المقالات
20 مارس 2021
إنجيل عشية الأحد الثاني من الصوم الكبير
مر12:1-15
وللوقت أخرجه الروح إلى البرية، وكان هناك في البرية أربعين يوما يجرب من الشيطان.
وكان مع الوحوش. وصارت الملائكة تخدمه.وبعدها أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت االله ويقول: "قد كمل الزمان واقترب ملكوت االله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل".
التجربة على الجبل
الأحد الثاني هو أحد التجربة بحسب ما رتب آباء الكنيسة وفيه يقرأ إنجيل التجربة على الجبل، لما
صام المسيح عنا أربعين نهارا وأربعين ليلة وقد أورد الإنجيليون مار متى ومار لوقا عينات من هذه التجارب تجربة الخبز وتجربة مجد العالم وتجربة إلقاء المسيح نفسه من على جناح الهيكل وقد صرعه المسيح في كل تجاربه وكسر شوكته عنا واستخلص لنا بصومه المقدس نصرة على جميع سهام الشرير الملتهبة نارا.
ولكن إنجيل العشية بحسب ما كتبه القديس مرقس البشير قد اختزل تجربة المسيح وأوردها في آية
واحدة "أن الروح أخرجه إلى البرية ليجرب من إبليس أربعين يوما وكان مع الوحوش وكانت الملائكة
تخدمه". وإذ أحجم مارمرقس عن أن يدخلنا إلى تفاصيل التجارب وطبيعتها وهو يكتب بالروح القدس فهذا معناه أن الأمر يفوق حدود العقل والإدراك البشري، فالعدو رئيس هذا العالم هو روح الظلمة الكذاب وأبو الكذاب المعاند والمقاوم الله، شرس غاية الشراسة وقد كان من البدء قتالاً للناس. فبأي كيفية حارب القدوس وإلى أي مدى كانت هذه الحرب وتلك التجارب وما هي طبيعتها وما هي أعماقها، فهذه أمور تعلو إدراكنا وتتجاوز معرفتنا الضعيفة . ولكن لأن المسيح صام عنا ومن أجلنا، ولم يفعل شيئًا إلا لحسابنا فبكل تأكيد أن ما خرج به المسيح منتصرا على كل تجارب العدو كان لحسابنا بل أعطاه المسيح لنا وأجزل لنا العطاء. ونحن نقترب إلى سجله مارمرقس تلمس فيه نصيبنا لأن المسيح وهو متحد بطبيعتنا البشرية، صام بها وحارب بها وانتصر بها لحسابنا ومن أجلنا.
أولاً: فإن قيل إن الروح اقتاد فأعلم أنه قد تسجل لنا هذا ميراثًا في المسيح، وقد نم هذا بعد المعمودية
مباشرة حين جاء صوت الآب من السماء شاهدا "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"، وحين حل الروح عليه بهيئة جسمية كاملة بشكل حمامة. فصار فيما بعد أن الذين ينقادون بروح االله، فأولئك هم أبناء االله. فبدءا بمعموديتنا حين ينادي أننا صرنا أولاد االله وحين نقبل نعمة البنوة إذ نتحد مع المسيح بشبه موته وننال نعمة الروح المعزي الحال فينا والساكن فينا حينئذ يتسلم الروح القدس قيادتنا.فالذي يقتاد بروح االله فقد ختم أن االله أبوه وهو ابن االله. الروح هو الذي يرشد إلى جميع الحق، يعلم
وينصح ويعزي ويشفع فينا بأنات لا ينطق بها ويأخذ مما للمسيح ويعطينا ويذكرنا بكل ما قاله السيد، وهويبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، ويفحص كل شيء حتى أعماق االله.فإن كان الإنسان ينقاد بالروح في العمل والكلام ويسلك بالروح ولا يطفيء الروح ولا يحزن الروح،ويكون مراضيا للروح مادام في طريق الحياة يسلك. يصير الإنسان محمولاً منقادا بروح االله وحسبما يسير
الروح يسير.
ثانيا: وهنا تأتي التجارب ويتقدم المجرب لأن التجارب في حياة أولاد االله حتمية ولا مفر لأن العدو
متربص ويوم أن ننحاز إلى المسيح فقد أعلنا الحرب عليه. إن بداية معموديتنا أننا جحدنا الشيطان وكل قواته الشريرة وكل نجاساته وكل حيله الردية والمضلة.فبعد أن خرج الشعب مع موسى من أرض العبودية واعتمدوا جميعهم في البحر الأحمر صارت الحرب مع عماليق. فالحرب بعد أن استعلن المسيح ابن االله بصوت الآب وحلول الروح صارت الحرب والتجارب وانتصب المجرب للصراع.إذن التجربة نتيجة طبيعية لالتصاقنا بالمسيح واتحادنا معه ودخولنا إلى شركة معـه وفيـه بـالروح
القدس. لم تخل حياة أحد من القديسين على مر العصور من التجارب، فتش في حياة القديسين جميعـا، هـل خلت حياة أحدهم من التجارب؟ "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يضطهدون".
فالرسل الأطهار كم قاسوا من التجارب والتشريد والحبس والسجون الاضطهادات والضيقات
والأحزان... شيء مهول ولكن في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. وهكذا الشهداء والأبرار الصديقون والنساء سكان البراري ورجال الإيمان والآباء، كم قاسوا وحملوا الصليب وتجربوا وطافوا معتازين مذلين مكروهين من العالم مجربين.ولكن الذي يحلو لنا أن نتفكر فيه أن النصرة في المسيح وبالمسيح شيء أكيد لا يقرب منه الشك. فالمسيح سحق الشيطان وأذل فخره، ورجع الشيطان مكسورا مهانًا مذلولاً خائبا. فالتمسك بالمسيح والحياة فيه، يزكي فينا الشعور بالنصرة ووعد المسيح قائم أنه أعطانا السلطان أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو الشرير.وهكذا ندرك أنه مهما طالت التجارب وتنوعت ومهما بدا أن الشيطان متقوٍ علينا ولكن الغلبة النهائية هي لحساب المسيح. وما بناه الشيطان في سنين وسنين يهدمه المسيح بكلمة، لأن ابن االله قد جاء لكي ينقض أعمال إبليس.وهكذا يدخل أبناء االله التجارب وهم حاملون للنصرة في داخلهم كتلميذ يدخل الامتحان ونتيجة الامتحان والفوز في جيبه. "ثقوا أنا قد غلبت العالم "، "وخرج غالبا ولكي يغلب". وهذا الشعور في القديسين هوالذي قادهم إلى الاتضاع الحقيقي، لأنهم أدركوا أن النصرة ليست بقوتهم ولا بذراع البشر، ولا اعتمدوا على عملهم ولا على قدرتهم بل على االله وحده. فكان إذا انتصروا على الشيطان وأذلوا فخره، كانوا يزدادون اتضاعا وإنكارا لذواتهم ويزدادون ثقة في الذي يقويهم "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني "، "أنا ما أنا ولكن نعمة االله التي معي".
ثالثًا: كان مع الوحش
في الواقع أن المسيح استعاد لنا صورتنا الأولى ومجدنا الأول وأعادنا إلى الفردوس حيث كانت
الوحوش أليفة صديقة للإنسان من غير أذى... فلما سقطنا من رتبتنا صارت العداوة واستعلن الطبع الوحشي في حيوانات البرية. فإن كان بالفعل قد استؤنست الوحوش وخضعت للقديسين في المسيح، مثل ما نرى في أيقونة مارمرقس وكيف أن الأسد تحت رجليه، والقديس بولس الرسول نفض وحش الثعبان في النار ولم يتأذ بشيء، والقديس برسوم العريان عاش مع ثعبان كبير والبابا زخارياس لما أُلق تي للسباع لم ؤذه مثل دانيال في جب الأسود. هذا هو زمن المسيح يرعى الأسد مع الخروف... وهذا هو قول المسيح "أرسلكم كحملان في وسط ذئاب".في المسيح يسوع، وفي صوم المسيح عنا، تذلل الطبع الوحشي. على أن ليس المسيحي هو الذي يخضع وحوش الأرض مثل مروضي الوحوش بل هناك في إنساننا العتيق ما يماثل الوحوش في طباعها مثل الغضب والاحتداد والعنف والانتقام والشراسة والمكر والخبث ومحبة الزنى والأنانية... كلها طباع حيوانية وحشية. ويمكننا بالمسيح وبشركة صومه أن نصير مع الوحوش بغير أذى. لقد تذلل الطبع الوحشي، فلم تعد هذه الطبائع الوحشية تسود علينا، بل على العكس صرنا بالروح نُميت أعمال الجسد ونخضع أجسادنا
ونستعبدها كقول الرسول .
رابعا: صارت الملائكة تخدمه
صوم المسيح أدخلنا إلى هذه الشركة الروحية مع الملائكة... صارت الملائكة بالنسبة لنا أرواحا
خادمة للعتيدين أن يرثوا الخلاص.صحبة الملائكة في الصوم هي الحياة السماوية بكل ما تعني. كأن الإنسان الصائم مع المسيح برغم التجارب الكائنة يشعر أنه يحيا حياة ملائكية سماوية. ويحيا معانا من القوات السماوية، مثلما أعلن الملاك إيليا النبي حينما صام أربعين نهارا فقد أيقظه من نومه وأطعمه، فسار بقوة هذه الأكلة أربعين يوما.إنها أسرار مخفية عن الحكماء ولكنها تعلن للبسطاء وأنقياء القلب.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
(عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
19 مارس 2021
الجمعة الثانية من الصوم الكبير: ثبات الجهاد
ارتباط فصول القراءات:
ثبات الجهاد
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "ثبات الجهاد" أي ثبات الذين يعملون بكلامه وهو الإنجيل، فالنبوة الأولى تتكلم عن ميراث الله للمتمسكين بشريعته كما وعد إسرائيل بأرض الموعد، والثانية عن انتصارهم على أعدائهم كما انتصر داود على جليات، والثالثة عن طمأنينتهم كما اطمأن آحاز من جهة محاربيه، والرابعة عن نعمة الله لهم كما بين صوفر النعماتي لأيوب ذلك.
ويتكلم إنجيل العشية عن تحذير المخلص لهم من التعاليم المخالفة للإنجيل كما حذر من تعاليم الفريسيين، وإنجيل القداس عن تقويته للعاملين به حتى يصيروا ثابتين ثبات البيت المؤسس على الصخر.ويهيب بهم الرسول في البولس أن يثبتوا في نعمته، ويوصيهم يعقوب في الكاثوليكون باحتمال آلامه، ويحثهم الإبركسيس على مراعاة قيوده كما أوصى الرسل المؤمنين بأن يحفظوا أنفسهم مما ذبح للأوثان ومن المخنوق والزنا والدم.
النبوات.. صموئيل الأول 17، 18
الأصحاح السابع عشر
داود وجليات
اشتاق الشعب إلى ملك طويل القامة قوى البنية جميل المظهر كسائر ملوك الأمم، والآن يقف هذا الملك مع رجاله في خوف ورعدة أمام جليات الجبار، ليتمجد الله بداود القصير القامة الذي لا يعرف كيف يستخدم العدة الحربية بل مقلاع الكلاب.. لقد غلب لا بسيف ورمح وإنما باسم رب الجنود..
جليات يرعب شاول
وقف الفلسطينيون على جبل للحرب، بينما وقف شاول ورجاله على جبل آخر للحرب يفصل بينهم وادي البطم (1 صم 17: 1 – 3). وكان جليات الجبار يخرج كمبارز يعير شاول ورجاله طالبًا واحدًا منهم يبارزه.وقف الفريقان على جبال (أشبه بتلال) بينهما واد فيه مزروعات وأشجار السنط، حيث كان جليات البالغ طوله 6 أذرع (الذراع العبري نحو قدم ونصف والقدم حوالي 60 سم)، يلبس على رأسه خوذة من نحاس، وكان يرتدى درعًا حرشفيًا أي قميصًا عليه قطعًا نحاسية كحراشيف السمك، وزنه حوالي 33 رطلًا ؛ وجرموقًا (درعين لحماية الساقين) من النحاس. وكان معه مزراق نحاس (رمح قصير) بين كتفيه.. اعتاد أن يقف مطالبًا من يبارزه قائلًا " اختاروا لأنفسكم رجلا ولينزل إلى. فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيدًا، وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيدًا وتخدموننا " كما كان يهزأ بهم قائلا " أنا عيرت صفوف إسرائيل هذا اليوم ؛ أعطوني رجلا فنتحارب معًا ".. وكان ذلك مصدر رعب شديد وخوف بالنسبة لشاول ورجاله.
+ وهذه القصة ترمز في مجملها للحرب بين الشيطان وأولاد الله المستمرة، والتحدي الصارخ بين قوات الشر وأبناء النور.
بقى الحال هكذا لمدة أربعين يوما يمارس جليات هذا التصرف صباحا ومساء حتى جاء داود بن يسى يفتقد إخوته الثلاثة الكبار اليآت وأبيناداب وشمه الذين تبعوا شاول ليحاربوا معه.وهكذا بقي الحال منذ طرد أدم من الجنة حتى جاء الابن الوحيد ليتجسد ويفتقد البشرية الضعيفة الهالكة وسحق العدو المشتكي المعير لها علي الصليب كما غلب داود الصغير جليات الجبار.
+ لقد جاء داود يفتقد إخوته من أبيه وأمه بالفريك والخبز والجبن، لكنه إذ رأى إخوته -شعب الله- في مأزق يعيرهم رجل أغلف بدأ يتساءل: " ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل ؟! لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعير صفوف الله الحي ؟! 17: 26. وإذ سمع أخوه الأكبر اليآب حمى غضبه عليه قائلًا له: " لماذا نزلت ؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية ؟ أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، لأنك إنما نزلت لكي ترى الحرب " 17: 28. وجاءت إجابة داود بسيطة ومملوءة حنكة: " ماذا عملت ؟ أما هو كلام ؟! " لم يدخل معه في جدال، لأنه رجل إيمان لا يحب كثرة الجدال بل العمل، إنه وقت العمل!
ويعلق القديس أغسطينوس علي ذلك ويقول وبخ هذا الأخ الأكبر داود رمز ربنًا، متمثلًا بالشعب اليهودي الذي افترى على المسيح الرب، مع أنه جاء لخلاص الجنس البشرى، إذ أهانوه باتهامات كثيرة.جاء داود ووجد الشعب يحارب ضد الفلسطينيين، لم يوجد من يجسر أن يدخل إلى المعركة بمفرده، ذهب رمز المسيح (داود) إلى المعركة يحمل عصا في يده ضد جليات. بهذا أشار بالتأكيد إلى ما قد تحقق في ربنا يسوع المسيح -داود الحقيقي- إذ جاء وحمل صليبه ليحارب جليات الروحي، أي الشيطان.لاحظوا يا إخوة أين ضرب داود الطوباوي جليات: في جبهته (17: 49) حيث لم توجد عليها علامة الصليب. كما أن العصا رمزت إلى الصليب هكذا الحجر الذي ضرب به جليات يرمز إلى ربنا يسوع، لأنه هو الحجر الحي الذي كُتب عنه: "الحجر الذي رفضه البناؤون هذا صار رأسا للزاوية " (مز 117: 22).فسر هزيمة جليات أنه لم يدرك أن به نقطة ضعف لم يكن ممكنًا له أن يتلافاها، وهي أن جبهته مكشوفة، وكأن كل إمكانية بشرية مهما أحكم تدبيرها تجد فيها ثغرة تؤدى إلى فشلها.لم يعرف جليات أن لكبريائه نهاية، فقد وقف 40 يومًا يعير رب الجنود، لكن الله أعد فتى صغيرًا ينهى كبرياء هذا الجبار ويذله، هذا ما يتكرر عبر الأجيال، كل متشامخ ظن أنه قادر أن يحطم الكنيسة ويمحوها من الوجود تحطم هو وزال وتبقى الكنيسة حية قوية.أما سر قوة داود فهو اختفائه في رب الجنود، فلا يكون طرفًا في المعركة بل مجرد أداة في يد الله. المعركة هي بين الله والشيطان، لذا فالنصرة تصدر عن الله نفسه، إذ يقول: "أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود ؛ إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم.. وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب، لأن الحرب للرب، وهو يدفعكم لنا " (1 صم 17: 45 – 47).
مزمور إنجيل القداس.. (مز 29: 10، 11)
المزمور التاسع والعشرون
عاصفة رعدية
أو صوت الرب
يسيطر على هذا المزمور الشعور بسيادة الرب وسلطانه، فيفتتح بمشهد سماوي، حيث تقدم الكائنات العلوية المجد منسجمًا مع صوت الرعد العنيف الصادر عن الكائنات الطبيعية.فقد جاء في الترجمة السبعينية أن هذا المزمور ينشد بمناسبة عيد المظال القدسي، ذلك العيد الذي كانوا يبتهجون فيه بنهاية الحصاد (خاصة العنب والزيتون)، كما يصلى به لكي يرسل الرب مطرًا ليكسر أثر فصل الجفاف (زك 14: 16 – 18). ويربط التلمود مزمور 29 بعيد الخمسين أو عيد الأسابيع.
صوت الرب الفعال
في هذا المزمور نجد "صوت الرب" يتكرر سبع مرات، أشبه بسبع موجات متعاقبة من الرعود، مصورًا قوة الكلمة وفاعليتها في حياة بنى البشر. صوت الرب هو الكلمة المتجسد الذي نزل إلى العالم ليقيم من تلاميذه أبناء الرعد أداة فعالة للتمتع بالحياة الإنجيلية الجديدة، حيث تتزلزل طبيعتهم القديمة وتنهار وتقوم الطبيعة الجديدة الحاملة صورة المسيح الكلمة، تنعم بالبركة والعز والمجد.
"الله في العاصفة"، لا في الطبيعة فقط وإنما في عاصفة النفس الداخلية أيضًا، إنه في أعماقنا يعلن عن ذاته خلال العواصف التي تجتاح طبيعتنا الداخلية. كلمة الله جاء ليدخل النفس ويثير فيها ثورة داخلية ضد الشر ليحطم فينا الإنسان العتيق ويهبنا الإنسان الجديد.
1- دعوة إلى العبادة
"قدموا للرب أبناء الكباش، قدموا للرب مجدا وكرامة،قدموا للرب مجدا لأسمه. اسجدوا للرب في دار قدسه " [1، 2]فسر داود النبي كل قصفة رعد كدعوة موجهة إليه كما إلى الآخرين أن يقدموا مجدًا وكرامة لله.يقدم أولاد الله مجدًا وكرامة لله، ما هو هذا المجد إلا التمتع بجمال الله الفريد الذي هو قداسته، وإعلان نصرتنا على الخطية بقوة نعمته. فإن كان الله كلى القداسة، فإننا لا نقدر أن نمجده إلا بالحياة المقدسة وشركة الطبيعة الإلهية وخبرة عمل نعمته الفائقة.
+ "قدموا للرب أبناء الله، قدموا للرب تقدمة كباش" أي (تقدمة) الرسل و(تقدمة) المؤمنين. لنقتد بمخلصنا الذي دعى هو نفسه بالراعي والحمل والكبش، الذي ذبح لأجلنا في مصر (خر 12: 6)، وأمسك بقرنيه في العليقة (تك 22: 13) فدية عن إسحق.
ماذا يعنى بقوله: " قدموا للرب أبناء الكباش " ؟
هذه العبارة أيضا لا يمكن تفسيرها حرفيًا إنما تحمل نبوة عن الإيمان المسيحي، فإننا إذ ولدنا من آباء كانوا يعبدون الأصنام، أصنام الكباش والحيوانات الأخرى، صرنا بالإيمان -نحن أبناء الكباش- أبناء لله، إذ تركنا عبادة الكباش وآمنا بالله الحقيقي الحي.نحن أبناء الأمم صرنا أبناء لله، كقول المرتل: "عوض آبائك صار بنوك" (مز 45: 16).
2 - العاصفة وصلاح الله
إن كانت العاصفة تشير إلى نبوات العهد القديم، فإن صوت الرب يسمع خلال نبواتهم. وقد تكررت عبارة " صوت الرب " هنا سبع مرات.
3 - الرب الملك الأبدي
"وفي هيكله المقدس كل واحد ينطق بالمجد،الرب يسكن في الطوفان، الرب يجلس ملكًا إلى الأبد" [10]
الآن قد حل كلمة الله المتجسد في برية هذا العالم ليقيم من أبناء الكباش أبناء لله، محولًا المياه الصالحة الكثيرة إلى نهر عذب، أي جماعة الأمم الوثنية إلى كنيسة الله المقدسة، محطمًا تشامخ الإنسان (الأرز)، قاطعًا لهيب نار الشهوات الزمنية، مزلزلًا البرية القاحلة ليعطينا روح الاتضاع بنار روحه القدوس فنتحول من قفر البرية إلى فردوس مثمر [8]، يرتب أيائلنا الهائجة وكاشفًا أعماقنا المضطربة ليهبنا سلامه ويعطينا فهم أسراره الإلهية [9].. يحول حياتنا إلى هيكله المقدس الذي ينطق بأمجاده الفائقة: " وفي هيكله المقدس كل واحد ينطق بالمجد ". ما هو هذا الهيكل إلا كنيسة المسيح المقدسة التي تجمعت من كل الأمم المملوءة عارا لتصير في المجد ؟! هناك يملك الرب على نفوس مؤمنيه، " يسكن في الطوفان "، أي يسكن في مياه المعمودية، ليحل في قلوب من ينالوا العماد بكونهم هيكل الله المقدس.
4 – نعم الله على كنيسته
" الرب يعطى شعبه قوة، الرب يبارك شعبه بالسلام " [11]
لأنه يليق بالرب أن يمنح شعبه الشجاعة في صراعهم ضد عواصف هذه الحياة وبراكينها. إنه لم يعدهم بالهدوء في هذا العالم السفلى!الرب يمنح شعبه السلام " سلامي أنا أعطيكم، سلامي أنا أترك لكم " (يو 14: 27).ختام هذا المزمور يؤكد لنا أن العاصفة لا بد أن تعبر ليتمجد الله الملك الذي يؤكد حبه لكنيسته وقت الضيقة، واهبًا إياها قوة وبركة وسلامًا، إن سلمت حياتها بين يديه واستعانت بصوت الرب ومواعيده كسند وخلاص لها
إنجيل القداس.. لو 6: 39 – 49
وضرب لهم مثلا هل يقدر اعمى ان يقود اعمى اما يسقط الإثنان في حفرة ليس التلميذ افضل من معلمه بل كل من صار كاملًا يكون مثل معلمه لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك واما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها او كيف تقدر أن تقول لأخيك يا أخي دعني أخرج القذى الذي في عينك وأنت لا تنظر الخشبة التي في عينك يا مرائي أخرج اولًا الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيدًا ان تخرج القذى الذي في عين أخيك لأنه ما من شجرة جيدة تثمر ثمرًا رديًا ولا شجرة ردية تثمر ثمرًا جيدًا لأن كل شجرة تعرف من ثمرها فإنهم لا يجتنون من الشوك تينًا ولا يقطفون من العليق عنبً الانسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر فإنه من فضلة القلب يتكلم فمه ولماذا تدعونني يا رب يا رب وأنتم لا تفعلون ما اقوله كل من ياتي إلى ويسمع كلامي ويعمل به اريكم من يشبه يشبه إنسانًا بنى بيتًا وحفر وعمق ووضع الأساس على الصخر فلما حدث سيل صدم النهر ذلك البيت فلم يقدر أن يزعزعه لأنه كان مؤسسًا على الصخر واما الذي يسمع ولا يعمل فيشبه إنسانًا بنى بيته على الأرض من دون أساس فصدمه النهر فسقط حالًا وكان خراب ذلك البيت عظيمًا
+ اهتم الآباء -خاصة آباء البريّة- بالتدقيق في عدم الإدانة، فحسبوا أنه ليس شيء يغضب الله مثلها، إذ تنزع نعمته عمَّن يرتكبها ويرفع رحمته عنه حتى إذا ما ترفَّق بأخيه ينال هو النعمة الإلهيّة ومراحم الله.. لماذا بالحري لا ندين أنفسنا ونحكم على شرِّنا الذي نعرفه تمامًا وبدقة والذي نعطي عنه حسابًا أمام الله! لماذا نغتصب حق الله في الإدانة؟! الله وحده يدين، له أن يبرِّر وله أن يدين. هو يعرف حال كل واحد منَّا وإمكانيَّاتنا وانحرافاتنا ومواهبنا وأحوالنا واستعداداتنا. فله وحده أن يدين حسب معرفته الفريدة. أنه يدين أعمال الأسقف بطريقة، وأعمال الرئيس بطريقة أخرى. يحكم على أب دير، أو تلميذ له بطريقة مغايرة، الشخص القديم (له خبراته ومعرفته) غير طالب الرهبنة، المريض غير ذي الصحَّة السليمة. ومن يقدر أن يفهم كل هذه الأحكام سوى خالق كل شيء ومكوِّن الكل والعارف بكل الأمور.
ويعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على كلمات السيِّد عن عدم الإدانة، قائلًا [بينما يطلب منَّا التعمق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست دون مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة. لذلك يقول الحكيم بولس: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها" (رو 2: 1). فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه. هذا كان حال المرنِّم المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: "إن كنت تُراقب الآثام يا رب يا سيِّد، فمن يقف" (مز 130: 3)، وفي موضع آخر يكشف المرنِّم عن ضعف الإنسان ويتلمَّس له الصفح والمغفرة إذ ورد قوله: "أذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14).]
"لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها" [41].
يكمل القدِّيس كيرلس الكبير حديثه: [سبق أن بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: "لا تدينوا لكي لا تدانوا". والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة الآخرين والحكم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا ونجرِّدها من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا. فإنَّ السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول: كيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم وفحص أسقامهم وأمراضهم وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟! وكيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟! أنك لجريء إذا قمت بذلك، فالأولي بك أن تنزع عنك مخازيك وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبين فيما هو دون جرائمك إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نقي الصفحة طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يصح له أن يكون نموذجًا صالحًا يُحتذى به، وله عند ذلك حق الحكم على الآخرين إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة، أما إذا كان المُرشد مهمِلًا ومرذولًا فليس له أن يدين غيره، لأن به نفس النقص والضعف الذي يراه في الآخرين. كذلك ينصحنا الرسل المغبوطون بالقول: "لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم" (يع 3: 1). ويقول المسيح وهو يكلِّل هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة بشتَّى التأديبات: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات" (مت 5: 19).]وعن ذلك يقول مار إسحق السرياني: [حينما تمتلئ النفس من ثمار الروح، تقوى تمامًا على الكآبة والضيق.. وتفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس.. تطرد كل فكر يوَسْوس لها بأن هذا صالح وذاك شرِّير، هذا بار وذاك خاطئ. تُرتب حواسِها الداخليّة، وتصالحها مع القلب والضمير، لئلا يتحرَّك واحد منها بالغضب أو بالغيرة على واحد من أفراد الخليقة. أما النفس العاقرة الخالية من ثمار الروح، فهي لابسة الحقد على الدوام والغيظ والضيق والكآبة والضجر والاضطراب، وتدين على الدوام قريبها بجيِّد ورديء.]وقد حدَّثنا السيد المسيح صديقنا السماوي عن الحب، مترجمًا عمليًا خلال العطاء، والستر على ضعفات الآخرين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. بهذا يقدِّم لنا مفتاح الدخول إلى حضرة الله للتمتُّع بحبِّه، وكأن هذا يسلِّمنا مفتاح خزانته الإلهيّة، إذ يقول: "اغفروا يُغفر لكم، أعطوا تُعطوا" [37]. وقد دعا القديس أغسطينوس هذين العمليْن: السَتْر على الآخرين، والعطاء جناحي الصلاة، يرفعانها إلى العرش الإلهي بلا عائق. فمن كلماته: [البِرْ الأول يمارس في القلب عندما تغفرون لأخيكم عن أخطائه، والآخر يُمارس في الخارج عندما تعطون الفقير خبزًا. قدِّموا البِرِّين معًا، فبدون أحد هذين الجناحين تبقى صلواتكم بلا حركة]، [إن أردتم أن يُستجاب لكم عندما تطلبون المغفرة: اغفروا يُغفر لكم، أَعطوا تُعطوا.]
أخيرًا أكَّد السيد المسيح أنه في تقديم وصاياه عن المحبَّة يطلب تغيير القلب في الداخل، يطلب في المؤمن أن يكون شجرة صالحة ليأتي بالثمر الصالح، إذ يقول"لأنه ما من شجرة جيِّدة تُثمر ثمرًا رديًا، ولا شجرة رديَّة تثمر ثمرًا جيِّدًا.
الحاجة إلى البناء على الصخر
يعود فيؤكِّد السيد المسيح غاية وصاياه أن تكون ثمرًا طبيعيًا للقلب الجديد الذي يتأسَّس عليه، إذ شبَّه حياتنا ببناء يليق أن يُقام على السيد المسيح "صخر الدهور" فلا تستطيع زوابع الأحداث أن تهدِمه. إيماننا بالمسيح هو الصخرة الداخليّة، خلاله نتقبَّل السيد المسيح نفسه كسِرْ قوَّتنا، يعمل فينا بروحه القدِّوس ليرفعنا إلى حضن أبيه. أما من لا يتأسَّس على "الصخرة الحقيقيّة" فيهتز بناؤه يمينًا وشمالًا بتيَّارات عدوْ الخير المتقلِّبة، الذي لا يهدأ حتى يحطِّمه تمامًا.فليعطنا الرب العين البسيطة حتى لا ندين الآخرين ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
18 مارس 2021
عمق قراءات تذكار ظهور الصليب المحيي: أهمية وقوة الصليب
تتحدث قراءات تذكار ظهور الصليب المقدس عن أهمية وقوة الصليب في حياتنا كما سنري الآن:
البولس (1 كو 1: 17 – 31)
لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل لأبشر لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صليب المسيح فان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماءأين الحكيم أين الكاتب أين مباحث هذا الدهر ألم يجهل الله حكمة هذا العالم لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة لأن اليهود يسالون أية واليونانيين يطلبون حكمة ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما للمدعوين يهودًا ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله اقوى من الناس فانظروا دعوتكم أيها الأخوة أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد ليس كثيرون أقوياء ليس كثيرون شرفاء بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداء حتى كما هو مكتوب من افتخر فليفتخر بالرب هنا ونرجع إلى كلام لسان العطر بولس الذي يقول"لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل لأبشر،لا بحكمة كلام، لئلا يتعطل صليب المسيح [17].
يترجم البعض هذا النص: "لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل بالأكثر لأبشر"، وإلا كان عماده غير قانوني، إنما من حقه أن يُعمد، لكن ما يمارسه بالأكثر هو الكرازة. فقد كان عمل الرسل الأول هو تأسيس الكنائس والاهتمام بالكرازة، فلم يكن لديهم من الوقت ليمارسوا العماد، ليس استخفافًا بالعماد ولكن تفرغًا للشهادة بين غير المؤمنين واجتذابهم للإيمان بالمسيح المصلوب. لم يقلل الرسول من أهمية العماد فقد مدحه بصورة فائقة في (رو3:6). لقد عمد البعض وسيعمد آخرين، لكن عمله الرسولي الأصعب هو الكرازة بالإنجيل.
+ وكأن الرسول يقول أرسلني المسيح لا لأعمد بل لأكرز بالإنجيل. أرسلني في الجانب الشاق، الذي يحتاج بالأكثر إلى التعب وإلى نفسٍ حديديةٍ، الأمر الذي عليه يعتمد كل شيء بعد ذلك.
+ فالكرازة بالإنجيل هي عمل خاص ربما بشخصٍ أو اثنين، أما العماد فتُمنح ممارسته لكل شخصٍ في الكهنوت.وهنا يكشف الرسول بولس عن أسلوبه في الخدمة، فإنه يقدم قوة الصليب للعالم، ولا يكرز خلال الحوار الذي اتسمت به المدارس اليونانية الفلسفية. إنه لم يقتدِ بالمعلمين اليونانيين فيعتمد على البلاغة والمنطق، بل قدم روح القوة، وكشف عن عمل النعمة الإلهية. قدم صليب المسيح في بساطة دون محاولة لوضعه في أسلوب فلسفي برّاق. قدم الروح القدس القادر أن يبلغ أعماق القلب على الدوام، وليس الفلسفة البشرية التي تجتذب الفكر إلى حين. لقد تربّى شاول الطرسوسي عند قدميّ غمّالائيل، لكنه إذ بدأ الكرازة بالصليب تجاهل كل ما ناله من تعليم وفلسفة.
الصليب سرّ الحكمة
وهنا نلاحظ أن من الملامح الرئيسية لهذه الرسالة إبراز قوة الصليب بكونه قوة اللَّه وحكمته للخلاص. إنه القوة المحركة لتغيير أساسات الإنسان الداخلي وتجديد الأعماق، بهذا تتغير حياة العالم الوثني القديم. لم يحقق بولس ولا أبلوس ولا صفا هذا العمل الخلاصي العجيب، إنما تحقق بالكرازة بالمسيح المصلوب.وهنا دعني أيها القارئ الحبيب أركز في هذه الآية "فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة اللَّه" [18]. هنا يُعلن الرسول بولس التعليم بالصليب عن خلاص العالم الذي دمرته الخطية. فالذين يهتمون بالفلسفات البشرية دون خلاصهم يجدونه غباوة، فيرون في المسيح أنه من الناصرة، كان فقيرًا بلا بيت يستقر فيه، وأن أصدقاءه قليلون، ليس له مركز اجتماعي أو ديني عظيم، لم يقدم أفكارًا فلسفية للحوار العقلي، مرفوض من خاصته، وفي ضعف رُفع على خشبة الصليب. سقط تحت العقوبة التي تحل بالعبيد، وكان عاجزًا عن أن يخلص نفسه من عار الصليب. هذا كله لأنهم لم يصدقوا قيامته. وأما الذين يهتمون بخلاصهم فيجدونه قوة اللَّه.
وهنا يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
+ لا تُعرف قوة الصليب بواسطة الهالكين، لأنهم بلا تعقل يعملون كمجانين، يشتكون من الأدوية التي تجلب الخلاص ويرفضونها.
+ لاحظ الآن عندما أقول "صُلب" يقول اليوناني "وهل يُعقل ذلك؟" ذاك الذي لم يجد عونًا أثناء الصليب وعانى من حكمٍ مرٍ في لحظات الصليب، كيف يقوم بعد ذلك ويُعين الآخرين؟.. حقًا يا إنسان إن هذا الأمر بالحقيقة يفوق العقل. قوة الصليب لا يُنطق بها. فإنه إذ كان بالفعل وسط الأهوال يُظهر نفسه فوق كل الأهوال. وبكونه في قبضة العدو يغلب العدو، هذا يتحقق بالقوة غير المحدودة.
+ لم ينزل من الصليب، ليس عجزًا منه، ولكن لأنه لم يرد ذلك.. ذاك الذي يحجم طغيان الموت كيف يمكن لمسامير الصليب أن تحده؟ هذه الأمور المعروفة لنا لم يعرفها بعد غير المؤمنين.
+ هكذا يبدو الصليب موضوع مقاومة، ومع ذلك فهو أعظم من أن يُقاوم، إذ يجتذب (المقاومين).
+ يتحدثون عن الصليب كجهالةٍ وضعفٍ. حقيقة الأمر ليس هكذا، بل هذا هو رأي الآخرين. فإنه إذ يعجز الفلاسفة عن أن يدركوه بالطرق العقلانية يبدو لهم ما هو سامٍ للغاية جهالة.
+ أي شيء لم يقدمه الصليب؟ تعليم خلود النفس، وما يخص قيامة الجسد، والازدراء بالزمنيات، والاشتياق إلى الأخرويات. حقًا إنه يجعل من البشر ملائكة، ويمارس الكل في كل موضعٍ بذل الذات، ويظهرون لك أنواع الاحتمال.
+ أما تعرف كيف أصلح الصليب أخطاء كثيرة؟ ألم يحطم الموت، ويمسحُ الخطية، وينهى قوة الشيطان، وُيشبع كيان جسدنا الصالح؟ ألم يصلح العالم كله، ومع هذا لا تثق أنت فيه؟
+ من يخبر عن أعمال الرب القديرة؟ (مز2:105) من الموت صرنا خالدين، هل فهمتم النصرة والطريق التي بلغتها؟ تعلموا كيف اقتنيت هذه الغلبة بدون تعب وعرق. لم تتلطخ أسلحتنا بالدماء ولا وقفنا في خط المعركة، ولا جُرحنا، ولا رأينا المعركة لكننا اقتنينا المعركة. الجهاد هو مسيحنا، وإكليل النصرة هو لنا.ما دامت النصرة هي لنا، إذن يليق بنا كجنود أن نرتل اليوم بأصوات مفرحة بتسابيح الغلبة. لنسبح سيدنا قائلين: "قد أُبتلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت أين شوكتك يا هاوية؟" (1كو54:15-55).ومن هنا ننتقل إلى الآية "لأن اليهود يسألون آية، واليونانيين يطلبون حكمة" [22].
يرى بعض الدارسين أنه لم يكن يوجد شعب بطيء في قبول الإيمان باللَّه مثل اليهود، وإذ كانوا دائمًا يخشون الخداع. كانوا يطلبون من الأنبياء أن يصنعوا أمامهم آيات وعجائب. هذه هي سمات الشعب اليهودي أنهم لم يكونوا قادرين على التعرف على اللَّه إلا بصنع آيات وعجائب ملموسة. وكانوا يفتخرون بذلك، ويطلبونها من كل نبي يظهر لكي يتأكدوا من صدق إرساليته من قِبَلْ اللَّه. لهذا احتقروا الكرازة البسيطة بالمسيح المصلوب. كانوا ينتظرون المسيا الذي يصنع آيات من السماء (مت38:12)، فيخلصهم من الأعداء بالقوة.ويقصد باليونانيين هنا الأمم بصفة عامة، خاصة الفلاسفة، فإنهم يطلبون ديانة تعتمد على الحكمة البشرية، ولهذا استخفوا بالإنجيل.
+ ففي الرسالة إلى كنيسة كورنثوس نجد ذاك الذي نتحدث عنه بسموٍ، معلم المسكونة، أقصد بولس الرسول يقول: "اليهود يطلبون آية، واليونانيون حكمة. لكننا نكرز بالمسيح مصلوبًا، لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة. وأما لنا نحن المخلصين، سواء كنا من اليهود أو اليونانيين، فالمسيح قوة اللَّه وحكمة اللَّه".
يا له من معلم قوي للإيمان!
فإنه حتى في هذه العبارة إذ يعلم الكنيسة يحسب أنه لا يكفي الحديث عن المسيح بأنه اللَّه، بل يضيف أنه صُلب عن عمدٍ، من أجل التعليم عن الإيمان الواضح والصلد. هذا الذي يعلن عنه، والذي دعاه المصلوب هو حكمة اللَّه.لم يستخدم إذن المهارة ولا احمر وجهه خجلًا عندما أشار إلى صليب المسيح. ومع كونه عثرة لليهود وجهالة للأمم أن يسمعوا بأن اللَّه قد وُلد (بالجسد) في شكل جسدي، وأنه تألم وصلب إلا أنه لم تضعف قوة ملامحه التقية بسبب شر اليهود المقاومين، ولا قلل من قوة إيمانه بسبب غباوة الآخرين وعدم إيمانهم.ويستكمل قائلًا "ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة" [23].
ما كان يشغل قلب الرسل ليس صنع الآيات والعجائب، ولا تقديم فلسفات عقلية مجردة، بل الكرازة بصليب السيد المسيح ليتمتع اليهود كما الأمم بقوة الخلاص.تعثر اليهود لأنهم لم يجدوا في المسيح الملك الأرضي الذي يصنع آيات وعجائب من السماء ليُقيم منهم مملكة عظيمة ويخلصهم من الاستعمار الروماني (مت35:12). جاءهم السيد المسيح وديعًا ومتواضعًا، لا يطلب المجد الزمني فتعثروا فيه. وحسب اليونانيون الصليب غباوة لأنه يقدم شخصًا مصلوبًا، لا معلمًا يحاور في فلسفات وأفكار متغيرة. إنه من اليهودية عاجز عن الدخول في ركب الفلاسفة.هكذا صار الصليب لليهود عثرة وللأمم جهالة. المسيا المصلوب هو الحجر الذي تعثر فيه اليهود (مت44:21). عِوض التمتع بنعمة الخلاص بالصليب سقطوا في إنكار المسيح وجحودهم لعمل اللَّه الخلاصي فزادت خطيتهم.ويعلق القديس أغسطينوس علي هذا قائلًا:
+ المسيح الذي نكرز به في كل العالم ليس مسيحًا يتزين بإكليل أرضي، وليس مسيحًا غنيًا بكنوز العالم، يشتهر بممتلكات أرضية، وإنما هو مسيح مصلوب. هذا كان محتقرًا من كل أمم الشعوب المتعجرفة، ولا يزال مرذولًا من البقية بين الأمم، لكنه هو موضوع إيمان القلّة وليس كل الأمم. لأنه عندما كُرز بالمسيح المصلوب في ذلك الحين آمن به عدد ليس بقليلٍ، إذ جعل العرج يمشون والخرس يتكلمون والصم يسمعون والعمي يرون والموتى يقومون. هكذا حطم كبرياء العالم، فإنه حتى بين أمور هذا العالم ليس شيء أكثر قوة من تواضع اللَّه.
"وأما للمدعوين يهودًا ويونانيين، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله" [24].وهنا نري أن الذين قبلوا الدعوة الإلهية سواء كانوا يهودًا أم من الأمم صارت لهم نظرة واحدة نحو المسيح المصلوب. إنهم يرونه قوة اللَّه، إذ يجدون قوة الخلاص العامل في حياتهم. ويدركون حكمة اللَّه، أي خطته الإلهية للغفران والتقديس وتمجيد الإنسان أبديًّا في الرب. يرون في الصليب سرّ تمتع أعماقهم بالجمال الحقيقي، والسمو في الفكر وضمان الخلاص. يرونه مشرقًا على كل المسكونة ليضم الكل معًا فيه. الكل، سواء من أصل يهودي أو أممي، مدعوون ليصيروا بالحق عروس المسيح العفيفة الواحدة، تحمل قوة اللَّه وحكمته.إن كان اليهود يطلبون آية، فإن المسيح ذاته هو أعظم الآيات، صليبه الذي يبدو لليهود عثرة هو قوة اللَّه للخلاص لمن يؤمن به. يتلامسون بالآية بتجديد أعماقهم. وإن كان اليونانيون يطلبون حكمة، فالمسيح هو حكمة اللَّه (كو3:2).
+ فمن يؤمن حقًا يتحد تمامًا بذاك الذي فيه الحق واللاهوت والجوهر والحياة والحكمة، ويرى فيه كل هذه والتي ليست فيمن لا يؤمن. فإنه بدون ابن اللَّه لا يكون لك وجود ولا اسم، ويصير القوي بلا قوة، والحكيم بلا حكمة. لأن المسيح هو "قوة اللَّه وحكمة اللَّه" (1كو24:1)، فإن من يظن أنه يرى اللَّه الواحد بلا قوة ولا حق ولا حكمة ولا حياة ولا نور حقيقي إما أنه لا يرى شيئًا بالمرة أو بالتأكيد يرى ما هو شر.
+ فعندما خلق اللَّه كل الأشياء.. لم يكن محتاجًا إلى أية مادة لكي يعمل، ولا إلى أدوات في إقامة الخليقة، لأن قوة اللَّه وحكمته لا تحتاج إلى عونٍ خارجي. بل المسيح قوة اللَّه وحكمة اللَّه به كل الأشياء خُلقت، وبغيره لم يكن شيء مما كان كما يشهد يوحنا (يو 3:1).
+ الآن إذ تمم الابن مشيئة الآب، وهذا في لغة الرسول هو "أن يخلص كل بشر" (1تي 4:2)، يلزمهم لأجل نفعهم أن يكرموا الآب والابن مثله، إذ لم يكن ممكنًا أن يتحقق خلاصنا ولم يكن لإرادة اللَّه الصالحة أن تصير عملًا واقعيًّا من أجلنا إلا خلال قوته؛ وتعلمنا الكتب المقدسة أن الابن هو قوة الآب [24].
إنها عثرة لليهود عندما يسمعون المسيح يدعو نفسه إبن اللَّه وهو يكسر السبت. إنها غباوة للأمم إذ يسمعون عن أمور مثل الميلاد البتولي والقيامة يُكرز بهما.وننتقل إلى:"لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس" [25].
تتضح هنا خطة اللَّه للخلاص بالصليب التي تبدو للناس جهالة أو صلب المسيح الذي يبدو ضعفًا (2كو4:13) هو سرّ حكمة المؤمنين وقوتهم. فما يبدو لهم جهلًا هو أكثر حكمة من حكمة الناس، إذ لا تقدر الحكمة البشرية بذاتها أن تدركها. وما يبدو ضعفًا هو أعظم قوة مما للناس من قوة، إذ تحول البشريين إلى سمائيين، والأرض إلى سماء، والضعف إلى قوة.
+ هذه هي مسرته أيضًا أن يخلص بجهالة الإنجيل. أقول ليست جهالة حقيقية، بل تبدو هكذا. فإن ما هو مدهش للغاية قد جلبه ونشره، وهي حكمة أسمى من الأولى لكنها تبدو غباوة.
+ مرة أخرى يطلب اليونانيون منّا نظام البلاغة والسفسطة. وإذ نحن نبشر لهم بالصليب الذي يبدو لليهود ضعفًا، فإنه بالنسبة لليونانيين جهالة. لذلك عندما نعجز عن تحقيق طلباتهم بل نقدم لهم العكس تمامًا، عندما يطلبون علامات وحكمة ليس فقط لا ينالون ما يطلبونه بل يسمعون عكس ما يطلبون ومع ذلك بواسطة الأمور العكسية ينجذبون، أليس هذا بقوة ذاك الذي يُكرز به بطريقة لا يُنطق بها؟
+ ألم ينزل الحكمة لكي يهيئ نفسه لضعفنا، ولكي يظهر لنا نموذج الحياة المقدسة في شكل بشريتنا. ومع ذلك فإننا إذ نأتي نحن إليه نفعل ذلك بالحكمة. هو نفسه عندما جاء إلينا حُسب عمله جهالة في نظر البشر المتكبرين. عندما نأتي إليه نصير أقوياء، وعندما جاء إلينا نُظر إليه كضعيفٍ. ولكن "جهالة اللَّه أقوى من الناس، وضعف اللَّه أقوى من الناس" [25].
ويختتم لسان العطر بولس حديثه بـ"حتى كما هو مكتوب، مَنْ افتخر فليفتخر بالرب" [31].جاء في سفر إرميا النبي: "هكذا قال الرب: لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر بأنه يفهم ويعرفني إني أنا الرب الصانع رحمة وقضاءً وعدلًا في الأرض، لأني بهذا أسر يقول الرب" (إر 23:9-24). فعلة الافتخار بالرب أنه مصدر الحكمة والقوة والغنى والقداسة وكل بركة حاضرة ومستقبلة. نفتخر باللَّه الآب الذي وهبنا كل عطية صالحة في المسيح يسوع. لم يعد فخرنا في الجسد ولا في العالم بحكمته وغناه وسلطانه بل نفتخر بالرب وحده.
مزمور إنجيل القداس:
لك ينبغي التسبيح يا الله في صهيون. ولك توفى النذور في أورشليم. استمع يا الله صلاتي لأنه إليك يأتي كل بشر: هلليلويا.
(إنجيل يوحنا 10: 22 – 38)
وكان عيد التجديد في أورشليم وكان شتاء وكان يسوع يتمشى في الهيكل في رواق سليمان فاحتاط به اليهود وقالوا له إلى متى تعلق أنفسنا إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرًاأجابهم يسوع إني قلت لكم ولستم تؤمنون الأعمال التي أنا اعملها باسم أبي هي تشهد لي ولكنكم لستم تؤمنون لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي أنا والآب واحد فتناول اليهود أيضا حجارة ليرجموه أجابهم يسوع أعمالًا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي بسبب أي عمل منها ترجمونني أجابه اليهود قائلين لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف فانك وأنت إنسان تجعل نفسك إلها أجابهم يسوع أليس مكتوبا في ناموسكم أنا قلت أنكم آلهة إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ولا يمكن أن ينقض المكتوب فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له انك تجدف لأني قلت إني ابن الله إن كنت لست اعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ولكن إن كنت اعمل فان لم تؤمنوا بي فامنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه
"كان عيد التجديد في أورشليم، وكان شتاء". (22)
هنا نجد أيضًا حوارًا بين السيد المسيح واليهود داخل الهيكل، وكان ذلك في عيد التجديد Hanukkah، في الشتاء. كان هذا العيد تذكارًا لما فعله يهوذا المكابي عام 165 / 164 ق.م. قام بتطهير الهيكل من الرجاسة التي دنس بها أنطيخوس الرابع أبيفينوس السرياني الهيكل قبل ثلاث سنوات (1 مك4: 36-59). وألزمهم بالعبادة الوثنية، ومنعهم من ختان الأطفال وحفظ السبت. وقد جاء ذكر هذا العيد في أكثر تفصيل في (٢ مك ١: ١٨). كان يُنظر إلى عودة الحرية إليهم كمن قاموا من الموت وتمتعوا بالحياة من جديد، ولتذكار ذلك أقاموا عيدًا سنويًا في الخامس والعشرين من شهر كسلو، حوالي بدء شهر ديسمبر ويمتد العيد لمدة تسعة أيام بالأنوار. لا يُحتفل بالعيد في أورشليم وحدها كبقية الأعياد، وإنما يحتفل به كواحد في موضعه، وذلك كعيد الفوريم (إش ٩: ١٩). إذ كان اليهود يحتفلون بعيد تقديس الهيكل وتكريسه (22) أعلن السيد المسيح أنه هو الذي كرسه الآب وأرسله إلى العالم (36).
"وكان يسوع يتمشى في الهيكل في رواق سليمان، فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلق أنفسنا؟
إن كنت أنت المسيح، فقل لنا جهرا".
كان يسوع يتمشى في الهيكل، في رواق سليمان، وهو يقع في القسم الشرقي من دار الأمم، أكبر دار في منطقة الهيكل، يحوط المباني الداخلية. هذا لا يعني أن الذي بناه سليمان، لأن الهيكل تهدم وأعيد بنائه، لكنه صار لا يزال يحمل اسم أول من قام ببنائه، وقد احتفظوا باسم سليمان من أجل شهرته العظيمة "هيكل سليمان".تمشى يسوع وحده كمن يلاحظ تصرفات مجلس السنهدرين الجالس هناك، حيث قيل: "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جورًا وترفعون وجوه الأشرار؟" (مز ٨٢: ١-٢). يتمشى ليقدم خدماته لكل محتاج، ويجيب على كل تساءل، ولكي يفتح الباب لكل راغب في المشي معه في الرواق.
سُئل السيد المسيح في اليوم الثامن من العيد إن كان هو المسيح، فأجاب:
أ- يعرف قطيع المسيح الحقيقي لاهوته ومسيحانيته (25-27).
ب- يخلص قطيعه في آمان وسلام (28-29).
ج- أكد يسوع وحدة الجوهر مع الآب، وأدرك اليهود أنه يساوي نفسه بالآب (30-31).
د - دافع عن لاهوته بأعماله وبنبوات الكتاب المقدس (32-39).
ه - إن كان إسرائيل يدعو قضاته آلهة (34-39] لأنهم يمثلون اللَّه (مز 7:82)، فلماذا يتعثرون في ابن اللَّه الحقيقي الذي أرسله الآب (36).
فقد جاء إلى بيته وبيت أبيه، أي الهيكل، ليخدم كل نفس تطلبه، لكنهم اجتمعوا معًا كرجلٍ واحدٍ بنية شريرة يسألونه لماذا يعلق أنفسهم، فإن كان هو المسيح المنتظر فليخبرهم. وهنا يرى البعض أن السؤال حمل اتهامًا شريرًا.
كأنهم يقولون: لماذا تسحب قلوب الناس كما فعل أبشالوم حين تمرد على داود أبيه ليسحب منه العرش بروح الغش والخداع؟ أو لماذا تخدع قلوب البسطاء لتقيم لك تلاميذ؟ جاء سؤالهم يحمل مظهرًا صالحًا أنهم يريدون التعرف على الحق.إنهم كانوا يعلمون أن المسيا سيكون ملكًا، لكن حسب فكرهم أنه ملك زمني. لهذا طلبوا إجابة صريحة كي يشتكوا عليه لدى السلطات الرومانية أنه متمرد وخائن للرومان.
لم يلم القادة أنفسهم على فساد أفكارهم وقلوبهم بل ألقوا باللوم على السيد المسيح نفسه الذي جذب الشعب وبعض القادة فسبب ارتباكًا وانقسامًا في مجمع السنهدرين،إنهم يلقون باللوم على السيد المسيح أنه تركهم في حيرة وارتباك. عوض لومهم لأنفسهم أنهم لا يقبلون الحق، ولا يريدون المعرفة. كأنه قد أرادت بعض القيادات الدينية اليهودية أن تدخل معه في مشاجرة: إلى متى تتركنا في حيرة وقلق؟ إلى متى تسحب قلوبنا؟ لتكن واضحًا وتعلن عن شخصك علانية. فإن أعماله تشهد أنه هو المسيا المنتظر، أما هم فيريدون كلمة صريحة ربما لكي يدينوه عليها متى أعلن أنه المسيا المنتظر.
ويرى البعض الأخر أن كلمة "نفوسنا" هنا تعني "حياتنا"، وذلك كما سبق فقال السيد المسيح: "لي سلطان أن أضع نفسي"، أي يموت. ولعل بعض اليهود شعروا أن تعاليم السيد المسيح بما فيها من حب وتسامح ستفضي تمامًا على حياتهم كأمة يهودية. وقد عبَّر عن ذلك قيافا حين قال: "إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا" (١١: ٤٨).
+ لقد عرف أن نيتهم التي بها قدموا هذا التساؤل شريرة. فإنهم إذ يحيطون به وبقولون: "إلى متى تعلق أنفسنا؟" كما لو صدرت عن غيرة نحو المعرفة. لكن غايتهم كانت منحرفة وفاسدة مملوءة قروحًا خفية.. فإنهم لم يسألوا لأجل التعلم كما يبدو الهدف.وقد انتقل السيد المسيح في كلامه معهم إلى إثبات وحدانيته مع الآب فقال"أنا والآب واحد". (30)
لم يقل "أنا والآب متطابقان"، بل "أنا والآب واحد"، إنها وحدة حب وعمل كما هي وحدة جوهر، لهذا فهي وحدة فريدة لا يمكن لخليقة ما أن تبلغها، وإنما هي المثل الأعلى للوحدة التي يشتهيها من يلتصق بالله، ويتحد معه.جاء الحديث عن هذه الوحدة مرتبط بالحديث عن رعاية الابن والآب للمؤمن حيث لا يقدر أحد أن يخطفه من يد الابن أو الآب. كأن أساس الرعاية الإلهية هي وحدة الحب الفريد بين أقنومي الآب والابن، وغاية هذه الرعاية أن يحمل المؤمنين أيقونة الوحدة.
+ يقول السيد المسيح نفسه: "أنا والآب واحد" (30). يقول "واحد" حيث لا يوجد انفصال في السلطان وفي الطبيعة. لكن مرة ثانية يقول: "نحن" لكي ندرك الآب والابن، إذ نؤمن أن الآب الكامل يلد الابن الكامل؛ والآب والابن هما واحد دون خلط في الأقانيم بل في وحدة الطبيعة.ومن هذا الحديث أثبت لهم اليد المسيح كمال وحدانيته مع أبيه الصالح، ولذلك نؤمن في كنيستنا الأرثوذكسية أن الثالوث القدوس قد إشترك في إتمام العمل الخلاصي الذي تم علي عود الصليب كما نصلي في ثيؤطوكية يوم الثلاثاء قائلين "لأنه بإرادته ومسرة أبيه والروح القدس أتي وخلصنا".ولذلك نصرخ من عمق قلوبنا قائلين: يا يسوع المسيح إلهنا الحقيقي الذي صلبت علي الصليب من أجل خلاصنا، خلصنا واغفر لنا خطايانا وأترك لنا آثامنا لأنك أنت الممجد إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
17 مارس 2021
فضائل ومشاعر مصاحبة للصوم 2
الصوم يصحبه ضبط النفس:-
جميل أن تضبط نفسك ضد كل رغبة خاطئة، سواء أتتك من داخلك أو من حروب الشياطين. فالذي يملك روحه خير ممن يملك مدينة) (أم 16: 32).أمسك إذن زمام إرادتك في يدك.في صوم الجسد تشمل كل فكر، وكل رغبة بطالة، وكل تصرف خاطئ، وكل شهوة للجسد. أما الذي يملك إرادتك في الطعام فقط، وينغلب من باقي شهواته، فصومه جسداني. والذي لا يستطيع أن يضبط نفسه في صوم الجسد، فبالتالي سوف لا يستطيع أن يضبط نفسه في الأفكار والشهوات والتصرفات.أما ضبطك لشهواتك فدليل علي الزهد ومحبة الله.
الصوم يصحبه قهر الجسد:-
تقول للجسد في الصوم: أرفع يدك عن الروح، وأطلقها من روابطك، لتتمتع بالله. وأنت تصوم لكي تنفك من رباطات الجسد. وشهوة الأكل هي إحدى هذه الرباطات. وهناك رباطات أخري كالشهوات الجسدية. وهكذا في الصوم، يكون قهر الجسد أيضا بالبعد عن العلاقات الزوجية، ولكن يكون ذلك باتفاق (1كو 7:5). وكما يقول يوئيل النبي في الصوم "ليخرج العريس من خدره، والعرس من حجلتها" (يوئيل 2: 16). وكما قيل عن داريوس الملك، لما ألقي دانيال في الجب إنه "بات صائمًا، ولم يؤت قدامه بسراريه" (دا 6: 18). حتى مجرد زينة الجسد.. قال دانيال النبي في صومه " ولم أدهن "(دا 10: 3). وقال عن شهوة الطعام "ولم آكل طعامًا شهيًا".قهر الجسد ليس هدفًا في ذاته، بل وسيلة للروح.إن ضبط الجسد لازم حتى لا ينحرف فيهلك الروح معه وفي ذلك ما أخطر قول الرسول "أقمع جسدي وأستعبده. حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1كو 9:27). فحينما يكون الجسد مقهورًا، تمسك الروح بدفة الموقف وتدبير العمل. والجسد حينئذ لا يقاومها، بل يشترك معها ويخضع لقيادتها. أضبط إذن جسدك، وأبعده عن كل المتع والترفيهات والشهوات، بحكمة.ولا يكفي فقط أن تصوم، بل تنتصر علي شهوة الأكل.وهذا يقودنا في الصوم إلي فضيلة أخري هي الزهد.
الصوم يصحبه الزهد:-
قد يمتنع الإنسان عن الطعام، ولكنه يشتهيه. لذلك فليس السمو في الامتناع عن الطعام، إنما في الزُّهد فيه. الارتفاع عن مستوي الأكل، يوصل إلي الزهد فيه، وإلي النسك فيه، وبالتالي إلي فضيلة التجرد. ولكن ماذا إن لم يستطع أن يصل إلي الزهد والتجرد؟
إن لم يمكنك التجرد و الزهد، فعلي الأقل أترك من أجل الله شيئًا.كان المطلوب من آدم وحواء، أن يتركا من أجل الله ثمرة واحدة من الثمار. والمعروف أن تَرْك الطعام أو نوع منه، ليس إلا تدريبًا لِتَرْك كل شيء لأجل الله.. وأنت ماذا تريد في الصوم أن تترك لجل الله، لأجل محبته وحفظ وصاياه؟ أن الله ليس محتاجًا إلي تركك شيئًا. ولكنك بهذا تدل علي أن محبتك لله قد صارت أعمق، وقد عملية. ومن أجل محبته أصبحت تضحي برغباتك.
الصوم تصحبه الصدقة:-
فالذي يشعر في الصوم بالجوع، يشفق علي الجوعانين. وبهذه الرحمة يقبل الله صومه، وكما قال "طوبي للرحماء فإنهم يرحمون" (مت 5: 7). والكنيسة من اهتمامها بالصدقة، ترتل في الصوم الكبير ترنيمة "طوبى للرحماء علي المساكين".ومن اهتمام الرب بالصدقة، قال في نبوة إشعياء."أليس هذا صومًا أختاره: حل قيود الشر.. إطلاق المسحوقين أحرارًا.. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلي بيتك. إذا رأيت عريانًا أن تكسوه، وأن لا تتغاضي عن لحمك" (أش 58: 7).وفي عصر الشهداء و المعترفين، كانت الكنيسة تقول هذا التعليم أن لم تجد ما تعطيه لهؤلاء، فصم وقدم لهم طعامك.
أي أنك لا تصوم، وتوفر الطعام لك. وإنما تصوم وتقدم للمساكين الطعام الذي وفرته. ولهذا اعتادت كثير من الكنائس في أيام الصوم، أن تقيم موائد للفقراء تسميها أغابي `agapy. ولكي لا يحرج الفقراء إن أكلوا وحدهم، يأكل الشعب كله معًا.
الصوم تصحبه الميطانيات:-
المطانيات metanoia هي السجود المتوالي، مصحوبًا بصلوات قصيرة.والكنيسة تربط المطانيات بالصوم الانقطاعي. فالأيام التي لا يجوز فيها الصوم الانقطاعي. مثل الأعياد والسبوت والآحاد والخماسين - لا تجوز فيها أيضًا المطانيات، سواء من الناحية الروحية أو الجسدية. لذلك يحسن أن تكون المطانيات في الصباح المبكر، أو في أي موعد أثناء الانقطاع قبل تناول الطعام.يمكن أن تكون المطانيات تذللًا أمام الله.أي أنه مع كل مطانية metanoia، يبكت الإنسان نفسه أمام الله علي خطية ما، ويطلب مغفرتها: أنا يا رب أخطأت في كذا، فاغفر لي. أنال نجست هيكلك فاغفر لي. أغفر لي أنا الكسلان، أنا المتهاون، أنا الذي.. ويمكن أن تكون المطانيات مصحوبة بصلوات شكر أو تسبيح.ويمكن القيام بتمهيد روحي قبل المطانيات.كمحاسبة للنفس، أو أية قراءة روحية تشعل الحرارة في القلب.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب روحانية الصوم
المزيد
16 مارس 2021
حِوَارٌ عَلَىَ جَبَلِ التَّجْرُبَة
كم من مرة جعتُ وكان جسدي يريد أن يأكل؛ لكنني امتنعتُ عن تناول الطعام كي أستحق الطوبىَ بالجلوس على مائدة السمائن الروحية... عطش جسدي الذي جُبل من طين الأرض وترابها، ورغبتُ أن أشرب الماء؛ لكنني صمتُ حتى أرتوي من ندى النعمة والرحمة... ناظرًا إلى صومك عني ولأجلي لأنك لم تكن محتاجًا لأن تصوم، فقلتُ كم أنا المحتاج للصوم حتى تتصور أنت فيَّ وتشكِّلني على شكلك الخاص...
عندما استهوتني الشهوة والترف؛ تطلعتُ إلى مرارة الخل التي تجرعتَها لأجلي يا مخلصي؛ فأقمتُ من نفسي لك كنيسة محسوسة؛ أقدم لك فيها العبادة العقلية الناطقة بأتعاب جسمي؛ بخورًا وعطورًا لتشتمّها رائحة رضىً ومسرة عندك.
عند رؤيتي لك صائمًا؛ أتدرب لأجعل ذهني وإرادتي مذبحًا لك؛ لعلني يا مخلصي أقدم ذاتي قربانًا وصعيدة لك؛ كي تكملها وتقبلها... نسيتُ الجوع ومرارة الحلق لمّا رأيتُك مصلوبًا بين اللصين تتذوق مرارة الأفسنتين لأجل خلاصي... نسيتُ ضيق العطش وكأنه لم يكن؛ لأنك أنت تُرويني حلاوة من نبعك ومَعِين جنبك المفتوح الذي لا ينضب... لن أُعيرَ للأطعمة اهتمامًا؛ بعد أن تطلعتُ إليك وأنت معلقًا على عود الصليب؛ تمتص الخل من الأسفنجة. لذا صمتُ لأتشبه بفعل صومك؛ كي أميت بالروح أعمال الجسد وشغبه... أذللتُ بالصوم نفسي (مز ١٣:٣٥) لأنك من أجلي احتملت المحقرة ومذلة الجلد والبصاق.
سأرجع إليك بالصوم من كل قلبي لأنك رؤوف ورحيم. أعمل بإسمك ولحسابك وبإمكانياتك؛ فأكتشف الكنز وأنتصر في التجربة؛ وأرجع إليك مع الابن الشاطر؛ وأشرب من نبعك الحي مع السامرية، وأقوم مع المخلع وأستنير مع المولود أعمى ومع كل شعبك، مقدمين لك ذبائح حية بخدمة محبة حارقة مبتعدة عن كل مَناهيك (مناهي الله)... تقدمة عاقلة لك بنار السجود والتوبة؛ وذبيحة متحدة بذبيحتك التي بها حملتَ العقاب الذي كان علينا. خاضعًا للتأديبات التي نستحقها؛ متنازلاً لما نحن عليه؛ منحنيًا لتحمل عنا اللعنة وترفعنا إلى مركزك المبارك... بإقامتك لنفسك أمامنا نموذجًا لنا؛ مجهزًا إيانا بسلاحك الكامل من أجل نصرة مشيئتك؛ التي تجعلنا نصير من أجلك كما صرتَ أنت من أجلنا.
صرتَ مثالاً عمليًا لنا في كل شيء؛ جعتَ وأنت الخبز النازل المعطي الحياة؛ قوام كل شيء؛ لأنك الأعلىَ من الكل بلاهوتك والمساوي لنا في بشريتك؛ صمت عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة؛ لتؤسس لنا طريق الجهاد الروحي؛ ولتعلمنا كيف نواجه عدونا اللعين الذي يعمل في أبناء المعصية؛ مهيئًا لنا طريق السموات منتصرًا على الشيطان الذي كان غالبًا لنا؛ فطرحته إلى أسفل وعريته من قوته؛ ونزعت سلاحه كي تمنحنا نصرتك في رحلة صومك؛ ولكي يصير لنا الإدراك الروحي والعِلم الخاص بك؛ فنصعد معك على جبل التجربة لنُميت شهوات أجسادنا؛ ونضبط أنفسنا؛ ونبرأ من نزف دم الحرفية والناموسية والشكلية والنفسانية... فلا نتلاهىَ عن أبديتنا فيما بعد؛ لأنك صنعت من نفسك طريقًا لنا كي نتبع خطواتك.
عندما تصوم حواسنا ونجوع لك؛ تكون أنت شبعنا وخبزنا ومِلئنا؛ حينئذ نتكل عليك يا الله الحي؛ فلا ننهار من التخاويف؛ ولا نسقط تحت وطأة وعيد وتهديد الأشرار؛ ولا تؤذينا حرارة نيران هذا العالم... صومنا يليِّن قلوبنا المتعاظمة المُتخمة من قساوتها وغلاظتها؛ فترجع وتتوب إليك؛ لأنك لا تسكن في المستريحين والمدللين؛ والرخاوة عندك لا تُمسك صيدًا. ننعم بفصحك على أعشاب الصوم المرة؛ مرافقين لك مسيرة جبل التجربة في أمانة الشركة حذرين من غش الشركة؛ لنصير شركاء طبيعتك الإلهية.
كيف لنا أن نجوع وأنت قد رتبت لنا مائدة تجاه مضايقينا؟! كيف نجوع بينما كل شيء مُعَد؛ ووليمة السمائن موضوعة لجميع الشعوب؟! إنك تعرف ضعفنا ونقصنا ولا تقسو علينا؛ لكنك تريدنا مثلك؛ فاتحًا لنا طريق الغلبة بإنتصارك على المجرِّب في موقعة جبل التجربة... كي لا نسقط ثم يُسرع العدو ويتهمنا ثم يلتهمنا؛ بل نُبطل حيله هادمين كل ظنون وإرادة ذاتية؛ عندئذ نردّ لك وديعتنا سليمة كاملة على ذات الحال الذي أخذناها عليه؛ وصورتك المقدسة قائمة وصحيحة فيها؛ لأنك تطلب بهاءك المغروس فينا: فلا نخدم سيدين؛ ولا نهتم بالغد؛ ولا نكنز كنوز الأرض.
إن التجربة على الجبل هي إحدى شوامخ تدبيرك الإلهي؛ عندما تقدمت لتصارع وتغلب العدو كباكورة لنا -(آدم الثاني الجديد)- عدو جنسنا الشيطان؛ فتُسلمنا خبرة حياة؛ لأن آدم الأول كان عِلة سقوط؛ بينما أنت موضع النصرة... فالأول نفساني ترابي؛ لكنك أنت روح مُحيي الرب من السماء... علمتنا أن لا نطيع الشيطان؛ ولا ندخل معه في حوار البتة؛ فنتعلم منك الطاعة التي تألمت بها؛ بالخبرة والعمل؛ فتعليمك فعل وممارسة... علمنا في صومك أن نصنع صدقة ونقدم صلاة وصومًا في الخفاء. علمنا أن لا نعود نكسر وصاياك ولا نأكل من المحرَّمات؛ بل نتناول كل طعام وعمل ومشيئة من يدك؛ مدركين أن حياتنا ليست من اللباس ولا من الطعام؛ لكنها نسمة من عندك؛ وأنت الذي تمنحنا كل شيء بغنى للتمتع؛ فنلتقي بك عند ماء بئر يعقوب؛ وعند بركة بيت حسدا؛ وقبالة بركة سلوام؛ حتى لا نعود نطعن أنفسنا بأوجاع كثيرة؛ بل نسجد لك بالروح والحق؛ ونجحد إبليس علانية وكل أعماله وكل أفكاره وكل بقية نفاقه... كما يقول مار إسحق: (إن السجود يُرعب الجن؛ لأنه يشتهي أن يُطاع هو؛ وأن يخضع له الناس). إننا نسجد لك صائمين؛ لأنه من غير الجائز أن نسجد ونحن ممتلئو البطون؛ كي نخرج معك بالروح؛ ونتعلم إجتياز كل ما عملته؛ حتى لا نكون عاطلين؛ بل نتيقن مما أودعته لنا من كنوز أدويتك؛ ففيك نربح كل شيء؛ لأنك قمت وأعنتنا.
في صومك في البرية؛ علمنا أن نقاوم إبليس فيهرب منا؛ أنك أُصعدتَ بحسب ما يقتضيه منطق التدبير كي تُجرَّب؛ لتعلمنا أن نلتصق بك ونتحد مع بقية القطيع؛ فننتصر... قدمت لنا صومك كي ترسم لنا طريق نصرة الخلاص. كمثل طبيب تعفينا من الموت؛ وتشفينا من كل سهام. وضعت على نفسك الصوم بدلاً عنا؛ كي تكون لنا مثالاً؛ وكي تردنا إلى الفردوس؛ وتنجينا من طوفان هذا العالم ومن بروق سدوم وعامورة الحارقة؛ التي كان إثمها الكبرياء والشبع من الخبز والإسراف في التنعم (حز ٤٩:١٦)؛ وبهذا تدلنا على أدوية خلاصنا؛ وعلى تصديق حقيقة وعظمة تدبيرك.
بك ومعك تصير ثمرة صومنا نافعة؛ فلا تهزمنا التجربة ولا تغطينا ظلمة الآلام؛ لأنك قتلتها بآلامك الشافية المُحيية... سمحت لنفسك أن تُجرَّب باعتبارك الوسيط بيننا وبين الآب؛ مريدًا أن تُعيننا كي ننتصر بك يا من تقدر أن تعين المجربين... صمت أربعين يومًا ولم تصم أكثر من موسى وإيليا؛ لأنك أخذت جسدًا مثل أجسادنا ولم تُزد عنهم لئلا يكون تدبير تجسدك غير مصدَّق... أجبتَ أيها الكلمة بالكلمة الإلهية التي خرجت من فمك والمكتوبة والتي بها وحدها ننتصر؛ وأتيت بشهادة سفر التثنية؛ لأن كل من لا يعيش بك وبكلمتك لا يحيا. كلمتك التي هي أنفاسك ومشيئتك التي أعلنتها في الأسفار الإلهية؛ وهي التي تحمينا من تربُّص إبليس بنا؛ حتى في الأماكن المقدسة... عندما يوقفنا على جناح الهيكل ويحاربنا بالمجد الباطل وبالنصيب الأكبر؛ كي يطرحنا إلى أسفل بفخاخه... إنه يستخدم كلامك ويوظفه بقصد شرير ليخدعنا؛ لأن كل واحد يلقي بنفسه إلى أسفل بمشورته؛ إنما يهلك بمشورة نفسه. حقًا إن عدونا لا يقدر على أحد؛ لكن كل من يتهاون بخلاص نفسه؛ إنما شهوته هي التي تصرعه.
في صومك يا رب نقتفي خطواتك؛ لأنك أنت وحدك الأقوى من القوي... والقادر وحدك أن تغلبه وتنزع سلاحه وتعلن سلطانك وقوتك؛ التي بها نعبر برية هذا العالم ونقاوم فظاعة مساكنة الوحوش والذئاب؛ ونحن محاطين بقوة خدمة ملائكتك وبوعدك لنا بأن الشيطان يسقط مثل البرق... إنه يقف ضدًا لنا في تحدٍّ... يجول ويزأر كي يبتلعنا منذ يوم معموديتنا وهو يحاربنا ويهدد وجودنا؛ إذ أن باب التجربة سيستمر مفتوحًا على طول المدى؛ حتى وإن تركنا إلى حين؛ لكنك أعطيت النصرة كميراث وكحق لكل من يجاهد على قدر طاقته ضد هذا المعاند والمشتكي. بإسمك ننتهر هذا المعتنف والقتَّال للناس حتى لا نسقط وحتى لا يشتكي هو علينا؛ معلنين أننا لسنا من خواصه وأنه ليس له فينا نصيب. متمسكين برجائنا فيك؛ حتى لا نيأس من مجاذباته. متذكرين أننا وُلدنا منك؛ وأنك أنت قد أدنت الخطية في الجسد؛ فلن تسود علينا.
فلنلتقط أسلحتك يا رب؛ حافظين أسفارك لنحيا بكل كلمة تخرج من فمك؛ ونُشهر كلمتك في وجه الشيطان الذي يخدعنا بكلمات مكتوبة؛ لكنها معسولة؛ كدافع للتجربة. أنت من سمائك ترعى أعوازنا؛ وتهب لنا منَّك السماوي... فشتّان بين تدبيرك وبين حيل الشرير الجهنمية... إنك لن تطرحنا إلى أسفل ولن تدعنا نسقط أو نرتد إلى خلف؛ لأنك تحملنا على الأذرع الأبدية... فكل شيء قد دُفع لك؛ وأنت تعطيه لمن تريد؛ تعطيه لكل من لا يخر ولا يسجد لإبليس ولا لمجد ممالك عالمه الدنيوي الفاني؛ تلك التي يملك فيها على رقاب العباد بالغش والخداع والظلم وإزهاق الأرواح... إننا نتمسك بنصرتك يا مسيحنا ونسلمك مشيئتنا في ساعات الظلمة؛ لنغلب بك أعوان الشيطان (اذهب يا شيطان) فلك وحدك نسجد وإياك وحدك نعبد... في جبالك تقود نصرتنا وأمجادنا من جبل التجربة إلى جبل التجلي إلى جبل الجلجثة ونحن تحت مشيئتك؛ إذ أنك تعطينا مع كل تجربة المنفذ؛ فلا نتجرب فوق ما نستطيع؛ لكن بك ننجو من الشرير.
بصومك تعضدنا ضد مجاذبات الشهوة؛ وتعلمنا كيف نظفر بالشيطان. بصومك تردنا دفعة أخرى إلى الفردوس الذي منه طُردنا بسبب عصيان آدم الأول. علمتنا أن لا نسقط في الحفرة؛ ولا نبتلع الطُعم؛ لكن نعبر من البرية إلى الفردوس؛ وننظر إلى طريقك لنسلكها. بصومك أربعين يومًا؛ وبهذا الرقم السري؛ فتحت لنا طريق الدخول بمجد إنجيلك؛ لأنك في صومك لم تجُع إلى خبز الجسد؛ بل إلى خلاصنا... عدونا المحتال ظن أنه سيجربك ويظفر بك... فبدأ بما سبق وغلب به آدم من قبل؛ لكنك ظفرت به لأجلنا كي نتغذى بكلمتك الحية بدلاً من خبز الأرض؛ ولكي ننشغل بالخبز الجوهري غير المنظور الذي يثبت قلوب البشر (مز ١٥:١٠٣)... فنحن لا نحيا بالخبز وحده؛ بل كلمتك الآتية من عندك هي قُوت وقوام نفوسنا. وصومك يعلمنا أنه لا بد أن ننقاد بالروح حتى تصير لنا الغلبة ونبتعد عن المجد الفارغ والافتخار وشهوة الأعمال الخارقة والتزويق لئلا ننحدر إلى أسفل في الهاوية. فعدونا لا يقدر أن يؤذي إلا ذاك الذي يلقي بذاته إلى أسفل؛ فمن يترك عنه السماء ليختار الدنيا تتدنى حياته؛ ويسقط في الهُوَّة وقبض الريح؛ لأن هذا العالم وممالكه التي نراها في لحظة من الزمان هي أيضًا ستفنىَ وتنحل في لحظة؛ إنه عالم بائد وفانٍ؛ وهو من الهزالة والزوال؛ بحيث أنه يمضي قبل أن يأتي؛ لأنه سراب ولم يخرج منه أحد بشيء.
لقد قبلت بإرادتك أن تُجرَّب من الشيطان لتحولنا إلى شخصك؛ ففيك نُجرَّب؛ لأنك أخذت جسدنا وموتنا لتعطينا حياتك وخلاصك... منا أخذتَ الإدانة والتجربة وأعطيتنا البر والغلبة؛ وإن كنا نتجرَّب فيك؛ ففيك أيضًا الغلبة على الوحوش الرابضة في أعماقنا؛ وعلى الوحوش الرابضة من حولنا؛ لأننا لن نفوز بالإكليل إلا إذا غلبنا؛ ولا يمكن أن نغلب إلا إذا جاهدنا؛ ولا يمكن أن نجاهد إلا بنعمتك غير المغلوبة... فالمجد لك يا محب البشر؛ يا من أبطلت قوة العدو وحيله وحججه؛ وفضحت المجرِّب؛ وعلمتنا المسلك.
القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
15 مارس 2021
«انصفني من خصمي»قاضي الظلم(1)
إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الثاني من الصوم المقدس (لو 18: 1-8)
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القدَّاس:
إنجيل هذا الصباح مُركَّز في آياته عن الأيام الأخيرة، وفي الأصحاح السابق (لو 17: 20-37) يتكلَّم المسيح عن علامات الزمان الأخير. ولذلك قال الرب يسوع في إنجيل هذا الصباح لتلاميذه: «وقال لهم أيضاً مَثَلاً» (لو 18: 1)، وذلك لكي يربط المَثَل بالآيات السابقة له. وفي البولس (رو 1: 18-25)، يتكلَّم بولس الرسول عن الخطية حينما تتفشَّى، «لأن غضب الله مُعْلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم»، وبدأ يذكر بولس الرسول العديد من الخطايا المنتشرة.
وفي الكاثوليكون (يهوذا 1-8) يتكلَّم يهوذا الرسول عن «سدوم وعمورة والمدن التي حولهما، إذ زنت على طريقٍ مثلهما، ومضت وراء جسدٍ آخر، جُعِلَت عِبْرَةً مُكابدَةً عقاب نارٍ أبدية».
وفي الإبركسيس (أع 4: 36-5: 11) تكلَّم عن شناعة الخطية في قصة حنانيَّا وسَفِّيرة.
وإنجيل هذا الصباح يتكلَّم عن أرملة تشكو من ظلم خصمها. ولكن يلزمنا أن نفهم أنَّ الكلام في هذا الإنجيل، وإنْ كان يتكلَّم عن الأيام الأخيرة وضيقات الأيام الأخيرة؛ إلاَّ أنه غير محصور في الأيام الأخيرة، ولكن أيضاً في كل ضيقة يُعانيها المؤمنون، لأن المسيح قال: «في العالم سيكون لكم ضيق» (يو 16: 33). ضيقات الأيام الأخيرة هي الصورة النهائية للضيقات التي سنجوزها في العالم، ولا يمكننا أن نَعبُر هذا العالم إلاَّ من خلال الضيقات.إذن، فكل تصوير يختص بالأيام الأخيرة من جهة الضيقات ومن جهة ضرورة الصلاة، ينطبق على كل يوم وكل لحظة نمرُّ بها ونُعاني فيها من الضيقات.
في إنجيل لوقا (17: 20-37) يكشف المسيح عن علامات الزمان الأخير، أنها مثل علامات الطوفان وعلامات سدوم وعمورة: «وكما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الإنسان. كانوا يأكلون ويشربون، ويزوِّجون ويتزوَّجون، إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفُلْك، وجاء الطوفان وأهلك الجميع. كذلك أيضاً كما كان في أيام لوط، كانوا يأكلون ويشربون، ويشترون ويبيعون، ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم، أمطر ناراً وكبريتاً من السماء فأهلك الجميع. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يُظْهَر ابن الإنسان». فعلامات آخر الزمان مترتِّبة على كثرة الخطية.ثم أوضح المسيح قائلاً: «إنه في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر. تكون اثنتان تطحنان معاً، فتؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى. يكون اثنان في الحقل، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر». كلام المسيح هنا مُصوَّب على الفردية. والخطورة هنا أن يختبئ الإنسان في الجماعة، أو يختبئ في الأسرة، أو يختبئ في الكنيسة، دون أن يعمل شيئاً. ولذلك يقول المسيح: «اثنتان تطحنان معاً، فتؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى»، أي واحدة تُختَطَف إلى الملكوت، وأخرى لا يكون نصيبها في الملكوت، هنا الاتجاه مباشر للقلب.وبعد أن وصف المسيح الأيام الأخيرة وعلاماتها، ووصف نصيب الإنسان، «قال لهم أيضاً مَثَلاً في أنه ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُمَلَّ». ولم يربط المسيح الصلاة بالأيام الأخيرة فقط، ولكن كل حين. إذن، موضوع الإنجيل هو ”الصلاة بلا ملل“.
لماذا تأتي أزمنة الضيق؟
لابد أن نعلم أنَّ الله غير مُغرَم بالضيق. فالله أوجد جنة عَدْن، ووضع فيها آدم «ليعملها ويحفظها» (تك 2: 15)، وهي جيدة جداً، ولكن لما أخطأ آدم وامرأته فسدت الأرض نفسها. ثم تزايد شر الإنسان حتى جاء الطوفان. وهكذا في سدوم وعمورة، كان لوط يحيا في مدينة جميلة وأرض جيدة، لكن الإنسان أفسدها بشرِّه وخطيته. إذن، عمل الله جيد، ولكن الإنسان هو الذي يُفسده. وعندما تتعاظم الخطية تحلُّ العقوبة مباشرة.وواضح جداً ازدياد معدل الإثم والخطية في العالم الحاضر بصورة يلمسها جميع الناس وعلى جميع المستويات. والجميع الآن يصرخ ويئن من ازدياد الخطية وكثرة الإثم، وليس هذا فقط بل تنوُّعها بصورة لم تحدث قط منذ إنشاء العالم، وبانتشار أشد من الوباء.إذن، نحن نمرُّ في ضيقة عُظمى، ولا نستطيع أن نقول إنها الضيقة الأخيرة؛ ولكن من خلال علاماتها نرى أنها ضيقة مُرعبة، فهي ليست أقل من الضيقة الأخيرة. ولكن هناك تزييف واضح، لأن الخطية مستترة تحت أقنعة وهمية وثياب فاخرة. هذه الأقنعة والأشكال المزيَّفة التي تتخفَّى فيها الخطية هي لكي لا تتعرَّى وتنكشف باسمها الحقيقي، ولكي يصير بنو الإثم في غفلة لا يصحون منها. فصارت لهم عيون ولكنها لا تُبصر، وآذان ولكنها لا تسمع؛ لأنهم يرتضون ويُسرُّون بالخطية ولم يريدوا أن يأتوا إلى الرب، فهم لا يسعون إلى التوبة، ولذلك كما قال بولس الرسول: «لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلُصوا. ولأجل هذا سيُرسل إليهم الله عمل الضلال، حتى يُصدِّقوا الكذب. لكي يُدان جميع الذين لم يُصدِّقوا الحق، بل سُرُّوا بالإثم» (2تس 2: 12،11).
مَن هي هذه ”الأرملة“ التي تصرخ أمام قاضي الظلم؟
هذه الأرملة تُمثِّل ”الكنيسة“. كنيسة آخر الأيام التي فقدت عريسها، وانغمست في أمور هذا العالم؛ ولذلك تغرَّبت عن عريسها، وعريسها تغرَّب عنها. أصبحت أرملة عندما أخفقت في المتاجرة في الوزنات أي في الروحيات، واضطرت أن تُتاجر في الماديات، تتاجر في مال الظلم، وتتَّكل على مال الظلم. وحينئذ لِمَن تذهب؟ إلى قاضي الظلم لكي ينصفها!
اسمعوا كيف يقول الرب في وصفه للكنيسة في العهد القديم: «كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب؟ كيف صارت كأرملة العظيمة في الأمم. السيدة في البلدان صارت تحت الجزية (جزية الخطيئة)، تبكي في الليل بكاءً ودموعها على خدَّيها (لا يرى الدموع إلاَّ أتقياء الله والمفروزين). ليس لها معزٍّ من كل مُحبيها. كل أصحابها غدروا بها، صاروا لها أعداءً» (مراثي إرميا 1: 1-2).
ثم مَن هي الأرملة أيضاً؟ هي نفسي أنا ونفسك أنت، التي تغرَّبت عن عريسها كأرملة تصرخ وليس مِن مُجيب. هذه هي أرملة آخر الزمان أيضاً.
النفس البشرية تعرَّت، ولكن إذا أفاقت النفس من غفوتها حينئذ سترى حقيقة هذا الكلام بالفعل. وعدو كل برٍّ قد عرَّاها من ثوب النعمة. وعندما عرَّاها من ثوب النعمة، أطلق عليها كلاب الشهوة، بعدما سرق الثوب! فصارت الشهوة تعمل فيها وبقسوة.ولكن، عندما تصرخ النفس متأوِّهة، مثل الأرملة أمام قاضي الظلم، يقول الرب: «أَفلا ينصف الله مختاريه، الصارخين إليه نهاراً وليلاً، وهو متمهِّلٌ عليهم؟ أقول لكم: إنه يُنصفهم سريعاً».فالرب يسمع للصارخين إليه نهاراً وليلاً، يسمع لمختاريه، يسمع للذين تابوا، للذين «غسَّلوا ثيابهم وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف» (رؤ 7: 14)، للذين سهروا وذرفوا الدموع، وسكبوا البكاء المتواصل، وقدَّموا الأصوام والصلوات.مَن هم المختارون؟ هم الصارخون إلى الرب نهاراً وليلاً!ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
14 مارس 2021
أحد الكنوز: الأحد الأول من الصوم الكبير الهداية إلى ملكوت الله
ارتباط قراءات الفصول:
الهداية إلى ملكوت الله
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "الهداية إلى ملكوت الله" أي هداية المخلص للمؤمنين إلى هذا الملكوت. فإنجيل العشية يتكلم عن حث المخلص المؤمنين على الصلاة، وإنجيل باكر عن تثبيته للعاملين منهم بأقواله، وإنجيل القداس عن هدايتهم إلى ملكوته.
وهنا نري تسلسل واضح للحياة الروحية وهو الجهاد في الصلاة ثم الثبات في المسيح وهذا يساعدنا علي الوصول إلى الملكوت
وإنجيل المساء يتكلم عن وصايا السيد المسيح للمؤمنين لمساعدتهم علي الدخول إلى عمق الرحلة.
أما رسالة البولس فتتحدث عن وجوب سلوكهم السلوك اللائق، والكاثوليكون عن قبولهم الكلمة بوداعة، والإبركسيس عن مناداتهم باسمه كما حث حنانيا بولس على ذلك.
من مزمور باكر..
نعمة الملوكية
هذا المزمور الذي يطابق (2 صم 22) هو مزمور شكر ملوكي، ليس من أجل انتصار عسكري ناله المرتل مرة واحدة، وإنما من أجل كم هائل من تدخلات الله المملوءة رأفات، من أجل حياة كاملة غنية باختبارات محبة الله المترفقة. إنها قصيدة انتصار سجلها داود في أواخر حياته بعد أن استراح من جميع أعدائه، وعلى رأسهم شاول الملك، وقد أنقذه الرب من بين يديه. فعلي الرغم من إخلاص داود له لم يكف عن أن يتعقبه بلا شفقة.
هذا المزمور يعتبر مزمور مسياني ملوكي يشير إلى السيد المسيح مخلص البشرية.اقتبس القديس بولس هذا المزمور مرتين بكونه يخص السيد المسيح في (رو 15: 9 ؛ عب 2: 13). ويطبق بعض المفسرين المزمور كله على السيد المسيح. وهو يصنف كمزمور مسياني، إذ أوضح داود أن ملكه إنما كان صورة ورمزًا لمملكة المسيح. لقد اكتشف أن الخلاص الحقيقي لا يتحقق بهلاك شاول ورجاله بل بهلاك إبليس وجنوده الروحيين، وهذا هو الانتصار الحقيقي وذلك خلال نصرة مخلصنا الصالح وموته وقيامته ومجده وملكوته.
البولس رومية 13: 1 – 14
لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة فان الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة أفتريد أن لا تخاف السلطان افعل الصلاح فيكون لك مدح منه لأنه خادم الله للصلاح ولكن إن فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثا إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشرلذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضًا بسبب الضميرفإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضا إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه فأعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له الجزية الجباية لمن له الجباية والخوف لمن له الخوف والإكرام لمن له الإكرا لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بان يحب بعضكم بعضا لان من أحب غيره فقد أكمل الناموس لان لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته وان كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك المحبة لا تصنع شرا للقريب فالمحبة هي تكميل الناموس هذا وأنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم فان خلاصنا الآن اقرب مما كان حين أمنا قد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور لنسلك بلياقة كما في النهار لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعهر لا بالخصام والحسد بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات
هذا الفصل يوضح لنا أهمية علاقة المؤمن بالوطن
سبق فتحدّث الرسول بولس عن المسيحي والحياة اليومية (ص 12) مظهرًا كيف يليق به أن يترجم إيمانه عمليًا في كل حياته، سواء في عبادته لله أو تقديس جسده بالروح القدس، أو في علاقته بالمؤمنين كأعضاء معه في الجسد الواحد ثم مع جميع الناس حتى مضطهديه، مقدّمًا بنعمة الله شهادة حيّة لمسيحه محب البشر. والآن يحدّثنا عن مركزه كمواطن حيّ يشعر بالتزاماته نحو وطنه بروح التواضع والاحترام. فإن كان المؤمن يدرك أن قلبه قد انطلق نحو السماء ليجد له فيها موطنًا أبديًا، فهذا يزيده التزامًا بالخضوع والحب ليشهد للوطن السماوي خلال سلوكه العملي.
1. الخضوع للسلاطين 1-5.
2. أمانته نحو الوطن 6-7.
3. التزامه بحب القريب 8-10.
4. استعدادنا للوطن السماوي 11-14.
1. الخضوع للسلاطين
الإنسان المسيحي ينسحب قلبه إلى السماويات، مدركًا أن حياته كلها في يدي ّ الله ضابط الكل. ولا يطمع المسيحي كمؤمن في مراكز زمنية، ولا يرتبط إيمانه بالسياسة، إذ يرى في كنيسته ليست مؤسسة زمنية وإنما "حياة سماوية"، لا تدخل في السياسة، وإنما تقبل الكل بروح التواضع والخضوع والحب في الله.كتب الرسول بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله" [1]، ذلك في الوقت الذي كان فيه نيرون يضطهد الكنيسة بكل عنف. إذ كان يؤمن إن نيرون أيضًا -بالرغم من شرّه- قد أقيم بسماح إلهي لخير الكنيسة، وليس عمل الكنيسة أن تقاومه لا في الظاهر ولا بالقلب، إنما ترد مقاومته بالحب والخضوع في الأمور الزمنيّة مادامت لا تمس إيمانها بالله.جاء في سفر الأمثال: "بي تملك الملوك، وتقضي العظماء عدلًا، بي تترأس الرؤساء والشرفاء، كل قضاة الأرض" (أم 8: 15-16)، "قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء أن يميله" (أم 21: 1)، لهذا لا تكف الكنيسة عن أن تصلي من أجل الرئيس أو الملك ومشيريه ورجاله لكي يعطيهم الرب سلامًا وحكمة.
2. أمانته نحو الوطن
في خضوعنا للسلطان نمارس وصية إنجيلية كجزءٍ لا يتجزأ من حياتنا الروحيّة. هذا الخضوع لا يكون بالفم أو اللسان، وإنما بالعمل الجاد، بإيفاء الوطن حقّه علينا، فبسرور نقدم الالتزامات، إذ يقول الرسول: "فإنكم لأجل هذا توفون الجزيّة أيضًا، إذ هم خدّام الله مواظبون على ذلك بعينه؛ فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزيّة لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، الخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" [6-7].
3. التزامه بحب القريب
اِلتزامنا نحو الوطن لا يقف عند الخضوع للسلاطين ودفع التزاماتنا الماديّة كالضرائب وإنما يمتد أيضًا لحب كل إنسان، إذ يقول الرسول: "لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضًا، لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس" [8].لا يستريح المؤمن مادام عليه دين، فيبذل كل الجهد أن يفي دين الآخرين عليه، ولعلّه يقصد هنا أنه يليق بالشعب أن يفوا الحكام الدين، لأن الآخرين يبذلون كل الجهد لأجل سلام الشعب.على أي الأحوال يليق بنا أن نفي كل إنسان دينه، إنما نبقى نشعر بدين الحب نحو الكل من أجل الله الذي أحبّنا، فنعيش كل حياتنا نرد حب الله لنا بحبّنا للناس. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن إيفاء دين الحب [يريدنا أن نبقي على الدوام نفي الدين، ولا ينتهي.]،[مرة أخرى نناقش الأعمال الصالحة، المنتجة لكل فضيلة.. إنك مدين لأخيك بالحب، لأننا أعضاء لبعضنا البعض؛ فإن تركنا الحب تمزّق الجسد إلى أشلاء. إذن فلتحب أخاك، فإن كنت بصداقتك له تقتني إتمام الناموس كله فأنت مدين له بالحب بكونك تنتفع به.]
4. استعدادنا للوطن السماوي
إن كان يليق بنا أن نكون أمناء بالنسبة لوطننا الأرضي فنخضع للسلاطين، ونقدم لهم الكرامة عمليًا بالحياة الفاضلة، ونحب جميع إخوتنا كأنفسنا، فإن هذا الالتزام ينبع عن أعماقنا الملتهبة بحب الوطن السماوي، وشوقنا الدائم للاستعداد للانطلاق إليه.
الكاثوليكون يعقوب 1: 13 – 21
لا يقل احد إذا جرب أني أجرب من قبل الله لان الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتا
لا تضلوا يا إخوتي الأحباء كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه إذا يا إخوتي الأحباء ليكن كل إنسان مسرعا في الاستماع مبطئا في التكلم مبطئا في الغضب لان غضب الإنسان لا يصنع بر الله لذلك اطرحوا كل نجاسة وكثرة شر فاقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة القادرة ان تخلص نفوسكم
التجارب الداخلية
"لا يقل أحد إذا جُرِّب إني أُجَرَّب من قِبَل الله،لأن الله غير مُجرِّب بالشرور،وهو لا يُجرِّب أحدًا" [13]
بحثت الفلسفات كثيرًا عن مصدر الشر، فنادى البعض بوجود إلهَيْن، أحدهما علة الخير والآخر علة الشر.. وآخرون نادوا أن الله علة الخير والشر.والشر هنا لا يعني ما قد يحل بنا من تجارب أو كوارث أو ضيقات، بل الخطيّة والظلمة. الأمر الذي لا يتفق مع طبيعة الله كلّي الصلاح الذي فيه كمال مطلق. وهنا يقطع الرسول بأن الله غير مُجرِّب بالشرور وبالتالي لا يُجَرِّب أحدًا.حقًا قيل عن الله إنه يجلب شرًا، وهذا كقول القديس أغسطينوس من قبيل حب الله أن يحدثنا بلغتنا قدر فهمنا، فهو يجلب التأديب الذي نسميه شرًا لخيرنا. أما الشر أي الخطيّة، فلا يحرضنا الله عليها، بل ولم يخلق فينا عواطف أو دوافع أو طبيعة شريرة، بل كل ما خلقه فينا هو حسن جدًا. ونحن بإرادتنا في شخص آدم انحرفنا عما هو حسن لنشبعه بما هو ليس حسن. فالحواس والعواطف والدوافع كلها بلا استثناء يمكن أن تًوجه كطاقات للخير متى سلمت في يد الله، وكطاقات للشر متى نُزِعَت عنا نعمته..إذن الله لا يجربنا بالشرور، إنما يسمح لنا بالتجارب الخارجيّة لامتحاننا.
ا. الانجذاب والانخداع: يقوم عدو الخير بإثارتنا بمثيرات داخلية وخارجيّة كثيرة بلا حصر، من لذات جسديّة وملذات العالم وكراماته وأحزانه. هذه المثيرات مهما اشتدت ليست لها قوة الإلزام بل الخداع لكي ما يخرج الإنسان من حصانة الله، ويفلت من بين يديه، منجذبًا ومنخدعًا وجاريًا وراء الخطيّة.
يؤكد ربنا يسوع المسيح قائلًا: "خرافي تسمع صوتي.. ولا يخطفها أحد من يدي" (يو 10: 27- 28)، أي لا توجد قوة مهما بلغت يمكن أن تخطف نفس المؤمن الذي يسمع لصوت الرب ويتبعه، أما إن امتنع المؤمن عن الاستماع لصوت الرب وقَبِلَ باختياره الإنصات إلى صوتٍ آخر، للحال ينخدع وينجذب من دائرة الرب إلى دائرة الخطيّة.
ب. الحبل: يُشبِّه الرسول الشهوات بامرأة زانية تجذب إليها الإنسان وتخدعه. وإذ يقبلها ويتجاوب معها يتحد بها فتحبل. "ثم الشهوة إذا حبلت.." أي تكون كالجنين الذي ينمو يومًا فيومًا، الذي هو الخطيّة.
ج. الولادة: وإذ يكتمل نمو الجنين تلد ابنًا هو "الموت"، لأن الخطيّة تحمل في طياتها جرثومة الموت.
تحدَّث كثير من الآباء عن هذه المراحل الثلاث. فيطالبوننا أن نصارع الخطيّة في طورها الأول وهي تحاول أن تخدع حيث لا سلطان لها علينا، ويمكننا برشم علامة الصليب وبصرخة خفيفة داخليّة تجاه الرب أن نتخلص منها. أما إذا تركنا الخطيّة لتتعدى الطور الأول إلى الثاني حيث نقبلها ونرضيها. فإن إرضاءنا لها -مهما كان إغراؤها- هو بإرادتنا ونحن مسئولون عنه.
الأبركسيس.. (أعمال 21: 40 – 22: 16):-
أعمال 21: 40
"فلما أذن له،وقف بولس على الدرج،وأشار بيده إلى الشعب،فصار سكوت عظيم،فنادى باللغة العبرانية، قائلًا:" [40]
وقف القديس بولس وهو قليل في جسمه, لكن كان الجميع يرونه وهو على أعلى درجات السلم. يقف بين العسكر وقد حملوا أسلحة برّاقة. كان مربوط بالسلاسل, لكنه كان سيد الموقف كله. هدوءه العجيب وسلامه الداخلي أدهش الكثيرين حتى من الثائرين ضده.لم يحسب هذا الموقف مخزيًا له, بل كان في قمة المجد, كأنه قد صعد على سلم يعقوب, وارتفع إلى حيث الرب واقف, يحوط به العسكر السمائيون. ويتطلع بقلب ينبض حبًا نحو مقاوميه, لعل نعمة اللَّه تقتنصهم فيختبروا ما يتمتع به من أمجاد داخلية.
إذ وقف على الدرج المؤدي إلى القلعة أشار بيده للجموع، والعجيب أنه صار سكوت عظيم. هذه نعمة إلهية فائقة أن يصمت الثائرون ليسمعوا له. لم يكن يحلم الرسول بولس بهذه الفرصة الرائعة ليشهد لمسيحه أمام جميع طبقات الأمة اليهودية بكافة علمائها ورؤسائها وأتقيائها، أقام اليهود الذين من أورشليم والقادمين من كل أنحاء العالم. لقد وهبه الرب نعمة، فما أن أشار بيده حتى صار سكوت عظيم. يا له من أسير مربوط بسلسلتين صاحب سلطان، لكنه إذ يشير إلى الشعب ينصت منتظرًا أن يسمع منه كلمة.تحدث معهم لا بالآرامية، لغة عامة الشعب، وإنما بالعبرانية العامية والتي يدعى سريانية-كلدانية، التي لا يتقنها سوى علماء اليهود والكهنة، لغة العبادة والطقس. سمعوه يتحدث بلغتهم الأصلية، لغة الكتاب المقدس، لغة الهيكل والعظماء، فصار سكوت عظيم.
مزمور إنجيل القداس:
(إليك يا رب رفعت نفسي. إلهي عليك توكلت فلا تخزني إلى الأبد. أظهر لي يا رب طرقك. وعلمني سبلك أهدني إلى عدلك): هلليلويا.
إنجيل القداس.. متى 6: 19 – 33
لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدا وحيث ينقب السارقون ويسرقون بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدا وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا سراج الجسد هو العين فان كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا وان كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلما فان كان النور الذي فيك ظلاما فالظلام كم يكون لا يقدر احد أن يخدم سيدين لأنه أما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر لا تقدرون أن تخدموا الله والمال لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس انظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها ألستم انتم بالحري أفضل منها ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة ولماذا تهتمون باللباس تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل ولكن أقول لكم انه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها فان كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا أفليس بالحري جدا يلبسكم انتم يا قليلي الإيمان فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس فان هذه كلها تطلبها الأمم لان أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم
العبادة السماويّة
بعد أن قدّم لنا السيد المسيح الجوانب الثلاثة للعبادة المسيحيّة أراد توضيح غايتها، ألا وهي رفع القلب النقي إلى السماء، ليرى الله ويحيا في أحضانه، محذّرًا إيّانا ليس فقط من تحطيمها خلال "الأنا" وحب الظهور، وإنما أيضًا خلال "محبّة المال" التي تفقد القلب المتعبّد حيويّته وحريّته، إذ يقول السيد: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بلا اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون" [19-20].
من يتعبّد لله بقصد المجد الزمني الباطل يكون كمن جمع كنوزه على الأرض، سواء في شكل ثياب فاخرة يفسدها السوس، أو معادن تتعرّض للصدأ، أو أمور أخرى تكون مطمعًا للصوص. هكذا يرفع قلوبنا إلى السماء لننطلق بعبادتنا إلى حضن الآب السماوي، يتقبّلها في ابنه كُسِرّ فرح له وتقدِمة سرور، لا يقدر أن يقترب إليها سوس أو لصوص ولا أن يلحقها صدأ!
يُعلّق القديس أغسطينوس على حديث السيد المسيح: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض"، قائلًا:
+ لو أخبركم مهندس معماري أن منزلكم يسقط حالًا، أفلا تتحرّكون سريعًا قبل أن تنشغلوا بالنحيب عليه؟! هوذا مؤسّس العالم يخبركم باقتراب دمار العالم، أفلا تصدّقوه؟!.. أسمعوا إلى صوت نبوّته: "السماء والأرض تزولان" (مت 24: 35).. استمعوا إلى مشورته!.الله الذي أعطاكم المشورة لن يخدعكم، فإنكم لن تخسروا ما تتركونه، بل تجدوا ما قدّمتموه أمامكم.. أعطوا الفقراء فيكون لكم كنز في السماء! لا تبقوا بلا كنز، بل امتلكوا في السماء بلا هّم ما تقتنونه على الأرض بقلق. أرسلوا أمتعتكم إلى السماء. إن مشورتي هي لحفظ كنوزكم وليس لفقدانها..ينبغي علينا أن نضع في السماء ما نخسره الآن على الأرض. فالعدو يستطيع أن ينقب منازلنا، لكنّه هل يقدر أن يكسر باب السماء؟إنه يقتل الحارس هنا، لكن هل يستطيع أن يقتل الله حافظها؟..فالفقراء ليسوا إلا حمّالين ينقلون أمتعتنا من الأرض إلى السماء. إذن فلتعطوهم ما لديكم فإنهم يحملونها إلى السماء.. هل نسيتم القول: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت.. لأني جعت فأطعمتموني.. وكل ما فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 34-40) (القديس أغسطينوس).بهذه الوصيّة يرفع الرب عبادتنا للسماء، محذّرًا إيّانا من "المجد الباطل" ومقيمًا حراسًا عليها، ألا وهي أعمال الرحمة المملوءة حبًا. فالصدقة الحقيقية بمعناها الواسع والتي تضم العطاء المادي والمعنوي، ترفع القلب بعيدًا عن الزمنيّات الماديّة والمعنويّة، وتحوّل أرصدته في السماء.ويرى القدّيس يوحنا ذهبي الفم أن السيّد المسيح يحدّثنا عن الحب والرحمة في دستوره الإلهي بطريقة تدريجيّة هكذا:
أولًا: قدّم لنا الرحمة كمبدأ عام نلتزم به.
ثانيًا: طالبنا بمصالحتنا لخصمنا، فلا حاجة للدخول مع أحد في منازعات، وإنما الرحمة تغلب (5: 23-26).
ثالثًا: ارتفع بنا إلى ما فوق القانون، فبالحب ليس فقط نترك ثوبنا لمن ليس له الحق فيه، وإنما نقدّم معه رداءنا حتى نربح الخصم بحبّنا.
رابعًا: سألنا ألا نكنز على الأرض، فلا نقدّم أعمال الرحمة للخصم والمضايقين لنا فحسب، حتى لا ندخل معهم في نزاعات بل نكسبهم بالمحبّة، فتكون طبيعتنا هي العطاء بسخاء، كطبيعة داخليّة تنبع عن حنين مستمر لنقل ممتلكاتنا إلى السماء.
+ وإذ يقدّم لنا السيّد هذا التوجيه يُعلن جانبه الإيجابي ألا وهو أنه بالعطاء نحوّل كنزنا إلى فوق في السماء، كما يوضّح جانبه السلبي مهدّدًا أن ما نتركه هنا يفسد بطريقة أو آخري فنفقده إلى الأبد.وهنا يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم: [أنه يجتذبهم، إذ لم يقل فقط إن قدّمت الصدقة تُحفظ لك بل هدّد بأنك إن لم تعطِ غناك الخ. إنّما تجمعه للسوس والصدأ واللصوص. وإن هربت من هذه الشرور لن تهرب من عبوديّة قلبك له فيتسمّر بالكامل أسفل (أي في الأرض)، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا. إذن فلنُقِم المخازن في السماء.]
ومن هنا نجد إنجيل القداس أوضح لنا معالم أساسية للحياة الروحية:
1- البصيرة الداخليّة
2- العبادة ومحبّة المال
1- البصيرة الداخليّة
تحدّث عن القلب الذي يلتصق بالكنز ويجري وراءه، مطالبًا إيّانا أن يكون مسيحنا هو كنزنا عِوض الكنز يحطّمه السوس والصدأ واللصوص، فيكون قلبنا على الدوام مرفوعًا إلى فوق حيث المسيح جالس، لهذا يحدّثنا عن "العين البسيطة" التي تجعل الجسد كلّه نيّرًا. ما هي هذه العين الداخليّة إلا القلب الذي وحده يقدر أن يرى أسرار الكنز السماوي، فيجذب الإنسان نحو السماويات، ولا يتذبّذب بين النور الأبدي ومحبّة الفانيات.
"سراج الجسد هو العين،فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرًا،وإن كانت عينك شرّيرة فجسدك كلّه يكون مظلمًا،فإن كان النور الذي فيك ظلامًا، فالظلام كم يكون؟!" [22-23]
العين هي مرشد الجسد كلّه لينطلق إلى هنا أو هناك، فإن ارتفعت نحو السماء انطلق الإنسان كلّه بعبادته وسلوكه كما بأحاسيسه ومشاعره نحو السماويات، أمّا إن اِنحنت نحو الأرض لتصير أسيرة حب المجد الباطل أو رياء الفرّيسيّين أو حب الغنى الزمني، لا يمكن للإنسان مهما قدّم من عبادات أن يرتفع إلى فوق. يشبّه القدّيس يوحنا الذهبي الفم العين بالقائد الذي إن سقط أسيرًا ماذا ينتفع الجند بالذهب؟ وربّان السفينة الذي إن بدأ يغرق ماذا تنتفع السفينة بالخيرات الكثيرة التي تملأها؟! حقًا كثيرون قد جمعوا ذهب الصدقة والصلاة والصوم وظنّوا أن سفينتهم مشحونة بالأعمال الصالحة، ولكن بسبب فساد قلبهم وظلمة بصيرتهم الداخليّة يبقون بعيدًا عن الميناء الآمن وتغرق بكل ما تحمله! لهذا يفسر القديس أغسطينوس العين البسيطة بنيّة القلب الداخلي التي تقود كل تصرفاتنا، إذ يقول: [نفهم من هذه العبارة أن جميع أفعالنا تكون نقيّة ومرضية في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن جميع أفعالنا تكون نقيّة ومرضيّة في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن كان هدفنا فيها سماويًا، متطلّعين إلى تلك الغاية التي هي المحبّة، لأن "المحبّة هي تكميل الناموس" (رو 13: 10). من ثم فلنفهم "العين" هنا على أنها "النيّة التي نصنع بها أفعالنا"، فإن كانت نيّتنا نقيّة وسليمة، أي ناظرين إلى السماويات، فستكون جميع أعمالنا صالحة، هذه التي لقّبها الرب "جسدك كلّه"، لأنه عندما حدّثنا الرسول عن بعض أعمالنا القبيحة، دعاها أيضًا (أعضاء لنا)، إذ علّمنا أن نصلبها قائلًا: "فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض، الزنا النجاسة.. الطمع" (كو 3: 5)، وما على شاكلة ذلك.]
2- العبادة ومحبّة المال
إن كان غاية العبادة هي الالتقاء مع الله أبينا السماوي لنحيا معه في ابنه إلى الأبد، فإنه يسألنا أن نحيا بالعين البسيطة التي لا تعرج بين السماء والأرض، فيرتفع الجسد كلّه مع القلب إلى السماء. أمّا العدوّ الأول للبساطة فهو "حب المال" الذي تنحني له قلوب الكثيرين متعبّدة له عِوض الله نفسه، ويجري الكثيرون نحوه كعروسٍ تلتصق بعريسها عِوض العريس السماوي. إنه يقف منافسًا لله نفسه يملك على القلب ويأسره، وهنا يجب التأكيد أننا لا نتحدّث عن المال في ذاته وإنما "حب المال".
"لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين،لأنه إمّا أن يبغض الواحد ويحب الآخر،أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر،لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" [24].
فكلمة المال هنا "Mammon" كلمة عبريّة تُشير إلى المقتنيات الماديّة بشكل عام، وكانت في الأصل تُشير إلى ما يعتزّ به الإنسان من مال ومقتنيات، لكنها تطوّرت لتعني المال كإله يُستعبد له الإنسان.
+ وعن هذا يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم [يُسمى حب المال سيدًا ليس بطبيعته الخاصة به، وإنما بسبب بؤس المنحنين له. هكذا أيضًا تُدعى البطن إلهًا (في 3: 19) ليس عن كرامة هذه السيدة، وإنما بسبب بؤس المستعبدين لها].
+أما القديس أغسطينوس فيقول [من يخدم المال يخضع للشيطان القاسي المهلك، فإذ يرتبك بشهوته للمال يخضع للشيطان ويلازمه رغم عدم محبّته له، لأنه من منّا يحب الشيطان؟ ويكون بذلك يشبه إنسانًا أحب خادمة لدى شخص عظيم، فرغم عدم محبته لسيدها إلا أنه يخضع لعبوديته القاسية بسبب محبته للخادمة].
+ فالمال ليس في ذاته إلهًا، ولا هو شرّ نتجنّبه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. إنّما يصير هكذا حينما يسحب القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه، فيفقده سلامه ويدخل به إلى ظلمة القلق؛ وبذلك يفقده النظرة العميقة للحياة ليرتبك بشكليّاتها. فعِوض الاهتمام بالحياة ذاتها ينشغل بالأكل والشرب، وعِوض الاهتمام بالجسد كعطيّة مقدّسة وأعضاء تعمل لخدمة القدّوس يهتم بالملبس. هكذا محبّة المال تحصر الإنسان خارج حياته الحقيقية: نفسه وجسده، ليرتبك بأمور تافهة باطلة وزائلة.إلهنا الصالح يعيننا لكي نجاهد الجهاد الحسن في تنقية حواسنا وفكرنا، وله منا كل المجد والإكرام إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
13 مارس 2021
إنجيل عشية الأحد الأول من الصوم الكبير
مت 34:6- 12:7
فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره." لا تدينوا لكي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟ أم كيف تقول لأخيك: دعني أخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك؟ يا مرائي، أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيد أن تخرج القذى من عين أخيك! لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير،لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم. " اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم. لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له. أم أي إنسان منكم إذا سألته ابنه خبزا، يعطيه حجرا؟ وإن سأله سمكة، يعطيه حية؟ فإن كنتم وأنت أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات، يهب خيرات للذين يسألونه! فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم، لأن هذا هوالناموس والأنبياء .
الصوم المقبول
عشية الأحد الأول من الصوم الكبير بعد أسبوع الاستعداد تصنع في الواقع برنامج الصوم وهدفه
الأسمى، كاشتراك مع المسيح الذي صام عنا أربعين نهارا وأربعين ليلة.وإن سألت ما هو المنهج والبرنامج الذي يجب أن أتبعه وما هو مطلوب مني لكي أقدم للرب صومامقبولاً يختاره الرب ويرضى عنه لأن الصوم ليس هو صوم الطعام والانقطاع عنه، فلو كان كذلك لأصبح عملاً جسديا فحسب، وليس الصوم هو عادة ورثناها من الآباء وتقاليد نمارسها ومواسم نعيشها.بل في الواقع إذا خلا الصوم من الهدف الذي جعل من أجله فإنه يفقد معناه تماما ويصير عبئًا على الجسد يود الإنسان لو لم يصم أو على الأكثر يشتهي أن ينتهي الصوم أو يتحايل الإنسان عليه بطرق التحايل الكثيرة.لذلك فإن نما فينا الوعي الروحي واستوعبنا ما عاشته الكنيسة المقدسة وما وضعه الآباء بالروح لأجلنا لجنينا ثمار الصوم المقدس ولأزهرت أرواحنا في موسم ربيع الحياة الروحية.
وفصل الإنجيل هو جزء من الموعظة على الجبل الذي هو دستور المسيحيين يبدأ بعدم الهم والاضطراب من أجل الغد، وهذا هو الجانب السلبي أما الإيجابي فهو الاتكال على االله الذي هو رب الغد ومدبر الغد. لأن مستقبلنا هو في المسيح.وشتان بين الهم والاهتمام والتدبيرفالهم هو الاضطراب والخوف والقلق واليأس وهذا يلغي كل النواحي الطيبة من الإيمان باالله والثقة والاتكال عليه وإلقاء الهم كله على االله. هو الذي خلقنا، وهو الذي عالنا ويعولنا وفي يده مقاليد الأمور،ومواعيد صادقة وأمينة وكلمته أثبت من السماء والأرض.أما الاهتمام والتدبير فأمر ممدوح حين يدبر الإنسان أموره بدون قلق ملقيا كل همه على االله واثقًاأنه "إن لم يبن الرب البيت فباطلاً تعب البناؤون، فالإنسان المدبر، يستلهم روح حكمة في التدبير بالصلاة الكثيرة وطلب مشورة االله ويعمل أموره بلا ارتباك ولا اضطراب بل قلبه ثابت متكل على االله. هذه هي نقطة بداية للإنسان الصائم الذي كف ولو إلى حين عن أن يستمد حياته من طعام الجسد بل هو يحاول أن يحيا حياة لا تتكل على طعام الجسد بل يستمد فوته من الروح الذي فيه. فهي ارتفاع عن مطالب الجسد ليس احتقارا للجسد، ولكن انحيازا للروح لاختبار ما هو روحي وما يخص مستقبلنا في المسيح يسوع حين نخلع جسد هذا الموت.ثم تأتي بعد ذلك وصايا السلوك المسيحي التي تقود للكمال إن كان الإنسان في صومه يجاهد لحفظها.
عدم دينونة الآخرين – لا تدينوا
وليس الأمر سهلاً، ولكن كما قال الرب باب ضيق وطريق كربة أن يغض الإنسان نظره عن
الآخرين ويكف عن دينونتهم. وهذا يتطلب قلبا نقيا لا يرى العيوب في الآخرين ويحتاج إلى حب صادق لأن الذي يحب لا يدين مطلقًا. فالنظر إلى القذى في عين الأخ ومحاولة إخراجه كمن يعمل خيرا بالقريب يحتاج نزع الخشبة التي في عيننا أولاً... وهذا هو الاهتمام الأول في الصوم، أعني التوبة والرجوع إلى االله وطلب المراحم من أجل خطايانا الكثيرة .كل ألحان الصوم الكبير وقراءاته مركزة حول التوبة والندم والرجوع إلى االله من كل القلب.أما من جهة علاج الدينونة فالمسيح في نهاية حديثه يقول: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلواأنتم بهم هكذا لأن هذا هو الناموس والأنبياء". فإن أردت أن تتخلص من مرض الدينونة للآخرين ضع نفسك مكان من تدينه وسل نفسك كيف تريد أن ينظر إليك الناس وكيف يعاملونك لو كنت أنت مكان الخاطيء الذي تدين أعماله وتصرفاته!!
فإن كنت أنا أكرز ألا يسرق، وإن سقط أحد في هذه الرذيلة فإني أحكم عليه، فماذا لو سقطت أنا في
ذات الخطية وضبطت متلبسا بها؟ ألا أريد أن تعاملني الناس برحمة ويلتمسوا لي عذرا أو يسامحوني،
ويقبلون ما أقول لتبرير نفسي، كل ذلك أريده إذا كنت أنا الخاطيء، فإن كنت أريد ذلك فلأفعله مع أخي
بالتمام والكمال وإن صنعت ذلك فلن أدين أحدا، وأنجو من دينونة الديان الذي قال: "لا تدينوا لكي لا تدانوا".
الرياء
في منهج الصوم كما رسمه المسيح أن يكف الإنسان عن الرياء وطلب مجد الناس فحين يصوم
يغسل وجهه ويدهن رأسه ولا يظهر للناس صائما، بل يخفي صومه عن الناس ولا يسلك بوجهين ولا يكون ذا لسانين، فالذي يدين أخاه وهو في نفس الوقت خاطيء يحتاج إلى إصلاح نفسه يدعوه الرب مرائيا "يا مرائي اخرج أولاً الخشبة من عينك". هذا هو سلوك الرياء. فالرب وضع في المنهج أن لا يسلك الإنسان مرائيا...بل يكون متضعا وصريحا مع نفسه في إصلاح سيرته.
اسألوا تعطوا
يكثر السؤال والصلاة في الصوم، والرب مستعد دائما أن يعطي بل هو مصدر العطاء والخير، ولا
يمنع الإنسان من الأخذ إلا نفسه. ولا يحرم الإنسان من التمتع بعطايا المسيح إلا ذاته، لأن وعد المسيح أن "كل من يسأل يأخذ وكل من يطلب يجد وكل من يقرع يفتح له".والقديس يعقوب الرسول يعلق على هذا القول بقوله: "لكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة لأن الذي ليس عنده إيمان لا يظن أنه ينال شيئًا من قبل الرب". يطلب بحسب مشيئة االله ومسرته لأن الإنسان كثيرا ما يطلب رديا لكي يخدم حاجات الجسد وينفق في شهواته. ويطلب ملكوت االله قائلاً ليأت ملكوتك لأن طالب ملكوت االله لابد أن يناله ويحيا به وفيه. ويثق أن االله يسمعنا حال طلبنا ويميل أذنه نحو سؤالنا وهو يعطيناأكثر مما نسأل أو نفهم .أما وقت للاستجابة فليس لنا، لأنه يعرف ما نحتاج إليه قبل أن نسأل ويعرف ما هو نافع ومتى
يصير لنا... لذلك تأخرت كثيرا استجابة الصلوات هذا في نظر الناس أما االله فيعرف كيف يكون الشيء حسن في أوانه الخاص مثل ولادة إسحق وولادة يوحنا المعمدان. أما ما يثبت صدق مواعيد االله في استجابة طلبتنا ويرسخ في ذهننا أن لابد أن يعطينا فهو ما أوضحه المسيح أن االله أبونا وهذه النعمة التي صارت لنا في شخص يسوع أن صرنا أولاد االله لأن كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد االله. ولكي يثبت المسيح هذا التعليم بل هذا الواقع الذي صرنا إليه بإيماننا بالمسيح توسط بأمثال كيف أن آباء الجسد يعطون أولادهم عطايا جيدة رغم كونهم خطاة فكم بالحري أبونا السماوي غير الخاطيء وكلي الصلاح يعطي الخيرات للذين يسألونه. فنحن نسأل أبانا ومن هذا المنطق نعرف أنه يعطينا من فيض أبوته كل ما هو نافع لنا للحياة والتقوى لخلاص نفوسنا ولكن قمة عطايا الآب لنا هي أنه أعطانا روحه ساكنًا فينا وأنعم علينا بنعمة البنوة، انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد االله".
المتنيح القمص لوقا سيداروس
(عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
12 مارس 2021
الجمعة الأولي من الصوم الكبير: الاتكال على الله
ارتباط قراءات الفصول:
الاتكال على الله
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "الاتكال على الله"، أي ضرورة اتكال المؤمنين عليه، فالنبوة الأولى تتكلم عن بركات الله للمتكلين عليه كما توعد إشعياء أورشليم ويهوذا بذلك جزاء شرورهما العظيمة.
ويتكلم إنجيل باكر عن شفائه للملتجئين إليه من مرض الخطية كما شفى يسوع الأبرص، وإنجيل القداس عن إحساناته إليهم كلما سألوه كما وعدهم بذلك قائلًا "اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم".ويوصيهم الرسول في رسالة البولس بخدمة الآخرين من مواهبهم، ويحضهم في الكاثوليكون على قبول الغرباء منهم كما امتدح يوحنا الرسول غايس على ذلك، ويحثهم في الإبركسيس على خدمتهم بما يملكون، كما شفى بطرس أرجل الأعرج من بطن أمه بما له من موهبة الشفاء.
النبوات.. من إشعياء 3
مجاعة مهلكة
خلق الله العالم بكل إمكانياته المدركة وغير المدركة من أجل سلام الإنسان وسعادته، حتى يفرح كل بشر بالله. متكلًا عليه، مشتاقًا أن ينعم بشركة حب أعمق. أما وقد انشغل الإنسان بالعطية لا العاطي استند على " كل سند خبز وكل سند ماء " (إش 3: 1). صار الإنسان يفتخر بغناه وقدراته وكثرة خبراته وجماله عوض افتخاره بالرب واتكاله عليه. لهذا ينتزع الله العطايا ويحرم الإنسان من البركات الزمنية، لا للانتقام منه ولا لإذلاله أو حرمانه وإنما لكي يرجع بقلبه إلى الله مصدر حياته وشبعه وسلامه وفرحه ومجده فينال في هذا العالم أضعافا وفي العالم الآتي حياة أبدية ؛ ينال الله نفسه نصيبًا له وميراثًا!
وهنا نجد النبي يهدد بحدوث مجاعة وحرمان وتحطيم للإثنى عشر عمودًا التي تتكئ عليها الجماعة [للخبز والماء، الجبابرة (القادرين) ورجال الحرب، القضاة، الأنبياء، العرافين، الشيوخ، رؤساء الخمسين، المعتبرين، المشيرين، الماهرين بين الصناع، الحاذقين بالرقى]. لقد انتزع الرب الموارد الطبيعية خلال المجاعة والطاقات البشرية خلال السبي حتى يرجعوا إليه.
البولس.. من رومية 12: 6 – 21
يتكلم عن: المؤمن والحياة اليومية
إن كانت الأصحاحات السابقة تكشف عن إمكانيات النعمة في حياة المؤمن، ففي هذا الأصحاح وما يليه يحدّثنا الرسول عن ترجمة النعمة في حياتنا العمليّة، حتى لا نحرم من الثبات في السيد المسيح والتمتّع بنعم إلهية بلا توقف، كقول الإنجيل: "ومن ملئه نحن جميعا أخذنا نعمة فوق نعمة" (يو 1: 16).
هذا الأصحاح يحدّثنا عن:
4. تنوّع المواهب 4-8.
5. المحبّة الأخوية 9-10.
6. حرارة الروح 11.
7. الفرح في الرجاء 12.
8. الشركة في احتياجات القدّيسين 13.
9. مباركة المضطهدين 14.
10. الشركة العمليّة 15.
11. التواضع 16.
12. مسالمة الجميع 17 -21.
4. تنوع المواهب
الآن إذ سألنا أن نحمل تجديدًا حقيقيًا في الداخل [2]، فيكون لنا الفكر المتعقّل، مدركين بروح التواضع أن ما نحمله حتى من إيمان هو عطيّة إلهية، ليس لنا أن نفتخر بها كما لو كانت من عندنا أو باستحقاقنا، فعلى هذا الأساس المتين يطالبنا بالعمل والجهاد، مُعلنًا أن يضرم كل واحد موهبته حسبما وهبه الله. بمعنى آخر إن تجديدنا الداخلي وتواضع فكرنا يلهب قلبنا للعمل ليس حسب ما هوانا بل حسب عطيّة الله لنا التي تتكامل مع عطاياه لإخوتنا، وتتناغم معها بروح واحدة كلٌّ يعمل في مجاله بفرحٍ وبهجة قلب، فلا يحسد من يظنه أفضل منه في الموهبة ولا ينتفخ على من يظنه أقل منه فيها.. فإن المواهب متنوّعة ولكن الروح واحد (1كو12: 4)؛ هي عطيّة النعمة الإلهية، إذ يقول الرسول: "فإنه كما في جسدٍ واحدٍ لنا أعضاء كثيرة، ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضًا لبعض، كل واحد للآخر، ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا" [4-6].
5. المحبّة الأخوية
إذ حثنا الرسول على العمل، كل حسب موهبته، بروح متواضع، يسألنا أن نسلك بالحب الأخوي مترجمًا عمليًا بحب الخير للآخرين وكره الشرّ، وتقديم الآخرين في الكرامة، إذ يقول:
"المحبّة فلتكن بلا رياء.كونوا كارهين الشرّ، ملتصقين بالخير.وادّين بعضكم بعضا بالمحبّة.مقدّمين بعضكم بعضًا في الكرامة" [9-10].
إن كان التواضع هو الخط الواضح في إضرام المواهب، فإن الحب هو الفكر السائد الذي يربط الكنيسة معًا في الرب كأعضاء حيّة متكاملة، تعيش معًا بروح الكمال، منسجمة معًا، تشارك بعضها البعض.
يوصينا القديس باسيليوس الكبير بذلك القول: [يليق بالمسيحي أن يكون هادئًا في صوته، لا يجيب أحدًا أو يتصرف مع أحد بخشونة أو باستخفاف بل في كل شيء يسلك بحلم (في 4: 5) مكرمًا كل أحد.]
+ لقد حدّثنا الرسول بولس بفيض عن المحبّة (1 كو 13)، مبرزًا قوّتها وفاعليّتها بل وأبديّتها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ويوصينا الرسول بطرس: "لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة" (1 بط 4: 8)، ويرى القدّيس يوحنا أن ممارسة الحب أشبه بتمتّع بالقيامة، إذ يقول: "نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة" (1 يو 3: 14).
+ فالمحبّة ليست عاطفة مجردة إنما هي تمتّع والتصاق بالخير خلال إتحادنا بربنا يسوع "المحبّة" ونفورنا من الشرّ.. بهذا تنبع المحبّة من أعماق داخليّة وشركة مع الله، إذ يقول الرسول: "كل من يحب فقد وُلد من الله، ويعرف الله.. لأن الله محبّة" (1 يو 4: 7-8). هذا ما يعنيه الرسول بقوله: "المحبّة فلتكن بلا رياء" [9].
6. حرارة الروح
"غير متكاسلين في الاجتهاد،حارين في الروح،عابدين الرب" [11].
إن كان الرسول بولس قد ركز أنظارنا على عطايا الله الفائقة ونعمته العاملة فينا، لنضرم مواهبه فينا بروح التواضع، ونسلك معًا بروح الحب، فإن الحياة المسيحية جهاد لا ينقطع. هي انتهاز لكل فرصة للعمل بروح الله باجتهاد لنحيا ملتهبين بالروح، عابدين الرب بقوة.يحثنا على الجهاد، قائلًا: "غير متكاسلين في الاجتهاد" [11]. وكما يقول الحكيم سليمان: "كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك" (جا 9: 10)، "اذهب إلى النملة أيها الكسلان. تأمل طرقها وكن حكيمًا" (أم 6: 6). ويوصينا القديس بطرس الرسول: "وأنتم باذلون كل اجتهاد قدموا في إيمانكم فضيلة … لذلك بالأكثر اجتهدوا أيها الإخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين، لأنكم إذ فعلتم ذلك لن تزلوا أبدًا" (2 بط 1: 5- 10).
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم[كيف نصير "غير متكاسلين في الاجتهاد (في الغيرة)، حارين في الروح"؟.. أي نكون حارين ومتيقظين.. إن سكن الروح فيك يجعلك صالحًا لتحقيق تلك الأهداف، ويصير كل شيء سهلًا بالروح والحب، وتتلألأ أنت من كل جانب.إن كان روح الله نارًا متقدة، فإننا إذ نتجاوب معه يلهب أعماقنا، ويحولنا إلى لهيبٍ متقدٍ، لا تستطيع مياه كثيرة أن تُطفئه. هذا اللهيب الروحي يعلمنا كيف نعبد الرب بالروح والحق، لذا يكمل الرسول حديثه قائلًا: "عابدين الرب" [11].]
7. الفرح في الرجاء
إذ يلهبنا الروح القدس فنعبد الرب فوق حدود الزمن نمتلئ رجاءً بالأمور غير المنظورة فتفرح قلوبنا ويتسع قلبنا لاحتمال الضيق، ملتجئين إلى الله بالصلاة الدائمة، إذ يقول الرسول: "فرحين في الرجاء، صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة" [12].
يقول القديس أغسطينوس: [لنصغ ولنبتهج في الرجاء حتى وإن كان الحاضر حياة لا تُحب وإنما تُحتمل، إذ تكون لك القوة على احتمال كل تجاربها.]ويقدم لنا أيضًا عونًا آخر: "مواظبين على الصلاة"
الحب يجعل الأمور سهلة، والروح يعين، والرجاء ينير، والتجارب تصقلك فتجعلك مجربًا قادرًا على احتمال كل شيء بشهامة، يرافق هذا كله سلاح عظيم جدًا هو الصلاة.
8. الشركة في احتياجات القديسين:
إن كان "الحب" هو الخط الواضح في كل هذه الوصايا الرسولية، فأحد ملامح هذا الخط العملي هو: "مشتركين في احتياجات القديسين، عاكفين على إضافة الغرباء" [13]. هذا هو ثمر طبيعي للعضوية في الجسد الواحد، إذ يشارك العضو أخاه في احتياجاته. نرى ذلك واضحًا في مساهمة أهل فيلبى في احتياجات القديس بولس الذي فرح لا بالعطية في ذاتها وإنما بثمر الحب المتكاثر، إذ كتب إليهم هكذا. "أرسلتم إلى مرة ومرتين لحاجتي، ليس أني أطلب العطية، بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم… فيملأ إلهي كل احتياجاتهم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع" (في 4: 16-19).
9. مباركة المضطهدين
"باركوا على الذين يضطهدونكم،باركوا ولا تلعنوا" [14].جاءت الوصية الإلهية تأمرنا أن نبارك الذين يضطهدوننا (مت 5: 44؛ لو 6: 28). فإننا إذ كنا نستحق اللعنة حملها السيد المسيح عنا على الصليب ليهبنا بركته عاملة فينا، فيليق بنا أن نرد له هذا العمل في خليقته التي يحبها فنحب الذين يضطهدوننا، مباركين إياهم… لقد صارت حياتنا بالمسيح تحمل بركته، فكيف نستطيع أن نلعن أحدًا ؟ لذلك يقول معلمنا يعقوب الرسول: "من الفم الواحد تخرج بركة ولعنة؛ ألعل ينبوعًا ينبع من نفس عين واحدة العذب والمرّ؟" (يع 3: 10- 11).
10. الشركة العملية
"فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين" [15].لا تقوم هذه الشركة على فكر اجتماعي بحت أو مجاملات ظاهرية، وإنما عن شركة الأعضاء التي تشعر ببعضها البعض.ربما يسهل على الإنسان أن يحزن مع الحزين ويئن مع أناته، لكن يصعب جدًا أن يفرح مع فرح أخيه، هذا يتطلب نفسًا سامية، فلا يحسد أخاه على نجاحه، بل يفرح معه، حاسبًا كل نجاح لأخيه هو نجاح لنفسه. يقول الرسول: "فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه، وإن كان عضو يكرم فجميع الأعضاء تفرح معه، وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (1 كو 12: 26-27).
11. التواضع
"مهتمين بعضكم لبعض اهتمامًا واحدًا،غير مهتمين بالأمور العالية،بل منقادين إلى المتضعين؛لا تكونوا حكماء عند أنفسكم" [16].
يحثنا على المحبة التي "لا تطلب ما لنفسها" (1 كو 13: 5)، بل ما هو للغير (في 2: 4) كأنه لنفسها. هذا هو الحب الذي به يحب الإنسان قريبه كنفسه، مهتمًا اهتمامًا واحدًا، غير مميز بين ما هو لنفسه وما هو لغيره.بهذا الروح لا يهتم المؤمن بالأمور العالية، أي بغنى هذا العالم وأمجاده وكرامته، ولا بمعاشرة الأغنياء والعظماء لأجل غناهم وكرامتهم، بل ينقاد إلى النفوس المتواضعة وإلى الفقراء، حاملًا فكر المسيح، كقول الرسول: "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد" (في 2: 5 - 7). وقد عاش السيد المسيح منقادًا إلى المتواضعين، إذ قيل: "أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان ورثة الملكوت؟" (يع 2: 5).لنقبل فكر المسيح هذا ولا نسلك بالحكمة البشرية المتعجرفة: "لا تكونوا حكماء عند أنفسكم" [16]، وكما جاء في سفر الأمثال: "أرأيت رجلًا حكيمًا في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به" (أم 26: 12)، لأن الجاهل قد يدرك جهله فيقبل المشورة، أما الحكيم في عيني نفسه فيعيش متصلفًا لا يقبل مشورة الله ولا نصح الكنيسة.
12. مسالمة الجميع
"لا تجازوا أحدًا عن شرّ بشرّ، معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس.إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس.لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكانًا للغضب.لأنه مكتوب: لي النقمة أنا أجازي يقول الرب.فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه،لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه.لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" [17-21]
أولًا: يعتني الإنسان المسيحي بأمور حسنة قدام جميع الناس، يهتم بالشهادة لله محب البشر، فلا يجد مجالًا لرد شر الآخرين بالشر.. لا يتلاءم هذا مع غايته ولا مع طبيعته الجديدة التي تمتع بها.
ثانيًا: يقول "إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس"، إذ يليق بنا بذل كل الجهد لنكسب كل نفس بالحب والسلام، لكن هناك أوضاع يستحيل فيها ذلك مثل مقاومة الهراطقة للإيمان، إذ يستحيل أحيانًا مسالمتهم لأنهم يخدعون البسطاء إلى الجحود أو الإيمان المنحرف إن تسللوا إلى الكنيسة، أو إنكار أحد الزوجين الإيمان (1 كو 7: 15).ليتنا نبذل كل الجهد أن نسالم إن أمكن كل البشرية فننعم بسلام أورشليم السماوية فينا، وكما يقول القديس جيروم: [من كان ليس في سلام مع أخيه فهو خارج تخوم أورشليم.]
ثالثا: ماذا يعني بقوله: "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب" [19]؟ إن كان يقصد به غضب الإنسان، فيعني أن نحتمل غضبه بالصبر، ونقابل ثورته بالحب كقول السيد المسيح: "لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا" (مت 5: 39).
رابعا: ماذا يعني "تجمع جمر نار على رأسه"؟ هل نقدم الطعام للعدو الجائع والماء للظمآن بقصد إغاظته؟
عن ذلك يقول القديس جيروم: إن الوصية بعيدة كل البعد عن هذا المفهوم، إنما تعني جمر نار روح الله الذي ينقي العدو بالتوبة حتى يدرك حبك مقابل عداوته.
+ إنها تعني أنك تنقي عدوك من الخطية، لأن صبرك يغلب مشورته.
+ بمعنى آخر، إنك تشفيه من رذائله بحرق حقده لترده بالتوبة.
+ حتى الناموس يعلمنا أن نحب العدو، فإن سقط حيوان العدو يلزمنا أن نرفعه، ويخبرنا الرسول:" فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه"، لا بطريق اللعنة والإدانة كما يظن غالبية الناس وإنما بتهذيبه وجذبه إلى التوبة، فيغلبه الحنو، ويذوب بدفء الحب، فلا يصير بعد عدوًا.
خامسًا: يوصينا الرسول: "لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير" [21]، فإن كان الشر يجعل الإنسان ضعيفًا فلا تقابل الضعيف بالضعف، إنما قابله باتساع القلب في نضوج الحب.
مزمور إنجيل القداس:
أما أنا فعلى رحمتك توكلت. يبتهج قلبى بخلاصك. أسبح الرب المحسن إلى. وأرتل لأسم الرب العالى: هلليلويا.
إنجيل القداس: لو 11: 1 – 10
واذ كان يصلي في موضع لما فرغ قال واحد من تلاميذه يا رب علمنا ان نصلي كما علم يوحنا ايضا تلاميذه فقال لهم متى صليتم فقولوا ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليات ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض خبزنا كفافنا اعطنا كل يوم واغفر لنا خطايانا لاننا نحن ايضا نغفر لكل من يذنب الينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشريرثم قال لهم من منكم يكون له صديق ويمضي اليه نصف الليل ويقول له يا صديق اقرضني ثلاثة ارغفةلان صديقا لي جاءني من سفر وليس لي ما اقدم له فيجيب ذلك من داخل ويقول لا تزعجني الباب مغلق الان واولادي معي في الفراش لا اقدر ان اقوم واعطيكاقول لكم وان كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه فانه من اجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج وانا اقول لكم اسالوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم لان كل من يسال ياخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له
1- الصلاة الربانيَّة
حدَّثنا الإنجيلي عن دخول السيد المسيح بيت مريم ومرثا، فعبَّرت كل منهما عن محبَّتها له بطريق أو بآخر، انطلقت مرثا تخدمه بينما بقيت مريم جالسة عند قدميه تسمع كلامه (10: 39)، يلتهب قلبنا شوقًا للجلوس مع مريم عند قدميه باللقاء معه والصلاة. لهذا جاء الحديث التالي مركزًا على "الصلاة" يقول الإنجيلي: "وإذ كان يصلِّي في موضع، لما فرغ قال واحد من تلاميذه: يا رب علِّمنا إن نصلِّي كما علَّم يوحنا أيضًا تلاميذه" [1].بلا شك حَفظ التلاميذ الكثير من الصلوات من العهد القديم أو خلال التقليد اليهودي، لكن سؤال التلاميذ: "يا رب علِّمنا إن نصلِّي" يكشف عما رآه التلاميذ في السيد المسيح وهو يصلِّي. أدركوا صورة جديدة لم يذوقوها من قبل في عبادتهم، فاشتهوا أن يحملوا ذات الفكر والروح الواحد.مرَّة أخرى نقول إن أردنا إن يدخل الرب بيتنا ونخدمه كمرثا أو نتأمَّله كمريم فلا طريق للتمتَّع باللقاء معه في الخدمة أو التأمُّل سوى الصلاة التي بها ننعم بحياة الكنيسة وكمالها على مستوى العمل والتأمُّل."فقال لهم: متى صليَّتم فقولوا:أبانا الذي في السماوات" [2].وهنا يقول القدِّيس كيرلس الأورشليمي: لا نستطيع أن نصلِّي كما ينبغي ما لم ندرك أولًا مركزنا بالنسبة له، فقد اختارنا أبناء الله، نحدِّثه من واقع بنوَّتنا التي نلناها كهبة مجانيَّة في مياه المعموديَّة بالرغم من شعورنا أننا لا نستحق أن نكون عبيدًا له.
2. الصلاة بلجاجة
إن كان السيِّد قد قدَّم لنا نموذجًا حيًا للصلاة، فإنه إذ يطلب منَّا العبادة الملتهبة بالروح، سألنا إن نصلِّي بلجاجة، ليس لأنه يستجيب لكثرة الكلام، وإنما ليُلهب أعماقنا نحو الصلاة بلا انقطاع. يشتاق الله إن يعطي، وهو يعرف احتياجاتنا واشتياقاتنا الداخليَّة، لكنه يطالبنا باللجاجة لنتعلَّم كيف نقف أمامه وندخل معه في صلة حقيقيَّة.قدَّم لنا الرب هذا المثل (صديق نصف الليل):
ونلاحظ في هذا المثال الآتي:
أولًا: إن كان غاية هذا المثَل الأولى هي حثِّنا على اللجاجة في الصلاة حتى ننعم بطلبتنا، فإننا نلاحظ هنا إن السيِّد المسيح يقدِّم الآب صديقًا للبشريَّة، إذ يقول: "من له صديق ويمضي إليه نصف الليل".وعن هذا المثل يقول القديس أمبروسيوس: [من هو صديق لنا أعظم من ذاك الذي بذل جسده لأجلنا؟ فمنه طلب داود في نصف الليل خبزات ونالها، إذ يقول: "في نصف الليل سبَّحتك على أحكام عدلك" (مز 119: 62)، نال هذه الأرغفة التي صارت غذاء له. لقد طلب منه في الليل: "أُعوِّم كل ليلة سريري" (مز 6: 6)، ولا يخش لئلاَّ يوقظه من نومه إذ أنه عارف إن (صديقه الإلهي) دائم السهر والعمل. ونحن أيضًا فلنتذكَّر ما ورد في الكتب ونهتم بالصلاة ليلًا ونهارًا مع التضرُّع لغفران الخطايا، لأنه إن كان مِثل هذا القدِّيس الذي يقع على عاتقه مسئوليَّة مملكة كان يسبِّح الرب سبع مرَّات كل يوم (مز 119: 164)، ودائم الاهتمام بتقدِّمات في الصباح والمساء، فكم بالحري ينبغي علينا أن نفعل نحن الذين يجب علينا أن نطلب كثيرًا من أجل كثرة سقطاتنا بسبب ضعف أجسادنا وأرواحنا حتى لا ينقصنا لبنياننا كسرة خبز تسند قلب الإنسان (مز 103: 15)، وقد أرهقنا الطريق وتعبنا كثيرًا من سبل هذا العالم ومفارق هذه الحياة.]
ثانيًا: إن كان الله يقدِّم نفسه صديقًا لنا نسأله في منتصف الليل ليهبنا خبزًا سماويًا من أجل الآخرين القادمين إلينا أيضًا في منتصف ليل هذا العالم جائعين، فإن السيِّد حسب هؤلاء أيضًا أصدقاء لنا؛ فنحن نطلب من الصديق الإلهي لأجل أصدقائنا في البشريَّة.
ثالثًا: إن كان الشخص قد جاء إلى صديقه في منتصف الليل يطلب من أجل صديقه الذي قدُم إليه من سَفر، أمَا كان يكفي أن يسأل رغيفًا واحدًا أو يطلب رغيفين، فلماذا طلب ثلاثة أرغفة؟إننا إذ نلتقي بعريسنا المخلِّص وسط هذا العالم بتجاربه الشرِّيرة، كما لو كنا في نصف الليل، نطلب لأنفسنا كما للآخرين ثلاثة أرغفة لكي تشبع أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا؛ فالله وحده هو المُشبع للإنسان لكل كيانه.هنا ندرك الفهم الإنجيلي للحياة المقدَّسة أو للعفَّة، فالإنسان العفيف أو المقدَّس في الرب لا يعيش في حرمان، إنما يتقبَّل من يديّ الله ما يُشبع حياته كلها ويرويها، فتفرح نفسه وتتهلَّل روحه، ويستريح أيضًا جسده حتى وإن عانى أتعاب كثيرة من أجل الرب. لهذا كان المعمَّدون حديثًا في الكنيسة الأولى ينشدون بعد عمادهم مباشرة هذا المزمور: "الرب راعيّ فلا يعْوِزني شيء، في مراعٍ خضر يربضُني، وإلى مياه الراحة يورِدني، يرُد نفسي، يهديني إلى سبل البرّ.."
رابعًا: يقول السيِّد: "فيجيب ذلك من داخل، ويقول: لا تزعجني، الباب مغلق الآن، وأولادي معي في الفراش، لا أقدر أن أقوم وأعطيك" [7].يصوِّر لنا السيِّد المسيح هذا الصديق أنه يجيب من داخل، لا يخرج إليه مع أن الوقت حرج، وكان يليق بالصديق أن يفتح ليطمئن من القارع؛ وفي إجابته يعلن أن تصرُّف هذا السائل أو القارع مزعج، وأن الباب مغلق، وأولاده في الفراش، وأنه عاجز عن القيام والعطاء. ومع هذا استطاع صديقه بلجاجته أن يغتصب منه طلبه! فكم بالأكثر الله يهب سائليه إن طلبوا بإلحاح، علامة صدق طلبهم، خاصة وأن الله ليس كهذا الصديق يجيب من داخل، بل خرج إلينا خلال التجسَّد، وجاءنا كلمة الله حالًا في وسطنا، يحدِّثنا فمًا لفمٍ، نازعًا الحجاب الحاجز بين السماء والأرض. وهكذا لم يعد بعد الباب مغلقًا بل هو مفتوح للجميع، يريد إن الجميع يخلُصون وإلى معرفة الحق يُقبلون. أولاده ليس معه في الفراش، إذ هو لا ينام وملائكته وقدِّيسوه أيضًا يسهرون، عاملين بصلواتهم وتضرُّعاتهم من أجل النفوس التائهة والمحتاجة. لا يقول الرب: "لا أقدر أن أقوم وأعطيك"، إذ قام الرب من الأموات وأعطانا حياته المُقامة عاملة فينا!
هكذا قدَّم لنا الرب صورة مؤلمة للصديق البشري، الذي ننال منه طلباتنا خلال اللجاجة، بالرغم من الظروف المقاومة، فكم بالأكثر ننال من الرب نفسه؟
خامسًا: يحثُّنا ربَّنا يسوع على الصلاة بلجاجة، إذ يختم المثَل بقوله: "أقول لكم وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه، فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج. وأنا أقول لكم: اِسألوا تعطوا، اُطلبوا تجدوا، اِقرعوا يفتح لكم" [8-9].ويعلق القديس أغسطينوس علي هذه الكلمات بقوله: [ماذا يعني بقوله: لأجل لجاجته؟ لأنه لم يكف عن القرع، ولا رجع عندما رُفض طلبه.. قد يبطئ الله أحيانًا في إعطائنا بعض الأمور، لكي يُعرِّفنا قيمة هذه الأشياء الصالحة، وليس لأنه يرفض إعطاءها لنا. الأمور التي نشتاق إليها كثيرًا ما ننالها بفرحٍ عظيم، أما التي توهب لنا سريعًا فإنها تُحسب زهيدة. إذن لتسأل وتطلب وتلح، فبالسؤال نفسه والطلب أنت نفسك تنمو فتنال أكثر.] كما يقول: [بالصلاة التي نمارسها خلال الطلبات التي نشتهيها ننال ما هو مستعد أن يمنحه. عطاياه عظيمة جدًا لكننا نحن صغار وضيِّقون في إمكانيَّاتنا عن أن ننالها.]
وهنا نتساءل لماذا يقول: [اِسألوا.. اُطلبوا.. اِقرعوا]؟
فربَّما تكون للتأكيد، فإنه يلحْ علينا أن نسأل ونطلب ونقرع، لأنه يريد أن يعطينا، ولعلَّ التكرار ثلاث مرات: اِسألوا، اُطلبوا، اِقرعوا، يعني أننا لا نسأله فقط بأفكارنا أو نيَّاتنا الداخليَّة، وإنما أيضًا بشفاهنا كما بأعمالنا. وكأنه يليق أن تنطلق صلواتنا خلال تناغم الفكر مع الشفتين والسلوك، فتخرج رائحة بخور مقدَّسة من أعماق مقدَّسة وكلمات مباركة وأعمال مرضيَّة لدى الله. وبمعنى أخر إن السؤال والطلب والقرع إنما يعني وِحدة الصلاة مع الحياة العمليَّة في الرب، نسأل أن يبدأ معنا، ونطلب إليه أن يكمِّل الطريق، ونقرع لكي ينهي جهادنا بالمجد الأبدي، فهو البداية والنهاية كما أنه هو المرافق لنا وسط الطريق، أو بمعنى أدَق هو طريقنا: به نبدأ وبه نستمر وبه نكمِّل.ولكي يشجِّعنا السيد المسيح على السؤال والطلب والقرع، كشف حقِّنا البنوي في الطلب، فمن حقِّنا كأبناء أن نطلب من أبينا ونأخذ، إذ يقول: "فمن منكم وهو أب يسأله ابنه خبزًا، أفيعطيه حجرًا؟ أو سمكة، أفيعطيه حيَّة بدل السمكة؟ أو إذ سأله بيضة، أفيعطيه عقربًا؟ فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيِّدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه؟"
أخيرًا يؤكِّد الرب شهوة قلبه نحونا بقوله: "فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه؟" إن كان آباؤنا الأرضيُّون يهتمُّون أن يقدِّموا خبزًا وسمكة وبيضة لكي نقدر أن نعيش على الأرض، فإن الآب الذي من السماء يعطيٍ الروح القدس الذي وحده روح الشركة، يثبِّتنا في الابن الوحيد الجنس منطلقًا بنا بالروح القدس إلى حضن الآب السماوي.. عمله أن يهبنا "الحياة الجديدة" الحاملة للسِمة السماويَّة. لكي نعود إلى الحضن الأبوي من جديد.فليعطنا الرب نعمة لكي نشعر ونتمتع بأبوته لنا الذي له كل المجد والإكرام من الآن وإلي الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد