الخادم والتكريس

Large image

{ وكان إنسان مريضاً وهو لعازر من بيت عنيا من قرية مريم ومرثا أختها .. وكانت مريم التي كان لعازر أخوها مريضاً هي التي دهنت الرب بطيب ومسحت رجليه بشعرها .. فأرسلت الأختان إليه قائلتين يا سيد هوذا الذي تحبه مريض } ( يو 11 : 1 – 3 ) .
موضوعنا اليوم بنعمة الله عن التكريس .. وسنتكلم فيه عن ثلاث نقاط وهي :

1/ معنى التكريس :
======================
كلمة التكريس تعني التخصيص أو التقديس لله .. وهو سكب الحياة عند قدمي يسوع ليكون هو المالِك عليها .. أي نعيش في ملكية الله على حياتنا .. كما نقول في الصلاة الربانية { ليأتِ ملكوتك } ( لو 11 : 2 ) .. فلا نكون مِلك لأنفسنا بل لله فيظهر ملكوت الله على العالم من خلال الأشخاص المُكرسين .. فالتكريس هو أن يملُك الله على فكرك وحواسك وقلبك ومشاعرك .
مَنْ هو الشخص المُكرس ؟ وهل يعني التكريس عدم الزواج أو عدم العيش في الحياة الإجتماعية أو العملية ؟ الشخص المُكرس لله هو الذي يشعر أنه لله حتى إن كان متزوج أو غير متزوج .. يعمل أو متفرغ للخدمة .. فالتكريس هو حالة النفس وليس المقصود به حالة أو شكل الجسد فقط .. فهو حالة قلب وفكر أكثر منه حالة شكل اجتماعي أو لِبْس مُعين أو أي شكل خارجي .. ونحن جميعاً مُكرسون لله وقد تكرسنا له في المعمودية .. وقد دُشنَّا له بالميرون وصار لنا مسحة من القدوس ورُشِمنا " 36 " رشمة لإعلان ملكِية الله على جميع أعضائنا .. لذلك يقول الكاهن في طقس المعمودية { إجعلهم آنية طاهرة } .. فلا يكون للشيطان أي شئ في الإنسان الذي جحده في المعمودية .
هل التكريس له علاقة بالبتولية ؟ أحد القديسين يقول أن التكريس أحد ألوان البتولية والبتولية تعني الشخص غير المتزوج ولكنه أعطى معنى جديد للبتولية حيث قال أن البتولية الحقيقية هي حالة النفس التي لم تتزوج بمحبة العالم .
النفس العذراء ( عذراوية النفس ) .. النفس العذراء هي التي لم تعرف آخر سوى الله .. ونحن عذارى يسوع – العذارى الحكيمات – كما قال معلمنا بولس الرسول { خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح } ( 2كو 11 : 2 ) .. فحياة التكريس هي حياة ملائكية .. هي عمل فوق طبع البشر .. هي حياة بلا هم .. هي حياة تغلب كل ضيق وكل حزن العالم .
وقد اختار الله أُناس ليكونوا مُكرسين ومُخصصين له منذ العهد القديم .. فقد كان الله يدعو إنسان مُعين يكون له وسط العالم مثل إبراهيم .. ثم بدأ يُخصص له كل بكر فاتح رحم .. ثم خصص لنفسه سبط من ضمن ألـ 12 سبط .. وفي العهد الجديد مَنْ هو المُكرس لله ؟ كلنا صرنا مُكرسين له .. كلنا مدعوين لحياة القداسة والتخصيص لله .. مثل مريم أخت لعازر التي أحبت يسوع وسكبت طيبها عند رجليه ومسحتهما بشعر رأسها فأعطاها الله كرامة حتى أن القرية أصبحت تُسمَّى بإسمها " من قرية مريم " .. هل مريم اشترت القرية ؟ لا .. ولكن دائماً هناك كرامة للشخص المُكرس لله .
فالنفوس المُكرسة هي التي استحسنت أن تعيش مع الله وتترك مباهج العالم .. { معك لا أريد شيئاً في الأرض } ( مز 73 : 25 ) .. نحن جميعاً مُكرسون لله والكنيسة ترفض تقسيم الشعب إلى علمانيين وغير علمانيين فليس بيننا مَنْ هو منسوب للعالم بل للمسيح .
2/ الحياة المُكرسة :
======================
حياة المُكرسون لها سمات أو صفات .. فلا يليق بنا أن نعيش محبة العالم أو محبة القنية أو حياة الجسد .. ولكن من السمات الأساسية لحياة المُكرس لله :0
أ/ العفة .
ب/ الفقر والزهد .
ج/ الطاعة والإتضاع .
أ/ العفة :
==========
والمقصود بها عفة الفكر والأفعال والتصرفات .. فالعفة هي الإنضباط في الإرادة والحواس والجسد والغريزة ومحبة العالم والذات .. { فحسن للرجل أن لا يمس امرأة } ( 1كو 7 : 1 ) .. الإنسان العفيف هو إنسان ضابط لنفسه .. والحقيقة أن كرامة البتوليين كبيرة لأنهم غلبوا طبعهم الشهواني فصاروا كالملائكة بل وأكثر كرامة من الملائكة لأن الملائكة طبيعتها طاهرة وليس لديها جسد ولا غريزة .
وهناك معادلة ذو قاعدة تقول :
خلق الله الحيوان له شهوة دون عقل .
وخلق الله الملائكة لها عقل دون شهوة .
وخلق الله الإنسان له عقل وشهوة .
فإذا تبع الإنسان شهواته صار حيواناً بل وأردأ من حيوان لأن لديه عقل .. وإذا تبع عقله صار أعظم من الملائكة لأنه غلب شهوته وانتصر على شئ في طبعه .
ب/ الفقر الإختياري :
=======================
والفقر يعني الزهد والإكتفاء والشكر .. فمعلمنا بولس الرسول يقول { تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه .. أعرف أن أتضع وأعرف أيضاً أن أستفضل .... تدربت أن أشبع وأن أجوع .... } ( في 4 : 11 – 12) .. والقديس أغسطينوس قال { من يقتفي آثارك لن يضل قط .. ومَنْ امتلكك شبعت كل رغباته } .. وقال أيضاً { جلست على قمة العالم حينما صرت لا أشتهي شئ ولا أمتلك شئ في العالم } .. الفقر الإختياري هذا ما فعله الأنبا أنطونيوس عندما باع كل ما لهُ ووزعه على الفقراء .. فقر من أجل الله وإن كان هذا يحتاج إلى قامة روحية عالية فعلى الأقل لا تكن محباً للمال ولا طماع .. { الطمع الذي هو عبادة الأوثان } ( كو 3 : 5 ) .. نعم لأن الطماع يعبد الأشياء والمال هو سيِّده .
القديس أبو مقار كان رئيس الدير وفي يوم جاء إليه رجل يُقدم تبرع هدية للدير وكانت الهدية كيس به نقود كثيرة فرفضها أبو مقار وقال " لا يا ابني الفلوس هتربِكنا " ورفض أن يأخذها منه .. فقال له الرجل " إن لم تكن أنت تريدها فاعطِها للرهبان " .. فقال له أبو مقار سأجمع لك الرهبان ومن أراد أن يأخذها يأخذها .. وبالفعل أدخل كل راهب بالدور على حده حتى لا يخجل أحد من صاحبه وعرض عليه أن يأخذ كيس المال فلم يأخذ ولا راهب الكيس .. " 300 " راهب لم يأخذ واحد منهم النقود .. فتعجب الرجل وتساءل عن سر غناهم .. فالعالم يتصارع على المال وعلى الإمتلاك وهؤلاء لا يريدون أي شئ من العالم .. وترهبن هذا الرجل وقد بُنيت كنيسة دير البرموس بهذه النقود .
حقاً { النفس الشبعانة تدوس العسل } ( أم 27 : 7 ) .. النفس الشبعانة تجعل المال في جيبها وليس في قلبها .. { كفقراء ونحن نُغني كثيرين .. كأن لا شيء لنا ونحن نملُك كل شيءٍ } ( 2كو 6 : 10) .. يوجد مَثَل فرنسي يقول { المال عبد جيد وسيد ردئ } .. ومثال آخر للفقر الإختياري الأنبا أبرآم الذي كان فقيراً جداً مع نفسه وسخي جداً مع الناس .. فكانت ملابسه في منتهى البساطة والفقر .
ج/ الطاعة :
=============
مِن سمات النفس المُكرسة الطاعة .. الطاعة هي خضوع .. هي انكسار .. هي بساطة .. هي الإنجيل .. إبراهيم لما دُعِيَ أطاع وهو لا يعلم إلى أين يذهب .. النفس التي استنارت بالنعمة يكون من سماتها الطاعة .. لذلك نجد أن من أهم اختبارات الرهبنة ليس الصلاة ولا القامة الروحية بل الطاعة لأن الطاعة فيها كسر للذات والمشيئة وفيها إعلان محبة الله .. فيها التواضع .. فيها احترام الآخر بل وتقديس الآخر .. دائماً يُوضع الراهب في اختبار الطاعة .. مثل القديس يحنس القصير الذي سقى الخشبة لمدة ثلاث سنين حتى أثمرت بسبب الطاعة وصارت شجرة الطاعة .
ودائماً يُوضع الراهب الجديد ليعمل في الدير في مجال لا يُناسب شخصيته وميوله ليروه هل سيشتكي أو يطلب إرادته أم سيخضع .. فمثلاً إن كان واحد يحب الهدوء والتفكير يعطوه عمل يحتاج إلى مجهود عضلي .. وإن كان نشيط يحب الحركة يضعوه في المكتبة ليختبروا طاعته وخضوعه لعكس إرادته .. هذه الإختبارات لكسر الهوى وكسر الذات .. مثل راهب دكتور جعلوه يعمل في المضيفة يخدم الناس وكل واحد يطلب حاجة .. واحد عاوز يأكل وواحد عاوز يشرب شاي .. وواحد عاوز خبز .. حتى صرخ الراهب بعد فترة " أنا دكتور .. أنا دكتور " .. ذاته لم تحتمل .. الطاعة هي كسر الذات .
كان فيه شخص لديهِ شهادة ماﭼيستير في الزراعة وذهب ليترهبن وطلب منهم أن يعمل في زراعة أرض الدير .. فوافق رئيس الدير وقال له إننا نزرع كرنب ولكن عليك أن تزرعه بالمقلوب .. فذهب الراهب ليزرع الكرنب بالمقلوب ولكنه قال هذا خطأ .. كيف أزرع بالمقلوب ؟ أبونا مش عارف الزراعة إزاي .. زرع هو بالطريقة الصحيحة وقال إنه بدراسته سيستطيع أن يحسِّن المحصول عن كل عام .. ولما طِلِع المحصول ذهب الراهب لرئيس الدير ليُخبره أن المحصول طلع فقال إنت زرعته إزاي ؟ قاله زرعته صح .. قاله بس أنا قلت لك إزرعه بالمقلوب .. يا ابني إحنا مش عاوزين كرنب إحنا عاوزين طاعة .
قد يبدو الأمر بسيطاً ولكن في جوهره هو أمر فائق .. هذه هي صفات الإنسان المسيحي المُكرس لله .
3/ التكريس والملكوت :
===========================
الله يُكرم النفس المُكرسة له على الأرض وفي السماء .. فكرَّم مريم أخت لعازر على الأرض حتى دُعيت إسم القرية بإسمها كرامة لها لأنها أحبته وكرَّست نفسها وحُبها له .. الله يُكرم النفس المُكرسة سواء المتزوجين أو المُتبتلين .. فحينما تجلى يسوع تجلى مع موسى كمثال للمتزوجين ومع إيليا مثال المُتبتلين .. وإكرام الله لهذه النفوس تكون – كما قلنا – على الأرض وكذلك في السماء .. { هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب } ( رؤ 14 : 4 ) .. { وهم يترنمون كترنيمة جديدة أمام العرش وأمام الأربعة الحيوانات والشيوخ ولم يستطع أحد أن يتعلم الترنيمة إلا المئة والأربعة والأربعون ألفاً الذين اشتُروا من الأرض } ( رؤ 14 : 3 ) .
فإذا كانت النفس أعطت كيانها لله أيُعقل ألا يُكرمها الله ؟! فالعارف بخفايا القلوب ألا يُضئ بنوره على هذه النفوس التي تكرست له !! هذه النفوس التي تعلن ملكوته على الأرض .. هذه النفوس التي هي سور حماية للعالم .. فقد خلق الله الإنسان ليتمجد فيه ويُعلن ملكوته فيه وهذه النفوس هي شفيعة عن العالم .
الملك قسطنطين رأى رؤية عن كرامة الناس الأبرار والأتقياء .. وكان هو في الواقع قد أنقذ الكنيسة من الإضطهاد والإستشهاد وأخرج المحبوسين في السجون المنتظرين حكم الموت وأمر ببناء الكنائس المنهدمة وأعلن الديانة المسيحية الديانة الرسمية في العالم وساعد الملكة هيلانة على اكتشاف الصليب المقدس فكان متوقع أن يجد لنفسه كرامة كبيرة في السماء نتيجة لكل ما فعله من أجل الله .. ولكنه رأى في الرؤية أنه يوجد نفوس كثيرة لها كرامة أكثر منه فتساءل مَنْ هؤلاء الذين لهم هذه الكرامة الكبيرة في السماء ؟ فعلم أنه الأنبا أنطونيوس والأنبا بيشوي والأنبا بولا .... أي طغمة الرهبان .. فحزن الملك قسطنطين لكونهِ مَلِكاً وليس راهباً .
الله سيُعطينا كرامة في السماء على حسب حالة نفوسنا واشتياقاتنا واهتماماتنا .. والنفوس المُكرسة تبدو أنها محرومة وأنها ضحَّت وباعت وتركت .. ويِمْكِن أن يتهمهم الناس بالجهل أو الإنطواء أو عدم مُسايرة العالم .. ولكن هؤلاء هم الذين لهم المكافأة السماوية فلا يمكن أن يتعب أحد من أجل الرب ولا يُكافأ .. فإذا كان كأس ماء بارد لا يضيع أجره فكم يكون أجر حياة بكاملها ؟!! كم يكون مقدار كيان الإنسان ؟ كم يكون مقدار إنسان قدم نفسه ذبيحة حية مقبولة عند الله .
التكريس هو ذبيحة .. لأننا نقدم نفوسنا ذبيحة على مذبح محبة الله وتُحرق نفوسنا كي نقدم لله حياة بالكامل .. ففي القداس الإلهي نقول { نُقرب لك قرابينك من الذي لك } .. فيارب ها هي نفسي وحياتي مِلكك وأعطيها لك بإرادتي فأصبحت لا أحيا لنفسي بل لك .. { فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ } ( غل 2 : 20 ) .. لم أعُد لذاتي بل أتكلم بأقواله وأفعل أفعاله .. أفكَّر بفِكره .. أحب أولاده .. أحب التضحية من أجله .. أحب أن أخصص له عمري وحياتي .
كم نخجل عندما نقرأ عن قصص شبان وشابات معاصرين من دول أجنبية يُبشرون بالإنجيل في دول مثل الصين وروسيا وهم يعلمون أن التبشير ممنوع في هذه الدول ومن يُبشِر يُعرَّض للضرب والسجن والتعذيب وممكن الموت .. ومع ذلك فهم حسبوا أنفسهم مثل غنم للذبح وقالوا مع بولس الرسول { مِنْ أجلك نُمات كل النهار } ( رو 8 : 36 ) .. وها نحن في بلدنا يوجد الكثير من المسيحيين بالإسم الذين لا يعرفون شيئاً عن المسيح موجودين في القرى فهل ستذهب وتُخبرهم عن المسيح ؟ هل المسيح ملأ حياتك لدرجة أنك تعطي له عمرك وشبابك وأنفاسك التي هي أصلاً منه ؟ .. { هو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام } ( 2كو 5 : 15) .. المسيح مات بدلاً عني فأنا مديون له بعمري .. عمري هو حقه فإن أعطيته إياه فلا يكون هذا فضل مني بل هو حقه .. فإني أقدم لك عمري يارب لعلك تقبله وتقبل حياتي التي فديتها بدمك .. { لأن منه وبهِ وله كل الأشياء } ( رو 11 : 36 ) الله يكمل نقائصنا ويقبل حياتنا ويقدس تكريس نفوسنا وحياتنا له له المجد في كنيسته من الآن وإلى الأبد آمين

عدد الزيارات 2334

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل