِّي الذي حُسبنا فيه أهل بيت الله لَمَّا وُلِدَ فيكِ أخونا البِكْر.يسوع الذي تجمَّعت فيه بُنوَّات الإنسان الكثيرة المتباينة المتنافرة، فأخذها وغسلها بالماء والدم، وطهَّرها وقدَّسها ووحَّدها بروحه الأزلي، وقدَّمها في طاعة محبته بنوَّة واحدة لائقة للآب، «وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ» (عب 2: 10)، مستطيعاً أن يجعل الكلَّ واحداً فيه، وهو إذ لم يَسْتَحِ أن يدعونا إخوة، استحققنا باتضاعه واشتراكه معنا في اللحم والدم أن ندعو أباه أبانا.وهو لَمَّا تجسَّد، وهبنا فكره الذي بـه استطعنا أن نمتدَّ وراء الدهور، لنقرأ بالروح مكنونات الأسرار في الأزلية؛ عن قصة خلقتنا الحقيقية في مقاصد الآب، ونَعْلَم أننا كُنَّا في المسيح قبل تأسيس العالم لمقاصد ومشيئات الآب الصالح ولنهاية مجيدة مُفرحة.يا لقِدَم تاريخ الإنسان الذي انكشفت أهم وأمجد حلقاته الروحية بتجسُّد الابن، رافعاً الستار عن طبيعة الإنسان المباركـة المكرَّمـة في المسيح يسوع قبل أن توجـد خليقة ما وقبل أن يـرفَّ روح الله على وجه المياه.هذا هو كلمة الله الأقنوم الثاني والمساوي مـع الآب في الجوهر، صانع الخليقة المنظورة وغير المنظورة، الذي ليس مخفياً عن معرفتنا؛ بل مقروءٌ لاهوته في خليقته ومُدرَكٌ لاهوته بالمصنوعات (رو 1: 20). هذا الذي لما عرفوه لم يمجِّدوه كإله، ولما جهلوه نـزل ليُعلِن وينطق بخبر الآب الذي أرسله ويكشف عن طبيعة الله بكلمته.هذه هي الحياة الأبدية التي أُظهِرَت لنا في جسد إنسان، وهي هي التي تمدُّ الخليقة بالحياة وتحفظها من العدم. هذا هو الحق المتجسِّد ليُعلِن لنا أسرار الله في ذاته وفي قيامته.هذا هو النور الذي جاء إلى العالم مُضيئاً بالحقِّ والحياة التي فيه، حتى بنوره نستطيع أن نُدرك النور أي الحق والحياة معاً التي في الله.هذا هو الإله المتأنِّس الذي يحمل طبيعة الإنسان بكافة نواحيها، والذي اكتملت فيه مشاعر الطبيعة البشرية حتى يستطيع أن يتلامس مع كل إنسان في الوجود، إذ يجمع في شخصه كل سجيات البشرية الفاضلة ولمسات روحها المبدعة بكلِّ أنواعها وصفات‍ها العديدة، من كل شكل وكل جنس وكل قامة من فجر الطفولة إلى غَسَق الشيخوخة، خلا صفة واحدة ذات اسم شنيع مكروه: ”الخطية“.ففي المسيح، كل ذي جمال وكل ذي عاطفة نبيلة أو حاسة مقدَّسة طاهرة، يجد فيه اتفاقاً ومَعِيناً لا ينضب لإلهاماته وإبداعاته. وفي المسيح أيضاً يجد كل إنسان، خلا من امتيازات العبقرية والإلهام، يجد في المسيح إنساناً نظيره؛ ولكن فيه مقدرة أن يستكمل فيه ومنه كل ما تشتهيه نفسه من إلهام وإبداع.وكل مرذول محتَقَر، كل مَنْ نبذته البشرية وأذلَّته فصار كأنه غريب على عنصرها، يكدح خارجاً عن دائرة اعتبارها مع المخلوقات الأقل؛ هذا يجد في المسيح إنساناً مُهاناً نظيره يستطيع أن يستعيد فيه كرامته البشرية، ويجد عنده راحة من كدِّ هذا العالم، ويتقبَّل منه شرف أخوية أسمى لعنصر أرقى وحياة أبقى.إذاً، فاليوم عيد، عيد لكلِّ الناس، لأنه وُلِدَ للبشرية مُعين، وأُعطِيَ للإنسان ابن تكمَّلت فيه كل إعوازها. سلامٌ لكِ يا بيت لحم! فأنتِ حقّاً لستِ الصُّغرى، فتخومكِ امتدَّت مع المولود فيكِ ودَخَلَت مناطق الأزلية في أقصى السموات، وصار لنا منكِ عبورٌ سهل إلى تلك النواحي البعيدة في اللان‍هائية.وسلامٌ للنجم الذي لا يزال يُضيء قلوب الحاجين إليه، أي كلمة الحياة، التي هي سراجٌ منير في موضع العالم المظلم، يسير أمام السائرين على هَدْي نورها حتى لا تُدركهم الظلمة، يرقَى ب‍هم إلى مراقي المجد حتى قلب الله. وسلامٌ على موكب الحكماء السائرين في ليل هذا العمر، متشجِّعين بالرؤيا وبالنجم الذي يتقدَّمهم ويُلهمهم حكمة لمعرفة الطريق، حكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر، حكمة في سرٍّ، حاملين هداياهم: مال العالم والذهب، ومُشتهيات الجسد مع اللُّبان، ومُر الحياة مع الرضا.قدَّموا أموالهم لينالوا الملكوت، ووهبوا أجسادهم ليحظوا بالكهنوت، واحتملوا ال‍مُر ليجدوا السرور.ما أحكم المجوس وما أعمق سر الهدايا، إن أسرارها لكثيرة! وسلامٌ للعذراء الأُم الممتلئة نعمة التي اختيرت ليحلَّ روح الله على هيكلها البشري حتى تصير نموذجاً أبدياً لإمكانية حلول الله في الإنسان.سلامٌ للتي لها دالة عند الله أفضل من نبي ورسول، ومن البشريين قاطبة، إذ لها مع الأقنوم الثاني رباطٌ وثيق مقدَّس يضمُّها إليه إلى الأبد.سلامٌ للتي وَجَدَت نعمة أكثر من ملاك ومن رئيس ملائكة، وأُعطِيَت أن تجلس عن يمين الملك في مجده لأن القدير صنع ب‍ها عظائم، رفعها وأنزل الأعزَّاء عن الكراسي.هو الربُّ، لذَّته دائماً مع المتضعين في بني الإنسان. لذلك جميع الأجيال تُطوِّب‍ها، وسعيدٌ أنـا إذ بلغتُ جيلاً يُطوِّب‍ها.بركات بيت لحم فلتحلَّ على شعب الله مـن جيلٍ إلى جيل، له المجد في كنيسته إلى الأبـد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
26 فبراير 2024

اليوم الاول من صوم يونان (مت 12 : 35 – 45)

"الانسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات و الانسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور و لكن اقول لكم ان كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساب يوم الدين لانك بكلامك تتبرر و بكلامك تدان حينئذ اجاب قوم من الكتبة و الفريسيين قائلين يا معلم نريد ان نرى منك اية فاجاب و قال لهم جيل شرير و فاسق يطلب اية و لا تعطى له اية الا اية يونان النبي لانه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة ايام و ثلاث ليال هكذا يكون ابن الانسان في قلب الارض ثلاثة ايام و ثلاث ليال رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل و يدينونه لانهم تابوا بمناداة يونان و هوذا اعظم من يونان ههنا ملكة التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل و تدينه لانها اتت من اقاصي الارض لتسمع حكمة سليمان و هوذا اعظم من سليمان ههنا اذا خرج الروح النجس من الانسان يجتاز في اماكن ليس فيها ماء يطلب راحة و لا يجد ثم يقول ارجع الى بيتي الذي خرجت منه فياتي و يجده فارغا مكنوسا مزينا ثم يذهب و ياخذ معه سبعة ارواح اخر اشر منه فتدخل و تسكن هناك فتصير اواخر ذلك الانسان اشر من اوائله هكذا يكون ايضا لهذا الجيل الشرير" يونان ونينوى ونحن ليس عبثاً وضعت الكنيسة هذا الصوم المبارك في هذا الوقت بالذات، فترتيب الكنيسة دائماً مُلهَم. تعلمون أننا قادمون على الصوم الأربعيني المقدَّس. والكلام هنا مركَّز وموجَّه. فكلمة "الأربعيني" ذات أهمية خاصة. ذلك لأننا قادمون على موت يجوزه المسيح عن البشرية كلها، أو هو استبدال موت بهلاك، ذلك لأن البشرية كلها كانت في حالة هلاك أو مشرفة على هلاك وإبادة لا تقل عن إبادة الطوفان(2)، وذلك بسبب تعاظم سلطان الخطية وهذا ما حدا بالابن المبارك أن يترك مجده ويلبس بشريتنا ويتألَّم لكي ينقذ البشرية. لقد قدَّم نفسه للموت عوضاً عن هلاك البشرية ثم قام، فصار موته وقيامته مصدر خلاص وتوبة لا تنتهي. صار آية لكل مَنْ يريد أن يرث - لا أن يرى الإنسان بعد آية - بل يرث السماء نفسها. فهذا هو موت المسيح وقيامته. وهذا هو الصوم الأربعيني الذي صامه الرب عن البشرية كلها، ليوفِّي عنها كل نقص في نسك أو في صوم والكنسيون منكم يتذكَّرون أننا لازلنا نردِّد ألحان عيد الظهور الإلهي، أي التعميد الذي لا يتم حسب الطقس إلا بالتغطيس الكامل تحت سطح الماء(3)، أي في عمق المياه - أو بتعبير قصة يونان - نزل إلى بطن الماء. لذلك لما خرج المسيح من الماء اعتُبر ذلك مسحة خَدَم بها، تلك التي تقدَّم بها للدخول في صوم الأربعين يوماً، ثم إذا تجاوزنا الزمان أو التـزمنا بالطقس الكنسي ندخل مباشرة في أسبوع الآلام ثم الموت فالقيامة وهكذا يأتي صوم يونان قبل الأربعين المقدَّسة حاملاً معاني ورموزاً كثيرة ما بين الغطاس والموت على الصليب!! نعود إلى يونان. ونسأل: مَنْ هذا المدعو يونان؟ إنسان نبي، من العبرانيين، أتاه صوت الرب هكذا «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة » (يون 1: 1 و2)فقام يونان، يقول الكتاب إنه "قام وهرب" إلى ترشيش من وجه الرب، وذهب وهاج البحر السفر لم يوضِّح أكثر من هذا، وطبعاً إن أي عدم توضيح في الأسفار أو الإنجيل ليس معناه قصوراً أو خللاً في التدوين ولا حتى سهواً، ولكنه فسحة للفكر العمق وللنفس المتأمِّلة، لتستوعب الأشياء التي لا يمكن أن تُكتب في سطور. وأتمنَّى أن يكون هذا الكلام له صدى عند السامع، لأن كثيرين يشتكون من غموض بعض المواضع في العهد القديم؛ بل وفي الإنجيل أيضاً. صوت الرب يقول ليونان: اذهب وبشِّرها لأن شرَّها صعد أمامي. فهرب ونزل في بطن الماء وبقي فيه ثلاثة أيام، وبالتعبير الكتابي، المسيح نـزل إلى الهاوية ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. ويونان نـزل إلى العمق، في بطن الحوت، ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبتعبيره هو قال: «صرختُ من جوف الهاوية» (يون 2: 2)، وهكذا يبدو سفر يونان تطبيقاً ورؤيويًّا، وكل سطر وكلمة فيه تشير إلى المسيح بصورة قويَّة جداً. وهنا يمكن اعتبار يونان بمثابة يوحنا المعمدان في العهد الجديد الصارخ ليعد طريق الرب يونان رمز حيٌّ بشخصه، يمثِّل المسيح. عماد المسيح دفع به إلى الأربعين المقدَّسة، والأربعين إلى الصليب ثم القيامة. تماماً كما نـزل يونان الماء ثم ذهب لنينوى كارزاً لها بالتوبة قائلاً لها: إن المدينة ستهلك بعد أربعين يوماً - كأنما هنا إشارة خفية أن الأربعين يوماً هذه مهمة في تحديدات الله - وكأنها وفاء أقصى مدة محدَّدة للهلاك(4). لكن الرب وفَّاها وقضاها في صومه الأربعيني عن البشرية كلها أما هروب يونان، فكأنه يستصعب الدعوة، لكنه بعد أن نـزل في الماء وظلَّ فيها ثلاثة أيام حدث له شيء ما. لأنه بعد ما ألقاه الحوت على الشاطئ، قال له الرب مرَّة ثانية بنفس الألفاظ الأُولى: «قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ لها بالمناداة التي أنا مُكلِّمُكَ بها» (يون 3: 2)، فانصاع يونان وكأنما تجدَّد فكره بعد أن اعتمد لنينوى ثلاثة أيام في العُمق!! هنا شيء سرِّي حدث. وكأنما النـزول في الماء - معمودية يونان - هو اجتياز الموت والقيامة لنينوى. يا للعجب على الإشارات البليغة، يا للكنيسة التي تستطيع باللمسات الخفيفة أن تحدِّد صوماً محدَّداً أو عيداً معيناً. تحديدات كلها إلهام ورؤيا لمَنْ يريد أن يسمع أو أن يرى، وليس كالكتبة والفريسيين الذين قالوا له: «نريد أن نرى آية»، متغاضين عمَّا حدث من قبل وضعت الكنيسة هذا السفر أمام أعيننا في هذه الأيام لنستطيع أن نستوعبه لأنفسنا: أولاً في يونان، وثانياً في نينوى. لأن ليونان ونينوى رسالتين لنا في حياتنا. فيونان يضع لمسات صورة المسيح القادم من بعيد. ونينوى تبكِّتنا بشدَّة: «رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلاَّ آية يونان النبي.» (مت 12: 41 و39)«هذا الجيل»، لا يقصد به الوحي زمن جيل المسيح فحسب - كما يقول أغلبية الشرَّاح - ولكنه هو هذا الجيل أي كل جيل شرير وفاسق. كل جيل فيه الشرير والفاسق، فهو «هذا الجيل». أما جيل المسيح الذي هو جيل الرسل فهو جيل مستمر فينا وبنا حتى الآن. وأنتم تسمعون الكاهن يقول: "اذكر يا رب كنيستك الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية"، ثم تسمع في المجمع أسماء البطاركة حتى آخر بطريرك. فالكنيسة ممتدَّة من المسيح والرسل إلى هذا اليوم. فهو جيل واحد، هو جيل المسيح، وهذا اسمه. الجيل الشاهد للمسيح حتى آخر يوم في تاريخ البشرية، جيل ممتد، الجيل الطيب القديس الطاهر أما الجيل الآخر فهو جيل قايين، وجيل يهوذا، الجيل الصالب، هو أيضاً ممتد حتى هذا اليوم، فيه يهوذا وفيه الصالب أيضاً «جيل فاسق وشرير»، قد تبدو هنا قسوة في كلام المسيح، ولكن ليس الأمر كذلك. هو جيل فاسق وشرير لأنه زاغ عن الله. وإذا سمعت عن "الفسق والشر" في الإنجيل فلتفهم أنه يقصد الوضع الروحي وليس الجسدي (لأن الوضع الجسدي يمكنه بطعنة في الضمير الحي من سيف كلمة الله أن يحوِّل أشر الناس إلى القداسة). الشر الروحي، هو أن نعبد غير الله، أن نرتمي في أحضان الشيطان، هذه هي الخيانة الزوجية. لأن المسيح اتخذ الكنيسة لنفسه عروساً، حسب نفسه عريساً للكنيسة: «لأني خطبتكم لرجل واحد لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (1كو 11: 2)«جيل فاسق وشرير يطلب آية»، هل يريد من الله أن يرسل له ناراً من السماء؟ أو يرسل له منًّا من السماء يأكله ويشبع؟ ألم يقدِّم لهم الطعام في معجزة إكثار الخمس خبزات والسمكتين (إنجيل اليوم الثالث من صوم يونان)؟ ولكن لننتبه لأنفسنا جداً لأن الآية لا تزيد الإيمان، ولكن الإيمان بحد ذاته آية!! تذكرون قول الإنجيل إن المسيح «لم يصنع هناك (في الناصرة) قوات كثيرة لعدم إيمانهم» (مت 13: 58). لن يستطيع المسيح أن يعمل لك آية في حياتك إن لم يسبقها إيمان «ولا تُعطَى له آية إلا آية يونان النبي»، جيل فاسق شرير، وخطيته شنيعة جداً. لن تنفعه الآيات من السماء. ولكن آيته الوحيدة هي التي تقيمه من موت الضمير، وآيته هي آية يونان النبي، آية الموت لأن يونان في عُرف المنطق والعلم أنه كان يتحتَّم أن يموت في بطن الحوت، يونان مات، نعم مات، والرب أقامه، ولكن لمَنْ كان الموت؟ ما أجمله موتاً ذلك الذي نموته كل يوم من أجل الآخرين! ما أجملك يا يونان يا نبي الفداء وأنت تموت ثلاثة أيام بلياليها لتكفِّر عن خطيتك وخطية نينوى العظيمة!! الشرَّاح الغربيون يقولون عن سفر يونان أنه سفر خرافي، أما المتساهلون منهم فيقولون عن يونان إنه يمثِّل الابن الأكبر (في مَثَل الابن الضال)، لأن نينوى لما خلصت حزن يونان وصار مثل الابن الأكبر لم يُرِدْ أن يدخل البيت لا، لم يحدث هذا، الحقيقة العميقة هي أن يونان تمنَّع من الذهاب لنينوى لئلاً يبِّشرها بالخراب!! ولأنه يعلم يقين العلم أن الله طويل الأناة بطيء الغضب، وسيصفح حتماً في النهاية. لذلك هرب يونان لئلا يواجه محنتين: محنة التبشير بالخراب، وهو عسير كل العسر على النفس الوديعة؛ ومحنة رجوع الله عن غضبه، فيظهر يونان وكأنه يسخر من شعب غريب. ولكن أين يهرب يونان من وجه الله؟ فالله دائماً يطارد الخادم الهربان. فكل إنسان يمكن أن يهرب من وجه الله، إلاَّ من سمع صوته وحمل نيِّره وقَبـِلَ اسمه القدوس في الفكر القبطي يونان ليس هو الابن الأكبر الذي حزن على خاص نينوى، ولكنه مثال المسيح. هو نبي الفداء المبدع، لا يقلُّ بل ربما يزيد عن كل الأنبياء في العهد القديم، رقة ورهافة، لا يماثله في هذه الرهافة والرقة إلاَّ نبي واحد مظلوم مثله، هو أيوب.يونان لم يحتمل أن يكون كارزاً بالخراب. وفي إنجيل لوقا إشارة لطيفة جداً ولكنها سرية للغاية، تكشف عن حدوث صلة توبيخ لأهل نينوى بسبب المخاطرة العظمى والموت المحقَّق الذي تعرَّض له يونان من أجلهم: «وكما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل.» (لو 11: 30)إذاً، فقد بلغ أهل نينوى أن يونان عبر محنة الموت في داخل بطن الحوت ثلاثة أيام، ثم قام من أجل خلاصهم!!هنا يقصد إنجيل لوقا أنه كما كان يونان بنفسه (وليس بكرازته فقط) آية لأهل نينوى، هكذا يكون ابن الإنسان بنفسه آية لهذا الجيل، أي بموته وقيامته من الصعب جداً، يا إخوة، أن نتكلَّم كثيراً عن ضغطة الموت على مدى ثلاثة أيام بلياليها التي جازها يونان، ولكننا نعرفها أكيداً في تطبيقها على المسيح لما مكث ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في الهاوية ثم قام: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا (أي كرامات)» (أف 4: 8)، قام «ونفخ (في وجه تلاميذه) وقال لهم ... مَنْ غفرتم خطاياه غُفرت له» (يو 20: 22 و23). أعطى الحِلَّ والبركة على الأرض لتدوم إلى أبد الآبدين، إذ نسمع الكاهن يقول: «كما أعطيت الحلّ للتلاميذ ليغفروا الخطايا ...»، هكذا دام هذا الحلُّ الذي يفك كل الخطايا هكذا قام يونان وكَرَزَ لنينوى، ليحل عنهم بضيقة موته ثم بكرازته غضب الله!! ويبدو أنه قال لهم ما حدث له وأما من جهة نينوى المدينة العظيمة، فنحن آتون هنا لمنظر من المناظر الرهيبة، إذ بمجرَّد أن سمع الملك بما حدث ليونان، وبما نادى به، قام عن كرسيه الملكي وخلع ثيابه وفخفخته وجماله وفخره الكاذب، ولبس المسوح، والشعب كله لبس المسوح - والمسوح ثوب من شعر المعزى خشن الملمس جداً - وأعطى الملك أمراً أن يُرفع الطعام عن كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً حتى الرضيع على صدر أمه - يا للهول - وعن البهائم كلها، وهنا وكأنما الخليقة كلها تتمثَّل في قصة توبة نينوى.وكان ذلك إلى ثلاثة أيام. مدينة فيها "واحد على ثمانية" مليون نسمة تتوب كلها ويعفو الرب عنها من أجل توبة جماعية ناشطة وتدبير متقن لهذا الملك النصوح الواعي الذي استطاع بحكمته أن يرفع حكم الموت عن شعبه؛ يا للرعاية ويا لحكمة الراعي!! ثم ما هذا الحضن المتسع يا الله؟ إن هذا عجب كبير حقاً! مدينة وثنية تؤمن بالله بكرازة واحدة؟ نعم، ليس بآية من السماء ولا من الأرض تتوب البشرية أو يُعفَى عن إثمها، بل بالاتضاع والصوم والصلاة وتذلُّل القلب لدى الله القدير!آه لو علم كل خاطئ هذا، ما استكثر خطاياه أبداً عن عفو الله. لو علمت الكنيسة ما ينبغي أن تكون عليها من توبة جماعية، لجلست مع أبنائها في هذه المسوح وفي تراب المذلة إلى أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء، ولكانت أزمنة الفرج تأتي من السماء سريعاً!! كما قال بطرس الرسول (أع 3: 19)يا أحبائي، إن تعطَّلت أزمنة الفرج فالعيب هو منا، نينوى كانت تسير إلى الهاوية والهلاك أكيداً وسريعاً، ولكن بوقفة شريفة شُجاعة أمينة على قدر الدعوة وقدر التهديد استطاعت أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء. ماذا يعوزك أيها الخاطئ؟ أيعوزك المسوح؟ أيعوزك التراب؟ ماذا يعوزك؟ لو كانت التوبة بذهب وفضة، لو كانت تستلزم سلماً عالياً نطلع به إلى السماء، لو كانت تستلزم منا جهداً نفسانياً أو عقلياً أو جسمانياً أو حكمة فائقة أو علماً زاهراً، لكي نحدر المسيح من السماء أو نصعده من الهاوية؛ لقلنا إن التوبة صعبة وشاقة. ولكن ملك وشعب ونساء وأطفال وبهائم نينوى عرفت طريقها سريعاً إلى النجاة. فما بالنا نتعطَّل نحن، وما بالنا نذهب يميناً ويساراً ونستشير الكبير والصغير، والخلاص أمامنا وبابه مفتوح، والذين دخلوا منه كثيرون، ومن كل شعب ولسان وأُمة!!وها هي نينوى تضع لنا نموذجاً لتوبة بسيطة قادرة بعنفها أن تفتح أبواب السماء وتحدر عفواً شاملاً بلا أي استثناء للمدينة بأسرها، قيل عنها في الكتاب إنها لا تعرف شمالها من يمينها!يا إخوة، نحن قادمون على الأربعين المقدسة، يعوزنا قلب كقلب ملك نينوى وشعب نينوى. أما مجرَّد ذكر البهائم الصائمة وهي خائرة على مذاودها ففيه توبيخ لنفسي، لأني أرى في نفسي وحوشاً ضارية تتعالى على غيرها كما يعلو الأسد على الغزال. كم فيكِ يا نفسي من غرائز تحتاج أن تُذلَّل بالجوع والمسوح؟ منظر نينوى وبهائمها واقفة على المذاود تئن، مرعب لشهواتي وملذاتي. الثيران وقعت من الجوع خائرة. وكم فيكِ من هذا يا نفسي يا مدينة الله! ما أجملكِ يا نفسي وأنتِ جالسة في المسوح والتراب متشبِّهة بنينوى!! جيد لكِ يا نفسي في هذه الأربعين المقدسة أن تَرْبُطي حواسكِ كلها، البهيمي منها والوحشي، ولا تفتكري أنكِ بنت المدينة العظمى التي تعرف شمالها من يمينها، لأن الخطية لا يتعالى عليها إلا مَنْ ذاق ما ذاقته نينوى!اليوم يا أحبائي، أكشف أمامكم سر السماء بلا ستار، بلا حجاب؛ ملك يترك عرشه، وينتـزع الخلاص، وينتـزع العفو السمائي، بتوبة جميلة رائعة استطاع أن يحصل عليها وهو في التراب والرماد ثقوا، إن ساعات الخلاص وأيام الرجاء لا تأتي جزافاً أبداً. إن كنت تريد خلاصاً سريعاً، إن كنت تريد أزمنة فرج، فاليوم تعلَّم من درس نينوى، وهو درس للأجيال كلها جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلا آية نينوى آية نينوى لا تقل إطلاقاً عن تفتيح عيني الأعمى، وعن إطعام الجائعين بخمس خبزات وسمكتين، وتحويل الماء إلى خمرآية نينوى فاقت كل آية إلا موت المسيح وقيامته، ولكن الجديد في آية نينوى أنها تابت بمناداة نبي، والآن الصوت الذي ينادينا أعظم من كل نبي لأن يونان نادى بالموت أو التوبة، ولكن المسيح يقدِّم لنا موته قوَّة حية محيية قادرة أن تُقيم من الخطية والموت!!اليوم يا أحبائي يوم نينوى ونبيها الرقيق المشاعر، النبي الفادي القائل: "هذه خطيتي" حينما هاج البحر ولم يقل "هذه خطية نينوى"يونان هنا ينادي كل خادم، كل واعظ، كل كاهن، كيف يرى خطية شعبه ومدينته، ويرى في آلامه وحزنه وضيقه، بل وموته فدية لأولاده وصلَّى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال«دعوت مِنْ ضيقي الرب فاستجابني. صَرَختُ مِنْ جوف الهاوية فَسَمِعتَ صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار. فأحاط بي نهرٌ (نهر الموت). جازت فوقي جميع تياراتك ولججك. فقلت: قَدْ طُردتُ مِنْ أمام عينيك (إلهي إلهي لماذا تركتني؟). ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك (وفي اليوم الثالث أقوم). قد اكتنفتني مياهٌ إلى النفسِ (هذا المزمور يُقال في يوم جمعة الصلبوت). أحاط بي غَمْرٌ. التفَّ عشبُ البحرِ بِرَأْسِي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي. حين أعيت فيَّ نفسي ذكرتُ الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك. الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم. أما أنا فبصوت الحمد أذبح لكَ. وأوفي بما نذرته. للرب الخلاص.» (يون 2: 2 - 9) هكذا تكون صلواتنا في ضيقاتنا. اشْتَكِ للرب فقط، شكوى الممنونين "جازت عليَّ آلامك يا رب. أجزتني المحنة وأمررتني تحت العصا. المرُّ في حلقي. دخلت المرارة إلى قلبي وإلى نفسي". وكما يقول النبي: «توجعني جدران قلبي» (إر 4: 19)، بتعبير عجيب، كلها أنين الشكر وشكوى الحمد إن صلاة يونان هي المزامير الجديدة للسائرين في طريق الجلجثة والتي حتماً تردِّد قرارها في السماء كل الأرواح المبرَّرة المكمَّلة في المجد. إنها السلم الجديد الذي نرتفع عليه لكي نطل خلسة إطلالة سريعة على المجد المعد!نعم، هكذا يُغتصب ملكوت السموات! بصلاة كصلاة يونان وهو في عمق الهاوية. اليوم يا أحبائي، هو يوم التوبة الغاصبة لحقوق القديسين وميراث ابن الله. اليوم، مفهوم جديد لمعنى الكرازة بالبذل حتى الدم. اليوم، دعوة للكارز ليسلك طريق النجاة لنفسه وشعبه، للراعي والرعية. هذه نينوى تعطينا صورة حاسمة لكل دقائق ومعنى استرضاء وجه الله!! يا رعية الله، صغيرها وكبيرها، شيخها وطفلها، مريضها وسليمها، هذه نينوى أمامنا آية ويا كارزي المسكونة، ويا واعظي الكنيسة، هوذا يونان لكم اليوم مثلٌ يُحتَذى، كيف كان وماذا صار. فيونان قَبـِلَ أن يدخل محنة الموت والثلاثة الأيام بلياليها ما كان نافعاً لا لنينوى ولا لنفسه، حيث كان سيذهب إلى ترشيش ليأكل الخرنوب مع الخنازير وها هو يونان بعد أن صلَّى من عمق التجربة وأهوال الموت يرينا كيف جاز التجربة حتى النهاية، وصار يونان كارزاً بشبه المسيح، وحُسب له موته بشبه فداء. وهكذا تكرَّم يونان بهذه التجربة فصار هو النبي الوحيد الذي أخذه المسيح ليضعه نموذجاً لموته وقيامته! وآية للتائبين!! صلاة يا رب الفداء الحقيقي الذي منك نستمد كل معنى وكل قوَّة للفداء، أعطِ يا رب روح الفداء لرعاة شعبك، الكبير منهم والصغير، العجوز والحَدَث، المطران والكاهن، أعطهم روح يونان يا رب، وأما رعيتك فأعطها طاعة كطاعة نينوى لمليكها لقبول مرارة التوبة لتنجو ولا تُدان مع العالم، وليؤمن شعبك بالحق أن الرب قادر أن يميت ويُحيي فيا شعب الله اطلبوا الحياة بسيرة التوبة ولا تسعوا بسيرة أهل العالم في طريق الموت يا رب أعطِ رعيتك جميعاً روحاً كروح نينوى في هذا اليوم ليتوب شعبك، وتتوب كل مدن ممالك الأرض إليك، ولتأتِ أزمنة الفرج سريعاً من عندك على العالم. آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
29 فبراير 2024

فصح يونان (يو ۲ : ۱۲ - الخ)

وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبيعُونَ بَقَرَاً وَغَنَماً وَحَمَاماً، وَالصَّيَارِفَ جُلُوسًا. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ الْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلْبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لَا تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تجَارَة». فَتَذَكَّرَ تَلَامِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي». فَأَجَابَ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: «أَيَّةَ آية تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ الْيَهُودُ: «فِي سِتٌ وَأَرْبَعِينَ سَنَةٌ بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟» وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ الْأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلَامِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا ، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ، إِذْ رَأَوْا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ. وَلَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ، لَأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الْإِنْسَانِ]. . التوبة في سفر يونان التوبة في العهد القديم تختلف عنها في العهد الجديد. توبة العهد القديم، والتي تمثلها توبة أهل نينوى خير تمثيل هي توبة مؤقتة وقتية. أما التوبة في عهدنا الجديد فهي حياة، توبة غير موقوتة. الكنيسة في المفهوم الأرثوذكسي السليم جماعة تائبين، والأسقف هو تائب أول يقود تائبين ومن هم الرهبان إلا جماعة هي تحيا في التوبة.خطية آدم الأولى والعظمى ليست هي الكبرياء أو العصيان، أو أنه يريد أن يكون مثل الله، فكل هذه الخطايا من الممكن أن الله يتنازل ويعفو عنها؛ ولكن خطيته الأساسية هي عدم التوبة، لم يقل الله أنا أخطأتُ . سامحني واغفر لي. لو كان آدم قدم توبة، لكان الله في الحال قد سامحه. ولكن لأنه لم يتب هو وحواء وقع القصاص بالكامل عليهما. الله لا يرحم إطلاقاً إنساناً يرفض التوبة، لن تشرق شمس رحمته على من يستهتر بها.في قصة توبة أهل نينوى ينكشف لنا سر عجيب من أسرار أحكام الله، هو أن أحكامه ليست نهائية، ليست أحكام قابلة قضاء مُبرماً، بل هي هي للاستئناف والنقض والمراجعة وما على الخاطئ إلا أن يترافع ويُقدِّم توبة. أوضح مثلين يؤكدان هذا المعنى نراهما أولاً في توبة أخآب الملك، كنموذج لتوبة فردية، هذا الشخص الذي صار عنواناً للشر والخطية، ولكن عندما أمر الرب بإهلاكه، قاب أخاب قال الله لإيليا: "أرأيت كيف اتضع أخاب أمامي؟"، وكانت النتيجة أن عفا الرب عن أخآب. المثال الثاني هو في رجوع الله عن دينونته وعقابه لنينوى وشعبها الوثني كنموذج للتوبة الجماعية.يجب أن تتغير ذهنيتنا عن مفهوم قضاء الله . لأننا كلما ضحمنا في مفهوم صرامة الله ؛ كلما قطعنا على أنفسنا خط الرجعة. في مثل المسيح عن الوزنات، قال صاحب الوزنة الواحدة: "علمت أنك صارم " ...هنا نحن أمام إنسان لا يؤمن برحمة الله، لا يُصدِّق أن الله يمكن أن يقبل التوبة. لذلك عندما وضع هذا الشخص في نفسه أن الله خصم قاس، لا يشفق ولا يرحم، . عامله الله على هذا المبدأ. فنحن الذين تحدد طريقة معاملة الله لنا.«فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طرقهم الرديئة ندم على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه». إنه حكم استئناف في صالح نينوى، ولكن ما حدث لا ينم فقط عن رحمة الله أو محبته؛ ولكنه يُظهر أن الله عنده إمكانية التراجع عن قضائه. فالخاطئ الذي وقع عليه الحكم يُعطيه الله مهلة ليُصلح نفسه، فإذا استطاع أن يعمل أعمال توبة واتضاع؛ فإن الله يرفع غضبه ويتراجع عن حكمه. إذن تغيير الأمر ليس من ناحية الله، ولكنه يرجع بالأساس للإنسان. فلو لم تتضع نينوى لكانت قد انقلبت مثل سدوم، ولو لم يتضع أخآب لكان قد تم هلاكه فعلاً. موقف يونان من نينوى في الحقيقة نحن لا يمكننا أن نقول ونجزم أن يونان مخطئ، فالرب تحدث معه بلطف، ولم يقل له أنت أخطأت وحيث أنك لم تطع أمري، فأنا سحبت ثقتي فيك، وسأختار نبياً آخر بدلاً منك، كما فعل ذلك سابقاً مع إيليا النبي، عندما خاف وهرب من إيزابل عاصيا أمر الله، فأمر الرب برسم أليشع بدلاً من إيليا.ولكن لماذا اغتاظ يونان؟ لماذا قال له الرب هل اغتظت بالصواب؟ في الحقيقة إن يونان كان يعرف بالضبط من هو الله. يونان كان يعرف قلب الله الرحيم، وأنه لا يمكن أن يُهلك المدينة. بالتأكيد كان يونان قد عرف أن الرب من بعد الطوفان لن يعود يعاقب الإنسان بحسب أعماله. ولكن كان يونان يعيش في جو الناموس الذي يُعرِّفه أنه طالما قال الله كلمة، فلابد أن ينفذها، فهنا يونان يدافع عن إلهه الذي في الناموس. سفر يونان قائم على الانتقال من الحرف الذي يقتل إلى الروح الذي يُحيي، من وضع الناموس الذي كل من يتعداه ينال جزاءه إلى مراحم الرب التي تغفر للخاطئ وتسامحه عن ماضيه. سؤال الرب ليونان هل اغتظت بالصواب"، هو صوت لنا جميعاً.فرحمة الله لا يجب أن تزعجنا. للأسف نحن مازال فينا إحساس أن الله يجب أن يكون عادلاً وحقاني!! كم مرة وقفنا أمام الله وشكونا له من هذا وذاك، وطالبناه بأن ينتقم لنا منهم، وسألناه لماذا يتركنا هكذا أين عدله، أين جبروته؟!! ولكن عندئذ يرد علينا صوت الرب قائلاً لنا: إذا أنت أردتني أن أستخدم عدلي؛ فأول من سينطبق عليه قانوني وعقابي هو أنت. فعدوك وخصمك لا ينادي بالعدل والحق، فأنا لن أطبق عليه قانون العدل، ولكن أنت الذي تُطالب توقيع القانون على غيرك عليك أن تقبل أن يُنفذ عليك أولاً. وهنا سيطالبك الله أن توفي كل ديونك وأخطائك التي صنعتها، بل سيذكرك بها، ولن تخرج من أمامه إلا بعد أن توفي فلسك الأخير.في الحقيقة إن الرب لو طبق العدل، فهو عندئذ لن يحابي، سندخل جميعنا في قفص الاتهام. فنحن جميعاً قدام عدل الله مدانون، وأمامه سوف يستد كل فم. كان يونان يحس بأنه أفضل من هذه الأمم الوثنية. مصيبتنا، نحن المسيحيين، أن كل واحد سار قليلا في الطريق الروحي يحتقر الذي وراءه. وكل من صعد خطوة على السلم ينظر من فوق ويرى الذي تحته أنه أقل منه !! وللأسف هذه خطية كل من جاهد أكثر من غيره في أي ممارسة نسكية، فيبدأ يتعصب لنفسه ويرثي لحال غيره متعالياً عليه. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 مارس 2024

يوم الاثنين من الأسبوع الثاني (لو ۱۸: ۱-۸)

وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلِّ حِينٍ وَلَا يُمَلِّ قَائِلاً كَانَ فِي مَدِينَةِ قَاضٍ لَا يَخَافُ اللَّهُ وَلَا يَهَابُ إِنْسَاناً وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةٌ: أَنْصِفْنِي مِنْ خَصْمِي وَكَانَ لَا يَشَاءُ إِلَى زَمَانِ وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كُنْتُ لَا أَخَافُ اللَّهُ وَلَا أَهَابُ إِنْسَانَا،فَإِنِّي لَأَجْلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْمَلَةَ تزعجني، أُنْصِفُهَا ، لَئَلَّا تَأْتِيَ دَائِماً فَتَقْمَعَنِي وَقَالَ الرَّبُّ اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْمِ أَفَلَا يُنْصِفُ اللَّهُ مُختَارِيهِ الصَّارِخينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعا وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الْإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الْأَرْضِ؟] الأرملة وقاضي الظلم إنجيل هذا الصباح هو عن قصة ذات توجيه قوي تحث الإنسان على اللجاجة في الصلاة، وموضعها هنا في غاية المناسبة، لأن الحديث عن مجيء ابن الإنسان وصعوبة تلك الأيام، ومباغتة الله للبشرية وهي لاهية عن خلاصها ـ أمر مرعب ولا توجد أية وصية من المسيح يعطيها لتلاميذه ومحبيه قبل أن يغادرهم لغيبة طويلة جداً مثل وصية اللجاجة في الصلاة وهنا يوجه المسيح بشدة إلى المداومة والإصرار وعدم الملل من الصلاة، بالإضافة إلى الرجاء الذي يؤازر الإنسان في حياته إلى أن يجيء والقضية يقدمها المسيح في شكلها الرسمي قاض ظالم، والمعنى هنا مرتش، وامرأة أرملة فقيرة لها مال عند جارها الغني الذي يعرف كيف يغير الذمم، وهي تريد مالها وهو لا يريد إعطاءها مالها ذهبت تشتكي لدى القاضي فقفل لها الأذن اليمنى ثم اليسرى،ولكنها كانت لحوحة، و المرأة اللحوحة لا يغلبها غالب، فاستمرت تشتكي واستمر القاضي يؤجل القضية وفي النهاية ضرب بالرشوة عرض الحائط وأنصفها من خصمها والرب لا يشير في هذه القصة إلا إلى لجاجة المرأة كيف غلبت خصمها وقاضي الظلم معاً ثم يضع المقارنة البديعة بين قاضي الظلم وقاضي العدل فإن نجحت اللجاجة لدى قاضي الظلم؛ فكم تعمل مع قاضي العدل بل الرحمة بل الحب والحنان والرأفة؟ في هذه القصة نجد لمحة عابرة عن إمكانية بحيئه سريعاً أو ذهابنا إليه أيضاً، إذ تتضمن القصة أنه بالرغم من أن الله يتمهل على مختاريه إلا أنه يستجيب "سريعاً" فسريعاً هنا تعني فجأة وعلى غير توقع."وَقَالَ لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلِّ حِينٍ وَلَا يُمَلُّ".هنا المسيح يقصد أن نستمر في الصلاة، بمعنى أن لا نبطل الصلاة من حياتنا، لأن كل حين لا تعطي معنى الصلاة المحددة في زمن معين بل في كل أزمنة حياتنا، لا كصلاة طويلة واحدة؛ بل صلوات تملأ كل الأوقات. فتصير الآية: ينبغي أن يُصلّى كل حين وليس كل اليوم فالصلاة تملأ حيّزها كل يوم دون أن يمل الإنسان ويقطع الصلاة.ولقد أخذها آباؤنا بمعنى الصلاة الدائمة فأتقنوها فعلاً وصاروا جبابرة الصلاة ولكن هنا يلزم التخصص أي أن يتفرغ الإنسان للصلاة وهم فعلاً تفرغوا للصلاة وامتلأت حياتهم بالله وعاشوا وكأنهم في السماء وليس على الأرض، واختبروا اختبارات روحية عالية. ولكن هذا النوع من الصلاة ليس على مستوى الجميع بل للذين قد أعطي لهم والقصد الأساسي من هذه الوصية أن لا يشعر الإنسان بغياب المسيح ولا أن يقلق ويشتهي أن يراه آتياً على السحاب، لأن الصلاة الدائمة تجعل الإنسان يحيا حياة العشرة مع الرب ولا يشعر إطلاقاً بالحاجة إلى رؤية المسيح قادماً، بل يكتفي بالإحساس بوجوده الدائم معه. وهكذا يبتدئ الإنسان أن يراجع نفسه في إلحاحه باستعجال مجيء المسيح، بأن يشعر أنه ليس محروماً منه بل يتمتع بوجوده على الدوام لذلك القول بأن المسيح قد تأخر عن مجيئه كثيراً هو إحساس ناتج من ضعف الصلاة وعدم الاستمتاع به في حياتنا بالالتصاق القلبي به، أو لهفة لرؤياه !! لذلك فإنه بأمرين نملأ الوقت الذي يفصلنا الآن عن يوم مجيء المسيح: ١- الرجاء الذي لا ينقطع على أساس صدق المسيح أنه آت آت، ٢- والصلاة للاتصال بالمسيح نفسه. وَقَالَ الرَّبُّ " اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظَّلْمِ. أَفَلَا يُنْصِفُ اللَّهُ مُخْتَارِيهِ،الصَّارِحِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلْ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سريعاً ! وَلَكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الْإِيْمَانَ عَلَى الْأَرْضِ؟"المسيح بعد أن وصف قاضي الظلم بالظلم وعدم المبالاة والمماطلة في الحكم وعدم مخافة الله؛ بل وعدم هيبة إنسان، إلا أنه بالرغم من كل هذا حكم بالحق للأرملة المظلومة، ثم عاد ووضعه في الموازنة مع الله ومع مختاريه الصارخين إليه بالصلاة والدموع، نهاراً وليلاً، طالبين الروح القدس أو إخراجهم من دائرة العدو الذي يلطم فيهم يميناً ويساراً. هل ينصفهم؟ نعم ينصفهم سريعاً !! وهنا يزكي المسيح صراخ الصلاة نهاراً وليلاً، وهو يطلبها طلباً وهو عالم تكلفتها، ولكنه عالم أيضاً بمفعولها في السماء والمسيح يضعها معادلة: الصراخ طويلاً إزاء السماع سريعاً ولكن لثلاً نفقد سياق الكلام، فالمسيح أعطى هذه القصة وعلق هو عليها أنه سامع الصلاة، ذلك في مضمون غيابه بعد الانطلاق إلى فوق وطول السنين التي سيتأني علينا ببقائه فوق حتى تحوّل ضيقنا في العالم إلى صلاة، ونعزي أنفسنا عن غيابه يجعل الصلاة ليل نهار، بمعنى أن نملأ سنين غيابه صلاة لأنها هي التي تجعلنا مستعدين لقدومه المسيح في ختام هذا المثل يسأل باسمه كابن الإنسان هل حينما يأتي يجد الإيمان على الأرض؟ جملة حزينة تحمل توقع الرب بحدوث ارتداد "لأنه لا يأتي إن لم يأت الارتداد أولاً". لذلك هو جعل وسيلة الصمود الوحيدة هي الصلاة كل حين أعطاها لنا كقارب النجاة في طوفان الارتداد. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 مارس 2024

يوم الاثنين من الأسبوع الأول (مر ۹: ۳۳: الخ)

" وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ: «بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ ؟» فَسَكَتُوا ، لأَنَّهُمْ تَحَاجُوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ. فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِماً لِلْكُلِّ». فَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ قَبلَ وَاحِداً مِنْ أَوْلادِ مِثْلَ هَذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي». فَأَجَابَهُ يُوحَنَّا قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ شَيَاطِينَ باسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا ، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا» . فَقَالَ يَسُوعُ: «لَا تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرًّا. لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنكُمْ لِلْمَسِيحِ، فَالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ. وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصَّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحَى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا . خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لَا تُطْفَأُ. حَيْثُ دُودُهُمْ لَا يَمُوتُ وَالنَّارُ لَا تُطْفَأُ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مَنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لَا تُطْفَأُ. حَيْثُ دُودُهُمْ لَا يَمُوتُ وَالنَّارُ لَا تُطْفَأُ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. حَيْثُ دُودُهُمْ لَا يَمُوتُ وَالنَّارُ لَا تُطْفَأُ. لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلِّحُ بِنَارٍ، وَكُلِّ ذَبِيحَةٍ تُمَلِّحُ بِمِلْحِ الْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بَلَا مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ ۚ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً ". العثرة وواجبنا إزاءها هذا المسلسل من البتر لليد والرجل وقلع العين هو منهج النسك العالي للذين أعثرهم العالم وهم لا يريدون أن يعيشوا في الخطية. ولتوضيح هذا القانون الروحي الصارم يلزم أن نفهم أن حياة الطهارة والبر والقداسة في وسط عالم الخطية والعثرات تتطلب احتمال فداحة الثمن. فالذي يريد أن يعيش طاهر اليد لا يمدها للحرام، أيا كان الحرام نوعه، سواء نجاسة أو سرقة أو اختلاس أو تزوير أو غش أو إيذاء بالضرب، فإن ضبط اليد من جهة اليد نفسها وما يحركها من فكر وضمير ونية وإرادة يحتاج إلى شدة وعنف وإصرار وقطع في الضمير والقلب والنية وربط اليد بالإرادة، بحيث أن هذه الشدة وهذا العنف لا يقل عنفهما ألماً من آلام قطع اليد وما يتأتى من ذلك من آلام وعجز وفضيحة. هكذا يصور المسيح منهج ضبط اليد لكي لا تمتد للحرام من العنف والصعوبة ما لا يقل عن قطعها بالإرادة أو بالقانون.ويلاحظ القارئ أن المصدر الذي تداعى منه ذكر هذا القانون النسكي هو نفسه الآية السابقة التي تنص على عدم إعثار أحد الصغار، وإلا فخير لمن يعثر ولداً أن يُربط عنقه بحجر رحى ويُلقى في البحر. فالإعثار هو الذي ربط الحديث السابق بهذا الحديث. فانظر عزيزي السامع وتأمل الغرامة المريعة التي يستحقها من يعثر ولداً فلكي نتخطى الإعثار لابد من جهاد ومجاهدة ضد الذات والجسد. جهاد يساوي على الأقل في الألم والمعاناة الغرق في لجة البحر أو قطع اليد أو الرجل أو قلع العين. فلو تأملت معي عقوبة إنسان ترك لعينه الحرية أن تنظر في الأجساد وتشتهي وتملأ شهوتها في القلب ماذا تكون؟ عقوبتها ما هو لعقوبة الزنى الفعلي. لا زناة يدخلون ملكوت الله فانظر فداحة الغرامة. إذا علينا أن نُحوّل هذه الغرامة إلى مجاهدة إرادية في الإرادة والفكر والضمير والعين ذاتها.هذا هو المنهج النسكي الصارم الذي يقترحه المسيح أن نسلكه بالإرادة لكي ننجو من نار جهنم ودودها. أما نارها فأشد وأقصى من نار الأرض عشرات المرات، فهي نار الندم الذي يحرق الضمير ويظل يحرقه إلى أبد الآبدين. أما الدود فهو الإحساس بالخسارة التي تلاحق الضمير والنفس بلا نهاية .ونعيد ونؤكد أن هذه الوصايا هي على مستوى الروح، بمعنى أن نقطع وتهلك وتميت ونصلب هي كلها بالنية من الداخل، بالروح، وهذا الإجراء الروحي لهو أشد فعالية مئات المرات من الإجراء الجسدي.فهذه الأفعال القاطعة بالنية بالروح في الداخل قادرة بالفعل أن تبطل وتشل حركة هذه الأعضاء، لأن الفعل بالنية إذا كان صادقاً وعلى مستوى التكميل يقابله عند الله قبول شديد باعتبار أن الإنسان يكون في نظره قد أكمل الفعل، فيكمله هو له بأن يُحوّله إلى الضد.وأعظم مثل لذلك هو ما صنعه المسيح يوم الخميس الكبير، إذ صلب نفسه بالنية وقدم جسده مكسوراً ودمه مسفوكاً قبل أن يتمم ذلك فعلياً بالجسد على الصليب يوم الجمعة، فصارت ذبيحة يوم الخميس على مستوى ذبيحة الصليب يوم الجمعة.أو كما صنع إبراهيم لما أكمل بالنية ذبح ابنه؛ فكان أن حسب الله لإبراهيم أنه أكمل فعلاً وحقاً ما أمره به حتى دون أن يكمله جسدياً.هكذا عوض تكميل قطع الأعضاء جسدياً لبتر الخطايا منها، يحفظها الله في إطار نعمته ويُحولها إلى أعضاء مقدسة ترتعب من الخطية وتعمل الصلاح بحرية، وتؤول لدى صاحبها إلى قداسة وفخر وبجد، تماماً كما قال المسيح حرفياً: «من يُهلك نفسه من أجلي يجدها» ، «يحفظها إلى حياة أبدية».هنا الإهلاك بالنية يُحوّله المسيح إلى تكميل روحي حيث يبطل عمل الذات ويلاشي سلطانها بنعمته لتتحول إلى ذات مقدسة للمسيح، أي لا تعود بعد تتبع أمور العالم؛ بل تتبع الله لتكميل أمور الله.يقول بولس الرسول: لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته، ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية؛ بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات، وأعضاءكم آلات بر لله»، هنا عامل القطع والخصي والإهلاك والإماتة والصلب هو من عمل الروح، والروح إذا تسلط على الجسد يضبطه ويقمعه ويشل حركته ويحوله إلى أداة الصلاح عوض النجاسة والإثم.المسيح هنا لا يخاطب إنسان الجسد؛ بل يخاطب الروح في الإنسان لتتسلط على خطية الجسد لتقطع منه أصول الخطية وعروقها. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
27 فبراير 2024

اليوم الثاني من صوم يونان (لو ۱۱: ۲۹ -٣٦)

وَفِيمَا كَانَ الْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ابْتَدَأَ يَقُولُ: هَذَا الْجِيلُ شَرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلَّا آيَةُ يُونَانَ النَّبِيِّ، لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةٌ لِأَهْلِ نِينَوَى، كَذَلِكَ يَكُونُ ابْنُ الْإِنْسَانِ أَيْضاً لِهَذَا الْجِيلِ. مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ رِجَالِ هَذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هُنَا رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هَذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةٍ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هَهُنَا! لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خِفْيَة، وَلَا تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ. سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيْراً، وَمَتَى كَانَتْ شَرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلماً . انْظُرْ إِذَا لِئَلَّا يَكُونَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظُلْمَةٌ. فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيْراً لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيْراً كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ السِّرَاجُ بِلَمَعَانِهِ ] . صوم يونان والأربعين المقدسة أيها الأحباء، إن قصة صوم يونان ومن إحكام وضعه قبل الأربعين المقدسة هو إلهام بالروح، نُدرك من خلاله أهمية الصوم سواء لدى الله الذي يجازي، أو الإنسان الذي يتوب. فليست توبة بلا صوم، إن كان حقاً بخوف الله وبصراخ صادق من القلب، فإنه قادر أن يفتح باب الرحمة لتتدفق إحسانات الله بدل عقاب التأديب. فهو الإنقاذ الوحيد من حـــرج موقف الخاطئ حينما يسمع ! بأذني قلبه أن . الله قد فرغ وتعدَّت الخطايا صبر حدود اللياقة، خاصة إن كان الإنسان قد تزيَّا بزي الأتقياء، فلم يصدر منه إلا الخطايا والعيوب تحت اسم التقوى الكاذبة وصورة أعمالها وأقوالها التي يُصدقها الناس ويمدحونها بشبه نينوى العظيمة.وقد حسب المسيح أن صوم الجسد هو توطئة لازمة لقهر الشيطان، إذ بعد ما أكمل صومه جاع، وكأن الجسد بجوعه أعطى فرصة للشيطان أن يتقدم، بعد أن كان ممنوعاً من الاقتراب طيلة الأربعين؛ إذ كان الصوم حداًمن نار يُرعب الشيطان. لذلك كانت أهمية وصية الصوم. عجیب حقاً، يا إخوة أن يترك لنا المسيح مثال صومه لنسير على إثــــر خطواته لننال قوةً وانتصاراً. وهل يمكن أن نسير خلفه حاملين الصليب إلا بعد أن نجوز خبرة صومه وجهاده وننال قوة ونصرة من حياته؟ إن صوم المسيح هو جزء لا يتجزأ من صعوده على صليب موته وفدائه. فإذا كانت القيامة سبقها ،موته فموته سبقه صيامه.ثم أليس صوم المسيح يُخزي القائلين بأن الصوم عمل سلبي؟ فما صــام المسيح لكي يضبط الجسد، وما صام ليتغلب على شهوات أو انحرافات؛ ولكنه صام بتدبير الآب؛ لأنه لم يذهب إلى البرية ليصوم بمشيئته، ولكـــن يقول الكتاب بوضوح: «ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح»، لا هروباً من تجربة إبليس، بل لكي يواجهها. فكان صومه سلاحاً إيجابياً جبـــارا كقاعدة انطلق منها ليواجه تجارب إبليس. بهذا الوضع قدَّم المسيح لنا الصوم كقاعدة إيجابية نواجه بهــــا إبليس ونتحداه: «أما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم»، لأن المسيح يعلم أنه بالصوم يرتقي العقل الواعي فوق الجسد ومشاغباته، فيكون العقل مستعداً أن يحتمل أشد الضربات وأسوأ الحوادث المفاجئة التي يسوقها العدو لانهزامنا، ولكن يقف الإنسان صاحياً كأسد لا يهتز. فالصوم انحياز كلي للوعي الروحي، بل هو انحياز لقوى الروح ومشورة السماء. وبدونه يستحيل أن يقول إنسان إني قد طلبت مع المسيح. فالذي يقبل أن يُصلب يكون سبق وقدَّم الجسد على مذبح الصوم أولاً. و [أنا] الإنسان يستحيل أن تقبل أن تصلب مـــع المسيح إلا بعد أن تتحرر الأنا، من عبودية الجسد أولاً، وهذا لا يتم إلا بالصوم. لأن الذي يقول: "أنا طلبت مع المسيح، فهذا يعني أنه قد مات بالجسد العتيق والجسد العتيق لا يمكن أن يذوق الموت إلا بالصوم.لذلك يُحسب الصوم في أقوى حالاته أنه شريك القيامة، أو هو قوة للذين يعيشونها. ثم ما السر المخفي وراء الصوم الشديد وضياع قوة الجسد؟ هــذا نعرفه بصورة خاصة جداً من ملاك إيليا الذي استحضر له كعكة وكوز ماء ليأكــــل بعد أن سار يوماً كاملاً بلا أكل ولا شرب إلى أن جاء وجلس تحت الرتمـــة. فلما أكل الكعكة وشرب الكوز نام من الإنهاك، فمسه الملاك وأيقظه واستحضر له كعكة ثانية وكوز ماء وقال له: "قم وكُل، لأن المسافة كثيرة عليك. فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة مدة أربعين يوماً حتى بلغ جبل حوريب. وفي النهاية رأى إيليا الرب وتكلم معه وأخــــذ توبيخاً وأخذ رسالة. وكأنما أُعطي الصوم للإنسان ليرى وجه الله ويسمعه ولولا أن شعب إسرائيل صنع حماقة وطلب خبزاً في البريـــة ومــــاء كـــار الأربعين سنة بأكلة الفصح حتى دخل أرض الميعاد. فالذي سار أربعين يومــــاً وأربعين ليلة بأكلة وشربة ماء؛ لا يصعب عليه وهو تحت يد الله أن يسير بهــــا الأربعين سنة. ويتم قول الأمثال: بركة الرب هي تغني ولا يزيد معها تعب».وفي الحقيقة يا إخوة إننا لو فحصنا بالروح سر قيام الإسقيط حتى اليوم ودوامه، وما وراء ما خلفه لنا شيوخه الأماجد من كنوز تركوها لنا ميراثاً نعتز به؛ لوجدنا الصوم هو الكتر الأكبر، تركوه لنا مختبئاً في برية، فبعنــا العـــالم واشترينا البرية لنفوز بالكنز ! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل