المقالات
03 مارس 2020
قدسوا صوما نادواباعتكاف
هلموا معى يا أصدقائى وأخوتى الأحباء لنبحر معاً عبر هذا النهر العظيم (الصوم الكبير) حاملين معنا زاداً يكفى رحلتنا التى - بلا شك - سنتزود فيها بزاد آخر يكفى لرحلة العمر إلى السماء.دعنا الآن نرى ما هو الزاد اللازم لرحلة الصوم.
الصوم يحتاج:-
أ- التوبة القلبية :
"ارجعوا إلىّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح. ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم. وارجعوا إلى الرب إلهكم؛ لأنه رؤوف رحيم بطئ الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر" (يؤ 12:2،13). إن الصوم الكبير هو موسم التوبة وتجديد العهود... موسم العودة إلى أحضان المسيح نرتمى فيه ونبكى... نبكى على الزمان الردئ الذى مضى "لأن زمان الحياة الذى مضى، يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين فى الدعارة والشهوات وإدمان الخمر، والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرمة" (1بط 3:4).
"أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم. فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارب النهار؛ فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور، لنسلك بلياقة كما فى النهار" (رو 11:13-13).
آه... لو تحرك قلب الكنيسة نحو التوبة بحس واحد... آه لو تحرك قلبى وسط الجماعة المقدسة للعودة إلى المسيح... إن الكنيسة سبقت وأبرزت لنا نموذج توبة أهل نينوى، لنرى ونعجب كيف وماذا تفعل التوبة الجماعية... وتظل الكنيسة طوال الصوم تبرز لنا نماذج رائعة للتوبة: الابن الضال، السامرية، المخلع، المولود أعمى... وكيف أن لمسة الرب يسوع المسيح شافية للنفس والجسد والروح ومجددة للحواس وباعثة للحياة.
ربى يسوع.. سامحنى وأعف عنى وأسندنى لكى لا أخطئ إليك ثانية... دعنى أقبل قدميك وأبلهما بدموعى وحبى... دعنى أرتمى فى حضنك الإلهى كطفل فى حجر أمه... أبكى بفرح العودة... أبكى برجاء النصرة.. أبكى بروح القيامة من سقطاتى الرديئة... سأكون لك بنعمتك... لن يستعبدنى العالم ثانية... لن يسبينى الشيطان مرة أخرى... لن يخدعنى الجسد بأوهامه... لقد ذقت مرارة الخطية واكتشفت وهمها الردئ... كنت أظنها حرية مفرحة وجدتها عبودية قاسية... الآن أدرك بنعمتك أنك وحدك فيك الحرية والفرح والسعادة... وبدونك حياتى مرة وكئيبة... الآن أدرك لماذا يفرح الصائم "متى صمتم فلا تكونوا عابسين" (مت 16:6)... أننى أفرح الآن بعودتى إليك بعد التوهان... الآن أستقر فى حضنك بعد الضياع... الآن نفسى تتوق إلى القداسة بعد أن دنست نفسى وجسدى بأفعالى الذميمة.. الآن يتغير اتجاه حياتى ليكون المسيح هدفى ومحور اهتمامى بل و"لى الحياة هى المسيح" (فى 21:1) بعد أن كان العالم ولقمة العيش، والجسد، والزلات قد استولوا على اغتصاباً؛ فأفقدونى هويتى ومعنى وجودى وسلبوا منى فرحتى، وتركونى ملقى بين حى وميت أنتظر سامرياً صالحاً يضمد جراحاتى.
ب- الهدوء والصمت :
"لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (أش 15:30) إن إيقاع الحياة الصاخب، وعنف متطلبات المعيشة، وكثرة الحركة والانشغال والهموم، افقدوا الإنسان معناه وإنسانيته وحولوه إلى مجرد ترس فى ماكينة ضخمة يتحرك بتحركها، ويقف بوقوفها إن وقفت... الإنسان اليوم يعيش فى تشتت مرعب يبدد قوى الجسم والنفس والعقل فكم بالحرى قوى الروح... إننا أحوج ما نكون إلى فترات هدوء واعتكاف نعود فيها إلى أنفسنا ونغوص فى أعماقنا بدون تأثير المشتتات الخارجية... إنها رحلة إلى أعماق الإنسان لاكتشاف الهوية وضبط الاتجاهات... دعنا نختزل من برنامجنا اليومى كل ما هو غير ضرورى: الثرثرة والأحاديث الباطلة، والتليفزيون، والمكالمات التليفونية الطويلة دون داع، والزيارات غير الضرورية، والملاهى والمآدب... ألا ترى أنه سيتجمع لدينا وقت كاف للتمتع بالهدوء والاعتكاف فى جلال الصمت وخشوع العبادة... والتأمل والتعمق واكتشاف سطحيتنا وزيف علاقاتنا مع الآخرين... إن كلامنا الثرثار فى طوفان الأحاديث الباطلة قد فقد قوته ومعناه... الصوم بجلاله يعيد إلى الكلمة قدسيتها ووقارها وسلطانها... "إن كان أحد لا يعثر فى الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً" (يع 2:3)، آه لو نستطيع أن نقتطع من برنامجنا اليومى الصاخب لحظات للهدوء والاعتكاف والتزام الصمت. اسمع الصوت الذى كلم ارسانيوس قديماً: "يا ارسانيوس الزم الهدوء والبعد عن الناس، وأصمت، وأنت تخلص لأن هذه هى عروق عدم الخطية". فإن كان ارسانيوس قد لزم الصمت والبعد عن الناس طول العمر فليس بكثير علينا أن نلزمها لحظات يومياً خاصة فى الصوم.العالم اليوم يحتاج إلى شهادة حية، لا بالوعظ والكلام، بل بقديسين يحملون نوراً وفرحاً وعمقاً، ورزانة ووقاراً، ولهم سر الصمت وقوة الهدوء، كعلامة وبرهان على حضور الله فيهم.
ج- العطاء :
"طوبى للرحماء على المساكين، فإن الرحمة تحل عليهم، والمسيح يرحمهم فى يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم". "يقولون لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟".. "أمثل هذا يكون صوم أختاره؟... هل تسمى هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب؟ أليس هذا صوماً أختاره: حل قيود الشر. فك عقد النير، وإطلاق المسحوقين أحراراً، وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك" (أش 3:58-7).
"لا تنسوا فعل الخير والتوزيع (على الفقراء) لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله" (عب 16:13) لأن "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه، إفتقاد اليتامى والأرامل فى ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع 27:1) والقديس اشعياء سجل لنا ما قاله أبو مقار لرهبان من الإسكندرية "إن من لم يشأ أن يصنع رحمة من فلس واحد فلن يعمل رحمة من ألف دينار"وقال القديس الأنبا موسى القوى "الصدقة بمعرفة تولد التأمل فيما سيكون وترشد إلى المجد ،أما الإنسان القاسى القلب فإنه يدل على انعدامه من أى فضيلة""أعط المحتاجين بسرور ورضى لئلا تخجل بين القديسين وتحرم من أمجادهم" "اجذب المساكين لتخلص بسببهم فى أوان الشدة" إن الرحمة وروح العطاء إنما هما دليل على القلب الزاهد المحب لله... أنه القلب الذى يسعد بالعطاء ويفرح لفرح الآخرين والصوم المقدس فرصة رائعة لتدريب النفس على الزهد فى حطام الدنيا.. والعودة إلى الفلسفة الحقيقية التى بها نكتشف أن مكاسب العالم هى نفاية، وأن الممتلكات هى معوقات وثقل كان من الأجدر بنا أن نستثمرها فى كسب أصدقاء يقبلوننا فى المظال الأبدية (راجع لو9:16) بل والأكثر من هذا سيكون العطاء وسيلة لتقديسنا "بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شئ يكون نقياً لكم" (لو 41:11)... وكذلك الصدقة هى طريق للكمال: "إن أردت أن تكون كاملاً؛ فأذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء؛ فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى" (مت 21:19)، إذن فالصوم المقدس فرصة للتعبير العملى عن إيماننا بأنه "ليس بالخبز وحده (ولا بأى ممتلكات للدنيا) يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4:4)، "فإنه متى كان لأحد كثير، فليست حياته من أمواله" (لو15:12).
خطورة الإفطار:-
المسيحى الحقيقى هو عضو فى جسد المسيح الذى هو الكنيسة... وبرهان عضويته أنه مشارك للكنيسة فى كل ممارساتها... فنحن نصوم - ببساطة - لأن الكنيسة تصوم... لأننا منها ومعها وفيها... والروحانية الأرثوذكسية هى روحانية شركة.. كما كانت الكنيسة فى عصر الرسل تحيا حياة الشركة الكاملة، إذ كان المؤمنون يواظبون معاً على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات... فالذى يحرم نفسه من نعمة شركة الكنيسة يخطئ إلى نفسه ويسئ إلى الكنيسة.. وكأنه باع انتماءه للجسد المقدس (بأكلة عدس).. لذلك تحذر الكنيسة أولادها من كسر الصوم، لئلا يخسروا الكثير. والعجيب أن نفس القانون الذى يمنع الفطر فى الصوم، يمنع أيضاً الصوم فى الفطر (الخماسين والآحاد والأعياد)، ليبرهن أننا لا نقصد الأكل أو عدمه، لكننا نقصد الشركة والحب والعمل المشترك، يجب أن (نكون معاً)، "مجاهدين معاً بنفس واحدة لإيمان الإنجيل" (فى 27:1).
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
عن كتاب الصوم الكبير عوده الى الله
المزيد
02 مارس 2020
الصوم والشفاء
الصوم وصية إلهية وُجِّهت للإنسان لتأكيد حبه لله، وذلك حين طلب الله من الإنسان أن يأكل من كل الشجر في الجنة ماعدا شجرة معرفة الخير والشر. وهكذا وُجِد الصوم في عبادة الإنسان لله، وكان أمام الإنسان فرصة الطاعة لتأكيد محبته لله، أو المعصية والأكل والسقوط ودخول الموت إلى الإنسان، وهذا ما حدث فعلًا... لذلك حين تجسد الابن الكلمة اُقتيد بالروح للبرية صائمًا حتى يُصحّح خطأ آدم الأول، ويصير آدم الثاني رأس البشرية الجديدة. ومن هنا اكتسب الإنسان أهمية الصوم، لأنه يرفض الموت ويحب الحياة، لذلك ركزت الكنيسة في قراءات الآحاد علي الأمور التالية:
(1) علاقة الصوم بالعبادة: وهذا إنجيل أحد الرفاع قبل بداية الصوم، ويضع صورة العبادة المقبولة: في صلاة في المخدع، وصوم داخلي بقناعة وتُعفّف النفس، وصدقة مُخفاة عن أعين الجميع وعطاء المديون وليس المتباهي بمنطق «من يدك وأعطيناك... والمعطي المسرور يحبه الرب»، كمن هو فرح بسداد ديونه للرب المسئول عن الفقير والمحتاج. وهنا دعوة للاستشفاء من التباهي والمتعة بالتفضُّل علي الآخر.
(2) علاقة الصوم بالنصرة: كما انتصر السيد المسيح على الشيطان الذي لم يستطع أن يُسقطه كما حدث مع آدم الأول، وذلك أعطى للإنسان الجديد كرامة أقوي وأعلىن حتى مع إمكانيات العهد الجديد ينتصر على عدو الخير بصورة تجعله يحيا بالفضيلة والقداسة الداخلية بعيدًا عن موت الخطية. وهذا نوع من الشفاء من مرض الخطية، فالذي يبدأ بالعبادة ومنها الصوم، يصل إلى النصرة على موت الخطية.
(3) علاقة الصوم بالعودة لبيت الآب: حيث السيادة ورفض عبودية الكورة البعيدة مع الخنازير المتسخة، والتمسك ببيت الآب وبالأمان وبالغذاء والحياة الكريمة، والاستشفاء النفسي والجسدي. والصوم من العوامل الأساسية لحفظ إرادة الإنسان صالحة نقية، وتظل اختيارات الإنسان تُفرح قلب الله دائمًا بنعمة الله.
(4) علاقة الصوم بالمصالحة: حين التقي الرب بالسامرية لكي يُنهي العداوة بين اليهود والسامريين، إذ هو المخلص والمصالح الإنسان مع الله والإنسان مع أخيه والإنسان مع الخليقة. وهنا نجد المصالحة تبدأ مع الله ثم مع الإنسان ثم مع الخليقة، وبذلك تمنح الحياة، لأن الخصومة موت لأنها عداوة، أمّا المصالحة فحياة.
(5) علاقة الصوم بالشفاء: وهذه نتيجة لكل ما سبق بالصوم. والشفاء هو المحصِّلة لبركات الصوم في كل ما سبق الحديث عنه. وشفاء الإرادة التي بدأت بالعبادة، فاختزنت للنصرة على الشر، بفضل العودة لبيت الآب، والمصالحة التي تقدِّس الإرادة، وتُنير العينين لرؤية الحياة الأبدية، بالقيامة التي تهزم الموت إلى الأبد، من خلال الخلاص والفداء الذي نحتفل به في أسبوع الآلام، وصولًا إلى القيامة التي تعلن جسد الحياة الأبدية. وواضح جدًا أن الصوم كعبادة، مع الصلاة والصدقة، يُحرّر النفس من سلطان الشيطان، ويعيدنا لبيت الآب، ويُنهي العداوة بالمصالحة الشافية للروح بالتوبة، وللنفس بالتوبة، وللنفس بالقداسة، وللجسد بالحفظ من إغراءات أو شهوات تضر بالكيان الإنساني. ونخلص من كل هذا أن مراحل الشفاء الإرادي من أي ضرر شرير تتوقف على الصوم بطريقة روحية تقدّس الإرادة، لذلك قيل «وتنبت صحتك سريعًا» (إش58: 8).
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
01 مارس 2020
الأحد الأول للصوم الكبير أحد الكنوز
(عظة على إنجيل متى19:6ـ33)” لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ ” (مت19:6)وبعد أن أخرج السيد المسيح من نفوسنا مرض التفاخر والعُجب، نراه يبدأ في الوقت المناسب حديثه عن الفقر الاختياري. إذ أنه لا يوجد شئ يشجّع المرء على محبة المال أكثر من حب المجد الباطل.وفيما سبق اكتفى الربُّ بأن يوصينا أن نصنع الرحمة. أما هنا فبيّن لنا كيف تكون هذه الرحمة، بقوله: ” لا تكنزوا لكم كنوزًا“، وذلك لأنه لم يكن ممكنًا في بداية حديثه أن يُركَز الكلام كله دفعة واحدة حول ازدراء الثروات وذلك بسبب طغيان حب المال. لذا نراه يُجزّئ الحديث إلى مقاطع صغيرة، ويقدّمه قطرة قطرة للنفوس كي يصبح كلامه مقبولاً، لهذا فقد قال في البداية ” طوبى للرحماء” (مت7:5). وبعد هذا ” كن مراضيًا لخصمك” (مت25:5)، ثم أضاف: ” من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك اترك له الرداء أيضًا” (مت40:5).وهنا ما هو أعظم بكثير، إذ لا يُفترض وجود خصم أو طرف آخر، بل إنه يريد أن يعلّمنا ازدراء الثروات نفسها ويوضّح لنا أنه يَسِنّ هذه الشرائع لا من أجل الذين ينالون الصدقة بل من أجل الذين يعطون الصدقة. وفي هذا الموقف أيضًا لم يَقُل السيّد كل ما أراد، بل تكلّم بلطف لأن الوقت لم يكن قد حان، وهو هنا يفحص الأفكار فقط، متخذًا موقف الناصح أكثر منه موقف المُشرّع من جهة أقواله حول هذا الموضوع وبعد أن قال ” لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” أضاف” حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ ” (19:6) حيث إنه يلمّح إلى الأمور التي يخافون منها بالأكثر، إذ يقول: ” مما تخاف؟ هل تخاف أن تنفد أموالك إن أنت تصدّقت بها؟ لا، إعط صدقة وتأكد أن أموالك لن تنفد، بل ستزداد بشكل عظيم حقًا، لأن الخيرات السماوية ستُضاف إليها. لقد شدَّ انتباههم بقوله لهم إن كنزهم لن يُنفق بل سيبقى هكذا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى جَذَبَ انتباههم إلى أمر آخر، إذ أنه لم يقل فقط: ” سيحفظ كنزكم إن تصدقتم”، بل هدّد بالشيء المعاكس أيضًا، وهو أنه سيَفَنى إن لم تتصدقوا… وكيف؟ أسيَفنَى السوسُ الذهَب؟ بالطبع لا، لكنهم اللصوص. وهل صار الجميع ضحايا للسرقة؟ إن لم يكن الجميع فعلى الأقل الأكثرّية منهم. ولهذا فإننا نجد الربّ، وكما قلت سابقًا قد طرح أمرًا آخرً بقوله: ” لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا” (مت21:6). حتى ولو لم يحدث أي من هذه الأشياء، فإنك ستتعّرض لأذى ليس بالقليل لأنك قد وضَعَتَ كل اهتمامك في الأشياء السفلّية، وصرت عبدًا بعد أن كنت حُرًا، ولأنك نحيّت جانبًا الأمور السماوية، وأصبحت غير قادر على أن تدرك أي شئ منها، وصار كل تفكيرك يدور حول المال والربا والقروض والأرباح والأمور التجارية الخسيسة، فهل هناك ضياع أكثر من هذا؟
إن شخصًا كهذا يكون أسوأ من أي عبد ـ إذ أنه تخلّى عن أهم شئ، أي عن سمو الإنسان وحريته فمهما تحدّث معك أي شخص فأنت عاجز عن سماع الأمور التي تهم خلاصك، إذ أن ذهنك كله منحصر في التفكير في المال، ومُقيد بواسطة طغيان الثروة، مثل كلب مربوط بسلسلة قوية إلى قبر، تنبح على كل من يقترب منك، وبغير توقف تحرس ثروات غيرك. أيوجد حماقة أكبر من هذه؟ولأن حديثه هذا كان أعلى من مستوى سامعيه، ولم يكن من السهل لكثيرين أن يروا من أول نظرة أين تكمن العلّة، وبالتالي لم تكن الفائدة واضحة، لكن كانت الحاجة إلى مستوى روحي يَقدْر على التمييّز، ومع أن هذا كان واضحًا من حديثه عندما قال” حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك“، إلاّ أنه أوضحه أكثر عندما وجّه الحديث لا عن الأشياء المعقولة، بل عن الأشياء المحسوسة بقوله إن: ” سراج الجسد هو العين” (22:6)، ومعنى قوله هذا هو ما يلي لا تدفن الذهب أو أي شئ من هذا القبيل في الأرض، لأنك ستكنز هذا كله، ثم يمتد إليه العث والصدأ وأيادي اللصوص، وحتى إن لم تتعّرض كنوزك لمثل هذه الأضرار، فإنك لن تنجو من استعباد قلبك واستمالته إلى كل ما هو أرضّي، إذ ” حيث يكون كنزك يكون قلبك أيضًا“. أما إن وضعت كنزك في السماء، فإنك لن تجنى هذا الثمر فقط الذي هو الحصول على المكافآت عن هذه الأمور، بل ستكون قد نُلت مجازاتك هنا على الأرض وستأخذ أجرك معك إلى هناك لأنك وضعت اهتماماتك فيما هو في السماء، لأنه من الواضح إنه حيث يكون كنزك سيكون هناك اهتمامك أيضًا لكن إن كان هذا الكلام غامضًا بالنسبة لك فاسمع ما يلي:
” سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ ” (22:6ـ23)إن السيد يوّجه الحديث نحو الأمور التي هي في متناول حواسنا بصورة أكبر فيقول: إن كنت لا تعلم مقدار الضرر الذي يصيب (الذهن) فتعلّم من أمور الجسد، إذ مثلما العين بالنسبة للجسد هكذا الذهن بالنسبة للنفس تمامًا، فبالتأكيد إنك لن تفضّل التحلّي بالذهب وارتداء الملابس الحريرّية عن أن تكون عيناك سليمّتين، إذ تحسب أن سلامة عينيك هو أمر أكبر أهمية من كل أمر آخر. إذ عندما تكون العينان ضريرتين تضعف معظم طاقة الأعضاء الأخرى. هكذا أيضًا عندما يُفسَد الذهن ستمتلئ حياتك بشرور لا تحصى. وكما أنه في اهتمامنا بالجسم نهدف إلى جعل عيوننا صحيحة، هكذا أيضًا في نفوسنا، يجب أن يكون اهتمامنا بأن يكون الذهن صحيحًا. فإن شوّهنا الذهن، الذي ينير على بقية الأعضاء، فكيف سنرى بشكل أوضح؟ فكما أن الذي يدّمر النبع يجفّف النهر أيضًا، هكذا الذي يُطفئ الذهن (الفهم)، فإنه يُخزِى كل أعماله في هذه الحياة، لهذا يقول السيد: ” إن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون“إن الله قد أعطانا الفهم كيّ نطرد كل جهل ولنحكم بالصواب على الأمور، وعندما نعمل بهذا الفهم كنوع من السلاح والنور ضد كل ما هو خطر أو ضار، يمكننا أن نبقى سالمين، لكننا نبذّر هذه النعمة في أمور عديمة النفع ونافلة إن من يوجد في مكان مظلم، لا يستطيع أن يتحرك منه إلاّ إن سطعت الشمس. أما من لديه مشكلة في نظره فإنه لن ينظر حتى وإن أشرقت الشمس. هذا ما يحدث بالضبط لِمْنَ نتكلّم عنهم هنا. فإنهم لا يدركون ولا حتى شمس البّر الذي أشرق عليهم ويدعوهم، إذ أن الغِنَى قد أعمى أبصارهم، ولأجل هذا فهم يكونون في ظلام مضاعف: الأول ظلام في داخلهم، والثاني ظلام بسبب عدم اتباع وصيّة المعلّم فلنتبع نحن المعلّم بكل حرص، حتى نستطيع أن نجد النور الحقيقي مرّة أخرى.
سبب العَمَى:-
وكيف يمكن أن نبصر مرّة أخرى؟، هذا ممكن عندما تعرف كيف صرت أعمى. وكيف صرت أعمى؟ بالتأكيد بسبب شهواتك الباطلة. لأنه كما أن هناك سوائل تؤذى العين، هكذا شهوة المال فإنها تؤذى النظر مسببة عتامة كثيفة له. غير أن هذه العتامة يمكن أن تنقشع إن نحن قَبلنا شعاع تعاليم المسيح، إن نحن سمعنا وصاياه وكلماته القائلة: ” لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض“. وربما يتساءل شخص قائلاً: وأي شئ سأربح من السماع في الوقت الذي تتملكّني فيه الشهوة؟
تأثير كلام الله:-
إن سماع كلمة الله باستمرار قادر على إزالة الشهوة. أما إن كنت تُصّر على أن تسيطر عليك هذه الشهوة، فإعرف إن الأمر ليس هو مجرّد شهوة. فما هي هذه الشهوة التي تجعلك في عبودية ثقيلة، تئن تحت نير ثقيل ومحاصر كما في سجن، تعيش في ظلام مملوء بالاضطراب، تحتفظ بالأموال للآخرين وباستمرار، من أجل أعدائك؟ مع أي شهوة تتفق كل هذه الأمور؟ ألاّ يناسب هذه الأمور أن نبتعد عنها ونهرب منها؟ أي شهوة هذه التي تجعلك أن تترك كنوزك بين اللصوص؟ إن كنت ترغب في أموالك بالحقيقة فيجب أن تحفظها في مكان آمن. لأن ما تفعله الآن لا يدّل على إنسان يرغب في حفظ المال، لكن يدّل على حالة الاستعباد والضياع والقلق المستمر التي تسيطر عليه فإن دلّك شخص على مكان غير مطروق هنا على الأرض وآمن، وإن ذهب بك إلى الصحراء وأعطى لك وعودًا بحماية أموالك، فإنك لا تترّدد ولا تتحفظ، بل تُظهر ثقة في كلامه وتنقل أموالك حيث يرشدك. أما إن وعدك الله وليس إنسان بنفس هذه الوعود واقترح عليك لا الصحراء بل السماء مكانًا لحفظ كنوزك، فإنك لا تفعل الشيء نفسه ولا تُظهر ثقة بوعوده أو تَتَبع كلامه. وحتى وإن كانت كنوزك محفوظة تمامًا هنا على الأرض، فإنك لن تقدر أن تتحرّر من حمل الهموم بسببها، وحتى وإن كنت لن تفقدها فإنك لن تُعتَق من القلق خوفًا من فقدها. أما إن كان كنزك في السماء فإنك لن تعاني شيئًا من هذا بالمرّة، بل وأكثر من هذا فإنك ستربح لأنك لن تخفي ذهبك بل إنك تزرعه. حيث إنه لن يصير كنزًا فقط بل بذرة أيضًا وأكثر من الاثنين معًا لأن البذرة لن تبقى دائمًا، أما إن كان كنزك في السماء فإنه سيبقى دائمًا، وبينما الذهب لا يثمر، فإن كنزك هذا الذي في السماء سيعطيك ثمرًا لا يفنى. وإن حاولت أن تتعلّل بطول الزمن الذي ستحصل بعده على المكافأة، فإني أستطيع أن أبيّن لك أنك تربح الكثير هنا في حياتك على الأرض وخلاف ذلك فإني سأحاول أن أبيّن لك أن كثير مما تفعله في حياتك هنا على الأرض يكون بدون فائدة على الإطلاق إنك تتعب كثيرًا وتعمل أشياء عديدة في هذه الحياة، غير أنك لن تتمتع أنت نفسك بها. وإن وجّه إليك أحد اللوم على هذا، فإنك تجيب بأنك تفعل هذا لأولادك ولأحفادك ظانًا أنك بهذا قد أُعِّطَيَت تبريرات لعمل المزيد من هذه الأفعال. فعندما تبني القصور وأنت في شيخوخة عارمة وغالبًا ما تنتهي أعوامك قبل أن تسكن فيها. وعندما تزرع أشجارًا تعطى ثمارًا بعد سنوات عديدة، وعندما تشتري أراضي وعقارات بالتقسيط وتحوز ملكيتها بعد مدد طويلة، وعندما تفعل أشياء أخرى مماثلة ولا تتمتع بها، فهل تفعل ذلك لنفسك أم للآخرين؟أفليس إذن من الحماقة أن لا تتضايق بالمرّة هنا بسبب تأخر نهاية الأزمنة في الوقت الذي ستخسر فيه مكافآت بسبب هذا التأخير؟
الوقت قريب:-
وغير هذا فإن نهاية الأزمنة ليست ببعيدة أطلاقًا، والوقت قريب جدًا ولا نعرف، فربما في جيلنا هذا تكون نهاية الأزمنة ويأتي ذلك اليوم المخوف حيث الدينونة الرهيبة. إن علامات كثيرة قد تحققّت، والإنجيل بُشر به في كل المسكونة، والحروب والزلازل والمجاعات قد وقعت، والمسافات لم تعد بعد بعيدة. ألاّ تشاهد العلامات؟ هذه هي العلامة الكبرى أن الناس في زمن نوح لم يأخذوا بالتحذيرات بالفناء وبينما هم يمزحون ويأكلون ويفعلون كل ما اعتادوا عليه، فعندئذٍ فاجأهم العقاب الرهيب. وحدث نفس هذا الأمر مع أهل سدوم. فبينما كانوا يعيشون في حياة اللهو غير متوقعين شيئًا بالمرّة، أصابتهم الصواعق التي وقعت عليهم. فلنضع هذه الأمور إذن أمام أعيننا ونوجّه نفوسنا للاستعداد للرحيل من هنا. لأنه وحتى إن لم يكن قد جاء موعد رحيلنا جميعًا معًا، فإن نهاية كل واحد فينا هي قريبة، شيخًا كان أم شابًا. وعندما نرحل لن نستطيع أن نشترى لا زيتًا أو حتى نطلب سماحًا من الآخرين. ولن يستطيع إبراهيم أو نوح أو أيوب أو دانيال أن يشفع فينا وفي الوقت المُتاح لنا فلنعد أنفسنا لتلك المدينة السمائية، ولنجمع لأنفسنا زيتًا وفيرًا ولنكنز كل ما نملك في السماء، حتى نتمتع بها في الوقت المناسب وعندما نحتاج إليها، بالنعمة ومحبة البشر التي لربنا يسوع المسيح الذي له القدرة والمجد الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. آمين.
لا تقدرون أن تخدموا الله والمال:-
” لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ ” (24:6) ألاّ ترون أن السيّد يبعدنا قليلاً قليلاً عن الأمور المادية، وبالتفصيل يحدّثنا عن وصيّة الفقر الاختياري والنصرة على طغيان شهوة المال؟ لأنه لم يكتفِ بما سبق أن قاله، رغم أنه هام وليس بالقليل، بل أضاف أمورًا أخرى. لأنه أي شئ أفظع من الأمور التي ذُكرت الآن انتبهوا إذن بأي طريقة يوضّح السيّد ما سوف نربحه وكيف يبيّن الخسارة التي تعود علينا لو لم نفعل ما يوصينا به. لأنه يقول لنا إن الثروة لن تؤذيكم في هذا فقط، بل إنها سوف تكون سبب مهاجمة اللصوص لكم، وإنها سوف تجعل ذهنكم معتمًا إلى أقصى درجة، وتبعدكم عن خدمة الله، جاعلة إياكم أسرى الثروات. وفي الحالتين هي تؤذيكم، بدفعكم لتكونوا عبيدًا للأشياء التي يُفترض أن يكون لكم أنتم سلطانًا عليها، ومن ناحية أخرى، بإقصائكم عن خدمة الله الذي يجب أن تخدموه أكثر من أي أحد آخر. لأنه كما كان قد أوضح هناك أن الضرر هو مُضاعف وذلك عندما يضع إنسان كنزه هنا على الأرض حيث يفسده السوس ولا يضعه في السماء حيث يضمن حفظه. هكذا هنا يذكر أن الخسارة هي مزدوجة حيث إنه يتحدث عن الأشياء التي تجعلنا عبيدًا للشياطين. ولكن السيد لا يتحدّث عن هذه الأمور مباشرة بل بطريقة بسيطة عندما يقول: ” لا يقدر أحد أن يخدم سيدين” ويقصد أن السيدّين الاثنين يفرضان أمورًا كلُّ عكس الآخر، إذا لو لم يكن الحال هكذا لما كانا اثنين بل سيدًا واحدًا. كما كان ” لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة” (أع32:4)، وبالرغم من أنهم كانوا أشخاصًا عديدين إلاّ أن اتفاقهم في الرأي جعلهم وكأنهم شخص واحد. وبعد ذلك شرح هذا قائلاً إنه لن يخدمه بل إنه سيبغضه ويحتقره. وذلك ” لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر“. ويبدو أن في هذا القول تكرار، لكن الواقع هو أنه قصد أن يقول إن التغييّر إلى الأفضل هو ممكن، وذلك لئلا تقول: لقد صرت عبدًا وانتهى الأمر، لقد وقعت تحت طغيان الثروة. هو يريد إذن أن يقول إن تغييّر الحال ممكن ومن المستطاع أن يغيّر المرء ذاته من الحالة الأولى إلى الثانية والعكس وبعد أن تكلّم بصورة عامة على هذا النحو كي يقنع السامع وليقيّم ما قد سمعه، وكي يحكم وفقًا لطبيعة الأمور، يكشف السيّد أمرًا جديدًا بقوله: ” لا تقدروا أن تخدموا الله والمال“. لنرتعد عندما ندرك ماذا فعلنا حتى يقول السيّد المسيح هذا ويضع ما هو من ذهب في نفس مقام الله. ولكن إن كان هذا يصدمنا، فإن حدوثه في أفعالنا وفي تفضيلنا لطغيان الذهب على خوف الله هو أمر يصدم أكثر بكثير ماذا إذن؟ ألم يكن هذا الأمر ممكنًا بين الأقدّمين؟ على الإطلاق. قد يقول المرء ” كيف إذن تقدّم إبراهيم وأيوب في هذه الفضيلة؟ لا تقل لي عن الذين هم أغنياء، وإنما عن الذين كانوا مستعبدين للثروات. لأن أيوب كان غنيًا ومع ذلك لم يكن يخدم المال، وإنما كان يملكه ويتحكم فيه، لقد كان أيوب سيّدًا لا عبدًا. وكأنه كان وكيلاً على أموال شخص آخر. وهكذا كان يملك كل تلك الأشياء ولم يكن يشتهي أموال الآخرين، بل حتى أمواله كان يهبها لمن كانوا في احتياج وعوز. والأمر الأهم بالطبع، أنه لم يكن يفرح بما يملك كما عبّر هو عن ذلك بقوله: “… إن كنت قد فرحت إذ كثرت ثروتي” (أي25:31). لهذا لم يحزن عندما ضاعت. لكن الذين هم أغنياء الآن ليسوا كما كان أيوب. بل بالحرى هم في حالة أسوأ من أي عبد يدفع الجزية لمستبد قاسٍ. لأن ذهنهم مثل قلعة على حافة المدينة قد احتلها حب المال وشهوته. ومن هناك يرسل لهم كل يوم بأوامر تخالف القوانين ولا يوجد مَنْ يَعصى هذه الأوامر لا تكونوا مفرطى الحذق، لا، لأن الله صرّح مرّة واحدة وإلى الأبد وأعلن أنه أمر مستحيل أن تخدم الواحد وتوافق الآخر. فالواحد يأمرك بأن تأخذ ما ليس لك، والآخر يدعوك بأن تعطى حتى الذي تملكه. فالواحد يأمرك أن تكون عفيفًا، والآخر أن ترتكب الزنى. الواحد يوصيك أن تضبط معدتك، والآخر أن تكون ثملاً مترفًا. الواحد أن تكون مهتمًا بالأمور الحاضرة والآخر ينصحك باحتقارها. الواحد يجعلك تُعجب بالرخام والجدران والمباني الفخمة والآخر يعطيك ألاّ تهتم بهذه الأمور، بل بحياة التقوى. فكيف يتفق السيّدان؟ وفي هذه الحالة فإنه يدعو الشيطان “ربًا”، ليس بسبب أنه ربّ بالطبيعة، لكن بسبب تعاسة الذين يحنون أنفسهم لنيره. وبنفس هذه الطريقة فإنه يدعو البطن “إلهًا” (في19:3)، لا بسبب سلطته، بل بسبب حماقة الذين يُستعبدون له. وهذا الأمر هو أشر من أي عقاب وقادر على معاقبة كل من يقع في شراكة حتى قبل الجحيم وبعد أن يبيّن السيّد للكل الفائدة التي يحصل عليها المرء من احتقار الثروات، تحدّث عن الطريقة التي يستطيع بها الإنسان أن يحفظ ثروته وأن يكتسب إمكانية العمل بهذه الوصية، لأن أفضل التشريع لا يتعلّق بفرض ما هو مناسب، بل يجعله ممكنًا على حد سواء، لهذا أضاف قائلاً:
لا تهتموا:-
” لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ بِمَا تَأْكُلُونَ ” (25:6) ولكي لا يتعجّبوا ويتساءلوا قائلين: ” كيف نستطيع أن نحيا إن طرحنا عنا كل شئ؟”. وأمام هذا التناقض الظاهري فإن السيّد أعطى إجابة مناسبة، فلو قال في البداية ” لا تهتموا “، لبدا الكلام بالتأكيد صعبًا، لكن بعد أن أظهر الضرر الناتج عن اشتهاء المال، فإن نصيحته صارت سهلة القبول ويقول السيد: ” لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون“، فما معنى قوله ” لذلك “، يعنى الخسارة غير الموصوفة التى تصيب منْ يكون له هذا الاهتمام الزائد، لأن الخسارة التي تلحق به ليست هي فقط في ثرواته، بل بالأكثر في أهم شئ في حياة الإنسان وهو خلاصه، حيث إن هذه الأمور تبعده عن الله الذي خلقه والذي يهتم به والذي يحبه وهذا هو معنى قوله ” لذلك أقول لكم لا تهتموا “ وهو لا يأمرنا فقط بأن ننبذ كل ما لنا، بل أيضًا ألاّ نهتم حتى بطعامنا الضروري قائلاً: ” لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون“، لا لأن النفس تحتاج إلى طعام لكونها غير جسدانية، إذ أنها رغم احتياجها للطعام فمع ذلك لا يمكنها أن تبقى في الجسد ما لم يُقات الجسد. وبعدما قال هذا، أوضحه بما يجري في حياتنا وأيضًا بأمثال قائلاً ” أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ (النفس) أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ ”(25:6) فالذي يمنح ما هو أعظم كيف لا يمنح ما هو أقل؟ فالذي خلق الجسد الذي يُقات كيف لا يمنح الطعام؟ ولهذا لم يتحدّث السيّد بصورة مجرّدة قائلاً: ” لا تهتموا بما تأكلون وبما تشربون“، إنما تحدّث عن “الجسد” و”النفس”، لأنه بصدد أن يدلّك على ما يقوله بالإشارة إليهما على سبيل المقارنة. فالنفس هي عطيّة وهبة من الله، مرةً، وهي تبقى كما هي، أما الجسد فإنه ينمو كل يوم. لهذا فهو يشير إلى هذين الأمرين، خلود النفس وضعف الجسد، عندما يضيف قائلاً: “ من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدًا” (27:6)، وبما أن النفس لا تنال زيادة فإنه يتحدّث عن الجسد فقط، وأن الطعام ليس هو الذي ينمي الجسد بل عناية الله وهذا الأمر يُظهره بولس الرسول بقوله: ” إذن ليس الغارس شيئًا ولا الساقي بل الله الذي يُنمّي” (1كو7:3). وبهذه الطريقة وبأمثلة أخرى مما يدور حولنا، يحثنا السيّد المسيح وينصحنا بقوله:
انظروا إلى طيور السماء:-
” اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا ” (26:6) وحتى لا يقول أحدهم: ” نحن نفعل حسنًا بالاهتمام”، فإنه يوضّح لهم خطأهم سواء بالحديث عن النفس والجسد، أو بالإشارة إلى طيور السماء، لأنه يقول إن كان الله يهتّم كل هذا الاهتمام بالطيور الصغيرة، فكيف لا يُظهر اهتمامًا بالإنسان نفسه؟. ورغم أن مَثَلْ طيور السماء الذي أشار إليه السيّد له أهمية في إيضاح محبة الربَ وعنايته بالبشر، إلاّ أن بعض عديَمّي التقوى يمكن أن يصل عدم فهمهم إلى درجة كبيرة، فيهاجمون هذا المثل ويقولون: إنه ليس من اللائق الإشارة إلى الأمور التي تحدث في الطبيعة للحض على السلوك المستقيم أو على حياة التقوى، ولأن المَثَلّ يشير إلى أعمال تعملها الطيور بطبيعتها وللرّد على هؤلاء نقول: إنه وحتى إن كانت هذه الأمور هي في عالم الطبيعة فإنه يمكننا نحن أيضًا أن نفعل مِثلها باختيارنا، إذ لم يقل السيد المسيح: انظروا كيف تطير الطيور فهذا أمر مستحيل على الإنسان، بل إنه قال: انظروا كيف تقتات بدون اهتمام وهو نوع من الأمور التي يسهل علينا تحقيقها إن شئنا. فلو أشار السيّد المسيح إلى موسى وإيليا ويوحنا وآخرين مثلهم ممن لم يهتموا كيف يقتاتوا، لكان ممكنًا القول: ” لم نعد بعد مثلهم”، لكنه يتجاوزهم صامتًا الآن ويورد مثلاً بطيور السماء ليقطع كل عذر محاكيًا في هذا الموضوع العهد القديم أيضًا، حيث يورد أمثلة من حياة النحلة والنملة (انظر أم6:6)، والسلحفاة والسنونة (انظر إر7:8)، وعندما نستطيع نحن أن نفعل أمورنا باختيارنا، وهي في نفس الوقت أمور تفعلها الطيور بطبيعتها، فإن هذا لا يكون دليلاً عظيمًا على كرامتنا. فإن كان هو يعتني بالكائنات التي يسود عليها، فكيف لا يعتني بالإنسان نفسه وهو سيدها. ولهذا قال:” انظروا طيور السماء” لأن هذا القول هو غير مقبول، ولكنه قال إن الطيور: ” لا تزرع ولا تحصد“. قد يُقال: ماذا إذن؟ هل يجب ألاّ نزرع؟ لم يقل السيد إنه يجب ألاّ نزرع، بل ” يجب ألاّ نهتم “، ولم يقل إنه يجب ألاّ نعمل، بل ألاّ ننشغل كلّية بالاهتمامات، لأنه أوصانا أيضًا أن نقتات وأن لا نهتم هذا ما قاله داود أيضًا من قَبِل ” تفتح يدك فيمتلئ كل حي سرورًا ” (مز16:145) وفي موضع آخر يقول: ” المعطى للبهائم طعامها ولفراخ الغربان التي تصرخ” (مز9:147) وقد يتساءل أحد: من هم الذين لم يهتموا؟ ألم تسمع كم من الأبرار قد أوردت أسمائهم؟ ألاّ ترى معهم يعقوب راحلاً من بيت أبيه مُعدمًا من كل الأشياء؟ ألاّ تسمعه يصلي قائلاً: ” إن كان الله معي … وأعطاني خبزًا لآكل وثيابًا لألبس” (تك20:28)؟ وصلاته هذه تعكس لا اهتمامه، بل إيمانه بالله، الأمر الذي نراه واضحًا أيضًا في حياة الرسل الذين تركوا كل شئ ولم يهتموا، وفي ” الثلاثة آلاف” و”الخمسة الآلاف” (انظر أع4:4، 41:2) ولكن إن كنتم لا تحتملون أن تسمعوا أقوالاً أكثر كي تحرروا أنفسكم من هذه القيود الثقيلة، فاطرحوا عنكم الاهتمام إذ أن الاهتمام هو في الواقع حماقة كبيرة. فالسيّد يقول: ” من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدًا؟” (27:6) من الواضح إنه لا اجتهادنا وإنما عناية الله هي التي تفعل كل شئ حتى عندما نبدو أننا نحن الفاعلون. فلو تخلّى الله عنا، فلا عناية ولا اهتمام ولا تعب ولا أي شئ آخر سينفع، لأن كل الأشياء سوف تزول فلا تفترض إذًا أن وصاياه مستحيلة التنفيذ، لأنه يوجد العديدون ممن ينفذون وصاياه بشكل صحيح. وليس من المُستغرب ألاّ تعرفوا عنهم شيئًا. فإن إيليا أيضًا قد افترض أنه كان وحيدًا. لكنه سمع ” أبَقْيَتَ … سبعة آلاف” (1مل18:19). وبالتالي فإنه واضح أنه يوجد الآن الكثيرون الذين يعيشون كما كان الرسل يعيشون وكما كان الثلاثة آلاف والخمسة آلاف يتصرّفون. وإن كنا لا نصدق، فهذا ليس معناه أنه لا يوجد مَنْ يفعل الصلاح، بل لأننا نخاف أن نفعل هذا. تمامًا مثل الذي يسكر فإنه لا يقدر أن يصدّق بسهولة إنه يوجد مَنْ لا يشرب حتى الماء قط، الأمر الذي يمارسه الكثيرون من الرهبان عندنا. ومثل الذي له علاقات جنسّية عديدة لا يستطيع أن يصدّق أنه يمكن أن يكون للمرء حياة عذراوية. والذي ينهب أموال الآخرين يتوقع دائمًا أن يسرق آخر أمواله بسهولة هكذا من يسرفون في الاهتمام بدقائق الأمور لا يصدقون أنه من الممكن للمرء أن لا يهتم وبالتالي فهم لن يقبلوا نصيحة السيّد الرب بألاّ يهتموا. أما إنه يوجد كثيرون قد نجحوا في هذا، فهذا يمكن إدراكه من خلال النظر لسلوك مَنْ يعيشون حياة التقوى في وسطنا أما أنتم فيكفي أن تتعَلّموا أن لا تكونوا محبّي المال، وأن الصدقة هي أمر حسن وأنه يجب أن تعطوا الآخرين مما لكم. لأنكم يا أحبائي، إن نجحتم في هذا فإنكم سريعًا ستتقدّمون في فضيلة عدم الاهتمام. وبداية كل شئ أن نترك عنا الترف الزائد ونتمسّك بالاعتدال ولنتعلّم بصفة عامة كيف نعتني فقط بما هو ضروري لنا. لأن الطوباوي يوحنا عندما كان يتكلّم مع العشارين والجنود أوصاهم بأن يكتفوا بعلائفهم (انظر لو12:3ـ14). وذلك لأنه أراد أن يقودهم إلى الحكمة العالية. ولأنهم لم يكونوا مستعدين لهذا، فإنه أوصاهم بأمور أصعب من هذه لما انتبهوا إلى فعل هذه ولم يقدروا أن يطبقوا الوصية تمامًا. ولهذا عينه لن أطلب منكم ما هو أرفع من هذا لأني في الواقع أعرف جيدًا أن أمر الفقر الاختياري هو حمل لن تنؤوا بحمله الآن وبالتالي فلننشغل الآن بهذه الأمور البسيطة وهي ستُعطِى لنا تعزية ليست بقليلة. وعلى الرغم من أن الفقر الاختياري هو أمر يمارسه بعض الوثنيين وإن كان ليس من أجل هدف مناسب. غير أني سأكون سعيدًا إن أنتم قدّمتم صدقتكم بوفرة إذ أننا هكذا سنصل إلى تنفيذ وصية الرب بعدم الاهتمام سريعًا. وإن لم نفعل هذا فأي رحمة ومغفرة سنكون مستحقين نحن الذين أخذنا وصيّة بأن نكون أفضل من الناموسيين ونسبق فلاسفة اليونانيين؟ لأنه ماذا نستطيع أن نقول عندما يجب أن نكون كالملائكة وأبناء الله ونحن لا نتصرف حتى كبشر؟ لأنه عندما ينهب المرء ويصير نهمًا فإنه يعكس لا خصائص البشر، بل خصائص الحيوانات المفترسة. غير أن ما تفعله الوحوش هو من طبيعتها، أما نحن فرغم أننا قد كُرّمنا بموهبة العقل، فإننا نفعل ما لا يناسب طبيعتنا، وعلى هذا فأي مغفرة نستحق؟فطالما فهمنا تلك الحكمة العالية التي أمامنا فلنجاهد لنَصلْ إلى قمة الصالحات التي أتمنى أن نصل إليها جميعًا بالنعمة ومحبة البشر التي لربنا وإلهنا يسوع المسيح الذي له المجد والإكرام والعزة إلى الأبد . آمين.
” وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا ” (28:6ـ29)وبعد أن تكلّم السيّد عن الطعام الضروري وعن وجوب حتى عدم الاهتمام من أجله، ينتقل إلى ما هو أسهل، لأن اللباس أقل أهمية من الطعام. ولأي سبب لم يتخذ هنا مثلاً من حياة الطيور ولا أشار إلى الطاووس والأوز والخراف؟ لأنه أراد الإشارة إلى أن هناك أشياء بالرغم من تفاهتها إلاّ أنها تتميّز بنوع من الجمال، ولهذا فإنه بعد أن ذَكَرَ الزنابق، لم يسمها زنابق بل ” عشب الحقل” (31:6)، ولم يكن راضيًا حتى بهذا الاسم، بل أضاف وصفًا لحالتها يدّل بالأكثر على ضعفها وتفاهتها بقوله: ” الذي يوجد اليوم” (30:6)، ولم يقل “الذي يوجد غدًا” بل ذكر كلامًا يبرز تفاهة هذا الشيء بالأكثر بقوله إنه ” يُطرح في التنور” ولم يقل مجرّد تعبير ” يُلبسه “، بل ” يُلبسه .. هكذا” (30:6)، أي على أحسن وجه أرأيتم كيف يُكثر السيّد من إعطاء التشبيهات الضخمة دائمًا ويعضّد كلامة بالتأكيدات. إنه يفعل ذلك كي يردهم إلى صوابهم؛ لهذا أضاف قائلاً: ” أفليس بالحرى يلبسكم أنتم” (30:6). وفي هذا القول تأكيد قوي، لأن كلمة “أنتم” لا تليق إلاّ بالقيمة الكبيرة لجنسنا، وعلى الاهتمام به، كما لو كان قد قال لهم:” أنتم، الذين منحكم الله نَفْسًا، الذين خلق الله لكم جسدًا، الذين من أجلكم خلق كل الأشياء المنظورة، الذين من أجلكم أرسل الأنبياء وأعطى الناموس، وصنع تلك الخيرات التي لا تُحصى، الذين من أجلكم أعطى ابنه الوحيد ومن خلاله نُلْتُم الهبات غير المُحصاة. وبعدما أعطى لهم البراهين الكافية على عناية الله وبخّهم قائلاً: ” يا قليلي الإيمان” لأن ذلك الذي ينصح الآخرين، لا يقدم النصيحة فقط بل يوبخ أيضًا، كي ينبه الناس بالأكثر حتى يؤمنوا بقّوة كلامه بكلام الرب هذا نتعلّمه، ليس فقط ألاّ نهتم، بل ألاّ ننبهر بفخامة الملابس، لأن زنابق الحقل تتمتّع بألوان أفخم منها ومع ذلك فهي تتساوى مع عُشب الحقل. ولماذا تفتخر أنت بأشياء يفوقها في الجمال عشب الحقل الذي لا قيمة له، والذي يُحرق بالنار؟وانظروا كيف يوضّح منذ البداية على أن الأمر سهل، ويرشدهم إلى عدم الاهتمام باستخدام الأضداد أيضًا وبواسطة الأمور التي كانوا خائفين منها، لأنه بعدما قال ” تأملوا زنابق الحقل” أضاف إنها ” إنها لا تتعب“، وذلك رغبه منه في عتقنا من التعب. فالتعب لا يكمن في عدم الاهتمام بل في الاهتمام بهذه الأشياء وكما في قوله ” لا تزرع“، فليس الزرع هو ما أراد أن نتخلّص منه، بل الاهتمام المُقلق. هكذا أيضًا في القول ” لا تتعب ولا تغزل” فإنه لا يُنهي عن العمل بل عن الاهتمام (أي عن حمل الهموم) جمال زنابق الحقل لا يفوق مَلِبسَ سليمان مرّة واحدة ولا مرتين، بل ” طوال فترة حكمه”. ولم يقل إن سليمان كان يلبس أفضل من أحدها أو شابهت ملابسه زنبقًا آخر بل قال إنه لم يكن يلبس” كواحدة منها ” لأنه كما أنه هناك اختلاف كبير بين الحقيقة والزّيف، هكذا أيضًا هناك اختلاف كبير بين جمال زنابق الحقل وملابس سليمان إذن، إن كان مَلِبس سليمان أقل منها، مع أنه كان أكثر مجدًا من كل ملوك عصره، فمتى ستقدر أن تتفوّق، أو بالحرى أن تقترب ولو لدرجة صغيرة من جمال مثل هذا بعد هذا يعلّمنا السيد ألاّ نسعى على الإطلاق إلى مثل هذا النوع من الجمال، لأنه يجدر بنا أن نلاحظ نهاية هذه الزنابق، فبعد نضارتها وجمالها ” تُطرح … في التنور“. فإن كان الله قد أظهر عناية عظيمة جدًا بتلك الأشياء التافهة، وذات الاستعمال البسيط، فكيف سيتخلّى عنكم، أنتم الأهم من كل المخلوقات الحيّة؟ ولماذا إذًا خلقها هكذا جميلة جدًا؟ لكي يُظهر حكمته وعظمة قوّته، وحتى يُعرف مجده عن طريق كل الأشياء. فليس فقط ” السموات تحدث بمجد الله“(مز1:19)، بل الأرض أيضًا، وهذا ما أعلنه داود قائلاً: سبحي الرب.. الشجر المثمر وكل الأرز” (مز7:148). فالبعض منها بثمارها والبعض بضخامتها والبعض بجمالها يرسلون إليه التسبيح، أي إلي الذي خلقها. وهناك أيضًا علامة على عظمة حكمته الفائقة، عندما يغدق الله جمالاً عظيمًا كهذا على الأشياء التافهة جدًا، إذ أنه لا يوجد أتفه من الشيء الذي يوجد يومًا واحدًا وغدًا لا يكون فإن كان الله قد أعطى للعشب هذا الجمال الذي لا يحتاج إليه (لأنه ما فائدة الجمال طالما ستأكله النيران؟) فكيف لا يعطيكم ما تحتاجون إليه؟. إن كان قد زيّن بسخاء ما هو أتفه من كل الأشياء وإن كان قد فعل هذا لا للضرورة بل من أجل جُودِهِ، فكم بالحرى جدًا أن يكرّمكم وأنتم أفضل كل المخلوقات، بأمور هي ضرورية لكم؟وبعد أن بيّن السيد كيف أن عناية الله عظيمة جدًا، وكان يَلَزمْ بعد ذلك أن يوبخهم، إلاّ أنه كان رحيمًا معهم بقوله إنهم قليلي الإيمان ولم يقل عديمي الإيمان” فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ ” (مت30:6)بالتأكيد إن الرّب (يسوع) نفسه يصنع كل هذه الأشياء إذ أن” كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان” (يو3:1). غير أنه في البداية لا يذكر شيئًا عن نفسه، لأنه كان كافيًا في البداية أن يبيّن سلطانه الكامل بقوله في كل وصية من وصاياه: ” سمعتم أنه قيل للقدماء.. وأما أنا فأقول لكم” (مت21:5). فلا تتعجبوا إذن عندما يحجب المسيح ذكر نفسه في الأمثلة التالية، أو عندما يذكر شيئًا قليلاً عن نفسه، إذ أن في البداية كان هدفه أن يجعل كلامه مقبولاً من الجميع، وبكل ما يقوله يُظهِر أن له فكر واحد مع الآب وأنه يعمل باتفاق مع مشيئته، وهذا ما نراه في حديثه هنا أيضًا فمن خلال كلمات كثيرة جدًا قالها السيّد لم يكف عن إظهار الآب لنا مشيرًا إلى حكمته وعنايته الإلهية واهتمامه الحنون بكل الأشياء الصغيرة والعظيمة معًا. لأنه حينما تكلّم عن أورشليم مانحًا إياها اسم ” مدينة الملك العظيم” (مت35:5)، وعندما ذكر السماء لَقبّهَا بـ ” كرسي الله ” (مت34:5). وعندما كان يتحدّث عن تدبير الآب في العالم، عزا إليه كل الأشياء قائلاً: ” إنه يُشرق شمسه.. ويُمطر..” (مت45:5). وفي الصلاة (الربانية) علّمنا أن نقول إن له ” المُلك والقوة والمجد” (مت13:6)، وهنا عن عناية الآب يقول إنه: ” يكسو عُشب الحقل“، وفي الصلاة (الربانية) أيضًا لا يدعو المسيح، الآب بأنه أباه هو بل أباهم، حتى أنه عندما يخبرهم بما نالوه من كرامة فإنهم يخجلون من أنفسهم، وعندما يناديه أباه هو، لا يتضايقون منه فإن كان من واجب المرء ألاّ يهتم بالأشياء البسيطة أو حتى الضرورية. فأي عذر يكون للذين يهتمون بالأشياء الفاخرة؟ وكيف يكون هناك عذر للذين يسهرون لكي ينهبوا أموال غيرهم؟” فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. ” (31:6ـ32)أرأيتم كيف أخجلهم أكثر وأظهر لهم أنه لم يأمر بعمل مرهق أو ثقيل الحمل؟ تمامًا فإنه عندما سبق أن قال لهم ” إن أحببتم الذين يحبونكم” (مت46:5ـ47)، فإنه كان يحثّهم ويشجّعهم على فعل ما هو أفضل وأعظم ممّا تفعله الأمم. هكذا هنا أيضًا في هذه الآية يورد ذكر “الأمم” ليوبخنا وليدّل على أن ما يطلبه منا هو واجب ضروري علينا. والسيّد لم يكتفِ بتوبيخهم فقط، بل إنه بعدما جعلهم يشعرون بالخجل الشديد فإنه أخذ يشجعهم بكلمات أخرى قائلاً: ” لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” (مت32:6). ولم يقل ” الله يعلم ” بل ” أباكم .. يعلم“، كي ينشئ فيهم رجاءً أكبر. فإن كان هو أبًا، وأبًا كهذا، فلن يقدر أن يتغاضى عن احتياجات أولاده وهم في مِحَنْ الشرور وهو يري أنه حتى البشر العاديون لكونهم آباء، لا يحتملون أن يفعلوا هكذا وبعد ذلك أضاف حجة أخرى قائلاً: ” إنكم تحتاجون إلى هذه” (32:6). ومعنى قوله الآتي: إن كنت تهتم بهذه الأشياء بحجة أنها ضرورية، فأنا أقول لك عكس ذلك، بمعنى أنه لهذا السبب نفسه يجب ألاّ تهتم، لأنها ضرورية. إذ أنه أي نوع من الآباء هو ذلك الأب الذي يمكنه أن يتغافل عن تلبية حاجات أولاده الضرورية؟ أقول إنه لهذا السبب عينه فإن الله سيمنحكم بلا ريب أكثر من هذا بكثير، حيث إنه هو خالق طبيعتنا البشرّية ويعلم بالضبط احتياجاتها أكثر منكم، ولأجل هدف معين وضع أن تكون لها مثل هذه الاحتياجات. لهذا لن يمنع الله نفسه عن أن يعطيها فيما أراد لها، أولاً هو لن يخضعهم لعَوَزْ عظيم هكذا، وثانيًا فهو يسد أي احتياج ضروري لها فلا نهتم إذن، لأننا لن نربح شيئًا بالاهتمام سوى أننا سوف نعذب أنفسنا بالأكثر. لأن الله سوف يعطينا ما نحتاج عندما نهتم وعندما لا نهتم على حد سواء، وسوف تكون عطيّته أكثر عندما لا نهتم لأنه ماذا ستربح من اهتمامك سوى العقاب الشديد لنفسك؟ إذ أنك عندما تُدعى إلى مائدة غنيّة فإنك لا تهتم بتوفر الطعام للمائدة، ولا عندما تذهب إلى النبع لتستقى تهتم بوجود المياه في النبع فلَندَع نحن أيضًا عنّا هذه الهموم، فإن عطايا الربّ لنا هي أغنى من هذه الموائد وأوفر من كل الينابيع.
اطلبوا أولاً ملكوت الله:-
” لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ ” (33:6)هكذا عندما اعَتَقَ النفس من الاهتمام، ذكر عندئذٍ السماء أيضًا، حقًا قد أتي السيّد ليحررّنا من الأمور العتيقة وليدعونا إلى موطن أعظم إنه يفعل كل الأشياء ليعتقنا من الأمور غير الضرورية، ومن انجذابنا نحو الأمور الأرضيّة، لهذا السبب ذكر الأمميّن قائلاً: ” إن هذه كلها تطلبها الأمم” (32:6)، الذين يتعبون من أجل الحياة الحاضرة فقط، والذين لا يبالون بالنعم العتيدة وليس لديهم فكرة عن الأمور السماوية. أما بالنسبة لكم، فليست هذه الأمور الحاضرة هي الأشياء الرئيسية لكن أشياء أخرى، لأننا لم نُخلق لنأكل ونشرب ونلبس، بل لكي نرضي الله ونبلغ الخيرات العتيدة، لهذا فكما أن الأشياء التي هنا على الأرض هي ثانوية بالنسبة لنا، هكذا أيضًا اجعلوها ثانوية في صلواتنا، لهذا قال السيد: ” اطلبوا أولاً ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم“ ولم يقل ” تُعطى ” بل ” تُزاد” كي تتعلّموا أنه مهما عَظُمَت العطايا التي نأخذها هنا الآن فإنها لا تُقارن بما سوف نأخذ من خيرات عتيدة. لهذا فهو ينصحنا بألاّ نطلب هذه الأمور الحاضرة بل العتيدة، وليكن لنا الإيمان بأن هذه ستُزاد إلى تلك. وبالتالي أطُلبْ الأمور العتيدة وستحصلون أيضًا على الأمور الحاضرة.. لا تطلبوا الأشياء المنظورة، إذ إنه حتمًا ستحصلوا عليها أيضًا قد يُقال: ” ألم يأمرنا بأن نسأل من أجل الخبز “، لا ، فقد أضاف “اليومي”، وإلى هذا أضاف “اليوم”، هذا الأمر يستخدمه هنا في هذه الآية إذ أنه لم يقل ” لا تهتموا ” بل ” لا تهتموا للغد” (34:6)، وهو بهذا يعتق نفوسنا من الاهتمام بالأمور غير الضرورية ووجّه أنظارنا إلى أن نطلب الأمور العتيدة، لا كأن الله محتاج أن نذكّره بل لكي نتعلّم أنه بمعونة الربّ نَصِلْ إلى ما تصبوا إليه نفوسنا من صالحات وأن نعتاد على الصلاة من أجل الحصول عليها دائمًا.
القديس يوحنا ذهبي الفم
المزيد
29 فبراير 2020
افتداء الوقت
روى القديس يوحنا الدمشقي القصة التالية فقال كان لمدينة من المدن عادة غريبة فيما يتعلق بالمُلك، فقد كان يُسمح لأي شخص بأن يكون ملكاً على البلاد، شريطة أن يكون ذلك لمدة سنة واحدة، يقومون في نهايتها بتقييده وضربه وإهانته وفي النهاية ينفونه إلى إحدى الجزر ومن ثم يمكن لأي شخص يرغب أن يتولى المُلك مكانه وكان الكثيرين يبهرهم بريق المُلك فيندفعون لإعتلاء عرش البلاد غير متحسّبين لما ينتظرهم في نهاية العام. حتى قبل أحدهم المُلك، وحيث كان له مطلق الحرية في خلال السنة التي يملك فيها، فقد سلك على نحو رائع ومغاير لمسلك الذين سبقوه . تُرى ماذا صنع ؟لقد جعل كل اهتمامه خلال ذلك العام أن يعمر تلك الجزيرة التي نُفي إليها جميع الملوك الذين سبقوه، فنقل إليها كنوز البلاد
وغرس فيها الحدائق وزرع الأرض وبنى القصور والمرافق والمنافع العامة، وجعلها مثل جنة الله ونقل إليها الكثير من الناس. حتى أنه قرب نهاية العام كان يتحرق شوقاً إلى ذلك اليوم الذي فيه يطردونه من المُلك الأرضي ليمضي إلى ذلك الفردوس الذي قضى وقته مهتماً به وكان القديس يوحنا يقصد بهذه القصة كيف ينسى الناس نهاية حياتهم هنا وما ينتظرهم بعد نهايتها وكيف لا يستثمرون الحياة الحاضرة من أجل الحياة الباقية.
نيافة الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف عام المنيا وابو قرقاص
المزيد
28 فبراير 2020
كيف تصلي؟
كل فصل من أناجيل الصوم الكبير يحمل سؤالًا، وكأن أيام الصوم هي بمثابة أسئلة يطرحها الله علينا لتكشف لنا مقدار معرفة الإنسان الروحية وطبيعته وتعمقه وعمقه في هذة الحياة الروحية. كلمة الله أجابت عن أسئلة كثيرة في السنوات الماضية وهذا العام (2017) سوف نأخذ القراءة الإنجيلية في كل يوم جمعة طوال أيام الصوم في السبعة أسابيع.إنجيـــــــل الجمعـــــــــــة الأولـــــــــــى مـــــــــــن الصـــــــــوم (لوقا11 : 1-10) يبـــــــــدأ بســـــــــؤال واضـــــــح جــــــدًا، فقـــــــد طلب التلاميذ من السيد المسيـــــح قائلين: «يا رَبُّ، عَلِّمنا أنْ نُصَلّيَ...»، ولذلك السؤال يكــــــون كيف تصلي؟ كثيرون ينظرون إلى الصــــلاة على أنها فعل روحي، وبعضهم يعتبرها فنًّا، ولكننا نرى الصلاة حياة. حياة الصلاة هي ليست حياة لوقت معين ولا في مناسبة معينة ولا في مكان معين، الصلاة حياة يعيشها الإنسان طول حياته، والوصية التي قالها السيد المسيح أن صلوا كل حين ولا تملوا، فكأن الصلاة مرتبطة بالتنفس في كل حين. والصلاة هنا تعني العلاقة التي تربط بينك وبين الله، وهذه العلاقة علاقة داخلية في القلب وليست مظهرية أو خارجية، فصمتك قد يكون صلاة، وترنيمك صلاة ووقفتك صلاة، حتى أننا نقرأ في سفر النشيد عن عروس النشيد «أنا نائمَةٌ وقَلبي مُستَيقِظٌ (بالصـــــــلاة)» (نش2:5)، وكأن نبضات القلب هي تعبير عن نبضات الحب، حب الإنسان لله وحب التواجد في حضرته على الدوام. والصلاة لا تأخذ شكــــــلًا واحـــــــدًا، مشاعرك تكون صلاة، ودموعك تكون صلــــــوات، وسجودك صلوات، وصمتك يُحسب صـــــــلاة. وداود النبي يقول هذا التعبير الجميل: «مِنَ الأعماقِ صَرَختُ إلَيكَ يا رَبُّ» (مز1:130)، لا أحـــــــد يسمـــــــع هذة الصرخة غير الله، أعمــــــاق القلب وأعمــــــــاق النفس البشرية هي التي تصلي وتخاطب الله، والله يسمع ويستجيب. لذلك في كل قداس نصليه في الكنيسة نسمع نداءً من الأب الكاهـن في صورة سؤال: «أين هي قلوبكم؟»، فيـــــرد المصلـــــون ويقولون: «هي عند الرب»، ليست قلوبنا على الأرض وإنما في السماء. تقدم التلاميذ للسيد المسيح وطلبوا السؤال الذي نطلبـــه: «علمنـــــــا يــــا رب أن نصلـــــي»، هل تحتاج الصـــــــلاة أن نتعلمهــــــا؟ هل نحتاج إرشادًا لنصلي؟ هل لابد من الحكمـــــة؟ نعم! لذلك أعطاهم السيد المسيح النموذج المثالي للصلاة، وهي التي نسميها الصـــــلاة الربانيـــــة وأحيانًا نسميها صلاة الصلوات. وسلمنا الرب هذه الصـــــــلاة في عبارات موجزة قليلة ولكنها واسعـــــة المعانـــــــي، وصــــــارت هذة الصلاة هي الصلاة الرسمية في المسيحية، ونصليها شرقًا وغربًا، ويمكن أن نعتبرها بمثابة البذرة التي نشأت منها كل صلواتنا.وهذه الصلاة قصيرة ولكن عميقـــــة المعنى، وأريد أن أتأمل معكم في هذه الصـــــــلاة في عشرة معانٍ متكاملة...المعنــى الأول: أن فيها روح البنـــــوة، فحين تصلي وتقول: أبانا في بدء الصــلاة، معناها إني أنا ابن لك يا رب. شعور البنوة حلو يريح الإنسان.المعنــــى الثانـــــي: ننادي الله «أبانا» بصيغة الجمع وليس أبي، وكأن كل الموجودين إخوتي، أي روح الأخوة التي تجمعنا، فلنا أب واحد هو الله الآب. ولذلك قيمة الصلاة أنها تجمعنا معًا. أيضًا حين نخاطب الكاهن ندعوه «أبونا» وأيضًا بصيغة الجمع، والكنيسة الإثيوبية تنادي الأب البطرك والأب الأسقف والأب الكاهن بكلمه «أبونا» حتى اليوم.المعنـــى الثالــــث: وهو روح المهابـــة، فأنت تقف أمام أبينا الذي في السماء، وتحمل نسمة حياة من السماء. لست مخلوقًا أرضيًا بل مخلوق من السماء. وحين تقف أمام الحضرة السماوية فيجب أن يكون ذلك بمهابة وخشوع.المعنى الرابـــع: «ليتقدس اسمك» رغم أنهما كلمتان والعبارة قصيرة، ولكن ليتقدس اسمك يا رب في حياتي، وهذه روح القداسة. أحيانًا في مسيره حياه الإنسان ينسى اسم الله وينسى تقديس اسم الله، ولذلك نعتبر القسم خطية لأن الإنسان يستخدم اسم الله بلا مصداقية. في إنجيل يوحنا تجد هذه الآية الجميلة «لأجلِهِمْ أُقَدِّسُ أنا ذاتي» (يو19:17)، الأب في بيته يقدس نفسه أي يجعل نفسه أمينًا على أسرته، الخادم في الكنيسة وكل مسئول في المجتمع يقدسون أنفسهم من خلال الأمانة في المسئولية. ليتقدس اسمك يا رب في كلامي فلا يكون غامضًا أو ملتويًا بل بالحق.المعنــى الخامــــس: «ليأتِ ملكوتك» وهنا روح الاستعداد. فالإنسان المؤن ينتظر ملكوت الله أو ينتظر أن يكون له نصيب في السماء. ليأتِ ملكوتك أي الإحساس اليومي بأنك مدعو لهذا الملكوت، مدعو أن يكون لك حياة في السماء، الحياة الأبدية التي بلا نهاية. مثل العذارى الحكيمات والجاهلات يشرح لنا كيف أن العذارى الحكيمات انتظرن العريس مستعدات بالزيت، أمّا الغير مستعدات فيسميهم الكتاب المقدس الجاهلات، فلم يكن لهن نصيب وأُغلِق الباب دونهن.المعنــــى الســــادس: «لتكن مشيئتك» وهذه المشيئة تعني روح التسليم. الإنسان الذي يعيش في مشيئة الله، الذي يرى كل شيء يصنعه الله أنه خير، يعيش في حياة الرضا والقبول، هو في يدي الله يقود حياته من يوم ليوم ومن سنة لسنة ومن مسئولية لمسؤلية. المعنـــــى السابــــع: «كما في السماء كذلك على الأرض»، عبــــــاره مفصليــــة: قبلهـــــا ثلاث عبارات تخـــــص الله. نريـــــد يــــا رب أن الأرض التي خلقتها لنا تكون مثل السماء، أريد كنسيتي مثل السماء، وكذلك وطني، بل والبشرية كلها تكون كما السماء. السماء كلها سعادة وفرح وصفاء، ونريد أن تكون الأرض هكذا. السماء قلبها واسع وكلها سلام، ونريد سلامًا على الأرض... وهذه نسميها روح الاتكال أو سماوية الطابع.المعنـــــــى الثامـــــن: «خبزنا كفافنــــــا أعطنـــــا اليوم»، ونسميها روح القناعـــــة. والقناعة صورة من صور الرضـــــا أو الشبع الداخلــــي، ولن يأتي الرضا أو الشبــــع الداخلـــي مــــــــن أمـــــــــور ماديــــــه أبدًا، ولكن بقدر ارتباطك ووجودك في الحضرة الإلهية بقدر ما يكون شبعـــــك، لأن القلب لا يشبـــــع بطعام ولا بماديات ولا بالتراب بل بالله فقط. المعنى التاسع: «اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا». الله صاحب المغفرة، ولكنه أعطى للإنسان قوة المسامحة، والمعادلة أكثر من رائعة! فعلى قدر ما تسامح الآخر على قدر ما تحصل على غفران الله، ورغم بساطتها إلّا أن الإنسان أحيانًا ما ينساها! وهذه نسميها روح المغفرة. أتعجب حين يحدث خلاف بين اثنين ويستمر لأيام بل وسنين، وأتساءل: ألا تصلون أبانا الذي...؟! المعنــى العاشــــر: «لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير». هي روح الحرص، نحن نعيش في عالم فيه الخير والشر، وفيه ضعفات كثيرة وخطايا متنوعة، فكيف يحترس الإنسان لنفسه، ونحن نعلم أن الخطيه يسبقها غفلة أو نسيان للوصية، لذا نقف أمام ربنا ونقول: لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير. طالما تحصنت بروح الصلاة الدائمة فلا يقدر العدو أن يؤذيك ما لم تؤذِ أنت نفسك. الصلاة الربانية تقــــدم لك نموذجًا للصلاة، سواء روح البنوة أو الأخوة أو المهابة أو القداسة أو روح الاستعداد أو الاتكال على الله أو القناعة أو المغفرة أو االحرص والانتباه. كل هذه مفاهيم تدخل في الصلاة. مشكلة الإنســـــــان المعاصــــــر أنه يحيــــــــا في عصر السرعة، لكن الحياة الروحية ليست بهذه السرعة. فحين تزرع لبد أن تنتظر ثلاثة أو أربعة شهور حتى تثمر، وهناك نباتات تحتاج لسنين، فلكل شيء وقت. في هذا مثل صديق نصف الليل (لو11) يعلمنا اللجاجة أي استمرار الطلبة أمام الله، وكأنك تقول لله إنه ليس لي غيرك ولا أستطيع أن أذهب لأحد آخر. وقد سمعتم عن القديسة مونيكا التي ظلت تصلي 20 سنة وبدموع من أجل ابنها أغسطينوس، حتى تغير وصار قديسًا. لم تصلِّ يومًا ولا اثنين بل 20 سنة! قيسوا على هذا كثيرًا. ولذلك اللجاجة أحد عناصر نجاح الصلاة. والله عندما يعطيك أو لا يستجيب إنما يفعل هذا لخيرك. ولذلك في آخر هذا الفصل يقول لنا «اسألوا تُعطَوْا، اُطلُبوا تجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لكُمْ»، إياك من اليأس أو الشك إن كان الله يسمع صلواتك، بل هو يسمع كل كلمة، يسمع مشاعرك من الداخل وأنين قلبك. اسألوا باللسان، اطلبوا بمشاعر القلب، اقرعوا باللسان والمشاعر والإرادة. لقد أعطانا الله نعمة الصلاة، ونعمة التواجد في الحضرة الإلهية، ونعمة الاستجابة، كل إنسان ومهما كان ضعفه ومهما كانت كلماته يستطيع أن يصلي، والله يسمع ويستجيب الصلاة. يعطينا مسيحنا أن تكون حياتنا كلها صلاة، كما يقول داود النبي: «أمّا أنا فصلاة»...
قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
27 فبراير 2020
التناقض المزعوم بين الأسفار وبين سِفْرُ صَمُوئِيلَ الأَوَّلُ
1- وبين اصحاح 8 : 2، 1 اى 6 : 28ففى الاول ان اسم ابن صموئيل البكر يوئيل وفى الثانى وشنى. فنجيب ان وشنى كلمه عبرانيه تعنى (والثانى) وظن البعض ان الجمله فى 1 اى ناقصه بحذف كلمه سهوا وهى يوئيل وان المراد بوشنى (والثانى) غير انه جائز ان يكون وشنى اسم ثانى ليوئيل لانه كثيرا ما يوجد فى جداول الانساب اكثرمن اسم لشخص واحد.
2- وبين اصحاح 16 : 5، مز 119 : 104 ففى الاول امر الله صموئيل ان يقول بينما كان ذاهبا لمسح داود ملكا انى جئت لاذبح للرب وفى الثانى يقول الرب (ابغضت) كل طريق كذب فنجيب ان الكذب هو اقتناع السامع بغيرما ينوى المتكلم. واذا فحصنا قصه صموئيل نجد انه اخبر بالذى ينويه وهو تقديم الذبيحه. اما اذا قيل ها كان ذلك كل ما نوى ؟ فهذا السؤال لم يقدم لصموئيل ولو سئل عن تبيان كل اغراضه المقصوده من حضوره وقتئذاك ولم يخبر الا عن امر الذبيحه لكان للتهمه محل. اما وقد اجاب عن بعض ما نوى فى حال لم يسال فيه عن الكل فهو صادق.ولا مجال لتشبيه هذه الحادثه بحادثه كذب ابراهيم الوارده فى (تك 12 : 13) حيث قال عن ساره انها اخته، فابراهيم وان كانت ساره اخته من ابيه الا ان السؤال المقدم له كان عما اذا كانت زوجته ام لا، وبالاجابه انها اخته افهم سامعيه انها ليست زوجته وبناء على ذلك اخذت لبيت فرعون الذى لما وقف على جليه الامر وبخ ابراهيم وصرفه.
3- بين اصحاح 18 : 19، 2 صم 21 : 8 ففى الاول ان ميرب ابنه شاول اعطيت زوجه لعدريئيل المحولى، وفى الثانى ان ميكال اخت ميرب هى زوجته.
فنجيب : فى الترجمات القديمه ميرب فى موضع ميكال. قال بعضهم (والظاهر ان وضع ميكال فى العبرانيه بدلا من ميرب ضرب من المجاز المرسل) قرينته اشتهار قصه ميرب مع داود والغرض من الاختصار، فيكون مراد كاتب سفر صموئيل الثانى بقوله واخذ الملك ميكال انه اخذ بنو ميرب التى كان من الواجب ان تكون موضع ميكال امراه داود لان شاول وعد داود بميرب لكنه فى وقت اعطائه اياها زفتالىعدريئيل المحولى (1 صم 18 : 17). واشتهار هذه القصه بين كل الشعب قرينه ذلك المجاز. والمترجمون القدماء ترجموا اليها من مثله.
4- بين اصحاح 21 : 1، مر 2 : 62 ففى الاول ان داود جاءالىاخيمالك رئيس الكهنه وفى الثانى وفى الثانى انه جاءالىابياثار. فنجيب ان ابياثار كان ابن اخيمالك (1 صم 23 : 6) وكان مشاركا اياه فى خدمته وصار بعده رئيسا للكهنه. ثم ان ابيثار كان رئيس للكهنه طول مده ملك داود. ولعل داود تقابل مع ابياثار ولكن صموئيل نسب المقابله لاخيمالك باعتباره رئيس للكهنه حينئذ. وقال بعض المحققين ان لفظ ابياثار اطلق على كل من الاب والابن. هذا فضلا عما هو معلوم من انه كان يتفق ان يكون للانسان اسمان فابيمالك المذكور فى عنوان مز 34 هو اخيش المذكور فى (1 صم 21 : 11).
5- بين اصحاح 27 : 1 و2، 29 : 6 ففى الاول ان داود لجاالىاخيش ملك جت الوثنى وفى الثانى ان اخيش حلف لداود قائلا (حى هو الرب) ولا يقسم هذا القسم رجل يعبد الاوثان. فنجيب : حلف اخيش الملك باسم الرب ليوافق داود فى دينه حتى يصدقه او لانه كان يظن ان الرب من جمله الالهه المعبوده عند الامم.
6- بين اصحاح 28 : 7 – 25 وبين ار 14 :14 وحز 13 : 17 و 8 ففى الاول قيل ان عرافه عين دور استحضرت صموئيل النبى بعد موته، وفى الثانى يذم العرافه وينسب لها البطلان والكذب. فنجيب : سبق ان راينا ان الله كثيرا ما يستخدم الحوادث غير الصالحه لمجد اسمه. وهو له المجد لم يكن العله فى حدوث هذه الحوادث بل سببها الانسان الناقص. فاذا حدثت من الانسان استخدمها لاتمام مقاصده. وهذا ما نفهمه من حادثه عرافه عين دور. فالمراه كانت متعوده ان تستحضر الشياطين والجان وتستخبرهم عن امورها، ولكن هذه المراه لم يظهر لها جان او شيطان بل ظهر لها شخص صموائيل بدليل خوفها وارتعابها لانها لم تكن تخاف الشياطين لتعودها رؤيتهم ولم يكن ذلك بقوه السحر او العرافه بدليل ان ظهور صموائيل سبق قيام العرافه بشعوذتها (عد 11 و 12) وقد عرفت المراه شاول بقوه البديهه لا بقوه السحر. اما قولها (رايت آلهه يصعدون من الارض) فالفظه العبرانيه المترجمه (آلهه) بمعنى المفرد وان كانت بصيغه الجمع والدليل على ذلك ان شاول قال لها (ما هى صورته) عد 14 واللفظه ليس مدلولها الالوهيه بل تطلق احيانا على المخلوق على سبيل الاجلال والتعظيم فلذلك دعت تلك المراه صموئيل النبى آلهه.
المتنيح القس منسى يوحنا
عن كتاب حل مشاكل الكتاب المقدس
المزيد
26 فبراير 2020
قِدِيسات جَمِيلات
الجمال هِبة إِلَهِيَّة تُعلِن جَلاَل الله وَإِحسانه فَكيفَ يتحوَّل إِلَى وسِيلِة عَثَرة وَهَلاَك فَلاَ ننسىَ أبداً أنَّ الله سَمَحَ أنْ يستخدِم الجمال لِمجد إِسمه القُدُّوس بَلْ وَلإِنقاذ شعبه المُقدَّس كما سنرى فِى جمال أستِير المَلِكة الَّتِى قَالَ عنها الكِتاب المُقدَّس وَكانت الفتاة جَمِيلة الصورة وَحَسَنَةَ المنظر ( أس 2 : 7 )فَكَانَ جمالها سبباً فِى إِختيارها مَلِكة لِتُخَلِّص شعبه وَأيضاً مُوسى النَّبِى قائِد الشَّعْب العظِيم إِستخدم الله جماله وَكَانَ سبباً فِى إِستبقاء حياته وَلَمَّا رأتهُ أنَّهُ حَسن خبَّأتهُ ( خر 2 : 2 ) وَكَانَ جَماله سبباً لِجذب إِبنة فرعُون إِليهِ فَتَرَّبىَ فِى قصر فرعُون وَتَعَلَّم وَتَهَذَّب بِكُلَّ حِكمة المصرِيين وَكَانَ الله يَعِدَّه لِقِيادة الشَّعْب داخِل قصر فرعُون وَكَانَ جَماله سبباً فِى تأهِيله لِهذِهِ الرِسالة العظِيمة وَداوُد النَّبِى قِيلَ عنهُ أنَّهُ أشقر مَعْ حلاوة العينين وَبنات أيوب البَّار قِيلَ عنهُنَّ أنَّهُ لَمْ توجد نِساء جَمِيلات كَبَنات أيوب فِى كُلَّ الأرض ( أى 42 : 15 ) وَالله أرادَ أنْ يجعل الجمال وسِيلة لإِظهار بِرَّه وَمجده فَحِينما أرسل إِبنه الوحِيد إِلَى العالم كَانَ أبرع جمالاً مِنْ بنِى البشر وَقَدْ إِرتسمت النِعمة عَلَى شَفَتيهِ فَكَانَ جَماله جاذِباً لِكُلِّ جَمال فَجَذَبَ قُلُوب شباب وَعذارى وَنِساء وَشيُوخ وَأطفال فَنَجِد القِدِيس الشِيخ الرُّوحانِى يُنَاجِيه قائِلاً أقسمت بِحُبَّك ألاَّ أُحِب وجهاً آخر غير وجهَكَ لأِنَّ من رآه ثُمَّ احتمل ألاَّ يراه وهنا نود أن نستعرض بعض القديسات الجميلات لنرى كيف أن جمالهن كان سبب مجدهن :-
القديسة أوليمبياس:-
كانت جَمِيلة الشكل جِدّاً وجهها ملائِكِى ملامِحها هادِئة ملابِسها بسِيطة تفوح مِنْها روائِح الكرامة وَالمجد وَكانت تلمِيذة لِلقِدِيس يُوحَنَّا ذهبِى الفم وَأعطاها رُتبة شمَّاسة وَكَانَ دائِماً يمدحها بِسبب رُوحانِياتها العالية وَسلُوكهاوَقَدْ قَالَ لها أنَّكِ تُظهِرِينَ بساطة بِغير تأنُق فَهَذِهِ الفضِيلة تبدو كأنَّها أقل مِنْ غيرِها لَكِنْ مَنْ يُدَّقِق فِى الأمر يَجِدها فضِيلة عظِيمة تكشِف عَنْ نَفْسَ مملؤة حِكمة وَقَدْ وَطأت تحت قدميها الأمور الزمنِيَّة وَتنطَلِق نحو السَّماء طائِرة وَيُعوِزَنِى ألف لِسان لأُنادِى بِإِسمِك مِنْ أجل بساطِة مظهرِك إِذْ بِوَاسِطَتِك تظهر كُلَّ ألوان الفضائِل المَسِيحِيَّة الَّتِى عَبَرت إِلَى الخارِج تُعلِن عَنْ الحِكمة الكامِنة فِى داخِلِك مِنْ أجل هذا أدعُوكِ وَندعُوكِ مُطَوَّبة وَهَا نرى كم مِنْ نِفُوس جَذَبتها أُولِمبِياس إِلَى المسِيح المَلك بِجَمالِها كم مِنْ شباب مجَّدُوا الله وَكم مِنْ شابَّات عرفوا الطرِيق الصَّحِيح إِذاء الجمال فَعَرَفُوا كيفَ يُمَجِّدُوا الخالِق وَيُقَدِّموا لَهُ أغلىَ مَا يملُكُون0
القديسة الشهيدة أجنس وقصتها العجيبة:-
إِنَّها فتاة صَغِيرة جَمِيلة جِدّاً أكملت جِهَادها وَنَالت إِكلِيل الإِستشهاد وَهِىَ فِى الثَّانِية عشر مِنْ عُمرِها وُلِدت فِى روما مِنْ أبوين مَسِيحِيين تَقِيين مِنْ أشراف المدِينة وَمُنذُ طفولَتِها وَأحَّبت أنْ تَكُون هيكلاً مُقَدَّساً لِمُخَلِّصها فَنَذَرت بتولِيتها وَكرَّست حياتها لِعَرِيسها السَّماوِى وَهِى لاَ تزال فِى سِن العاشِرة فَثَارَ عليها عدو الخِير مُكَثِّفاً جهده ضِدَّها لِعرقلِة سِيرتها الطَّاهِرة وَاستغلَّ جمالها الجَسَدِى لِيفقِدها جمالها الرُّوحِى وَلِتنفِيذ خطِتهُ أثَارَ فِى قلب إِبن حاكِم روما حُبَّاً شَدِيداً تجاهها وَعَقَدَ العزم عَلَى الزواج بِها وَلَكِنْ كانت المُفاجأة إِذْ سَمَعَ إِجابة أجنِس { لَنْ أتخلَّى عَنْ عرِيسِى الَّذِى سبق وَاختارنِى وَارتبطت بِهِ وَلاَ تحيا رُوحِى إِلاَّ بِمَحَبَتِّهِ فَلاَ مَثِيلَ لَهُ وَهُوَ وحدهُ يستحِق كُلَّ الحُب فَهُوَ أبرع جَمالاً مِنْ بنِى البشر حَكِيم سيِّد ممالِك الأرض غَنِى شَرِيف حنُون رَؤوف عَظِيم فَإِنَّ محبَّتِى لَهُ تُزِيدَنِى عِفة وَطهارة وَاقترابِى مِنْهُ يُزِيدَنِى نقاوة إِنِّى لَنْ أُغَيِّر أبداً عرِيسِى السَّماوِى الَّذِى سبق أنْ إِخترتهُ حَتَّى وَلَوْ وضعت أمامِى كُلَّ مُمتلكات العالم } وَهُنا بَدَأَ طرِيق الإِستشهاد إِقتادها الحاكِم بِأغلال حدِيدِيَّة إِلَى هيكل الأصنام لِتسجُدَ لها فوضعُوا أصغر قِيد حدِيدِى فِى يَدَيها وَلَكِنَّهُ إِنزلقَ مِنْ يَدَيها الصغِيرتينِ وَسَقَطَ عَلَى الأرض وَكانت تقِف ثابِتة وَلَعَنت الآلِهة فَوَضَعُوها فِى بيت لِلشَّر وَشَرَعَ الجُند يُعَرونها مِنْ ثِيابها وَلَكِنْ فِى الحال طَالَ شعرها وَصَارَ كَثِيفاً جِدّاً بِصورة مُعجِزِيَّة وَغَطَّى كُلَّ جَسَدها وَتَعَجَّب الكُلَّ مِنْ ذلِك حقاً إِنَّ الرَّبَّ هُوَ حافِظ نُفُوسَ أتقيائِهِ مِنْ يَدِ الأشرارِ يُنقِذُهُمْ ( مز 97 : 10 ) وَعِندما زُجَّ بِالفتاة فِى بيت الأشرار أضَاءَ المكان بِنُور ساطِع جِدّاً وَرأت أجنِس ملاكاً واقِفاً بِجوارِها كما وجدت ثوباً جَمِيلاً جِدّاً أكثر بياضاً مِنْ الثلج فَإِرتدته وَتَعَزَّت أجنِس إِذْ غُمِرت بِمَحَبَّة عرِيسها وَفادِيها وَاستغرقت فِى صَلاَة عميقة تشكُر إِلَهَهَا صانِع العجائِب الَّذِى يحمِيها فَلَم يجسُر أحد مِنْ الأشرار أنْ يدنو مِنْها فما مِنْ شاب دَنِس إِقتربَ مِنْ الحُجرة إِلاَّ وَتراجع مذهُولاً مِمَّا رآه وَخَرَجَ مُؤمِناً بِإِلَه أجنِس بَلْ وَأحبَّ العِفة وَالطهارة حقاً لقد تشرَّف هذا المكان الَّذِى لِلفساد بِذِهاب عروس المسِيح إِليهِ فَحَوّلَتهُ إِلَى فردوس وَمِيناء لِلطهارة وَالعِفة وَهيكل لله وَصَارَ هذا المكان كنِيسة عَلَى إِسم الشَّهِيدة أجنِس بعد مُضِى زمن الإِضطهاد أمَّا إِبن الحاكِم تجاسر وَدخل ذلِك البيت مُقتحِماً الحُجرة لِيفتِك بِأجنِس غير مُكترِث بِالنُّور العجِيب الَّذِى يملأ المكان وَأسرع لِيقترِب مِنْها وَلَكِنْ ملاك الرَّبَّ ضَرَبَهُ وَلَمْ يُمهِله فَسَقَطَ ميتاً طرِيحاً عِند أقدام الفتاة النقِيَّة الطَّاهِرة أجنِس الَّتِى سترها الله بِيَمِينه وَبَدَأَ الحاكِم يتذلَّل لها طالِباً مِنْها أنْ ترُد الحياة إِلَى إِبنه حَتَّى يعرِف الجمِيع أنَّها لَمْ تُمِيته بِفنُونِها السِحرِيَّة فَأجابت أجنِس إِنَّ ظُلمة عينيكَ وَقلبِكَ لاَ يستحِقان مِثلَ هذا الصنِيع وَلَكِنْ مِنْ أجل أنْ يَتَمَجَّد إِسم إِلهِى وَيعلم الجمِيع قوَّتَهُ وَعَظَمَتَهُ فَإِنِّى سأطلُب مِنْهُ أنْ يُقِيم لَكَ إِبنك وَجثت أجنِس وَصَلَّت إِلَى الله بِدِموع عَزِيزه راجِية مِنْهُ أنْ يَتَمَجَّد وَيُقِيم الشَّاب لِيعلم الجمِيع أنَّهُ هُوَ الإِله الواحِد الحقِيقِى وحدهُ وَمَا كادت تنتهِى مِنْ صَلاَتِها حَتَّى مَثَلَ أمامها ملاك وَأقَامَ الشَّاب فَقَامَ وَخَرَجَ فِى الحال وَهُوَ يصِيح بِعَظَمِة الإِله العظِيم القادِر عَلَى كُلَّ شىء الَّذِى يعبُدَهُ المَسِيحِيُّون وَعِند قطع رأسِها وَضَعُوها فِى السِجن أوقدوا نار تحتها وَلَكِنْ العِناية الإِلَهِيَّة لَمْ تسمح أنْ تُصِيب النَّار جَسَدها فَحَكموا عليها بِالموت بِحد السيف وَأحنت الفتاة رأسِها مُنتظِره أنْ يهوى عليها السيَّاف بحد السيف وَلَكِنْ السيَّاف لَمْ يستطِع وَارتعشت يَدَهُ وَشَحِبَ لونه أمَّا أجنِس فَكانت تلومه عَلَى تباطُئِهِ فَقَالت لَهُ ماذا تنتظِرلِماذا تتوانىَ أمِت هذا الجسد الَّذِى أعثر آخرِين أمِت هذا الجسد لِتحيا الرُّوح الَّتِى هِىَ ثمِينة فِى عينىَ الله حِينئِذٍ زمجر القاضِى مُنتهِراً السيَّاف لِيُنَفِّذ الحُكم سَرِيعاً وَهُنا غطَّى السيَّاف عينيهِ بِيَدِهِ اليُسرى وَبِاليد اليُمنىَ أطَاحَ بِرأس الحمامة الودِيعة الرَّاكِعة أمامه أُنظُروا يَا أحِبَّائِى أنَّهُ نموذج رائِع يلزم أنْ تقتدِى بِهِ كُلَّ شابَّة وَفتاة مدحها آباء الكنِيسة عَلَى عَظَمِة شجاعتِها فَيَقُول عنها القِدِيس أمبرُوسيُوس إِنَّ الفتيات فِى هذا السِن الصغِير لاَ يحتمِلنَ نظرِة غضب مِنْ والِدِيهِمْ وَيبكِينَ مِنْ وخز الإِبرة كَأنَّها جرح حاد أمَّا الفتاة أجنِس فَكانت ثابِتة لاَ تتزعزع بينَ أيدِى الجلاَّدِين المُلطَخة بِالدِماء لَمْ تكُنْ أجنِس تُدرِك بعد معنى الموت وَلكِنَّها كانت مُستعِدة أنْ تواجِهَهُ وَتذوقه فَفِى خطوات ثابِتة وَسَرِيعة تقدَّمت نحو موضِع العذاب وَرأسها مُزَين ليسَ بِضَفائِر الشَّعر وَإِنَّما بِالمسِيح رأسها وَعرِيسها وَمُتوَّجه بِإِكلِيل مُزَين ليسَ بِالورُود وَإِنَّما بِالفضائِل وَثِمار جِهادها فَكانَ لها مَا هُوَ فائِق الطبِيعة مِنْ خالِق الطبِيعة نَفْسَه كَانَ الكُلَّ يبكِى أمَّا هِىَ فَلَمْ تذرِف دمعة إِنَّها إِنطلقت إِلَى أحضان حبِيبها وَعرِيسها لِتحيا مَعْهُ إِلَى الأبد0
العفيفة لوسيا عذراء الأسكندرية :-
كانت القِدِيسة العفِيفة لُوسيا مِنْ أهل مدِينة الأسكندرية وَكانت حَسَنة المنظر جِدّاًوَكانت تشتغل بِصِناعِة النَّسِيج وَقَدْ وضعت فِى قلبها أنْ تحفظ طهارتها وَبتوليتها لله وَحَدَثَ أنْ تعلَّق بِها قلب شاب وَصَارَ يتبعها ذِهاباً وَإِياباً وَكَانَ يتردد دائِماً حول منزِلِها00فَحَزَنت الفتاة لُوسيا جِدّاً وَظلَّت تُصَلِّى إِلَى الله لِكى يُنقِذها وَيُنقِذ هذا الشَّاب حَتَّى لاَ تكُون سبب عثرة لَهُ وَيتنجس قلبه بِسَبَبِها وَفِى طرِيقها إِلَى الكنِيسة زادَ إِلحاح الشَّاب عليها فتوقفت وَسألته إِعلمنِى لِماذا تُلاَحِقنِى فِى ذِهابِى وَإِيابِى ماذا تتطلَّع وراء جسد شقِى مصِيره الفناء وَدود الأرض أجابَ الشَّاب عيناكِ فتنتانِى وَإِذا أبصرتِك لاَ يهدأ قلبِى حِينئذٍ بكت العفِيفة لُوسيا وَقالت لَهُ إِعلم يَا أخِى أنَّ العينين اللذين تُبصرهُما مِنْ الواجِب عَلَىَّ أنْ أُهلِكهُما فِى هذا الزمان اليسِير حَتَّى لاَ أُعذَّب زماناً لاَ ينقضِى فِى الدَّهر الآتِى وَفِى سُرعة وَشجاعة نادِرة خلعت الفتاة إِحدى عينيها بِمخراز كَانَ فِى يَدِها وَطرحتها أمامه ثُمَّ شَرَعت فِى خلع العِين الأُخرى إِلاَّ أنَّ الشَّاب منعها مِنْ ذلِك أمَّا الشَّاب فَإِرتعد وَخاف جِدّاً وَزالت عنهُ شهوة قلبه وَخرَّ ساجِداً عِند قدميها باكِياً نادِماً وَخرجَ وَوَزَّع مالهُ عَلَى الفُقراء وَالمساكِين وَمضىَ إِلَى الصحراء وَصَارَ راهِباً عابِداً ناسِكاً مُمَجِداً الله عامِلاً بِوَصَاياه إِلَى وقت وفاته يَا ليتَ شابَّاتنا المَسِيحِيات بنات لُوسِى وَأجنِس وَبُوتامِينا وَبربِتوا يسلُكنَ فِى نَفْسَ السِيرة وَلاَ يكُنْ لَهُنَّ قدوة غيرَهِنَّ فَيُكَمِلنَ المسِيرة إِلَى النِهاية0
كَلِمة مِنْ عِند الرَّبَّ يَسُوع:-
إِبنتِى المحبُوبة المُباركة يَا من تحمِلِى إِسمِى وَتُعلِنِى مجدِى يَا من وهبتِك مَلاَمِحِى وَجَمَالِى يَا من بسطتُ ذيلِى عليكِ وَسترتِك حَتَّى لاَ يظهر خِزى عُريِك أُوصِيكِ بِجَسَدِك الَّذِى هُوَ جَسَدِى وَأُناشِدِك أنْ تكرمِيه فِى أعيُن الجمِيع لِيكُنْ لَهُ وقار وَبهاء وَجمال كَهيكل قُدسِى زَيِّنِيه بِالفضائِل وَاستُريه بِالثِياب اللائِقة بِكَرَامَتِهِ لاَ تسمحِى لأحد أنْ يتفوَّه بِكَلِمة تُهِيننِى بِسَبَبِك يكفِى مَا أنال مِنْ تعييرات أحتمِلها بِسبب بنات الغرب واضِعِينَ صَلِيبِى فِى أعناقِهِنَّ وَهُنَّ عارِيات أمَّا أنتِ يَا إِبنة كَنِيستِى المحبُوبة مِصر الَّتِى باركت شعبها وَجعلت عليها أمانة كِرازة لِلعالم كُلَّه قَدِّمِى لِى إِكراماً عِوض كُلَّ إِهانة وَحُبَّاً حقِيقِياً عِوض كُلَّ جحُود لأِنَّهُ إِنْ فَسَدَ الملحُ فَمَاذا يُمَلَّح إِنَّهُ سَيُطرح خارِجاً وَسَيُداس مِنْ النَّاس لاَ تجعلِى لَكِ مِنْ بنات أهل العالم من تتمثَّلِى بِهِ أنا قَدْ إِشتريتِك لِى إِقتنيتِك لِى وحدِى فَلاَ تَكُونِى لِغيرِى إِحملِى شكلِى وَأنتِ قَدْ لَبستِينِى وَسِيرِى فِى طريقِى وَهَا قَدْ تركت لَكِ ألُوف ألُوف وَربوات ربوات عذارى حَكِيمات حفظُوا إِسمِى وَمَجَّدُوا جَسَدِى وَبذلوا حياتهُمْ مِنْ أجل وصايا محبتِى فَكُونِى معهُمْ دائِماً وَاتَّبِعِى خطواتِهِمْ وَلاَ تجعلِى قلبِك مَعْ الجاهِلات اللواتِى إِحتقرنَ وصاياى وَبدَّلنَ مَلاَمِحِى وَكَشَفنَ كنُوزِى الَّتِى فِى أجسادِهِمْ فعرَّضُوها لِلنهب وَالسلب مِثل هؤلاء سَأُطالِبَهُمْ بِكُلَّ مَا أعطيتهُمْ وَعلَّمتهُمْ وَكُلَّ مَا بددوه بِجهل وَغَبَاوة وَلأِنَّهُمْ إِحتقرُونِى وَسَمَحُوا لإِسمِى أنْ يُهان بِسَبَبِهِمْ سأطرُدَهُمْ مِنْ حفل عشائِى لأنَّهُنَّ قَدْ إِنحمقنَ جِدّاً أمَّا أنتِ فَمَكانِك مُعد فَاتَّبِعِى كَلاَمِى وَمحبتِى إِرفعِى نَظَرِك إِلَى فوق وَلاَ تنبهرِى بِكُلَّ مَا هُوَ زائِل وَلاَ تستنِدِى عَلَى كُلَّ مَا هُوَ ظِل زائِل بَلْ تَمَسَّكِى بِالحقٌّ الدائِم فَويل لِمن كَشَفَ مَا أردت أنْ أستره وَويل لِمَنْ إِزدرى بِعُريِى مِنْ أجله وَاستمرَ بِعزم عَادَ أنْ يُعَرِّى جَسَده وَلاَ يسمع وَلاَ يفهم أُنظُرِى إِلَى الحيوانات الَّتِى لاَ تفهم وَلاَ تلبِس هَا أنا قَدْ سترت أعضاءها بِأعضائها حَتَّى أحفظ كرامتها فَكم يلِيق بِجسد سَيَتَمجد فِى السَّماء إِعلَمِى أنَّ عينىَّ تنظُر وَتُراقِب وَتخترِق أستار الظَّلام وَمَا أُوصِيكِ بِهِ إِفعلِيه فِى الخفاء وَفِى العلن وَحَتَّى وَأنتِ فِى حُجرِتِك لأِنَّ عينىَّ هُناكَ أيضاً وَلَكِ ملاك لِحراستِك يُرَافِقِك ليلاً وَنهاراً فَإِخجلِى مِنْهُ وَاسلُكِى بِكُلَّ وقار وَعفاف وَاعلمِى أنِّى آتِى سَرِيعاً وَأُجرتِى معِى لَكِ وَلِكُلَّ من حَفَظَ كَلاَمِى وَهَا أُمِّى القِدِيسة مريم قَدْ أوصيتها بِحِفظ العذارى فَتَشَّفعِى بِها فَهِىَ تفرح بِبناتِها العفِيفات القِدِيسات إِجعلِى ملامِحها أمامِك كُلَّ حِينوَاسألِيها فِى كُلَّ مَا تحتاجِى فَهِىَ أُم قادِرة مُعِينة وَهَا نِعمتِى وَمراحِمِى مَعَكِ طول الأيَّام وَحَتَّى إِعلان المُكَافأة0
القس أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا أنطونيوس محرم بك الاسكندرية
عن كتاب ثياب الحشمة
المزيد
25 فبراير 2020
قراءات الصوم الكبير وترابطها
إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية العميقة في كل شيء، العميقة في طقوسها وقراءاتها، رتبت أن يكون هناك هدف يربط بين قراءات الصوم المقدس في الكنيسة، وهذا يتضح من خلال وجود :
1- موضوع عام للصوم المقدس.
2- موضوعات عامة لأسابيع الصوم.
3- موضوعات عامة لأيام الصوم.
4- موضوعات خاصة لأيام الصوم.
5- وهناك أيضاً موضوعان لقسمي الصوم.
6- وموضوعات للسبوت والآحاد.
أولاً: الموضوع العام للصوم المقدس :
إن الكنيسة رتبت لنا أن تدور القراءات التي تتلى خلال الصوم المقدس حول موضوع واحد وهو "الجهاد الروحي"، لأنها تعلِّم مع بولس الرسول "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب 4:12) وهى تناشد كلاًّ منا أن يجاهد الجهاد الحسن كما كان بولس الرسول يناشد تلميذه تيموثاوس قائلاً وهى تناشد كلاًّ منا أن يجاهد الجهاد الحسن كما كان بولس الرسول يناشد تلميذه تيموثاوس قائلاً: "جاهد جهاد الإيمان الحسن وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت أيضاً واعترفت الاعتراف الحسن أمام شهود كثيرين" (1تى 12:6).
ثانياً: الموضوعات العامة لأسابيع الصوم :
قسمت الكنيسة الأربعين المقدسة إلى ستة أسابيع يبدأ كل منها يوم الاثنين وينتهي يوم الأحد، وأضافت في أولها أسبوعاً للاستعداد وهو مقدمة للصوم. ثم جعلت جميع القراءات التي تتلى في أيام كل أسبوع من هذه الأسابيع السبعة تدور حول موضوع واحد وهدف واحد يعتبر حلقة من حلقات الموضوع العام للصوم.
الأسبوع الأول : تدور قراءاته حول الاستعداد للجهاد، وإذا حذفنا قراءات هذا الأسبوع سوف نجد أنها لن تؤثر على الموضوع العام للصوم لأنه استعداد.
الأسبوع الثاني : وموضوع قراءاته هو الجهاد الروحي وطبيعته.
الأسبوع الثالث : وتدور قراءاته حول التوبة أو طهارة الجهاد.
الأسبوع الرابع : هو أسبوع الإنجيل أو دستور الجهاد.
الأسبوع الخامس : أسبوع الإيمان أو هدف الجهاد.
الأسبوع السادس : أسبوع المعمودية أو صبغة الجهاد.
الأسبوع السابع : أسبوع الخلاص "خلاص الجهاد".
ثالثاً: الموضوعات العامة لأيام الصوم :
أيام الأسبوع الأول :
وقراءات هذا الأسبوع بمثابة الاستعداد لرحلة الجهاد، حيث أن قراءات الأيام السبعة لهذا الأسبوع تسير على الترتيب الآتي :
ترك الشر - الالتصاق بالخير - محبة الآخرين - النمو الروحي - الاتكال على الله - السلوك بالكمال - الهداية إلى الملكوت.
أيام الأسبوع الثاني :
بعد أن أعدت الكنيسة نفوس أولادها للجهاد الروحي على النحو السابق، فهي في هذا الأسبوع تبين من خلال قراءاتها طبيعة الجهاد المطلوب منهم فتتحدث عن:
صلاة الجهاد - صدقة الجهاد - أمانة الجهاد - دستور الجهاد - ثبات الجهاد - ضيقات الجهاد - نصرة الجهاد.
أيام الأسبوع الثالث :
وفى الأسبوع الثالث توضح لنا الكنيسة أن الجهاد لابد أن يكون متسماً بطهارة القلب والفكر عن طريق التوبة الحقيقية من خلال قراءات الأيام السبعة وهى كالتالي:
اعتراف التوبة - بر التوبة - تجارب التوبة - دينونة التوبة - أمان التوبة - مغفرة التوبة - قبول التوبة.
أيام الأسبوع الرابع :
وقراءات هذا الأسبوع تتحدث عن دستور الجهاد؛ الذي هو الكتاب المقدس وهكذا تشير موضوعات هذا الأسبوع على الترتيب التالي إلى :
روح الإنجيل - الكرازة بالإنجيل - سلام الإنجيل - إنارة الإنجيل - الإيمان بالإنجيل - العمل بالإنجيل - عزة الإنجيل.
أيام الأسبوع الخامس :
إن الهدف من الكرازة بالإنجيل هو أن يؤمن به سامعوه، والكنيسة تعالج موضوع الإيمان من خلال قراءات الأسبوع الخامس كما يلى:
اتكال الإيمان - خدمة الإيمان - رجاء الإيمان - تحرير الإيمان - قصاص الإيمان - هداية الإيمان - تشديد الإيمان.
أيام الأسبوع السادس :
إن العضوية في كنيسة المسيح لا تتم لمن يؤمن إلا إذا نال سر المعمودية، وقد رتبت الكنيسة أن توزع أبحاثها فى هذا السر على أيام الأسبوع في ضوء عقيدتها والطقس المتبع في إتمامه، لذلك فالقراءات تدور حول:
توبة المعمودية - اعتراف المعمودية - دينونة المعمودية - حياة المعمودية - قيامة المعمودية - خلاص المعمودية - إنارة المعمودية.
أيام الأسبوع السابع :
إن الخلاص هو غاية الذين يتوبون ويؤمنون بالإنجيل ويعتمدون، وقد رتبت الكنيسة أن تبحث في موضوع الخلاص ممثلا في شخص الرب يسوع من النواحي الآتية:
شهود المخلص - الاعتراف بالمخلص - الإيمان بالمخلص - قيامة المخلص - دينونة المخلص - بركة المخلص - فداء المخلص.
وعلى ذلك تسير الموضوعات طوال أيام الصوم، ويلاحظ أن هذه القراءات تتألف من فصول العهد القديم والجديد لكل يوم من أيام هذا الصوم.
رابعاً: الموضوعات الخاصة لأيام الصوم :
إن المتأمل في القراءات الموضحة لكل يوم من أيام الصوم المقدس يرى أنها تتألف من ثلاث مجموعات هي النبوات والأناجيل والرسائل. وهذه المجموعات بينها ارتباط وثيق، وكلها تدور حول موضوع واحد هو الموضوع العام لليوم.
خامساً: موضوعا قسمي الصوم :
لقد قسمت الكنيسة الصوم إلى قسمين :
القسم الأول : يتألف من أسبوع الاستعداد والأسابيع الثلاثة التالية له، وموضوعات هذا القسم كلها تدور حول ما هو مطلوب من هذا الشعب من مظاهر الجهاد الروحي، مثل ترك الشر، وممارسة الصلاة، والصدقة، والتوبة، وإطاعة الإنجيل وما إلى ذلك.
والقسم الثاني : ويشمل الأسابيع الثلاثة الأخيرة، والقراءات في هذا القسم تدور كلها حول ثمرة الجهاد، أي مدى استجابة المؤمنين له، كإيمانهم بالإنجيل والتمتع بثمار المعمودية والفوز بالخلاص.
سادساً: موضوعات السبوت والآحاد :
إن الكنيسة ميزت موضوعات السبوت والآحاد عن أيام الصوم الانقطاعي الخمسة بميزتين، فمن يدقق النظر في نظامهما يلاحظ ذلك:
أ- الميزة الأولى : أن موضوعات الأيام الخمسة تنصب على ما يبذله الشعب من جهاد، في حين أن موضوعات السبوت والآحاد تنصب على نعم المخلص المتعددة التي يمنحها لهم جزاء لهذا الجهافإذا تابوا مثلاً يقبل توبتهم مثل الابن الضال. وإذا سمعوا الإنجيل وعملوا به روى نفوسهم كما ارتوت السامرية وإذا آمنوا شدد إيمانهم كما شدد وإذا اعتمدوا أنار بصيرتهم كما استنار المولود أعمى.
ب- الميزة الثانية :
هي الارتباط الوثيق بين موضوعات السبوت وموضوعات الآحاد، فحلقات الموضوع العام في أي أسبوع تبدأ بيوم الاثنين وتنتهي بيوم الجمعة، لأن هذه الأيام الخمسة مرتبطة ببعضها، قائمة بذاتها، مستقلة عما عداهاثم تستأنف الكنيسة نفس الموضوع يوم السبت، ولكن بحلقة جديدة من الحلقات. فتطالب الشعب بناحية جديدة من الجهاد، حتى إذا قام بها حمل إليه إنجيل الأحد ثواب المخلص له على هذا الجهاد.على سبيل المثال قراءات الأسبوع الثالث تدور حول التوبة، ففي يوم الاثنين الحلقة الأولى منه تدور حول الاعتراف به، يليها تبرير المعترف، ثم تعرضه للتجارب وهكذا.. أما في يوم السبت فإن الكنيسة تحث التائب على المغفرة لغيره، فإذا فعل ذلك قبلت توبته، كما يوضح ذلك إنجيل الأحد.. أي أن إنجيل السبت يمثل جهاد الشعب وإنجيل الأحد يمثل نعمة المخلص له على هذا الجهاد.. وهكذا في كافة الأسابيع.هذه هي موضوعات الصوم كما وضعتها الكنيسة، ولابد أن نلاحظ أن الاهتداء إلى هذه الموضوعات ليس بالأمر الهين، فقد يقتضى ذلك أن نبدأ بقراءة إنجيل القداس ورسالة البولس والنبوة الأولى عدة مرات لمعرفة سر الارتباط بينها، ثم قراءة النبوات واحدة واحدة لمعرفة موضوعها الخاص، وكذلك الحال في بقية الأناجيل والرسائل - ثم البحث في مدى ارتباط قراءات اليوم ببعضها البعض لاستخراج الموضوع العام لقراءات هذا اليوم، ثم الموضوع العام للأسبوع الذي يربط بينها، فإذا انتهينا من الموضوعات العامة للأسابيع توصلنا إلى معرفة الموضوع العام للصوم كله.
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
24 فبراير 2020
فكر الصوم
الصوم ليس هو الجوع، ولكنه التوبة والرجوع بمعنى تغيير الفكر، الذي يُمثّل الاتجاه الذي يحدّد علاقة الإنسان بالله... ومن هنا كان للصوم فكر هدفه ضبط فكر الصائم حتى يتجه نحو الله ويحبه، ومن هنا كان للصوم فكر روحي قوي تقدمه الكنيسة لنا في قراءات آحاد وأيام الصوم المقدس.أحد الرفاع: العبادة في الخفاء «أبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية»، بمعنى «أدخل مخدعك وأغلق بابك» أي الاتجاه الخفي العميق في القلب الذي يحب الله ويريده. فالصوم فرصة للعلاقة الفردوسية مع الله، حيث بدأ آدم وحواء حياتهما مع الله صائميْن، أي لا يأكلان من الثمرة الممنوعة، فكانت العشرة المقدسة مع الله والحديث المتبادل معه.أحد الكنوز: أي كيف تكتنز كنزًا سمائيًا في الصوم لأنه «حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك»... والاكتناز المادي يضيع، لكن الكنوز الروحية لا تفنى ولا تتبدّد، فليست المشكلة في الاحتياج المادي، ولكن العلاج في الشبع الروحي الذي يرفعنا فوق كل الكائنات الأرضية، فلا يقدر أحد أن يخدم سيدين، بل اطلبوا أولًا ملكوت الله وبرّه وهذه كلها تُزاد لكم... فالكنز الحقيقي هو أن يملك الله على الإنسان، لكي يملك الإنسان مع الله في الأبدية السعيدة.أحد التجربة: نتيجة حسد الشيطان للصائم يحاربه بالأكل، وإذا رفضها يحاربه بالقنية «أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي». وإذا انتصر عليها يحاربه بالمعجزة «أوقفه على جناح الهيكل» ويطالبه بأن يلقي بنفسه حتى يتأكد أن الملائكة معه وستحمله بلا أذى (مت4: 1-11). وهذا هو أسلوب الشيطان: أن يحارب بالمنطق الشرير للتشكيك والتشويش ونزع السلام.أحد الابن الضال: والتركيز على ترك بيت الآب (الكنيسة)، حيث البحث عن نصيب الذات والمتعة الزائفة مع أصدقاء السوء حيث الكورة البعيدة. ولكن المال ينتهي ولا يبقى سوى خرنوب الخنازير الذي لا يجده مَنْ يريده، لأن الشيطان ليس ملجأً، بل يبغي ضلال الإنسان. والصوم يعيد الابن إلى حضن أبيه بالتوبة ورفض الكورة البعيدة، فينال الحُلة الأولى والعجل المُسمن فرحًا وابتهاجًا بالعودة المرتقبة، إذ عينا الآب لا تكفّان عن البحث عن الضال.أحد السامرية: كمثال للضلال والبحث عن الماء والارتواء بعيدًا عن الله مع ستة أزواج، فتجد عند البئر مخلص العالم والعريس الحقيقي للنفس البشرية، فيدعوها إلى الماء الحي لترتوي بعد ظمأ سنين كثيرة، لأنها تشرب من الماء الذي يعطش مَنْ يشرب منه باستمرار، فلأنها التقت بالمسيا نالت ما جعلها تُقِرّ وتعترف بأخطائها وترغب في السجود بالروح والحق.أحد المخلّع: وهو مثال للشلل الإرادي الذي يقترب من الماء دون شفاء إذ ليس له مَنْ يلقيه أولًا في الماء بعد أن يحرِّك الملاك الماء، فيأتي الإنسان الذي يبحث عنه ليشفيه ويأمره أن يحمل سريره ويمشي، لأنه المخلص الشافي للإرادة الشريرة المشلولة الضائعة.أحد المولود أعمى: حيث الشفاء الشامل بخلقة عين جديدة من التراب بيد المخلص وبالماء، حيث الاستنارة الداخلية والحكمة الحقيقية لاقتناء الإنسان الروحي المولود من فوق. وهكذا يجدِّد الصوم وفكره الروحي حياة الصائم من خلال العبادة ليكنز وينتصر ويتوب ويتجدد.
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد