المقالات
04 نوفمبر 2021
شخصيات الكتاب المقدس حنة أم صموئيل
حنة
وأما حنة فلم يكن لها أولاد
مقدمة
لعبت قصة حنة بخيال الكثيرين من الأدباء والشعراء والكتاب والرسامين ورجال الدين، وأثرت فيهم أبلغ تأثير وأقواه، فهي القصة التي لم يكن لوثر يمل قراءتها أبدا، بل كان شديد الحنين إليها، عندما تهم به المتاعب والأحزان والمضايقات، كان يرى فيها قوة رائعة مغرية بالانتصار على جميع تجاربه، وهي القصة التي فاض سحرها على جون فيسك الكاتب الأمريكي، ولما يزل يافعاً بعد، فوجهت ميوله كلها لمحبة التاريخ وكتابته، وهي القصة التي أوحت إلى المصور الإنجليزي البارع يشوع راينولدز بصورة صموئيل الصغير الحلوة وهو يصلي.. في قصة حنة الكثير من نواحي الجمال الفذ والتعاليم الصالحة، لكنها قبل كل شيء، هي قصة نادرة في تصوير طباع الناس وغرائزهم، أنها معرض بديع لإدراك الأخلاق الخفية المستورة، أتريد حقًا أن تعرف الإنسان على حقيقته؟ أتريد أن تكشف خباياه وسريرته التي أضمرها في أغوار قلبه؟ أتريد أن تتعرف عما هو عليه من قسوة أو احتمال أو مصانعة أو رياء أو نبل أو حنان أو جود أو إشفاق؟ إذن قف منه في لحظة الألم أو الحزن، ترى معدنه الحقيقي، ومدى ما في هذا المعدن من سمو أو صلابة أو انحطاط أو ضعة... حول حنة المحزونة البائسة التف ثلاثة أشخاص - فننة وألقانة وعالي - ورفع الوجه البائس نظرته في ثلاثتهم، وتساقطت أنواره الشاحبة الحزينة عليهم، فعرفناهم جميعاً - بما فيهم حنة - وأدركنا أيا فيهم صاحب المعدن الخسيس أو الصلب أو الممتاز. أما فننة فقد بدت في صورة النفس البشرية الوضيعة التي تسخر من آلام الآخرين وأحزانهم، بل يسرها أن تنكل بهم وتزيدهم شقاء فوق شقاء، وبؤسا على بؤس، بينما يبدو ألقانة في صورة النفس الحانية العطوفة التي تروعها آلام البؤساء، وتجتهد ما أمكن في الترفيه عنهم والتخفيف من أثقالهم، وإن كانت، مع الأسف، لا تبلغ من ذلك إلا بعض النجاح اليسير المحدود، هذا في الوقت الذي يعبر فيه عالي عن النفس التي تقسو، لا لأن القسوة بعض طباعها، بل لأنها رغم ما تشتمل عليه من حدب وعطف وحنان، تعوزها العين البصيرة المدركة لمنابع الألم وأعماقه.. أما حنة صاحبة الألم ذاتها - فهي في ألمها وفي موقفها من الألم - درس إلهي إنساني رائع، خصيب بالفسلفة والبطولة والكفاح والمجد... دعنا إذن لحظات من هذه المرأة في علاقتها بمن معها من أشخاص القصة، لننتقل بعدها إلى تحليل شخصيتها العظيمة ومعدنها الممتاز.
حنة وفنة:-
هذه هي المرأة وضرتها، أو المتألمة والساخرة من ألمها، أو الحزينة والتي أضافت إلى حزنها حزنًا،.. وإنها مسرحية محزنة حقًا تلك التي مثلتها فننة على مسرح التاريخ في علاقتها بحنة، مسرحية تحزن الخالق والمخلوق، مسرحية تؤلم الخالق وتدمي القلب الإنساني الرقيق. لقد فعلت فننة أمرين محزنين: عيرت الخالق: وأهانت المخلوق.
عيرت الخالق:-
يضحكني وشر البلية ما يضحك - في فننة ومنها - أنها لم تتغيب سنة عن الذهاب إلى شيلوه، وحتى في الوقت الذي لم تذهب فيه حنة ذهبت هي، أليس هذا أمرا مثير للقلب؟ لمن تذهب هذه المرأة لتصلي؟ وكيف تستطيع أن تقترب من الإله العلي؟ لقد كانت فرصة ذهابها مأساة ومهزلة قاسية تروع النفس! هناك ضايقت ضرتها، وشهد المذبح المقدس امرأة متمتعة تسخر من أخرى محرومة. لم أسمع أنها صلت، وكنت أود أن أسمع منها صلاتين: صلاة الشكر: وصلاة التشفع أما أنها تشكر فهذا ما ننتظره من امرأة أعطيت ما حرم منها غيرها، ولم تكن العطية سوى فضل النعمة المتنازلة السابغة عليها، كنت أودها، وهي ترى بنيها وبناتها كالزهور الملتفة حولها، أن تأتي واياهم عند قدمي الله، وتصرخ صرخة ذلك الخادم المدعو «كرمي» الذي كان يترجم اسمه «لماذا أنا» وكان يصيح كلما انحدرت عليه بركة من بركات الله: لماذا أنا يارب؟ لماذا خصصتني بهذه النعمة التي حرم منها كثيرون ولست أفضل منهم؟ «صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك» إن إحساس الشكر أوفنه يزداد عندنا متى كانت لنا عيون تدرك ظروفنا وظروف الآخرين حولنا. هل فكرت أن تشكر الله على صحتك بين المرضى، وعلى شبعك ساعة الجوع، وعلى حريتك في أرض الاستعباد، وعلى خيرك حين يتربص الشقاء والألم والتعاسة والحرمان والمذلة بملايين من أفاضل الناس من بني البشر؟ كان يمكن لفننة أن تدرك أنها ليست أفضل من حنة، وأن الله إذ يمنحها لا يمنحها لأجل شيء فيها أو استحقاق لديها، بل لأجل جوده هو..، ذاك الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين.. لو ذكرت هذا لعرفت كيف تحمد الله وتشكره كثيرًا على أني كنت انتظر منها ما هو أكثر.. كمت أنتظر أن يتسع قلبها فتقول لله: أعذرني يارب إذا أحسست شيئًا يشوب فرحي رغم عطاياك الغامرة!! اعذرني إذا حبست في فمي صيحة الفرح والابتهاج، فإني لا أستطيع أن أفرح، وحنة دامعة، لا يمكن أن أبتهج وأختي متألمة، لا يمكن أن أسر ومن معي في الألم ومرارة الحرمان: يارب إن فرحي ناقص! يارب أعطها كما أعطيتني! أعطها يارب أولادا.لو فعلت فننة هذا لأضحت أية خالدة على جبين الدهر، ولا نكسفت أنوار حنة في ضوء نورها القوي الباهر، ولأضحت مزاميرها الحزينة تراتيل خالدة في مسمع الله والإنسان، ولباركها الله. وجعل من أحد أولادها صموئيل آخر، بل ربما أسمى وأعظم، لو فعلت هكذا لتغيرت القصة، وكانت بطلتها فننة لا حنة، لكنها للأسف لم تفعل بل غيرت. ومن عيرت؟ إنها قبل أن تعير المخلوق عيرت الخالق، أليس من يعير يائسًا أو فاشلاً، أو مسكينًا يعير خالقه؟... جاء الولد الصغير يستعطي، وكان بائسًا بكل ما في الكلمة من معنى، به لثغة في لسانه تعثر تعبيره، وتخرجه كلامًا مضحكًا مشوشاً، ووقفت الأم وأولادها حول هذا الولد يضحكون إلا البنت الصغرى التي صاحت وعيناها مغرورقتان بالدموع: يا أمي! هل الله هو الخالق لهذا الصبي؟ نعم يا بنتي إن الله هو الذي خلقه! إذن لماذا تضحكون عليه؟ لقد كان درسنا اليوم: «المستهزيء بالفقير يعير خالقه».
أهانت المخلوق:-
لم تعرف حنة للحياة أو العيد أو الطعام مذاقاً، لأن ضرتها سممت عليها كل شيء، وسقطت المرأة التعسة تحت ثقل ظروفها، وثقل مغيظتها.. ألا ويل للإنسان من الإنسان، إن عواء الذئاب وحفيف الأفاعي وزمجرة الأسود قد لا تروعه كما يروعه لسان سليط، وقلب ينفث الحقد والسم والضغينة... ألم يقل النبي: «استرني من مؤامرة الأشرار، من جمهور فاعلي الأثم، الذين صقلوا ألسنتهم كالسيف، فوقوا أسهمهم كلامًا مرًا، ليرموا الكامل بغته، يرمونه ولا يخشون».لقد ضاعت من فننة رسالتها العظيمة، الرسالة التي وضعها الله أمامها وفي طريقها، رسالة تشجيع المحروم، ومعونة المعوز، وتعضيد الباكي، بل لقد أجرمت هذه المرأة ضد الشعور الإنساني الرقيق الذي يجمل بالأنثى أن تتحلي به قبل الرجل، أي فننة: إنك مثل تعس موجود لفريق هائل من بني الإنسان الذين كانوا لأخوتهم، وبكل أسف، مرارة وضغتا على إباله.
حنة وألقانة:-
يبدو ألقانة أمامنا رجلاً حزينًا ملتاعًا، فياض الشجن، مكتئب الروح، يستدر الدموع، وأكاد أرى دموعه ترجع إلى منابع ثلاثة أليمة:-
دموع الندم:-
نحن لا نعلم لماذا تزوج هذا الرجل بامرأتين؟ ولا نعلم أيهما كانت الأولى والأسبق؟ هل يرجع ذلك إلى الضعف العام الذي استولى على الكثيرين من الرجال في طفولة الحياة البشرية، الضعف الذي كان لامك أبو المزاوجين أول من خضع له، وسار في أعقابه الكثيرون من بني البشر، الوثنيين والإسرائيليين على حد سواء، الأمر الذي لم يكن في شريعة الله الذي خلقهما ذكرا وأنثى، ولكن القلب البشري القاسي أجازه؟ أم يرجع الأمر لأن ألقانة لم يعقب أولادا من حنة فجاء بفننة من أجل النسل؟ أيان كان هذا أو ذاك، فالذي لاشك فيه أن الرجل كان شديد الأسى والألم لهذا النزاع القائم في بيته، وأن الرجل جنى على هذه المرأة الوديعة، وهو يتركها في مخالب امرأة قاسية، كان الرجل وهو يذكر هدوءه المنزلي الطريد يبكي دموع الندم لأجل الحياة المزاوجة التي عاشها. ونحن نشكر الله أننا لا نعرف في البيوت المسيحية هذا الضرب من التعب والضيق والمعاناة، ولكن قصة التاريخ، واختبار الآخرين في هذا الشأن يؤكدان لنا مبلغ الحياة التعسة الشقية في بيت توجد فيه امرأة وضرتها.ورغم خطأ الرجل فلا ينبغي أن ننسى أنه كان ذا طبيعة سمحة حلوة محبة كريمة، لقد أحب زوجته حنة، وكلما أشتد احساسها بالألم، وازداد شعورها بالحرمان، ازداد حبه لها وعطفه عليها، لقد أيقظ بؤسها في نفسه الإنسانية الرقيقة أنبل ما فيها من حب وجود وحنان، لم يذكر الكتاب أن عيني الرجل ذرفتا دموعًا هادئة أو سخينة، ولكننا نستطيع أن نقرأ من وراء ما سجله الوحي أن نفسه كانت باكية متألمة، وأن بكاءها كان عميقًا وكان جميلاً، إذ كان له في نفس زوجته أثر قدير نبيل.ما أحوجنا ساعة الظلمة ولو إلى كلمة رقيقة رفيقة عطوفة، أو دمعة هادئة مترقرقة، أو نظرة صامتة آسية، أو شعور يظهر بكيفية ما يدل على المشاطرة والمشاركة والمؤاساة، إن مولانا لم يطلب في جثيماني من بطرس ويعقوب ويوحنا إلا أن يسهروا معه ساعة واحدة، كان في حاجة إلى شعورهم المؤنس، وعطفهم الرقيق، كانت نفسه الصادئة الظامئة تنتظر منهم المعونة والتقوية والتشجيع في ساعة انصبت فيها مرارة الأجيال في نفسه،.. قالت عجوز للرئيس لنكولن في لحظة قاتمة من لحظات الحرب الأهلية الأمريكية: أيها الرئيس لا تخف!! تشدد وتشجع، إنك لن تهزم فنحن معك، والله معك، ونحن نصلي من أجلك، وقد هزت هذه الكلمات البسيطة الرئيس الأمريكي، ورفعت قلبه الغائص في أعماق اليأس.
دموع العجز:-
ولكني لا أدعي أن هذه الحقيقة تنسيني أن هذه الدموع رغم جمالها كانت دموعًا عاجزة،.. كان كنفوشيوس يقف بنيل أمام آلام الإنسان ويقول: «أستطيع يا صديقي أن أبكي معك ولكني عاجز عن أن أخلصك من الكثير من أسباب شكواك لأن الألم في أغلب حالاته أقسى من قدرة البشر»... كان نعمان محبوبًا من الجميع، من بيته، وملكه، وشعبه، ولاشك أن دموعًا كثيرة زرفت على نعمان المتألم، ولكن هذه الدموع لم تخلصه من برصه، كان ألقانه صورة للنبل الإنساني... في جماله، وفي حدوده.
حنة وعالي:-
كان موقف عالي من حنة موقفًا يشوبه الكثير من الضعف وإن كان الرجل قد جلله في الختام بما كفر عنه، بتمنياته وصلاته من أجلها، كان عالي:
الناصح المتعجل:-
تحرك الألم والغيظ والضيق والاضطراب في قلب حنة صلاة حارة ملتهبة، لم تلفظ بشفتيها كلمات تسمع لكن صلاتها كانت صرخة مكتومة أمام الله، ورأى عالي شفتيها تتحركان في شبه دمدمة السكران، فلم يرقه هذا المنظر، وخاصة في بيت الله فصاح بها: «حتى متى تسكرين انزعي عنك خمرك» فالتفت المرأة المحزونة إليه وقالت: «لا ياسيدي. إني امرأة حزينة ولم أشرب خمرا ولا مسكراً بل أسكب نفسي أمام الرب. لا تحسب أمتك ابنة بليعال لأني من كثرة كربتي وغيظي قد تكلمت إلى الآن». وكأنما تقول المرأة: إن كنت تحسبني ياسيدي سكري، فأنا سكري ولكن ليس من الخمر بل من الألم، لقد جرعت كأسه حتى الثمالة، أنا أمرأة مضطهدة مظلومة تعسة، أنا امرأة تجمعت عليها النوائب، وتكاد صلابتها تخور، ويقينها يتزعزع، لا ياسيدي غير فكرك عني ترى أنني في حاجة إلى الرثاء لا إلى التوبيخ!
وأحس عالي بالألم في نفسه، لأنه آذى بتسرعه وتعجله نفسًا مكسورة، وأحسست معه بذات الألم والخجل، لأنني كثيرًا ما تمشيت في أثره، وفعلت ما فعل.. إن أول واجبات خدام الله أن تكون لهم العين الحادة المبصرة، التي تستطيع أن تميز للنظرة الأولى، المتألم من غير المتألم، المحزون من مدعي الحزن، البائس المتضايق من السكير المخمور، ولكننا كثيرًا ما نقسو بأنانيتنا وتعجلنا وبطء ادراكنا وسوء معرفتنا على من كان يجب أن نعاملهم بكل أناة ولطف وحنان ورحمة!
الناصح الذي نسى نفسه:-
لم يكن عيب عالي أنه قدم نصيحته بتعجل وتسرع فحسب، بل كان عيبه الفاضح أنه، وهو ينصح الآخرين، نسى أن بيته كان في أمس الحاجة إلى هذه النصيحة، كان ابناه حفني وفينحاس في حاجة إليها من عشرين عامًا سابقة، كان هذان الرجلان كتلتين من الشر والعربدة والفساد، كانا مثلين شريرين للحياة الماجنة الخليعة، ورأى عالي سكر ولديه وشرهما وعربدتهما، وصمت ولم يردعهما حتى استهان شعب الله ببيت الله والتقدمة، ما أحوجنا أن نذكره بقول معلمنا العظيم: «لا تدينوا لكي لا تدانوا لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك. وها الخشبة في عينك. يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيدًا أن تخرج القذى من عين أخيك» أو ما قاله الرسول بولس: «لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين. لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلوه مثل هذه».. ذكرني يارب قبل أن أنتقد الآخرين أن أبصر نفسي، وقبل أن أتحدث عن بيوت الناس، أن أتأمل بيتي، عرفني يارب عيوبي، وقدرني أن أصلحها حتى يكون لي من الشجاعة والإخلاص والصراحة والمحبة ما يعينني على إصلاح عيوب غيري... ليت هذه تكون صلاة كل واحد منا.
الناصح المعتذر المصلي:-
وكأنما أراد عالي أن يعتذر ويكفر عن خطئه فحول توبيخه إلى أمنية وصلاة: «اذهبي بسلام وإله إسرائيل يعطيك سؤلك الذي سألته من لدنه».. وهنا يسبقنا عالي في ضرب من الخلق كريم.. سرعة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، كثيرًا ما نحس تعجلنا وعدم تبصرنا في أمور كثيرة تؤلم الآخرين وتؤذيهم ومع أننا نعترف بهذا بيننا وبين أنفسنا، فاننا نتناسى الاعتراف والاعتذار أمامهم بدافع من الأنانية والذاتية وكبرياء النفس، لكن كم يكون جميلاً أن نعترف ونبسط في اعترافنا كل رجاء وتمن حسن!!.
حنة أو بطلة القصة:-
والآن لنعد إلى بطلة القصة، وأرجو أو تسترعي أنوارها أبصارنا بكيفية أبهر وأقوى وأدق وأظننا حين ندركها على حدة ازاء الألم سنخرج من دروسنا بعدة دروس صالحة فهي:-
المرأة التي تكشف لنا شيئاً من لغز الألم:-
تعد قصة الألم من أعقد ألغاز الحياة البشرية، ومن غير الميسور لنا نحن الضعفاء القاصري الفكر أن نغوص إلى أعماقه ومسبباته، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نبصر إلى حد كبير بركاته الثمينة، فليس هناك ما هو أقدر من الألم على كشف الحياة البشرية عارية على حقيقتها، بل وإبراز الخطوط الأصيلة من نسيجها، فهذه امرأة لم يكتب قصتها سوى الألم ولم يظهر مقدار ما فيها من تحمل وشجاعة وصبر وثقة وتسليم غيره. إنك لا تستطيع أن تكتشف الصبور الا في لحظة المحنة، والشجاع إلا في وسط المخاوف، والمتسامح في غير ساعات الحقد، إن الألم يلقي دائمًا أنواره الكاشفة على ما فينا من أخلاق وطباع، بل أن هذه الأخلاق لا ينميها ولا يذكيها ويقويها سوى الألم... لم تختبر الملكة ماري انطونيت مرارة الجوع والحرمان، فلما جاءتها النساء الفرنسيات الجائعات صارخات في طلب الخبز قالت: يا لهن من بائسات، ولكن لم لا يأكلن بقلاوة إن لم يجدن خبزًا.. قد تكون هذه عبارة تهكمية نسبت إلى ملكة فرنسا، ولكنها إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن الجائع وحده، هو الذي يحس ألم الجياع ويدركه ويعطف عليه، أتذكرون ذلك الرجل الذي قيل إنه تعود أن يبتاع الطيور، ثم يطلقها من أقفاصها، ولما سألوه عن السبب أجاب: لقد آليت على نفسي أن أحرر ما استطعت كل أسير طيرًا أو حيوانًا أو إنسانًا، لأني عانيت مرارة السجن والأسر والاستعباد، اني أؤمن أن حنة صارت بعد آلامها أرهف الشعور وأدق احساسًا، وأكثر عطفًا، وأن الألم أضفى على طبيعتها جمالاً لم تكن قد عرفته من قبل!!
المرأة التي أمسكت بالله ساعة الألم:-
«لا ياسيدي لا تحسب أمتك ابنه بليعال» ما أرق هذه الكلمات تفوه بها المرأة العظيمة.. كثيرون يمسكون بالله طالما كانت حياتهم ضاحكة، وخيرهم موفورًا، وبركاتهم غامرة. يرنمون له ويعيشون معه إذا كان جوهم صافيًا، وشمسهم مشرقة.. أما إذا كشرت لهم الأيام عن ألم أو تعب أو خطب فما أسرع ما يبتعدون، ويفصمون معه كل علاقة.. جرى كثيرون وراء المسيح حين قدم لهم الخبز، ولكنهم انفضوا من حوله حين لوح لهم بالتعب والألم والصليب.لعل أجمل ما في حياة قديسي الله تمسكهم به في ساعة التجربة والظلمة والضيق.
المرأة المصلية:-
لم يكن عجزها، وعجز الآخرين معها، وصعوبة انتظارها سببًا في ركونها إلى اليأس واستسلامها للواقع، كلا لقد صارعت مع الله، صلت فأطالت الصلاة، وانبعث صلاتها حارة ملتهبة، وحين باركها عالي آمنت بالإجابة قبل حدوثها.. السؤال والإلحاح والإيمان، هذه أركان الصلاة الناجحة.. ألا ليتنا نتعلم في صلواتنا أن نعبر أرض الصعاب والفشل والمستحيلات، ألا ليتنا نقول في لحظات اليأس مع يهوشافاط: «ونحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا» وعند الإعياء مع يونان: «حين أعيت في نفسي ذكرت الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك» وعند الشدة والضيق والاضطهاد والجوع والعري والخطر والسيف مع بولس: «لكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا».
المرأة التي أوفت نذرها:-
في ضيقها نذرت للرب أفضل ما ينتظر أن تملك، العطية التي يعطيها الرب إياها.. ولما أعطاها لم تنس الوفاء، ولم تبخل بالتقدمة، بل بفرح قدمت ابنها العزيز لله ولخدمته، كثيرون في لحظات الضيق يتعهدون بإعطاء الرب كل شيء، وما أن يحل الفرج حتى ينسوا ما وعدوا وما نذروا.أيها الأصدقاء لا تخشوا أن تتعهدوا لله وتنذروا ولكن في يقظة وتأمل وضبط نفس، والله يحسن دائمًا مكافأة الناذرين وأقد أحسن مكافأة هذه المرأة ففضلاً عن أن نذرها قد كتب الخلود والمجد لوالدها فان الله قد أعطاها عوضًا عنه ثلاثة بنين وبنتين.
المرأة المغنية للرب :-
بدأت قصتها بالدموع، وانتهت بالترنم، بدأتها بالرأس الخفيض وانتهت بالرأس المرتفع، بدأتها بالمذلة والحرمان، وانتهت بالرفعة والشبع، بدأتها مع الإنسان، وانتهت مع الله..
تأمل هذه الأغنية البديعة التي رنمتها حنة تجدها أغنية فياضة الحساسية بقدرة الله وعنايته وحكمته ومعونته ودينونته وسيادته، ولطالما قرأت هذه الأغنية لأتعلم منها ألا أهتم كثيرًا بما يشغل الناس من فقر أو غنى، أو سيادة أو استبعاد، أو راحة أو تعب، لأني أبصرت من وراء هذه جميعًا يده المعينة الممسكة بي، أيها الإنسان البائس الفقير المحتاج، حين يشتد عليك التعب، وتحيط بك المخاوف، وتتزلزل تحت قدميك الأرض وتميد، لا تخف!!.. أذكر الله، وأرفع الرأس، وسر إلى الأمام تنته ظلمتك، وتشرق شمسك، ويمتليء قلبك بالهتاف والفرح والترنم فتقول مع حنة: «فرح قلبي بالرب. ارتفع قرني بالرب، اتسع فمي على أعدائي لأني قد ابتهجت بخلاصك، ليس قدوس مثل الرب، لأنه ليس غيرك، وليس صخرة مثل إلهنا، الرب يميت ويحيي. يهبط إلى الهاوية ويصعد. الرب يفقر ويغني، يضع ويرفع. يقيم المسكين من التراب، يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء. ويملكهم كرسي المجد لأن للرب أعمدة الأرض وقد وضع عليها المسكونة، أرجل أتقيائه بحرس والأشرار في الظلام يصمتون، لأنه ليس بالقوة يغلب الإنسان، مخاصمو الرب ينكسرون. من السماء يرعد عليهم الرب يدين أقاصي الأرض ويعطي عز لملكه ويرفع قرن مسيحه».
المزيد
03 نوفمبر 2021
المعرفة 2: أمور فوق معرفتنا معرفة ضارة، مستويات المعرفة معرفة النفس
تكلمنا في العدد الماضي عن معرفة الله تبارك اسمه مع مقارنة بسيطة بمعرفة الناس. ونود اليوم أن نكمل حديثنا عن معرفة الناس: في الواقع ما أقل ما نعرفه، علي الرغم من انتشار العلم! فنسبة ما نعرفه ضئيلة إذا قورنت بما لا نعرفه..!
ولا شك أن هناك عجائب فوقنا لا ندركها. وقد سمح الله بوجود أمور كثيرة تخفي علينا معرفتها حتى لا يصاب العقل البشري بالغرور في عصر التكنولوجيا الحديثة.ولعل في مقدمة ما نجهله، موضوع المعجزة والمعجزة سميت هكذا، لان العقل البشري يعجز عن تفسيرها.. إنها ليست ضد العقل، ولكنها مستوي فوق العقل، وعلي الرغم من أن العقل لا يدرك كيف تتم، إلا انه يقبلها بالإيمان ولا يهمه أن يعرف كيف تتم والمعجزات أمر يؤمن به كل متدين. ولعل من ابرز المعجزات التي يؤمن بها الكل: الخلق، والقيامة العامة.كلنا نؤمن أن الله خلق الكون، أي أوجده من العدم حيث لم يكن الكون موجودًا، خلق البشر والملائكة والطبيعة. ولكن كيف خلقها؟ بأية قدرة؟ هنا العقل لا يعرف. ولكنه يقبل بالإيمان.ونفس الوضع بالنسبة إلى القيامة العامة 'أو البعث'، كلنا نؤمن بذلك. والعقل يقبله، دون أن يعرف إطلاقًا كيفما يعود الإنسان إلى الحياة بعد الموت! معرفة هذا الأمر هي فوق مستوانا.
كلها أمور تتعلق بقدرة الله غير المحدودة.وعبارة 'غير المحدود' يقف أمامها العقل عاجزا في معرفته.. واستخدام هذه العبارة من جهة الزمن، أمر آخر فوق نطاق معرفة العقل.. فكلمة أزلي، وكلمة ابدي، وكلمة سرمدي.. أي ما لا بداية له ولا نهاية، أمور قد يستخدمها العقل ولكنها فوق معرفته! حقًا ما معني عبارة 'لا بداية له'؟! ما معني الأزلية؟ ومتى قطع نطاق الأزلية في وقت ما ليوجد الكون؟.. إنها أمور لا يفحصها العقل وإنما يقدمها الإيمان ويقبلها الإنسان بالتسليم، كثوابت إيمانية.
أمور أخرى فوق معرفتنا، تتعلق بالعالم الآخر..
متى ستكون بداية العالم الآخر؟ وكيف تكون؟ وأين..؟
إنها أمور ترتبط بالروح والموت وما بعد الموت.. وهي أيضًا فوق نطاق معرفتنا وتتعلق أيضًا بالنفس وكنهها وخواصها، وبالعقل.. ثم أليس عجيبًا أن العقل لا يعرف تماما كيف يعمل العقل!! وما مدي علاقة العقل بالمخ وما فيه من مراكز تعمل؟ وكيف يتوقف بعضها عن العمل، ويعجز العلم البشري والعقل البشري عن إعادة مراكز المخ المتوقفة إلى عملها الطبيعي!
بل في عالمنا الحاضر، العالم المادي، أمور كثيرة لا نعرفها.مثال ذلك ما اقل معرفتنا عن الفلك وما فيه من شموس ونجوم وكواكب، وما فيه من شهب ومجرات.. كل ما نعرفه هو معرفة سطحية لا تدخل في نطاق التفاصيل.. لقد فرحنا ببعض أحجار من القمر، أتى بها رواد الفضاء، ومع ذلك لا يزال القمر لغزًا لا نحيط بكامل المعرفة عنه!
ونفس الوضع نقوله عما نعرفه من جهة أعماق الأرض وأعماق البحار.. هناك معلومات بسيطة يقدمها لنا العلم نتيجة لاكتشاف وحفريات.. وتبقي الحقيقة الكاملة بعيدة عن معرفتها ونفس الكلام نقوله عن محتويات الجبال، وعن بعض الكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير والسيول والبراكين: ما تبدأ؟ ونطاق عملها وكيف تنتهي. هناك أيضًا أمراض خطيرة، مازال العلم حائرا أمامها، لا يعرف أسبابها، ولا يعرف طريقة القضاء عليها قبل أن تقضي علي المرضي!
وما دامت معرفتنا محدودة نواجه سؤالا وهو: كيف ننمو في المعرفة؟
من جهة المعرفة: الممكنة، هناك وسائل عديدة لنموها: منها العلم، والقراءة، والمشورة، والخبرة، والتوعية. وكما قال الشاعر:-
فاطلب العلم علي أربابه واطلب الحكمة عند الحكماء
وحتى كل هؤلاء يقدمون من العلم علي قدر معرفتهم ولا شك معرفتهم محدودة. وقد تختلف مصادر المعرفة علي حسب قامتها ونوعيتها.. حتى معرفة تفاصيل عن الخير والشر وما يجب وما يجوز وما يليق، قد تختلف فيه الآراء. وقد تختلط المعرفة بالطباع والنزعات والأهواء وأحيانًا يتأثر التوجيه والإرشاد بما ينتشر من الشائعات.
ومما لاشك فيه أن هناك نموا في المعرفة في العالم الأخرفعندما تخرج الروح من الجسد بالموت، تصبح معرفتها أكثر بعد أن تخلصت من ضباب هذا الجسد المادي ومن غرائزه ونزعاته وتأثراته. أما في الأبدية فسوف يتمتع البشر بلون من المعرفة أكثر عمقا عن طريق الكشف الإلهي revelation وعن طريق ما سوف يراه الإنسان من كائنات أخرى كالملائكة مثلًا، وما يختلط به من الأبرار بكل معارفهم.. ومن أمور أخرى جديدة عليه.وعموما فان المعرفة تنمو أيضًا بالموهبة أي بما يهبه الله للإنسان من مواهب منها المعرفة والحكمة واتساع العقل ومقدراته.
وهناك معرفة في العالم الآخر، أعمق من كل هذا واسمي بما لا يقاس. وهي معرفتنا لله جل جلاله.إننا لا نعرف عن الله حاليا إلا ما يكشفه لنا الوحي الإلهي، لكي نؤمن بالله ونطيع وصاياه. ولكن الله غير محدود والعقل البشري مهما سما هو محدود. ولا يستطيع أن يحيط المحدود بغير المحدود لذلك في العالم الآخر سوف يكشف لنا الله عما يوسع معرفتنا به تبارك اسمه وعلي قدر ما يمكن لطبيعتنا البشرية أن تعرفه، شيئًا فشيئًا، وكلما تزداد معرفتنا بالله تزداد سعادتنا في الأبدية وتكون هذه المعرفة هي أشهى ما نتمتع به.
إن المعرفة أفضل من الجهل بقدر ما النور أفضل من الظلام.ولكن ليست كل معرفة نافعة، فهناك معارف تافهة وأيضا هناك معرفة ضارة..!
أما المعرفة التافهة فتختص بأمور لا تنفع شيئًا وللأسف كثيرًا ما يسعي إليها الناس أو ينشغلون بها وهي مضيعة للوقت وتشغل الذهن عن التفكير في ما ينفعه وصدق ذلك الآب الروحي الذي قال: كثيرًا ما نجهد أنفسنا في معرفة أمور لا ندان في اليوم الأخير علي جهلنا إياها!
أما المعرفة الضارة فلها أمثلة عديدة منها:-
معرفة ما يقوله عنك منافسوك وأعداؤك مما يثير قلبك عليهم. ومعرفة الشكوك الخطيرة التي تهز الإيمان في ثوابت تخص العقيدة.. ومعرفة صور من الخطيئة وتفاصيل تشوه نقاوة القلب وتجلب له شهوات تتعبه.. ومعرفة أسرار بعض الناس وأخطائهم مما يغير الإنسان إليهم وتقديره لهم.. ومعرفة أمور أخرى مماثلة يقول عنها القلب في صدق 'ليتني مع عرفت'!
كذلك من الأمور الضارة المعرفة التي تنفخ والتي تصيب النفس بالخيلاء والكبرياء والي التباهي بالمعرفة..!
علي أن من الأمور اللازمة لكل شخص أن يعرف نفسه جيدًا..وصدق ذلك الفيلسوف الذي قال: 'خير الناس من عرف قدر نفسه'. وهكذا لا يقع في الغرور ولا يتجاوز حدوده ولا ينسب إلى نفسه ما ليس فيه.. بل يعرف ويوقن انه مخلوق من تراب الأرض.
وأتذكر إنني قلت مرة في احدي القصائد:-
قل لمن يعتز بالألقاب إن صاح في فخره: من أعظم مني؟!
أنت في الأصل تراب 'تافه' هل سينسي أصله من قال أني؟!
ويهمنا في المعرفة أيضًا: ارتباط المعرفة بالعمل.
فماذا يفيد الإنسان إن عرف كل شيء عن الفضيلة ولم يسلك فيها؟!
لا شك أن الذي يعرف أكثر يُطالَب بأكثر.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
02 نوفمبر 2021
القيم الروحية فى حياة وتعاليم السيد المسيح - 26 المسيحى وحياة التسامح والغفران
حاجتنا الى التسامح والغفران ...
التسامح والغفران علاج للتعصب والكراهية .. وسط عالم يسوده الكراهية والعنف والحقد ومحاولات الايذاء أو السيطرة على الغير أو استغلالهم أو اذلالهم، ومع ما نشاهده من انتشار الحروب والقلاقل وقتل الابرياء تحت مختلف الحجج ولما نراه من التمييز الدينى والطبقى والعرقى والجنسى فان مجتمعاتنا المعاصرة فى حاجة الى روح التسامح والمغفرة التى تنبع من حياة وتعاليم السيد المسيح الذى جال يصنع خيراً على الارض وسامح وغفر للذين اساؤا اليه وحتى الذين صلبوه والذين اخذوا يصيحون حوله مطالبين له بحكم الموت على الصليب، نجده ينظر اليهم فى شفقة طالبا من الاب السماوى لهم الغفران {فقال يسوع يا ابتاه اغفر لهم لانهم لا يعلمون ماذا يفعلون} (لو 23 : 34) ان دائرة العنف والكراهية لن يوقفها الفعل العنيف ورده فالنار لا تطفأ بالزيت بل بالماء هكذا العنف والكراهية تحتاج الى المحبة والاخاء الانسانى والحكمة والايجابية وروح المساواة وسيادة القانون لكى ما يعود من أعمتهم الكراهية الى رشدهم وضميرهم ويتقدم المجتمع ويسير فى طريق السلام والمصالحة من أجل هذا علمنا السيد المسيح قائلا { سمعتم انه قيل عين بعين وسن بسن. واما انا فاقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الايمن فحول له الاخر ايضا. ومن اراد ان يخاصمك وياخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا. ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين. من سالك فاعطه ومن اراد ان يقترض منك فلا ترده . سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. واما انا فاقول لكم احبوا اعداءكم باركوا لاعنيكم احسنوا الى مبغضيكم وصلوا لاجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم.لكي تكونوا ابناء ابيكم الذي في السماوات فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين. لانه ان احببتم الذين يحبونكم فاي اجر لكم اليس العشارون ايضا يفعلون ذلك. وان سلمتم على اخوتكم فقط فاي فضل تصنعون اليس العشارون ايضا يفعلون هكذا.فكونوا انتم كاملين كما ان اباكم الذي في السماوات هو كامل} مت 38:5-48 أن التسامح والمغفرة من الانسان يجب ان لا يكونا مدعاة للاشرار فى التمادى فى ظلمهم بل لاعادتهم الى طريق الصواب ولهذا يجب ان يكفل القانون والنظام المحلى والدولى العدالة والمساواة حتى لا نجد أنفسنا نسير وفقاً لشريعة الغاب التى يأكل فيها القوى أخيه الضعيف وتنتشر الفوضى والمظالم فى المجتمع .
التسامح والغفران ثمرة المحبة ... التسامح هو الصفح والغفران مع ترك ونسيان الاساءة للمخطئين ومغفرة زلاتهم نحونا وذلك بدافع المحبة التى تصبر وتحتمل وتبذل من أجل خلاص القريب ومن اجل ربح النفس ومن أجل سلام الانسان الداخلى فالكراهية وباء ومرض يؤثر على من يحملها ويجعله قلقا لا يجد سلاماَ لا فى علاقته بالله ولا مع الغير ويحيا فى صراع داخلى . وليس معنى ذلك ان لا نعاتب أو نتغاضى عن حقوقنا فى أحساس بالظلم أو الضعف فالقوى هو الذى يصفح ويسامح، والعفو عند المقدرة هو من شيم الاقوياء { وان اخطا اليك اخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما ان سمع منك فقد ربحت اخاك. وان لم يسمع فخذ معك ايضا واحدا او اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين او ثلاثة. وان لم يسمع منهم فقل للكنيسة وان لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار} مت 15:18-17. وليس معنى ان يكون كالوثنى او العشار ان نكرهه بل ان نصلى من اجل اصلاحه وان تحاشيا العلاقة به من اجل سلام النفس وعدم اذدياد الخلاف او الخصام .كما يجب علينا متى أخطائنا تجاه احد ان نسارع الى مصالحته لكى ما يقبل الله صلواتنا وتقدماتنا { فان قدمت قربانك الى المذبح وهناك تذكرت ان لاخيك شيئا عليك. فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب اولا اصطلح مع اخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك. كن مراضيا لخصمك سريعا ما دمت معه في الطريق لئلا يسلمك الخصم الى القاضي ويسلمك القاضي الى الشرطي فتلقى في السجن. الحق اقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الاخير} مت 23:5-26.
التشبه بغفران الله غير المحدود ... سأل القديس بطرس السيد المسيح قائلاً هل الى سبع مرات يخطئ الىٌ اخى واسامحه فاجاب المخلص لا بل الى سبعين مرة فى سبعه مرات اى الى عدد غير محدود لان الله عالم بضعف البشر وان كان ذلك ليس فى مقدورنا لكنه مستطاع بالصلاة ومعونة الله ، ولنتذكر كم مرة فى حياتنا نخطئ الى الله ويسامحنا ويستر خطايانا ويغفرها عندما نرجع اليه ولهذا { ان كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس }(رو 12 : 18). وما ليس فى طاقتنا نصلى لله ان يجعله ممكن لدينا ويهبنا الطاقة والقوة والحكمة لصنعه { حينئذ تقدم اليه بطرس وقال يا رب كم مرة يخطئ الي اخي وانا اغفر له هل الى سبع مرات. قال له يسوع لا اقول لك الى سبع مرات بل الى سبعين مرة سبع مرات. لذلك يشبه ملكوت السماوات انسانا ملكا اراد ان يحاسب عبيده. فلما ابتدا في المحاسبة قدم اليه واحد مديون بعشرة الاف وزنة. واذ لم يكن له ما يوفي امر سيده ان يباع هو وامراته واولاده وكل ما له ويوفي الدين. فخر العبد وسجد له قائلا يا سيد تمهل علي فاوفيك الجميع. فتحنن سيد ذلك العبد واطلقه و ترك له الدين. ولما خرج ذلك العبد وجد واحدا من العبيد رفقائه كان مديونا له بمئة دينار فامسكه واخذ بعنقه قائلا اوفني ما لي عليك. فخر العبد رفيقه على قدميه وطلب اليه قائلا تمهل علي فاوفيك الجميع. فلم يرد بل مضى والقاه في سجن حتى يوفي الدين. فلما راى العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدا واتوا وقصوا على سيدهم كل ما جرى. فدعاه حينئذ سيده وقال له ايها العبد الشرير كل ذلك الدين تركته لك لانك طلبت الي. افما كان ينبغي انك انت ايضا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك انا. وغضب سيده وسلمه الى المعذبين حتى يوفي كل ما كان له عليه. فهكذا ابي السماوي يفعل بكم ان لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لاخيه زلاته}مت 21:18-35
الغفران والتسامح والسلام الداخلى ... هل أنت واحد من الذين تأذَّوْا في مشاعرهم واعمالهم وحياتهم على أيدي الآخرين؟ وهل دخلتْ الكراهية إلى قلبك وعقلك وفكرك أو تنتابك مشاعر الغضب، أو الغيظ ، أو العداوة، والمرارة، والرغبة في الانتقام؟ وهل امتلأت نفسك بروح عدم المغفرة؟ إن عدم المغفرة يمكن أن يتحوَّل داخلك إلى ذئب مختفي. إنه قادر أن يجعلك سجيناً داخل نفسك . ويؤذيك فحينما تُعشِّش روح عدم المغفرة داخلنا، فهو لن تؤذي الذي أخطأ في حقك الا حين تعمل على ايذائه ؛ أما أنت فستظل ممسوكاً ومُقيَّداً بما تملَّك على أفكارك وقلبك وتصرفاتك وكلامك. إن تلك المشاعر السلبية تنخر داخل الانسان مثل سرطان سام، وإذا بنا نكتشف أننا مربوطين بالعداوة، وقد فارقنا السلام القلبي الداخلي . ولكن حالما نعزم على المغفرة تشرق نعمة المسيح الغافرة داخل قلوبنا ونشعر بالسلام . لأن الروح القدس الوديع الهادئ يهبنا المحبة الغافرة والتعزية والرجاء والصبر والقوة { ليس ذلك فقط بل نفتخر ايضا في الضيقات عالمين ان الضيق ينشئ صبرا. والصبر تزكية والتزكية رجاء. والرجاء لا يخزي لان محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا} (رو 5 :3- 5) . ولهذا نصلى من أجل المسيئين الينا ومن اجل ان ينزع الله عنا كل مرارة وغضب وتحزب ويحل سلام الله فينا { وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وافكاركم في المسيح يسوع} (في 4 : 7).
التسامح الغفران وعدم الادانة ... اننا نحتاج الى الغفران ونطلبه من الله ولهذا يجب ان لا ندين ليكون لنا سلام مع الله والناس ولا ندان من الله ويغفر لنا خطايانا { لا تدينوا فلا تدانوا لا تقضوا على احد فلا يقضى عليكم اغفروا يغفر لكم }(لو 6 : 37). اننا نتعلم من محبة الله الغافرة والمحررة كيف نحب ونغفر ويكون لنا العين البسيطة التى تستر ضعفات الغير لذلك يقول الرسول بطرس { ولكن قبل كل شئٍ لتكن محبَّتكم بعضكم لبعضٍ شديدةً لأن المحبَّة تستر كثرةً من الخطايا} وراينا كيف غفر الله للمرأة الخاطئة لانها تابت وقدمت مشاعر محبة صادقة كما بكت السيد المسيح سمعان الفريسى لقلة محبته وادانته للغير { وسأَلهُ واحدٌ من الفريسيين ان يأكل معهُ فدخل بيت الفريسي واتكأَ. وإذا امرأَة في المدينة كانت خاطئَة إذ علمت أنه متكَّئٌ في بيت الفريسي جاءَت بقارورة طيبٍ ووقفت عند قدميهِ من ورائهِ باكيةٍ وابتدأَت تبلُّ قدميهِ بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبّل قدميهِ وتدهنهما بالطيب. فلَمَّا رأَى الفريسي الذي دعاهُ ذلك تكلَّم في نفسهِ قائلا لو كان هذا نبيَّاً لعلم مَنْ هذه المرأة التي لمستهُ وما حالها. إنها خاطئَة. فأجاب يسوع وقال لهُ يا سمعان عندي كلمة أقولها لك. فقال قُلْ يا معلّم. كان لمداينٍ مديونان. على الواحد خمسمائَة دينارٍ وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعاً. فقُلْ. أيُّهما يكون أكثر حبَّاً لهُ. فأجاب سمعان وقال أظنُّ الذي سامحهُ بالأكثر. فقال لهُ بالصواب حكمت. ثم التفتَ إلى المرأَة وقال لسمعان أَتنظر هذه المرأَة. إني دخلت بيتك وماءً لرجليَّ لم تُعطِ. وأمَّا هي فقد غسلت رجليَّ بالدموع ومَسَحتهما بشعر رأسها. قُبلةً لم تقبّلني. وأمَّا هي فمنذ دخلت لم تكفّ عن تقبيل رجليَّ. بزيتٍ لم تدهن رأْسي. وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليَّ. من أجل ذلك أقول لك قد غُفِرَت خطاياها الكثيرة لأنها أحبَّت كثيراً. والذي يُغفَر لهُ قليلٌ يحبُّ قليلاً. ثم قال لها مغفورة لكِ خطاياكِ… إيمانكِ قد خلَّصكِ. اذهبي بسلامٍ} لو 36:7-50 . هكذا وبخ الله الفريسى الذى ادان المرأة الخاطئة وغفر للمرأة لانها تابت وأحبت ولم تدين غيرها فمن منا يترك ميته لكى يبكى على ميت غيره . لهذا قال الأنبا يؤانس القصير مرة لقد رذلنا الحِمْل الخفيف، وهو أن ندين أنفسنا؛ واخترنا الحِمْل الثقيل الذي هو تبرير أنفسنا وإدانة الآخرين .
السيد المسيح والتسامح والغفران ....
التسامح فى حياة وتعاليم المخلص.. التسامح هو عمل ايجابى لحلول السلام وتدريب الانسان على قمع الغرائز الحيوانية والتخلص من روح العدوانية وسيطرة على النفس. للارتقاء بالسلوك الانسانى الى مستوى الكمال الالهى الذي لا يجازى عن الشر بالشر بل يترك وينسى من اجل الاصلاح .ان التسامح قوة لضبط النفس وليس ضعف لان القوى هو من ينتصر على نفسه وليس على خصمه وبهذا يربح نفسه وخصمه وينتزع من الخصم الشر والحقد ويحوله الى صديق { طوبى لصانعي السلام لانهم ابناء الله يدعون (مت 5 : 9).فى تعامل السيد المسيح مع الناس ضرب لنا اروع الامثلة فى التسامح معلما ايانا ان نقتفى أثره . اراد مرة ان يدخل قرية للسامريين وكان بينهم عداوة مع اليهود فرفضه أهلها {وحين تمت الايام لارتفاعه ثبت وجهه لينطلق الى اورشليم. وارسل امام وجهه رسلا فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدوا له. فلم يقبلوه لان وجهه كان متجها نحو اورشليم. فلما راى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا يا رب اتريد ان نقول ان تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل ايليا ايضا. فالتفت وانتهرهما وقال لستما تعلمان من اي روح انتما.لان ابن الانسان لم يات ليهلك انفس الناس بل ليخلص فمضوا الى قرية اخرى} لو 51:9-56. لقد قاوم السيد روح الانتقام لدى تلاميذه وعلمهم انه لا يريد هلاك الناس بل خلاصهم .وعندما أساء اهل الناصرة الى السيد المسيح وارادو ايذائه وطرحه من أعلى الجبل رايناه يرد بقوله { ليس نبي بلا كرامة الا في وطنه وفي بيته} (مت 13 : 57).وتركهم فى هدوء ومضى .وعندما جاءت جماعة الاشرار للقبض عليه لم ينتقم منهم بل حتى عندما تقدم بطرس وضرب بالسيف العبد وقطع اذنه قام السيد المسيح باعادتها سليمة مرة اخرى وامر بطرس برد السيف الى غمده قائلا { رد سيفك الى مكانه لان كل الذين ياخذون السيف بالسيف يهلكون. اتظن اني لا استطيع الان ان اطلب الى ابي فيقدم لي اكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة. فكيف تكمل الكتب انه هكذا ينبغي ان يكون. في تلك الساعة قال يسوع للجموع كانه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتاخذوني كل يوم كنت اجلس معكم اعلم في الهيكل ولم تمسكوني} مت 52:26-55.
لقد تعلم الرسل من المعلم الصالح واخذوا ينادوا بتعاليمه { ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث. وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله ايضا في المسيح} أف 31:4-32.
غفران الله ورحمته .. ان الله اله غفور رحيم { حافظ الاحسان الى الوف غافر الاثم والمعصية والخطية }(خر 34 : 7). تغنى برحمته الانبياء {من هو اله مثلك غافر الاثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه لا يحفظ الى الابد غضبه فانه يسر بالرافة} (مي 7 : 18). والانسان الخاطى الذى يتوب ويرجع الى الله يبرئه الله من دينه بالصفح عنه { اصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك وكما غفرت لهذا الشعب من مصر الى ههنا} عدد19:14. (بالعبرية سالاح). وهذا الإبراء وهو فعال لدرجة أن الله لا يعود ينظر بعد إلى الخطيئة، وكأنه قد نبذها وراء ظهره (إشعيا 38: 17)، وكفر عنها وأزيلت { فطار الي واحد من السرافيم وبيده جمرة قد اخذها بملقط من على المذبح. ومس بها فمي وقال ان هذه قد مست شفتيك فانتزع اثمك وكفر عن خطيتك} أش 6:6-7. وإذ يستخدم المسيح هذه المصطلحات، يؤكد أن الإبراء مجاني، فالمديون عاجز عن الوفاء. وتنصبّ الكرازة المسيحية الأولى في الوقت نفسه على الايمان بالمسيح والتوبة وغفران الخطايا { وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي ان المسيح يتالم ويقوم من الاموات في اليوم الثالث.وان يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الامم مبتدا من اورشليم. وانتم شهود لذلك} لو46:24-48 . وهكذا دعا الرسل الى الايمان كما اوصاهم السيد المسيح { لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات الى نور ومن سلطان الشيطان الى الله حتى ينالوا بالايمان بي غفران الخطايا ونصيبا مع المقدسين} (اع 26 : 18) . { فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس} (اع 2 : 38).وهناك مفردات أخرى، مثل طهر، غسلَ، برر، تظهر في كتابات الرسل التي تلحّ على الأوجه الإيجابية من الغفران القائمة على المصالحة مع الله .
وانا كان الانسان بطبعه العتيق يخطئ {نحن شعب قساة الرقاب. لكن اغفر ذنبنا وخطيئتنا واتخذنا ملكاً لك} (خر: 6- 9). فان قلب الله ليس كقلب الإنسان، والقدوس لا يحب أن يهلك (هو 11: 8-9). إن الله أبعد من أن يشاء موت المنافق، لكنه يريد توبته (حز 18: 23)، لكى يغدق عليه غفرانه لأن {طرقه ليست كطرقنا، وأفكاره تعلو عن أفكارنا، كما تعلو السماوات عن الأرض} (إش 55: 7-9) . والله هو الآب الذي يرأف بجميع أبنائه (مز 103: 3 و8-14). ويتوسل إليه شعبه بصفته {الإله الغفور} (نح 9: 17)، وإله الرحمة (دانيال 9: 9)، المستعدّ دوماً أن يرجع عن الشر الذي هدًد به الخاطئ، اذ يرجع ويتوب (يؤ 2: 13). يونان النبى - الذي يمثّل النزعة القومية في إسرائيل- قد "كمد قلبه "، إذ رأى هذا الغفران مقدماً لجميع الناس (يون 3: 10، 4: 2). وبعكس ذلك، يشهد كتاب الحكمة بالله ويسبَحه لأنه يحب كل الذين خلقهم ويشفق على الجميع، ويتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا ويوبّخهم شيئاً فشيئاً مذكراً إياهم بما أخطأوا لكي يؤمنوا به فهو يبين هكذا أن القدير الذي يتميَز بالمغفرة .
السيد المسيح والغفران ... دعا السيد المسيح الى التوبة والغفران لكل من هم في حاجة إليها { فاجاب يسوع وقال لهم لا يحتاج الاصحاء الى طبيب بل المرضى. لم ات لادعو ابرارا بل خطاة الى التوبة. } لو 31:5-32. وهو يحثنا على التوبة والرجوع { فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت اذ هو ايضا ابن ابراهيم.لان ابن الانسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك} (لو19: 9- 10) بإعلانه أن الله هو أب، تقوم مسرته في الصفح عن الزلات { اقول لكم انه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب اكثر من تسعة و تسعين بارا لا يحتاجون الى توبة } (لو 15-7)، ومشيئته في أن لا يدع أحدا يهلك (متى 18: 12-14) . ولا يكتفي يسوع بإعلان هذا الغفران الذي يقبله المؤمن المتواضع بينما يرفضه الإنسان المتكبر (لو 7: 47- 50، 18: 9- 14) " بل هو يمارس منح الغفران ويستشهد بأعماله أنه يملك هذا السلطان الذى هو لله وحده (مر 2 : 5- 11 ). لقد توّج المسيح عمله بطلبه الغفران من الاب السماوى لصالبيه وبسفك دمه لغفران الخطايا (متى 26: 28). وهو يبرّر الجموع بحمله خطاياهم في جسده (1 بط2: 24 ، إش 53: 11- 12)، لأنه الحمل الذي يرفع خطايا العالم (يو 1 : 29) فبدمه نتطهَر، ونغتسل من خطايانا{ ان اعترفنا بخطايانا فهو امين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل اثم} 1يو 9:1.
الصفح عن الإهانات..
منذ العهد القديم، لم تقتصر الشريعة فقط على وضع حدّ للانتقام بسنّة العين بالعين (خر 21: 23- 25)، ولكنها أيضاً تنهي عن بغض الأخ لأخيه، كما أنها تحرّم الانتقام والحقد نحو القريب (لا 19: 17- 18). ذكر الكتاب الرابطة التي تربط بين غفران الإنسان لأخيه وبين الغفران الذي يلتمسه الإنسان من الله { من انتقم يدركه الانتقام من لدن الرب ويترقب الرب خطاياه. اغفر لقريبك ظلمه لك فاذا تضرعت تمحى خطاياك. ايحقد انسان على انسان ثم يلتمس من الرب الشفاء. ام لا يرحم انسانا مثله ثم يستغفر عن خطاياه. ان امسك الحقد وهو بشر فمن يكفر خطاياه} سير1:28-5. ينبغي أن نغفر لأخينا. ويوضَح المثل الذي ضربه المسيح عن الغريم القاسي (متى 18: 23- 35) مشدداً على هذه الحقيقة { فانه ان غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم ايضا ابوكم السماوي. وان لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم ابوكم ايضا زلاتكم. (متى 6: 14- 15)، ولكي لا ننسى ذلك طلب منّا السيد أن نردّدها كل يوم في الصلاة الربانية، إذ ينبغي لنا أن نكون في حال تمكّننا من القول إننا نغفر. وبهذا الإقرار الذي ترتبط به طلبتنا، بكون صفحنا لأخوتنا شرطاً لطلب الغفران الإلهي (لوقا 11: 4)، ومرة أخرى، بلفظ "كما" الذي يحدد مقياس هذا الغفران (متى 6: 12). بل يذهب إلى ما هو أبعد من هذا اذ يقدم لنا مثلاً أعلى للرحمة { بل احبوا اعداءكم واحسنوا واقرضوا وانتم لا ترجون شيئا فيكون اجركم عظيما وتكونوا بني العلي فانه منعم على غير الشاكرين والاشرار.فكونوا رحماء كما ان اباكم ايضا رحيم} (لوقا 6: 35- 36) ان الذين صار الله أباً لهم عليهم أن يقتدوا به حتى يكونوا أبناءه حقاً (متى 5: 43- 45 و48). فالغفران ليس شرطاً سابقاً للحياة الجديدة فقط ، بل هو ركن من أركانها الأساسية. ولذلك يفرض يسوع على بطرس ألا يمل من الغفران، على عكس ما يفعل الخاطئ الذي يصل إلى تجاوز كلّ حد في انتقامه (مت 18: 21- 22،)، واقتداء بالرب (لو 3: 34).لقد أستشهد القديس استفانوس وهو يغفر لراجميه (أعمال 7: 60). وحتى يتمثل المسيحي بمعلمه في مقاومة الشر بالخير{ لا تنتقموا لانفسكم ايها الاحباء بل اعطوا مكانا للغضب لانه مكتوب لي النقمة انا اجازي يقول الرب. فان جاع عدوك فاطعمه وان عطش فاسقه لانك ان فعلت هذا تجمع جمر نار على راسه. لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير} (رو 19:12- 21)، ، يجب علينا أن نغفر دائماً، ونغفر بدافع المحبة أسوة بالمسيح { محتملين بعضكم بعضا ومسامحين بعضكم بعضا ان كان لاحد على احد شكوى كما غفر لكم المسيح هكذا انتم ايضا} (كو 3: 13) .
صفات التسامح والغفران
من كل القلب: يقول البعض أنا مستعد أن أصفح عن كل أخطاء خصمي، ولكن بعد فترة وجيزة أو بمجرد أن يخطىء إليه أخوه يتذكَّر كل الماضي و يبدأ بشنّ حرباً جديدة عليه. ليست هذه المسامحة المقصودة. ولكن كما قال السيد الرب بأنه لا يعود يذكر خطاياهم فيما بعد { انا انا هو الماحي ذنوبك لاجل نفسي وخطاياك لا اذكرها }(اش 43 : 25) .إذاً عليك أن تطرح كل خطايا أخيك في أعماق النسيان، وتنزعها من كل قلبك، و تذكر وصية المسيح الثمينة {لأننا نحن أيضاً نغفر لكل من يخطا إلينا}(لو 11: 4).
عن كل الأخطاء.. ربما تقول انا أسامح أخي باستثناء خطية معينة لا أنساها ما حييت. اسمع قول المسيح الجميل {بل إلى سبعين مرة سبع مرات} فإن كنت لا تستطيع أن تسامح أخاك، كيف تطلب من الله أن يصفح لك عن كل آثامك وخطاياك. فلنتذكر قول الرسول بولس إلى اهل كولوسي 2: 13 مشيراً إلى عمل المسيح على الصليب {مسامحاً لكم بجميع الخطايا}.
الغفران يشمل الكل .. أننا اعتدتنا أن نسامح الذي يسيء إلينا بشرط أن يكون قريبنا أو صديقنا فقط. من لكن يجب ان لا نكون متعصبين، بل ان نتبع تعاليم السيد المسيح ونسمعه وهو يكلمنا {اغفروا يُغفر لكم} (لو 6: 37). و أيضاً {إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يَغفر لكم} (مت 6: 15). لم يخص الإنجيل فئة معينة الناس، ولكن كل الناس على سواء ـ ولو أنهم أعداء ـ كما فعل ذلك المسيح على الصليب. ويكتب الرسول بولس إلى أهل أفسس {متسامحين كما سامحكم المسيح} فإن كان الله يحب الكل ويشرق شمسه على الأبرار و الأشرار فكيف نفرّق نحن ونسامح البعض ونترك البعض الآخر؟
علامات التسامح والغفران ..
ترك الماضي: أولى علامات التسامح هي التعاون مع من أساء إليك في إنجاز العمل، ولا يمكنك ذلك إن لم تترك ما حدث و تبدأ من جديد حتي تكون الخميرة جيدة و البذرة نقية.
المحبة.. لا شك عندما تهرب البغضاء تحلّ محلها المحبة الكاملة من القلب الطاهر، و كما يقول البعض: إن أعظم محبة هي تلك التي تكون بعد التسامح. فإن كنت تشعر بالمحبة الحقيقية نحو "خصمك السابق"، فتلك علامة أكيدة للمغفرة و التسامح. فالإنسان الذي لا يحب لا يغفر للآخرين فلا يظن ذلك الإنسان إنه ينال غفراناً من الله لأن الله محبة، أما المرأة الخاطئة التى اتت الي السيد المسيح فقد عبرت عن محبة قوية لله وأحبت كثيراً فغُفرَت خطاياها الكثيرة.
الصلاة.. بمجرد أن تصفح عن أخطاء الغير تجد نفسك تذكرهم في صلواتك اليومية. ولكي تحبّهم أكثر عليك أن تصلي من أجلهم ليعطيهم الرب حكمة فتُظهر أمام الله نقاوة قلبك. ويقول الرب في سفر الخروج 35 :5 إن الذي يتقدَّم بتقدمة أمام الرب يكون سموح القلب أي قلبه نقياً طاهراً دون خصام.
بركات التسامح...
حياة الفرح... عندما يسيء إليّ إنسان و أذهب إليه و أعاتبه و أصلي من أجله، أجد نفسي ممتلئاً بفرح تام لأنني أطرح ثقلاً عن كاهلي قد ألقيته على ربي فأفرح.
حياة السلام.. كلنا يعلم أن العالم يتطاحن من أجل السلام.. و لكن هيهات. لا يحلّ السلام إلا إذا صفح كل واحد عن زلة أخيه. وإني أنصحك أن تجرب هذا و لو مرة فستجد عمق السلام الذي يملأ قلبك.
راحة الضمير... هل تعلم لماذا يعيش الكثيرين حياة القلق؟ ان كان ذلك لاسباب عده فان من اهمها لأنهم لم يتعلموا التسامح مع الآخرين، ان الله الساكن في قلوبنا يخاطبنا ويطلب منا أن نسامح فلانا عن الإساءة الموجهة منه، ولكن نرفض بشدَّة فنتحمَّل عدم راحة الضمير. ولكي نعيش براحة ضمير، وننعم بالبركات الجزيلة علينا الإصغاء إلى الصوت الذي يناجي ضميرنا ويقول " اغفر لكل من يذنب إليك"، فننال الفرح والسلام وراحة الضمير.
ان نعمة المسيح هي وحدها القادرة أن تُدخِل في قلوبنا روح التسامح والمغفرة، لأن المسيح حينما أخلى نفسه ووضع ذاته، استطاع أن يهبنا عطية الخلاص ويُطهِّر قلوبنا . فبنعمة المسيح هذه سننال الحرية والنصرة على مشاعر عدم المغفرة {تعالوا إليَّ يا جميع المُتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أُريحكم} مت 11: 28 . أفليست الراحة هي التي نشتاق إليها، حينما تتثقَّل قلوبنا بعذاب روح عدم المغفرة؟ {إن اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويُطهِّرنا من كل إثم} فلماذا لا نتجرَّأ وندعو المسيح ليدخل إلى ما داخل قلوبنا؟ لذلك ها هي أمامنا الدعوة أن نُلقي بكل أحمالنا عليه، ليُريحنا .
القمص إفرايم الأنبا بيشوى
المزيد
01 نوفمبر 2021
نِهَايَةُ العُمْرِ
نهاية عمرنا هي نقطة بدايتنا نحو الأبد، وبدون استعدادنا للرحيل لا يكون لحياتنا معنى، ذلك هو ما سهر لإعداده الساهرون؛ كي يُعدوا للحظة خروجهم (عُريانًا خرجتُ من بطن أمي؛ عُريانًا أعودُ إلى هناك). فالموت أقرب إلينا مما نتصور؛ وطوبى لمن يقطر زيته ليوجد ساهرًا؛ ومصباح سراجه غير منطفئ؛ وساعته حاضرة أمامه؛ إذ ليس في القبر من يذكر ولا في الجحيم من يشكر.عمرنا كله أشبه بنفخة؛ وإيامنا تُحسب مثل ظل عابر... أشبه بشبر وعشب وظل.. إنها مجرد حُلم وبخار يظهر قليلاً ثم يضمحل. إنها نسمة الريح العابر؛ تدخل من نافذة وتخرج من أخرى. تنحصر بين شهقتي الولادة وخروج النفس من الجسد عند سكرة الموت، حياتنا تجري أيامها سريعة كالعَدَّاء وقد تعيَّن أَجَلُنا فلا نتجاوزه؛ مثل العشب أيامنا وكزهر الحقل تنحسر وتذبل... كالعنكبوت نسيجها وهي عابرة في خيمة تنقض، لا تثبت لها ثروة ولا تمتد لها مقتنيات، فقبل يومها تتوفى وسعفها لا يخضرّ؛ لأن صوت القائل ينادي (كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل. يَبَسَ العشب وذبل الزهر؛ لأن نفحة الرب هبَّت عليه، أمَّا كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد)، ولا أحد يستشير الموتى؛ لأن ذكرهم نسي. لذلك قيل عن نومنا بأنه رُقاد صغير؛ وتذوُّق مُسبَق للموت الذي أباده المخلص بقيامته وكسر شوكته، وهدمه بظهوره المحيي.. فمِن البدء خلقتني يارب؛ ومن العدم كوَّنتي وبصورتك الإلهية رسمتني؛ وكفخَّاري أعظم عُدت وعملتني وعاءًا آخر لمجدك... أعدت صياغتي وأصلحتني بيدك لتُرجعني إلى جمالك القديم، فعما قليل تفنى أيامي؛ وليس لي خلاص إلا برحمتك يا محب البشر الصالح، وضعتَ في نسمة الحياة.أوجدتني وجبلتَ نفسي حلوة سخية مروية وثمينة ومحفوظة؛ لأنك أنت لي مَرساة النفس واقتناؤها، فديتها بدمك الكريم، وتحفظها بسياج أسرارك الإلهية غير المائتة.. تنجيها من الفخ يا منجي النفوس؛ لتدرك تدابيرك وتميز الأمور المتخالفة، وما هو لخيرها وخلاصها وزمان افتقادها، فتمتحن الحق البعيد عن كل خداع وصغار، محترزة من كل خواء وخراب وتراخي الهلاك، عارفة مشيئتك؛ غير عاملة مشيئات الباطل، سالكة في جدة الحياة الذي لحرية مجد أولاد الله، مبقية الله أساس معرفتها لتثمر وتزهر وتعبد بجدة الروح؛ لا بعتق الحرف، فاعلة كل مايليق برضاك إلى النفس الأخير، عندئذٍ تموت موت الأبرار وتكون آخرتها كآخرتهم، وتصير أواخرنا أفضل من أوائلنا ( مت ١٢ : ٤٥).
القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج
المزيد
31 أكتوبر 2021
الخادم وكلمة الله (1)
الخادم هو تلميذ أمين للكتاب المقدس، ويتلذّذ بالكلمة، ويعكف على قراءتها ودراساتها، وله جلسات طويله في نورها ومحبتها، وهذا ما يدفعه إلى كثرة الحديث بها وعنها...وإن كان الكتاب المقدس ضروري لأي إنسان، فبالأولى كثيرًا لكل خادم وخادمة، فهو يحيا بها قبل أن يقدمها للآخرين، ويلهج بها نهارًا وليلًا، فهي سراج للأرجل وزاد للطريق ونور للسبيل.وجد معلمنا داود الكلام كالشهد فأكله وتلذّذ به، وصار يبتهج به أكثر من الغنائم الكثيرة، وصارت الكلمة مصدرًا للتوبة والمشورة والتعزية والتقديس.هكذا الكلمة بالنسبة للخادم، يجب أن تكون هي الدافع الأكبر للتوبة والتغيير والتقديس الداخلي، وحين تثمر في داخله تخرج لتنادي وتكرز بالتوبة والتقديس للآخرين.من أخطر دوافع الخطية والابتعاد عن الله هو الابتعاد عن كلمته، كما قال القديس جيروم: "الجهل بالإنجيل هو علّة جميع الشرور".رأينا ذلك بوضوح في تاريخ شعب الله حيث كانت فترات الضعف هي فترات الابتعاد عن الشريعة وتركها..صنع الله بيوشيا الملك حركة إصلاح في الشعب حين وجدوا سفر الشريعة في بيت الرب بعد أن كانت مهملة وغير معروفة منذ أيام صموئيل النبي.وأحضرها يوشيا وأخذ يسمع.. وقيل عنه «ولما سمع الكلام مزّق ثيابه» (وهذا يعلن لنا مقدار تأثير الكلمة وسلطانها)، ولما رأى الله أنه تواضع أمامه ورقّ قلبه ومزق ثيابه وبكى، قال: قد سمعت أنا أيضًا (2أخ27: 34)، وبدأت حركة الإصلاح بالشريعة.وكذلك أيضًا أيام يهوشافاط الذي اجتهد أن يصلح الشعب بالشريعة، فأرسل الكهنة ومعهم سفر شريعة الرب وجالوا في جميع مدن يهوذا وعلموا الشعب. ليت كل خادم يُقال عنه ما قاله يهوشافاط الملك عن أليشع النبي «عنده كلام الرب» (2مل12: 3)، فالخادم يُعَد مستودعًا وخزانة لكلمة الله، يخرجها من قلبه وعقله، فتبهج نفس السامع وتذيب القلب وتغير الحياة.وما أروع ما قام به عزرا الكاتب الذي هيّأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلّم إسرائيل فريضة وقضاءً، ولأن الشعب كان قد نسي الشريعة وسلكوا بحسب أهوائهم، واختلطوا بالشعوب الغريبة وسلكوا بحسب عوائدهم، ولكن حين قرأ عليهم الشريعة أجابوا: آمين آمين، رافعين أيديهم، وخرّوا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض، وبكوا وصاموا ولبسوا مسوح وجلسوا في التراب، وكانت النتيجة المفرحة أن انفصل نسل إسرائيل من جميع بني الغرباء، واعترفوا بخطاياهم وذنوب آبائهم، وقطعوا عهدًا مقدسًا، وقالوا: كما كلمتنا هكذا نفعل، وطردوا النساء الغريبة. وهذا يعلن لنا مقدار تأثير كلمة الله، وقد فعلت ما يعجز عنه أي نبي أو كاهن أو كارز، فهي القادرة على قطع قيود الشر ونقل الحياة من سلطان الظلمة وقيود الخطية إلى حرية مجد أولاد الله، فسلطانها وصل إلى حد طرد الزوجات الغريبات.فلنتعلق بها ونثق في تأثيرها، فهي وحدها القادرة على فعل ما عجزنا ونعجز عنه...وللحديث بقية.
القمص أنطونيوس فهمى - كنيسة القديسين مارجرجس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد
30 أكتوبر 2021
لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا ج1
1- «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا أَنَّ آبَاءَنَا جَمِيعَهُمْ كَانُوا تَحْتَ السَّحَابَةِ، وَجَمِيعَهُمُ اجْتَازُوا فِي الْبَحْرِ، وَجَمِيعَهُمُ اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ» (1كو10: 1).
2- «وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا» (1كو12: 1).
3- «لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ» (1تس4: 13).
4- «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هذَا السِّرَّ، لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ. أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ» (رو11: 25).
5- «لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَارًا كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ، وَمُنِعْتُ حَتَّى الآنَ، لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ» (رو1: 13).
أولاً: حذر القديس بولس الأخوة من الجهل بهذه الأمور الخمسة. وحذر أيضًا من نتائج هذا الجهل بهذه الأمور. فالواجب يحتم على كلّ إنسان مسيحي أن يكون على علم واستنارة، ويمحو الجهل بالتعليم والتبصُّر في هذه الأمور، ومن دراسة روحية جادة لكلمة الله وتقليد الآباء الذين علّمونا وسلّمونا.
حذر القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، الأصحاح العاشر، من الجهل بالمكتوب في الكتب المقدسة في العهد القديم «لأنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا»، (رو15: 4)، وكذلك بطرس الرسول «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (2بط1: 21).
وكلّ الأحداث في كلّ الأزمنة ومعاملات الله، وتدبيره من أجل الخلاص، كلّ هذا متضمَّن في المكتوب. وكلّ مواعيد الله وكلّ رموز الخلاص وكلّ فكر الله تحويه الكتب المقدسة.
فماذا إذا جَهَلَ الإنسان كلّ ذلك؟ يكون كأنه يُهمل الخلاص الذي تنبأ عنه الآباء والأنبياء، وكشفوا للمؤمن كنوز العهد القديم، وأسهبوا في التأمُّل في الأحداث والأشخاص مثل إبراهيم واسحق ويعقوب وداود.. وتركوا تراثهم الذي تعتزّ به الكنيسة، محفوظًا في خزائنها إلى يوم مجيء الربّ.
فماذا إذا كان أحد يجهل كلّ هذا؟ ويكفي أن نقرأ مَطلَع الرسالة إلى أهل رومية: «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولاً، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِ، الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ...» أو ما كتبه الإنجيليّون عن عمل الخلاص الذى صنعه الرب بتجسده وخدمته وصلبه وقيامته، وكيف كرروا القول «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ... لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ فِي الأَنْبِيَاءِ».
ليكن هذا الدرس نافعًا لحياتنا وخلاص أنفسنا. لذلك يجب أن ندرِس العهد القديم، ليس مجرد دراسة عقلانيّة، أو تحليل ودراسة شخصيات أو تاريخ أناس وأحداث. بل لاستلهام الروح وإدراك الكُتُب المقدّسة التي تُحَكِّم الإنسان للخلاص كقول الرسول.
والعيّنة التى اختارها الرسول بولس في هذه الآيات، هي عمل الله العظيم في خلاص شعبه من العبوديّة القاسية في أرض مصر. فلما سلَّط القديس بولس نور وجه يسوع على القديم، لمع ببريق يخطف الأبصار. فلما أنار على الظلّ انكشف العمل الإلهي من وراء الدهور، فالسحابة التي ظلّلت على الشعب العابر البحر الأحمر، مع سور الماء من اليمين واليسار، كانت بمثابة المعمودية المقدسة التي فصَلت بين العبودية والحرية، وبين أرض الغربة وأرض الميعاد.
جميعهم اعتمدوا لموسى. وجميعهم أكلوا طعامًا، هو المَنّ.. ولكن تحت نور وجه يسوع، عرفنا أنّ المَنّ كان طعامًا روحيًّا نازلاً من السماء.. وفي شخص المسيح يسوع تَجَسَّد المعنى الروحي في كماله المُطلَق، عندما قال الرب: «آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا... أنا هُوَ الْخُبْزُ (المن) النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ» (يو6: 48–51).. هو المن الحقيقي وخبز الحياة.
«وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا... مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ» (1كو10: 4). بالطبع لم يدرك أحد هذا المعنى أو الحقّ المُخفَى في الظلّ، كما قيل «شِبْهَ السَّمَاوِيَّاتِ وَظِلَّهَا» (عب8: 5). ولكن عندما تكلّم القديس بالروح بحسب درايته بسِرّ المسيح، أنار التدبير الإلهي الذي يعجز البشر عن إدراكه.
على هذا النحو قرأت الكنيسة العهد القديم، وسار آباء الكنيسة العظام: مثل القديس كيرلس الكبير، والقديس اثناسيوس الرسولى، وآباء البرية العظام: أنطونيوس ومكاريوس، ساروا على نفس الدرب.
ثانيًا: أمّا من جهة الراقدين بالرب، فكان الأمر مختلِطًا على المؤمنين في البداية، وكانوا في احتياجٍ إلى المعرفة الحقيقيّة المستمَدَّة من الإيمان بالمسيح، فقد كانوا في لهفة الانتظار لمجيء المسيح الثاني، وظهوره المخوف والمملوء مجدًا، حتّى أنّهم كانوا يتوقّعونه كلّ يوم.
وقد كتب لهم الرسول «أَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الارْتِدَادُ أَوَّلاً» (2تس2: 3). وكانوا يتساءلون فيما بينهم: ماذا عن النفوس التي رقدَت في أيامهم قبل مجيء الرب؟ فأراد أن يوضح لهم حقيقة الأمر، لكي لا يحزنوا على الذين رقدوا في الرب، حُزن غير المؤمنين الذين ليس لهم رجاء القيامة. وهكذا شرح لهم أنهم أعضاء جسد المسيح، وهم الآن ينتظرون مجد ظهوره، وفي مجيئه الثاني سيُحضرهم الربّ معه، فهم وإن سبقونا ولكنهم في المسيح يحيون، وعلى رجاء القيامة رقدوا.
ومن جهة القيامة، فإنّ قيامة ربنا يسوع من الأموات وكسرِهِ شوكة الموت، هي الركيزة التي نتمسّك بها. فإن كان المسيح قد قام من الأموات بقوّة واقتدار، فإنّ الراقدين في يسوع سيقومون بقيامته.
وقد كَتَبَ القديس بولس لأهل رومية عن روح القيامة، الذي نُلناه قائلاً: «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ» (8: 11). هكذا نبّه القديس بولس المؤمنين أن لا يجهلوا هذا الأمر. لأنّ بدون هذا الرجاء، يصير الإنسان في رعبة الموت وفقدان الأمل، ويَحسِب أنّ الموت هو النهاية الأسيفة، ويحزن ولا عزاء.
(يُتّبَع)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
29 أكتوبر 2021
مَثَــل عُـرس ابن الملك ج1
«وَجَعَلَ يَسُوعُ يُكَلِّمُهُمْ أَيْضًا بِأَمْثَالٍ قَائِلًا: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا صَنَعَ عُرْسًا لِٱبْنِهِ، وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا ٱلْمَدْعُوِّينَ إِلَى ٱلْعُرْسِ، فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا. فَأَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ قَائِلًا: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى ٱلْعُرْسِ! وَلَكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ، وَٱلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ ٱلْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا ٱلْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ، وَأَمَّا ٱلْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَٱذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ ٱلطُّرُقِ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَٱدْعُوهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدُ إِلَى ٱلطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ ٱلَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَارًا وَصَالِحِينَ. فَٱمْتَلَأَ ٱلْعُرْسُ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ ٱلْمَلِكُ لِيَنْظُرَ ٱلْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لِبَاسَ ٱلْعُرْسِ. فَقَالَ لَهُ: يا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ ٱلْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. حِينَئِذٍ قَالَ ٱلْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ٱرْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَٱطْرَحُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلْأَسْنَانِ. لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ» (مت22: 1–14).
ملكوتك يا إلهي الذي أعدَدْتَهُ لمختاريك ودعوتَ إليه أحباءك، هو عُرسٌ حقيقيٌّ وفرح لا يُنطَق به. هو حفل أبدي، حيث العريس الحقيقي هو ابن الآب، بالحقّ والمحبّة.. حين تزفّ عروسك الحقيقيّة التي اقتنيتها لنفسك وبذلت ذاتك لأجلها.. أورشليم السمائية كما رآها عبدك يوحنا «نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا (للعريس السماوي)» (رؤ21: 2).ما أبهاه من فرح.. ما لا يخطر على بال الناس.. فرح لا يُعبَّر عنه بلُغة بشريّة.
أنت قدّستَ كلّ شيء، وهيّأتَ الكلّ قبل كون العالم لنعيم أولادك وشركة الحياة الأبدية.. وأرسلت عبيدك الأنبياء ينادون المدعوّين كي يلبّوا دعوة حبّك يا سيّدي.
يا حسرتي، حينما أسمع أنّ البعض توانَى عن الدعوة التي دُعِيَ إليها، يجوز في نفسي شعور بالأسى كلما أتذكّر التواني والكسل والاهمال وعدم المبالاة بدعوة حبّك وشركة أسرار فرحك.ماذا كان يدور في خَلَدي في تلك الأوقات؟.. أهو عدم إدراك حقيقي للدعوة؟..أم هو انشغال بالباطل؟.. أم هي أعذار واهية بلا مبرّر؟.. أم هي طبيعتي الترابية متمسّكة بالأرضيات غير ناظرة إلى فوق؟!!
حين أفكّر فيمن اعتَذَرَ بأنّه اشترى بَقَرًا، وهو ماض ليمتحنها بعد أن اشتراها، أو من ارتبط بزواج جسداني فكبَّله برباط الجسد، لا يقدر أن يتحلّل منه أو يتحرّك إلى السماويّات، إلى فوق.كلما جال بخاطري هؤلاء وأولئك أرجع إلى نفسي الشقيّة التي كثيرًا ما كان هذا هو حالها.. الآن يا سيدي كلمات هذا المثل توقِظ ضميري وتعيد إلى سمعي نداء قديسيك "هلمّوا إلى العرس".نعم يا سيدي.. «الرُّوحُ وَالْعَرُوسُ (الكنيسة) يَقُولاَنِ: تَعَالَ» (رؤ22: 17).. أحضانك فتحتها على الصليب للقبول بالمحبّة الأبديّة.. من يدخُل إليك يدخل إلى الفرح الأبدي.. صليبك هو ذبيحة الحبّ، والعشاء في السماء هو «عَشَاءِ الْخَرُوفِ القَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ... لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ» أبيك وأقمتنا فيك (رؤ5: 6، 9 و19: 9).أتوسّل إليك يا سيدي.. ألاّ تحرم نفسي من دسم مائدة فرحك التي أخذتُ عربونها هنا على الأرض باشتراكي في ذبيحة القداس، إلى أن يكمُل الفرح بالدخول الحقيقي إلى السماويّات عينها.
لا يعرِف هذا الفرح إلاّ الذي يدخُل إليه يا سيّدي، حين يَسمَع صوتك الإلهي يقول له شخصيًّا: «اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت25: 23).
أدخِلني إلى الفرح، وعَزِّ نفسي في غُربة هذا العالم التي يشوبها الكَدَر دائمًا.. أدخِلني إلى داخل ولا تطرحني خارجًا.. أدخلني كدخول العذارى إلى الخدر السمائي حيث عريس نفسي.خارجًا ظلمة ومرارة نفس.. بكاء وصرير أسنان.. دعني أحتمي فيك يا سيّدي.. وحين تضمّني ذراعاك أكون داخل الفرح الحقيقي، وأمان وسلام النفس.
الذين حَرموا أنفسهم من حبّك، وفرح بيتك، بانحراف إرادتهم، كمَن رفضوك مَلِكًا عليهم. وأهانوا رسلك واحتقروا كلمات دعوة حبّك.. هؤلاء قال الملك إنّهم غير مستحقين ولا مستأهلين للكرامة.. فأحرق مدينتهم وحكم عليهم بحسب عدله، أنّهم لا يذوقون عشاءه، ولا يرون مجد الفرح، بل صار نصيبهم في الخزي، إذ جلبوه على أنفسهم جزاء انحراف إرادتهم.أمّا العُرس فمُعَدّ وأما المدعوّون فلم يكونوا مستحقين.. والآن ماذا يا سيّدي.. إنّ قلبي وعقلي يتوه حين أسمع أمرك لعبيدك أن ينادوا مناداة الكرم الإلهي للذين في الطرقات عابري السبيل، بل وللذين قضوا العمر عند الأسوار (السياجات)، كمَن ليس لهم أحد يذكُرهم أو يعتبرهم.. هؤلاء وأولئك لم يكن لهم اعتبار، ولا اسم، ولا مركز، ولا شكل ولا قيمة.. وأين هم من دعوة ملك الملوك وحفل عرس ابنه الحبيب؟
هؤلاء المساكين انفتحت أمامهم أبواب السماء فجأة وبلا مقدمات، وبلغتهم البشارة المفرحة الفائقة للعقل.. هلّموا إلى العرس إنّ عبدك المسكين يا سيّدي، هو أحد هؤلاء.. الدعوة لا يصدّقها العقل.. أنا! أنا مدعوٌّ إلى العرس السمائي؟ هل هذا يُصدَّق؟!
نعم يا سيّدي الربّ، أنا أعرف أنّ وعودك هي بلا ندامة.. اِجعل في قلبي وعقلي ثِقة في كلمتك، وصدق لمواعيدك ودعوتك.. أنا فعلاً بنعمتك مدعوٌّ إلى العرس الأبدي.. أنا غير مستحقّ ولا مُستأهل.. مَن أنا حتّى أجلس إلى مائدة الملك؟!.. عندما تغمرني بلطفك ولُجج حبّك تتدفّق بسخاء النعم العجيبة، أشعر بحقارة نفسي بالأكثر. يا سيّدي الرب.. إذا دُعِيَ إنسانٌ من عامّة الشعب إلى مجالسة ملك أرضي أو رئيس من رؤساء العالم، فإنّ الدنيا كلّها تتحدّث عن هذا الأمر الفائق.. فكم إذا دُعِيَ «الْمَسَاكِينَ، الْجُدْعَ، الْعُرْجَ، الْعُمْيَ» (لو14: 13) بحسب مقياس الروح. والمعتبَرين أنّهم عادمي كلّ خير وكلّ صلاح.. أخطى الخطاة.. يُدعَوْن إلى ميراثك الأبدي وفرح عُرس السماء؟
ثبِّتْ دعوتك وسمِّرها في أعماقي لكي أسلُك بحسب دعوتك إليّ أن أبلغ أعتاب السماء يا سيّدي الرب.
(يُتّبَع)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
28 أكتوبر 2021
شخصيات الكتاب المقدس حزقيال
حزقيال
" فجئت إلى المسبيين عند تل أبيب الساكنين عند نهر خابور وحيث سكنوا هناك سكنت "حز 3: 15
مقدمة
كان فرانك جانسيليوس، راعياً لإحدى الكنائس الكبرى فى مدينة شيكاغو، وفى يوم أحد وهو يستعد للخدمة، إنسابت الدموع من عينيه، وهو يطل على حى الفقراء البائسين فى المدينة، وقد بدت بيوتهم أكواخاً تنبئ عن الفقر العميق والبؤس المضنى، ونسى والدموع الغزيرة تهطل منه، أنه يتأهب للخدمة، ودخل عليه فى تلك اللحظة شماس الكنيسة، وقد روعه المنظر، فقال له: إن الساعة الآن قد تجاوزت الحادية عشر يا سيدى، وهو الوقت الذى يلزم أن تصعد فيه إلى المنبر..، وقال الراعى: أشكرك لأنك نبهتنى إلى ذلك، وقد كدت أنساه!!؟. وقال له الشماس: ولكن لماذا تبكى؟،... فقال الراعى العطوف: لقد جلست أنظر إلِى هذه الأكواخ، وما من شك أن حياة من فيها، مخيفة ومفزعة،... فقال الشماس: نعم هذه حقيقة قاسية، ولكن هون عليك الأمر، فبعد فترة من الزمن ستعتاد هذا المنظر!!.. وقال الراعى بألم وحزن: وهذا هو ما يدعونى إلى البكاء..!!.عندما ذهب حزقيال إلى المسبيين فى تل أبيب، عند نهر خابور، جلس بينهم صامتاً متحيراً سبعة أيام، كما صمت أصدقاء أيوب، وهم يتطلعون إلى نكبته المهولة،... وهناك عاش حياتهم المعذبة، وأدرك رسالته فى السبى، لقد وقعت هذه الرسالة، من الوجهة الزمنية بين إرميا ودانيال،... وكانت من الواجهة النفسية والروحية، فى قلب المأساة وصميمها!! وكان هذا صليب الرجل، حتى جاء المسيح ينادى كل واحد أن يحمل صليبه، ويتبعه،.. حمل حزقيال صليبه القاسى، كأشجع وأنبل ما يكون، يسير فى طريق الأشواك والآلام فى الأرض!!.. وأضحى مثلا رائعاً للراعى الذى ينحنى على آلام شعبه وتعاساتهم ويحملها معهم ويرفع أمامهم مصباح النور والرجاء فى أحلك لياليهم!!.. هل لنا كرعاة ومؤمنين أن نتعلم درساً رفيعاً من المعونة والموآساة، فى قصة الرجل المسبى القديم؟
حزقيال ومن هو!!؟
الاسم حزقيال معناه « الرب يقوى »، وقد كان كاهناً من سبط لاوى، ويعد من أعظم الأنبياء الذين ظهروا فى العهد القديم، وقد دعى للنبوة فى السنة الثلاثين، ويعتقد البعض أن هذا التاريخ إشارة إلى السنة التى قام فيها نبو بولاصر بتحرير بابل من سلطان آشور، أى أنها محسوبة من تاريخ تحرير بابل.. وإن كان آخرون يعتقدون أنها السنة الثلاثون من حياته، باعتبار أن الكاهن يبدأ عمله فى الثلاثين من عمره، وعلى أية حال، فمن المرجح أنه بدأ النبوة عام 395 ق.م. إذ أنه كان واحداً من المسبيين الذين سبوا مع الملك يهوياكين عام 895 ق. م. وربما كان فى الخامسة والعشرين من عمره فى ذلك الوقت،... ولعله من اللازم أن نشير إلى الأحداث التى أحاطت به فى ذلك التاريخ، وهذا يقتضينا العودة إلى الوراء قليلا إلى أيام يهوياقيم الملك الذى عمل الشر فى عينى الرب، فأنهض عليه نبوخذ ناصر ملك بابل، الذى استعبده ثلاث سنوات، وإذ حاول التمرد أرسل إليه الغزاة التابعين له لتحطيمه وإذلاله،... فمات وملك ابنه يهوياكين عوضاً عنه، وسار فى طريق الشر كما سار أبوه، غير أنه لم يبق فى ملكه أكثر من ثلاثة أشهر، إذ صعد نبوخذ ناصر إلى أورشليم، وسبى الملك، ومعه حزقيال، وأفضل الناس فى الأمة، وكان فى ذلك الوقت يبنى بابل، ويسخر فى بنائها أفضل الصناع والعمال،.. وقد بقى يهوياكين سجيناً ستة وثلاثين عاماً طوال حكم نبوخذ ناصر، حتى جاء أويل مرودخ فأخرجه من السجن وكلمه بخير وجعل كرسيه فوق كراسى الملوك الذين معه فى بابل... ووفى خلال هذه الفترة تمرد الملك صدقيا على نبوخذ ناصر، فعاد إلى أورشليم وخربها ودمر الهيكل، بعد أحد عشر عاماً من غزوها السابق حوالى 587 ق.م.ولعله من الازم أن نعرف أن حزقيال، وإن كان قد ذهب إلى السبى، لكن رسالته ونبوته كانت لإسرائيل كله، والشطر الأول من النبوة يتجه فى أغلبه، حتى الأصحاح الرابع والعشرين، إلى التهديد والوعيد، قبل أن تدمر أورشليم والهيكل التدمير الرهيب وتأتى أفواج أخرى من المسبيين إلى بابل، واتسمت النبوة فى الشطر الثانى، إلى آخر الأصحاح الثامن والأربعين، بالرجاء والأمل لشعب مسحوق، طحنه الغزو، وسيبقى فى أسره المدة سبعين سنة كاملة، وأغلب الظن أن حزقيال عاش النصف الأول من هذه المدة، كالراعى الذى يخدم بين البؤساء والمطحونين والمعذبين، بما تحفل به حياتهم من الضياع والقسوة واللامبالاة والأنانية وفقدان الرؤية والانتهازية واليأس، فإذا جاز لنا أن نتصور الشعوب المغلوبة على أمرها فى أعقاب الحروب، وقد قسا عليها الاستعباد والجوع والعرى والحاجة والألم والتشريد، فلنا أن نتصور حزقيال بين المسبيين، ورسالته بينهم!!.كان ولا شك، محباً عظيماً لشعبه ومواطنيه وبلاده، وكانت آلامهم آلامه، وعذاباتهم تملأ قلبه ومشاعره، وكان صورة للراعى المحب الذى قال له الرب: « يا ابن آدم ها أنذا آخذ عنك شهوة عينيك بضربة فلا تنح ولا تبك ولا تنزل دموعك، تنهد ساكناً. لا تعمل مناحة على أموات. لف عصابتك عليك واجعل نعليك فى رجليك ولا تغط شاربيك ولا تأكل من خبز الناس. فكلمت الشعب صباحاً وماتت زوجتى مساء. وفعلت فى الغد كما أمرت » " حز 24: 15 - 18 "... كانت وفاة زوجته الفجائية آية ومثلا لبنى إسرائيل، وإذ توفيت، ذهب إلى رسالته بقلب مكسور، ولكن بغرض غير مكسور،... كان أشبه من هذا الجانب بوليم الصامت الذى لا يتكلم، ولكنه أحب هولندا وآلامها حباً يفوق الوصف، وجاء عنه: « لقد سار فى الحياة يحمل آلام شعبه على كتفيه بوجه مبتسم، كان اسمهم آخر ما تردد على شفتيه، وقد أسلم نفسه، فى ضجعة الموت فى يقين الجندى الذي عاش من أجل البر طوال حياته، بين يدى قائده الأعظم المسيح، وكان الشعب متحمساً ووفياً له إذ وثق به ودعاه الأب وليم، ولم تستطع كل غيوم الدسائس التى تجمعت، أن تطفىء من عيونهم بريق الثقة فى عقله الرفيع، إذ كانوا يتطلعون إليه فى أحلك المآسى والليالى، ولقد كان طوال حياته النجم الهادى لأمة شجاعة، وعندما مات كان الأطفال يصرخون فى الشوارع »... على أن حزقيال لم ينس قط أن السبى لشعبه وأمته جاء نتيجة الشر والخطية، وقد ظهرت هذه الخطية واضحة فى حياة المسبيين، التى امتلأت بالشرور، كما أشرنا، أو كما وصفهم اللّه له، قائلا: « يا ابن آدم إنا مرسلك إلى بنى إسرائيل إلى إمة متمردة قد تمردت علىّ. هم وآباؤهم عصوا على إلى ذات هذا اليوم والبنون القساة الوجوه والصلاب القلوب أنا مرسلك إليهم... لأنهم قريس وسلاء لديك وأنت ساكن بين العقارب. من كلامهم لا تخف ومن وجوهم لا ترتعب لأنهم بيت متمرد » " حز 2: 3 و4 و6 " وما أقسى أن يخدم إنسان بين جماعات القريس، والسلاء، والعقارب، فالقريس هو ذلك العشب البرى الخشن الذى ينبت مكان الأزهار والأشجار المثمرة، أو هو الحقل المجدب الذى لا ثمر فيه أو إنتاج... وهو، أكثر من ذلك، الحقل الممتلئ بالأشواك،.« والسلاء » الحقل الذى لا يصلح فيه الكفاح العادى بل يحتاج إلى المزيد من الجهد والعرق والتعب،... وإلى جانب هذا كله هو الحقل المؤذى « وأنت ساكن بين العقارب » وهنا الخطر، بل الطامة الكبرى... ويمكن أن نتصور هذا كله فى كنيسة ما، تمتلئ بالقريس أو بمن لا يعملون، وإذا كان لهم من عمل فهم سلاء لا هم لهم إلا زرع الأشواك والمتاعب، ويتحولون مع الأيام، يدرون أو لا يدرون، إلى عقارب تلذع وتضر!!.كان حزقيال محباً عظيماً، لكنه فى الوقت نفسه، مع جماعات كهذه الجماعات، لم يكن قصبة تهزها الريح، بل كان صلباً فولاذياً يواجه صلابتهم وشدتهم، ولا شبهة فى أنه كان يملك إرادة جديدية، وشجاعة خارقة لا تنحنى أو تنثنى، وقد صنعه اللّّه هكذا: « ها أنذا قد جعلت وجهك صلباً مثل وجوههم، وجبهتك صلبة مثل جباههم. قد جعلتك جبهتك كالماس أصلب من الصوان فلا تخفهم ولا ترتعب من وجوههم لأنهم بيت متمرد » " حز 3: 8 و9 "..وكان حزقيال أيضاً بليغاً فصيح البيان، ومع أن رسالته كانت فى مطلعها كالسوط اللاذع، إلا أنها بعد دمار أورشليم، اتسمت بالرجاء والأمل، واكتسبت حلاوة وجاذبية، أسرت آذان السامعين، وإن كانت أبعد من أن تمتلك قلوبهم التى شغلت بحب المكسب، شأن اليهود إلى اليوم فى العالم كله: « ويأتون إليك كما يأتى الشعب ويجلسون أمامك كشعبى ويسمعون كلامك ولا يعملون به لأنهم بأفواههم يظهرون أشواقاً وقلبهم ذاهب وراء كسبهم. وها إنت لهم كشعر أشواق الجميل الصوت يحسن العزف فيسمعون كلامك ولا يعملون به. وإذا جاء هذا. لأنه يأتى. فيعلمون أن نبياً كان فى وسطهم » " حز 33: 31 - 33 "!!..ومن الواضح أن حزقيال أيضاً كان الرجل الواسع الخيال، القادر على استخدام المجاز والرموز والأمثال فى تأدية رسالته، وقد وصفه جورج ماثيسون قائلا: « لكى تفهم إنساناً، إعرف مثله العليا بين الناس ». وقد كان أبطال حزقيال فى نظره نوحا وأيوب ودانيال وهؤلاء الثلاثة فقدوا عالمهم، ولكن نوحاً أوجد عالماً جديداً، ورأى أيوب اللّه فى العاصفة، وصنع دانيال أشياء عظيمة لمواطنيه فى مكانه الجديد... وكان حزقيال مسبيا ولكنه فى السبى كان قوة هائلة رافعة لمواطنيه المسبيين!!..كان حزقيال رائياً عظيماً، والحاجة ماسة لرجال الرؤى فى أوقات الظلام، إذ أنهم يستطيعون اختراق الحجب، واكتشاف مالا يستطاع اكتشافه، وقد استطاع حزقيال تقوية موطنيه ببعث روح الرجاء والأمل فيهم... كان الرجل قريباً من اللّه، وكانت عليه يد الرب، وقد أسمعه الرب ما لم يستطيع غيره أن يسمعه، إذ أن أذنه كانت أرهف وأرق وأقوى سمعاً وقد كشف له الرب ما لم تستطع عيون الآخرين رؤياه، ومثل هؤلاء الرجال قوة هائلة فى لحظات المحن والمآسى والدموع.كان حزقيال فى جوهر رسالته رقيب الأمة ومرشدها، وكان لباب حديثه على الدوام: التوبة: « من أجل ذلك أقضى عليكم يا بيت إسرائيل كل واحد كطرقه يقول السيد الرب. توبوا وارجعو عن كل معاصيكم ولا يكون لكم الإثم مهلكة. إطرحوا عنكم كل معاصيكم التى عصيتم بها، واعملوا لأنفسكم قلباً جديداً وروحاً جديدة، فلماذا تموتون يابيت إسرائىل؟ لأنى لا أسر بموت من يموت يقول السيد الرب. فارجعوا واحيوا » "حز 18: 30 – 32 ".
حزقيال والفكر اللاهوتى فى سفره:-
ومع أنه ليس من السهل الإلمام بسفر حزقيال فى سرعة وعجالة، إلا أنه يحسن أن نمر بأهم أصحاحاته مروراً سريعاً، والسفر على الأغلب ينقسم إلى جزءين: أولهما قبل خراب أورشليم وتدميرها، والثانى بعد هذا الخراب، وكان القصد من الجزء الأول كشف الخطية، والتنبيه إلى عقابها الرهيب، وإذا لم يتب الشعب ويرجع إلى اللّه،... ولما لم تحدث التوبة، ووقعت الواقعة الرهيبة، وسوى نبوخذ ناصر أورشليم بالأرض التى أقيمت عليها، وحولها إلى أنقاض وخرائب، ودمر الهيكل تدميراً تاماً، إذل الشعب إذلالا رهيباً، وعلق المسبيون أعوادهم على الصفصاف فى بابل، وانقطع بينهم شدو الأغنية، واستبد بهم الحزن واليأس العميق، كان على حزقيال، كما سنرى، ان يخرجهم من بالوعة اليأس التى طوتهم، ويقيمهم على أقدامهم ليتطلعوا، فى أعماق الليلى، إلى النجم الذى يلمع بالرجاء فى وسط ماسيهم وأحزانهم!!... وكان حزقيال - كما أسلفنا الإشارة رائياً عظيماً، وها نحن نرى روأه فيما يلى:
حزقيال والرؤى الأولى:-
كان الدرس الأول الذى يحتاجه حزقيال والشعب، أن يدركو ا أن الله يسود ويحكم، وأنه ليس موجوداً فحسب فى أورشليم وإسرائيل، بل أنه أيضاً فى بابل وتل أبيب ونهر خابور، حيث يعيش المسبيون وكان لابد أن يظهر مجد اللّه بصورة جليلة ورهيبة فى أرض الضيق والشدة والتعب والمعاناة، وظهر الكروبين كإعلان عن هذا المجد الإلهى العظيم!!... والسؤال: من هم هؤلاء الكروبيم المرموز إليهم فى الكتاب بالخلائق الحية ذوى الوجوه الأربعة، وجوه الإنسان والأسد والثور والنسر؟؟ وقد اختلفت الأراء حولهم كثيراً،... فهناك من ذهب إلى أنهم يمثلون الحكمة الإلهية والقوة والعلم والخليقة،... وآخرون أنه المسيح المتجسد كما هو مصور فى الأناجيل الأربعة..، فمتى يشير إليه فى صورة الأسد، ومرقس فى صورة الذبيحة الممثلة فى الثور، ولوقا فى صورة المتجسد الممثل فى الإنسان، ويوحنا فى صورة اللاهوت الممثل فى النسر، ومن الآخذين بهذا الرأى أوغسطينس، وجيروم، وأثناسيوس، وايرانيوس، وغريغوريوس، وأمبروز، ووردثورث،... ووجد من قال إنهم إشارة إلى كنيسة العهد القديم والجديد،... ووجد من اعتقد إنهم أعلى طبقة من الملاائكة،... ومن الواضح أن الصورة التى رآها حزقيال كانت مهيبة ورهيبة وجليلة، وتعلن على أية حال مجد اللّه العظيم،... وإذا كان محرماً على اليهودى أن يرى اللّه أو يتصوره فى صورة منظورة، لئلا يحولها تمثالا أو نصباً يتعبد له، ومن ثم جاءت الوصية: « لا تصنع لك تمثالا منحوتاً ولا صورة ما مما فى السماء من فوق وما فى الأرض من تحت وما فى الماء من تحت الأرض » " خر 19: 4 " فإنه على هذا الأساس جاءت رؤيا حزقيال رهيبة وعظيمة ولا يسهل وضعها فى صورة نصب أو تمثال، وهى رؤيا، إن تحدث، فإنها تتحدث عن غير المنظور الذى تنفتح عنه السماء، وفى الحقيقة أن غير المنظور هو دائماً الأقوى والأعلى والأسمى، وأن المنظور هو الأبسط والأصغر والأضأل، والعالم كله يكتشف يوماً وراءه يوم ما لم يكن يدور بخلده، فالقوى المغناطيسية، ونواميس الجاذبية، والكهربائية، هى قوى غير منظورة فى الأساس لكنها تتحكم فى الكون،... وخلفها علة العلل، اللّه غير المنظور فى الأرض، وهو سر الوجود، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته،... والكروبيم المحاط بالعاصفة والريح والنار والسحابة وقوس قزح إعلان عن قدرة اللّه وعنايته المسيطرة على كل شئ، بالحكمة التى تظهر فى وجه الإنسان، والقوة التى تبدو فى وجه الأسد، والإحتمال الذى يرمز إليه وجه الثور، والإرتفاع الذى يشير إليه النسر،... وهما قدرة وعناية مسيطرتان لا تخضعان قط لمشورة إنسان أو رأيه أو اعتراضه إذ هما أعلى منها جميعاً، ومصير المسبين وغير المسبيين بيدهما العلوية.... وقد وصفت هذه الرؤيا فى الأصحاح الأول من السفر،... ولحق بها فى الأصحاح الثانى والثالث، رؤيا الدرج الذى أكله، وصار فى فمه حلواً كالعسل!!.. « وقال لى يا ابن آدم أطعم بطنك وأملأ جوفك من هذا الدرج الذى أنا معطيه. فأكلته، فصار فى فمى كالعسل حلاوة » " حز 3: 3 " على أنه يبدو أنه تحول إلى مرارة كما فى " رؤ 10: 3 " إذ جاء القول: « فحملنى الروح وأخذنى فذهبت مرا فى حرارة روحى ويد الرب كانت شديدة على " حز 3: 14 "... والدرج يشير إلى كلمة اللّه المرسلة إلى إسرائيل، وكان على حزقيال أن يبلغ هذه الرسالة للشعب، فما هى الكلمة بالنسبة له، أو بالنسبة لأى متكلم بها أرسله اللّه هادياً وبشيراً ونذيراً،... إن الكلمة كما أسلفنا الحديث فيما سبق من شخصيات، ليست مجرد ألفاظ أو عبارات ينطق بها المتكلم، بل هى الحق الإلهى مضاف إلى الواعظ نفسه، الذى أكل الكلمة فأضحت جزءاً من كيانه، فهو إذ يتكلم، إنما يتكلم محمولا بروحه وكيانه وشخصه، وقد اندمج فى الكلمة، واندمجت الكلمة فيه،... وقد كانت الكلمة عند حزقيال، كما هى عند أى واعظ إلهى ينادى بها، أمينة نقية صادقة قوية، ولذا تصبح كالعسل فى حلاوتها... على أنها وهى كلمة مخيفة تحمل الدينونة للشعب والعقاب الرهيب، أضحت مريرة على نفسه، قاسية وشديدة فى نتائجها، لمن يرفضها أو يقبل الاتعاظ بها،... ومن ثم يحتاج المنادى بها إلى الشجاعة والصلابة: « قد جعلت جبهتك كالماس أصلب من الصوان فلا تخفهم ولا ترتعب من وجوههم لأنهم بيت متمرد ».. " حز 3: 9 "..كانت رسالة حزقيال رسالة الرقيب: « يا ابن آدم قد جعلتك رقيباً لبيت إسرائيل » " حز 3: 17 "... والرقيب هو الإنسان الذى يقف على المرصد فى أعلى الحصن يراقب الأفق، ويرى الخطر المقترب، ويحذر منه وواجبه واضح، فإذا نام الجندى فى نوبة حراسته، فالموت مصيره دون أدنى شفقة،... أما إذا أدى واجبه، فقد تجاوزته المسئولية، مهما كانت النتائج التى تحدث،... وهذه رسالة الخادم الذى عليه أن يسهر لتأديتها ليلا ونهاراً، ولا يكف عن التنبيه والتحذير والزجر!!..وقد صور حزقيال حصار مدينة أورشليم فى صورة نموذجية أمامه، وأقام حولها البرج والمترسة والجيوش والمجانق، والصاج والسور الحديدى، نموذجاً مصغراً لما فعله نبوخذ ناصر، عندما حاصرها ودخلها مدمراً إياها، كما كان عليه أن ينام على جنبه الأيسر ثلاثمائة وتسعين يوماً، ثم أربعين يوماً على جنبه الأيمن، يوماً عن كل سنة قضاها إسرائيل فى الإثم والفساد، وعلى الأغلب من أيام بربعام وعجول الذهب، منذ ثلاثمائة وتسعين سنة وأربعين عاماً قضاها يهوذا فى الارتداد الشامل قبل خراب أورشليم. وليس معنى النوم على الجانب الأيسر أو الأيمن إنه لم يكن يتحرك إطلاقاً من على جنبه طوال هذه المدة، لكنها كانت عادته اليومية المنتظمة التى لوحظ عليها من الجميع، كان عليه أن يكون آية، الأمر الذى فعله سمعان الخراز، والذى جلس على عمود ثلاثين عاماً قرب إنطاكية يعظ الناس الذين يفدون لكى يروه، وهو يحتج بجلوسه هذا على شرورهم وعالميتهم،... وكان على حزقيال أن يصور مجاعة المدينة فى حصارها، بالطعام القليل الموزون بالميزان والذى يتعين عليه أن يأكله،... كما أنه حلق رأسه ولحيته، وأحرق ثلث شعره المحلوق، رمزاً للذين سيحرقون أو يموتون بالمجاعة والوباء داخل المدينة، والثلث الثانى ضربه بالسيف رمزاً للثلث الذى سيمون قتلا بالسيف، والثلث الثالث الذى سيسبى ويشرد فى كل مكان... وفى الأصحاح الثامن سفره، يؤخذ بالروح فى الرؤيا إلى مدينة أورشليم، ليبصر الوثنية البشعة التى انتهى إليها شيوخ إسرائيل، وفى التاسع يرى اللّه يميز بين من يعبد اللّه ومن لا يعبده، ليقضى على الأشرار والفساد بصورة رهيبة. وفى الثانى عشر يبدو كما لو أنه يتأهب للجلاء، إعلاناً ورمزاً لذهابهم إلى السبى، وفى الثامن عشر يقضى على حجة المشتكين بأن آباءهم أكلوا الحصرم، وأسنانهم هم التى ضرست، وبين أن عقوبة كل إنسان تأتى نتيجة أفعاله هو!!... وفى الرابع والعشرين ماتت زوجته بضربة مفاجئة وكان عليه أن يحزن حزناً عميقاً وقلبياً، رمزاً للضربة التى ستترك إسرائيل فى حزن يحل عن الوصف أو التعبير!!
حزقيال والرؤى الأخيرة:-
كانت الرؤى الأخيرة لحزقيال، بعد خراب أورشليم، تختلف عن الأولى اختلاف الوقاية عن العلاج،... كان هدف حزقيال فى الرؤى الأولى أن يقف فى طريق الكارثة، محذراً الشعب من السقوط فى الهاوية، حتى ولو فى اللحظات الأخيرة من النهار، ولكن الشعب لم يسمع، وسقطت المدينة المحبوبة، ودمرت تدميراً رهيباً، وأخذ المسبيون بأعداد كبيرة مرة أخرى إلى بابل، وقد بلغوا هناك من اليأس ما أحسوا معه، بأن الظلمة قد بلغت منتهاها، وأن ليلهم الطويل لن يكون له آخر،... وقد تنبأ إرميا بأن مدة السبى ستكون سبعين عاماً، وكان على حزقيال أن يومض أمام المسبيين بالرجاء، وكان عليه أن يكشف لهم عن شعاعات من النور خلف الليل البهيم، ولعل هذا هو الذى جعلهم يذهبون إليه، كلما عانوا من التعب والمشقة واليأس، وبدا لهم كشعر أشواق لجميل الصوت يحسن العزف، " انظر حز 33: 32 "، وفى الحقيقة أن عزف الرجل لم ينقطع، وهو يرى الشاب دانيال، والثلاثة الفتية وإضرابهم، الذين وقفوا يمدون عيونهم إلى الأفق العظيم،... مؤمنين أن الشمس لابد ستعود، وأن ليلهم الطويل المرير لابد أن ينجلى،... ومع أن رؤى حزقيال بدت أساساً لرفع المسبيين فوق آلامهم ومقاساتهم،... لكنهم تحولت مع الأجيال مناراً عالياً مرفوعاً على جبل لكل عابر فى ظلمة الحياة، وها نحن نراها الآن فيما يلى:
أولا: رعاية الراعى الصالح، وإذا قرأنا الأصحاح الرابع والثلاثين تبدى لنا رعاة إسرائيل القدامى - وهم الملوك الذين كانوا أشبه بالرعاة للأغنام لكن الراعى الصالح رأى بشاعة إعمالهم، إذا رعوا أنفسهم دون أن يرعوا الغنم، لقد أكلوا شحمها ولبسوا صوفها، وذبحوا السمين فيها: « المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه والضال لم تطلبوه، بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم، فتشتت بلا راع وصارت مأكلاً لجميع وحوش الحقل وتشتت. ضلت غنمى فى كل الجبال وعلى كل تل عال. وعلى كل وجه الأرض تشتت غنمى ولم يكن من يسأل أو يفتش » " حز 34: 4 - 6 ".. ليت كل مؤمن وراع يقرأ هذا الأصحاح العظيم، يرى الراعى الصالح الذى جاء إلى عالمنا حياً فى الخراف، وبذل نفسه لأجلها،... ويرى كيف يهتم هذا الراعى العظيم بخرافه إلى الحد الذى فيه يقيس حب بطرس له برعاية خرافه،... والذى يجزى كل محب، ويطرح كل أنانى وشرير يبدد هذه الخراف!!.. إن من واجبنا أن نقرأ هذا الأصحاح فى ضوء الأصحاح العاشر من إنجيل يوحنا، حيث تصلح المقارنة، ونرى الصورة وقد اكتملت بالتمام: « لذلك هكذا قال السيد الرب لهم: ها أنذا أحكم بين الشاة السمينة والشاة المهزولة، لأنكم بهزتم بالجنب والكتف ونطحتم المريضة بقرونكم حتى شتتموها إلى خارج. فأخلص غنمى فلا تكون من بعد غنيمة وأحكم بين شاة وشاة، وأقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها عبدى داود هو يرعاها وهو يكون لها راعياً »، " حز 34: 20 - 23 " « السارق لا يأتى إلا ليسرق ويذبح ويهلك. وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل. أنا هو الراعى الصالح، والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف، وأما الذى هو أجير وليس راعياً، الذى ليست الخراف له، فيرى الذئب مقبلا ويترك الخراف ويهرب. ويخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالى بالخراف، أما أنا فإنى الراعى الصالح وأعرف خاصتى وخاصتى تعرفنى " يو 10: 10 - 14 ".
ثانيا: القلب الجديد والروح الجديد،... وقد كان على المسبيين أن يدركوا أن أهم ما ينشده اللّه فى الإنسان هو تغيير القلب، والقلب فى اللغة الكتابية هو مركز نشاط الإنسان كله،... هو أداة التفكير، والعاطفة، ومركز الحب، والاختبار.. « يا ابنى أعطنى قلبك ولتلاحظ عيناك طرقى » " أم 23: 26 " وهذا القلب لابد أن يتغير: « وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة فى داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحى فى داخلكم وأجعلكم تسلكون فى فرائضى وتحفظون أحكامى وتعملون بها »"حز 36: 26 و27 ".. وليس هذا - بالتأكيد - إلا ما قاله السيد المسيح لنيقوديموس: « الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله... الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللّه، المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح، لا تتعجب أنى قلت لك ينبغى أن تولدوا من فوق " يو 3: 3 - 7 " ولعلنا نلاحظ أن الصورة، كما رسمها حزقيال، وكما جاءت على لسان السيد المسيح، ليست جهداً بشرياً على الإطلاق، بل هى عطية اللّه، وهبة السماء من فوق،... وهى التغيير الذى يتم بدخول روح اللّه قلب الإنسان البشرى الخاطئ، فيغيره بالتمام!!..
ثالثاً: القيامة من الأموات، وهذا يأتى بنا إلى رؤيا العظام اليابسة، وكانت الأمة اليهودية كلها كمن دخل إلى قبر وأغلق عليه، ولم يعد هناك أدنى رجاء فى حياته وبعثه، ويبدو أن هذا الخاطر لم يسيطر على الشعب فحسب بل لعله راود النبى أيضاً،... ولأجل هذا أخذه اللّه إلى بقعة واسعة، لعلها كانت مكاناً لمعركة أو مقتلة عظيمة، ورأى هناك عظاماً كثيرة، وأكثر من ذلك، يابسة، مما يدل على أنه قد انقضى عليها وقت طويل، تحولت معه العظام إلى رميم، وسأل اللّه النبى: أتحيا هذه العظام؟.. ووقع النبى فى حرج كبير، إذ أنه حسب فهمه البشرى لا يمكن أن تقوم هذه العظام وتنهض مرة أخرى، إذا كانت مرثا قد صرخت فيما يشبه الاحتجاج » عندما قال المسيح أمام قبر لعازر.. إرفعوا الحجر، وهى تقول: « ياسيد قد أنتن لأنه له أربعة أيام »!!.. " يو 11: 39 " فكيف يمكن لحزقيال أن يرى العظام اليابسة تعود إلى الحياة مرة أخرى؟!!... على أنه إذ انتهى إلى هذا الرأى وقبله فكأنما هو يحد من قدرة اللّه وسلطانه العظيم،... ومن ثم قال: « ياسيد الرب أنت تعلم » " خر 37: 3 " وجرت القصة بأن اللّه طلب من النبى أن يتنبأ على العظام فتحيا، - ومن الغريب أن اللّه ما يزال اليوم يفعل معنا - نحن الوعاظ وخدام اللّه الأمر عينه، عندما يطلب إلينا أن نكلم الموتى بالذنوب والخطايا، ونناديهم بالحياة بقوة اللّه وأمره،... على أن اللّه يريد أن يؤكد - مع ذلك - أن الوعظ فى ذاته، لا يعطى الحياة،... وأن الواعظ المقتدر البليغ قد يبلغ وعظه الأذن، وقد يحدث فى السامعين رعشاً، وقد تقارب العظام بعضها إلى بعض، وقد تكتسى باللحم والعصب،... ولكنها مع ذلك لا تأخذ الحياة،... وما أكثر ما يحدث هذا فى الاجتماعات الكبيرة التى يتأثر فيها الحاضرون، وتأخذهم الرعشة من جراء الكلمة الإلهية،... ويصل إليهم الإحساس بصورة ما، وتبدو الأمور كما لو أننا على أبواب نهضة عظيمة!!. لكن التأثر هنا وقتى، ويظل الميت ميتاً، إلى أن يدخل روح اللّه بقوته العظيمة من الرياح الأربع: « الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتى ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح »... " يو 3: 8 " وهنا يبدو البرهان العظيم أمام حزقيال، إذ أن الموتى لم يقوموا فحسب، بل قاموا على أقدامهم جيشاً عظيماً جداً جداً!!.. وإذا كانت هذه الرؤيا عند النبى القديم تتحدث عن الحياة التى دبت فى المسبيين ليعودوا إلى وطنهم وبلادهم، فإنها تتحدث إلينا، كما قال أحدهم عن عمل اللّه فى الموتى بشتى صور حياتهم، إذ حيث يكون هناك قلب ميت، أو كنيسة ميتة، أو مدرسة أحد ميتة، أو اجتماع شباب ميت، أو قضية ميتة، أو حق ميت، فإن من واجبنا أن نتشدد ونتشجع، لأن العظام اليابسة ستتحرك. واللحم سيكسيها، والعصب سيتأتى إليها، وروح اللّه سينهضها من الموت المخيف إلى الحياة القوية..
رابعاً: العودة إلى العبادة فى هيكل اللّه: وهذا ينقلنا إلى الأصحاحات الأخيرة من سفر حزقيال (من الأربعين إلى الثامن والأربعين) ونحن نشغل هناك برؤيا الهيكل الجديد الذى يحل محل الهيكل المدمر، وقد كان على حزقيال، وقد بلغ على الأغلب منتصف السبعين عاما المحددة لعدوة المسبيين - أن يتحدث عن بناء الهيكل، وعودة العبادة فيه،... ومع أن زربابل بنى الهيكل الذى أقيمت فيه العبادة، لكن هيكل زربابل لم يكن بنفس الصورة أو المقاييس، بل إن هيكل زربابل لم يكن شيئاً إلى جانب هيكل سليمان القديم،.... وقد دفع هذا الشراح إلى أن يروا فى رؤيا حزقيال شيئاً أعظم من هيكل سليمان، وهيكل زربابل، فاليهود إلى اليوم، يحلمون ببناء الهيكل على الصورة التى رآها حزقيال، والذين يأخذون بنظرية المجئ الثانى قبل الألف سنة. يتصورون الأمر كذلك،... وإن كنا من جانبنا لا نأخذ بها الرأى، بل نعتقد أن مجد هذا الهيكل العظيم يتحقق فى كنيسة المسيح التى خرجت عن الحدود اليهودية، وانطلقت فى آفاق الأرض، وقد اتسعت جنباتها لتضم كل الممالك والأمم والشعوب والألسنة، ولعله من الملاحظ أن الأمة اليهودية لم تعرف فى أمجد تاريخها، الحدود المذكورة فى نبوات حزقيال واتساعها، وأنه لا يمكن أن تتحقق هذه بالمعنى الواسع العظيم، إلا فى المفهوم الروحى فى يسوع المسيح، والدليل على ذلك مستمد من نبوات حزقيال نفسها، وإلا فما معنى القول: « وداود عبدى يكون ملكاً عليهم ويكون لجميعهم راع واحد فيسلكون فى أحكامى ويحفظون فرائضى ويعلمون بها »؟.. "حز 37: 24 " ويستحيل حرفيا أن يكون داود ملكاً، إلا إذا كان المقصود هو ابن داود، ابن اللّه الرب يسوع المسيح!!..
خامسا: مياه نهر الحياة: والذى يؤكد هذا المعنى هو رؤيا حزقيال للحياة الخارجة نحو المشرق من تحت عتبة الهيكل، والمياه تزداد عمقاً كل ألف ذراع، فهى فى أول الأمر مياه إلى الكعبين، ثم إلى الركبتين، ثم إلى الحقوين، ثم إلى نهر سباحة طام لا يمكن عبوره، على ما جاء فى الأصحاح السابع والأربعين،... ومن الملاحظ بادئ ذى بدء أن المياه تخرج من تحت عتبة المقدس، أو فى لغة أخرى من المكان الذى يرمز إلى حضور اللّه،... المياه التى وصفها إشعياء « مياه شيلوه الجارية » " إش 8: 6 " أو هى خير اللّه وإحسانه وبركاته على ما جاء فى وصف إرميا بالقول: « الرب ينبوع المياه الحية » " إر 17: 13 " وإذا كانت هذه المياه قد بدأت هادئة متدرجة فإنها لم تلبث أن تحولت بعد ستة قرون - كما قال أحد المفسرين - إلى نهر المسيحية الذى لا يعبر، فى خلاص المسيح للجنس البشرى بفعل الروح القدس الفعال والعظيم،!!.. وقد كان على النهر أن يمر فى البرية حتى يبلغ البحر الميت،... وقد كان اليهود فى ذلك الوقت، أشبه بالبرية، والبحر الميت، وكل إنسان أو أمة يبتعد عن السيد المسيح ليس إلا ميتاً حتى يأتى نهر الحياة بالشفاء والإثمار!!.. وحقاً قال السيد المبارك: « أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل » " يو 10: 10".. فإذا كانت الرؤيا قد تحققت جزئياً ومبدئياً فى عودة اليهود من السبى، وبعث الحياة فيهم - فإنها قد تحققت فى المعنى الأعمق والأكمل فى موكب الجنس البشرى، وهو يأخذ طريقه فى المسيح، حتى نصل إلى الشاطئ الأبدى.. « وأرانى نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور خارجاً من عرش اللّه والخروف فى وسط سوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتى عشرة ثمرة وتعطى كل شهر ثمرها. وورق الشجرة لشفاء الأمم. ولا تكون لعنة ما فى ما بعد. وعرش اللّه والخروف يكون فيها وعبيده يخدمونه. وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم. ولا يكون ليل هناك ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس لأن الرب الإله ينير عليهم وهم سيملكون إلى أبد الآبدين ».." رؤ 22: 1 - 5 ".ونحن نذكر حزقيال فى المنظر الأول عند نهر خابور، وهو يقول: « فجئت إلى المسبيين عند تل أبيب الساكنين عند نهر خابور، وحيث سكنوا هناك سكنت » " خر 3: 15 "- لعلنا نذكر منظراً أعظم وأبهى وأجل بما لا يقاس، إذ نذكر ذاك الذى جاء إلينا فى الجسد نحن المسبين بسبى أقسى وأشد، وحيث سكنا، هناك سكن، حتى صعد إلى هضبة الجلجثة ليموت على خشبة الصليب، ويحررنا من استعباد أقسى وأمر من استعباد بابل، لنهتف أمام عرشه العظيم فى صيحة النصر: « سقطت سقطت بابل العظيمة ».. " رؤ 18: 2 ".. « أفرحى لها أيتها السماء والرسل القديسون والأنبياء لأن الرب قد دانها دينونتكم » " رؤ 18: 02 "... آمين فآمين..
المزيد
27 أكتوبر 2021
أهمية ردود الفعل
كل عمل يعمله الإنسان له ردود فعل. بل أيضًا كل كلمة يقولها. ذلك لأن من يزرعه الإنسان إياه يحصد. وينطبق هذا على كل ما يصدر عن الإنسان خيرًا كان أو شرًا. فردود الفعل تكون على الأرض وأيضًا في السماء نرى هذا أيضًا في العلاقات بين الناس بعضهم والبعض. فكل شيء له نتائجه المحبة تلد محبة، والعداوة تلد عداوة. واللطف يلد لطفًا. بل أن ابتسامة منك في وجه طفل، تطبع ابتسامة أخرى على شفتيه. والأدب والاحترام في معاملة الناس، يكون من ردود فعله احترامه من جهته. أتذكر زميلًا لنا في الدراسة كان لا يكلم أحدًا إلا باحترام شديد. وكانت النتيجة أن الكل يقابلونه بالمثل. وإن خرج أحد منهم عن اللائق، كان ذلك الزميل يتصرف بأسلوب رصين ورزين يجبر الآخر على تعديل سلوكه والالتزام بالاحترام في معاملته. وأتذكر أيضًا أن ناظر مدرسة كان يعامل المدرسين بجفاء وبأسلوب قانوني بحت، فكان رد الفعل هو كراهية جميع المدرسين له. وقد سأل "لماذا يكرهونني وأنا لم أخرج عن القانون في معاملة أحد منهم؟!" وكان الجواب: "أنت تعاملهم بالقانون وليس بالمحبة. بينما الناس لا يلجأون إلى القانون إلا إذا زالت المحبة من بينهم. ويقول المثل " إذا تراضى الخصمان استراح القاضي".إن الحزم يولد الانضباط، والتسيب يولد الفوضى. ولكن القسوة في الحزم تلد كراهية أو عداوة. لذلك ينبغي أن يكون الإنسان حكيمًا في حزمه، لا يتطرف فيه إلى القسوة أو الشدة الزائدة عن الحد. وقد قلت مرة في تأبين شخص عظيم منذ حوالي ستين عامًا:-
يا قويًا ليس في طبعه عنفُ ووديعًا ليس في ذاته ضعفُ
يا حكيمًا أدب الناس وفى زجره حب وفي صوته عطفُ
لك أسلوب نزيه طاهر ولسان أبيض الألفاظ عفُّ
† ينبغي للإنسان قبل كل كلمة يقولها، أن يفكر في ردود فعلها. ويحسب حسابًا لتأثيرها على من يسمعه ومدى انفعاله بها. ولذلك عليه أن يتحاشى الألفاظ القاسية، وعبارات التهكم، والكلمات التي لها أكثر من معنى، وقد تفهم من البعض على معنى سيئ. لذلك حاول في حياتك الخاصة أن تنتقى ألفاظك، وتكون بميزان دقيق ومع الأطفال بالذات، ينبغي أن يكون المتكلم حريصًا. فالطفل من كلامك قد يأخذ عنك فكرة لا تستطيع نزعها منه. ويجب أن تكون صادقًا فيما تقوله أمامه. وأن توفى بكل وعد تعده به. ولا تهز المثاليات التي في ذهنه بأخطائك في الكلام. واحترص من شدة التوبيخ والانتقاد، فإن لها ردود فعل.
وكن رقيقًا. فالرقة لها رد فعل عميق في من يتعاملون معها. أحيانًا يكون الرجل رقيقًا جدًا في معاملته لخطيبته. وإذا ما تم زواجه بها، يظن للأسف الشديد أن الرقة هو لون من الكلفة، بينما قد زالت الكلفة بينهما بالزواج! وهذا خطأ شديد. لذلك احتفظ باحترامك لزوجتك. واستخدم الرقة واللطف لمعاملتها. بل والاحترام أيضًا. وسيكون رد الفعل لذلك طيبًا جدًا في نفسيتها. أتذكَّر في إحدى المرات وأنا أسقف أنه زارني أستاذ من جامعة كمبريدج University of Cambridge ومعه زوجته. فكان يجعلها تتقدمه باستمرار. وكان يتحدث عنها باحترام. ولا يذكر اسمها مجردًا وإنما معه لقبها. وكانت هي تحترمه بالمِثل. كذلك أذكر صديقًا لنا كان يتخاطب مع أبنائه باحترام، حتى مع الصغار منهم. وكان أطفاله يحبونه، إن أنه كان يُشعرهم بقيمة شخصية كل منهم، وبتوقيره لمواهبهم.
هناك ألفاظ يُقال عن بعضها "مثل رجم الطوب". وتأتي بعكس ما يريد صاحبها. وفي الإنجيل: "بكلامك تتبرر، وبكلامك تُدان". حتى بالنسبة لرئيس العمل في معاملته لمرؤوسيه، يمكنه أن يوجههم ويشرح لهم أخطاءهم. ولكن بأسلوب غير جارح. فكل إنسان له مشاعره التي لا يقبل أن تُهان. ومن جهة ردود الفعل، يقول المَثل السائد: "اللي يشد ذيل القط، يخربشه".
من أجل هذا عليك أن تدرس نفسيات الناس، وتعاملهم بما يناسبهم. فالزوجة أحيانًا تطلب من زوجها طلبًا وتظل تلح عليه إلحاح. وتكرر الإلحاح حتى يسبب له ذلك شيئًا من التَّبرُّم والضجر. ورُبَّما لا يحتمل المزيد من الإلحاح، فيثور أو يرفض، أو يرد بكلمة شديدة. وإن عرفت الزوجة أن هذا هو رد الفعل عند زوجها، عليها أن تحترس من الضغط على أعصابه بالإلحاح. ويمكن أن تُغير الطلب في مناسبة أخرى يكون فيها أكثر هدوءًا وأكثر استجابة.كذلك يحدث أحيانًا أن المرأة في بيتها تهمل ذاتها، ولا تهتم بزينتها أو جمالها. ويكون رد الفعل لذلك عند رجل ضعيف، أن تجذبه إغراءات من الخارج يجد أنها تفوق بيته جمالًا وشكلًا وأناقة. حقًا متى نرى بيوتنا لها الجاذبية التي تغنى الرجال والأبناء والكبار من طلب المتعة خارج البيت؟!
كثيرًا ما نلوم الفتاة التي تفسد أخلاقها، وتستجيب لإغراء أحد الشبان وتخطئ معه. أو لتهرب من بيتها. وقد يكون ما تفعله هذه الفتاة هو رد فعل للمعاملة التي تلاقيها في منزل الأسرة. حيث لا تجد حبًا ولا حنانًا، والقسوة في المعاملة وانتهارها وكلامًا جارحًا. فتلجأ إلى طلب الحنان خارج البيت. وإن وجدته، تُسلم ذاتها وتسقط. ونصيحتنا إلى الآباء والأمهات، أن يشبعوا أبناءهم وبناتهم من الناحية العاطفية، وأن يبتعدوا عن القسوة والتقييدات الكثيرة. حتى لا يصير البيت بمثابة سجن عند الأبناء. ويكون رد الفعل هو الهروب أو الفساد.
يحدث أحيانًا أن بعض رجال الدين لا يهتمون بالناحية الروحية لرعيتهم. ولا يفتقدون شخصًا إذا غاب وكثر ابتعاده عن بيت الله، دون أن يهتموا به أو يفتقدوه. ويكون رد الفعل أن يفتقده الشيطان أو الأصدقاء الأشرار. ويكون قلبه جاهزًا لهم مستعدًا، ويضيع ذلك الشخص. نفس الأمر نقوله عن عدم اهتمام أي إنسان بروحياته فيكون رد الفعل أنه يضعف ويكون رد الفعل في حياته أنه بإهماله الحرص يضعف، ويتعود أمورًا تتحول فيه إلى طبع.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد