المقالات
13 أغسطس 2021
مَثَل الغني ولعازر
«كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأَرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهًا. وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ، الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوبًا بِالْقُرُوحِ... » (لو16: 20–31).
المثل صارخ بالمفارقات العجيبة سواء على الأرض أم في السماء،ففى الأرض شتّان بين ذاك الذي عاش في الجسد وللجسد ومسرات الجسد، وغِنى المأكل والملبَس، وما يتبع الغِنى من غرور وخطايا، ونسيان تام للروح أو حاجات الروح، ونسيان كامل لحقيقة أنّ الحياة على الأرض لا تدوم، وأنّ الأيام سريعًا ما تمرّ ويأتي الإنسان إلى النهاية المحتومة.وبين الآخر، الفقير البائس المطروح عند الباب، بلا طعام ولا لباس، وجسده مضروب بالقروح، وليس له إنسان يُضمِّد جراحات الجسد أو النفس. وقد صار عادمًا لكلّ شيء، حتّى ضروريّات الجسد.والمفارقة في السماء أكثر وأشدّ: فالحياة في الأحضان الأبويّة حيث النعيم الدائم والفرح الذي لا يشوبه كدر. لا ألم ولا حزن ولا بكاء ولا تذكار للشرّ، بل تنعُّم وشبع أبدي بالربّ ومجد لا يوصَف. ولا توجَد كلمات تُعبِّر عن الغبطة في ذلك النعيم الدائم.وعلى العكس في مكان العذاب، حيث وجع القلب وعذاب الضمير وحيث «النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ والدُودُ الذى لاَ يَمُوتُ... هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ» (مر9: 44، لو13: 28).
يا سيّدي الرب.. أغنِنى بغِنى كلمتك، لأنّها تُنير في داخلي الطريق إلى الحياة الأبدية، وتكشف لى غوامض كثيرة فما يختصّ بحياتى الأبدية وميراثي في السماء وحضن إبراهيم.. اجعلني في هذه أتفكّر يا سيّدي. وما كتبه الروح بموسى والأنبياء، اجعله في داخلى، يُهديني إلى طريق الاستقامة. وبالأكثر كثيرًا جدًّا ما عملتَه أنت يا إله موسى والأنبياء من جهة خلاص الأبرار، ومن جهة المساكين الذين سيُحرمون من مجد ملكوتك وراحتك.لذلك أتوسل إليك يا سيدي أن تجعل كلماتك في هذا المثل تقودني لمزيد من النور الذي يرشدنى للحياة التي ترضيك، فأبتعد عن كلّ ما يُفسد عليَّ الحياة فيك ومعك وبك.أنت يا سيدي جعلت الحياتَيْن أمام عينيَّ.. حياة الغِنى والترف ولبس الحرير وكلّ ما يختص بتدليل الجسد وراحته، ومن ناحية أخرى حياة المسكين المُعدَم، صاحب الجسد المضروب بالقروح والمُلقى عادمًا كل شيء، وفي حالة العَوَز المُضني والجوع والفاقة، حتى ملء البطن من الفتات.
وعندما تنتهي أيّام الأرض، وهي لابد أن تنتهي بهذا أو ذاك، فماذا يكون المصير يا سيّدي؟
لقد استوفى الغنيّ خيراته على الأرض فلم يتبقَّ له خير ولا عزاء بعد. لقد طاب له عزاء الأرض والجسد، فأسلَم نفسه لمطالب الأرض وأفنى أيامه كلّها في الجسد. وانتهى به الجسد إلى التراب، وأحدرته شهوات الجسد إلى الجحيم. قال إبراهيم خليلك عندما ناداه الغني «يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ... فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ...اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ».. لقد طلبتَ راحة الأرض وفقط، فماذا لك بالراحة الأبدية؟! لقد كرهتَ أن تتعَب في الأرض، فها أنت تتعب في السماء.. لقد كرهتَ الدموع على الأرض، وسلَّمت نفسك للضحك والملذات، فها أنت تبكي حيث لا ينفع البكاء.
يا سيدي اِكشِف عينيَّ فأرى قصدك الإلهي، لأنّ كلامك يُنير الخفايا ويكشف الأسرار.. ماذا تقصد يا رب وماذا تريد أن تعلِّمني فأتعلم؟
الغني اللابس الأرجوان والبَزّ وهو يتنعم كلّ يوم مترفهًا، هذه كانت حياته وكلّ سيرته.. اِنحصر في الغِنى والترف والتنعم، ولِبس الحرير والأكل والشرب.. كانت هذه هي سيرته.دائرة مغلقة تدور حول الجسد وملذّات الجسد ومسرّات الدنيا. ولم تقُل يا سيدي ما يَتبع هذه الحياة الجسدية من خطايا وانحراف، لأنّ ما هو ثمر الجسد يا سيدي؟ أليس هذا هو قول رسولك: «لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ» (رو8: 13).يا حُزني يا سيّدي.. فإنّ الانحصار في الجسد، والحياة به وفيه وحده، قد صارت حياة كثيرين جدًّا.. كلّ الفكر وكلّ القلب والاهتمام صار للجسد. فأين مكانك أنت يا سيّدي من الحياة؟!
أشكرك يا مخلصي الصالح، لأنّك أنرتَ أمامي الطريق بكلامك الحيّ المُحيي، ولأنّك علًّمتَ عبدك وكشفت عينيَّ لأتبصّر في حياتي الأبديّة. قلتَ يا سيدي عن الغَني إنّه «اسْتَوْفَيْ خَيْرَاتُه فِي حَيَاتُه».. أنا أعلم يا سيدي أنّ الغِنى في ذاته من أموال وأملاك ومقتنيات ليس خطيّة، هذه نِعَمٌ تُغدقها بحسب مسرتك، إنّما العيب يوجد في انحراف الإرادة واِنغماس الإنسان في مسرّات وشهوات الجسد.
من جهة موت الجسد فهو أمرٌ محقّق، فأيّ إنسان يحيا ولا يرى الموت؟ فإن كان غنيًّا أو فقيرًا فعند الموت يتساوى كلاهما.فالغّنِيّ مات ودُفن.. ولعازر مات وحملته الملائكة.. الغَنيّ رفع عينيه وإذا هو مُعذَّب في الجحيم.. ولعازر فتح عينيه وإذا هو يتنعم في أحضان إبراهيم.فالفرق واضح يا سيدي ولا وجه للمقارنة.. من جهة الخارج فتمييز الغَنيّ عن الفقير المُعدم واضح، ومن جهة الداخل الذي لا يُرى، فالفرق بينهما كان أكثر مما يتصوّره الإنسان. لقد فصلَهما الغِنَى في الأرض وفرَّق بينهما، أما في الروح فمصير أبدي مختلف صارا فيه على طرفيّ نقيض.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
06 أغسطس 2021
مَثَلُ البـــذار
«وَقَالَ: هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرَ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ» (مر4: 26–29).
بذار ملكوت الله يُلقيها الإنسان -يسوع المسيح- ، هو الزارع الزرع الجيّد، في الأرض -التي هي الإنسان المأخوذ من تراب الأرض-، وإذ تضرب البذرة الحيَّة، بذرة الحياة الأبدية، جذورها في قلب الإنسان وتتمكّن منه، تنمو، وتنمو كلّ يوم إلى حياة أبدية.
هذا النمو هو استمرار الحياة بروح المسيح، روح القيامة، وهو نمو مضطرد وتجديد مستمرّ. ولكن ما يؤكِّد عليه الرب أنّ النموّ يبدو واضحًا جليًّا كلّ يوم، ولكن كيف ينمو النبات هذا ما لا يمكن أن تسجّله بالملاحظة، أنت تنام وتقوم والنبات ينمو من يوم إلى يوم، إنّه سرّ الحياة.كثيرون حاولوا رصد نمو الملكوت الأبدي في حياتهم في القلب والعقل، ففشلوا وصاروا فى سَجس الضمير، أو وصلوا إلى عقلانيات وتأويلات فلسفية ليس لها شبع. النمو هو عمل الروح، وامتداد الروح، وانتشار الملكوت «مَنْ عَرَفَ (قاس) فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟» (رو11: 34)، ليس بالكيل، «وَلاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (زك4: 6).الإيمان ينمو، والمحبّة تنمو، وروح الصلاح وعمل مسرّة الله ينمو، الاتضاع ينمو، والرجاء ينمو. كلّ فضيلة تنمو.
كيف ينمو ملكوت الله؟
أعطِ مكانًا، خبِّئ بذار الملكوت في القلب فلا تخطفها طيور السماء، تعهّدها بالسهر وسقي الرّوح. أمّا مِن جهة كمال النمو وبلوغ الثمر، فيحتاج الأمر إلى الصبر. للزرع وقت وللحصاد وقت. الزرع ينمو قليلاً قليلاً.. كقول الرسول: «انْمُوا فِي النِّعْمَةِ» (2بط3: 18)، وأيضاً «نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ الْمَسِيحُ» (أف4: 15)، وأيضاً تنمو «إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ» (أف4: 13) لذلك نقول إنّ عدم النمو في حياتنا في المسيح يُنذر بالخطر. قال المرنم: «لِكُلِّ كَمَال (تمام) رَأَيْتُ حَدًّا (منتهًى)، أَمَّا وَصِيَّتُكَ فَوَاسِعَةٌ جِدًّا» (مز119: 96). فأنت تبدأ في تنفيذ الوصية وتنمو وتنمو، ولا نهاية للنمو، لأنّك قاصد الحياة الأبدية التي لا نهاية لها.تبتدئ بعمل المحبّة وتحيا فيها، تحبّ الرب إلهك، وتحبّ قريبك، وتدرِّب نفسك كلّ يوم، وتنمو في المحبّة وممارستها الفائقة. وكلّما تقدّمتَ تحسِب ذاتك أنّك لم تبلغ بعد إلى الكمال فتسعى و«تنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَتمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ» (في3: 13). هكذا كلّ وصايا الرب وجميع الفضائل المسيحية. إنّها زرع ملكوت الله في القلب.. تنمو وتمتدّ، تكبر وتُكثر.الساعين في الطريق لا يستعجلون الثمر.. سيحصل في حينه كقول الرسول: «لاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غل6: 9).
نحتاج إلى صبرٍ كثير، حتى ينضُج الإنسان من جهة معرفته بملكوت الله، وإدراكه لمشيئة الله وتدبيره من جهة خلاصنا. لذلك امتلأت سِيَر الآباء القدّيسين بالصبر في الجهادات، والسهر والدموع وتكميل التوبة وأعمال النسك وكثرة الفضائل. وفي نهاية سيرتهم تكاثرت ثمار الملكوت كشهادة حيّة كقول الرب في هذا المثل.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
30 يوليو 2021
لا تدنو ضربة من مسكنك ج2
كلّ مرّة تسقط، قُمْ فتخلُص.. «لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ» (خر17: 16).ولكن يُحسَب أنّ الحرب هي للرب، فمنذ يوم خروجنا من بطن المعموديّة وقد تعهّدنا وتكرّسنا للحياة بحسب المسيح، بعد أن جحدنا الشيطان وكلّ قواته الشريرة. صارت الحرب إذن من العدو الشرير ضدّ المسيح الذى صرنا له وهو فينا، وصرنا مُبغَضين من الجميع من أجل الاسم الذي دُعِيَ علينا. فنحن مُضطهدون ليس لأجل ذواتنا، بل لأجل اِنتسابنا للمسيح أبطَلَ المسيح قوّة المجرِّب وسلَّم لنا مفاتيح الانتصار عليه. ليس في مقدور الشيطان ولا في سلطانه أن يُجبر أحدًا مِنّا على الخطيّة، أو يسوقه قَسرًا إلى ارتكاب الشرور. هو خدَّاع وكذَّاب ولكنه صاحب حيلة ودهاء، هو يعرض بضاعته النجسة ويلفَّها بغلاف اللذّة ويُزيِّنها للإنسان فتبدو شهيّة.. كما قيل في الأمثال: «الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ» (أم9: 17)، هي مياه وخبز ولكنّ الشيطان المُزوِّر يُظهرها للإنسان هكذا حلوة، لكي ينخدع وينجذب بالشهوّة نحو الحرام. ولكن كلّ مَن يثبت فى إيمان المسيح يستطيع بالنعمة أن يفلِت من فخاخه. القديسون فضحوه وأهانوه بكثرة الاتضاع والالتصاق بالرب. هو أبّ الكبرياء، ولكنّ الروح الوديع الهادئ يغلب كبرياءه وقد أوصانا الرب بالصلاة أن نطلب إلى الآب ونقول: «لاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ» (مت6: 13). فالصلاة الجادّة والطِلبة من القلب هي عامل أساسيّ في أن نجد عَونًا في حينه.. فلا يستطيع أحد أن ينقذنا من يد المُشتكي علينا سوى أبونا الذي في السموات وكوننا نطلب عونًا ونجاة، هو اعتراف ضمني بضعفنا وعدم إمكانيِّتنا.. لذلك إذ يسحق هو الشيطان تحت أقدامنا، فليس لنا فضل ولا افتخار.. بل نتمسّك بالأكثر، ونحتمي في ذاك الذي به «يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا» (رو8: 37) تجربة الجوع والخبز هي تجربة طبيعتنا التي تلاحقنا مَدى الحياة.. الميل الطبيعي والحاجات الطبيعيّة ليس فيها خطيّة.. ولكنّ العدو الخدَّاع يستغلّ ما هو طبيعي وينسج منه بالكذب خيالات وخيالات، كلّها خداع وكلّها تهويل وكذب. وهذا التهويل والتخويف من الموت ليس فيه حقّ. وقول المسيح: «لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ» (مت4: 4)، لم يكُن أحد من الناس قد عاشها قط.. رغم أنّها الحقّ ذاته إنّنا نستمد حياتنا في الحقيقة من شخص المسيح، الذي هو الكلمة الذاتي. هو مصدر الحياة و«هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ... لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ» (يو6: 48، 50). صِنَّارة المُجَرِّب هي الميل الطبيعي، وهو في كلّ محاولاته أن يُحرِّف الميل الطبيعي إلى ما هو على خلاف الطبيعة، لأنّه يريد أن يُفسد خليقة الله ويُميت ويقتل، بانفصال إرادة الإنسان عن الله.. فيعمل الإنسان إرادته الذاتية منفصلاً عن الحقّ والحياة.. فيموت.
تُرى مَتَى أحيَّا بكلّ كلمة تخرج من فم الله؟
مَتَى استمدّ حياتي ووجودي واستمرار حياتي منه وفيه وله وبه؟
كيف أتذوّق وآكُل فأحيا.. وأسمو بنفسي وجسدي وغرائزي؟ إنّني استمدّ خبز الكفاف من يده.. ألم يُطعم الملايين من المن النازل من فوق؟ ألم يُشبع الآلاف من خبز الكفاف حتى فضل عنهم؟
شبع الجسد شيء، وشبع النفس شيء آخر.. الجسد يطلب ما هو أرضيّ، ترابيّ حسب طبيعته.. بينما شوق أرواحنا إلى الشبع من برّ المسيح. فنحن نجوع ونعطش إليه، وهو قد طوَّب الطالبين وجهه، والمترجّين خلاصه بجوع وعطش نحوه.
الميل الطبيعي لكلّ ما هو جسدي هو الشهِّية المغروسة في طبيعتنا لبقاء الحياة كغرائز. قُدرة الميول الطبيعيّة ليس فيها خطيّة، إنّما انحراف الإرادة بعيدًا عن الله يحوّل الشهِيّة إلى شَهْوة، والشهوة إذا حبلَت تجُرّ الإنسان إلى الخطايا، ثم إلى الموت «الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا» (يع1: 15).جوع المسيح بعد أربعين يومًا أفصَحَ عن الشهِّية الطبيعيّة للطعام دون شهوة أو انحراف. فلما جاء المجرِّب يلعب على هذا الوتر، ليجرّ المسيح من الشهِّية إلى الشهوة خاب وافتضح وانكسرت سهامه.وعلى هذا تُقاس جميع حِيَل الشيطان المجرِّب، الذي يدخل من مداخل الميول الطبيعيّة ليحرِّفها نحو الشرور، والسلوك المنحرف، بعيدًا عن الحقّ، لخدمة الخطايا لقد سجّل الوحي هذه التجارب الثلاث كنموذج، والواقع أنّ إبليس جرَّب الربّ بكلّ تجربة، وبكلّ حيلة وخديعة، وبكلّ أسلحته كما هو مكتوب: «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ» (لو4: 13). فالتجارب صوَّبها العدو نحو الجسد في تجربة الخبز والجوع، ثم نحو النفس في تجربة مباهج العالم والملكيّات الأرضية وكلّ مجدها.. هذه التي تشتهيها النفوس، ثم التجربة الثالثة نحو الروح والروحيّات، إذا ألقى بنفسه من على جناح الهيكل، وحملته الملائكة فلا تُصدِم رِجله بحجر بحسب وعد الله. فقد صوَّب العدو سهامه بذلك نحو الجسد والنفس والروح، أي كيان الإنسان كلّه. و«فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رو8: 37) ونجَّانا من هذه الفخاخ المنصوبة، إذ حطّمها وكسرها وأذلَّ فخر المجرِّب، بل وطرده أشر طردة.في تجربة النفس، قال العدو: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا (كلّها)» (مت4: 9).. مجدُ العالم زائلٌ ومِلكياته وهْمٌ. المجرِّب هو رئيس هذا العالم، كقول الرب.. هو مسيطر على العالم بالخداع والكذب لأنّه روح الظلمة. وحينما يقول لأحد أعطيك، فهو كاذب. هو لا يملك لكي يعطي، ولكنه يَعِدُ ويكذبُ. وكم مَنَّى الإنسان بالأماني بأنّ يمتلك العالم، ولكن يكتشف الإنسان أخيرًا إنّه قبض الريح.. والثمن الباهظ الذي يدفعه الإنسان هو السجود للشيطان والخضوع لروح الظلمة. وهذا هو الهلاك بعينه.رد الرب يسوع بالمكتوب «لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». أمَّنَ الإنسان من الخضوع للظلام ليحيا في النور بالخضوع لمشيئة الله وحده.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
23 يوليو 2021
لا تدنو ضربة من مسكنك ج1
هذا هو الوعد الإلهي للساكن في سِتر العَلِيِّ، وفي ظلّ الإله القدير يبيت. فكيف يتجرّأ العدو أن يضرب الساكن في الحصن الإلهي والحضن الأبوي؟ هذا هو ميراث الذين يحيون في المسيح يسوع، الذي أعطى لنا أن نتّحد به ونحتمي فيه. لقد صِرنا «أَعْضَاءَ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أف5: 30)، «وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَحْتَمِي (نعتصم) إِلَى أَنْ تَعْبُرَ الْمَصَائِبُ (يعبر الاثم)» (مز57: 1) المُجرِّب لا يكُفُّ ولا يهدأ ولا ينام. ولكنّ واقع الأمر أنّ المسيح فضح خُطَطَهُ ودَحَرَهُ (دفعه بعنفٍ وطرده) وسحق قوّته وأرجعه خائبًا مذلولاً، بعد أن أكمل على جبل التجربة كلّ ما استطاع من تجارب. ولكن القدوس الذي بلا شرّ صار «مُجَرَّبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا،(ولكن) بِلاَ خَطِيَّةٍ... يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عب4: 15، 2: 18)أنا في المسيح غالب ومنتصر والعدو ذليل.. أنا في آدم الأول مغلوب وساقط وميّت. «فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، أمَّا فِي الْمَسِيحِ فيُحْيَا الْجَمِيعُ» (1كو15: 22)لا ولم يوجد إنسان نجَّى نفسه من تجارب العدو الشرير.. ولا ولم يوجد إنسان في تاريخ البشرية لم يُسقِطْه العدو. الخطية كائنة في الطبيعة القديمة، وهيهات أن يفلت منها الإنسان. الخطيّة في الطبيعة القديمة تسبي الإنسان سَبْيًا حتى لو كان من أعظم القديسين ناموس روح الحياة في المسيح يسوع حررنا من «نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِنا» (رو7: 23). إذن إن كنت أريد أن أغلب لابد أن أتّحد بالغالب. المسيح وحده «خَرَجَ غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِبَ» (رؤ6: 2) لأنّه هو وحده الذي بلا خطية.الاتحاد بالمسيح نلناه بالمعمودية، ونناله بالتناول.. الثبات في المسيح قوامه الحبّ الذي أحبَّنا به. وحِفْظ وصايا يسوع هو برهان الحُبّ الوحيد «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي» (يو14: 21).«وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ» (لو4: 13). لا يعرف أحد أعماق الشيطان ولا يتخيّل أحد قدراته وخبايا شرّه. ربنا يسوع المسيح وحده قاس أعماقه وقدراته المُخرِّبة المضادّة لكلّ ما هو خير أو صلاح.. أليس هو ضد الله، أي ضدّ الحقّ المطلق والحب المطلق. لذلك كان من خطّة خلاص الإنسان من براثن هذا العدو القَتَّال، أن يُجَرَّب المسيح، وأن يدخل إلي صميم التجارب، وينتصر عليه، وينزع سلاحه المتّكل عليه، ويُجرِّده من وهم النُّصرة الكاذبة. فالتجارب كانت فِعليّة واقعيّة بلا خيال. واستلزم الأمر في التدبير الإلهي مُدّة الأربعين يومًا التي قضاها المسيح صائمًا على جبل التجربة، بلا مأوى وبلا طعام أو شراب. فالعدو شرس قتَّال، والفِخاخ والتجارب لا حدود لها المسيح وهو حامل طبيعتنا فيه ومتّحدٌ بها اتحادًا كاملاً غير منقوص، غَلَبَ بها كلّ التجارب التي تأتي على طبيعتنا البشريّة؛ والتي لم يَنجُ منها إنسان، والتي عثر فيها كلّ إنسان، حتى أقدس الآباء والأنبياء. ولكن لماذا غلب المسيح؟ أليس هو القائل «لأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يو14: 30). المسيح وحده غير خاطئ.. غير مضبوط بآلام الخطايا.. «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو8: 46) لم تكن التجارب أمرًا هيِّنًا، ولكنّها معارك ضارية، جازها المسيح لأجلنا، وسحق الشيطان وأهانه. ثم جاءت سنوات كرازة الإنجيل، أي البشارة المُفرِحة، أنّ العدو قد اِنكسر، وجاءت أزمنة الخلاص والنجاة من يد القاهر الغالب والقادر على كلّ شيء. لذلك كان المسيح يُخرج الشياطين.. «وَكَانَتْ تَصْرُخُ... فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ» (لو4: 41).. هذا كان ثمرة جبل التجربة ثم ما صنعه يسوع لأجلنا أعطانا إيّاه، إذ «أعْطَانَا سُلْطَانًا لِندُوسُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ» (لو10: 19). وهكذا أُؤْتُمِنَتْ الكنيسة، واستودعها المسيح سرّ النصرة على الشيطان. وقال للرسل الأطهار: «أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ... فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ» (مت10: 8، 17) فأجاب الرب وقال: «لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ (الشياطين) تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ» (مت10: 20) فصار نصيبنا في السموات هو مصدر الفرح، حيث أعادنا الرب إلى حضن الآب، بعد أن كسر شوكة العدو الذي أغوى جنسنا. على أنّ كسرة الشيطان وهزيمته لا تعني أبدًا أنّه تخلّى عن مقاومته، أو سكت عن حروبه وضلالته، أو أصابه اليأس وكفَّ عن الغواية. بل على العكس، زاد في عدم رحمته ومقاومته.. وصار «كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (1بط5: 8). ولكن الرسول يوصينا قائلاً: «فَقَاوِمُوهُ، رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ». فهو مثل أسد ولكنّه مُصاب بجرح مميت. لذلك فهو فى هياج عالمًا أنّ له زمانًا يسيرًا. بل وأكثر من ذلك قال الرسول: «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يع4: 7)هكذا صارت لنا هذه النعمة والنصيب الصالح في المسيح يسوع: إنّنا بنعمته نُقاوم العدو فيهرب مخذولاً. وهذا ما حدث في حياة آبائنا القديسين الأبطال الذين «غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ» (رؤ12: 11)، وتقوّوا في الإيمان، وجاهدوا الجهاد الحسن، ودخلوا إلى الفرح منتصرين على هذا يتعيّن على الإنسان أن يتأكّد جدًّا من التصاقه بالربّ، وحياته فيه واتحاده به، الذي صار لنا بالمعمودية والمسحة وسرّ القربان، حتى إذا صار هذا الاتحاد حيًّا فَعَّالاً ضَمَنَ بالنعمة النُّصرة في جميع الحروب، والانفلات من جميع الفخاخ التي ينصبها العدو لينال بغيته من الإنسان ثمّة أمر آخر جدير بالاعتبار؛ أنّه كثيرًا ما يخدعنا العدو بسبب ضعف طبيعتنا، أو بسبب الإهمال، أو الكسل، أو التراخي، وتسويف العمر، فنجد أنفسنا وقد انطلت علينا حيله أو صرنا فريسة لفخاخه، أو ضرباته ذات اليمين في الافتخار والاتكال على الذات أو حب الظهور..الخ. أو الضربات الشمالية التي توقِعنا في الخطايا العمد، أو السهوات، من جهة ما هو ضدّ الروح، وضدّ وصايا المسيح، وضدّ قداسة طبيعتنا المخلوقة فينا بالنعمة. فنحن والحَال هكذا نحتاج إلى التوبة، التي هي تجديد الاتحاد، وتواصُل الثبات في المسيح، بغَسل الخطايا بدموع التوبة، وقبول روح التجديد، وقوّة القيامة من العثرة.
وهكذا تصير أعمال التوبة كمعمودية متجدّدة. وهكذا يستعيد الإنسان ما فُقِد منه، ويتعافى في الروح، ويختبر ثانية فرح النصرة على العدو ومجد القيامة. فإن كان الشيطان لا ييأس في محاربتنا مهما تكرّرت مرّات خيبته، فكَم بالحري يكون الحال معنا إذا كُنّا ممسكين بالحياة الأبدية، ومتعلّقين باسم الخلاص؟ فمهما تكرّرت مرّات هفواتنا أو سقوطنا فلن نيأس، بل بالحريّ نتمسّك بمراحم الله الذي يُقيم الساقطين. ونثق أنّ النصرة بالنهاية ستكون للذي داس الموت وكسر شوكة الجحيم.
(يُتّبَع)
المتنيح القمّص لوقا سيداروس
المزيد
16 يوليو 2021
اسلكــــوا بالـــروح ج2
قال الروح القدس للرسل: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ....». (أع13: 2). لقد حلّ عليهم فتكلّموا بلغات، هو نطق بلسانهم. لم يكونوا همّ المتكلمين بل الروح الحالّ فيهم. تكلّموا بكلّ اللغات، أي وصلوا إلى كلّ إنسان، وتواصلوا معه، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا.في الأصل لم يكُن لهم صوتٌ، ولم يكن أحد ليسمع صوتهم «الذين لم تُسمع أصواتهم خرجت أصواتهم إلى الأرض كلها وبلغت أصواتهم مسامع المسكونة» (مز19: 3، 4). صار صوتهم وكلامهم مملوءًا بالروح.. وحيثما هَبّ الروح سُمع صوتهم، لأنّ «اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا» (يو3: 8). فحين حملوا سلام المسيح إلى كلّ بيت، حَلّ سلامه لما قالوا: السلام لهذا البيت كلامهم نَخَسَ القلوب التي كانت نائمة فاستيقظت.. كلامهم أحيا الموتى، وأرجعهم إلى الحياة. كلمتُهُم صارت أقوال الله بسبب الروح المتكلّم منهم «تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (2بط1: 21). ولم تأتِ كلمة منهم بإرادة الناس بل بوحي الروح.نعم تكلّمَ بهم وتكلَّمَ فيهم، فأرشدهم وقادهم وذكَّرهم بكلّ ما قاله السيد. تكلّم فيهم فسمعوه ووعوا قوله وإلهاماته. لمّا منعهم من الذهاب إلى أماكن امتنعوا، ولما دفعهم للكرازة والشهادة أطاعوا وعملوا بحسب إرادته. لما وجهّهم إلى أي جهة لم يعاندوا. صاروا آلات طيِّعة في يد الروح فعمل بهم بلا مانع. ملأهم إلى كلّ الملء فامتلأوا، إذ لم يكن فيهم معاند كقول الرسول وظلّوا يمتلئوا يومًا بعد يوم، إلى مُنتهى الأيام وكانوا يمتلئون كُلّما خدموا وكرزوا.ملأهم من الحكمة فلم يستطع أحد أن يقاوم الحكمة التي فيهم وقد صَحّ التعبير «لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ!» (1كو1: 25). ملأهم حكمة ليست من هذا الدهر، ولا تُضاهيها حكمة حكماء هذا الدهر. على أنّهم كلما زادوا في الاتضاع والمَسْكنة كلما زادوا في النعمة والحكمة، وهكذا كرزوا وعلَّموا«انْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ... بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ» (1كو1: 26، 27). صارت حكمتهم ليس نتاج رجاحة العقل والفلسفة، بل نازلة من فوق. الحِكمة البشرية تجعل الإنسان منتفِخًا مُتكبّرًا متباهيًا مُرتفعًا، وعلى العكس صارت حكمة الرسل، فاتّضعوا بالأكثر وقالوا: «أَنَا مَا أَنَا... وَلكِنْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي» (1كو15: 10) الروح بشفاعةٍ داخلية وأنَّات لا يُنطق بها ضبَط ملكاتهم، وقدس نيّاتهم، ووحّد طاقاتهم، واستخدمها الروح لتجديد الخليقة، وتقديسها بغسل الماء بالكلمة. وضْع أيديهم لنقل سِرّ الروح إلى كلّ مَن وضعوا عليه اليد. كانت الأيادي المنظورة تُخفي من ورائها سِرّ الروح الذي لا يُرى، ولكنّه العامل والفاعِل والمُستعِد والمنحدر والمنسكِب دون أن تدركه الحواس الخارجية.ملأهم الروح إلى كلّ الملء، فكرزوا للمؤمنين أن يسعوا للوصول إلى ملء قامة المسيح. كان الملء فيهم دائمًا مستديمًا بغير انقطاع بل بفيض وغزارة. كانوا في الحالة التي عبَّر عنها القديس يوحنا الرائي «لِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي الرُّوحِ» (يو2: 4). إذ كما قال القديس بولس: «أَفِي الْجَسَدِ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ لَسْتُ أَعْلَمُ» (2كو12: 2). هكذا كانوا وهكذا غيَّروا وجه الأرض. فإن كان الجسد ضعيفًا بحسب طبيعته، ولكنّ الروح جعل أرواحهم في قوّة الله. بحَسَب الجسد ذاقوا الآلام والأتعاب والأسهار، وبحسب الجسد ذاقوا مرارة الاضطهاد والتعذيب، وحتّى القيود كمذنبين، وحتّى التشريد والقمع، وأخيرًا قبلوا في أجسادهم جراحات الموت بحدّ السيف، ولكن بحسب الروح الساكن فيهم لم يعترِهم الخوف ولا الجُبن ولا الضعف بل كانوا مؤازَرين بقوة الله«شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ» (كو1: 12، 13).سلطان الظلمة، روح الظلمة، روح الضلال، الروح الشرير «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ... » (أف6: 12، 13).إن كُنّا في العالم بحسب قول الرسول سنواجه ونصارِع مع هذه القوات الشريرة، فلا يوجَد طريق للنصرة على هذه القوى الرهيبة سوى الملء من روح الله القدوس. وإلاّ.. فكيف يَقدِر الإنسان الضعيف الترابي بحسب طبيعته أن يتفوّق على أرواح الظلمة؟
فأي شكر يجب أن نقدّمه إلى الله من أجل عطية الروح القدس الذي سكن فينا؟! منذ أن سقط الإنسان، وسلّم إرادته لعدو الخير بإطاعة مشورته، حين دخل الموت إلى العالم بحسد إبليس. منذ ذلك الحين صار روح الظلمة متسيّدًا على الإنسان لأنّه خضَع له بالإرادة. فلمّا ظهر عطف مخلّصنا الله بتجسده الإلهي، وصنع الخلاص وحرّرنا من عبودية إبليس.. «صِرْنَا عَبِيدًا لِلْبِرِّ» (رو6: 16) بحلول روح الله فينا.وفي طقس المعمودية المُقدّسة يُطرَد الروح النجس من مسكنه بقوة الله وباسم يسوع المسيح. هذا السلطان أعطاه الله للرسل، حين أعطاهم قوّة وسلطانًا على إخراج الشياطين، ونفخ في وجوههم، وأرسلهم أن يشفوا المرضى ويخرجوا الشياطين ويقيموا الموتى. هكذا بعد الصلاة ينفخ الكاهن في المُعمَّد ويقول بسلطان: "اخرج أيّها الروح النجس". وبالصبغة المقدسة وسرّ الميرون يحل الروح القدس في المُعمَّد، ويصير مسكِنًا لله بالروح.ولكن كلام المسيح فيه لنا تحذير غاية فى الخطورة والأهميّة، لابد أن يُؤخَذ مَأخذ الجدّ: «إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغًا مَكْنُوسًا مُزَيَّنًا. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ» (مت12: 43–45).«إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ» (في2: 1)«أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1يو1: 3، 4). ومع هذه الشركة ينبع الفرح «لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً».في المسيح نحن شركاء في الآلام وشركاء في التعزية والمجد، شركاء في الضيق وشركاء في السعة. شركاء في الموت وشركاء في القيامة. ألسنا أعضاء جسد واحد؟ إذن هذه الشركة هي شركة حياة، شركة عملية ولا يمكن إدراكها بالفكر. هذه الشركة في الروح لأنّنا كلّنا وُلدنا من ذات الروح الواحد. ولمّا أعطانا جسده لنأكله صارت فينا شركة الجسد الواحد. كلّ مَن يحيا ويتمتّع بهذه الشركة يعيش السماء على الأرض، يدخُل إلى عمق الحبّ الإلهي الذي جَمَع المتفرّقين إلى واحد.صرنا نحب الأخوة.. بل «انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ، لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ» (1يو3: 14). الحبّ الذي سكبه الروح فينا.. لذلك نحبّ من كلّ القلب، نحبّ الله ونحبّ القريب، نحبّ الله ونحب أولاد الله، نحبّ «مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ» (1بط1: 22). ونكرز بهذا الحبّ العجيب. نحبّ بلا تحفُّظ.. «قَلْبُنَا مُتَّسِعٌ» (2كو6: 11).إنّ ممارسة المحبّة المسيحيّة في محيط الأسرة يُغيِّر مِن شكل الأسرة، ويجعلها مختلفة متميّزة، إذ يصير رباط أعضائها ليس رباط اللحم والدم فحسب، بل بالأكثر رباط الروح القدس الواحد.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
09 يوليو 2021
اسلكــــوا بالـــروح ج
بحسب ما تَسَلّمنا من إيمان إنّنا حينما اعتمدنا للمسيح قد لبسنا المسيح.. وبحسب ما كُتب أيضًا صِرنا هيكلاً للروح «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ... لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ» (1كو3: 16، 17)، وبحسب الإيمان أيضًا «جَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا» (1كو12: 13)، «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ» (رو8: 11).ومِثل ذلك كثير.. والسؤال الذي يجب أن يلحّ علينا: كيف أسلك بالروح؟ أو كيف أنقاد بالروح حسب المكتوب «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ» (رو8: 14).والواقع العملي إنّنا حصلنا على كلّ وعود الله الصادقة، والواقع العملي أيضًا أنّنا نلنا وأخذنا. فإن كان العالم واقع تحت سلطان روح الظلمة، «الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ» (أف2: 2). وهذا بالطبيعة يُثمِر كلّ أفعال الشرّ والنجاسات والطمع والكذب والخبث والحقد والقتل، وكلّ باقي الأفعال التي نراها في العالم ونسمع عنها كلّ يوم وفي كلّ مكان. فإذن الحاجة الماسة الشديدة أن يوجّد أولاد الله سالكين بالروح المضاد لروح العالم، يشهدون ضدّه، ويشهدون عليه، ويدينون أفعاله وكلّ قوّته الشريرة.
«اسْلُكُوا بِالرُّوحِ... الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ» (غل5: 16، رو8: 14)
لا تطفئوا الروح (هو نار غير مادية لكن ينطفئ في الهالكين).
إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون (هذا هو عمل الروح).
أُصلِّي بالروح (بدونه لا صلاة).
لا تُحزِنوا الروح (بل على العكس فرِّح قلب الله بتوبتك).
جئت لأُلقي نارًا.. وكيف تُضرَم النار (أضرِم الموهبة التي فيك).
الروح يحيي (بدونه الموت حتمًا).
روح الحقّ (ضد روح الضلال الذي في العالم).
روح الذي أقام يسوع (يقيمنا ويحيي أجسادنا وأرواحنا).
روح البنوّة (به صِرنا أبناء للآب).
روح الله (مَن يقبله؟).
امتلئوا بالروح (إلى كلّ ملء الله).
كلّنا سُقينا روحًا واحدًا (الماء والروح).
يُبكِّت العالم على خطيّة وعلى بِرّ وعلى دينونة.
يأخذ مِمّا للآب ويخبركم (المسيح لم يتكلّم مِن ذاته وحدَه، بل كما سمع من الآب).
ذاك يمجّدني (الآب يمجِّد الابن، والروح يمجِّد الابن، والابن يمجِّد الآب).
يتكلّم بكلّ ما قلته لكم (الروح والكلمة).
كيف أسلك بالروح؟ أو كيف أنقاد بالروح؟
بادئ ذي بدء قلْ لي هل تشعر بروح الله في داخلك؟ ألم يَقُل المسيح إنّه ينبع في الداخل كنبع الحياة الأبدية؟
هل تشعر بحضوره المفرح وحلوله المشبع الذي يسيطر على كلّ ما فيك؟
هل تشعر به يملأ كيانك؟
هل تستشعر عذوبة حلول الروح وعزاءه الذي لا يُعَبَّر عنه؟
هل تسمع صوته؟
هل تخضع لتلبيته عندما يَنخُس الضمير، ويوقِظ ما كان نائمًا مِن مبادئ ومُثُل، بل حينما يُقيم ما كان ميتًا من الحواس المقدسة؟
هل تستنشق أريجه الإلهي، حين يملأ الداخل بعطر القداسة ونسيم الوداعة الإلهية؟
هل تَخلُد إلى السكون العميق الذي يسدله الروح على الحواس، ويجعلها مرهَفة للإنصات؟
هل تهبّ عليك ريحه، فتسيل المياه من الداخل، فتَجري من الينبوع إلى المآقي كسواقي الله؟
هل صار الصوت الخفيف والنسيم الهادئ يلفّك من كلّ ناحية، فتشعر أنّك جزء من وجوده؟
أَم هل لحقتك النار في طرف من أطراف كيانك، فحوّلَتْ البرودة، بل وألغتها، وأشعَلَت الغِيرة والفرح؟
وهل سعدتَ بكلّ هذا، أو بعضه، وهل طلبت المزيد؟
وهل توسلتَ أن تدوم هناك؟
(يُتّبَع)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
02 يوليو 2021
أمور تبدو صغيرة ذات مدلولات كبيرة ج2
اجتاحَت ضيقة شديدة حياةَ أحد الأحباء.. كانت نفسيّته وكأنّه أحاطتْ بها ظُلمة شديدة أو كأنّه انحبَس في فخٍّ ولا خروج، فكانت نفسُهُ مُرَّةً فيه. فلجأ إلى الصلاة بلجاجة ودموع، وطلب بصراخ الليل والنهار. وطالت به الأيام وهو في ذات الحال. وكأنَّ الصلاة تذهَب أدراج الرياح.. وكأنَّ ليس مَن يَسمع. وكانت نفسه تنزوي كلّ يومٍ وكاد يدخل في يأسٍ قاتل.قال لي: «عندي أيقونة للسيد المسيح أحبّها وأحبّ أن أتطلّع إليها. وأصلّي أمامها.. وأعلَم أنّه يَسمع لي. فكنتُ في هذه الأيام التي اكتنفتني فيها هذه الضيقة أخلدُ إلى هذه الأيقونة وأضع رأسي المُتعَب عليها. وجاءني فكرٌ داخلي قلتُهُ للربّ، ولم يكُن يخطر على بالي من قبل، كنت أقول للربّ: احتضنّي.. خُذني في حضنك. وظللت على هذه الحالة قرابة شهر كامل. وفي ليلة الأحد الماضي وأنا أقول للربّ أمام الأيقونة.. احتضنّي. راجعتُ نفسي وقلتُ كيف؟! هل ينزل الرب من السماء ليحتضنّي؟! ما هذا الذي أنا أطلبه من الرب هذه الثلاثين يومًا.. هل هذا معقول؟
ثم صليتُ ونمتُ.. قمتُ باكرًا وحضرتُ إلى الكنيسة. صليتُ القُدّاس، وشعرتُ بعزاء فوق العادة. وتناولتُ من الأسرار.. وكانت كلمات القراءات وكلمات القداس كلّها موجّهة إلى نفسي.. لم أشعر هكذا من قبل. وبعد القداس الإلهي كنت أنا وزوجتي وبعض الأحبّاء واقفين.. فسلّمتُ عليهم وجئتَ أنت إليَّ وفوجئتُ أنّك تأخذني في حضنك.. أنا وحدي دون جميع الواقفين.. ولم تكُن هذه عادتك، وعلى مدى سنوات معرفتي بك لم يحدُث هذا الأمر.احتضنتني بقوّة.. لم أملك نفسي.. ارتميتُ في حضنك وبكيتُ.. وأزال الربُّ الضيق. وقلتُ: أُعظّمك يا رب لأنّك احتضنتني.. وعلمتُ أنّ الله سمع صوت بكائي. واستجابَ طلبتي الغريبة التي كنت أتوسل إليه أن يحتضني. ولم يقف الأمر عند العمل الداخلي للنعمة، أنّ الرب آزَر نفسي وعزَّاني.. بل تجاوزه إلى الفِعل الحِسّي، عندما شعرتُ أنّ الله أرسلك لتتمّم شهوة قلبي. فتَقَوَّى إيماني بالرب، وعلمتُ أنّه يسمع صراخ المساكين».في الحقيقة لستُ أعلم ما الذي دفعني حتّى أفعل هذا.. شعرتُ وأنا أُسلّم على الرجل أنّ دافعًا أقوى مِنِّي يدفعني أن أفعل هذا؛ كأنّ شوقًا ومحبّة قويّة أريد أن أُعبِّر عنها نحوه. مع أنّ الرجل من عامّة الشعب، ولم أكُن أعلَم شيئًا عمّا يجوز فيه مِن ضيقة، أو ما هي ظروفه. فلما وجدتُه يبكي على كتفي بدون مُقدِّمات تعجّبتُ. فلمّا سألته على انفراد، حكى لي ما كان مَخفِيًّا عنّي. فمجدتُ الله الذي يعمل أكثر مِمّا نفهم أو نسأل. «وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا» (أف3: 20).
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
25 يونيو 2021
أمور تبدو صغيرة ذات مدلولات كبيرة
كنت أصلِّي القداس الإلهي يوم أربعاء.. والقداس بحسب المواعيد المعتادة يبدأ الساعة 7 صباحًا وينتهي في التاسعة. وكان يصلِّي معي أحد الآباء الكهنة. وفي غالب الأحيان نصلِّي الأواشي الكبار -التي تُقال بعد قراءة الإنجيل المقدس- نصلِّيها سِرًّا.. بسبب ضيق الوقت.أَعطيتُ الأبّ الكاهن شريكي أن يقرأ الإنجيل المقدس.. وبعد قراءة سِرّ الإنجيل أمام المنجلية.. دخلتُ إلى داخل الهيكل، وصلّيت الأواشي الكبار سِرًّا.. وأعطيتُ الشوريّة للشماس، ووقفتُ داخل الهيكل مُنصِتًا للإنجيل المقدّس. وبينما أنا كذلك جاءني هاتف في داخلي يقول: صلّ الأواشي جَهرًا بعد كمال الإنجيل. قلتُ في نفسي: لقد صلّيتُها سِرًا. جاءني ذات النداء الداخلي مرّة أخرى.. كأنّ أحدًا يتكلّم في أذني ويقول: لا صَلّها جَهرًا.. قلتُ مرّة أخرى: لقد صلّيتها.تكرّر الأمر معي مرّات.. ووجدتُ نفسي غير قادر أن أتغلّب على هذا الفكر، أو أن أفلت منه. فلمّا فرغ أبونا من قراءة الإنجيل المقدس. وكاد الشماس أن يردّ المردّ الذي يقول: أنصتوا بحكمة الله.. وبعده يقولون: بالحقيقة نؤمن. أشرتُ للشماس ألاّ يقول.وتقدّمتُ إلى المذبح وقُلت: اشليل.. وصليتُ الأواشي جَهرًا.. ثم ذهبتُ لأغسل يديّ. فبادرني الأب الكاهن قائلاً: ألم تُصَلِّ الأواشي سِرًّا.. قلت: نعم. فقال: لماذا صلّيتها جَهرًا.. قلت: لا أعلم.
صلّينا القداس.. وتناولنا الأسرار المقدسة. وشكرنا الله على نعمته التي يعطيها لنا نحن غير المستحقين.. وصرفنا الشعب.وطلب إليَّ البعض أن يجلسوا معي.. بعضهم للاعتراف، والبعض يسأل أو يستفسر عن شيء، أو يطلب خدمة معيّنة كالعادة. كان من بينهم إحدى بناتي في الاعتراف. وهي سيّدة في الثلاثين من عمرها، لها ثلاثة أطفال صغار. وهي إنسانة ذات قلب نقي.. بسيطة غاية البساطة، تفحص نفسها وتقدّم للرب توبة خالصة جادّة. وتعيش بقدر إمكانها حافظة لوصايا المسيح، مُحِبة لجميع الناس ومُحتمِلة بوداعة كلّ ما يأتي عليها.فلما جلَسَتْ بجانبي وجدتُها تكاد تطير من الفرح.. متهلّلة جدًّا. وفي حال الشكر.. قالت: «أنا لي ما يقرب من شهر لم أتناول الأسرار المقدسة بحسب ظروفي ومشغولياتي.. قُمتُ في هذا الصباح وعندي شهوة عارمة وشوق لا يوصَف للتناول. ركبتُ سيارتي لأوصّل ابني للمدرسة. وكنتُ أقود السيّارة مُسرعةً. وأدرتُ تليفوني لأسمع الإرسال المباشر من الكنيسة، وكنتُ أتابع الصلاة، ولكنّي كنتُ متأخرة. وكانَتْ شهوة قلبي أن أكون في الكنيسة من أول القداس. فرفعتُ قلبي للمسيح ورجوته. وقلت له: خلِّي أبونا يصلِّي الأواشي جَهرًا. وكنتُ أطلب إلى المسيح في هذه اللحظات بكلّ قلبي حتى سال الدمع من عيني. فلمّا انتهى أبونا من قراءة الإنجيل المقدس.. وكنتُ مازلت على بُعد عشرة دقائق من الكنيسة.. وجدتُك تقدّمتَ إلى المذبح وبدأتَ تصلّى الأواشي جَهرًا. لم أمتلك نفسي من الصراخ والشكر. وتهلّلتْ نفسي بفرحٍ عجيب. وقلتُ يا ربّي إلى هذه الدرجة تسمع الصلاة وإلى هذه الدرجة تكون الاستجابة.. حقًّا إنّك إله عجيب ومُتعجَب منك بالمجد».صحيح إنّه أمر بسيط، ولكن قد زاد إيماني ورجائي وثقتي في إلهي الذي يسمع الصلاة، حتى من الخطاة والمساكين. ويُريني كَم هو قريب، وكَم هو طيّب وصالح. كنتُ أسمعها، ولم أتكلّم بشيء، ولم أُعلِّق بكلمة على الأمر. ثم قلت لها: إنتي جايّة تعترفي.. قالت: نعم. وقدّمت اعترافها للمسيح بأمانتها وتدقيقها في توبتها، وفحص نفسها، والرجوع باللوم على نفسها. وطلبَتْ إرشادًا.. فقدمتُ لها بحسب ما أعطتني النعمة أن أقول لها.. وأحنَتْ رأسها تحت يد الربّ، وقرأتُ لها التحاليل، وصرفتها بسلام.
وكنتُ في داخل نفسي في ذهول.. فلم يكن الهاتف في داخلي كذبًا.. ولم يكن إلحاح الصوت عليَّ أن أصلِّي الأواشي ظَنًّا أو وَهمًا. بل كان حَقًا وصِدقًا. ولكن إلى هذه الدرجة يكون الاتصال بالله حتى من البسطاء.. وإلى هذه الدرجة يكون الردّ السماوي هكذا سريعًا وفَعّالاً. ولكن هذه هي مواعيد الله، وهكذا ممكن أن نرى تَدَخُّل الله ويده الحانية في التفاصيل الدقيقة في الحياة اليومية، إن كانت لنا العين البسيطة التي تعاين، والقلب النقي الذي يطلب فيُجاب، ويَقرع فيُفتح له. وفي آخر النهار تقابلتُ مع الأب الكاهن زميلي وقلتُ له.. هل عرفتَ السرّ لماذا صليتُ الأواشي جَهرًا؟ قال: لا. فحكيتُ له حكاية هذه الأخت وما فعلتَه. وقلت له مُداعِبًا: شوف الناس مُمكِن يشَغّلونا ب Remote Control من على بُعد.. فهُم يتّصلون بالسماء، ويستطيعون أن يحركونا بالنعمة والروح.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
24 أبريل 2021
إنجيل عشية الأحد السابع من الصوم الكبير(يو 12 : 1 – 8)
ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا، حيث كان لعازر الميت الذي أقامه من الأموات. فصنعوا له هناك عشاء. وكانت مرثا تخدم، وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. فأخذت مريم منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع. ومسحت قدميه بشعرها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال واحد من تلاميذه، وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي، المزمع أن يسلمه. "لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويعط للفقراء؟" قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء، بل لأنه كان سارقًا، وكان الصندوق عنده، وكان يحمل ما يُلقى فيه. فقال يسوع: "اتركوا! إنها ليوم تكفيني قد حفظته، لأن الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين".
أحد الشعانين : سكب الطيب
يأتي هذا الفصل في عشية اليوم أقام الرب فيه لعازر من الموت بعد موته بأربعة أيام، وقد تحول الحزن إلى فرح والموت إلى قيامة، فكيف لا يُقدم شكر للرب على صنيعه. فأخذت مريم أخت لعازر رطل ناردين خالص كثير الثمن وسكبته على المسيح فامتلأ البيت من رائحة الطيب. كان الرب متكئًا في بيت أحبائه وكان لعازر الذي أقامه متكئًا مع الرب أو على صدر الرب. وكأن الرب كان كمثل داود الذي انتزع الغنمة من فم الأسد والدب. فقد انتهى الموت من الإجهاز على لعازر وقد شبع جسمه تحللاً وعفنًا. وهوت نفسه إلى سجن الأرواح في قبضة حفظه سجن الجحيم. ولكن "صوت الرب يزلزل القفار و يطف ئ لهيب النار، صوت الرب بقوة صوت الرب بعظيم الجلال". نادى لعازر فأطاع وخرج الميت ملفوف اليدين والرجلين ووجهه ملفوف بمنديل. قيل إن الرب صرخ بصوت عظيم ونادى لعازر باسمه ومعلوم أن الرب "وديع ومتواضع القلب... لا يصيح ولا يخاصم ولا يسمع أحد في الشوارع صوته". ولكنه صرخ في مواجهة الموت العدو الأخير. وكما انتهر الحمى، وانتهر الريح والبحر فكانت تطيعه، وحتى الشياطين حين سمعت صوته ارتعدت وصرخت قائلة: "ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا"!!.
هكذا صرخ المسيح قدام قبر لعازر، وصرخ مرة أخرى حين أسلم الروح على الصليب، صرخ بصوت عظيم وأمال الرأس وأسلم الروح. فهو في لحظات الموت صرخ بصوت عظيم!! يا للجلال."قدوس الحي الذي لا يموت". من أين الصوت العظيم والصراخ لأحد يسلم الروح!! ولكنه الإله الحي الذي لا يموت.
فإن كنا نرى الرب ينادي لعازر من كوره الموت فهذا استلزم هذا الصوت العظيم الذي حطم قوة الجحيم. صوت الرب هو كلمة الحياة الفعالة التي هي أمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والجسد والروح معًا. متى قبلها إنسان بكل القبول فإنها قادرة أن تقيمه ليس من موت الجسد بل ومن موت الخطايا وعفن قبور الشهوات.
"هاأنذا أخرجكم من قبوركم يا شعبي"
إن كان أحد يسمع كلمة المسيح فإنه يحيا. "تأتي ساعة حين يسمع فيها كل من في القبور صوته والذين يسمعون يحيون". ليس لعازر فقط هو الذي أقامه المسيح من الأموات ولكن نحن إذ كنا أمواتًا بالذنوب والخطايا... أحيانا مع المسيح أقامنا معه... وأقامنا فهو قيامتنا.
"في آدم يموت الجميع... وفي المسيح سيحيا الجميع". كما لبسنا صورة الترابي (المائت)... سنلبس صورة السماوي (الحي).
• لذلك كانت مناسبة الوليمة في بيت لعازر، كالوليمة التي عملها الأب للابن الراجع "ينبغي لنا أن نفرح لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش". هي فرح المسيح و السمائيين بخاطئ واحد يتوب... لأن الخاطئ في عرف الروح ميت... لذلك يكون فرح في الكنيسة وفي السماء بخاطئ واحد يتوب وحين يتكئ المقام من الأموات في حضن المسيح "الحياة" يكون الأمر نصرة للحياة على الموت ويتمجد المسيح الذي يصنع هذا المعروف مع الموتى.
• جاءت مريم أخت لعازر، تلميذة قدمي يسوع ومحبَّة للكلمة هادئة وديعة، اختارت النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها. وهي أقدر من يعرف كيف يشكر واهب الحياة وقاهر الموت. نحن لا نملك أن نرد جميل الرب وصنيعه معنا "ماذا أرد للرب من أجل كثرة حسناته". لا نملك سوى الشكر وقد اضطلعت مريم العابدة بهذا الأمر، فقدمت شكرها مع طيبها، وكسرت القارورة من غير تحفظ ولم تبال بشيء ولو انتقدها الآخرون. فقد كانت عيناها مركزة على الرب وليس سواه.
• امتلأت الكنيسة (البيت) من رائحة الطيب، فرائحة الطيب تنتشر بدون كلام... بتلقائية سريعة هادئة.
كان الكلام في الصباح "قد انتن"... أما الآن فرائحة الطيب. مع المسيح تتبدل السلبيات إلى إيجابيات، الحزن إلى فرح والموت إلى حياة، ورائحة الموت إلى رائحة المسيح الحياة.
• قد يظن البعض أن في هذا إتلاف، ويقول العقلاء وهم دائمًا ينظرون وينتقدون... "لماذا هذا الإتلاف" ولكن هيهات لطيب يسكب على جسد المسيح ويُقال عنه أنه إتلاف.
• إن هذا الطيب أخذ قيمته ورائحته كونه سُكب على جسد الحبيب. وحين قال الرب إن الفقراء معكم كل حين، فقد أفرد هذا العمل الذي عملته المرأة وخصه بكونه مقدم له شخصيًا.
• توجد أعمال تسكب سكيبًا على قدمي المسيح وهي ما تقدمه النفس للحبيب شخصيًا خلوًا من الناس... أعمال العبادة الخاصة والشبع من السجود و الأصوام و الأسهار والدموع وكل أعمال النسك للذين صاروا أصحاب سر مع المسيح كعريس نفوسهم... وهي تختلف عن أعمال الخدمة وافتقاد المرضى والمتضايقين ورد الضالين وكل أنواع الخدم، وإن تكن مقدمة للمسيح ولكن في أشخاص المخدومين. وهذا هو الفرق بين حياة العبادة والتأمل وبين حياة الخدمة والسعي وهو الفرق بين مريم و مرثا في كل جيل.
• لماذا تزعجون المرأة؟ "عملاً حسنًا صنعت بي"، هذا هو جواب المسيح فاحص القلوب. لقد استحسن عملها، وقبل شكرها وسجودها ومدح حبها ومشاعر طيب قلبها. فإن كان العمل مقدمًا شخصيًا للرب فلا نبالي بكلام كائن من كان... يكفينا مدح المسيح لعملنا. وقد سجل الرب للمرأة تخليد عملها أنه تلازم مع الكرازة بالإنجيل في كل زمان وفي كل العالم.
• ومن تدبير كنيستنا الحبيبة أنها تقرأ هذا الفصل من الإنجيل في تجنيز النساء الكبار... وكأن كل سيدة عاشت في المسيح في محبة وقداسة سيرة ربت الأولاد لحساب يسوع وغسل أرجل القديسين واهتمت بكل عمل صالح... فإنها تكون بطريقة ما قد عطرت الكنيسة بسيرتها العطرة في المسيح فاستحققت ذات النصيب والمدح من فم المسيح. فهذا ما يجب أن تكون عليه المرأة في الكنيسة متعاهدة على تقوى الحياة والعبادة وثبات الإيمان والتعقل.
• أما بالنسبة لأحد الشعانين فها هو ملك أورشليم الداخل إليها وديعًا متواضع القلب، منتصرًا لا على جيش ولا على أعداء– بل على العدو الأخير الذي هو الموت وها هو لعازر يقف كوسيلة إيضاح وشهادة حق "وكانوا يشهدون أنه دعا لعازر من القبر". فهو ملك خرج غالبًا ولكي يغلب... يغلب الموت ويعطي الحياة الأبدية في شخصه.ولم تكن مسحة الطيب سوى مذكّر للمسحة العلوية التي أخذها من الآب بالروح القدس لحسابنا. فهو مسيح الله ممسوح من الآب بمسحة أفضل من أصحابه أي أن مسحته تختلف جذريًا عن الذين اعتبروا مسحاءً سواء كانوا كهنة أو ملوكًا أو أنبياء. فهو قبل المسحة لا لكي يصير ويرتقي كباقي المسحاء الذين ارتقوا إلى مكانتهم بالمسحة. بل هو كما كُتب عنه أنه أحب البر "إذ هو الرب برنا"، "لذلك مسحك الله أفضل من أصحابك". فهو مسح لأنه في حال إخلائه لذاته وجد الآب مسرته فيه إذ عظم الشريعة وأكرم الناموس وأحب البر لذلك صار رأسًا للخليقة الجديدة الخاضعة للآب بعد أيام العصيان والعداوة... لذلك قبل المسحة لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه ونصير به شركاء الطبيعة الإلهية.
• أما دخول المسيح إلى أورشليم وبكاؤه عليها إذ صارت هي وكهنتها ورؤساءها في حال العمى "أخفى عن عينيك" وفي حال عدم الإدراك الروحي كسكارى "لو كنت تعلمين ما هو سلامك" لذلك رفضت ملك السلام ورفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم فحرموا من النعمة وصارت مدينتهم خرابًا.
• أما الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطان أولاد الله... فهم يتبعون هنا يسبحون قائلين أوصنا ويفرشون ثيابهم في الطريق ويمسكون سعف النخل وهذا بعينه سيترجم في السماء في ملكوت المسيح لتابعيه، وفي أيديهم سعف النصرة على الجسد والعالم والشيطان وعوض الأقمصة التي فرشوها في طريق مخلصهم فإنهم سيلبسون ثيابًا بيضاء وفي أفواههم تسبحة الخلاص عينها. مبارك ومقدس من له نصيب في المسيح هنا فإنه يصير شريكه في مجد ملكوته هناك. أوصنا لابن داود... أوصنا في الأعالي.مبارك الآتي باسم الرب.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
(عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد