المقالات

18 فبراير 2025

اذكروا المقيّدين

«اذكروا المقيّدين كأنّكم مُقَيَّدون معهم، والمُذَلّين كأنّكم أنتم أيضًا في الجسد» (عب13: 3) وَرَدَت هذه الآية الجميلة ضمن الوصايا الختاميّة في رسالة القديس بولس الرسول إلى العبرانيين وهي في مجملها وصايا تحثّ على التمسُّك بالمحبّة العمليّة فلماذا يطلب مِنّا الرسول أن نذكر المقيّدين بمثل هذه المشاعر الأخويّة الحارّة..؟! 1- الحقيقة أنّ المحبّة الأخويّة تبدأ بالإحساس بالآخَر الإحساس بمشاعره وظروفه واحتياجاته، إذ أنّنا أعضاء في جسد واحد، وأعضاء بعضنا لبعض (1كو12) فالمحبّة تربطنا ببعض، مثل الأعصاب التي تربط كلّ أعضاء الجسد ببعضها وتوصِّل الإحساس بينها فإذا غابت المحبّة سيفقد الإنسان الإحساس بالآخَر، وبالتالي ستفقد الممارسات الروحيّة معناها، بل وتكون غير مقبولة أمام الله وينطبق علينا قول الكتاب: «أنّ لك اسمًا أنّك حيّ، وأنت ميّت» (رؤ3: 1). 2- التلامس مع المتألّمين هو تلامس مع المسيح شخصيًّا تلامس مع أعضائه المجروحة، كما حدث مع توما فاشتعل قلبه وأضاء بنور الإيمان وصرخ: «ربّي وإلهي» (يو20: 28) وهذا التلامس مع المقيّدين قد يكون في زيارة لمسجون أو افتقاد لمريض في مستشفى، أو اهتمام بأحد كِبار السنّ مِمّن أقعدتهم الشيخوخة والأمراض مع تقديم مساهمة في احتياجات كلّ هؤلاء 3- المقيّدون ليسوا هم فقط المحبوسين والمربوطين بأمراض جسديّة صعبة، ولكنّهم أيضًا المقيّدون بالخطيّة بعادات رديئة بمحبّة ضارّة بعلاقات شرّيرة هؤلاء يحتاجون أن نذكرهم في صلاتنا، ونهتمّ بخلاص نفوسهم قدر طاقتنا، ونقدِّم لهم شخص المسيح الذي يحرِّر من كلّ قيد نقدّم لهم الحُبّ والإرشاد وكلام الإنجيل المُحيي، بروح الاتضاع والحكمة. 4- كما علّمنا السيّد المسيح، وأعطانا نفسه مثالاً، هكذا ينبغي أن نسلك فكما تألّم لأجلنا وحمل أوجاعنا، هكذا نحن يلزمنا أن نذكر المقيّدين والمُذلِّين، متذكّرين الآية الجميلة التي جاءت في رسالة غلاطية: «احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح» (غل6: 2) فكما حمل المسيح أثقالنا، هكذا نحن ملتزمون بهذا المنهج، أن نحمل أثقال الآخرين متمثّلين بإلهنا ومخلّصنا. 5- عندما نذكر المقيّدين والمُذَلِّين، فنحن نخرج خارج ذواتنا، ونكسر طوق أنانيّتنا، فتتّسع دوائرنا وننفتح على الآخرين وهذا يساعد على نموّنا النفسي ويُثري شخصيّتنا وهو ما أوصانا به الإنجيل أيضًا: «لا تنظروا كلّ واحد إلى ما هو لنفسه، بل كلّ واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا» (في2: 4). 6- يلزمنا أن نضع في حساباتنا دائمًا أنّ الجسد ضعيف ما أسهل أن يَمرَض أو يتألّم أو يُجرَح أو يُكسَر لذلك إذا كُنّا بصحّة جيِّدة ولا نعاني من أمراض أو قيود صحّيّة، فهذه مرحلة لن تدوم ومادام الله قد أعطانا الآن نعمة الصحّة والقوّة، فلنترفّق بالمقيّدين والمُذَلِّين، ونمدّ لهم يد المساعدة، ونحاول أن نرفع معهم بعض أثقالهم. 7- لا يظُنّ أحدٌ أنّ التلامس مع المقيّدين والمُذلِّين يولِّد غمًّا في القلب، بل العكس هو الصحيح، فإن العطاء في هذا الاتجاه بمحبّة يولِّد في القلب فرحًا وسعادةً حقيقيّة كما قال السيّد المسيح «السعادة في العطاء أكثر من الأخذ» (أع20: 35) لأنّ العطاء يحرِّك الروح القدس داخلنا، فعندما يفرح الروح بنا، فإنّه بدَورِهِ يملأ قلوبنا بالفرح والبهجة..! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء شيكاغو
المزيد
04 فبراير 2025

تكوين قانون الإيمان

الكنيسة جسد المسيح هي كائن حيّ وُلِدَ يوم الخمسين، وينمو بعمل الروح القدس يومًا فيومًا فالسيّد المسيح لم يترك لنا كتابًا أو نصوصًا معيّنه لنحفظها، ولا سلّم للرسل قانونَ إيمانٍ مُحدَّدًا، بل فقط سلّمهم مبادئ المحبّة والقداسة والعدالة، ودعاهم للثبات فيه لكي يمتلئوا من روحه القدّوس وبتفاعُلهم مع الروح القدس تنمو الكنيسة!أودّ أن أتحدّث في هذا المقال باختصار عن جانب واحد فقط يظهر فيه عمل الروح القدس بالتفاعُل مع آباء الكنيسة، من أجل بلورة قانون الإيمان، الذي يؤمن به الآن كلّ المسيحيّين في العالم في بداية الكنيسة كانت تُستَعمَل صِيَغ إيمانيّة بسيطة يُقرّ بها الشخص جَهرًا أمام بعض الشهود قبل المعموديّة، وهذا ما أشار إليه القديس بولس الرسول في حديثه مع القدّيس تيموثاوس عندما قال له «أَمْسِكْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي إِلَيْهَا دُعِيتَ أَيْضًا، وَاعْتَرَفْتَ الاعْتِرَافَ الْحَسَنَ أَمَامَ شُهُودٍ كَثِيرِينَ» (1تي6: 12) وهو هنا يُذكّره بإقرار الإيمان الذي جاهر به قبل معموديّته، وكان ذلك يُسمّى "الاعتراف الحسن"، وهو إقرار مختصر بالإيمان بالمسيح ابن الله وعمله الخلاصي ومجيئه الثاني للدينونة وكانت كلّ كنيسة في العالم تضع هذا الإيمان البسيط في صياغة مناسبة لها بإرشاد الروح القدس، فكانت هناك صِيَغ متعدّدة في كلمات قليلة، وتحمل نفس المعانى تقريبًا وظلّ الوضع هكذا حوالي ثلاثمائة سنة..بعد ظهور هرطقة آريوس في أوائل القرن الرابع، ظهرت الحاجة لوضع قانون إيمان موحَّد أكثر تفصيلاً تلتزم به كلّ كنائس العالم وقد تمّ هذا في المجمعَيْن المسكونيّيْن في نيقية عام 325م والقسطنطينيّة عام 381م، فقانون الإيمان الحالي هو نِتَاج هذين المجمعين، لذلّك سُمِّيَ "قانون الإيمان النِيقَوِي القُسطنطيني".ما أودّ التركيز عليه أنّ هذا القانون أخذ وقتًا في بلورته بهذا الشكل وهذا يؤكِّد لنا أنّ الكنيسة كائن حيّ ينمو بقيادة الآباء المستنيرين بالروح القدس، فلا مكان للجمود والتحجُّر فيها أبدًا الذي لا يعرفه الكثيرون أنّ صيغة قانون الإيمان في مجمع نيقية كانت مختصرة جدًّا، والآباء المائة والخمسون في مجمع القسطنطينيّة أضافوا لها الكثير من العبارات التوضيحيّة بين السطور مع الجزء الختامي بكامله بمعنى أنّ نص قانون الإيمان كما نعرفه اليوم استغرق سنوات طويلة وجهدًا فكريًّا كبيرًا من مئات من الآباء الأساقفة بإرشاد الروح القدس لكي يَظهر في شكله الحالي ولأنّنا كلّنا نحفظ قانون الإيمان، فسوف تكتشفون عندما أضع أمامكم نصّ مجمع نيقية حجم الإضافات التي دخلت عليه في القسطنطينيّة ها هو النصّ النيقَوي:"نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكلّ، خالق، كلّ ما يُرى وما لا يُرى وبربٍّ واحد يسوع المسيح ابن الله، المولود من الآب، نور من نور، إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كلّ شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل وتجسّد، وتأنّس، وتألّم وقام في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات، وبالروح القدس".من هنا نفهم كيف أنّ الكنيسة كائن حيّ ينمو بالروح القدس العامل في آبائها وقدّيسيها، ولم ولن يتوقّف عن العمل بعد نياحة بعض آبائها، بل هو قادر باستمرار على قيادة أعضاء جسد الكنيسة وتنمية غصونها الجديدة من أجل المزيد من النمو في المحبّة والفكر والروح والشهادة للعالم أجمع! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء شيكاغو
المزيد
23 ديسمبر 2024

من كنوز تسابيح شهر كيهك نفس مرتفعة إلى السماء

السلّم الذي رآه يعقوب هو واحد من أهمّ وأجمل الرموز الموجودة في العهد القديم عن السيّدة العذراء فقد ظهر الله ليعقوب، وهو هارب من أخيه عيسو في الطريق إلى خاله لابان، وكان المنظر سلّمًا مرتفعًا إلى السماء والملائكة يصعدون وينزلون عليه، والرب يطلّ على يعقوب من أعلى السلّم بمجدٍ عظيم، ويتحدّث معه بكلام فيه طمأنينة وسلام وبركة (تك28) يري الكثير من آباء الكنيسة أنّ السلّم هو رمز لأمّنا العذراء التي نزل عن طريقها الرب إلى عالمنا الأرضي، حاملاً لنا السلام والبركة والخلاص فهي الإنسانة التي اتّخذ منها جسدًا، وسكن في بطنها البتولي تسعة أشهر، فصار بطنها عرشًا لله المستريح في القدّيسين، وأخيرًا قدّمت لنا الله محمولاً على ذراعيها (ثيؤطوكيّة السبت – القطعة الأولى) العذراء هي السلّم الذي ربط السماء بالأرض، أو بالحرى مكّن الأرضيين من الوصول للسماء..! القطعة الثامنة من ثيؤطوكيّة السبت تتحدّث عن سلّم يعقوب، وتبدأ بلحن رائع هو لحن "أريتنثونتي" ومعناه "شُبِّهتِ بالسلّم الذي رآه يعقوب، مرتفعًا إلى السماء، والرب المخوف عليه" ثم نجد في المديح الرومي على هذه القطعة بعض العبارات البالغة العُمق والجمال منها: حَسَنًا رآكِ يعقوب أبونا، مثل سلّم ذي نفس مرتفعة إلى السماء، والرب القدوس جالس عليها، أيّتها اليمامة. لأنّه صنع أحشاكِ عرشًا، وأيضًا بطنك المختوم، جعله أوسع من السموات. السلام لكِ من قِبَلِنا، لأنّ من كنزك المختوم، وَلَدْتِ المستريح في القديسين. أقف قليلاً أمام عبارة واحدة غاية في الروعة، وهي وصف أمّنا العذراء بأنّها مثل سلّم حيّ له نفس تسمو وتحلّق وترتفع حتّى تصل إلى السماء، والرب جالس ومستريح بمجدٍ عظيم على هذه النفس فالعذراء إنسانة ارتفعت بقلبها وكلّ حواسها إلى السماء، فاستحقّت أن تكون مكانًا يستريح فيه الرب..! ارتفاع النفس بالطبع لا يعني التعالي على الآخرين، بل السمو فوق كلّ رغبات العالم والاهتمامات الأرضيّة، لكي تصلّ النفس إلى الله وتتّحد به في الحقيقة لا يمكننا أن نتّصل بالله اتصالاً حقيقيًّا بدون هذا الارتفاع، وتجاوُز هموم العالم ومشغوليّاته.. وهذا ما تُشجِّعنا عليه الكنيسة عندما تخاطبنا في كلّ قدّاس "ارفعوا قلوبكم" أي نرتفع بقلوبنا حتّى نلتقي الله، طارحين عنّا كلّ أفكار الخواطر الشريرة، ومشتركين في التسبيح مع القوّات السمائيّة من الناحيّة العمليّة، الارتفاع ليس أمرًا سهلاً، فهو ضدّ الجاذبيّة الأرضيّة ولكن الذي وقع في دائرة جاذبيّة حُبّ يسوع المصلوب يكون الارتفاع سهلاً بالنسبة له، لأنّ جاذبيّة يسوع أقوى بكثير من جاذبيّة الأمور الأرضيّة، ولذلك هو أكّد قبل الصليب وقال "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ" (يو12: 32) وهذا يعطينا فِكرة عن كيفيّة الارتفاع فعندما ننظر للصليب ونتأمّل في الصليب ونتعلّق بالصليب، يرفعنا الصليب إلى السماء! يظنّ البعض أنّ الصليب هو حِمل ثقيل، قد يكسر الإنسان وينزل به إلى الأرض ولكن الحقيقة أنّ الصليب هو أهم وسيلة تتحرّر بها النفس من روابط الأرض وترتفع بها إلى السماء لقد رأى يعقوب السلّم وهو هارب، وفي وقت شِدّة وضيق، ولم يَرَهُ وهو متنعِّم في بيت أبيه وأيضًا أمّنا العذراء حملت الصليب في حياتها بشكرٍ وتسليم، وقبلت أن يجوز في نفسها سيف الآلام، فارتفعت نفسها إلى السماء وصارت أعلى من الشاروبيم والسيرافيم هكذا دائمًا الصليب يُعِدّ الإنسان للارتفاع إلى السماء، ومَن يتبّع المسيح حاملاً الصليب فهو في الطريق الصاعِد إلى السماء..! هناك الكثير من الأحاديث أو التصرّفات التي تنزل بنا إلى الأرض فإذا أردنا أن نكون مثل أمنا العذراء مرتفعين إلى السماء، لابد أن نتخلّى عن مثل هذه الأمور، وننشغل بما يرفعنا إلى فوق:- التأمُّل في كلام الإنجيل يرفعنا إلى فوق.. التسبيح والترنيم يرفعنا إلى فوق.. التوبة ترفعنا إلى فوق.. الاهتمام بخدمة الآخرين يرفعنا إلى فوق.. قراءة أقوال الآباء وخبراتهم ترفعنا إلى فوق.. رفع أيدينا في صلاة المخدع الهادئة يرفعنا إلى السماء.. حضور التسبحة والقدّاس يرفعنا إلى السماء.. وأخيرًا النفس المرتفعة إلى السماء هي نفس مملوءة بالسلام ينسكب عليها دائمًا السلام السمائي، فلا تُزعجها أحداث الأرض ولا اضطراباته بل هي دائمًا تستمدّ فرحها وطمأنينتها وقوّتها من وعود السماء وبركات السماء ورعاية السماء..! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
16 ديسمبر 2024

بمناسبة قدوم شهر كيهك صوفونيوس

عندما يأتي شهر كيهك كلّ عام، ونبدأ في الانشغال بتسابيحه الجميلة، يطفو على السّطح هذا السؤال: مَن هو "صوفونيوس" المذكور في بعض المدائح العربيّة التي نشدو بها في تسابيح كيهك؟ هل هو صَفَنيا النبي أم شخصٍ آخَر؟! سنحاول بنعمة المسيح في هذا المقال اكتشاف مَن هو صوفونيوس؟! في البداية مِنَ المهمّ أن نعرف أنّ المدائح العربيّة لشهر كيهك كلّها كُتِبَت حديثًا في القرن السابع عشر والثامن عشر بواسطة مجموعة من المرتّلين وبعض الآباء الكهنة وأحد البطاركة (البابا مرقس الثامن) يجيء ذِكر صوفونيوس في المدائح مصحوبًا بنبوءةٍ ملخّصها أنّ تجسُّد السيّد المسيح سيكون مثل نزول قطرات مياه من السماء على الأرض بدون وجود سحاب، إشارة إلى ولادة السيّد المسيح بدون زرع بشر.. ولنأخُذ بعض أمثلة من هذه المدائح: "صفونيوس قال قولاً موصوف، عن حَبَلِك بالملك القدوس، مثل مطر ينزل على الصوف، السلام لكِ يا أم بخريستوس" (مديح التوزيع الكيهكي للقمّص متّاؤس البهجوري). "صوفونيوس خَبّر، عن ميلاد بِخريستوس، أنّه ينزل كندى ومطر، ماريا تي بارثينوس" (مديح على ثيؤطوكيّة الإثنين للمعلّم غبريال). "صوفونيوس شرح بكلام، عن تدبير اللاهوتيّة، ينزل كالقَطْر بغير غمام، طوباكِ يا زين البشريّة" (مديح العُلَّيقة على ثيؤطوكيّة الخميس للمعلّم غبريال). فكرة نزول الندى على الأرض بدون وجود سحاب جاءت في حياة جدعون، كعلامة طلبها من الله فأعطاها له، عندما وضّع جزّة صوف في البيدر فنزل طَلٌّ على الجُزّة وحدها، بينما كان جفافٌ على الأرض كلّها.. (قضاة6: 36-40) وكان هذا إشارة أنّ الله سيأتي ويحلّ بقوّته المعجزيّة ويرافق جدعون في الحرب، ويخلِّص شعب إسرائيل على يده عندما نبحث عن هذا المعنى في سِفر صَفَنيا الذي هو أحد الأنبياء الصغار، فسوف لا نجده نهائيًّا من قريب أو بعيد.. ولكنّنا سنجد المعنى في موضع آخَر في سِفر المزامير، فقد جاء ما يلي في المزمور 72 الذي يتكلّم عن المسيح الملك الآتي لكي يخلّص البائسين ويقضي لمساكين الشعب ويسحق الظالم "ينزل مثل المطر على الجُزاز، ومِثل الغيوث الذارفة على الأرض" (مز72: 6) والعجيب أنّ هذا المزمور كتبه سليمان الحكيم، وليس داود أو أحد المرنمين الآخَرين فإذا كان معنى كلمة "الحكمة" باللغتين اليونانية والقبطيّة هو "صوفيا Sofia" فليس ببعيد أن يكون "صوفونيوس" المقصود هو "سليمان صاحب الحكمة" الذي تنبّأ عن مجيء المسيح متجسِّدًا بدون زرع بشر لكي يخلّص شعبه، وأَدْرَجَ هذا المعنى مع مجموعة أخرى من النبوءات الجميلة في مزموره البديع جدير بالذِّكر أن الكنيسة وضعت آية طويلة من هذا المزمور 72 قبل إنجيل باكر في قراءات عيد الميلاد المجيد من هنا يتّضح لنا بكلّ تأكيد أن "صوفونيوس" المذكور في مدائح شهر كيهك ليس هو صَفَنيا النبي، بل في الأغلب هو سليمان الحكيم (ذو الحكمة) وهو الذي قَصَدَتْهُ المدائح الكيهكيّة لتأكيد تحقيق نبوءته في المزمور 72 عن السيّدة العذراء التي حبلت بالسيّد المسيح المُخلِّص بدون زرع بشر، وقدّمته لنا محمولاً على ذراعيها لقد أتى السيّد المسيح إلينا متجسِّدًا كقطرات الندى، لكي يروي أرضنا القفرة بندى نعمته كلّ كيهك وحضراتكم بخير. القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
09 ديسمبر 2024

بمناسبة شهر كيهك فتاة متنفِّسة بالله

تسابيح كيهك هي تسابيح غنيّة مملوءة بالعبارات الجميلة ذات المعاني العميقة بخصوص التجسُّد الإلهي، وبخصوص أمّ النور والدة الإله التي تمّ التجسّد بواسطتها لقدّ أحبّ آباؤنا القدّيسون أمنا العذراء جدًّا، ليس فقط لأنّها أتت للعالم بالمخلّص التي وهبنا الحياة والخلود، بل أيضًا لأنّها كانت نموذجًا إنسانيًّا رائعًا للاتحاد بالله، وللعِشرة الحلوة معه فقد كانت مُنسجِمة إلى أقصى درجة مع عمل روح الله فيها، في طاعة وتسليم واستعداد كامل لتقديم كلّ الحياة والإمكانيّات لتمجيد اسمه وتنفيذ مشيئته بلا أي هَوَى جسدي أو رغبة أرضيّة..! لذلك نجد أنّ كنيستنا المقدّسة قد حفظت لنا الكثير من التطويبات والمدائح التي كتبها الآباء وتغنّوا بها، تكريمًا لوالدة الإله القديسة مريم من أجل أن نتغنّى معهم من خلال هذه المدائح بفضائل العذراء، ونتأمّل معهم في شخصيّتها الفريدة، فتكون قُدوة لنا نحن الضعفاء الخُطاة ولعلّ شهر كيهك بوجه عام هو أكثر فترات السنة التي نقضيها في تمجيد والدة الإله، والتأمُّل في حياتها المزيَّنة بالفضائل، والتشفُّع بها لكي تساعدنا في جهادنا الروحي والكنيسة في شهر كيهك تعطي اهتمامًا خاصًّا لتسبحة عشيّة يوم السبت، ولتسبحة نصف الليل ليوم الأحد، وبالذّات لثيؤطوكيّة السبت وثيؤطوكيّة الأحد فنحن نعرف أنّ هناك سبع ثيؤطوكيّات بعدد أيّام الأسبوع، وكلّ ثيؤطوكيّة تتكوّن من مجموعة من القِطَع التي تحوي شروحات عن التجسُّد الإلهي، والعديد من النبوّات والإشارات المتعلّقة به، كما تحوي تمجيدًا لوالدة الإله "الثيؤطوكوس" وتأملات كثيرة في حياتها وفضائلها.. ثيؤطوكيّة السبت تتكوّن من تسع قطع وثيؤطوكيّة الأحد تتكوّن من خمس عشرة قطعة مزدوجة، وهي أطول الثيؤطوكيّات وأغناها بالمعاني والألحان وفي شهر كيهك جمعَتْ لنا الكنيسة العديد من المدائح باللغة القبطيّة والعربيّة مع قليل من المدائح الروميّة (اليونانيّة)، على كلّ قطعة من قِطَع ثيؤطوكيّتيّ السبت والأحد من أجمل العبارات التي اخترقت قلبي، ما جاء في تسبحة عشيّة يوم السبت لشهر كيهك، وبالتحديد في التفسير الرومي على القطعة الثالثة لثيؤطوكيّة السبت التي يقول فيها المُرنِّم "أنتِ هي مَرْكَبَةُ الله يا مريم، وميلادك لا يُفَسَّر، يا جوهرة عفيفة، وفتاة متنفِّسة بالله" فهو هنا يصفّ العذراء بأنّها هي المركبة الشاروبيميّة المَهيبة الحاملة لله، التي رآها حزقيال النبي في بداية نبوّته (حز1) وأنّ ولادتها المعجزيّة للمسيح وهي عذراء هو أمرٌ غير قابل لتفسير بشري ثم يصفها بالجوهرة التي لم تتلوّث بالعالم، بل تعفّفَت عن كلّ شهواته، فاتّحدت بالله وصارت كإنسانة متنفِّسة بالله..! يا لها من كلمة..! "فتاة متنفّسة بالله"..!! عندما يتنفّس الإنسان، فهذا يعني أنّه يأخُذ كميّة من الهواء المملوء بالأُكسِجين، وهو المادّة اللازمة لحياة خلايا الجسم وإذا توقّف الإنسان عن التنفُّس، وغاب الأُكسِجين، تختنق الخلايا وتموت، وبالتالي يموت الإنسان هذا على المستوى الجسدي أمّا على المستوى الروحي، فالمسيح هو حياتنا (كو3: 4) فكما أنّ الجسد يتنفّس الأُكسِجين باستمرار لكي يحيا ولا يموت، هكذا الروح ينبغي أن تتنفّس المسيح باستمرار لكي تحيا ولا تموت لقد وُهِب لنا نحن المسيحيّين أن نتنفّس المسيح بالروح القدس عن طريق ثلاثة أعمال رئيسيّة؛ هي الصلاة وقراءة الكلمة الإلهيّة والتناول. 1- الصلاة بأشكالها المتنوِّعة فيها ننطق باسم يسوع المخلّص ويتحرّك الروح فينا فنتزوّد بالقوّة الإلهيّة.. 2- قراءة الكلمة الإلهيّة هي استنشاق لنسمات الروح، فالكتب المقدّسة بحسب وصف الكنيسة هي "أنفاس الله" كما جاء في [إبصالية الأربعاء]، أو هي كما قال السيّد له المجد "الكلام الذي أكلّمكم به هو روح وحياة" (يو6: 63) لذلك فإن التغذِّي بكلام الإنجيل يُحيي النفس، كما يقول المرتِّل "فتحت فمي واجتذبت لي روحًا، لأني لوصاياك اشتقتُ" (مز119: 131).. 3- أمّا التناول فهو أعلى درجات التنفُّس بالمسيح والحياة به، وهو الذي قال عنه الرب يسوع: "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم" (يو6: 53) الكثيرون مِنَّا يتنفّسون أخبارًا سياسية واقتصاديّة واجتماعيّة، وربّما رياضيّة وكلّ هذا الهواء يفتقر للأُكسِجين الروحي، بل كثيرًا ما يمتلئ بالغازات الخانقة السامّة.. أمّا المسيحي الحقيقي فهو يتنفّس الله في كلّ لحظة، فتنتعش حياته، وتُشرق فيه على الدوام صورة خالقه. الذي يلهج بالمزامير، هو إنسان مُتنفِّس بالله الذي يردِّد اسم يسوع باستمرار، هو إنسان متنفِّس بالله الذي يستغرق في التأمّل في كلام الإنجيل، هو إنسان متنفِّس بالله الذي يبشِّر بحبّ المسيح وخلاصه، هو إنسان متنفِّس بالله الذي يملأ فمه من تسبيح الله طوال اليوم، هو إنسان متنفِّس بالله لقد كان القدّيس البابا كيرلّس السادس إنسانًا متنفّسًا بالله، ولا يكفّ عن الصلاة والتسبيح، لدرجة أنّه عندما أجرى عمليّة استئصال الزائدة الدوديّة (في منتصف الخمسينيّات)، وأثناء الإفاقة من التخدير، صلّى القدّاس كلّه وعشرات المزامير، بينما كان في غير وعيه ونفس الوضع تمامًا تكرّر مع القدّيس القمّص بيشوي كامل، بعد العمليّة التي أجراها في لندن، قبل نياحته بحوالي سنتين..! لعلّنا مع التسابيح الغنيّة في هذا الشهر، نُدَرِّب أنفسنا كيف نكون متنفّسين بالله، كما عاش الآباء القدّيسون، وأمّنا العذراء الجميلة، الفتاة المُتنفِّسة بالله..؟! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
02 ديسمبر 2024

القدّيس يوحنّا الأسيوطي

نشأته: هو يُدعَى أيضًا يوحنا الرائي، إذ كانت له موهبة التنبُّؤ بالمستقبل. كما دُعِيَ نبيّ مصر، ويوحنا السائح. وقال عنه القديس يوحنا كاسيان: ”نـال موهبة النبوَّة مـن أجـل طاعته العظيمة، فصار مشهورًا في كلّ العالم“ رآه القديس جـيروم على أطـراف مدينـة ليكوبوليس (أسيوط)، ووضعه في قائمة كتابـه: ”مشاهير الآباء“، في الفصل الثاني. وتحدَّث عنه بشيء من التفصيل، خاصّةً حديث القديس يوحنا معه هـو ورفقاؤه يُلقَّب أيضًا بيوحنا المتوحِّد التبايسي أو الأسيوطي، لأنه وُلد بمدينة أسيوط عـام 304م كـان أبواه مسيحيَّيْن، وكانت صناعته النجارة والبناء وفي سنِّ الخامسة والعشرين من عمره، تنيَّح والداه، فسلَّم أُخته وأمواله لعمِّه، ثم ذهب هو لوادي النطرون، حيث صار راهبًا. في جبل أسيوط: بعد خمس سنوات من رهبنته، ظهر له ملاكٌ وقال له ”قُمْ امضِ إلى جبل أسيوط“ فجاء إلى الجبل الغربي على بُعد خمسة أميال من مدينة أسيوط، حيثُ توَحّد في سفح الجبل وخلال السنوات التي قضاها هناك، كان يحصُل على حاجاته من خلال طاقة، يُقدِّم له منها خادمه ما يحتاجه وكان مـن عادة القدّيس أن يلتقي بالناس يـومَي السبت والأحـد، يُعزِّيـهم ويُرشدهم، من خلال نافذة في قلايته زاره العديد من آباء الغرب، الذين جاءوا لكي يتعرّفوا على الرهبنة في مصر، مثل جيروم وباليديوس وكتبوا عنه اشتهر القديس بطاعته لمعلِّميه، وأيضاً بموهبة شفاء الأمراض، وقـد استحقَّ أن يقتني موهبة معرفـة الأمور قبل حدوثها. وقـد أنبـأ الإمبراطـور ثيئودوسيوس الكبير بانتصاره على الثائر مكسيموس قال القديس يوحنا لباليديوس ”إنني قد حبست نفسي ثمانية وأربعين عامًا في القلاية، لم أرَ فيها وجه امرأة، ولا رأيتُ نقودًا، كما أنّني لم أنظر إنسانًا وهو يأكل، ولا رآني أحدٌ آكلاً أو شارِبًا“. ذات مـرَّة أرادت خادمـة للمسـيح اسمها ”بومينيا“ Poeminia، وهي من أقارب الإمبراطور ثيئودوسيوس، أن ترى القديس يوحنا، ولكنّه رفض وأرسل لها كلمات مُعزِّية. ومِمّا قاله لها ”لا تسلكي طريـق الإسكندريـة في رجوعكِ لئلا تقعي في تجارب“. إلاَّ أنّها نَسِيَت هذه النصيحة، فتعرَّضت لحادثة من بعض الأشرار الذين سَطَوْا على المركب الذي كـانت تستقلُّه وضربـوا خادمها، وبذلك جَنَت ثمرة النسيان لنصيحة القديس يوحنا..! لقاء القديس يوحنا مع باليديوس: زاره باليديوس بعد أن سافر لمدّة 18 يومًا حتى وصل إلى قلايّـة القديس. وتنبَّأ له القديس يوحنا بأنّه سيُسَام أسقفًا على هيلينوبوليسHelenopolis وبعد 25 عامًا من هذه الزيارة، سجَّل لنا باليديوس سيرة القديس يوحنا التبايسي في كتابـه: ”التاريخ اللوزياكي“. كما زاره كاتب ”تـاريخ الرهبنــة“ Historia Monachorum Aegypto، والذي ترجمه روفينوس إلى اللاتينية روى لنا باليديوس قصّة لقائه مع القديس. فقال إنّه إذ كان في برّيّة نِتريا مع الأب أوغريس، سأله عن فضائل القديس يوحنا الأسيوطي، فقال له إنّه يشتاق أن يعرف شيئًا عنه وفي اليوم التالي، حبس باليديوس نفسه في قلايته طوال اليوم، وهو يطلب إرشادًا من الله. فشعر باشتياقٍ شديد للقاء القديس. وفي التّوِّ، سافر تارةً مَشيًا على الأقدام، وتارةً أخرى وهـو يستقل مركبًا في النهر، وكان الوقت وقت فيضان النيـل، وأمـراض الصيف منتشرة في جميع الأرجاء، فصار فريسة لها وإذ بلغ باليديوس إلى موضع القديس، وَجَدَ مسكنه مُغلقًا، فانتظر حتى يوم السبت صباحًا. ولمّا أقبَلَ على قلاية القديس، وجده جالسًا عند نافذة القلاية، يُقدِّم مشورةً لسائليه. فحيَّاه القديس يوحنا وتحدَّث معه من خلال مُترجِم. وإذ جاء إليبسيوس والي المنطقة، تحـوَّل القديس نحـوه مُتحدِّثًا معه، وظلاَّ يتحدَّثان مدّة طويلة وحينذاك شعر باليديوس بضيقٍ وإهانة، إذ تركه القديس وتحوَّل متحدِّثًا مـع الوالي. لكن سرعان ما قال القديس للمُترجِم أَنْ يُخبر باليديوس ألاَّ يقلق وعندما انصرف الوالي، دعـا القديس يوحنا باليديوس وتحدَّث معه، وجاء في حديثه ما يلي [لماذا أنت غاضبٌ مني، «لا يحتاج الأصحَّاء إلى طبيب بل المرضى» (لو5: 31). فإنّي إن كنتُ لا أُقدِّم لك مشورة، يوجد إخوة وآباء آخرون يُعطونـك مشورة. أمّا هذا الوالي، فقد سلَّم نفسه للشيطان، وقد جاء يطلب معونة. فليس من المعقول أن نتركه، لأنّـك مهتمٌّ بخلاصك] ثم أكمل القديس حديثه قائلاً [أحزان كثيرة تنتظرك والشيطان يقترح عليك الرغبة في رؤية أبيك، وأن تُعلِّم إخوتك الحياة التأمُّلية وعندي لك أخبارٌ سارة، وهي أنَّ كلاًّ منهم قد تحوَّل إلى طريق الخلاص] سأله القديس يوحنا: ”أتريد أن تكون أسقفًا“؟ أجابه باليديوس: ”أُريد فعلاً“ سأله القديس: ”أين“؟ أجابه باليديوس:[في المطبخ على الموائد والأواني. أفحصها كأسقفٍ ناظرٍ عليها، وإذا وجدتُ محتوياتها رديئة أتخلّص منها، وإذا وجدتُ الطعام محتاجًا إلى ملح أو توابـل أُضيفها. هـذه هـي إيبارشيتي، لأن شهوة بطني عيَّنتني ابنًا لها] ابتسم القديس يوحنا وقال له [كُفَّ عن التلاعُب بالألفاظ. إنّك ستُسام أسقفًا وتُقاسي من ضيقاتٍ كثيرة. إنْ أردتَ الهروب من الضيقات فلا تترك البرّيّة، لأنّه لا يوجد فيها أحدٌ له سلطان أن يسيمك أسقفًا] وبعد ثلاث سنوات، نَسِيَ باليديوس نصيحة القديس، وإذ أُصيب بمرضٍ في بطنه، أخذه الإخوة إلى الإسكندرية. فنصحه الأطباء أن يذهب إلى فلسطين، لأنّ مُناخها أنسب لصحّته. ومِـن هناك ذهب إلى بيثينيـة بجوار غلاطية، موطنه الأصلي، وهناك سِيم أسقفًا. ولكنّه عانَى من النفي والحبس في حجرةٍ مُظلمة لمدة 11 شهرًا، فتذكَّر ما قاله له القديس يوحنا. مع اللصوص: ظنَّ أربعة لصوص أنَّ لدى القديس أموالاً كثيرة بسبب تحاشُد الجماهير عليه، لينالوا بصلواته الشفاء، أو يتمتَّعوا بمشورته الروحيّة ففي نصف الليل، نقب اللصوص باب مغارته، ولكنّهم أُصيبوا بالعَمَى، وظلُّوا خارج المغارة حتى الصباح وعندما احتشدت الجموع، أرادت أن تُسلِّمهم للوالي أمـّا القديس فقـال لهم: ”اتركوهم، وإلاَّ تُفارقني موهبة الشفاء“. امرأة تلحُّ على رؤيته: كانت إحدى النساء تلحُّ على رَجُلِها أن ترى القديس يوحنّا. وقد جاء الرجل، وهو من النبلاء، يطلب من القديس أن يسمح لزوجته أن تراه، فكانت إجابة القديس: ”هذا الأمر مستحيل“. وإذ صمَّمت الزوجة على رؤية القديس قبل سَفَرها؛ قال القديس لزوجها: ”سأظهر لها في هذه الليلة، لكن لن أسمح لها أبدًا برؤية وجهي بالجسد“! وفي الليل، ظهـر القديس للمـرأة في حُـلم، وقـال لها [مـا عسى أن أفعـل لـكِ يا امرأة؟ لماذا تحرصين بشدَّة أن تري وجهي؟ هل أنا نبيٌّ أو بارٌّ؟ إني خاطئ وشهواني مِثلكِ. وها قد صلَّيتُ من أجلكِ ومن أجل زوجكِ ولموضع إقامتكِ. فإنْ آمنتِ يكون لكِ، فسافري بسلام] وعندما نهضت المرأة من نومها، روت لزوجها ما رأته وما سمعته، ووصفت له شكل الرجل الذي رأَته في الحُلم وهيئته، وقدَّمت الشُّكر لله؛ وإذ رأى القديس يوحنا رجلَها بعد ذلك، قال له قبل أن يتكلَّم: ”لقد حقَّقتُ طلب زوجتك ورجاءها..“. فانصرف الرجل في سلام. تواضُع القديس: يروي لنا القديس جيروم قائلاً [كان القديس لا يُجري معجزات الشفاء جَهرًا، بل كان يُصلِّي على الزيت ويُعطيه للمتألِّمين والمرضى، فيبرأون]. حزمه: كان القديس يوحنا يتحدَّث مع القادمين إليه ويُخبرهم بما فعلوه سِرًّا، كما كان يُشير إلى تأديب الله وما سيحلُّ عليهم من كوارث بسبب خطاياهم يقول القدّيس جيروم عن القدّيس يوحنا [لقد رأينا عجائب، فقد كُنَّا سبعة أجانب، ذهبنا إلى القدّيس، وبعد السلام، فَرِحَ بنا. فطلبتُ منه قبل كلّ شيء أن يُصلِّي لأجلنا، كعادة كلّ آباء مصر. ثم سألني إن كان بيننا كاهنٌ أو شمَّاسٌ. وإذ قلنا له إنّه لا يوجد، عرف أنّ بيننا شمَّاسًا أخفى رُتبته تواضُعًا. فأشار إليه القدّيس بيده قائلاً: ”هـذا هو الدياكون“، وأَخَذَ القديس يده من خلال النافذة وقبَّلها، وطلب مِنه ألاَّ يُنكر نعمة الله المُعطاة له، سواء كانت صغيرة أو عظيمة. وإذ كـان أحدنا يرتجف، وهـو مريض بحُمَّى شديدة، طلب من القديس أن يُصلِّي لشفائه. فقال له: ”هذا المرض لصالحك، لأنّه قد ضَعُفَ إيمانك“. ثم أعطاه زيتًا وطلب منه أن يدهن نفسه به، كما رشمه بالزيت، فتركته الحُمَّى وسار على قدميه معنا] ويكشف لنا القدّيس جيروم عن محبّة القدّيس يوحنا الأسيوطي واهتمامه بالآخرين وبشاشته، فيقول [رحَّب بنا القديس كابٍ مع أولاده الذين لم يلتقوا به منذ مُدّةٍ طويلة، وأجرى معنا حوارًا، وقال: ”مِن أين أتيتُم، يا أبنائي؟ ومِن أيِّ بلدٍ أنتم؟ لقد أتيتُم إلى إنسانٍ مسكينٍ وبائس!“ وقد ذكرنا له اسم بلدنا، وأنّنا جئنا إليه من أورشليم لمنفعة نفوسنا ثم قال (القديس) ”لا يظُنُّ المرء أنّه قد اقتنى معرفة كاملة، بل القليل منها. يليق بنا أن نقترب إلى الله بطُرُق مُعتدلة وبإيمانٍ، وأن يبتعد مُحِبُّ الله عن المادّيّات حتى يقترب إلى الربّ ويحبّه. كلُّ مَن يبحث عن الربِّ بكلّ قلبه يبتعد عن كلِّ ما هو أرضيٌّ!“ ”يليـقُ بنـا أن نهتمّ بمعرفـة الله قـدر المستطاع، لأنـّه لا يمكـن الحصـول على معرفـة كاملة عنه.. هـو فقط يكشف لنا بعض أسراره..“ ”لا تيأسوا في هذا البلد (يقصد العالم)، لأنّنا في وقتٍ مُحَدَّد سنُرسَل إلى عـالم الراحـة. ولا يتعالّى أحـدٌ بأعماله الصالحة، بل يظلّ في حالة توبة دائمة“ ”الحياة الديريّة بجوار القُرَى قد أضرَّت الكاملين. أرجو، يـا أبنائي، مـن كلّ واحدٍ منكم، قبل كلّ شيء، أن يعيش حياة التواضُع، لأنّه أساس كلّ الفضائل“] وقد روى لهم القديس أيضًا أمثلة لرهبانٍ سقطـوا وتـابوا، فبلغوا درجـاتٍ عظيمـة في الروحانية. كما حدَّثهم عـن متوحِّدين كـانوا يحرصون على خلاصهم وكمالهم في الربّ وقد أشار إلى متوحِّدٍ لم يهتمّ بالطعام، سواء كان حيوانيًّا أو نباتيًّا؛ بل كان قلبه مُتعلِّقًا بالربِّ، مترقِّبًا مغادرته للعالم. فكان الله يكشف له عن أمجاد الدهر الآتي. وكان جسده مملوءًا صِحّةً حتى شيخوخته، وكان يجد طعامًا على مائدته، وهو كثير التسبيح، حتى أنّه لا يشعر بالجوع يختم القديس جيروم حديثه بقوله إنَّ القديس يوحنا كان يتحدَّث معهم بكلماتٍ ومحادثاتٍ لمدّة ثلاثة أيام حتى الساعة التاسعة، أي الثالثة بعد الظهر. وقـد أخبرهم بوصـول رسـالة إلى الإسكندريـة تُعلِن عـن نصرة الإمبراطـور ثيئـودوسيوس وقَتْـل الطاغيـة أوجينيوس (عام 394م). وقد تحقَّق كل ما قاله. مؤلَّفاته: للقديس يوحنا التبايسي مؤلَّفات عديدة عن: الرهبنة، والآلام، والكمال، والفضائل، واللاهوت، والصلوات، وتفسير بعض آيـات العهد الجديد. كما اشتُهِرَ بـأقوالـه عـن: محبّـة الله، وعمل الرحمة، وملكوت السموات. نياحته: أخيرًا، وبعد جهادٍ كثير، تنيَّح القديس يوحنا بسلام حوالي سنة 394م، بعد أن قـارَب التسعين عـامًا، وذلك في الحادي والعشريـن مـن شهر هاتور. وتُعيِّد له الكنيسة الغربية في 27 مارس. من كلماته: 1- مَن ينشغل بالسماويَّات، يقف غير مُشتَّت في حضرة الله، دون أيّ قلق يسحبه إلى الوراء. فيقضي حياته مع الله، مُنشغلاً به، ويُسبِّحه دون انقطاع. 2- مَن تَأَهَّل لمحبّة الله، تكون محبة الناس بالنسبة له محبوبة أكثر من حياته، إذا استطاع أن يُساعدهم حتى بموته (من أجلهم). فإنّه يحبّ أن يبذل حياته عِوَضًا عن حياتهم، لكي بأحزانه (وآلامه من أجلهم) يجدون هم راحة. 3- مُحبّ الفقراء يكون كمَن له شفيع في بيت الحاكم. ومَن يفتح بابه للمعوزين، يمسك في يده مفتاح الله. 4- القربان الروحي، هو تقديم أفكار طاهرة تقترن بذِكْـر الله. والمذبح الروحي هـو العقل المرتفع عـن تذكارات العالم. والكنيسة الروحية هي الإيمان والتمتُّع بالأسرار الإلهية. 5- لا تعمل مع سيِّد الكلّ مِن أجل موهبة يُعطيها لك، لئلا يجدك مُحبًّا لعطاياه وبعيدًا عن حُبِّه شخصيًّا بركة صلوات القديس العظيم يوحنا الأسيوطي السائح تكون معنا، آمين. القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
26 نوفمبر 2024

الكاهن

الكاهن له ثلاث وظائف رئيسيّة.. أولاً: الشفاعة، ثانيًا: الأبوّة والرعاية، ثالثًا: التعليم. وفي هذه المهام الثلاث يمثّل الكاهنُ الكنيسةَ، ويتمّم دورها في العالم.. فالكنيسة أولاً هي الوسيطة والشفيعة بين الله والبشر، تنقل إليهم نعمته وبركات خلاصه، وترفع إلى السماء صلوات الناس واحتياجاتهم.. وثانيًا في الكنيسة نلمس أمومة فيّاضة بالحُب ورعاية ساهرة، ونتمتّع فيها بأحضان الآب المفتوحة.. وأخيرًا الكنيسة هي مصدر التعليم النقي المُشبِع للنفس بإرشاد الروح القدس.. 1- الكاهن شفيع: في العهد الجديد يُسمّى الكاهن "إبريسفيتيروس" وهي تعني "شفيع" من كلمة "إبريسفيّا" التي تعني شفاعة. فالكاهن شفيع في شعبه وفي كلّ العالم شفيع يقف أمام الله لكي يقدّم تضرّعات الناس، ويطلب من أجل انسكاب نعمة الله وغفرانه ومواهبه عليهم هو شفيع مرتبط بالمذبح، يستمدّ منه قوّته وسلامه، ويتغذّى منه ويغذِّي أولاده وظيفة الكاهن الأولى هي الصلاة كما قال صموئيل النبي الكاهن في إحدى المرّات: "حاشا لي أن أخطئ إلى الرب، فأكفّ عن الصلاة من أجلكم" (1صم12: 23) وعن طريق الصلاة يمتلئ الكاهن بالقوّة، ويتجدّد سلامه الداخلي، ويعطيه الله حكمة ومعونة فيصير بركة لكثيرين كما شفع موسى في شعبه مرّاتٍ عديدة، هكذا تكون مسرّة الكاهن أن يقف بين الله والناس في القدّاس الإلهي، باسطًا يديه، رافعًا توبة شعبه إلى السماء، متشفّعًا بحرارة من أجل غفران الخطايا، وانسكاب النعمة الإلهيّة على كلّ إنسان كقول القديس بولس الرسول: "إِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضًا عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ" (في2: 17) صلاة الكاهن هي أهم عنصر في خدمته، كما كان معلّمنا بولس الرسول يفعل دائمًا: "لَمْ نَزَلْ مُصَلِّينَ وَطَالِبِينَ لأَجْلِكُمْ أَنْ تَمْتَلِئُوا مِنْ مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ، فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْمٍ رُوحِيٍّ، لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضىً، مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ، وَنَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ" (كو1: 9-10)، "نَشْكُرُ اللهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، ذَاكِرِينَ إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِنَا" (1تس1: 2) وعن طريق الصلاة ينسكب على قلب الكاهن روح الأبوّة، ويمتلئ حكمةً في الرعاية، وتنفتح عيناه على أسرار الكلمة الإلهيّة، فتجري كلمة الله بفيض على فمه. 2- الكاهن أب وراعي: هو أب يلد نفوسًا للمسيح، ويرعاها بإخلاص وحبّ وعمليّة ولادة النفوس للمسيح ليست سهلّةً، بل هي تُشبه مخاض الحُبلى وهي تلد وهذا ما عبّر عنه معلّمنا بولس الرسول عندما كان يخاطب أهل غلاطية: "يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ" (غل4: 19) فالكاهن عليه أن يبذل جهدًا هائلاً بالصلاة والحُب والتعليم، حتّى تظهر صورة المسيح في الذين يخدمهم أمّا شكل الرعاية المطلوبة منه، فهي تتلخّص في ما قاله الله في سِفر حزقيال: "أَسْأَلُ عَنْ غَنَمِي وَأَفْتَقِدُهَا أُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا أَرْعَاهَا فِي مَرْعًى جَيِّدٍ وَأَطْلُبُ الضَّالَّ، وَأَسْتَرِدُّ الْمَطْرُودَ، وَأَجْبِرُ الْكَسِيرَ، وَأَعْصِبُ الْجَرِيحَ، وَأُبِيدُ السَّمِينَ وَالْقَوِيَّ، وَأَرْعَاهَا بِعَدْلٍ" (حز34). 3- الكاهن معلِّم: "شَفَتَيِ الْكَاهِنِ تَحْفَظَانِ مَعْرِفَةً، وَمِنْ فَمِهِ يَطْلُبُونَ الشَّرِيعَةَ، لأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْجُنُودِ" (ملا2: 7) هذا هو فكر الله من ناحية الكاهن لذلك عليه أن يفهم الإنجيل، ويعيش الإنجيل، ويُعَلّم الإنجيل الكاهن ليس فقط هو خادم الأسرار، بل هو أيضًا معلّم الإنجيل يُخرِج من كنوزه جُدُدًا وعتقاء، ويحاول باستمرار أن يوصِّل رسالة الخلاص بطريقة مناسبة لكلّ إنسان، لكي يخلّص على حالٍ قومًا (1كو9: 22) الكاهن هو وكيل الله الذي يجتهد أن يتمّم قول السيّد المسيح عن الوكيل الأمين الحكيم (لو12: 42-44) الذي يقيمه السيّد على عبيده ليعطيهم طعامهم في حينه، طوبي لذلك الوكيل الذي إذا جاء سيّده يجده يفعل هكذا، فسوف يكافئه بأن يُقيمه على جميع أمواله ما أجمل العبارة التي قالها أحد الآباء:"أنهار المياه الحيّة تنحدر من أحضان الثالوث القدوس لكي تروي العالم عبر الكاهن". القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
16 نوفمبر 2024

بمناسبة عيد الشهيد العظيم مارجرجس

مَن هو البَطَل في المسيحيّة؟ في نظَر أهل العالم، البطل هو الفارس الذي يركب على حصان، أو هو صاحب العضلات المفتولة، أو هو الشخص المشهور صاحب الإنجازات العظيمة، أو هو القائد صاحب السلطان والصوت العالي، أو هو مُحَطِّم الأرقام القياسيّة أمّا في المسيحيّة فالبطل هو القدّيس، وهو الإنسان المُحِبّ، وهو الشاهد بكلمة الحقّ. أوّلاً البطَل هو القدّيس:- القداسة مصدرها هو عمل الروح القدُس فينا فهي تأتي من عمق شركتنا مع الله القداسة تجعل الإنسان قويًّا متماسِكًا بعكس النجاسات والعبوديّة للشهوات، التي تجعل النفس مُمَزّقة من الداخل ومهزومة القدّيس هو إنسان يعيش الإنجيل وقد غلب الخطية، وكرّس حياته بصدق لله هو يسلُك بطهارة وتعفُّف، ويتوب كلّ يوم ويضع وصيّة المسيح أمام عينيه باستمرار لو لم يكُن مارجرجس قدّيسًا، ما كان ليحتمل كلّ تلك العذابات ولا كان يصمد أمام إغراء الفتاة التي جاءت لكي تصنع معه الشرّ؛ فرفضُهُ للخطيّة من داخل قلبه جعلَهُ في لحظة دخولها يعطيها ظهره، ويَقِف مُصلِيًا بقوّة لساعاتٍ طويلة، حتّى ذابت الفتاة من الحضور الإلهي، وقادها روح الله للتوبة، فأتت تحت قدميّ مارجرجس لتكون تلميذة للمسيح، وأسيرة لمحبّته، بعد أن تابت وتحرّرت من رباطات الخطيّة وفي اليوم التالي، قدّمَت حياتها للاستشهاد، كذبيحة حُبّ للذي أحبّها واشتراها بدمه! هكذا كان البطل مارجرجس يَقتنِص النفوس للمسيح بحياته المقدّسة. ثانيًاالبطل هو الإنسان المُحِبّ:- المحبّة هي الطاقة الإلهيّة التي تملأ قلوب أولاد الله، فيخدمون ويسامحون ويبذلون إلى مستويات بطوليّة، إذ أنّهم يرتوون من محبّة الله بلا حدود "نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أوّلاً" (1يو4: 19)، و"محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا" (رو5:5) البطل الحقيقي هو الذي أدرك محبّة المسيح له، وكيف أنّه أخلى ذاته وتجسّم بلحمنا، لكي يُحيينا ويهبنا نِعمة التَبَنّي، فنصير وارثين لملكوته (رو8، غل4) وقد شرّفنا بعضويّة جسده (1كو12)، وجعلنا أهل بيته (أف2) عندما يُشبِع الحُبّ الإلهي القلب، يستطيع أن يترُك أباطيل العالم بسهولة، ويُضحّي بكلّ شيء في سبيل الملكوت البَطَل هو الذي يقبل احتمال الآلام لأجل خاطر محبّة المسيح مُدرِكًا أنّنا إذا قبلنا أن نتألّم معه ومن أجله، فبالتأكيد سوف نتمجّد معه (رو8) إذ أنّ خفّة ضيقتنا الوقتيّة تُنشئ لنا ثُقلَ مجدٍ أبديًّا (2كو4)لقد أدرك الشهداء أنّ الألم هِبة ونعمة (في1) يمكن أن نَدخُل بها لشركة آلام المسيح، ونُعَبِّر باحتمالنا للآلام وبتسامُحنا وبخدمتنا للآخَرين عن حبّنا له هكذا كان الشهداء أبطالاً في التسامُح والغُفران للذين كانوا يُهينونهم بقسوة، ويعذّبونهم بأشدّ أنواع التعذيب مثلما خرج التلاميذ فرحين بعد جلدهم بالسياط، إذ حُسِبوا مستأهَلين أن يُهانوا من أجل اسم يسوع (أع5: 41) لكي نكون أبطالاً حقيقيّين، نحتاج أن ننمو في محبّة المسيح كلّ يوم والحُبّ ينمو بالتواصُل معه، وبالذات في صلاة المزامير، وبسماع صوته الحلو عندما نتغذّي بكلام الإنجيل، وبالتسبيح، وبالتناول من جسده ودمه المبذولَين حُبًّا فينا! ثالثًاالبطل هو الشاهد بكلمة الحقّ:- الواقع أنّ الشهادة للحقّ لا يستطيعها إلاّ الأحرار، الذين حرّرهم المسيح من رباطات الخطيّة، فيشهدون لإيمانهم بكلّ قوّة فالمحبّة للحقّ تُحَرّر من الخوف والقلق والمجاملات الكاذبة الشهداء كانوا أبطالاً في الشهادة للحقّ، ولم يَقبَلوا النجاة من أجل الثبات في الحقّ ولكي ينالوا قيامة أفضل (عب11: 35) فاعترفوا بإيمانهم رغم كلّ الظروف المُعاكِسة هناك مصطلَح إنجيلي جميل عن الشهادة للحقّ، هو عبارة "الاعتراف الحسَن" (1تي6: 12-13) وتَستخدِمه الكنيسة أيضًا في صلواتها ففي طقس المعموديّة مثلاً؛ نحن نجحد الشيطان ونعترِف "الاعتراف الحسَن"، أي نُقِرّ بإيماننا قَبل الدخول لجُرن المعموديّة كما اعترف الربّ يسوع أمام بيلاطس بهذا "الاعتراف الحسن"، مُعلِنًا له أنّ مملكته ليست من هذا العالم، وأنّ بيلاطُس ليس له سُلطان إن لم يكُن قد أُعطِيَ من فوق (يو18: 33-37، يو19: 8-11)، فهذه هي الشّهادة للحق؛ أنّ مملكتنا ليست من هذا العالم، وأنّ الله إلهنا هو ضابط الكلّ وصاحب السلطان. أخيرًا الشهادة للحقّ ليس معناها التطاوُل على الناس، ولا تُعنِي التجريح أو التشهير أو التحريض أو الإدانة فالذين يفعلون هكذا بداعي حماية الإيمان أو الغيرة على الكنيسة أو تحت أيّ سِتار، هم يَسعون إلى اكتساب بطولات مزيّفة، محاولين اجتذاب أتباعٍ لهم، غير مُشفِقين على الرعيّة(أع20: 29-30) أمّا الإنجيل فيعلّمنا أن نقول كلمة الحقّ في وداعة ومحبّة حقيقيّة speaking the truth in love (أف4: 15) البطل الحقيقي هو الذي يقول كلمة الحقّ مُعتَرِفًا بإيمانه مهما كان الثّمَن، أمّا الجُبَناء وغير المؤمنين فليس لهم نصيب في الحياة الأبديّة (رؤ21: 8)،وسينكرهم المسيح أمام أبيه السماوي وملائكته القدّيسين (مت10: 33). ربّي يسوع: "لا تنزع من فمي قول الحقّ، لأنّي توكّلتُ على أحكامك" (مز119: 43 - القطعة السادسة من صلاة نصف الليل بالأجبية). القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
12 نوفمبر 2024

نبت حالاً..!

في مَثَل الزارع، وأثناء حديث السيّد المسيح عن سقوط البذار على الأرض المُحجِرة، نلاحظ في هذا النوع من الأراضي أنّه يكون سريع التفاعُل مع البذرة، كما يقول السيِّد المسيح في المثل أنّه نبت حالاً، ولكن بعد فترة قصيرة عندما أشرقَت الشمس جفّ واحترق..! لماذا نبت بسرعة؟ في الحقيقة أنّ هذه ليست علامة صِحِّيَّة بل علامة مَرَضِيَّة.. كيف؟ لنشرح هذا ببساطة: 1- البذرة الصغيرة يكون مُختَزَنًا بها طاقة قليلة.. وعندما تُزرَع البذرة وتبدأ في الإنبات، تنمو الجذور أوّلاً إلى أسفل، ويَستخدِم الجذر الطاقة البسيطة المُختَزَنة في البذرة لكي ينمو بها إلى أسفل؛ حيث يبدأ في امتصاص الطاقة من التُربة العميقة الرطِبة ويقوم بتغذية النبات بها، فيبدأ النبات في تكوين الساق والصعود به إلى أعلى.. معنى هذا أنّ الطاقة المُختزَنة في البذرة بالكاد تكفي لتكوين الجذر، ثمّ بعد ذلك يكون الجذر هو وسيلة إمداد النبات بالطاقة من أجل حياته ونموِّه..! 2- إذا كانت الأرض مُحجِرة أو صخريّة، فسيكون الطريق مسدودًا أمام الجذور، وبالتالي فالطاقة المُختَزَنة في البذرة ستذهب لتكوين الساق بسرعة، ليصبح لدينا حالاً نباتًا جميلاً بدون جِذر، أي بدون مصدر لإمداده بالطاقة.. وهنا الخطورة لأنّه سيجفّ بسرعة ويموت لانقطاع طاقة الحياة عنه..! 3- لذلك فإنّ الإنبات السريع ليس علامة نشاط أو حيويّة، بل هو حالة مَرَضيَّة تكشف عن أن الجذور ضامرة وطريقها مسدود.. فاتّجه النبات إلى أعلى وظهر على وجه الأرض بشكل جميل، حتّى استهلك كلّ الطاقة التي كانت مُختَزَنة في البذرة.. ثمّ جفّ ومات..!! 4- هكذا يكون هذا النوع من الناس الذين تسكن الصخورُ قلوبَهم عندما يسمعون الكلمة يقبلونها حالاً بفرح.. مثل إنسان ينفعل بعظة سمعها أو بمقالٍ قَرَأَهُ، ولكن الطاقة التي أخذها من الكلمة التي سمعها أو قرأها، لم يستثمرها في صناعة جذر عميق لحياته، من خلال إعادة الاهتمام بالمخدع في جلسة هادئة لمحاسبة النفس، واكتشاف الصخور والأحجار التي في القلب، وصلوات صادقة بتوبة وانسحاق، ثُمّ لقاء مع أب الاعتراف.. بل يتّجه بالطاقة الروحيّة التي أخذها للخارج؛ في كلام مع الناس أو نشاط اجتماعي أو خدمة تحت الأضواء.. ويستمرّ في هذا قليلاً حتّى تنفذ الطاقة التي كان قد أخذها، وبعدها، ولأتْفَه مشكلة أو ضيقة ينتكس ويرتدّ ويذبل مرّة أخرى..! لذلك في هذا النوع من الأرض بالذّات تظهر أهميّة تقوية الجذور والحياة الداخليّة، إن كُنّا نريد نموًّا روحيًّا حقيقيًّا ومُفرِحًا في حياتنا..! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل