المقالات

14 مايو 2021

سر قيامة المسيح

قرأنا معًا بدء تفسير القديس كيرلس الكبير على آية إنجيل يوحنا (6: 51)، وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ»، ونستكمل الآن تفسيره لهذه الآية[لكن قد يقول قائلٌ، مثبتاً عين فهمه على قيامة الذين رقدوا: أن أولئك الذين لم يقبلوا الإيمان بالمسيح، ولم يصيروا شركاءه، لن يقوموا مرة أخرى في زمن القيامة. ماذا؟ ألن يعود الى الحياة ثانية، كل من مات؟] هنا يتساءل القديس كيرلس: ربما يقول شخصٌ ما: هل كل الموتى سيقومون في القيامة الثانية عند مجيء رب المجد ثانية من السماء، أم سيقوم المؤمنون بالمسيح فقط؟ أي هل خليقة الله التي خلقها على صورته ومثاله سوف تقوم ثانية بعد أن تفارق هذه الحياة المؤقته، أم مآلُها إلى زوال؟ خاصة الذين لم يؤمنوا به ولم يكن لهم شركة معه. ويجيب القديس كيرلس مستشهدًا بسفر إشعياء النبي حسب الترجمة السبعينية[لكن نقول عن هذه الأشياء، أجل، كل جسدٍ سوف يحيا ثانية، لأن كلمة النبوءة سبقت وأخبرت أن «الموتى سيقومون» (إش 26 : 19 سبع). لأننا نعتبر أن سرَّ قيامة المسيح يشمل كل الطبيعة البشرية، ونؤمن أن فيه أولاً (أي في المسيح) قد تحررت كلُّ طبيعتنا البشرية من الفساد. لأن الجميع سيقومون، على مثال ذاك الذي أُقيم لأجلنا، الذي كان يملك الجميع فيه، عندما صار إنسانًا] من تفسير القديس كيرلس يتضح أن القيامة الثانية، أي القيامة للحياة الأبدية، لم تكن تحدث لولا قيامة الرب يسوع من بين الأموات، لأن الطبيعة البشرية عندما اتحدت به نالت فيه أولاً الحرية من الفساد. وهذا ما سبق وقاله في بداية تفسيره لهذه الآية: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ» (عب 2: 14-15). وهكذا شمل سر قيامة المسيح كل الطبيعة البشرية. ولم يكن ممكنًا أن نقوم لولا أننا كنا فيه عند تجسده وعند قيامته، أو كما يقول القديس كيرلس: «لأن الجميع سيقومون على مثال ذاك الذي أقيم لأجلنا، الذي كان يملك الجميع فيه». وهذا واضح من رسالة القديس بولس، والتي قرأناها الآن: «هَكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ» (1كو 15: 42). فلولا أننا نلنا عدم الفساد بسبب أننا كنا في المسيح، ما كان ممكناً أن نقوم للحياة. ثم يقول القديس كيرلس [وكما أنه في الإنسان الأول قد سقطنا في الموت، هكذا في البكر مرة أخرى، الذي صار (بكرًا) لأجلنا، سوف يقوم الجميع من الموت، لأنه كما هو مكتوب: «فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (يو5:29)، وإني أسلِّم بأن ما هو أكثر مرارة من الموت هو القيامة للعقاب، والقيامة مرة أخرى لنوال الخزي وحده] هنا يشرح القديس كيرلس أن آدم الأول كان بكر البشرية العتيقة، أما الرب يسوع فقد صار بكرًا لأجلنا لقد دُعي بكرًا في ميلاده: «فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ» (لو 2: 7)؛كما دُعي بكرًا بين إخوته: «لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رو 8: 29)ومقابل آدم بكر الخليقة العتيقة، دُعي المسيح بكر الخليقة الجديدة: «اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ» (كو 1: 15)؛والبكر من الأموات: «وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّماً فِي كُلِّ شَيْءٍ» (كو 1: 18)؛وهو نفس اللقب الذي استمر معه حتى في الأبدية، حسب ما جاء في سفر الرؤيا: «وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ. الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤ 1: 5) بعد ذلك يوضح القديس كيرلس معنى القيامة للحياة، فيقول[إذن بمفهوم أدق علينا أن نفهم الحياة كما هي في حقيقتها بأنها: «الحياة في المسيح»، في قداسة وغبطة وفرح لا يزول. لأن هذه هي الحياة حقاً التي يعرفها أيضاً يوحنا الحكيم، قائلاً «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً، بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ» (يو3 : 36). لأنه هوذا يتحدث، ويا للعجب، ويقول إن الذي لا يؤمن لن يرى حياة، رغم أن كل مخلوق سيعود إلى الحياة مرة أخرى، وسيقوم ثانية. لهذا من الواضح، أن المخلص لسبب معقول، قد سمى تلك الحياة المعدة للقديسين بأنها هي الحياة، أعني الحياة التي في مجد وقداسة، التي علينا أن نسعى وراءها، بقدومنا الى التناول من الجسد الواهب الحياة، الأمر الذي لن يرتاب فيه كل عاقل]هذه هي الحياة كما أوضحها الكتاب المقدس، وكما شرحها القديس كيرلس الكبير. الحياة هي «في المسيح»، وخارج المسيح ليس حياة. لأنه «فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ» حسب قول القديس يوحنا في إنجيله (يو 1: 4)؛ وأيضًا في رسالته الأولى: «وَهَذِهِ هِيَ الشَّهَادَةُ: أَنَّ اللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ فِي ابْنِهِ. مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ» (1يو 5: 11-12). وكيف تنتقل لنا الحياة التي في المسيح، لقد أوضحها القديس كيرلس بكل بساطة: «إنها الحياة، أعني الحياة التي في مجد وقداسة، التي علينا أن نسعى وراءها. ولكن كيف؟ بقدومنا إلى التناول من الجسد الواهب الحياة». أي بالشركة أو التناول من جسد المسيح المبذول من أجلنا وشرب دمه المسفوك من أجلنا. أليس هذا ما نقوله في كل قداس: يُعطى عنا خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه. أو كما كررناها كثيرًا في قسمة الصوم المقدس: «هَذَا هَوُ خُبْزُ الحَياةِ الذي نَزَلَ مِنَ السَماءِ، لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آَبَاؤُكُمْ المَنَّ فِي البَرَّيَةِ وَمَاتُوا؛ مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَحْيَا إلى الأَبَدِ، وأنا أُقِيمُهُ في اليَوْمِ الأَخِيْرِ». خرستوس آنستي وكل عام وجميعكم متمتعين بأفراح القيامة، والمجد لله دائمًا. نيافة الحبر الجليل المتنيح الشهيد الأنبا أبيفانيوس، أسقف ورئيس دير الأنبا مقار
المزيد
31 يوليو 2020

سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ

عندما تأمل القديس بولس الرسول فيما يجري حوله من مضايقات واضطهادات، ومن حروب داخلية وخارجية، رفع نظره نحو السماء، فأبصر وإذا: «سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هَذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا» (عب 12: 1)والمنظر كمثل بطل يصارع داخل حلبة المصارعة، أو مثل فريق يتبارى في استاد رياضي، يحيط به الآلاف من المشجعين، الذين يؤازرون فريقهم حتى يتم له النصر. والفرق بين هذا المشهد الأرضي وما رآه بولس الرسول، أن سحابة الشهود هم إما أبطالٌ سبقونا في الجهاد، ونالوا أكاليل الغَلَبةِ والظفر، وهم يشجعوننا أن نجاهد لننتصر كما جاهدوا هم ولبسوا أكاليل الجهاد. وإما قوات سماوية أرسلها الرب لتعضيد ومساندة خائفي اسمه: «أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ!» (عب 1: 14) لقد هجمت جيوش ملك آرام قديماً على شعب الله، فارتعب خادم أليشع النبي من هول المنظر، فطمأنه أليشع النبي وقال له: «لاَ تَخَفْ، لأَنَّ الَّذِينَ مَعَنَا أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُمْ. وَصَلَّى أَلِيشَعُ وَقَالَ: يَا رَبُّ، افْتَحْ عَيْنَيْهِ فَيُبْصِرَ. فَفَتَحَ الرَّبُّ عَيْنَيِ الْغُلاَمِ فَأَبْصَرَ، وَإِذَا الْجَبَلُ مَمْلُوءٌ خَيْلاً وَمَرْكَبَاتِ نَارٍ حَوْلَ أَلِيشَعَ» (2مل6: 16-17) وليس المقصود هنا الاضطهادات أو المضايقات التي تجري من حولنا فحسب، بل المقصود بالدرجة الأولى الحروب الروحية التي نتعرض لها كل يوم من عدو الخير، الذي يجول دائماً حولنا كأسد زائر، لكن لنا في سحابة الشهود العون الروحي واللمسة السمائية التي تحول الحرب من حرب مادية، إلى حرب ضد أولاد الله، المؤمنين باسمه يحكي لنا كتاب بستان الرهبان عن القديس موسى الأسود، في بدء حياته الرهبانية هذه القصة (قول 174)[قيل إن الأب الكبير أنبا موسى الأسود قوتل بالزنا قتالاً شديداً في بعضِ الأوقاتِ. فقام ومضى إلى أنبا إيسيذوروس وشكا له حالَه، فقال له: «ارجع إلى قلايتِك». فقال أنبا موسى: «إني لا أستطيعُ يا معلم». فصعد به إلى سطحِ الكنيسةِ وقال له: «انظر إلى الغربِ»، فنظر ورأى شياطين كثيرين يتحفَّزون للحربِ والقتالِ. ثم قال له: «انظر إلى الشرقِ»، فنظر ورأى ملائكةً كثيرين يمجِّدون الله. فقال له: «أولئك الذين رأيتَهم في الغربِ هم محاربونا، أما الذين رأيتَهم في الشرقِ فإنهم معاونونا. ألا نتشجع ونتقوى إذاً ما دام ملائكةُ الله يحاربون عنا»؟ فلما رآهم أنبا موسى فرح وسبَّح الله ورجع إلى قلايتِهِ بدونِ جزعٍ] عندما نظر القديس بولس الرسول سحابة الشهود، شجَّع المؤمنين أن يجاهدوا دون خوف، وقتها سيدركون مدى سهولة الجهاد في حضرة هؤلاء المشجعين: «لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا» (عب 12: 1). نيافة الحبر الجليل الانبا إبيفانيوس الأسقف الشهيد رئيس دير القديس أبو مقار
