المقالات
18 يناير 2021
ميمر عيد الغطاس المجيد للأنبا بولس البوشي أسقف مصر في القرن الثالث عشر الميلادي،
يفتتح القديس بولس البوشي، أسقف القاهرة في القرن الثالث عشر، ميمر عيد الغطاس المجيد قائلاً:[المجد لقدوس القديسين الذي قدَّسنا بالميلاد الثاني وحلول الروح القدس، عندما حل في نهر الأردن بالعماد. المجد للذي لم يزل (الأزلي الدائم)، الذي وُلد جسدانياً ليلدنا روحانياً بالمعمودية المقدسة عندما تعمَّد من عبده يوحنا، وصار لنا طريقاً للبر والإرشاد (القيادة في الطريق). المجد للذي تواضع وأتى إلى نهر الأردن ليكمل كلَّ البرِّ، الذي ببرِّه تبررَّنا من الأشجاب (الاتهامات). المجد للذي أظهر لنا سرَّ الثالوث على نهر الأردن بإعلان].
يرى الأنبا بولس البوشي أن ما تمَّمه الرب يسوع على نهر الأردن كان لحسابنا نحن، لأنه لم يكن محتاجًا لأيٍّ منها، وهكذا أخذنا نحن عربون القداسة والولادة الروحانية والتبرير، عندما اعتمد الرب في نهر الأردن.[المجد للذي طهَّر المياه بحلوله فيها، وقدَّس العناصر وكل الأرض بمشيه عليها… اليوم رضَّ الربُّ رأس التنين على المياه، كنبوة داود (مز 74: 13)].كانت المياهُ في البدء عُنصرَ خلقٍ، حسب قول الكتاب: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ… وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» (تك 1: 1-2). لكن بعد سقوط الإنسان، صارت المياه عنصر موتٍ، كما حدث في الطوفان. ولكن بمعمودية الرب في نهر الأردن طهَّر المياه، إذ أباد الموت الذي صار فيها: اليوم رضَّ الربُّ رأس التنين، كناية عن الشيطان الذي كان له سلطان الموت، ومن ثم أصبحت المياهُ عنصر خلق من جديد، وصار لها القوة أن تلد الإنسان جديدًا في المعمودية المقدسة.ثم يعطي بولس البوشي المجد للرب يسوع، مبيِّنًا عظمة تدبيره على نهر الأردن:[المجد لك أيها المسيح الرب، الذي تواضع من أجل محبته للبشر، وجدَّد الخليقة بمولدٍ ثانٍ، لا يبلى، من فوق من عند أبي الأنوار. لك أبارك وأقدِّس يا من نزع عنا العار وجعلنا بني نور ونهار. لك أعظِّم وأرفع يا من هو فوق كل رئاسة وقوة وسلطان، شاء أن يتواضع ويعتمد من عبده يوحنا، وعلَّمنا سيرة الاتضاع الذي نخلص به من مكيدة الشيطان. أعطني معرفة يا من بغيره لا أقدر على شيء، لأتكلم من أجل أعمالك التي تفوق كل حسن وبهاء، هَب لي فهماً يا معطياً كلَّ فضل لأنطق على تدبير أعمالك التي أعلنتها. امنحني موهبةً يا مَن مِن امتلائه تفيض كلُّ النعم الروحانية، لأخبر بتواضعك أيها القدوس علانية].بعد ذلك يبين سبب تسمية هذا العيد باسم: عيد الظهور الإلهي:[عظيمةٌ هي كرامة هذا العيد المجيد اليوم، أيها الإخوة الأحباء. وهو يسمَّى عيد الظهور، لأن فيه ظهر سرُّ الثالوث القدوس. الذي كان رمزاً في كتب الأنبياء، ظهر لنا اليوم علانية باستعلان لأجل أن الابن متجسدٌ وأعلن كلَّ ما كان مستتراً. والمثال صار حقاً وكمالاً، والأشياء التي كانت مخفية عن الحكماء والفهماء ظهرت الآن للأطفال. أول ذلك عظمة القدوس الواحد في اللاهوت، مبتدأ الأشياء ورأسها وكمالها، استُعلن لنا اليوم. الابن في الأردن اعتمد، والآب في السماء يشهدُ له قائلاً: «أنت ابني الحبيب الذي بك سررت»، والروح القدس نازل شبه حمامة ليدل أن الروح كاملٌ بأقنوم].هذا (هو) الثالوث القدوس الذي به آمنَّا، وباسمه اعتمدنا على المثال الذي كان في الأردن، كما أمر الربُّ رسلَه الأطهار قائلاً: «امضوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19)، «فمن آمن واعتمد خَلَصَ، ومن لم يؤمن يُدَن» (مر 16: 16). وقال أيضاً: «الحق الحق أقول لكم: إن من لم يولد من الماء والروح لا يعاين ملكوت الله» (يو 3: 5). ثم عرَّفنا أنه غير هذا الميلاد الجسداني، فقال: «لأن المولود من الجسد فهو جسد، والمولود من الروح روح هو» (يو 3: 6).ولأجل شرف هذه الولادة المقدسة، يوحنا الإنجيلي يعلِّمنا قائلاً: «الذين آمنوا به أعطاهم سلطاناً أن يصيروا بني الله، وليس هم من دم ولا من هوى لحم ولا من مشيئة رجل، بل وُلدوا من الله» (يو 1: 12-13). هذا الذي به بحق نرث ملكوت الله، لأن لحماً ودماً لا يرثها، كما قال الرسول (1كو 15: 50)، بل الذين ولدوا بالروح. ولذلك لمَّا أراد الرب أن يستعلن للشعب بعد كمال ثلاثين سنة لمولده بالجسد، ابتدأ أولاً باستعلان الثالوث الواحد في اللاهوت. ثم أرانا الطريق الكاملة فوق كل كمال، وهو كيفية الميلاد الثاني مبتدأ الإيمان وعربون إرث البنوة التي بها صار العتق والحرية… يقول الكتاب: «حينئذ جاء الربُّ يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد من يوحنا» (مت 3: 13). يا لهذا الاتضاع الذي لا يُقاس ولا يستطيع لسانٌ بشري ترجمته. كيف (أنّ) الرب الذي يأتي إليه كلُّ البشر، كما هو مكتوب (مز 65: 2)، جاء إلى الأردن ولم يأنف من ذلك، وقدوس القديسين جاء ليعتمد من الذي قدسه هو، باركه واصطفاه وأعطاه موهبة روح قدسه، وأرسله بشيراً أمامه. وليس أنه كان محتاجاً إلى ذلك، بل من أجلنا نحن المحتاجين، ولا لأجل قبول الروح القدس أيضاً، لأنه لم يزل معه أزلياً في الجوهر الواحد اللاهوتي، بل لكي يعطينا نحن موهبة الروح القدس بالمعمودية على الإيمان باسمه المقدس. هذا الذي طهر المياه بحلوله فيها وقدسها، وطهرنا نحن أيضاً بهبوط روح القدس نازلاً عليها (يقول الكتاب: اسمح الآن لأنه ينبغي أن نكمل كل بر). فأما يوحنا حيث لم يقدر على الاستعفاء، ولا وجد له مفراً، ولم يقدر (أن) يعاند أمر سيده، حينئذ تركه. وأن الربَّ لما اعتمد «صعد للوقت من الماء»، لكي ما يرينا سرعة اهتمامه بنا، «فانفتحت له السموات»، لأنه ملك كل شيء، «وظهر روح الله نازلاً شبه حمامة آتياً إليه»، لنعلم أن الروح كاملٌ ذو أقنوم، وأنه استُعلن لأجل استعلان الابن، ليكون فاعلاً في كل التقديسات. وحيث هو غير متجسد، تمثّل شبه حمامة دون غيرها من الطير لأجل دعتها.«وإذا صوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». وبهذا سُمي هذا العيد عيد الظهور كما تقدم القول، لأنه فيه ظهر سرُّ الثالوث القدوس، الابن في الأردن، والآب يشهد له، وروح القدس نازلاً عليه.ولماذا لم يحلّ على الرب وهو في نهرالأردن؟ وذلك لئلا يُظنَّ أنه حل على يوحنا المعمداني، لأن اسمه كان ذائعاً. ولهذا لما صعد الربُّ من الماء واعتزل من يوحنا، حلَّ عليه خاصة، وإن كان الروح معه لم يزل في وحدانية اللاهوت جوهراً واحداً. بل صنع هذا لكيما كل من اعتمد بهذا المثال على اسم الثالوث القدوس الواحد في اللاهوت يقبل موهبة الروح القدس، لأن الربَّ صار لنا مثالاً في كل شيء.
فأما يوحنا الإنجيلي فإنه جعل فاتحة إنجيله في المولد الأزلي الذي ليس له ابتداء قائلاً: «في البدء كان الكلمة، ولم يزل الكلمة عند الله، وإله هو الكلمة»، وما يتلو ذلك. فلما تقدم لم يترك تدبير التجسد والمعمودية المقدسة لأجل فضلها، بل أكد ذلك جيداً بحلول الروح على الأردن وقول المعداني: «إني عاينتُ وشهدتُ أن هذا هو ابن الله» (يو 1: 34).ولم يقتصر بهذا (القول)، بل زاد ذلك ظهوراً وتأكيداً بأن الربَّ إنما صنع ذلك لأجلنا خاصة. يقول الربُّ لنيقوديموس: «إنه ينبغي لكم أن تولدوا من ذي قبل، لأن المولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح فهو روح» (يو 3: 3، 6). وقال: «من لم يولد من الماء والروح فلا يعاين ملكوت الله» (يو 3: 5). هذا الذي به جدَّدنا وجعلنا بنين للآب في الحياة المؤبدة. كما يقول الرسول: «إنه أحيانا بغُسل λουτρόν الميلاد الثاني وبتجديد موهبة روح القدس» (تي 3: 5)، أعني عن الروح الذي نزعه من آدم عند المخالفة، جدَّده فينا بالمعمودية مجاناً بنعمته. قال: «الذي أفاضه علينا من غناه وفضله بتأييد يسوع المسيح محيينا، لنتبرر بنعمته ونكون وارثين لرجاء الحياة الدائمة (تي 3: 6-7).فلذلك يا أحبائي، كرامة هذا العيد جليلة جداً، ويجب علينا أن نوقرها لأن فيها استعلن لنا سرُّ الثالوث.اليوم أعطانا الابنُ سلطاناً أن نولد من ذي قبل، ونصير بنين لله الآب بالروح. والروح يشهد لأرواحنا إننا بنون لله (رو 8: 16).اليوم رض الربُّ رأس التنين على المياه، كنبوة داود (مز 74: 13).اليوم عَتَقَنَا الابنُ من العبودية المرة، وصيرنا أحراراً عندما جعل فينا موهبة روح قدسه، ذاك الذي نزعه من أبينا آدم عند أكله من عود المعصية.اليوم كمل المكتوب في يوئيل النبي: «إني أفيض روحي على كل جسد، يقول الرب» (يؤ 2: 28).فلنصنعه الآن عيداً نقياً طاهراً كما يليق به، لأن فيه طهرنا الربُّ بحلول روح قدسه، وولدنا ميلاداً جديداً، وليس من زرع يبلى كما كان أولاً، بل مما لا يبلى لإرث ملكوت أبدية لا زوال لها (1بط 1: 23). إذ الصوت الصارخ نسمعه اليوم قائلاً: «أعدوا طريقَ الربِّ واصنعوا سبله مستقيمةً». وإن كان هذا قد صار إلى يوحنا وصرخ به في المسامع جسدانياً، فقد أكمل آباؤنا الرسل الأطهار كنائسياً في إنذار البشرى وبنيان الكنيسة، كما تقدم القول. فإنه يأتي إلى اليوم قائماً ثابتاً صائراً إلينا روحانياً، يصرخ في مسامع نفوسنا، التي صارت كمثل برية خالية من عمل البر، لترك الاهتمام بها، فأمرنا أن نسهل طريق الرب ليحل فينا بالروح عندما نحفظ وصاياه، كما قال: «إن الذي يحفظ وصيتي أنا والآب نأتي ونتخذه مسكناً» (يو 14: 23).فما الذي يكون أشرف من هذا أن الإنسان الحقير الترابي يصير مسكناً للرب الإله العظيم السمائي بعمل وصيته. وحينئذ تمتلئ الأودية التي في تلك النفس، وهي ضعف القلب، وقلة الأمانة (الإيمان)، وعدم الرجاء؛ تمتلئ إيماناً وقوة ورجاءً صالحاً في الله. ثم الآكام التي فيها تتضع، أعني الكبرياء والافتخار والعصيان لناموس الله، وتصير متضعةً من أجل الرب الذي اتضع من أجلنا، خاضعةً لناموسه بمحبة واجتهاد، حافظةً وصاياه بشهوة، حتى إن النفس التي كانت وعرة في مسلكها تصير سهلةً في انقيادها، وكانت أولاً وحشية (أي برية) خشنة في طباعها، تصير لينة سهلة في تصرفها، قد رُسم فيها وطُبع ناموس الروح، ليس في ألواح حجرية، بل في قلوب لينة لحمية، كما يقول الرسول (2كو 3: 3). وهكذا يعاين كل ذي جسد (أن) هذا فعله خلاص الله (لو 3: 6).ويجب علينا أن نذكر العهد الذي عاهدنا به الربَّ وقت المعمودية كالأوامر الرسولية، بأن نجحد الشيطان وكل أعماله، ونتبع ناموس الرب وكل أفعاله. وإن كنا قد زللنا وعملنا بالضد من ذلك، فنتجدد بنار التوبة التي من تلقاء الروح، وننهض من السقطة ونرجع عن توعر الهلاك، إذ الرب يدعونا على فم إشعياء النبي قائلاً: «ارجعوا إليَّ فأرجع إليكم يقول الرب، ولو كانت خطاياكم قد صارت كالدم، جعلتُها كالثلج، ولو كانت كصبغ القرمز، رددتُها كالصوف الأبيض النقي» (إش 1: 18). فإن تهاونا في ذلك، يكمل علينا قول الرسول: «أن ليس عهد ولا وفاء لهم». اللفظة قيلت للمؤمنين خاصة، فقال: «أولئك الذين يعرفون حكم الله أنه مستوجب الموت على الذين يعملون هذه القبائح، وهم لا يقتصرون على العمل بها فقط، بل ويلتمسون مشاركة من يعملها أيضاً» (رو 1: 31-32).
فالآن نرجع للربِّ بتوبة نقية لكي نَطْهُر من هذه القبائح، ونغتسل من وسخ دنسها، لأن الربَّ يعلِّمنا على فم إشعياء النبي قائلا: «اغتسلوا وتطهروا وانزعوا الشَّرَّ والخبثَ من قلوبكم أمام عيني، يقول الربُّ» (إش 1: 16). ثم إن النبي يثلبُ قوماً يدومون على خطاياهم وجهلهم قائلاً: «الويل للذين يسكرون من باكر، ويدومون على سكرهم إلى حين المساء» (إش 5: 11)، أعني الذين يتهاونون بنفوسهم في دنس الآثام من صباهم إلى كمال حياتهم، فيدركهم المساءُ الذي هو الموت، الذي لم يبقَ فيه عمل، ولا يُقبل فيه توبة.فلنسعَ الآن في عمل البر حسب قوتنا، مادام لنا زمان ومهلة، قبل أن تدركنا الوفاة، لكي نجد منه معونة ونظفر عنده برحمته، والرب يحفظنا أجمعين من مكائد العدو ومناصبه (أي معاداته)، ويؤهلنا لسماع ذلك الصوت الفرح القائل: «تعالوا إليَّ يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم» (مت 25: 34). بشفاعة سيدتنا البتول مرتمريم والدة الخلاص، وشفاعة القديس البار مار يوحنا المعمداني، وشفاعات آبائنا الرسل والشهداء والقديسين آمين.
المزيد
17 يناير 2021
المعمودية عبور من الموت إلى الحياة
المعمودية بالتغطيس كاشتراك في موت المسيح ودفنه:
التغطيس الكامل حتى الرأس، أو انغمار الجسم كله تحت الماء، كتعبير عن الدفن في الماء، هو بمثابة وقوع الإنسان الإرادي بالموت تحت عقوبة الله برسم الطوفان (1بط 3: 20 - 22)، بسبب الخطايا التي صنعها الإنسان والتي ورث دوافعها وآثارها ونتائجها في طبيعته الترابية. ولكن لأن هذا الدفن هو في اسم المسيح وعلى أساس موته ودفنه وكاشتراك فيه، فالموت يصبح للتبرير عن الخطايا السالفة، وبالتالي يُنشئ شركة في القيامة للحياة بلا خطية؛ أي يُنشئ ميلاداً جديداً للإنسان لخليقة جديدة. ثم بإعطاء الروح القدس (بوضع اليد أو بالميرون) تصير الخليقة الجديدة روحانية ومتحدة بالمسيح.
فالمعمودية في اسم المسيح والآب، وبمنحها الروح القدس، تكون هي المعجزة العُظمى للإنسان الممنوحة له من الله رأساً كآية العهد الجديد، التي فيها يرتبط الله بالإنسان لإعادة خلقته بروحه القدوس على صورة مسيحه، ليرفعه من خلقة إلى خلقة، من خلقة أرضية من التراب إلى خلقة سمائية «من الروح»، «من فوق»، «من السماء»، ليتغيَّر الإنسان من شكل آدم إلى شكل المسيح، وليقبل الإنسان عوض بنويَّته التي من آدم بالفساد والخاضعة للزمن والموت، إلى بنويَّة الله والحياة معه بالبر والقداسة والحق للحياة الأبدية.
مفاعيل المعمودية:
القديس بطرس الرسول يطالب كل مَنْ اعتمد بالهروب من الفساد الذي في العالم بالشهوة، وبممارسة الفضائل باجتهاد، وإلاَّ فإنه يُعتبر أنه «قد نسي تطهير خطاياه السالفة» (2بط 1: 9). وهنا تتضح فعَّالية المعمودية بالتحديد: «تطهير خطاياه السالفة»؛ فالمعمودية إما توضع نُصب أعيننا كمنبع طهارة ومصدر قوَّة للتطهير من جميع الخطايا (السالفة) - سواء التي ورثنا آثارها باللعنة الأُولى أو التي عملناها بإرادتنا - وإما ننساها فنفقد المصدر الذي نستمد منه طهارتنا وقدرتنا على الجهاد لاستمرار التطهير.
كما يرى بطرس الرسول في المعمودية أنها «لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله» (1بط 3: 21). أي أن المعمودية تُنشئ فينا إحساس الضمير المطهَّر الذي يجعلنا قادرين أو مستحقين للوقوف أمام الله لنصلِّي ونطلب من الله بلا لوم داخلي.
أما القديس بولس الرسول فيضع مفاعيل المعمودية واضحة في قوله:
+ «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11)
فالمعمودية هي اغتسال من الخطية = تقديس، والوقوف أمام الله بلا لوم = تبرير.
فهي تُعتبر الغاية العُظمى للخلاص الذي جاء الرب يسوع لتكميله بالموت على الصليب:
+ «... أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدِّسها مطهِّراً إياها بغسل الماء بالكلمة (المعمودية) لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضْن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدَّسة وبلا عيب.» (أف 5: 25 - 27)
ثم يعود بولس الرسول في رسالته للعبرانيين ليؤكِّد ذلك قائلاً:
+ «لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان، إذ قد صارت قلوبنا مرشوشة من ضمير شرير (أثر المعمودية بالروح داخل الضمير) وأجسادنا مغتسلة بماء طاهر، متمسِّكين ”باعتراف“ الرجاء بدون تردُّد لأن الذي وعد هو أمين.» (عب 10: 22 و23 ترجمة أكثر وضوحاً)
هنا يتضح أثر المعمودية في الضمير، وفي أعضاء الجسد، مشيراً إلى قوة التطهير بالروح في الضمير وبالماء بالنسبة للجسد. وإن أثر المعمودية في النهاية يعطي تقدُّماً إلى الأقداس العليا بقلب صادق ويقين الإيمان، على أن نظل متمسِّكين بالاعتراف الذي نتلوه في المعمودية برجاء لا يتزعزع وبلا تردُّد، اعتماداً على وعد الله وأمانته.
الروح القدس يدعو إلى المعمودية:
الدعوة إلى المعمودية كانت معروفة ومؤكَّدة منذ أول لحظة حلَّ فيها الروح القدس:
+ «فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم (فعل الروح القدس المُسْبَق) وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة، فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس (عمل الروح القدس اللاحق).» (أع 2: 37 و38)
واضح هنا أن الروح القدس هو الذي يُعد القلب بنخس خفي لقبول الإيمان والمعمودية.
واضح أيضاً أن الفعل الأول للروح القدس في المعمودية هو لمغفرة الخطايا، لذلك فإن قبول «عطية» الروح القدس تأتي بعد المعمودية، أي بعد مغفرة الخطايا، وهذا أمر في غاية الأهمية العملية. فالخطية تمنع قبول عطية الروح القدس.
ومن المهم أن نلاحظ أن المعمودية مرتبطة أساساً بالمسيح = «على اسم المسيح»، وذلك مبني على فعالية الخلاص والفداء الذي أكمله المسيح عن البشرية لسؤال مغفرة الخطايا، وعلى هذا الأساس يتم الميلاد الجديد بكل متطلباته كخليقة جديدة في المسيح. ولكن، لأن المسيح أكمل الفداء ليس من ذاته بل بمشورة الآب ومسرَّة الروح القدس، لذا أصبح يتحتَّم أن تكون المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس، حيث ينال الإنسان بواسطة المسيح علاقته الجديدة بالآب والروح القدس، وهي حالة التبني بالروح للآب. وينال الإنسان تقديس الحياة الجديدة بواسطة الروح القدس ليليق بحالة التبني لله: «أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، باعتبار أن ميلادهم الجديد هو شركة موت وحياة في المسيح ابن الله.
وهذا التعليم الإلهي المنسجم لدى كل الرسل واضح جدًّا أنه مسلَّم من واحد هو المسيح: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت 28: 19)
ونسمع أيضاً من حنانيا، أحد السبعين رسولاً، وهو يقول لشاول (بولس): «إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته، وتبصر البار، وتسمع صوتاً من فمه، لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت، والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد، واغسل خطاياك داعياً باسم الرب.» (أع 22: 14 - 16)
وهنا أيضاً مفاعيل العماد المسبقة والمرافقة والتابعة: انتخبك، لتبصر، لتسمع، لتشهد، ثم الأمر الإلهي «قُمْ»، «اغسل خطاياك». هنا فعل الغسل بالماء يشمل بكل وضوح معنًى روحيًّا عميقاً موازياً لغسل الجسد، ولكن أشد فعلاً وأبقى أثراً، إذ يتغلغل ليشمل كل أعمال الخطية في الماضي بكل آثارها على الروح والنفس والجسد والضمير!!«اغسل خطاياك»، ما أروع وما أسهل وما أعمق هذا التعبير!! وهذا ظل يعلِّم به بولس الرسول نفسه كل أيام حياته، بعد أن ذاقه وعاشه فعلاً. اسمعه يقول: «قداغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11)
تعليم الآباء الرسوليين عن المعمودية
وقد سلَّم الرسل هذا الإيمان نفسه بتحديده الواضح إلى الآباء الرسوليين، فنسمع الأسقف هرماس (142 - 174م.) يقول:
[عندما نزلنا إلى الماء تقبَّلنا غفران خطايانا السالفة.] (Mand. iv. 3.1)
وفي رسالة برنابا (80 - 130م.)، يرى أن المعمودية تعطي نفس طفل:
[لقد تجدَّدنا بغفران خطايانا وصُنعنا شكلاً آخر حتى يكون لنا نفس طفل، كأنما قد خُلقنا من جديد، كما يقول الكتاب بخصوصنا حيث الآب يخاطب الابن: لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا.] (Quasten, Patrology, vol. I, 87)
أي أن الآية: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 18: 3)، إنما تشير إلى المعمودية.
أما يوستين الشهيد (110 - 165م.) فيعتبر أن المعمودية هي تكريس النفس لله، وغفران الخطايا، وميلاد جديد بالاختيار والمعرفة، واستنارة:
[وسأقص عليك كيف نكرِّس أنفسنا لله ... ونحضرهم إلى مكان الماء ونعيد ميلادهم بنفس الطريقة التي وُلِدنا نحن بها ثانية، لأن باسم الله الآب سيد الخليقة ومخلِّصنا يسوع المسيح والروح القدس يقبلون اغتسال الماء. وقد تعلَّمنا من الرسل معنى هذا، لأنه بميلادنا الأول وُلِدنا بدون اختيارنا وبدون معرفتنا بواسطة والدينا عندما اجتمعا معاً، ونشأنا بعادات رديئة وخبرات شريرة. فلكي لا نبقى أبناء الضرورة والجهل بل أبناءً بالاختيار والمعرفة، ولكي نحصل في الماء على مغفرة خطايانا التي اقترفناها سابقاً، يُنادى فوق مَنْ اختار أن يولد ثانية، الذي يكون قد تاب عن خطاياه، باسم الله الآب وباسم المسيح يسوع الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي وباسم الروح القدس الذي ينير المُغتَسِل، وهذا الاغتسال يُدعى «استنارة» لأن الذين يعرفون هذه الأمور يستنيرون روحيًّا.] (Apol. 1-16: 10)
الدعاء باسم الرب هو ختم المعمودية:
والدعاء باسم الرب على المعمَّد أو بفمه هو أثناء النزول في الماء: «قُمْ واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب» (أع 22: 16). هنا قوَّة عمل الدعاء باسم الرب هو مكافئ لعمل حميم المياه، وهذا يعطي المعمَّد «قوَّة الاسم»، أي قوة المسيح التي ظهرت في الموت الكفَّاري والقيامة للحياة: «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11)
واضح هنا أن عمل قوَّة اسم المسيح عنصر هام قائم بذاته لقوَّة عمل الروح القدس في إتمام سر العماد.
هذا الدعاء باسم المسيح أثناء العماد هو الختم sfr£gij الإلهي الذي يناله المعمَّد لينطبع على كل كيانه الروحي باعتباره قد صار تابعاً للمسيح ومن خاصته. هذا الختم هو بمثابة شهادة وسلطان من الله أن المعمَّد صار ابناً لله: «كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، وقد عبَّر بولس الرسول عن فاعلية المعمودية بتعابير غاية في العمق: «ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله، الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا» (2كو 1: 21 و22)، «الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس.» (أف 1: 13)
والمعمودية كختم، حيث يتركَّز الختم في إجراء الدعاء باسم المسيح، هي تقليد انتقل أيضاً إلى الآباء الرسوليين، فيقول هرماس عن المعمودية إنها ختم الموت والحياة:
[قبل أن يحمل الإنسان اسم ابن الله يكون ميتاً، ولكن حينما يقبل الختم فإنه يخلع الموت ويلبس الحياة، والختم هو الماء، فهم ينزلون إلى الماء أمواتاً ويخرجون أحياءً.] (Quasten, Patrology, vol. I, 101)
وجاء أيضاً في الرسالة الثانية المنسوبة لكليمندس الروماني (92 - 101م.):
[احفظوا الجسد طاهراً واحفظوا الختم (المعمودية) بلا عيب حتى تنالوا الحياة الأبدية.]
(Quasten, Patrology vol. I, 56)
مسئولية الإنسان المعتمد:
نوال هبة المعمودية كميلاد جديد من الله يُنشئ في الحال مسئولية عُظمى على الإنسان المعتمد. فالمعمودية وزنة وهبة عُظمى تحمل صورة الله واسمه وختمه، ولذلك سيعطي الإنسان جواباً عن مدى احترامه وحفظه واستخدامه لها.
ولكي نتحقَّق من خطورة التحذير الوارد في رسالة العبرانيين عن الذين سقطوا بعيداً عن المستوى اللائق بالمعمَّدين: «لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة (أي لا يمكن تعميدهم مرَّة أخرى) إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه» (عب 6: 6)، «فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف وغيرة عتيدة أن تأكل المضادين» (عب 10: 26 و27)، نقول إنه إذا أردنا أن ندرك خطورة ذلك علينا أن نعود إلى وضع بني إسرائيل الذين اعتمدوا في البحر الأحمر - بالإيمان بالله - الذي هو مثال المعمودية الحاضرة - كمعجزة عُظمى للخروج من عبودية مصر، إذ عبر بهم الله على يد موسى من الموت المحقَّق إلى الحياة عبر البحر. ولكن، وبالرغم من هذا، تمرَّد الشعب على الله فاعتبر الله تمرُّده أنه إهانة واحتقار لمعجزة إخراجه من مصر وعبوره البحر الأحمر الذي هو مثال المعمودية، فدفع الشعب ثمن هذا العصيان و«عدم الإيمان» وحلَّ عليه غضب الله، فطُرحت جثثهم في القفر وهلك الجيل بأكمله، غير أن الرب أبقى لنفسه شاهدين!
كذلك نلاحظ هنا أن معمودية البحر الأحمر لم تسعف فرعون وجنوده بل كانت لهم موتاً وهلاكاً، في الوقت الذي أعطت النجاة والحياة لشعب الله. كذلك فإنها لم تنفع شعب الله الذي لم يقدِّم أثماراً تليق بالتوبة. ويوحنا المعمدان يؤكِّد أن المعمودية بدون أعمال تليق بالتوبة هي معمودية للموت: «والآن قد وُضِعَت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار» (لو 3: 9)، «يا أولاد الأفاعي (الذين يأتون إلى المعمودية هروباً من غضب الله ولكن لا يعملون أعمال التوبة) من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة» (لو 3: 7 و8). فالمعمودية فعل حياة أبدية مربوط بالإيمان، إذا استهان به الإنسان وسقط عنه - بالارتداد أو جحد الإيمان بالمسيح - لا يعود الروح القدس يعمل فيه كفعل حياة وتجديد بل ويدخل تحت الدينونة. فبعد أن يكون الإنسان شريكاً في موت المسيح على الصليب للقيامة والحياة يصير بجحوده للمعمودية والإيمان صالباً للمسيح!!
والقديس بولس الرسول، في رسالته إلى أهل رومية الأصحاح السادس، يعالج الحياة بعد المعمودية ليس على مستوى الارتداد الكامل أو جحد الإيمان، ولكن على أساس مجرَّد الرجوع لحياة الخطية وتمكين الخطية في الأعضاء وفقدان الرجاء بضعف الإيمان، فإن فعل الحياة الذي كان يسري فينا بقوَّة الإيمان بمقتضى سر المعمودية يتوقَّف وتبدأ الخطية تفعل فعل الموت مرَّة أخرى!! «لا تملكنَّ الخطية في جسدكم المائت (بالمعمودية).» (رو 6: 12)
وعلى هذا الأساس تتضح لنا الأمور الآتية:
1 - إن فعل الله في العماد يعتمد على إيماننا بقداسة الله وندائنا باسم يسوع المسيح ليعبر بنا من الموت إلى الحياة، وهذا يوضِّحه دخول شعب إسرائيل في البحر وراء موسى بدون خوف. أما حالة الأطفال الذين عبروا مع آبائهم وأمهاتهم، فعبورهم لم يعتمد على إيمانهم بالله وبالعبور، بل على وجودهم وسط شعب الله. فهنا تبعية الطفل للكنيسة العابرة وسط البحر هي التي أعطته فعل العبور والحياة ليستخدمه في كل حياته المستقبلة؛ أي أن إيماني بالمسيح الآن أو عدم إيماني لا يغيِّر من الحقيقة أنني اعتمدت للمسيح ونلت كل حقوق الإنسان الجديد والشركة في ملكوت الله وفي جسد المسيح، أي العضوية في جسده عندما كنت طفلاً، وهذا من واقع الامتياز أنني وُلِدْت من أسرة مسيحية أي داخل الكنيسة.
2 - الفعل الأول للعماد، إذاً، يتم فينا بمجرَّد أن نكون قد اعتمدنا، وهذا يوضِّحه عبور شعب إسرائيل بالفعل معتمدين على قوة الله وإيمانهم باسم الله في عبورهم. هنا مجرَّد عبور الطفل أعطاه كل حقوق الخلاص من عبودية فرعون، وكل قوة وبركة ومعونة الله للسير في البرية أربعين سنة. فهو بعد العبور لا يُطالَب بإيمان ما قبل العبور ولكن يُطالَب بإيمان ما بعد العبور.
3 - الفعل الثاني للعماد له قوَّة وقدرة مستقبلية لحياتنا، يعمل فينا بقدر حفظنا واعتمادنا على الفعل الأول. وهو الذي أخفق فيه شعب إسرائيل فأنكروا قوة الله التي عبرت بهم وجحدوا اسم الله الذي عبروا وراءه وقالوا للعجل: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.» (خر 32: 4)
هنا الأطفال الذين عبروا قد نالوا قوَّة الفعل الأول - العبور - ولا يُطالَبون بعد بمستلزماته ولكن يُطالَبون بوصايا المسير، وهذا هو الفعل الثاني للعبور. أو بمعنًى آخر، إن عظمة وقوَّة الفعل الحادث في هذا السر تُظهرها استجابة الإنسان على مدى الأيام بطول حياة الإنسان كلها، في سلوك وأعمال لها قوَّة الاسم الذي اعتمدنا له، وبإيمان يساوي نفس الإيمان الذي اعترفنا به.
فالمعمودية فعل حياة جديدة مربوط بالإيمان بقوَّة اسم المسيح يتجدَّد كل صباح، بأعمال وأفعال تزكيها النعمة على نفس مستوى الإيمان بقوَّة اسم المسيح على مدى العمر كله.
المزيد
16 يناير 2021
عيد الغطاس رؤية وشهادة
يوحنا المعمدان لم يكن يعرف المسيح، مع أنه سمع عنه كثيراً، وقد راجع بتؤدة في عزلته الطويلة في البرية كل ما قاله الأنبياء عن المسيَّا، ولكن لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً!
لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله.
وبينما يوحنا يصلِّي وهو في حيرته كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟ سمع صوت الله يرن في أُذنيه: اذهب إلى بيت عبرة عبر الأردن وهناك اِكرز وعمِّد بالماء للتوبة، لأنه من خلال المعمودية سيظهر المسيح لإسرائيل. فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس!!
+ «وأنا لم أكن أعرفه ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء ... وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس.» (يو 1: 31 - 33)
ترك يوحنا عزلته الطويلة في البراري وترك معها كل الوسائل الشخصية التي جاهد أن يكتشف بها المسيَّا، وانطلق يكرز ويعمِّد، بكل غيرة وحماس، مئات وأُلوف؛ وفي قلبه لهفة أشد ما تكون اللهفة أن يرى العلامة، فكان يترقَّب رؤية الروح القدس في كل لحظة، وهو نازل من السماء ليعلن المسيَّا. وكان قلبه يخفق بشدَّة، لعل يكون أيُّ آتٍ إليه هو المسيَّا!
سر ظهور المسيح واستعلانه ليوحنا المعمدان:
هذه الصورة المبدعة التي يرسمها إنجيل القديس يوحنا لبدء خدمة المعمدان وظهور المسيَّا تحمل في الواقع أسراراً عميقة، فالإنجيل ينبِّه ذهننا بشدَّة:
أولاً: أن ظهور المسيح في ذاته واستعلانه عموماً يستحيل أن يتم بالاجتهاد أو الترقُّب، إنما يتم فقط بتدبير الله من خلال معمودية الماء للتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء»، حيث التركيز في معمودية الماء يقع على التوبة «واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.» (مت 3: 6)
ثانياً: أن معرفة المسيح شخصيًّا يستحيل أن تتم إلا بواسطة الروح القدس! الروح لم يره أحد وهو نازل من السماء غير يوحنا المعمدان، الرؤية هنا خاصة، انفتاح ذهني لإدراك ما لا يُدرَك واستعلان شخص المخلِّص والفادي «وأنا لم أكن أعرفه ... ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو ...».
لأنه إن كنا حقًّا نعيش الغطاس ونعيِّد للغطاس، أي نعيِّد للظهور الإلهي، أي ظهور الابن بالآب والروح القدس معاً، ونعيِّد ليوحنا الرائي والشاهد والمعمِّد، فيتحتَّم أن يكون عندنا يقين هذا الاستعلان، أي المعرفة بابن الله، المعرفة القائمة على يقين الرؤيا والشهادة، أي بالروح القدس والآب! أو كما يقول إشعياء النبي: «عيناً لعين»!! واصفاً ذلك اليوم يوم استعلان المسيح للإنسان إن على الأردن (الغطاس) أو في جرن المعمودية (الإيمان بالمسيح)، هكذا: «صوت مراقبيك، يرفعون صوتهم يترنَّمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون.» (إش 52: 8)
«أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»:
هذه أقوى شهادة سمعتها البشرية من نحو المسيح، لاحظ أن المسيح لم يكن قد بدأ خدمته الجهارية وإجراء آياته ومعجزاته، بل لم يبدأ بعد في الإعلان عن نفسه وعن علاقته بالآب، بل لاحظ أن يوحنا لم يكن يعرف شيئاً عن الصليب والقيامة!
فإن كانت شهادة يوحنا بلغت هذا اليقين، وهو لم يتعرَّف بعد على سر الخلاص بذبيحة الصليب وسر التبرير بالقيامة، فكم ينبغي أن يكون يقين شهادتنا نحن وقد أدركنا هذا كله؟
ولكن ما هو إذن سر عجز شهادتنا وضمور معرفتنا للمسيح؟
أليس واضحاً كل الوضوح من حوادث عيد الغطاس، أن ذلك بسبب عدم انتباهنا لدور الروح القدس في فتح الذهن لكشف أسرار الله أمام المعرفة لإدراك حقيقة المسيح لبلوغ يقين الشهادة؟
ولكن لا يزال إنجيل عيد الغطاس يحتجز سرًّا هاماً وخطيراً في هذا الأمر. فالله اشترط على يوحنا المعمدان أن المسيح سيظل مجهولاً عنده، إلى أن يرى الروح نازلاً ومستقرًّا عليه!! هنا دور الروح القدس ليس مجرَّد علامة تشير إلى المسيح؛ بل هو وسيط معرفة، وسيط انفتاح ذهن. الروح القدس أعطى ذهن يوحنا المعمدان قدرة رؤيوية عالية جدًّا، أعلى من درجة النبوَّة التي عاش بها في البراري. لقد سمع المعمدان مراراً كثيرة صوت الله في قلبه من جهة حياته ورسالته التي جاء ليتممها أمام وجه الرب «الذي أرسلني لأعمِّد بالماء، ذاك قال لي». ولكن لم تنفتح عينا ذهنه لمعرفة مَنْ هو المسيح - مع أنه قريبه بالجسد - إلا بنزول الروح القدس!
يقين الرؤيا:
إن رؤية الأشياء والأشخاص والتعرُّف عليهم عن قرب، يؤدِّي إلى يقينية عقلية، فالعين والأذن مع بقية الحواس توصِّلان إلى المخ صورة متكاملة عن الشيء أو عن الشخص يفهمها العقل، ويختزنها، ويحولها إلى معرفة وإدراك بيقين عقلي هو أشد ما يملكه الإنسان من مفهوم اليقينية!
ولكن هناك يقينية أخرى موهوبة للإنسان أعمق جدًّا، وهي أعظم تأثيراً وأكثر شمولاً لمواهب الإنسان وكيانه، ينفتح عليها الإنسان كموهبة إلهامية باطنية في القلب، يدرك بها كل شيء وكل الناس وكل الخليقة، فوق إدراكات العقل والحواس وأعمق بما لا يُقاس، يدرك ما فيها وما لها من حقيقة ومدى ارتباطها السرِّي بالله وبنفسه وكل الكون المنظور وغير المنظور.
هذه الموهبة الفائقة على العقل والحواس هي عطية من الله مغروسة في صميم طبيعة الإنسان، وقد يحوزها الحكماء والفلاسفة حتى غير المتدينين وغير المؤمنين بالمسيح.
هذه الموهبة أُعطي أن يوجهها الروح القدس ويستخدمها في كشف أسرار الله نفسه والتعرف عليه!! «الروح يفحص كل شيء (في قلب الإنسان ووعيه الروحي) حتى أعماق الله!!» (1كو 2: 10)
فإذا حل الروح القدس في إنسان أو انسكب في ذهنه وأناره، كما استنير ذهن يوحنا المعمدان، يعمل في الحال بهذه الموهبة الفائقة التي في طبيعة الإنسان، فينفتح الذهن على أسرار الله، وبالتالي على المسيح بصفته الوسيط الوحيد بين الله والناس، والحامل همَّ البشرية والضامن خلاصها وتجديدها ورفعها إلى حضن الآب.
وما قاله يوحنا المعمدان بعد هذه الرؤيا مباشرة عن المسيح مشيراً إليه: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وكأنه يرى مستقبل الخلاص كله والصليب والذبح والموت والقيامة في ومضة خاطفة؛ هذا يوضِّح مدى انفتاح الذهن ساعة حلول الروح القدس، ومدى قدرة الروح القدس في الانطلاق ببصيرة الإنسان لرؤية فائقة شاملة لكل سر الله لمستقبل خلاصنا!! هذه هي يقينية الرؤيا في حضرة الروح القدس وبتوسُّطه، التي لا يقف عند حد حتى أعماق الله، لا يحجزها حاجز لا من الزمان ولا من عجز الإنسان!
وبهذا تكون خبرة البشرية بيقينية الرؤيا الممتدة في الله. وكل مستقبل الخلاص، والتي نالتها في يوم عماد المسيح حيث انفتحت البصيرة الإنسانية - ممثَّلة في يوحنا المعمدان - ساعة حلول الروح القدس على المسيح وقت العماد لتكشف أعماق سر الخلاص المكتوم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وتتقابل وجهاً لوجه، بل «عيناً لعين» - كما يقول إشعياء - مع الله الآتي إلينا في المسيح وتشهد له في جرأة: «هذا هو ابن الله»؛ هذه الخبرة التي نالتها البشرية وهي على عتبة العهد الجديد تُعتبر من أثمن ذخائر الكنيسة التي نالتها بحلول الروح القدس على المسيح، فأعطت سر العماد أهميته الفائقة كباب حي فعَّال دخلت منه البشرية في سر الله، حيث رأت خلاصها رؤيا اليقين والشهادة حتى وقبل أن يبدأ أو يتم!
ومن هنا صار عيد الغطاس يحمل لنا أول حركة حيَّة من الروح القدس في صميم جسم الكنيسة، أول رعشة أصابت العظام الميتة أصابت يوحنا المعمدان، فانتقلت كخبرة للكنيسة كلها ولا تزال، حيث انتقلت في الحال من يقينية الرؤيا إلى يقينية الحركة، لأن كل رؤية يقينية بالروح القدس هي معرفة الحق، وأما كل شهادة يقينية فهي حركة بالحق! والاثنان فعلان صميميان من أفعال الروح القدس! «الروح القدس يرشدكم إلى جميع الحق»، «الروح القدس يشهد لي.» (يو 15: 26)
أي أن استعلان المسيح العام يتم بالمعمودية، بالاعتراف بالخطايا والتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل لذلك جئت أُعمِّد بالماء».
أما استعلان المسيح الخاص، أي معرفته معرفة شخصية، فهذا يتم بالروح القدس.
يوحنا لم يعتمد بالروح القدس، ولكنه أخذ من رؤية الروح القدس وهو نازل مستقراً على المسيح، نال تعميداً ذهنيًّا تعرَّف به في الحال على الرب. ومع الرؤية الذهنية كانت الرؤية السمعية، لقد انفتحت أذن يوحنا لسماع صوت الله نفسه يشهد لابنه مُعلناً ليوحنا أعظم سر أدركته البشرية، سر علاقة الآب بالابن وعلاقة الحب بينهما، العلاقة التي كانت مخفية عن إدراك كل بني الإنسان واستُعلِنت أول ما استُعلِنت ليوحنا، لبدء الكرازة.
+ «وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقَّت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السموات أنتَ ابني الحبيب الذي به سررت.» (مر 1: 10 و11)
هنا يكشف الإنجيل عن كيف تعرَّف المعمدان ليس فقط على المسيَّا، بل على مَنْ هو المسيَّا: أنت ابني الحبيب!! لذلك يعلن يوحنا المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1: 34)
إعلان يوحنا هذا الذي سلّمه للبشرية بالإنجيل نقله إلينا كشهادة عيان وسلَّمه لنا كمن رأى وسمع، رأى الروح رؤيا العين، وسمع صوت الله سماع الأذن بيقين روحي أعمق ألف مرة من اليقين الحسي، لهذا شهد، وشهد بيقين الرؤيا: «وأنا قد رأيت وشهدت».
هذا هو عيد أول رؤيا للروح القدس!
وهو عيد أول شهادة إنسان للمسيح تمت بالروح القدس، أنه ابن الله.
والروح القدس بنزوله من السماء مهَّد في الحال في قلب يوحنا لسماع صوت الآب بوضوح.
شهادة المعمدان للمسيح تمَّت بالروح القدس والآب.
عيد الغطاس هو في حقيقته عيد الشهادة للمسيح، بالنسبة للكنيسة وبالنسبة لكل نفس تسعى لإدراك المسيح «أنا لم أكن أعرفه».
«أنا لم أكن أعرفه»:
هذا هو حال يوحنا المعمدان الذي دُعي نبيًّا للعلي من بطن أمه، وتعيَّن أن يتقدَّم أمام وجه الرب ليُعدَّ طرقه بل ويعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا. بينما ظل هو في أشد الشوق لمعرفته، وهذا في الحقيقة هو حالنا نحن، دعينا للخلاص والكرازة بالخلاص بل والشهادة للمسيح ابن الله، ولا نزال في أشد الحاجة إلى معرفته. وإن كنا نشهد فشهادتنا بالكلمة ينقصها يقين المعرفة: «وأنا رأيت وشهدت»!! وكأنما نعيش قبل عيد الغطاس!
يقين الشهادة:
كانت شهوة المعمدان أن يتعرَّف على المسيح، ولكن بمجرَّد حصوله على ”معرفة المسيح“ انطلق يشهد له في الحال أمام الكهنة واللاويين «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»، «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدَّامي ... الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه ... الذي يعمد بالروح القدس.» (يو 1: 30 و27 و33)
هنا يوحنا يلغي نفسه تماماً، فالذي يحل سيور الحذاء في البيت اليهودي هو العبد المشتَرَى!! ثم إن كان المسيح الذي ينادي به هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فيوحنا بهذه الشهادة يصفِّي عمله ورسالته، بل وينهي على كل خدمته، وهو يؤكِّد ذلك بنفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 3: 30)
هذا إن كانت المعرفة من الروح القدس حقًّا، لأن عمل الروح الأساسي هو الشهادة للمسيح . لذلك فإن معرفة المسيح إن كانت بالروح القدس فهي طاقة حركة لا يمكن أن تنحبس، بل لابد أن تُستعلن كالنور وتنتقل من إنسان لإنسان: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.» (مر 16: 15)
شخص المسيح، عن قرب، جذاب للغاية، معرفته تأسر القلب، وتسبي الروح، وبحلول الروح القدس تصبح حضرة المسيح مالئة لكل كيان الإنسان؛ لأن الروح يأخذ ما للمسيح ويعطينا، فلا يعود الإنسان يشعر بحاجة إلى ذاته أو أن يكون له كيان منفصل أو عمل أو وجود أو أمل ذاتي: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص». هنا تفريغ وملء. معرفة المسيح تفرِّغنا من ذواتنا وتملأنا بالمسيح نفسه بالحق، بالحياة، بالقيامة، بالسلام الفائق للعقل. هذا يضطلع به الروح القدس حتى يمتلئ الإنسان بكل ملء الله، كما يقول الكتاب (أف 3: 19). وفي موضع آخر يقول: «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «وأنتم مملوؤون فيه.» (كو 3: 20)
هذا التفريغ من الذات والملء بالمسيح هو الذي يُـخرج الإنسان عن كيانه وعن مكانه، فيطلقه ليبشِّر بلا حدود وبلا قيود، حتى إلى الموت يبشِّر ويشهد بما رأى «وأنا رأيت وشهدت».
يستحيل على إنسان تعرَّف على المسيح حقًّا وذاق ونظر طيب الرب، أن يسكت أو أن يستطيع أحد أن يكتم صوته. المسيح عبَّر عنها أنها «مناداة من على السطوح» (مت 10: 27)، والمعمدان عرف ذلك وكان يمارسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (مر 1: 3)! لأن التعبير عن مقدار الأثر والتعلُّق الذي يتغلغل كيان الإنسان الذي انفتح ذهنه بالروح القدس على المسيح، لا يمكن أن تشرحه كلمات بسهولة. الكلام مهما كان بليغاً ورصيناً يظل عاجزاً عن تصوير عذوبة ومحبة وعمق شخص ابن الله.
تأثير السيرة على الشهادة:
ولكن الشهادة للمسيح تبلغ حد يقينيتها الأعلى، عندما تزكيها سيرة الإنسان نفسه. إن شهادة المسيح ليوحنا المعمدان توضِّح سر نجاح المعمدان الفائق الوصف في التعرُّف على المسيح والشهادة له وسط ظلام الأجيال وعمى الرؤساء والحكماء والعلماء: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحرِّكها الريح (ثبات مبادئ يوحنا)؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ إنسان لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك (خشونة حياة يوحنا وتقشُّفه ونسكه في البراري). لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي! (روح وسيرة يوحنا المعمدان فاقت مستوى جميع الآباء والأنبياء) الحق الحق أقول لكم: إنه لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (الوحيد الذي امتلأ بالروح القدس وهو في بطن أُمه!)» (مت 11: 7 - 9 و11)، وهذا رد ضمني على الذين يعترضون على قيمة المعمودية في الطفولة.
والسؤال هنا هو: هل ألغى العهد الجديد عظمة يوحنا وتكريم المسيح له بهذه الشهادة المفرحة جدًّا لنفوسنا؟؟
في الحقيقة ما كتبه الإنجيليون عن يوحنا يمكن تلخيصه في كلمتين: نصرة بالروح، وقوَّة بالروح، وطاعة بلا لوم، وهذه هي العلامة السريَّة لكل ممتلئ بالروح القدس!!
إن حياة يوحنا الداخلية وسيرته طابقت متطلبات الشهادة للمسيح تطابقاً فائق الدقة والوصف، لذلك جاءت شهادته بيقين فائق شهد لها الإنجيل!! «يوحنا شهد له.» (يو 1: 15)
إن الشهادة للمسيح، لكي ترتفع إلى درجة اليقينية كيقينية شهادة المعمدان تحتاج إلى متطلبات عميقة داخلية مقدَّسة يستحيل استيفاؤها إلا بالملء من الروح القدس!!
هذا هو يوحنا المعمدان والمسيح المنحني تحت يده، وهذا هو عيد الغطاس الأول بأعماقه وجذوره الضاربة في أساس الكنيسة وميراثها من جهة الشهادة للمسيح عن رؤيا واستعلان وامتلاء بالروح: «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله».
رؤيتنا وشهادتنا:
والآن نقلة ختامية من الأردن ويوحنا والمسيح المنحني تحت يد المعمدان إلى واقعنا الكنسي والفردي: أين عيد الغطاس منا؟ ما هي رؤيتنا؟ وما هي شهادتنا؟
نحن لا نتكلَّم عن الرؤى والأحلام، لأن الحكم فيها وعليها من أصعب الأمور بسبب عوامل التزييف الذي يقوم به اللاشعور في تصوير المناظر والأحلام حسب هوى الذات المريضة، هذا بالإضافة إلى عدم نفعها لا بالكثير ولا بالقليل من حيث تغيير السلوك. ولكننا نتكلَّم من جهة رؤيا القلب في يقين الوعي والإرادة، أي النظر الروحي الواعي والدائم للتعرُّف على شخص المسيح كمخلِّص وكفادٍ، في تأمل، في صلاة، في مناجاة، في حب لا تشوبه المنافع الشخصية، أو التنافس، أو الحسد والغرور، أو طلب المجد والمديح والظهور.
ثم هل سماؤنا مفتوحة؟ أو بمعنى آخر هل حصولنا على العون الإلهي من الأعالي هو طلبنا الأول والأخير وهو إلحاحنا الذي ننام فيه ونستيقظ به؟ «رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب الذي صنع السماء والأرض.» (مز 120: 1 و2)إن كان هذا رجاؤنا وإلحاحنا وشوقنا وقلقنا، فالروح القدس يسبق ويمهِّد ويُعدُّ القلوب والرؤوس، لأنه لا ينسكب إلا على الرؤوس المنحنية والقلوب التي برَّح بها الحنين، رؤساء ومرؤوسين، فيفك العقول والقلوب من أسر الذات، ويطلق الألسنة من سجن الخطية، يطلقها بالتسبيح والتهليل والشهادة للمسيح بملء الفم والقلب وصحو العقل واليقين وقوة لا تعاند، والعلامة دائماً أبداً أن «المساكين يُبشَّرون.» (لو 7: 22)وإن السماء التي انفتحت لعين المعمدان وقلبه، وسماع صوت الآب، ورؤية الروح القدس نازلاً، بنوع من الاستثناء الذي تجاوز كل خبرات الماضي بكل أمجادها، قد صار هذا لنا حقًّا مشروعاً وميراثاً دائماً، ضمنه المسيح بوعد ثابت لا يمكن الرجوع فيه: «من الآن ترون السماء مفتوحة» (يو 1: 51) وهذا هو تحقيقها: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله» (أع 7: 56). ولماذا كان لنا نحن أيضاً هذا الوعد الذي تحقَّق لإستفانوس الشهيد بالعيان، ولماذا هذا الامتياز الفائق بهذه الرؤيا الدائمة: «من الآن»، إلا لكي نرى ما رأى يوحنا فتدخل شهادتنا منطقة اليقين!
«أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»!
المزيد
15 يناير 2021
في الظهور الإلهي
في الظهور الإلهي
بقي عيد الميلاد مقترناً بعيد الظهور الإلهي، في الكنيسة الأولى، حتّى القرن الرابع. وبعد أن صارت المسيحيّة ديانة رسميّة، في الإمبراطوريّة الرومانيّة، ومن ثمّ ديانة الدولة، جعلت الكنيسة لميلاد الربّ بالجسد عيداً خاصّاً، وفصلته عن عيد الظهور الإلهي، وحدّدته في يوم عيد الشمس، الذي كان عيداً وثنياً شعبياً، ترافقه احتفالات لا تليق بالمسيحيّين. عمّدت الكنيسة العيد الوثني، ونقلت مركزه، من الشمس المنظورة، إلى المسيح “شمس العدل”، كما تسمّيه ترتيلة عيد الميلاد. في الكنائس الشرقية يتركّز الاهتمام، لاهوتيّاً، على عيد الظهور الإلهي، أكثر منه على الميلاد. وأهميّة عيد الظهور اللاهوتيّة تجعله في المرتبة الثالثة، بعد الفصح والعنصرة.يُدعى عيد الظهور الإلهي، شعبيّاً، بعيد الغطاس. وفعل “غطّس” موازٍ، في المعنى، لفعل “عمّد”، في اللغة اليونانيّة. من هنا، يكون معنى لفظة “المعموديّة” الحرفي، في اللغة اليونانيّة، “تغطيس”. ولذلك اعتاد شعبنا على اعتبار هذا العيد، عيداً لكلّ من كان اسمه “غطّاس”. وجرى التقليد، في البلدان الأرثوذكسيّة، أن يخرج الكاهن مع الشعب المؤمن، بعد القدّاس الإلهي، صبيحة العيد، إلى بحيرة، أو شاطىء البحر، أو نهر، حيث يلقي صليباً معدنيّاً؛ فيتسابق الشباب في الغطس، من أجل العثور عليه، وإعادته إلى الكاهن. هذه العادة ما تزال حيّة حتّى اليوم.غير أنّ الاسم الرسمي هو الظهور الإلهي، لأنّ أقانيم الثالوث القدّوس انكشفت للبشر، بوضوح، للمرّة الأولى، في أثناء معموديّة المسيح. فسُمع صوت الآب، قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب، الذي به سُررت”، والابن كان حاضراً يعتمد، والروح القدس ظهر على شكل حمامة، نزلت عليه. توضح ترتيلة العيد المعروفة “باعتمادك يا رب…” هذا الأمر بجلاء. أمّا ترتيلة التهيئة للعيد، فتتكلّم عن ظهور المسيح وسببه، فتقول: “المسيح ظهر مُريداً أن يجدّد الخليقة كلّها”.كذلك، دُعي، في التقليد اليوناني القديم، بعيد “الأنوار”، لأنّ المعموديّة، بحسب الإيمان المسيحي، استنارة بنور الله. يسمّي تقليدنا الليتورجي الذين يتهيؤون لاقتبال المعموديّة ب “المستعدين للاستنارة”. ونصلي من أجل أن “ينيرهم الربّ بنور المعرفة وحُسن العبادة”. وقد جمع قنداق العيد الاسمين معاً: “اليوم ظهرتَ للمسكونة يا ربّ، ونوركَ قد ارتسم علينا”.هيّأ القدّيس يوحنّا المعمدان الطريق للمعموديّة المسيحيّة. وكانت دعوته إلى التوبة هكذا: “هيّئوا طريق الربّ، اجعلوا سُبُلَه قويمةً”(مر1/3). لقد كانت معموديّته إعلاناً للتوبة، ودعوةً لترك حياة الخطيئة، بينما المعموديّة المسيحيّة هي لغفران الخطايا، واكتساب نعمة البنوّة الإلهيّة. أمّا السيّد فقد قبل، وهو البريء من الخطيئة، إتمام معموديّة يوحنّا اتضاعاً، “لكي يتمّم كلّ برّ”(مت3/15)، ويقدّم نفسه نموذجاً، للذين أتى من أجل خلاصهم.يقول إنجيل متّى أنّ “السماء انشقّت” للحال بعد معموديّة يسوع. إنّها المرّة الأولى، التي يرد فيها هذا التعبير. فقد أُغلقت السماء في وجه الإنسان، بعد سقوط آدم وحواء منه، وها هي تنفتح، ثانية، بمجيء المسيح، الذي سيعيد للإنسان المجد الإلهي، الذي خسره، عندما رفض العيش في كنف الله ورعايته. كذلك، عند انشقاق السماء، سُمع صوت الآب، ونزل الروح القدس. يُظهر الله سرّه الثالوثي للبشر بوضوح. لأنّه، منذ تلك اللحظة، لم يعد يكتفي بدعوتهم إلى معرفته، وإنّما سيمنحهم، بالمسيح، الخلاص المنشود، ويفتح الطريق لهم ثانية. ما عادت السماء بعيدة؛ صار الله بيننا.هذا العيد مناسبة لكي يسائل المؤمن نفسه، حول تفعيل نعمة المعموديّة، على مستواه الشخصي. فيوم معموديّتنا هو يوم ميلادنا الحقيقي، كوننا اكتسبنا فيه البنوّة لله، ولبسنا المسيح، كما تقول الترتيلة الشهيرة: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم”. فبعد المعموديّة، يصير المعتمد شبيهاً بالمسيح؛ وعليه تالياً أن يحفظ هذه النعمة، ويحافظ عليه، لا بل أن ينمّيها وينمو فيها، حتّى يصل إلى قامة ملء المسيح.يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: “كما أنّ الطفل يأخذ من والديه إمكانيّة أن يصير رجلاً، ويرث الأملاك الوالديّة، عند بلوغه السن المناسب، لكنّه يخسرها إذا مات في أثناء ذلك، فإنّ المسيحي يحصل، بالمعموديّة، على القدرة لكي يصير ابناً لله، ووارثاً للخيرات الأبديّة، إن لم يمت في أثناء حياته الموت العقلي، الذي هو الخطيئة”. الخطيئة تجعلنا نخسر النِعَم التي حصلنا عليها بالمعموديّة. هذا التعليم مدعاة للتأمّل بعظمة سرّ المعموديّة، وأهميته للمسيحيّين. يدعونا هذا العيد، إلى مراجعة أنفسنا ومسلكنا، بخصوص أمرين:-
الأوّل هو المحافظة على نِعَم المعموديّة، وتنميتها فينا، لئلا نخسرها. إنّه مناسبة للعودة إلى معنى المعموديّة، وشحذ الهمّة، لحفظها فينا، وعيشها بملئها.
أمّا الثاني، فهو تقويم ممارستنا لإتمام سرّ المعموديّة. وأوّل هذا التقويم الكفّ عن اختيار العرّاب أو العرّابة، بسبب صلة القرابة، أو الصداقة، أو الرغبة في “تبييض الوجه”. يجب أن نختار الشخص التقي المؤمن، الذي سيأخذ مسؤوليّته هذه على محمل الجد، ويكون أباً روحيّاً (أو أمّاً روحيّة) حقّاً. تقويم إتمام السرّ، يعني إخراجه من الفولكلور السائد في طريقة تعاطينا معه، واعتباره عملاً في غاية الجديّة والأهميّة. فنتهيء له بالصلاة والصوم، ونتمّمه بروح التقوى والتخشّع، ولا نعتبره مناسبة اجتماعيّة، ولا نؤخره لأسباب اجتماعيّة أو شخصيّة. إنّه حدث ولا أهمّ، يأخذ فيه ابننا أو ابنتنا أهمّ ما يمكن للإنسان الحصول عليه، ألا وهو نعمة أن يلبس المسيح ويصير ابناً أو ابنة لله.
تبقى قضية مباركة بيوتنا وتكريسها لله، بعد قداس العيد. إنّها تقليد شريف أصيل عند المسيحيّين. فالماء المقدّس سبيلٌ لاستجلاب البركة الإلهيّة للبيت، ولا يجب أن نخسرها. يتعرّض هذا التقليد الأصيل، اليوم، لعوائق كثيرة، خاصّة في المدن، بسبب توسّعها، وظروف المعيشة فيها، وعمل الزوجين. ممّا يحتّم على المؤمنين والكهنة معاً، السعي الجدّي لإيجاد الطريقة الفضلى، التي تؤمّن تحقيقه. كأن يبادر المؤمنون إلى الاتصال بالكاهن، من أجل تحديد الوقت المناسب لكليهما، لإتمام تبريك البيت، وأن يحثّ الكاهن المؤمنين، على إتمام هذا الأمر، بملاحقتهم والتواصل الدؤوب معهم.لا نجعلنّ هذه الأعياد تمرّ دون الاستفادة منها روحيّاً. إنّها لأجلنا وُضعت.
المطران سابا (إسبر)
المزيد
14 يناير 2021
عيد ختان المسيح
في اليوم الثامن بعد ميلاده، خُتِن المسيح بحسب ناموس العهد القديم اليهودي. فلأنّه وُلِد وعاش في بيئة معيّنة، قد حفظ كل قوانينها وعاداتها. ومع ذلك يجب تفسير ختانه ضمن لاهوت إفراغ الذات (Kenosis) الذي ارتضى به لخلاص الجنس البشري.بما أنّ الآباء قرّروا التعييد لميلاد المسيح في الخامس والعشرين من كانون الأوّل، فطبيعي أن يُعيَّد للختان، الذي تمّ بعد ثمانية أيام، في الأوّل من كانون الثاني، أي بعد ثمانية أيام من الميلاد. لهذا تظهِر طروبارية هذا اليوم أهمية الختان اللاهوتية: “… إنّك وأنتَ إله بحسب الجوهر قد اتّخَذتَ صورةً بشرية بغير استحالة، وإذا أتممتَ الشريعة تقبّلت باختيارك ختانة جسدية…” فكما أنّه بسبب محبته وتحننه قبل أن يلّف بأقمطة، كذلك قبل المسيح الختان بالجسد. تنظر الكنيسة إلى تذكار هذا التنازل العظيم وإفراغ الذات من قِبَل المسيح كعيد كبير من أعياد السيّد.الختان هو قطع جزء “من طرف العضو الذكري”. هذا يجري لكلّ مولود صبي بحسب وصية الله المُعطاة لإبراهيم في البداية. يرد النص التالي في العهد القديم: “وهذا هوَ عهدي الذي تحفظونَه بَيني وبَينكُم وبَينَ نسلِكَ مِنْ بَعدِكَ: أنْ يُختَنَ كُلُّ ذَكَرٍ مِنكُم. فتَختِنونَ الغُلْفةَ مِنْ أبدانِكُم، ويكونُ ذلِكَ علامةَ عَهدٍ بَيني وبَينَكُم. كُلُّ ذَكَرٍ مِنكُم اَبنُ ثمانيةِ أيّامِ تَختِنونَه مدَى أجيالِكُم، ومِنهُمُ المَولودونَ في بُيوتِكُم أوِ المُقتَنونَ بِمالٍ وهُم غُرَباءُ عَنْ نسلِكُم” (تكوين 10:17-12). الوصية نفسها تكرّرت لموسى: “وفي اليومِ الثَّامنِ يُختَنُ المولودُ” (تثنية 3:12). وفي محادثته مع اليهود، ذكّرهم المسيح بأنّ الختان أُعطي بموسى لكنّه كان موجوداً من قبله: “أمَركُم موسى بالخِتانِ، وما كانَ الخِتانُ مِنْ موسى بل مِنَ الآباءِ، فأخَذتُم تَختُنونَ الإنسانَ يومَ السَّبتِ” (يوحنا 22:7).لقد ارتبط الختان بالصلاح والتقوى وإطاعة الناموس، وهو يُشير إلى الإسرائيلي الطاهر، بينما أُشير إلى الإنسان غير الطاهر غير التقي بأنّه غير مختتن. إذاً الخِتان وعدمه هما مفهومان وممارستان متناقضتان، تشير الأولى إلى اليهود والثانية إلى الأمم الوثنيين.إن طقس الختان كان جرحاً مؤلِماً وخاصةً بالطريقة التي كان يجري فيها في تلك الأيام. الوسائل المُستَعمَلة كانت سكيناً وموسى وحجراً حادّاً. استعمال سيفورة لحجر حاد لختان ابنها كما يرد في خروج (25:4) “فأخذَت صَفُّورَةُ اَمرأتُه صَوَّانَةً فختَنَتِ اَبنَها ومسَّت بِها رِجلَي موسى وقالت: «أنتَ الآنَ عريسُ دَمِ لي»” هي حادثة مميزة. معروف أيضاً أنّ يشوع “فصنَعَ يَشوعُ سكاكينَ مِنْ صَوَّانٍ وختَنَ بَني إِسرائيلَ عِندَ جبعَةَ هاعَرلوتَ” (يشوع 3:5).إنّه لجلي بأنّ الختان كان عملاً مؤلِماً يسبب النزف. وإذا فكّرنا بأنه كان يُجرى لمولود جديد يمكننا أن نفهم ألَمَه وأيضاً ألَم أهله الذين أتمّوا الختان ورأوا تمزيق طفلهم.في أي حال، لقد كان للختان محتوى لاهوتي عميق ومعنى جوهري ولم يكن يتمّ لمجرّد التطهير. وبهذا المعنى هو يختلف عن الختان عند الشعوب الأخرى كالمصريين والمسلمين وغيرهم. بعضهم، كالمسلمين، أخذ الختان من العهد القديم وناموس موسى ولكن أعطي له محتوى آخر. يقول القديس أبيفانيوس القبرصي أن الشعوب الأخرى عرفت الختان، كالوثنيين وكهنة المصريين والعرب والإسماعيليين والسامريين واليهود والحميريين، لكنّ أغلبهم لم يختتنوا لناموس الله بل لعادات “غير عاقلة”.كلمة الله لإبراهيم التي بها تأسّس الختان أيضاً تُظهِر السبب الأساسي. قال الله: “وهذا هوَ عهدي الذي تحفظونَه بَيني وبَينكُم وبَينَ نسلِكَ مِنْ بَعدِكَ: أنْ يُختَنَ كُلُّ ذَكَرٍ مِنكُم” (تكوين 11:17). بكلمات أخرى، إنّه اتفاق بين الله وشعبه الخاص، إنه عهد. هذا الاتفاق يجب أن يُثَبَّت بالدم. نحن نرى هذا أيضاً في العهد الجديد حيث يُثبَّت اتفاق الله مع البشر بدم المسيح.الختان كان علامة للتعرّف على أنّ حامله ينتمي إلى شعب الله. بحسب المفسّرين، الختان بحدّ ذاته لم يكن عهداً بل علامة على العهد والاتّفاق. هذه الممارسة خدمت أيضاً لتذكِّر الإسرائيليين بأنّ عليهم أن يثابروا في تقوى أسلافهم فلا يأتوا إلى احتكاك غزلي مع الوثنيين والشعوب الأخرى. بهذه الطريقة تلافوا الزيجات المشتركة وبالطبع تلافوا نتائجها أي التغرّب عن الإيمان المعلَن. يخبرنا القديس أبيفانيوس أنّ الختان اشتغل كَخَتْم على أجسادهم، مذكِّراً لهم وضابطاً إياهم ليبقوا “على إيمان آبائهم”. إذاً الإسرائيليون بعد ختانهم عليهم أن يبقوا في أمّتهم وعلى الإيمان بالإله الحقيقي. إلى هذا، الختان كان إشارة مبكرة إلى المعمودية التي سوف تُمنَح في الوقت المناسب من خلال تجسّد ابن الله وكلمته، إذ في الحقيقة المعمودية هي ختان القلب كما سوف نرى لاحقاً.المسيح أيضاً حفظ هذه الممارسة المؤلِمة، مباشرةً بعد ميلاده. يتطرّق الإنجيل بحسب لوقا إلى طقس الختان بكلمات قليلة فيقول: “وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيُخْتَنَ الطِّفْلُ، سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا كَانَ قَدْ سُمِّيَ بِلِسَانِ الْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ يُحْبَلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ” (لوقا 21:2). من هذا التقديم الضئيل لطقس الختان في حياة المسيح، نرى أنّه مرتبط بشدة بإعطاء الإسم، لأن آنذاك أُعطي له اسم يسوع الذي تفسيره المخلّص. ما يقوله القديس ثيوفيلكتوس مميَّز، بأن هذا الجزء الذي قُطِع بختان المسيح، حفظه هو سالماً واتّخذه مجدداً من بعد قيامته. إلى هذا، ما جرى للمسيح يظهِر أيضاً الطريقة التي بها سوف يتمّ في أجسادنا. إنّ تعليم آباء الكنيسة هو بأنّ أعضاء الجسم البشري التي تأذّت بطرق مختلفة سوف يعيد الله ربطها بالجسم وتغيير شكلها حتّى يدخل الإنسان ملكوتَ الله كاملاً مركباً من النفس والجسد. على الأكيد، في هذه الحالة سوف يكون الجسد روحياً لا لحمياً كما هو اليوم.إن طقس الختان الذي جرى في اليوم الثامن مرتبط أيضاً بإعطاء الاسم، وقد ضُمَّ إليه في الفترة المسيحية احتفال “ختم الولد متّخذاً اسماً في اليوم الثامن من بعد ميلاده”. إنّ محور الاحتفال هو صلاة رائعة يقرؤها الكاهن على الولد عند أبواب الكنيسة. القابلة أو أحد الأقارب، وليس الأم التي سوف تأتي إلى الكنيسة في اليوم الأربعين، يحمل الولد ويُقدَّمه.في أي حال، أنّ المسيح، بعد أن صار إنساناً، اختبر ألماً عظيماً خلال طقس الختان، هو حقيقة تُظهِر الاعتبار المفرِط الذي يكنّه الله للجنس البشري.بعد أن رأينا المعنى اللاهوتي الذي اشترعه الله للختان في العهد القديم، وأن المسيح أيضاً خُتِن
علينا أن نشير إلى أسباب ختانة المسيح.
بالدرجة الأولى، بإتمامه الختان أظهر المسيح أنّه هو بنفسه كان معطي الناموس في العهد القديم، وبالتالي ينبغي احترامه. لم يأتِ المسيح ليبطِل الناموس بل ليحفظه وبالواقع ليرفعه. هذا يعني، المسيح رفع الناموس من دون أن ينتهكه. بهذه الطريقة أظهر أنّه علينا نحن أيضاً أن نحفظ ناموس الله الذي يهدف إلى الخلاص. إذاً، الختان كما أكّدنا، يظهر أيضاً محتوى إفراغ الذات. على الأكيد، يكمن إفراغ الذات، عند ابن الله وكلمته، في التجسّد، أي في حقيقة أنّ الإله غير المخلوق اتّخذ طبيعة بشرية مخلوقة. لكنّ هذا الإفراغ وهذا التنازل الهائل يظهران أيضاً في الختان لأنّه قبِل هذه التجربة الصعبة بأكملها.علاوة على ذلك، قبِل المسيح الختان لكي يظهِر أنّه اتّخذ طبيعة بشرية حقيقية. هذا مهمّ جداً، إذ في كنيسة القرون الأولى ظهرت هرطقة الدوسيتيين التي قالت بأنّ المسيح لم يتّخّذ الطبيعة البشرية الحقيقية وجسداً بشرياً حقيقياً، بل أنّ جسده كان جسداً ظاهرياً خيالياً. هذا قاد إلى الاستنتاج بأنّ المسيح لم يُصلَب على الصليب إذ لم يكن له جسم حقيقي. لكنّ هذه النظرة لا تخلّص الإنسان. كيف يخلُص الإنسان إن لم يتّخذ الربّ الطبيعة البشرية؟ لهذا، كما يقول القديس أبيفانيوس، المسيح خُتِن لكي يظهر أنّه “بالحقيقة اتّخذ جسداً”. هذا القول مرتبط أيضاً بحقيقة أن ختان المسيح اثبت أن الجسد الذي اتّخذه لم يشترك في نفس جوهر الألوهة. في المسيح اتّحد غير المخلوق بالمخلوق. الجسد، بما أنّه تألّه بألوهة الكلمة، صار إلهاً على نحو متطابق، لكنّه ليس من جوهر الله. هذا يعني أنّ المسيح هو أيضاً مصدر نعمة الله غير المخلوقة، لكنّه ليس من نفس جوهر الألوهة. خُتِن المسيح ليعلّم الناس أنّ الختان، الذي أعطاه هو لليهود، خدم البشرية وهيأ الأرضيّة التي هيّأها لحضوره. لم يكن الطقس عقيماً. بالختان بقي اليهود مخلصين لناموس الله وانتظروا المسيح.
وأخيراً، لم يظهر فقط أن الختان كان يهيء الجنس البشري لحضور المسيح، بل ايضاً هو مثال، تصوير مسبُق للختان الذي لم تقم به أيادٍ بشرية، أي المعمودية المقدّسة. بحسب القديس يوحنا الدمشقي، الختان كان صورة للمعمودية. وتماماً كما أن الختان يقطع من الجسد جزء لا نفع فيه، كذلك في المعمودية المقدسة نحن نعزل الخطيئة التي ليست حالة طبيعية بل براز. عندما نتحدّث عن الخطيئة التي نعزلها، نحن نعني الشهوة، وبالطبع ليس الشهوة النافعة الضرورية بل الرغبة التي لا نفع فيها واللذة. المعمودية هي ختان لا يتمّ بالأيدي البشرية، ولا هو يعزل المرء من أمّته، بل هو يفصل بين المؤمن وغير المؤمن الذي يعيش في الأمّة نفسها.
بعد العنصرة، انشغلت الكنيسة كثيراً بسؤال ما إذا كان ينبغي ختان المهتدين إلى الإيمان المسيحي. أرضية هذا السؤال كانت أنه ينبغي بالوثنيين الآتين إلى الإيمان المسيحي أن يحفظوا ناموس العهد القديم بما فيه الختان، بما أنّ العهد القديم سبق الجديد. للتعامل مع هذا الموضوع، انعقد المجمع المسكوني الأول المسمّى الرسولي، وقرّر في هذا الأمر كما هو مدوّن في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل. نشأت المشكلة عندما كان المسيحيون اليهود “يُعَلِّمونَ الإخوةَ، فيَقولونَ: «لا خَلاصَ لكُم إلاَّ إذا اَختَتَنتُم على شريعةِ موسى” (أعمال 1:15). بالواقع، لقد كان هناك نزاع والكثير من المناقشات، كما يرد، وبعض الذين أتوا من طائفة الفريسيين أصرّوا على أن يختتن المهتدون ويحفظوا ناموس موسى (أعمال 5:15).
تكلّم في المجمع الرسولي كلٌ من الرسل بطرس وبرنابا وبولس ويعقوب أخو الرب. قرار المجمع كان بأن الذين يأتون إلى الإيمان المسيحي من الأمم يجب ألاّ يختتنوا، بل عليهم أن يحفظوا أنفسهم أنقياء، ممسكين عن تقدمات الأوثان والدم والمخنوق والفجور الجنسي. يقول القرار الذي نُقل لاحقاً برسالة إلى المسيحيين: “فالرُّوحُ القُدُسُ ونَحنُ رأينا أنْ لا نُحَمِّلَكُم مِنَ الأثقالِ إلاَّ ما لا بدَ مِنهُ، وهوَ 29أنْ تَمتَنِعوا عَنْ ذَبائِحِ الأصنامِ، وعَنِ الدَّمِ والحيوانِ المخنوقِ والزِّنى. فإذا صُنتُم أنفُسَكُم مِنها، فحَسَنًا تَفعَلونَ. والله مَعكُم” (أعمال 28:15-29).حجّة هذا القرار كانت أنّه لا غنى عن الختان كونه صورة ومثال للمعمودية المقدّسة ومهيِئ للشعب لحضور المسيح. شروط ناموس العهد القديم التي كانت مرتبطة بالجهاد من أجل طهارة الجسد والنفس من الخطيئة، وخاصةً عندما كان الأمر يتعلّق بحرية الإنسان الشخصية، يجب الحفاظ عليها. أمّا الختان الذي لا علاقة له بالامتناع عن الخطيئة وطهارة النفس، يمكن الإعفاء منه لأنّه استُبدِل كلياً وأُكمِل وتُمِّم بسرّ المعمودية.تولّى الرسول بولس إظهار قرار مجمع الرسل ولاهوته للأمم، في تعليم من ضمن هذا الإطار. علينا أن ننظر إلى بعض النقاط في هذا التعليم حول هذا الموضوع.في مجابهة وضع المسيحيين اليهود الذين طالبوا المسيحيين من الأمم بأن يختتنوا، قال أنّهم يقومون بذلك لكي يمدحهم اليهود الآخرون فلا يُضطَهَدوا من أجل صليب المسيح، أي من أجل إيمانهم بالمسيح المصلوب والقائم من الموت (غلاطية 12:6-13). في أي حال، يوضح الرسول أنّه يفتخر بصليب المسيح الذي به وُجِدَت خليقة جديدة. “فلا الخِتانُ ولا عدَمُهُ يَنفَعُ الإنسانَ، بَلِ الذي يَنفَعُهُ أنْ يكونَ خَليقَةً جَديدَةً” (غلاطية 15:6).إلى جانب هذا، الختان لا قيمة له بحد ذاته، إلاّ إذا ارتبط بالإيمان وحفظ وصايا الله. بقدرة مذهلة على التفسير يشدد الرسول بولس على أنّ هذا الختان عديم النفع لأيٍ كان ما لم يتمّم الناموس. بطريقة مماثلة، الشخص غير المختتن إذا حفظ متطلبات الناموس سوف يُنظَر إليه وكأنه قد اختتن (روما 25:2-26). يشير الرسول أيضاً على الذين يأتون من الختان لكنّهم موسومون بأهواء كثيرة فيقول بشكل مميز “فهُناكَ كثيرٌ مِنَ المُتَمَرِّدينَ الذينَ يَخدَعونَ الناسَ بِالكلامِ الباطِلِ، وخُصوصًا بَينَ الذينَ هُم مِنَ الختان” (تيطس 10:1). فالرسول على عكس الذين يتفاخرون بختانهم يتفاخر بصليب المسيح، وبالحقيقة بعلامات المسيح التي يحملها في جسده: “لأنِّي أحمِلُ في جَسَدي سِماتِ يَسوعَ” (غلاطية 17:6).إن الإصحاح الثاني من غلاطية هو أحد المقاطع الأساسية التي فيها تُحلّل الحقيقة اللاهوتية لنعمة الله بالارتباط بأعمال الناموس، وللختان فيها موقع غالب. سوف نقوم بتحليل أوسع لكي نرى فكر الرسول بولس في موضوع الختان.يقدّم الرسول بولس تحليلاً لاهوتياً للموضوع في إشارته إلى حادثة مع الرسول بطرس الذي أُسيء فهمه لأنّه حاول أن يتصرّف بلباقة ولا يصدم لا المختتنين ولا المهتدين. يقول أولاً أن الله عمل فيه ليحمل البشارة إلى الأمم، والإله نفسه عمل في الرسول بطرس ليحمل البشارة إلى المختتنين. فهو يكتب: “بَل رأَوا أنَّ الله عَهِدَ إليَ في تَبشيرِ غَيرِ اليَهودِ كما عَهِدَ إلى بُطرُسَ في تَبشيرِ اليَهودِ، لأنَّ الذي جعَلَ بُطرُسَ رَسولاً لِليَهودِ، جعَلَني أنا رَسولاً لِغَيرِ اليَهودِ” (غلاطية 7:2-8) وهو يستنتج بعد عرض الحادثة بينه هو والرسول بطرس في أنطاكية: “نَحنُ يَهودٌ بالوِلادَةِ لا مِنَ الأُمَمِ الخاطِئينَ كما يُقالُ لهُم. ولكنَّنا نَعرِفُ أنَّ الله لا يُبرِّرُ الإنسانَ لأنَّهُ يَعمَلُ بأحكامِ الشَّريعَةِ، بَل لأنَّهُ يُؤمِنُ بيَسوعَ المَسيحِ. ولذلِكَ آمَنا بِالمَسيحِ يَسوعَ ليُبرِّرَنا الإيمانُ بِالمَسيحِ، لا العَمَلُ بأحكامِ الشَّريعَةِ. فالإنسانُ لا يتَبَرَّرُ لِعمَلِهِ بأحكامِ الشَّريعَةِ.” (غلاطية 15:2-16)الناموس وأعمال الناموس لا يساهمون في تبرير الإنسان. التبرير في مجمَل فكر الرسول بولس وحياة الكنيسة مرتبط بتجدد الإنسان، استنارة النوس، والتألّه. وهكذا، ليست القضية قضية تبرير بشري عاطفي، بل قضية تألّه. بهذا المعنى يستعمل الرسول عبارة “التبرير” ويظهر معناها مما يتابعه “معَ المَسيحِ صُلِبتُ، فما أنا أحيا بَعدُ، بَل المَسيحُ يَحيا فـيَّ.” (غلاطية 20:2).الناموس وأعمال الناموس، كالختان مثلاً، لا يؤلّهون الإنسان كون التألّه يحصل فقط بالمسيح. إن خلاص الإنسان وتألّهه يتمّان عِبر تجسّد المسيح. إلى هذا، كل الشريعة وأعمال الناموس في العهد القديم أُعطيَت بعد سقوط الإنسان، ليتهيأ البشر لتجسّد كلمة الله. لهذا، الناموس هو إرادة الله اللاحقة وليس الأولى. لا يتمّ التألّه خلال الحفظ الخارجي بناموس الله، بل من خلال الشركة مع شخص، هو شخص المسيح الإله الإنسان. لو كان بإمكان الناموس أن يخلّص لما كان هناك حاجة للتجسّد.نحن نقول هذه الأمور لا لكي نضع الناموس جانباً، ونحن لسنا ضد الناموس، لكن ينبغي التشديد على أنّ الناموس وأعماله، كالختان مثلاً، هيأوا الشعب لتجسّد المسيح، وشكّلوا طبّاً لقلب الإنسان طهّره من أهوائه. إذاً، الناموس يعمل بطريقة مُطَهِّرة. في أي حال، مَن بلغ الاستنارة والتمجيد يحتاج أن يكون عنده إيمان بيسوع المسيح أي شركة مع المسيح الإله الإنسان. بناءً عليه يسأل الرسول بولس: ” هَلْ نِلتُم رُوحَ الله لأنَّكُم تَعْمَلونَ بأحكامِ الشَّريعَةِ، أمْ لأَنَّكُم تُؤمنونَ بالبِشارَةِ؟” (غلاطية 3:2).النقطة إذاً هي أن أعمال الناموس لا تخلِّص ولا تؤلّه لكنّها تهيؤ الإنسان لتقبّل إيمان يسوع المسيح أي أنّه يتّحد مع المسيح ويتقبّله كهدية. وهكذا كلّ مَن تطهّر وحصل على المسيح، كلّ مَن، بنعمة الروح القدس، صار عضواً في جسد المسيح لا حاجة له بالختان. إلى جانب هذا، حصل المسيحيون على الختان غير المصنوع بيد. “وفي المَسيحِ كانَ خِتانُكُم خِتانًا، لا بالأيدي، بَل بِنَزعِ جِسمِ الخَطايا البَشَرِيِّ، وهذا هوَ خِتانُ المَسيحِ. فأنتُم عِندَما تَعَمَّدتُم في المَسيحِ دُفِنتُم معَهُ وقُمتُم معَهُ أيضًا، لأنَّكم آمَنتُم بِقُدرَةِ الله الذي أقامَهُ مِنْ بَينِ الأمواتِ.” وفي مكان آخر يتحدّث الرسول عن ” وإنَّما اليَهوديُّ هوَ اليَهوديُّ في الباطِنِ، والخِتانُ هوَ خِتانُ القَلبِ بالرُّوحِ لا بِحُروفِ الشريعةِ. هذا هوَ الإنسانُ الذي يَنالُ المَديحَ مِنَ الله لا مِنَ البشَرِ” (روما 29:2).يقدّم الآباء القديسون حقائق لاهوتية رائعة في تفسيرهم المقاطع الكتابية حول الختان الروحي الحقيقي، الذي هو المعمودية المسيحية.يعلّم القديس أبيفانيوس أن ختان الجسد حضّر الإنسان وخدمه إلى حين المعمودية، التي هي الختان الأعظم، لأنّ من خلالها نحن نتحرّر من الخطايا ونُختَم باسم الله. الختم مع اسم الله هما معرفة أننا ننتمي للمسيح. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه إذا كان ختان الجسد فصل اليهود عن الأمم هذا بالأغلب الوضع مع المعمودية المقدسة، لأنّ من خلالها يتميّز المؤمنون عن غيرهم. هنا يظهر أن المدعوين معمّدين هم كلّ الذين اعتمدوا وكل الذين أعادوا إضرام نعمة المعمودية.بحسب تعليم القديس كيرللس الإسكندري، ختان العهد القديم لم يبطِل الموت الذي أبطله ختان العهد الجديد. بالواقع، الشخص الذي يدخل الكنيسة بالمعمودية يصبح عضواً في جسد المسيح القائم. بهذا يبطل الموت الروحي وتتأمّن قيامة الأموات، لأنّ الموت الجسدي يبقى بعد المعمودية بقصد قطع الخطيئة.يعلّم القديس يوحنا الدمشقي أن الاختتان هو التخلّي عن اللذة الجسدية وكل الشهوات غير الضرورية العقيمة. هنا نرى أن المعمودية مرتبطة بالحياة النسكية التي بها يتحرّر الإنسان من سلطة الأهواء. ليست القضية قضية قصاص أو انتقاص للجسد، بل قضية تقليل وتحويل لشهوات النفس.في تعليم القديس مكسيموس المعترِف نرى أن الختان هو اسمٌ لقطع العلاقة الانفعالية بين النفس والجسد. فهما بينهما علاقة ووحدة. والمسألة ليست مسألة هذه الوحدة بل مسألة العلاقة الانفعالية التي تتمّ عِبر الأهواء.إن أقوال الآباء تظهِر أن ختان العهد القديم داخلي وروحي، إنّه شركة الإنسان مع الله وجهاد للحفاظ على هذه الشركة. في العهد القديم أعطى الله ناموسه لكي يهيء الشعب لتقبّل المسيح. يقول يوحنا الإنجيلي في مطلع إنجيله “لأنَّ الله بِموسى أعطانا الشريعةَ، وأمَّا بِـيَسوعَ المسيحِ فوَهَبَنا النِّعمَةَ والحقَّ” (17:1). إن الكلمة غير المتجسّد هو الذي أعطى الناموس لموسى لكي يشفي الشعب المتهيء لتقبّل الحق والنعمة اللذين أتيا إلى العالم بتجسّد كلمة الله المسيح. الناموس الموسوي، كما الختان، كان فيهما نعمة لكنها كانت قوة الله المطهِّرة ونعمته، لكنها ليست القوة المنيرة المؤلِّهة.نحن نكتسب ولادة روحية وبنوة حقيقية بالمسيح. يركّز يوحنا الإنجيلي: ” أمَّا الذينَ قَبِلوهُ، المُؤمِنونَ باَسمِهِ، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناءَ الله. وهم الذين ولدوا لا من دم ولا مِنْ رَغبَةِ جسَدٍ ولا مِنْ رَغبَةِ رَجُلٍ، بل مِنَ الله.” (12:1-13).بالختان يصير البشر إسرئيليين، أي شعب الله المختار. بالمعمودية وحياة العائلة بالمسيح يصبح البشر أبناء الله، يبلغون البنوّة بالنعمة ويغلبون الموت.وهكذا، إن ختان المسيح يوحي إلينا بختان القلب. بالحياة الأسرارية والنسكية نصبح اعضاء جسد المسيح ويصبح تنازل المسيح مرتقانا.
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
تعريب الأب أنطوان ملكي
المزيد
13 يناير 2021
سلامٌ لكِ يا بيت لحم
يا للتعطُّفات الأبوية الرحيمة!!
هو خلقنا ولا يزال يحمل مسئولية أنيننا، ويهتمُّ جدّاً بأحوالنا، ولا يطيق أن يرى أولاده تحت ظُلم أو سُخرة أو ضيق، لأنه في كلِّ حال ضيقهم يتضايق جدّاً، ومَنْ يمسُّهم كأنه يمسُّ حَدَقَة عينه.أليس بسبب تعطُّفات الأُبـوَّة الرحيمة التي تملأ طبيعته المجيدة، أرسل لنا ابنه الحبيب ليتجسَّد ويتأنَّس ويصير تحت آلامنا كلها بعينها، فلا يعود الآب يتشارَك معنا في آلامنا تشارُكاً معنوياً فقط، بل تصير المُشاركة مُشاركة فعلية حقيقية في جسد ابنه!!
مَنْ ذا يستطيع بعد ذلك أن ينسى حنان الأُبوَّة التي افتقدنا بها الآب في المسيح أو يتجاهلها؟ أو مَنْ ذا يتضايق إلى حدِّ التذمُّر مهما بلغت شدَّة الضيقة، بعد أن عرفنا بتأكيد أنه يتضايق معنا ومثلنا؟
وإن كانت أنوار بيت لحم في هذه الأيام المُباركة تجذب أبصار قلوبنا بشدَّة للتأمُّل في أمجاد البنوَّة المملوءة حبّاً وسلاماً، فإنَّ أصوات الملائكة لا تزال تلحُّ عليَّ جدّاً أن أتكلَّم مُعطياً المجد لله الآب في الأعالي، مُكرِّماً مشاعر الأُبوَّة المتعطِّفة التي صارت منها هذه المسرَّة والنعمة المُتضاعفة.
ومَنْ ذا يستطيع أن يتقدَّم إلى بيت لحم إن لم يجذبه الآب أولاً؟
أو مَنْ ذا قد صار في الابن ولم يسبق أن اختاره الآب؟
هذا هو عيد البنوَّة حقّاً، وهو عيد الأُبوَّة بالضرورة.فإن امتلأت قلوبنا بمشاعر المسرَّة بالابن، فلنا أيضاً شركة مع الآب في مسرَّته: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت 3: 17)، مُمجِّدين مقاصده الرحيمة لنا التي ادَّخرها لنا في المسيح قبل تأسيس العالم. إنَّ الآب إذ رأى وسمع أنين البشرية كلها أرسل ابنه؛ بل إنَّ الآب الرحيم المحب أَظهر لنا قِدَم محبته لنا، إذ ونحن بعد خطاة وُلِدَ المسيح. والعالم وهو غارق في ظلمة الجحود، أحبه الآب هكذا، وأرسل ابنه ليبذل نفسه فدية لأجل الجميع.أيَّة متعة لنا في مشاعر حنان الأُبوَّة! آه أنا محصور في حب الآب! إني أستشعر حبه جدّاً قديماً قبل بيت لحم هذا الذي به عرفني ابنه، وهذا الذي به أيضاً جذبني إليه. ومحبة الآب لا زالت واضحة المشاعر في أعماقي أرى في نورها نور محبة المسيح، وأفهم على هُداها مجد ذبيحة المسيح وتكميل المقاصد المكتومة في أسرار ما قبل الدهور.وفي الحقِّ أنا محصورٌ بين الاثنين، فمن قلب الآب تقبَّلتُ أعظم وأجلَّ مشاعر محبة الله ملموسة منظورة في الحياة الأبدية وطبيعته الإلهية التي أُظهِرَت لنا في المسيح مُتجسِّداً. ومن قلب المسيح المجروح من أجلي تقبَّلتُ أسمى آيات الحب الباذل لرفع نفسي والصعود بها في طريق النور، طريق مُقدَّس كرَّسه حديثاً بجسده المكسور، ليُوصِّلني أنا بنفسي إلى أعماق قلب الآب.وها أنا كلَّما أنظر المسيح يسوع ربي وأنذهل من فرط حبه واتضاعه وأنفعل في قلبي بحبٍّ لذيذ واضح، لا أملك إلا أن أرفع نظري إلى فوق نحو الآب أبيه وأبي كل أحد، وأرى وأحسُّ بحبه الأبوي، فأنذهل أيضاً من فرط هذا الحب والاتضاع، فيزداد قلبي انفعالاً واضطراباً لذيذاً حتى أكاد أغيب عن وعيي وأستريح من فرط فرحتي التي أثقلت عقلي.كذلك كل مرَّة أتطلَّع فيها إلى الآب وأتقبَّل منه مشاعر الأُبوَّة الرحيمة كما يتقبَّلها ابن عاطل من القوة مستكين في حضن أبيه سيد كل البشر، يمتلئ قلبي شجاعة وينطلق لساني تسبيحاً ومجداً، لا يكمل فرحي ولا تهدأ نفسي حتى أنظر إلى الابن الجالس في حضن أبيه الذي به صار لي مثل هذه الجرأة إلى صدر الله وقدوماً بثقة إلى أُبوَّته الرحيمة ومعرفة بطبيعته المجيدة.فأي تسبيح يا نفسي يمكن أن تُقدِّميه إلى الآب السمائي في ذكرى ميلاد ابنه الحبيب؟ وأي مجد يليق بالأُبوَّة في يوم عيد البنوَّة؟! ولكن مهما مجَّدنا الآب بالمجد اللائق الفائق، فلن نستطيع أن نبلغ شيئاً مما بلغه المسيح في ذلك. فما من عظمة لائقة في موضعها إلاَّ وقدَّمها لأبيه، وما من فرصة مواتية بقولٍ حسن أو عمل مجيد أو آية أو صلاح إلا ونسبهُ للآب! حتى فاق في تمجيده لأبيه كل حدود إمكانيات البشر ولم يستَبْقِ لنفسه منها شيئاً قط مُتمِّماً القول القائل: «لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ» (في 2: 7). ولكن ليس عن تمايُز أو تفاضُل بين الآب ونفسه، حاشا! لأنه هو القائل: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» و«كُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ (للآب)، وَمَا هُوَ لَكَ (للآب) فَهُوَ لِي» (يو 10: 30؛ 17: 10)، بل بكفاءة متساوية وكرامة واحدة متَّحدة.ونحن وإن كُنَّا قد تصوَّرنا أنفسنا في عداوة سابقة، كلَّ واحد منَّا كابن رافض لمحبة أبيه مُتغرِّباً عنه في كورة بعيدة؛ إلاَّ أنَّ الآب الصالح ما فتئ يطلبنا بنداء الحب الصامت ويدعونا إليه ناسياً جهلنا في اشتياقات صلاحه، وبتوسُّط ذبيحة ابنه. وما الصورة التي قدَّمها لنا السيد المسيح في قصة الابن الضال إلاَّ شرحاً لصلاح الأُبوَّة بالأكثر، مُظهراً في نهايتها المُبدعة كيف تُغسل عيوب البنوَّة في حب الآب فتُنسى.ثم يزيد المسيح قُرباً وتلامساً لصلاح أبيه وحنانه ورقَّة مشاعره من نحونا في مُقارنة لطيفة قصيرة غزيرة المشاعر مزدحمة بالأحاسيس بين أبوَّة الإنسان وأبوَّة الله (انظر: مت 7: 7 -11)، مُقرِّراً في تأكيد كم أنَّ هذه الأخيرة أكثر تعرُّفاً على الخير وأكثر سخاءً في تقديمه.ولقد كان شغل المسيح الشاغل أن يُعرِّف الجميع بكل وسيلة ممكنة وغير ممكنة: مَنْ هو الآب! فلم يكُفَّ فمه الطاهر عن نُطق هذه الكلمة العزيزة عنده أعز من كل شيء، فقد رآه واستعلنه واضحاً ظاهراً في كل عمل وقول، مُعلناً بوضوح أنه مـن حضن الآب جاء، وبالآب يعمل الأعمال كلها، ومن الآب يتكلَّم، ومن عنده يشهد، وله وحده يُمجِّد، وفي الآب هو كائن، وإلى الآب يعود؛ حتى إن التلاميذ فات عليهم عُمق اتضاعه وارتبكت معرفتهم عنه هو فسألوه: «أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا» (يو 14: 8).ويا لعِظَم مسرَّة قلوبنا وغِنَى حظنا في الآب بالابن، لأن المسيح لم يكفَّ بعد عن أن يُعرِّفنا الآب حتى الآن: «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ» (يو 17: 26)، وذلك «ليتمجَّد الآب بالابن» كما مجَّد الآب الابن (يو 14: 13؛ 8: 54).والنفس التي ذاقت حقّاً حب المسيح وتنسَّمت رائحة أقنومه الإلهي وتقلَّبت على جمر نار حبه، لابد وأن تذوق حب الآب أيضاً الذي هو أسمى اختبارات البشرية، هذا الذي يُقال عنه في التصوُّف ”التاورية الثالثة“ أي تاورية (= تأمُّل) الثالوث الأقدس. هذا هو نهاية جميع الهبات وختام مواهب الروح القدس الذي ختم به السيد المسيح صلاته وسؤاله عنا في نهاية رسالته على الأرض: «لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ» (يو 17: 26).ولقد كان الرسل شديدي الإحساس بالآب وما استطاعوا أبداً أن يتذوَّقوا جمال الابن إلا في أبيه، ولا رسالته إلا في إرساليته، بل وما ذكروا الابن إلا بالآب، وما طلبوا سلاماً أو نعمة أو بركة إلا واستمدُّوها من الآب بالمسيح أو في المسيح. وهذا الشعور المقدَّس في تفهُّم الرسل لشخصية الآب يُحدِّده يوحنا الرسول في عبارة موجـزة شاملة مُكمِّلة: «اَلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُـونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (1يو 1: 3).وإن قدَّاسَي القدِّيسَيْن باسيليوس وكيرلس لَتَطبيق عملي لحياة الشركة العميقة مع الآب ومع الابن التي تكلَّم عنها يوحنا الرسول.فيا ليتنا نتذوَّق مشاعر الآب في ذكرى ميلاد ابنه، ونجعلها تنمو في قلوبنا لتحتل في حياتنا وأفكارنا ولغتنا مكانها الأول المناسب. فنحن أبناء الله الآب في يسوع المسيح وشركتنا هي مع الآب ومع الابن.سلامٌ لكِ يا بيت لحم مسقط رأسنا. فقد وُلِدنا فيكِ لله بالمسيح، وصرتِ لنا مكان التبنِّي الذي حُسبنا فيه أهل بيت الله لَمَّا وُلِدَ فيكِ أخونا البِكْر.يسوع الذي تجمَّعت فيه بُنوَّات الإنسان الكثيرة المتباينة المتنافرة، فأخذها وغسلها بالماء والدم، وطهَّرها وقدَّسها ووحَّدها بروحه الأزلي، وقدَّمها في طاعة محبته بنوَّة واحدة لائقة للآب، «وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ» (عب 2: 10)، مستطيعاً أن يجعل الكلَّ واحداً فيه، وهو إذ لم يَسْتَحِ أن يدعونا إخوة، استحققنا باتضاعه واشتراكه معنا في اللحم والدم أن ندعو أباه أبانا.وهو لَمَّا تجسَّد، وهبنا فكره الذي بـه استطعنا أن نمتدَّ وراء الدهور، لنقرأ بالروح مكنونات الأسرار في الأزلية؛ عن قصة خلقتنا الحقيقية في مقاصد الآب، ونَعْلَم أننا كُنَّا في المسيح قبل تأسيس العالم لمقاصد ومشيئات الآب الصالح ولنهاية مجيدة مُفرحة.يا لقِدَم تاريخ الإنسان الذي انكشفت أهم وأمجد حلقاته الروحية بتجسُّد الابن، رافعاً الستار عن طبيعة الإنسان المباركـة المكرَّمـة في المسيح يسوع قبل أن توجـد خليقة ما وقبل أن يـرفَّ روح الله على وجه المياه.هذا هو كلمة الله الأقنوم الثاني والمساوي مـع الآب في الجوهر، صانع الخليقة المنظورة وغير المنظورة، الذي ليس مخفياً عن معرفتنا؛ بل مقروءٌ لاهوته في خليقته ومُدرَكٌ لاهوته بالمصنوعات (رو 1: 20). هذا الذي لما عرفوه لم يمجِّدوه كإله، ولما جهلوه نـزل ليُعلِن وينطق بخبر الآب الذي أرسله ويكشف عن طبيعة الله بكلمته.هذه هي الحياة الأبدية التي أُظهِرَت لنا في جسد إنسان، وهي هي التي تمدُّ الخليقة بالحياة وتحفظها من العدم. هذا هو الحق المتجسِّد ليُعلِن لنا أسرار الله في ذاته وفي قيامته.هذا هو النور الذي جاء إلى العالم مُضيئاً بالحقِّ والحياة التي فيه، حتى بنوره نستطيع أن نُدرك النور أي الحق والحياة معاً التي في الله.هذا هو الإله المتأنِّس الذي يحمل طبيعة الإنسان بكافة نواحيها، والذي اكتملت فيه مشاعر الطبيعة البشرية حتى يستطيع أن يتلامس مع كل إنسان في الوجود، إذ يجمع في شخصه كل سجيات البشرية الفاضلة ولمسات روحها المبدعة بكلِّ أنواعها وصفاتها العديدة، من كل شكل وكل جنس وكل قامة من فجر الطفولة إلى غَسَق الشيخوخة، خلا صفة واحدة ذات اسم شنيع مكروه: ”الخطية“.ففي المسيح، كل ذي جمال وكل ذي عاطفة نبيلة أو حاسة مقدَّسة طاهرة، يجد فيه اتفاقاً ومَعِيناً لا ينضب لإلهاماته وإبداعاته. وفي المسيح أيضاً يجد كل إنسان، خلا من امتيازات العبقرية والإلهام، يجد في المسيح إنساناً نظيره؛ ولكن فيه مقدرة أن يستكمل فيه ومنه كل ما تشتهيه نفسه من إلهام وإبداع.وكل مرذول محتَقَر، كل مَنْ نبذته البشرية وأذلَّته فصار كأنه غريب على عنصرها، يكدح خارجاً عن دائرة اعتبارها مع المخلوقات الأقل؛ هذا يجد في المسيح إنساناً مُهاناً نظيره يستطيع أن يستعيد فيه كرامته البشرية، ويجد عنده راحة من كدِّ هذا العالم، ويتقبَّل منه شرف أخوية أسمى لعنصر أرقى وحياة أبقى.إذاً، فاليوم عيد، عيد لكلِّ الناس، لأنه وُلِدَ للبشرية مُعين، وأُعطِيَ للإنسان ابن تكمَّلت فيه كل إعوازها.
سلامٌ لكِ يا بيت لحم! فأنتِ حقّاً لستِ الصُّغرى، فتخومكِ امتدَّت مع المولود فيكِ ودَخَلَت مناطق الأزلية في أقصى السموات، وصار لنا منكِ عبورٌ سهل إلى تلك النواحي البعيدة في اللانهائية.وسلامٌ للنجم الذي لا يزال يُضيء قلوب الحاجين إليه، أي كلمة الحياة، التي هي سراجٌ منير في موضع العالم المظلم، يسير أمام السائرين على هَدْي نورها حتى لا تُدركهم الظلمة، يرقَى بهم إلى مراقي المجد حتى قلب الله. وسلامٌ على موكب الحكماء السائرين في ليل هذا العمر، متشجِّعين بالرؤيا وبالنجم الذي يتقدَّمهم ويُلهمهم حكمة لمعرفة الطريق، حكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر، حكمة في سرٍّ، حاملين هداياهم: مال العالم والذهب، ومُشتهيات الجسد مع اللُّبان، ومُر الحياة مع الرضا.قدَّموا أموالهم لينالوا الملكوت، ووهبوا أجسادهم ليحظوا بالكهنوت، واحتملوا المُر ليجدوا السرور.ما أحكم المجوس وما أعمق سر الهدايا، إن أسرارها لكثيرة!
وسلامٌ للعذراء الأُم الممتلئة نعمة التي اختيرت ليحلَّ روح الله على هيكلها البشري حتى تصير نموذجاً أبدياً لإمكانية حلول الله في الإنسان.سلامٌ للتي لها دالة عند الله أفضل من نبي ورسول، ومن البشريين قاطبة، إذ لها مع الأقنوم الثاني رباطٌ وثيق مقدَّس يضمُّها إليه إلى الأبد.سلامٌ للتي وَجَدَت نعمة أكثر من ملاك ومن رئيس ملائكة، وأُعطِيَت أن تجلس عن يمين الملك في مجده لأن القدير صنع بها عظائم، رفعها وأنزل الأعزَّاء عن الكراسي.هو الربُّ، لذَّته دائماً مع المتضعين في بني الإنسان. لذلك جميع الأجيال تُطوِّبها، وسعيدٌ أنـا إذ بلغتُ جيلاً يُطوِّبها.بركات بيت لحم فلتحلَّ على شعب الله مـن جيلٍ إلى جيل، له المجد في كنيسته إلى الأبـد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
12 يناير 2021
تأملات في التجسُّد والميلاد
«هذا يكون عظيماً، وابنَ العليِّ يُدعَى، ويُعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لمُلْكه نهاية» (لو 1: 33،32).هنا الملاك المبشِّر يُعطي ملامح يسوع المسيح. ولينتبه القارئ، فأُفق الملاك في المعرفة محدود للغاية، وهو يُعطي أوصاف المسيح على مستوى ملائكي فيقول إنه: «يكون عظيماً»، حيث العظمة عظمة ملائكية سمائية تنتهي بالدرجات العظمى، أي أنه سيكون أعظم من الملائكة. ثم يستدرك ويصف علاقته بالله فيُعطيه درجة ابن العليِّ وهو وصف يفوق قدرة ملاك، لأن الملائكة محسوبون أنهم خُلقوا ليخدموا الخلاص للعتيدين أن يرثوه، ولكن الملاك هنا يكشف أول أسرار الابن التي لم يسبق أن سمع بها ملاك أو بشر. فابن العليِّ عليٌّ هو، وأعلى من كل صفوف الملائكة ورؤساء الملائكة. ثم يدخل الملاك في خصائص ابن العليِّ فيصف مُلْكه الكلِّي والأبدي على بيت إسرائيل، ثم يعود ويصف مدى انتشار واتساع مُلْكه الأبدي أن لا نهايةَ زمنيةً له، بمعنى أنه فائق على زمن البشر الذي له نهاية، فمُلْك ابن العليِّ لا نهاية له، لا نهاية زمانية ولا مكانية، أي أنه يملأ السماء ويملأ الأرض، لا حدود له ويصف الملاك أيضاً مستوى تملُّك ابن العليِّ على كرسي داود، باعتبار أن المسيح ابن العليِّ سيكون سليل داود، أي يرث مُلْك داود كوريث شرعي، وهنا يُلمِّح الملاك إلى جنسية ابن العليّ أنه بشريٌّ هو، وهنا يُقْرِن الملاك لاهوت ابن العليِّ بناسوت ميراث داود. وهذا يُعتبر أول استعلان للابن المتجسِّد أنه ابن العليِّ وابن الإنسان معاً، الأمر الذي يشير إلى نوع ملوكيته: إنه وسيط قادر بين العليِّ وبين البشر. فهنا يتحتَّم أن تكون ملوكية ابن العليِّ سماوية وأرضية معاً، تحمل كل ما لله وكل ما للبشر. حيث تصبح المصالحة بين الله والإنسان على مستوى إلهي وملكي، يخدم هذه المصالحة ابنُ العليِّ إلى أبد الآبدين، حيث تضم هذه المصالحة كل أجيال الإنسان، فهي مصالحة أبدية قادرة على التكميل الكامل.لهذا تُعتبر بشارة الملاك المبشِّر للقديسة العذراء مريم سجلاًّ مختصراً وكاملاً لعمل ابن العليِّ المولود من العذراء مريم ومستواه الإلهي الملكي.وبذلك يكون ابن العليِّ، أي الرب يسوع المسيح، صاحب مملكتين: ملكوت السماء، ومملكة الإنسان، بــآنٍ واحد. وهنا نجد الإشارة واضحة لعمل ابـن العليِّ، أن ينقل الإنسان من مملكة الإنسان ليُدخله في ملكوت السموات. وفي هذا كانت مسرَّة الآب ومنتهى مسرَّة الإنسان معاً. وظلَّت هذه المسرَّة مرافقة لابن العليِّ حتى إلى الصليب، فقيل إنه: «من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب» (عب 12: 2)، وهي مسرَّة الآب في السماء، ومسرَّة الناس على الأرض، ومسرَّة الابن الذي أكمل طاعة الآب «حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8).لذلك نحن مديونون لملاك البشارة الذي أعطانا هذا السجلَّ الحافل بعمل ابن العليِّ.
«هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (مت 1: 23).
لمَّا أخطأ آدم وحواء وطُردا من أمام وجه الله، أُصيبت البشرية بابتعاد الله عنها، فصارت تتوالد في عُقْم البُعاد عن الله، بمعنى أن البشرية فقدت قُرْبها من الله الذي كان يَنعم به آدم. بما يعني أن كل أعمال وحياة الناس لم تكن تَنعم بمشورة الله وعمله، ليس إلى جيل بل إلى جيل الأجيال.وأخيراً جاءت القُربَى من لَدُن الله، وتَدَخَّل الله بنفسه في حياة البشر، إذ أرسل ابنه الوحيد المساوي للآب في الجوهر أي في الطبيعة، ليولَد من عذراء طاهرة من بيت إسرائيل في ولادة فائقة على طبيعة البشر، أي بدون رجل، فكان الله الآب بمثابة أب حقيقي فائق للطبيعة البشرية، وأصبح المولود ابن الله الحقيقي (انظر لو 1: 35)، ورأس البشرية الجديدة كلها. وهكذا انعقدت الآمال كلها ورجاء الإنسان في مولود العذراء، فلم تَعُد البشرية متغرِّبة عن الله، بل تحوَّل الإنسان تحوُّلاً فائق الوصف من كونه من بني آدم إلى ابنٍ لله، وصار نسله بالتالي بني الله العَليِّ بالإيمان (انظر غل 3: 26)، إيمان ابن الله الذي دُعِيَ يسوع. وبعد أن كان آدم رأس الجنس البشري، أصبح يسوع المدعو المسيح هو رأس البشرية الجديدة المؤمنة بيسوع المسيح، فكلُّ مَن يولد في الإيمان بيسوع المسيح ابن الله، ينال حق التبنِّي لله (انظر يو 1: 12).ومع التبنِّي لله، صار جنس الإنسان بحسب رأس الجنس كله أي يسوع المسيح، يُدعَى مسيحياً.وبالتالي صار كل بني آدم مسيحيين؛ وبحسب الروح الذي يعمل في الإيمان، أي الروح القدس، صار كل الناس المسيحيين لهم رأس واحد وهو يسوع المسيح، وروح واحد أي الروح القدس. وبمعنى كلِّي، صار كل الناس إنساناً واحداً في المسيح، لا ذكر ولا أنثى فيما بعد بل «جميعاً أبناء الله الحيّ بالإيمان (الواحد) بالمسيح يسوع» (غل 3: 26).وهكذا تحوَّل بنو آدم من جنس البشر إلى جنس يسوع المسيح، ومن الكثرة المتفتتة إلى وحدانية الروح والجنس، ومن الأصل الترابي إلى طبيعة سماوية، ومن ميراث الجسد والآباء والأمهات إلى ميراث ابن الله في السموات، أي الحياة الدائمة الأبدية، لأنه لا يكون للإنسان موتٌ بعد بل انتقال من جنس ترابي إلى جنس سماوي، ومن ميراث ترابي إلى ميراث إلهي أبدي.ومن هنا، بدأت الدعوة وبدأ التبشير بالإيمان بيسوع المسيح إيماناً صادقاً حقيقياً، يتهيَّأ لهذه النقلة السعيدة بالإيمان الصادق الحيِّ بالمسيح يسوع ربنا.على أنه يلزم جداً جداً أن نضع اللمسات الإلهية على معنى الإيمان الحيِّ الصادق بالمسيح يسوع.وما هو الإيمان الحيُّ الصادق بالمسيح يسوع؟ هو أن نقبل قبولاً قلبياً حاراً صليبَ ربنا يسوع المسيح الذي قَبـِلَه هو «من أجل السرور الموضوع أمامه» (عب 12: 2).وما هو السرور الذي كان موضوعاً أمام المسيح وقت الصلبوت؟ هو الحب، الحب الطاغي الذي جعله يحتمل التعذيب وسفك الدم (انظر غل 2: 20)!! وهو حبُّ الآب الذي أطاعه الابن حتى الصليب، وحبُّ المسيح من نحو الإنسان الخاطئ.وهنا ننبه ذهن القارئ أن عصيان آدم لله حُسِبَ خطية عظمى، وكل إنسان يولد لآدم يرث موت الخطية في الطبيعة، فكل بني آدم حُسبوا خطاة في آدم لأن الخطية سادت على الجميع والكل وُلد في الخطية. ولكن، وكما سبق وقلنا، فإن بني آدم بعد أن آمنوا بالمسيح بالقلب والروح والصدق، حُسبوا بني الله في المسيح، أي حُسبوا جميعاً إنساناً واحداً في المسيح.وكما أنه لمَّا أخطأ آدم صار كل بني آدم خطاة، هكذا يصير بنو الله في المسيح كالمسيح قديسين وأبراراً، لأن برَّ المسيح الذي اكتسبه بالصليب والفداء والقيامة منحه كاملاً متكاملاً للإنسان، فصار الإنسان باراً أمام الله بالفداء الذي أكمله المسيح للإنسان الخاطئ.لذلك يُحسب عدم الإيمان بالمسيح والصليب والفداء أنه رجْعَةٌ إلى خطية آدم والبُعاد عن الله.
«فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يو 1: 4).معروف أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. ولم يعرف الإنسان الظلمة إلاَّ بعد أن أخطأ آدم وتقبَّل عقوبة الموت عقاباً وجزاءً.وكان الموت هو الظلمة عينها حيث تتوقف البصيرة عن معرفة أي شيء. ويُكنَى عن الظلمة بالجهل أو الجهالة، حيث تُحجز عن الإنسان أية معرفة، خاصةً فيما يخص الله وأمور الله.وهكذا عاشت البشرية بعد آدم، إذ تسلَّمت الخطية منه مع عقوبة الموت، فدخلت في ظلام دامس هو بعينه عدم معرفة الله وكل ما يختص بالله. وتَوالَد الإنسان في الظلمة، حتى لم يعرف أنه في ظلمة، لأن ظلمة المعرفة تطمس معالم النفس البشرية.وبينما كان بنو آدم في هذه الظلمة القاتمة، يسود عليهم الموت ومَنْ له سلطان الموت أي إبليس، الذي يُعرف عنه أنه يطمس العين البشرية لكي لا ترى الله ونور الله، بل تبقى في ظلمة العبودية والموت سيِّدٌ عليها (انظر 2كو 4: 4)؛ نقول إنه بينما كان الإنسان عائشاً في الظلمة سابقاً وهو راضٍ عن هذه الظلمة لا يعرف لها مخرجاً، إذ بالله الكثير الرحمة والتحنُّن يدبِّر له مَنْ يخُرجه من هذه الظلمة ويورِّثه النور كحياة.فأَرسل الله كلمته إلى عالمنا المظلم، أي ابنه الوحيد المعروف أنه نور السموات والأرض. ووُلد الكلمة من عذراء قديسة. وهكذا دخل نور الله عالم الإنسان، كإنسان، وحمل كلمة الله حياة الله. وهكذا دخل النور والحياة إلى عالم «الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أف 4: 24).وبالإيمان بالمسيح وبموته وقيامته، قام الإنسان أيضاً من موت الخطية بقيامة المسيح من بعد موتِ الفداء، وبالإيمان بالمسيح حُسِبَ أهلاً أن يرث ميراث الابن في الحياة الأبدية.وما أن دخل شعاع الحياة الأبدية إلى قلب الإنسان الجديد، حتى انفتحت عيناه، فرأى النور الأبدي الذي لا يُطفأ، نور معرفة ابن الله (انظر 2كو 4: 6).فبذبيحة الابن على الصليب تمَّ الفداء من الموت وظلمة الموت، وانبعثت الحياة من وسط ظلمة الموت، وارتفعت إلى السماء لتُعطي الإنسان استعلان معرفة الله وكل ما لله، وصار النور طبيعةً للطبيعة الجديدة للإنسان، فصار الإنسان يرى ويتثبَّت مما يراه من كل حقائق الإيمان. والعجب في كل أمور اللاهوت أنه إذا استَعلَن الإنسان حقيقةً فيه، امتلك هذه الحقيقة عن وعي وبثبوت.وكما يتسلَّط النور على غرفة مظلمة فيصير كل ما فيها تحت نظرك وبصيرتك، هكذا جعل الله - البديع في تدبيره - أنه إذا دخل إنسان إلى معرفة الحق بالإيمان، فإنه يأخذه ويصير شريكاً فيه. هكذا كلُّ مَنْ يشترك في حياة الكلمة، أي يسوع المسيح، فإنه يتملَّكُه ويَستَعلِن له كل أسراره بلا مانع.
بهذا يُستعلَن للقارئ العزيز كيف كان تدبير الله منذ الأزل أن يدخل الإنسان في شركة الابن ليصير في شركة الحياة معه (انظر 1كو 1: 9)، وبهذا يُستعلَن له الله بكل وصاياه وتعاليمه، لأن في حياة الكلمة نوراً أزلياً يَستَعلن حق الله لكل ذي جسد يؤمن بالابن، وبصليبه للفداء، وبقيامته للحياة.يقول الكتاب: «كان النور الحقيقي الذي ينير كلَّ إنسان، آتياً إلى العالم» (يو 1: 9). فوظيفة المسيح العظمى هي أنه النور الحقيقي والحياة الأبدية معاً، وقد سلَّم المسيح الإنسان الجديد الحياة والنور معاً ليليق أن يحيا مع الله.فآمنوا بالنور لتعيشوا في النور،لئلا يدرككم الظلام (انظر يو 12: 36،35).
«وصوت من السموات قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت 3: 17).هذا أول تعريف باللاهوت، فالصوت الذي جاء من السماء هو حتماً صوت الآب لأنه يقول: «هذا هو ابني».فلأول مرة يُستعلَن الله من السماء أنه آب وابن. ومن هنا جاءت حتمية الروح، فالآب حيٌّ والابن حيٌّ؛ والآب قدوسٌ هو، والابن بالتالي قدوسٌ، ولَزِمَ أن يكون الروح قدُّوساً فعرفناه أنه الروح القدس.وليس في اللاهوت انقسام أو عددية، فالآب والابن والروح القدس هو الله الواحد. فالآب حيٌّ بالروح القدس، والابن حيٌّ بالروح القدس، والروح القدس حيٌّ في الآب والابن، وقد حقَّق لنا المسيح أن الابن كائن في الآب وبالآب، وأن الآب كائن في الابن وبالابن، فالأبوة والبنوة في الله كيان واحد، وتحتَّم أن يكون الروح القدس قائماً في هذا الكيان. ولكن كما قلنا، إن اللاهوت مُنـزَّه عن الانقسام والعددية والمحدودية، فالآب يملأ السموات والأرض، والابن يملأ السموات والأرض، والروح القدس يملأ السموات والأرض. فالآب والابن والروح القدس لاهوت واحد يملأ السموات والأرض.فلما سقط آدم في الخطية وطُرد من أمام الله دبَّر الله كيف يُعيد بني آدم إلى حضرته، لأنه خليقته وقد خلقه الله على صورته ومثاله. وبالرغم من أن آدم أخطأ وأصبح نسله كله وارثاً لموت الخطية، إلاَّ أن الله كان يحب خليقته جداً كما أعلمنا الكتاب: «هكذا أحب الله العالم (عالم الإنسان)» (يو 3: 16).ودبَّر الله لآدم وبنيه خلاصاً من خطية آدم، وعقوبة الموت التي أخذها استحقاقاً لخطيئته، وذلك بأن كلَّف ابنه المحبوب الوحيد أن يتجسَّد، أي يأخذ جسد إنسان على أن يكون بلا خطية، وهذا يُحتِّمه الواقع لأن ابن الله قدوسٌ هو، وحيٌّ بالروح القدس. وأطاع الابن وتجسَّد، أي صار إنساناً بلا خطية، وذلك بأن تجسَّد في بطن عذراء قديسة، ووُلد، ويوم عماده سُمِع الآب من السماء يُناديه: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ».وقد كلَّفه الآب أن يحمل خطية الإنسان في جسده القدوس، ولكن عقوبة الخطية هي الموت، فكان لابد لابن الله الذي سُمِّيَ ”يسوع“ أن يموت بالجسد حاملاً خطية الإنسان ولعنة الناموس، فلَزِمَ أن يموت صَلباً، لأن كل مَنْ يُصلب يكون ملعوناً (غل 3: 3)، فأطاع الابنُ وحمَلَ خطية العالم كله في جسده القدوس مُعلَّقاً على خشبة الصليب، واعتُبـِر ذلك ذبيحة خطية عن العالم كله، ومات ودُفن، ولكنه لأنه ابن الله الحيُّ بالروح القدس، قام بعد أن أدَّى واجب الموت ملعوناً على خشبة، حاملاً في جسده القدوس كل خطية بني آدم. وهكذا لمَّا مات حاملاً خطية الإنسان ماتت الخطية حتماً وبالضرورة.ولمَّا قام من الموت في اليوم الثالث، وهي عقوبة الموت كاملة، وقام بقوة الله والروح القدس الذي فيه، هكذا تمَّم ذبيحة الفداء كاملة على الصليب. ولمَّا قام، أقام الجسد المحسوب أنه جسد الإنسان ككل، وهكذا قام الإنسان بقيامة المسيح وصعد بصعوده إلى السماء. ولمَّا جلس المسيح عن يمين الآب، أجلَس معه كلَّ خاطئ عن يمين الله، وهكذا تمت المصالحة الأبدية بين الله وبني آدم الخطاة جميعاً الذين آمنوا بالمسيح وبصليب المسيح وبقيامته. وهكذا تبرَّر الخاطئ ببرِّ المسيح، وحُسب الخطاةُ أبراراً وقديسين وبلا لوم في المسيح قدَّام الله كخليقة جديدة بالروح مُبرَّرَة ومَفْديّةً.وقول الآب من السماء يوم عماد المسيح: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ»، قالها الآب للابن، فوقعت من نصيب الإنسان، فدخل الإنسان في مسرَّة الله.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 يناير 2021
قتل أطفال بيت لحم - ماريعقوب السروجي
لما بدأ هيرودس باهلاك اطفال البلد اخذ يقتلهم من عمر سنتين وما دون، صنع الجبان حربا جديدة وصار سخرية لانه دعا الى المعركة بني سنة ليقتلهم،سحبت قرعة الصبيان في ارض اليهودية، وكانوا يقتلون بدل الملك الآتي الى العالم،لما قتلوا صاروا شهودا جددا للابن، وبآلامهم مهدوا درب قتل الابن،صرخت الامهات لانهن رأين فضاعة موت اولادهن المقتولين بامر الملك الغاشم،ولولت الجفنات على عناقيدها الباكرة لان الخنزير دخل وعصرها وهي على اغصانها،راحيل بكت على بنيها لانهم غير موجودين، وفي الايحاءات انصت ارميا وسمع صوتها، كان النبي قد سمع صوت بكاء عظيم في الرامة: راحيل تبكي ولا تريد ان تتعزى،
ترك هيرودس جميع الملوك الموجودين في المنطقة وشن حربا ليتقاتل مع الاطفال وقف امامه صبيان صهيون ليمنعوه، واستل سيفه على الجميلين وذبحهم،الاثيم اباد فوج الملك ولم يؤذه شخصيا، لقد طعن جيشه لينجو هو من السكين،اصطف الاطفال وقاتلوا هيرودس وغلبوه لانهم لم يستسلموا لقائد الجيش،اصطف ومات جميعهم في المعركة، ولم يكشفوا عن موضع الملك لئلا يلحق به ضرر،يا هيرودس بماذا اذنب اطفال الشعب ضدك، معركتك هي جريمة لانك تحارب مع الاطفال،؟تفتخر بالانتصار على رضع الحليب، وجيشك انكسر في الحرب لان الملك لم يمت، انتصر الاطفال وغلبوك لتصير سخرية، لان قائد الجيش لم يقطعه السكين،مات الشباب ولم يمت الختن لان وقته لم يحن، طعن المتكئون وصاحب العرس لم يهن،ذهب الختن ليدعو مصر لتأتي عنده، وتسلط السيف على جميع شبابه قبل عودته، جاء ليصنع عرس الدم في ارض اليهودية، فدعي اطفال البلد الى الذبح،الانقياء قتلوا لاجل النقي دون ان يذنبوا ليمهدوا الدرب للدم الطاهر الذي سيسكب،كان الملك قد امر ان يخرج السيف ويقتل ابناء سنة وسنتين الموجودين في تخومه،استل السيف لقتل الاطفال، وكانوا يقتلون بدون اذْن حيثما وجدوا،يوجد من قطع رأسه وهو نائم في كنف امه، ومن النوم انتقل الى الموت بصمت عظيم،
يوجد من اخذوه من ركبتي امه التي كانت تحمله، وسكبوا دمه وزالت انغامه الحبيبة،خرج الاطفال الاحباء ليمهدوها بعذاباتهم الى ان ياتي ملك الآلام ليمشي عليها،صار صبيان البلد رهائن مقتولين لاجل الابن، وارسلهم ليهيئوا مكان الصلب.
[المسيح يكلم الأطفال:]
لما قتلوا ارسلهم الى موضع الموت، ليسمعوه بان الملك سياتي عند الموتى،
قيلت مثل هذه الامور من قبل المخلص للصبيان الذين بدأوا المسيرة في درب الصلب قبله:
اذهبوا وقولوا للملك الغاشم، هانذا آت، تكفى دعوتك السريعة لي الى موضع رئاستك،
سآتي في طريق الآلام الذي صممُته، وساحّلك من سلطة رئاستك،
لي وقت قصير للعمل من بعد ارسالي، وبعدئذ سآتي بجبروت عندك،اذهبوا ايها الاولاد وامكثوا هناك في موضع الشيول، الى ان آتي وسافرغها من الموتى،بعد قليل سادرككم في الظلمة، وساشرق عليكم نورا عظيما لتفرحوا به،اذهبوا وامكثوا في المحصنة المليئة بالموتى، فلن اتاخر وساقلعها لئلا تقوم بعد،ناموا عن العالم، واستريحوا من سرير كل الاجيال، ولما انقضها ساوقظكم مع الكثيرين، اسبقوني قليلا في سبيل الآلام الى ان آتي، وساختمها بالصلب حتى ابعثكم،ادخلوا وانتظروني في الهوة العظمى مدينة الطغمات، ولما اتالم اصرخ فيها وستسقط كلها،اذهبوا الى السبي مع الكثيرين الذين قادهم الموت، وهانذا آت لاحطم قوسه واعيدكم.
[قوة الأطفال:]
سخر الاطفال من السيف لما ُقتلوا، لان طريق الملك كان يمهد بآلامهم،ضحكوا على الموت لانهم لم يعرفوا ما هو طعمه، ولم يحزنوا لما جذبوا نحو السكين،قام الاولاد ولعبوا بالافعى، والصبيان (لعبوا) بالموت ولم يشعروا بانه مر، من صبيان بيت لحم ظفر السيف اكليلا للملك المسجود له الذي اتى ليموت ويبعث الكل،اخذوا دمهم كباكورة، وادخلوه قدامه، ليكرم الدم الزكيء بالدم الطاهر.
(ميمر "على الكوكب الذي ظهر للمجوس وعلى قتل الاطفال" لماريقعوب السروجي: بهنام سوني. ترجمة من السريانية إلى العربية ودراسة على ميامر الملفان مار يعقوب السروجي. الجزء الأول. بغداد، 200).
المزيد
09 يناير 2021
تأملات روحية «والكلمة صار جسداً» ج3
يا لعظمة سر التجسُّد وميلاد المُخلِّص:
في ذكصـولوجيـة عيـد الميـلاد المجيـد التي تُنشدها الكنيسة بفرحٍ وتهليل، نُرنِّم قائلين:
[حينئذ امتلأ فمنـا فرحـاً ولساننـا تهليلاً، لأن ربنا يسوع المسيح وُلِدَ في بيت لحم... السلام لمدينة إلهنا، مدينـة الأحياء، مسكن الصدِّيقين، التي هي أورشليم. السلام لـكِ يـا بيت لحـم مدينـة الأنبياء الذين تنبَّأوا عن ميلاد عمانوئيل. اليوم أشرق لنا نحن أيضاً النور الحقيقي مـن مـريم العذراء، العروس النقيَّة. مريم وَلَـدَت مُخلِّصنا مُحـب البشـر الصالح، في بيت لحم اليهوديـة كـأقوال الأنبيـاء... هـا السموات تفرح، والأرض تتهلَّل لأنها (أي العذراء مريم) وَلَدَت لنا عمانوئيل نحن معشر المسيحيين].
+ والقديس غريغوريـوس الناطق بالإلهيات في عظته عن: ”الثيئوفانيا - ميلاد المسيح“ يُردِّد بتهليل قائلاً:
[كلمة الله ذاتـه، الأبدي الذي هـو قبل كل الدهور، وهو غير المنظور، غير المفحوص، وغير الجسدي، البدء الذي مـن البدء، النور الذي مـن النور، مصـدر الحياة والخلـود، صـورة الجمال الأصلي الأول، الخَتْم الـذي لا يزول، الصورة التي لا تتغيَّر، كلمة الآب وإعلانه؛ هذا أتى إلى صورتـه، وأَخَذَ جسداً لأجل جسدنـا، ووحَّد ذاته بنفسٍ عاقلة لأجل نفسي لكي يُطهِّر الشَّبَه بواسطه شَبَهه، وصار إنساناً مثلنا في كلِّ شيء مـا عدا الخطية، إذ وُلِدَ من العذراء التي طُهِّرَت أولاً نفساً وجسداً بالروح القدس. وهكذا حتى بعد أن اتَّخذ جسداً ظـلَّ إلهاً، إذ هـو شخصٌ واحد من الاثنين (لاهوت وناسوت).
يا له مـن اتِّحادٍ عجيب، الكائن بذاته يأتي إلى الوجـود، غير المخلوق (كـإله) يُخلَق (أي يتَّحد بناسـوت خَلَقَه هـو بـالروح القدس في أحشاء العذراء)، غير المُحوَى يُحوَى بواسطة نفسٍ عـاقلة تتوسَّـط بـين الأُلوهـة والجسد المادي. ذاك الذي يمنح الغِنَى يصير فقيراً، فقد أَخَذَ على نفسه فقر جسدي، لكى آخُذ أنـا غِنَى لاهوته. ذاك الذي هو الملء يُخلي نفسه، لأنه أخلى نفسه من مجده لفترةٍ قصيرة ليكون لي نصيبٌ في مِلْئه. أيُّ صلاحٍ هذا! وأيُّ سرٍّ يُحيط بي! اشتَرَكتُ في الصورة (عندما خلقني على صورته)، ولم أَصُنْها؛ فاشْتَرَكَ (هو) في جسدي لكي يُخلِّص الصورة (التي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط)، ولكي يجعـل الجسد (المائت) عديم الموت... هـذا العمل الأخير (أي تجسُّـد كلمة الله) يليق بـالله أكثر مـن الأول (أي الخلق)، وهو سامٍ جداً في نظر الفاهمين].
«وُلِدَ لكم اليوم... مُخلِّص هو المسيح الرب»:
في بشارة مـلاك الرب للـرعاة، يقـول لهم: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو 2: 11،10). وما نُركِّز عليه في هـذه الآيـة هـو قـول الملاك: «... أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ... مُخَلِّصٌ». فقد وُلِدَ لنا المُخلِّص المسيح الرب لكـلِّ واحـدٍٍ منَّا شخصياً. فقد وُلِدَ المُخلِّص لأجل خلاص كلِّ واحدٍ فواحد، لكلِّ مَن يؤمن بـه ويقبله مُخلِّصاً له. هكذا يكون ميلاد المخلِّص، وهكـذا تُردِّد الكنيسة كما ذَكَرنا في ذكصولوجية الميـلاد: ”وَلَدَت (العذراء) لنا عمانوئيل نحن معشر المسيحيين“.
وفي نبوَّة إشعياء النبي يقول: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَـدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُـونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ: عَجِيباً مُشِيراً، إِلهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ» (إش 9: 6).
وتُنشد الكنيسة في لحـن ”Xere ne Maria“ قائلة: ”السلام لكِ يا مريم الحمامة الحسنة، التي وَلَدَت لنا الله الكلمة“. وكذلك تقول الكنيسة في لحن التوزيع ”Piwik `nte `pwn'“: ”خبز الحياة الذي نزل لنا من السماء، وَهَبَ الحياةَ للعالم“.
+ ويقول القديس كيرلس الكبير:
[... إنَّ الربَّ - رغم أنه هو الله - ظهر لنا. ورغم أنه في صورة الآب، هو ذو تفوُّق فائق وشامل، فقد أَخَذَ شكل عبد. ولكن، رغم هذا، فإنه هو إلهٌ وربٌّ، فهو لم يَزَل كما كان (إلهاً قبل أن يتجسَّد)](1).
كلمة الله وُلِد كإنسانٍ من العذراء مريم:
للمسيح ميلادان: فهو لكونه كلمة الله وابن الله الوحيد فله ميلادٌ أزلي قبل كل الدهور من الآب: «فِي الْبَدْءِ (منذ الأزل) كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ» (يو 1: 2،1)؛ ولأنه تنازَل وأتى إلى عالمنا الساقط لكي يُخلِّصه ويَهَبه الحياة الأبدية، فقد وُلِدَ ميلاداً زمنياً مـن العذراء القديسة مريم: «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غل 4: 5،4)
+ ويقـول القديس كيرلس الكبير في هـذا الصدد:
[الكلمة الذي من الله الآب، دُعِيَ إنساناً رغم كونـه بـالطبيعة الله، لأنـه اشترك في الدم واللحم مثلنا (عب 2: 14). وعندمـا حـدث ذلك (أي تجسَّـد) لم يفقد شيئاً مِمَّا له (أي لاهوته). وإذ أَخَـذَ طبيعة بشريـة مثلنا (أي مُماثلة لنا في كـلِّ شيء مـا خـلا الخطية وحدها) لكنها كاملة؛ (إلاَّ أنـه) ظلَّ أيضاً الله ورب الكل، لأنـه هو هكذا فعلاً، وبطبيعته، وبـالحقِّ، مـولودٌ مـن الآب (قبـل كـل الدهور) رغم تجسُّده...
ورغـم أن العـذراء مريم وَلَدَت الهيكل (كلمة شائعة عند الآباء للدلالة على ناسوت المسيح) المُتَّحد بالكلمة، إلاَّ أنَّ عمانوئيل قيل عنه، وهـذا حـقٌّ: «(الربُّ) مـن السماء» (1كو 15: 47)، لأنه من فوق، ومولودٌ من جوهـر الآب. وإن كان قد نزل إلينا عندما صار إنساناً إلاَّ أنـه من فوق... ولذلك نقول إنَّ ابن الإنسان نزل من السماء، وهذا تدبير الاتِّحاد، لأن الكلمة وَهَبَ لجسده كل صفات مجده وكل ما هو فائقٌ وخاصٌ بالله](2).
كلمة الله غير مخلوق،
ولكن جسده مخلوق:
لقـد سـقط الهراطقـة في فكـرٍٍ منحرف، واختلط عليهم الأمـر، ولم يُميِّزوا بين كلمـة الله غير المخلوق؛ وبين ناسوته الذي اتَّحد به بحسب التدبير، وهو ناسوت مخلوق. وهذا الأمر يشرحه القـديـس أثناسيوس الرسـولي في رسـالتـه ضد أبوليناريوس قائلاً:
[لقـد علَّم الآباء أنَّ الابـن مساوٍ للآب في الجوهر، وأنـه ”إلهٌ حقٌّ مـن إلهٍ حقٍّ“، أي أنه كامل من كامل، ثم أضافوا مؤكِّدين: ”نزل من السماء لأجل خلاصنا، وتجسَّد وتأنَّس“. وبعد ذلك نعترف بأنه ”تألَّم وقام“. وحتى لا يُخطئ أحد إذا سمع أنَّ الكلمة تألَّم ومات، ويعتقد أن الله الكلمة قـد تغيَّر جوهـره، أكَّـد الآباء بكـلِّ وضوح، أنَّ الابن غير مُتغيِّر ولا متألِّم...
أخبرونـا يـا مَـن اخـترعتم إنجيـلاً جديـداً خاصّاً بكم... مِِن أيِّ مصدرٍ أخـذتم البشارة التي تجعلكم تقولون إنَّ الجسد (الذي اتَّحد به كلمة الله) ”غير مخلوق“؟ أَلا يجعلكم هـذا تتخيَّلون أَمْرَيْن لا ثالث لهما: إمَّا أنَّ لاهوت الكلمة قد تحوَّل إلى جسدٍ، وإمَّا أنكم تعتقـدون أن تدبـير الآلام والموت والقيامة خيالٌ لم يحدث. وهـذان التصوُّران، كلاهما خطـأ؛ لأن جوهـر الثالـوث هـو وحـده غير المخلوق، والأبـدي، وغير المتألِّم وغير المُتغيِّر. أمـا المسيح حسب الجسـد (رو 9: 5)، فقد وُلِدَ مـن الناس الذيـن قيـل عنهم: ”إخوتـه“، بـل تغـيَّر (ناسوتـه وتمجَّـد) بقيامتـه فصـار بعـد قيامتـه «بـاكـورة الراقديـن» (كو 1: 18)... فكيف تُسـمُّون الناسـوت الذي تغيَّر مـن الموت إلى الحياة ”غير مخلـوق“؟ وكيف تفترضـون العكس، عندمـا تُسـمُّون غير المخلـوق (كلمة الله) بـالمُتغيِّر؟ لأنكم عندما تُسمُّون جوهر الكلمة غير المخلـوق بالمُتغيِّر، فأنتم تُجدِّفون على أُلوهيـة الكلمـة. وعندمـا تصفون الجسـد المُتغيِّر المُكـوَّن مـن عظامٍ ودمـاءٍ ونفسٍ إنسانية، أي كل مكوِّنـات أجسادنـا، والذي صار ظاهراً ومحسوساً مثل أجسادنا؛ تصفون كل هذا بأنه ”غير مخلوق“، (فإنكم) تسقطون سقوطـاً شنيعاً في خطأيـن: أولهمـا: إنكم تفترضـون أنَّ الآلام التي احتملهـا (المسيح جسديّاً) هي مجـرَّد خيـال، وهـذا تجديف المانويين؛ أو إنكم تعتَبِرون أنَّ اللاهـوت له طبيعة ظاهرة محسوسة، رغم أنه جوهرٌ غير مخلـوق، وبـالتالي فهـو غير ظاهـر ولا محسوس، وهـذا التصوُّر الأخير يضعكم مع الذين يتصوَّرون أنَّ الله كائنٌ في شكلٍ بشريٍّ جسداني (وهي بدعة تقول إنَّ الله في جوهره مثل الإنسان له أعضاء بشريـة)...](3).
تجسُّد كلمة الله لم يَحدَّ من وجوده كإله
في كلِّ مكان:
وكما يقول بولس الرسول: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (كو 2: 9). ولكن بالرغم من تجسُّد كلمة الله، إلاَّ أنه بلاهوته كائنٌ في كلِّ مكان ولا يخلو منه مكان. وهـذا مـا يُوضِّحه القديس أثناسيوس الرسولي:
[لأنـه لم يكـن محصوراً (كـإله) في الجسد - كما يتوهَّم البعض - أو أنه بسبب وجوده في الجسد كان كـل مكانٍ آخر خالياً منه، أو أنـه بينما كـان يُحرِّك الجسد كـان العالم محروماً من أفعال قدرتـه وعنايته. غير أنَّ الأمـر العجيب والمُدهش جداً هـو أنـه مع كونه هـو الكلمة الذي لا يحويه شيء، فإنه هـو نفسه يحوي كـل الأشياء. وبينما هـو موجودٌ في كل الخليقة؛ فإنه، بحسب جوهره، هو مُتميِّز عـن كل الخليقة. فهو حاضرٌ في كل الأشياء بقدرتـه فقط، ضابطاً كل الأشياء ومُظهِراً سيادتـه على كـل شيء وعنايتـه بكلِّ شيء، وواهباً الحياة لكلِّ شيء. ومـع إنه يحوي كل الأشياء ولا يحتويه شيء، إلاَّ أنه كائنٌ كلِّيةً في أبيه وحده.
وهكذا حتى مـع وجوده في جسدٍ بشري، مُعطياً الحياة له، فقد كـان مـن الطبيعي أن يمنح الحياة للكون كله في نفس الوقت... لم يكُن (كلمة الله) مُقيَّداً بسبب الجسد (الذي اتَّحد به)، بل بالحري كـان يستخدم جسده. ولذلك فهو لم يوجد في الجسد فقط، بل كان موجوداً بـالفعل في كـلِّ شيء... وهـذا هو الأمر العجيب، أنه بينما كان يتصرَّف كإنسانٍ، كان ككلمة الله يُحيي كـل الأشياء، وكابنٍ كـان كائناً في أبيه. ولذلك عندما وَلَدَته العذراء، لم يَعتَرِه أي تغيُّر (من جهة لاهوته)، ولا تدنَّس بحلوله في الجسد؛ بل بالعكس فهو قد قدَّس الجسد أيضاً](4).
افتقر وهو الغَنِي، لكي نستغني بفقره:
لقـد أوضح القديس بـولس ولخَّص تـدبير التجسُّد في هـذه الكلمات: «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِـنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كو 8: 9). فكلمة الله هو الغََنِي بلاهوته وقدرته الإلهية، لكنه من أجلنا ومن أجل خلاصنا، سُرَّ أن يفتقر أي يُخلي ذاته من مجد لاهوتـه، ويأخـذ جسـداً وضيعاً يتَّحد بـه ويصـير في شِـبْه النـاس؛ لكي نستغني نحـن الفقراء بـالخيرات العتيدة وبـالشركـة مـع الله وبـالحياة الأبديـة بواسـطة تجسُّـد كلمـة الله. ولذلك يقول القديس يوحنا في إنجيله: «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَـا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يـو 1: 16)، ويقول أيضاً القديس بولس: «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُـوَ رَأْسُ كُـلِّ رِيَاسَـةٍ وَسُلْطَانٍ» (كو 2: 10). ويُوضِّح بطرس الرسول الغايـة النهائية مـن تجسُّد ابـن الله، بـأن نصـير: «شُرَكَـاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ» (2بط 1: 4).
وفي الختام، نذكُر مرد إنجيل باكر عيد الميلاد، إذ من أجلنا: ”غيرُ المُتجسِّد تجسَّد، والكلمةُ تجسَّم. غيرُ المُبتدئ ابتدأ، غير الزمني صار زمنياً“.
(1) ”تفسير إنجيل لوقا“، الأصحاح الثاني، العظة الثانية.
(2) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 4.
(3) ”ضد أبوليناريوس“: 3.
(4) ”تجسُّد الكلمة“، 17: 5،4،1.
المزيد