المزيد
17 يوليو 2020

أبواب الجحيم لن تقوى عليها

«وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟»… فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ… أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا» (مت 16: 13-18). أبواب الجحيم: وردت الكلمة المترجمة «الجحيم» في العهد الجديد 11 مرة، تُرجمت في جميعها لكلمة «هاوية»، وفي هذه الآية فقط لكلمة «جحيم». إذاً فالمقصود هنا أبواب الهاوية، هذه التي ارتعب منها الملك حزقيا: «أنا قلتُ في عزِّ أيامي أذهبُ إلى أبواب الهاوية» (إش 38: 10). والهاوية هي العالم السفلي، عالم الأشرار والأرواح الشريرة. التي يقول عنها سفر الرؤيا: «فَنَظَرْتُ وَإِذَا فَرَسٌ أَخْضَرُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْمَوْتُ، وَالْهَاوِيَةُ تَتْبَعُهُ» (رؤ 6: 8)، فالعدو الأخير هو الموت، والهاوية أي عالم الشر تخضع له. أما الربُّ يسوع فيقول: «لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ، وَكُنْتُ مَيْتاً، وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ» (رؤ 1: 17-18)، أي أنَّ له السلطان المطلق على الهاوية والموت. وماهي أبواب الهاوية؟ الأبواب في التقليد الشرقي في الكتاب المقدس هي رمز الحُكم والسلطة القضائية. فكان لوط يجلس في أبواب سدوم (تك 19: 1) كعضو في جماعة القضاة في المدينة. وعرض بوعز قضيَّته في أبواب بيت لحم، حيث مجلس القضاء (راعوث 4). وكان مَن عليه قضية قتل بدون عمد أن يهرب إلى أبواب إحدى مدن الملجأ لينال الحماية (يش 20: 4). كما أن أبشالوم عندما تمرد على أبيه داود، كان يقف بجوار طريق باب المدينة ليحكم للشعب (2صم 15: 2) فأبواب الجحيم أو الهاوية هي تعبير عن أكبر سلطة لعالم الشر تواجه الكنيسة، ومهمتها السيطرة على الكنيسة والهيمنة عليها. ولكن ما سبب قوة الكنيسة، هذه التي اقتناها الله بدمه (أع 20: 28)؟ السبب يرجع إلى الأساس الذي بُنيت عليه، فهذا ما أوضحه الرب يسوع: وعلى هذه الصخرة، صخرة الإيمان بلاهوت الرب يسوع، أبني كنيستي. فإن كان البيتُ مبنياً على الصخرة (مت 7: 24) فلن تزعزعه الأمواج ولن تؤثر فيه الرياح. وإن كانت هذه الصخرة هي الرب يسوع نفسه (1كو 10: 4)، وهو نفسه الأساس الذي بُنِيَت عليه الكنيسة (1كو 3: 11)، فلن تستطيع كل قوى الشر المنظورة وغير المنظورة أن تؤثر فيه، بل هو دائمًا يقودُنا في موكب نصرته. والنهاية يخبرنا بها سفر الرؤيا: «وَطُرِحَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ» (رؤ 20: 14)؛ تمهيداً لرؤية السماء الجديدة والأرض الجديدة، ذلك الوصف البديع لأورشليم السمائية (رؤ 21). نيافة الحبر الجليل الانبا إبيفانيوس الأسقف الشهيد رئيس دير القديس أبو مقار
المزيد
26 يونيو 2020

سُفَرَاءٌ فِي سَلاسِل

بعد أن صالح الله الخليقة لنفسه، وبعد أن كلَّف تلاميذه بخدمة المصالحة، وأرسلهم كسفراء يتكلمون باسمه؛ لم تكن خدمة هؤلاء الرسل، ومن بعدهم خلفاؤهم في الرعاية والكرازة، سهلةً ميسَّرةً، بل كما قال القديس بولس الرسول: «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ» (رو 8: 36) فالإرسالية للكرازة والقيام بعمل السفير عن الرب يسوع ليست خدمة رفاهية وتنعيم الجسد، وليست كخدمة السفارة العالمية التي تحكمها المواثيق والمعادهات الدولية التي تؤمِّن حياة السفير وتحفظ له كرامته، فقد أرسلهم الرب يسوع: «مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ» (لو 10: 3)؛ بل وأرسلهم بدون أي مَدد أرضي يسهل لهم طريق الخدمة: «لاَ تَحْمِلُوا كِيساً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ» (لو 10: 4). لذلك انتهت الحياة الأرضية لأكثر الرسل والأساقفة في الكنيسة الأولى بإكليل الاستشهاد. وكانت مسيرة حياتهم: في «هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضاً وَحَبْسٍ» (عب 11: 36)، أو كما يقول بولس الرسول: «الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ» (أف 6: 20). ولم تكن هذه السلاسل أو القيود قادرةً أن تقيِّد كلمة الله، بل كانت أحياناً سبباً لانتشار كلمة الإنجيل، كما نسمع عن القديس برثلماوس الرسول الذي باع نفسه عبداً لأجل الكرازة في أسيا الصغرى لقد قيَّد الآباءُ أنفسَهم بسلاسل إرادية، لتأمين مسيرة الكرازة والخدمة. يقول بولس الرسول: «أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضاً أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ» (في 4: 12). ويقول أيضاً: «وَلَسْنَا نَجْعَلُ عَثْرَةً فِي شَيْءٍ لِئَلاَّ تُلاَمَ الْخِدْمَةُ. بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللهِ، فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ…» (2كو 6: 3-4) هذا نوع من السلاسل الاختيارية – وما أكثرها – التي وضعها الرسل على أنفسهم من أجل نجاح الكرازة والخدمة، وحسبما عاش الرسل، هكذا تعلم الرهبان من بعدهم، وصار مبدأ القيود الإرادية قاعدة في الحياة الرهبانية، وهي نفسها الوصية التي دعاها الرب يسوع بالباب الضيق، والتي عاش بها الرسل وسلموها لمن بعدهم، إذ نقرأ في كتاب بستان الرهبان (قول 995): [سُئل أحدُ (الرهبان) الشيوخِ: «ما هو البابُ الضيق»؟ قال: «أن يضيِّق الإنسانُ على نفسِه، ويزيلَ إرادتَه كلَّها لأجل حبِّ اللهِ وطاعتِه، بحسبِ ما قيل (عن الرسل): ها نحن قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك. لأنه لم يكن لهم غنىً وتركوه، بل تركوا مشيئتَهم»]. نيافة الحبر الجليل الانبا إبيفانيوس الأسقف الشهيد رئيس دير القديس أبو مقار
المزيد
19 يونيو 2020

خِدْمَةُ الْمُصَالَحَةِ

عندما صالح الله الخليقة لنفسه، في التجسد أولاً باتحاد اللاهوت بالناسوت، ثم على الصليب، وهب للرسل بعد ذلك إمكانية مصالحة الناس مع الله، ودعاها خدمة المصالحة: «وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ» (2كو 5: 18) وعندما أراد القديس بولس أن يلخِّص عمل الرسل، ومن بعدهم الآباء الأساقفة والقسوس في الكنيسة، لم يجد غير خدمة المصالحة ليوضِّح كلامه، المصالحة التي تقوم على فداء المسيح لخطايا وأخطاء الآخرين، لأنه لا مصالحة بدون مغفرة: «أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ» (2كو 5: 19) وهكذا تأسست الكنيسة على خدمة المصالحة، بدءًا من الرسل الذين أرسلهم الرب يسوع كسفراء عنه، يتكلمون باسمه، ويحملون رسالته إلى كل الأمم، لا يعبِّرون عن رأيهم الشخصي، بل يكونون أمناء لمن أرسلهم، ومهمتهم الأولى والرئيسية هي مصالحة الشعب مع الله: «إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ» (2كو 5: 20) والمصالحة لا تعني مجرد الصُلح بعد الخصام، لكنها تعبير: أولاً عن التبرير والخلاص الذي يمنحه الله: «وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. فَبِالأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ» (رو 5: 8-9)؛ ثم ثانيًا: عن العودة إلى شركة كاملة بعد الانفصال، كما يحدث في حالة انفصال زوجين، ثم عودتهم لحياة الشركة مرة أخرى: «وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُونَ فَأُوصِيهِمْ لاَ أَنَا بَلِ الرَّبُّ أَنْ لاَ تُفَارِقَ الْمَرْأَةُ رَجُلَهَا. وَإِنْ فَارَقَتْهُ فَلْتَلْبَثْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ أَوْ لِتُصَالِحْ رَجُلَهَا» (1كو 7:10-11)؛ «أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا» (1كو1: 9) وكما أن علاقة السفير بمن أرسله تعمل على تحقيق خدمة المصالحة بين الشعوب، وتكون سبباً لنجاحه في المهمة المنوط بها؛ هكذا أيضاً بقدر ما يكون للأسقف من علاقة ودالة قوية عند الله بسبب صلاته وخضوعه لمشيئة الله كل حين، بقدر ما تكون خدمة المصالحة قوية وفعالة؛ إذ يمكنه أن يصلي عن شعبه، أو مع شعبه، في كل حين، كما يقول القديس بولس الرسول: «يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ» (غل 4: 19). أو كما يقول القديس إغناطيوس الأنطاكي (107م) في رسالته إلى أهل أفسس: [إن كانت صلاة اثنين معاً لها هذه القوة (مت 18: 19)، فصلاة الأسقف والكنيسة أقوى]، بسبب سر الإفخارستيا أو التناول الذي هو سبب وحدة الأسقف مع الشعب. نيافة الحبر الجليل الانبا إبيفانيوس الأسقف الشهيد رئيس دير القديس أبو مقار
المزيد
12 يونيو 2020

كان الجميعُ معاً بنفس واحدة

الروح القدس هو روح الوحدة، وحيثما يوجد التآلف والانسجام بين المؤمنين، ارتضى روحُ الله أن يحلَّ ويسكن فيهم: «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (أع 2: 1-4) لكن إن تفشَّى بين جماعة المؤمنين روحُ الانقسام والتحزب غاب روحُ الله عن هذه الجماعة، إذ يصيرون جسديين وليسوا روحيين: «فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَانْشِقَاقٌ أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟ لأَنَّهُ مَتَى قَالَ وَاحِدٌ: أَنَا لِبُولُسَ، وَآخَرُ: أَنَا لأَبُلُّوسَ، أَفَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ؟» (1كو 3: 3-4) وكما يحلُّ الروح القدس في الجماعة المتحدة، فإنه يعمل أيضاً على وحدتنا بعضنا ببعض، ويقودنا للحياة الأبدية: [هذا هو الروح الذي قال (القديس) لوقا عنه: إنه بعد صعود الرب، نزل على التلاميذ في يوم الخمسين، وله سلطان على جميع الأمم ليُدخلهم الحياة ويفتح لهم العهد الجديد. ولذلك صاروا يسبِّحون الله بتوافق في جميع اللغات، وكان الروح يجمع في الوحدة القبائل المتخالفة، ويقدِّم للآب باكورة من جميع الأمم] القديس إيرينيئوس وكما يعمل الروح القدس على تآلف المؤمنين معاً، فإنه أيضاً يوحِّدنا مع الله: [حينما يقول المخلِّص لأجلنا: كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا (يو 17: 21)، هو لا يقصد بذلك أننا سنكون مساويين له، ولكنها طلبة مرفوعة إلى الآب، كما كتب يوحنا، لكي يُعطى الروح بواسطته للمؤمنين، ذلك الروح الذي بسببه نُعتبر كائنين في الله، بل ومتَّحدين معاً في الله] القديس أثناسيوس لقد أراد سكان الأرض قديماً، عندما طلبوا أن يبنوا لأنفسهم بُرجاً رأسه بالسماء، أن يتكتَّلوا معاً لئلا يتبدَّدوا على الأرض، ولم يكن هدفهم الوحدة في الله، بل التَّجمع بمعزلٍ عن الله، فشتتهم الله وفرَّق ألسنتهم (تك 11: 1-9). [لكن عندما اجتمع التلاميذ في بيت واحد في يوم الخمسين، امتلأ الجميع من الروح القدس، وبدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. فبماذا كانوا يتكلمون؟ بمؤازرة الروح كانوا يتكلمون عن الانطلاق إلى فوق، وعن الصعود إلى السموات في المسيح بواسطة الإيمان، وعن اجتماع كل ما في المسكونة من ألسنة، أي من شعوب وأمم، إلى الوحدانية في الروح… إذن فقد كان تعدُّد الألسنة في حادثة البرج آية للتشتت والتفرُّق إلى جميع الأمم، وأما في المسيح فقد صار آيةً للانجماع في الوحدانية بواسطة الروح] القديس كيرلس الكبير. نيافة الحبر الجليل الانبا إبيفانيوس الأسقف الشهيد رئيس دير القديس أبو مقار
المزيد
05 يونيو 2020

وتكونون لي شهوداً

«لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (أع 1: 8) هذا هو تعريف كلمة الشاهد أو الشهيد (مارتيس أو مارتيروس) كما جاءت على فم الرب يسوع له المجد. فالشهيد هو من يشهد لحياة الرب يسوع وموته وقيامته، يشهد له بسيرته وبكلماته. حتى إن الرب يسوع أطلق على نفسه هذا اللقب: «نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ. الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤ 1: 4-5) أما أول من نال هذا اللقب في العهد الجديد فهو القديس استفانوس، على لسان القديس بولس الرسول، وذلك بسبب شهادته عن الرب يسوع أمام محفل اليهود (أعمال 7): «وَحِينَ سُفِكَ دَمُ اسْتِفَانُوسَ شَهِيدِكَ كُنْتُ أَنَا وَاقِفاً وَرَاضِياً بِقَتْلِهِ وَحَافِظاً ثِيَابَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ» (أع 22: 20)، أي عندما قُتل استفانوس الذي شهد عنك. واضح هنا أنه نال لقب شهيد المسيح بسبب شهادته وليس بسبب قتله على اسم المسيح. ثم أُطلق هذا اللقب على القديس أنتيباس في سفر الرؤيا، بنفس المفهوم الذي دُعي به القديس استفانوس: «وَأَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بِاسْمِي وَلَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي، حَتَّى فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا كَانَ أَنْتِيبَاسُ شَهِيدِي الأَمِينُ الَّذِي قُتِلَ عِنْدَكُمْ حَيْثُ الشَّيْطَانُ يَسْكُنُ» (رؤ 2: 13) أي أنه نال لقب الشهيد الأمين قبل أن يتم قتلهأنأااااا اومن هذا المفهوم دخلت هذه الكلمة إلى الكنيسة، أن كل من يشهد بسيرته وبأقواله، أي يعترف بالرب يسوع المسيح، ويُقتل بسبب هذا الاعتراف، يُدعى شهيداً: «وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الْخَامِسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَحِ نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ وَمِنْ أَجْلِ الشَّهَادَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ» (رؤ 20: 4) ودخل هذا المفهوم الجميل في أقوال شهداء الكنيسة الأولى، كما جاء في رسالة القديس إغناطيوس لأهل سميرنا قبل استشهاده عام 107م: [الذي يكون قريباً من السيف، يكون قريباً من الله؛ والذي يكون محاطاً بالوحوش، يكون محاطاً بالله، بشرط أن يكون ذلك باسم يسوع المسيح. إني أحتمل كل شيء لأصير شريكاً لآلامه، وهو نفسه يقويني من الداخل، هو الذي صار إنساناً كاملاً]. وهكذا أيضاً شهد القديس بوليكربوس ساعة استشهاده (155م) عن الرب يسوع: [أباركك لأنك أهَّلتني لهذا اليوم وهذه الساعة لأنال نصيبًا مع عداد شهدائك في شرب كأس مسيحك لقيامة الحياة الأبدية] لقد قدمت الكنيسة منذ فجر المسيحية الكثير من الشهداء، الذين شهدوا للرب يسوع ولم ينكروا الإيمان، وما تزال الكنيسة حتى اليوم تقدم شهداءها الذين يشفعون لها أمام عرش النعمة، وصدق قول العلامة ترتليانوس (225م): [إن دم الشهداء هو بذار الكنيسة]. نيافة الحبر الجليل الانبا إبيفانيوس الأسقف الشهيد رئيس دير القديس أبو مقار
المزيد
29 مايو 2020

رُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي

«فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» (تكوين 1: 1-2)هكذا كان الروح القدس عاملاً في الخليقة منذ اللحظة الأولى. لكن عندما أخطأ الإنسان الأول، وزاغ نسلُهُ سريعاً من وراء الله، قال الله: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ. لِزَيَغَانِهِ هُوَ بَشَرٌ» (تكوين 6: 3). أي لا يدوم أو لا يبقى روحي في الإنسان على الدوام. وهكذا فارق روحُ الله الإنسانَ. ولم يعد يحل الروح القدس على الناس عامة، بل كان يرسل الله روحَه على الأنبياء والقضاة في العهد القديم لتنفيذ مقاصده فحسب: «فَأَخَذَ صَمُوئِيلُ قَرْنَ الدُّهْنِ وَمَسَحَهُ فِي وَسَطِ إِخْوَتِهِ. وَحَلَّ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِداً» (1صموئيل 16: 13). ولمعرفة داود النبي أنه من الممكن أن يفارقه روحُ الربِّ، كما فارق شاول الملك (1صموئيل 16: 14)، كانت صلاة داود الدائمة: «لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي» (مزمور 51: 11) أما بعد أن حلَّ الروحُ القدس على الربِّ يسوع في المعمودية، نالت البشرية كلُّها إمكانية أن يحل عليها الروح القدس «يَقُولُ اللهُ وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ، أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً، وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً» (أعمال 2: 17) ولم يعد حلول الروح القدس حلولاً مؤقتاً، بل أصبح سُكنى وإقامة ثابتة فينا: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ» (يوحنا 14: 16)، «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ» (1يوحنا 2: 27) يقول القديس كيرلس الكبير في تفسيره لإنجيل القديس يوحنا (7: 39)[لم يقبل المسيحُ الروحَ لنفسهِ هو، بل بالحري لنا نحن فيه، لأن جميعَ الخيرات إنما بواسطته تتدفَّق فينا نحن أيضاً. فنظراً لأن آدم أبانا الأول لما تحوَّل بالغواية إلى المعصية والخطيئة، لم يحفظ نعمةَ الروح، وبذلك فقدت أيضاً الطبيعةُ كلُّها فيه عطيةَ الله الصالحة. فكان لابد أن الله الكلمة الذي لا يعرف التغيير يصير إنساناً، لكي إذ يقبل العطية بصفته إنساناً يحتفظ بها بدوام لطبيعتنا… فقد صار الابنُ الوحيد إذن إنساناً مثلنا، لكي إذ يستعيد من جديد في نفسهِ أولاً الخيرات الصالحة، ويجعل نعمة الروح متأصلةً من جديد فيه، يتمكن بذلك أن يحفظها بثبات لطبيعتنا كلِّها… فكما أنه بتحوُّل الإنسان الأول قد اجتاز فقدان الخيرات الصالحة إلى سائر طبيعتنا، هكذا أيضاً أعتقد أنه بواسطة ذاك الذي لا يعرف التغيير، سيعود الثبات في اقتناء العطايا الإلهية إلى سائر جنسنا]. نيافة الحبر الجليل الانبا إبيفانيوس الأسقف الشهيد رئيس دير القديس أبو مقار
المزيد
05 مايو 2020

اِرْفَعُوُا أَيُّهَا الْرُؤسَاءُ أَبْوَابَكُم

في تمثيلية عيد القيامة المجيدة التي تجري حالياً في كنيستنا القبطية، بعد أن يعلنَ الشماسان الواقفان خارج الهيكل قيامة الربِّ من بين الأموات، يقولا: «اِرْفَعُوُا أَيُّهَا الْرُؤسَاءُ أَبْوَابَكُم، وَارْتَفِعِي أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّةُ، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ» (مزمور 24: 7). وفي الحقيقة هذا هو مزمور عيد الصعود في كنيستنا القبطية لقد أخطأ الإنسان قديماً، وطُرد من حضرة الله، «وَأَقَامَ (اللهُ) شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ» (تكوين 3: 24). وهكذا أُغلقت أبوابُ السماء في وجه الإنسان ولكن، بعد أن قام الربُّ يسوع من بين الأموات، صعد إلى السماء حاملاً معه الطبيعة البشرية، حسب قول معلمنا بولس الرسول: «أَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس 2: 6). لذلك كان يجب أن تُفتح أبوابُ السماء ثانية في وجه الإنسان المخلوق جديداً في المسيح يسوع، ولم تكن السماءُ مغلقةً في وجه الربِّ يسوع، بل في وجهنا نحن، نحن الذين كان يحملنا في جسده يقول القديس أثناسيوس في كتاب تجسد الكلمة (25: 5-6): [لقد جاء الربُّ لكي يُحدِرَ الشيطان، ويُطهِّر الهواء، ويُهيِّئ لنا طريق الصعود إلى السموات، كما يقول الرسول: «عبر الحجاب أي جسده» (عبرانيين 10: 20) وهكذا لما رُفِعَ طهَّر الهواء كما يقول: «رأيتُ الشيطان ساقطاً كالبرق» (لوقا 10: 18). ثم افتتح طريقاً جديداً صاعداً إلى السموات قائلاً أيضاً: «ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية» (مزمور 24: 7). لأنه لم يكن الكلمة هو المحتاج إلى فتح الأبواب، إذ هو ربُّ الكلِّ، ولم يكن شيءٌ من المصنوعات مغلقاً أمام خالقه، بل نحن الذين كنا نحتاج إلى ذلك، نحن الذين كان يُصعدنا معه بجسده الخاص؛ فكما أنه قدَّم هذا الجسد للموت من أجل الجميع، هكذا أيضاً بواسطته قد أعدَّ طريق الصعود إلى السموات] ومزمور الصعود هذا معروف أيضاً في الكنائس الأرثوذكسية الأخرى، تقول خدمة مساء عيد الصعود في كنيسة أنطاكيا الأرثوذكسية[إن الربَّ قد صعد إلى السماوات لكي يرسل المعزي إلى العالم، فالسماوات هيأت عُرْسَهُ، والغمام هيأ ركوبه، الملائكة يتعجبون إذ يشاهدون إنساناً أعلى منهم، الآب يقتبل في أحضانه من هو معه أزلياً، الروح القدس يأمر جميع ملائكته: ارفعوا يا رؤساء أبوابكم، فيا جميع الأمم صفقوا بالأيدي لأن المسيح صعد إلى حيث كان أولاً… يا يسوع الحلو، أنت من الأحضان الأبوية لم تنفصل، ولو تصرفت على الأرض مثل إنسان. اليوم ارتقيت بمجد إلى جبل الزيتون، وبإشفاق منك أصعدت طبيعتنا الهابطة وأجلستها مع الآب]. نيافة الحبر الجليل الانبا إبيفانيوس الأسقف الشهيد رئيس دير القديس أبو مقار
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل