المقالات
18 يناير 2019
لقَّانُ عِيدِ الغِطَاسِ
في عيد الغطاس نصلي ليتورچيا اللقان لأننا أخذنا التجديد في المعمودية كعُربون حتى نصل بالجهاد والنعمة إلى التجديد التام بصناعة أعمال تليق بالتوبة... فعندما نقف أمام اللقان نتذكر مياه معموديتنا ونذرها في يوم معمودية الرب بنهر الأردن... إستنارةً وضياءً وحالة سوية وقدس أقداس وبهاءً للنفوس؛ فلا نعود لنحمل من جديد نير العبودية؛ بل نثبت في الحرية؛ حرية البنين بممارسة الوصايا. ننظر إلى ليتورچيا لقان عيد الأنوار ونعاين الظهور الإلهي؛ مُصلين لتقديس المياة وبركتها لمسيرة تجديدنا الروحي؛ الذي لن يتم فقط بالمعمودية؛ بل بالعكوف أيضًا على تكميل الوصايا التي يتعين علينا تتميمها بخوف ورعدة... لأن كمال المعمودية يحصل بواسطة الجهاد الروحي وأعمال الحرية التي تليق برتية البنين؛ باذلين كل اجتهاد لنجعل من غير المنظور منظورًا؛ فالذي ليس عنده هذه هو أعمى قصير البصر قد نسي تطهير خطاياه السالفة (٢بط ١ : ٩).
وبالإمعان في نص قداس اللقان الليتورچي وتعابيره وقراءاته وألحانه وطقسه؛ نرى ذاك الذي بسط النعمة في ذلك اليوم وأظهر لاهوته بالتعميد؛ وهو يكمل كل بر لأجلنا ولأجل خلاصنا... كي يُهدينا إلى ملكوته حيث نهر الحياة الصافي كالبلور؛ المنبثق من عرش الله والحمَل من أجل شفائنا وشفاء الأمم (رؤ ٢٢ : ٢)، وكلما ندخل إلى عمق التقديس الليتورچي ننهل من اليُنبوع الممتد في جمال العبادة التي تربط ما هو إلهي بما هو بَشَري... من الشخص الأعمق إلى الجماعي المتحد بطاقة نهر الحياة؛ حيث تتحد الليتورچيا بالحياة وتتوحد في سينرچية Συνεργεία للروح والكنيسة عبر المناسبة الطقسية.
نتمتع بالآنية الدائمة أو ما يسميه الدارسون (التأوين) بحيث نعيش الآن وهنا عند نهر الأردن أمام فسقية اللقان في لقاء وإلتقاء عميق؛ ويكون حضورنا القداس من أجل التقديس، وهو ما نعترف به كقانون لعضويتنا مع قديسي الكنيسة؛ عندما نردد في ختام القداس (واحد هو الآب القدوس؛ واحد هو الابن القدوس؛ واحد هو الروح القدس) لأن هذا الماء لا يُعطىَ إلا للقديسين (القُدُسات للقديسين)، ونحن بإتحادنا بالقدوس نصير قديسين فيه وبه... لأنه أعطانا نعمة وعطية ومسحة وإستنارة ووشاحًا للخلود ومغطس إعادة الولادة وختم الروح القدس الملوكي الفائق القيمة؛ والتي تأتينا نعمتها مجانية وواحدة للجميع.
في النبوات وقراءات قطماروس اللقان نلمس الواقعية الروحية للحدث؛ خلال خدمة الكلمة والعبادة؛ بحيث يكون احتفالنا حيًا لا تفترق فيه الليتورچية عن الحياة. فقد وضع تقليد طقس القداس حَدَث معمودية الرب في بؤرة العبادة ليكون يُنبوعًا واحدًا لا يتغير، ماؤه حي دائم التجديد؛ نتذوق فيه حلاوة وعذوبة إنجيل الملكوت ورموز العبادة المُعاشة... حاضرة في ذاكرة الكنيسة حضورًا واقعيًا؛ في صورة كلية لأيقونة حدث الظهور الإلهي؛ والأعماق الخفية للتدبير... والتي بها فقط ندخل إلى اللاهوت الذي يظهر بديهيًا في الليتورچيا؛ وفيها فقط يمكن أن نحياه؛ لأنه يعبِّر عما لا يُعبَّر عنه، ويقدم الحدث بزَخَم كبير (صوت الآب بالسرور من السماء – الابن في نهر الأردن – الروح القدس بهيئة منظورة مجسَّمة كحمامة – ثم يوحنا المعمدان السابق الصابغ والشهيد).
وهكذا بنزول المسيح في نهر الأردن وحلول الروح القدس وإعلان صوت الآب؛ المعبَّر عنه كنسيًا بعيد الإبيفانيا Επιφάνια أي ظهور الثالوث القدوس؛ تكون حقيقة تدشين أول معمودية على الأرض على اسم الثالوث... وهنا نقف نقدم عبادتنا وكأننا في برج إلهي نتحصن ونتذكر مرتبتنا كأحرار وكأبناء وكورثة؛ كي لا نحتقر العطايا السماوية؛ بل نصير ذبائح روحية مقدَّمة على المذبح المقدس الناطق السمائي... نتاجر بالوزنة ولا نطمُرها شاكرين الجَميل الإلهي؛ عاملين حسب معطيات ومقتضيات الموهبة التي تقبلناها؛ مكرِّمين نعمة خلود المعمودية التي وضعت وسكبت في باطننا أنهار الماء الحي... لم نعُد أرضًا قفرةً فيما بعد؛ لأن الرب بصليبه فجَّر فينا ينابيع روحه القدوس وروى أرضنا لتفيض بالشهادة له في كل موضع.
مسيحنا هو النهر الأصلي الذي يصبّ في أرضنا أنهارًا هي ثمرة عمله فينا، وكل الأنهار تشهد للنهر الأصلي الحقيقي؛ تسبحه لا بالكلام وإنما بالأعمال وبتصفيق الأيادي؛ لأنه يطلب أفعالنا وأعمالنا وليس أصواتنا فقط... تتدفق فينا نعمته كمياة بلا حدود؛ فيعود ويتطلَّع لكنيسته؛ مُعلنًا أنه يمنحها إمكانيات جديدة على الدوام؛ يتعهدها بالخصب والنماء لتعود مراعيها دسمة مزروعة ومُثمرة؛ ومدنها عامرة مهيئة للسكنى لا كفردوس قديم مفقود بل فردوس حي وميراث إلهي ومياة جارية وأنهار حية وسواقي تُفرّح مدينة الله بالأعمال الصالحة والنافعة... التي تليق بالخراف الناطقة المقدسة المحفوظة في الحظيرة الإلهية - كنيسة الله؛ وبعمل المياة المقدسة التي تطهرنا من الخطايا وتجعلنا حاملين ثمر شركة الطبيعة الإلهية؛ لنحصد نصيب المؤمن (أي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن) "٢كو ٦ : ١٥).
ونبدأ في قداس اللقان بعد صلاة الشكر والقراءات الكتابية؛ نذوق المعرفة الكاملة بالعبادة وعُربون كلمة الوعظ التي تصوِّرنا وتُشكِّلنا بحسب المثال الإلهي؛ بتجديد الذهن بالروح الذي يوسِم داخلنا الملامح الإلهية إلى أن تكمُل في نفوسنا بذور التشكُّل بالمسيح وصورة المخلص الذي ضبط الخليقة بعزته؛ ودبر العالم بعنايته؛ وأبدع الخليقة من العناصر الأربعة؛ وكلل دور السنة بالأربعة أزمنة؛ وأخرجنا من العدم إلى الوجود وأنهضنا من سقطاتنا ووهب لنا ملكوته وأحساناته وجعل الخليقة كلها تطيعه وتسبحه وتخافه وتتعبد له... بسط السماء وثبت الأرض وحصن البحر وأفاض الهواء وجدد طبيعتنا بالماء والروح؛ وأغرق الخطية أسفل الماء؛ وأعطانا موهبة المعمودية التي هي بالنسبة لنا (زرع الله فينا) زرعًا لا يفنىَ ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل؛ لكن بكلمة الله الحية الباقية.
ويطلب الكاهن الرحمة (اللهم ارحمنا) رافعًا الصليب بالثلاثة شمعات؛ لأن خلاصنا ورحمتنا مقررة بفعل الثالوث القدوس... نصلي جميعًا طالبين المراحم؛ عشرة بل ومئة كيرياليسون من الله الذي خلقنا واعتمد لأجلنا؛ ليس مقابل ثمن ولا إيفاء لشيء؛ بل كهبة محبة خالصة منه... ممجدين أعماله التي تفوق الحصر ونقبل تجديدنا وتوبتنا وشفاءنا الذي يزودنا هو به بمحبته للبشر التي لا حدود لها؛ وببركة مياة اللقان التي تقدست بالصلاة والرشومات؛ عابرين الأردن الحقيقي بفرح الخلاص والمجد والنور المعطىَ لنا.
شاكرين وحيد الجنس رئيس كهنتنا الذي رُسم في هذه الرتبة بقرار من الآب، وهو الابن الحبيب الذي سُر به أبوه؛ والذي اشترك في المشي مع الناس ووقف معهم ليعتمد؛ ونزل إلى حقارتنا ووضاعتنا وأخذ شكل العبد ووضع ذاته لأجلنا، فندرك مقاصده وتدبيره الذي بسطه علينا ونسلك حسب تدبير الحياة الجديدة؛ قلبًا لحميًا وروحًا جديدًا.
إن كل مَن يتمعن في خدمة لقان عيد الغطاس يشعر بما هو أعمق من مجرد الطقس؛ ويلمس عطشه الدائم لمياة الحياة المُفاضة للنقاوة ولعمل روح الله الذي يرفّ على وجه غمر حياتنا؛ وكأننا في خلق جديد ويقظة للكون... نحيا عند النبع؛ نترك العتيق والأوحال ونقتني قطرات المياة التي تحمل الروح القدس لكل منا؛ والتي تنضح علينا بالبركة وبها ترتوي الخليقة؛ فلم يعُد هذا الماء ماءًا عاديًا (ساذجًا) لكنه أصبح حاملًا لنعمة القداسة... فليس طقسنا شكلاً أو مجرد ممارسة بلا مضمون؛ لكنه عمل تقديس لطبيعة المياة؛ يجعلها حاملة الحياة الجديدة؛ وهو توظيف للماء على نحو تقديسي.
وروح الله منشئ الخليقة الذي رفّ على وجه الغمر في سفر التكوين يبارك ويقدس المياة؛ ويجعلها بركة ونعمة لتقديس البشر والحجَر؛ فهي أولاً لتقديسنا ثم لبركة بيوتنا؛ كي تصير ببركتها وبسيرتنا بيوت صلاة؛ بيوت طهارة؛ بيوت بركة، كنائس بيتية تشهد للمسيح في العالم إمتدادًا للكنيسة (ككنائس للسيد الرب) نحتفظ فيها بماء اللقان لمنفعتنا الروحية؛ ونأخذه معنا لبيوتنا كي ننقل ما يجري في خدمة اللقان إلى حياتنا وبيوتنا؛ إذ أن عبادتنا يكمل معناها في دوامها وفي عيشها باستمرار بلا إنفصام ولا إنفصال ولا إفتعال؛ حياتنا إمتدادًا لخِدَمنا الطقسية؛ وبيوتنا هياكل مقدسة للسيد تتجه نحو المسيح مشرقها وشمسها... ونحن الساكنون فيها مغروسون بإيمان الله على مجاري المياة؛ نعطي ثمرًا في أوانه وورقنا لا يذبل وكل ما نصنعه ننجح فيه.
القمص أثناسيوس جورج
كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
17 يناير 2019
” القديس يوحنا المعمدان صوت الحق “
أولاً: الأدوار التي قام بها يوحنا المعمدان في حياته:
1ـ إعداد الشعب لاستقبال السيد المسيح:
” ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكى الذى يهيئ طريقك قدامك “، وهذه نبوة جاءت في سفر ملاخي … فأول دور قام به يوحنا هو تهيئة شعب لاستقبال السيد المسيح، وهذا يوضِّح أن أي شيء يحتاج لإعداد ، حتى مجيء المسيح يحتاج لإعداد يحتاج لمقدمة وتهيئة للعقول والنفوس.
2ـ الشاهد الأساسي على مجيء السيد المسيح:
” هوذا حمل اللَّه الذى يرفع خطية العالم “، فضلاً عن شهادته فى وقت عماد السيد المسيح: ” أنِّي قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقرَّ عليه، وأنا لم أكن أعرفه ولكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومُستقرَّاً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن اللَّه “.
3ـ قدَّم مِثالاً قوياً فى التلميذ الأمين الزاهد للسُّلطة:
يقول عن نفسه: ” أنا مُجرَّد صوت … أمَّا السيد المسيح هو اللَّه “، ويتضح لحضراتكم الفرق بين الصوت وبين الكلمة حتى في مفهومنا البشري. فظهر أمامنا أنه التلميذ الأمين الزاهد للسلطة رغم أنه كان إنساناً مهوباً فى المجتمع اليهودي ( شكله، لبسه، كلامه، أفعاله، … ) كانت تجعله شخصية مهوبة جداً في هذا المجتمع، لها كل الوقار، لها كل الاحترام لكن زاهد في السُّلطة، ولمَّا أشار على السيد المسيح قال العبارة الشهيرة: ” ينبغي أن هذا يزيد وأنِّي أنا أنقص “، لا تنسوا يا أخوتي الأحباء أنه في كل إنسان توجد ذات وهذه الذات قد تمنعه من أنه يعمل ( ممكن ذات الإنسان تمنعه أنه يعتذر وحتى إن كان الخطأ واضح … ). أحياناً نُسمِّي الذات بالكرامة، وأحياناً نُسمِّيها الكبرياء وأحياناً الحساسية ولها تسميات كثيرة.
لكن هذا الرجل العظيم يوحنا المعمدان انتصرعلى ذاته فزهد في السُّلطة وكأن لسان حاله كان يقول: ” ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ “. كان ينظر لذاته بهذه الصورة. لذلك قال عبارته الجميلة: ” هوذا حمل اللَّه الذي يرفع خطية العالم، هذا الذي قلت فيه يأتي بعدي رجل قد تقدَّمني
لأنه كان من قبلي “. ما هى هذه الروح الجميلة؟ فالناس كانت تعرفه قبل أن تعرف المسيح، لكن فى تكوينه الشخصي نجد أن البرية أعطته هذا المعنى معنى الزهد …
ورُبَّما نسمع ونقرأ في التاريخ ماذا تصنع السُّلطة في الإنسان، ولكن يوحنا المعمدان كان يعرف دوره تماماً أو ما نسميه بالحدود، أحياناً يسمونها فضيلة الإلتزام، لكن هو إنسان في داخله ذاته لا تُحاربه وذاته ليست عدواً له، نحن في المفهوم المسيحي والآبائى لنا في الأعداء ( الشيطان وإغراءات العالم وذات الإنسان ) هذه هى أعداء الإنسان الثلاثة.
الذات يمكن أن تتحكَّم فى الإنسان صغيراً أو كبيراً في منصب أو في غير منصب، حتى في الحياة الرهبانية عندما يترك الإنسان كل ماله بحسب الوصية الرهبانية ويعيش فى الفقر يترك كل ماله ولكنه قد لا يستطيع أن يترك ميوله، فتتحكَّم فيه ذاته وتضيع منه أكاليل ونِعَمْ كثيرة، أمَّا يوحنا فكان منتبهاً كثيراً.
4ـ يوحنا شهد له السيد المسيح أنه أعظم مواليد النساء:
جاء بالصلاة وجاء بعد وقت طويل وكان إستجابة الصلاة، وعندما مارس حياته كان يعرف وظيفته بالتحديد ويقول: ” مَن له العروس فهو العريس، وأمَّا صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس إذاً فرحى قد كَمل “، وهذه فيها تخلية عن الذات تماماً.
كان يعرف دوره ويقبله، وعلى الأقل ليس مُرغماً أو أن الظروف وضعته في هذا الدور ولكن يقول: فرحي قد كمل في شخصيته عندما رأى المسيح وعندما رأه في العماد، العريس هو المسيح والعروس الكنيسة ويوحنا المعمدان يفرح بالعروس وبالعريس وفرحه أعطاه أكاليل مجد كثيرة.
5ـ التوبة:
كان يرى أن التوبة هى الأساس، أساس دخول الملكوت وكان يُنادي: ” توبوا فإنه اقترب ملكوت السموات “، فكان موضوع التوبة هو الذى يشغله … فتصوَّر عظمة هذا الرجل أنه يتخلَّى عن ذاته يزهد في أي سُلطة … يشغله شيء واحد فقط: التوبة، ولذلك تضع الكنيسة القديس يوحنا المعمدان كأول نموذج في السنة القبطية.
ثانياً : مصادر القوة فى حياة يوحنا المعمدان:
1ـ أسرته:
تربَّى على يد زكريا الكاهن وأليصابات زوجته، كان زكريا وأليصابات زوجته بارَيْن زكريا الكاهن إنسان يخاف اللَّه، وأليصابات إنسانة بارَة أمام اللَّه، وإذا كان الأب والأم هكذا يكون الابن مثلهما.
بلا شك وجود هذا الأب المُصلِّي والذي يحمل طاقة إيمان في داخله والخائف الرب وكان مع زوجته يسلكان الاثنين بلا لوم ( ضميرهم مستيقظ يستطيع أن يزن نفسه في كل موقف ) فنشأ يوحنا المعمدان فى هذا الجو الجميل: بيت ترتفع فيه الصلوات وترتفع فيه قامة الإيمان وليس له إلاَّ أن يعيش
لربنا ومع ربنا. ونتخيَّل أليصابات وهى تُربِّي يوحنا وتحكي له الدموع والصلوات والسهر والعار الذي تراه في عيون الناس وفي ألسنتهم لأنها كانت عاقرة، وتحكي عن ليالى الألم، وكم من ليالي قضتها وهى في بكاء شديد وكأن السماء صامته والصلوات التى ترتفع لا تجد من مجيب، وعندما أتت فرحة ميلاده وأسمته يوحنا ( اللَّه يتحنَّن ) تهيأ لي أن القديسة أليصابات والقديس زكريا الكاهن كانا لا يمَلّوا من أنهم يُقدِّموا لهذا الصبي وصايا اللَّه من صغره.
أحيانا في التربية المُعاصرة نجد أن الأب والأم يتركا أبناءهم للتليفزيون وللإنترنت وللأصحاب يُربُّون أولادهم ويغيب دورالأب والأم المسئول عن هذه العطية.
بقدر ما تهتموا بتعليم الأبناء فى صغرهم بقدر ما يكون لكم أكاليل في السماء. ويقول أحد الآباء: ” إن إكليل التربية يساوي إكليل نُسك راهب “، ما أجمل أن نُربِّي أبناءنا بالنعمة من الإنجيل والصلوات والكنيسة وسير القديسين.
إن هذا القديس الذي عاش في البرية كان مصدر قوته الأول هو الأسرة لذلك يمكن أن نقول أن الأسرة أيقونة الكنيسة والأسرة صانعة قديسين.
2ـ نذيراً:
كما قال الملاك: ” يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومُسكراً لا يشرب “، ” نذير: يعني: ” مخصص للَّه مُكرس للَّه “، وهل كُلنا سنُكرَّس؟
أريد أن ألفت نظرك لشيء مهم: في سر الميرون يُرشَم الطفل المُعمَّد في جسده 36 رشماً بتشمل الطفل كله، وهذه الرشومات هى بمثابة تكريس عام … وأن هذا الطفل صار مُكرَّساً ومُخصَّصاً أو إن شئتم الدقة مفروزاً للَّه، و هذا الطفل ينمو وقلبه مُكرَّساً ومُخصصاً للَّه، في يوم المعمودية يتخصَّص الإنسان ويتكرَّس للمسيح ويُدعى الطفل مسيحياً، أخذ سر المعمودية وأخذ سر الميرون ونال سر الإفخارستيا ويبدأ طريقه نحو الأبدية.
يوحنا المعمدان كان نذيراً للرب … كان مخصصاً بحياته كلها وكل ما يُفكِّر فيه هو علاقته باللَّه، وهذا الفكر هام جداً، لذلك نسمع نداء السيد المسيح: ” يا ابني أعطني قلبك “، يُريد أن يكون قلبك مُخصَّص ومُكرَّس له لا يشغله شيء آخر وهذا مهم لنا … يجب أن نهرب من أمور تشغل قلوبنا وعقولنا وحياتنا ولا تفيدنا فى الأبدية. خليك واعي ونذير للرَّبّ ومُخصصاً لعمل المسيح وهذا ليس معناه أن تترك دراستك وعملك لكن قلبك هو للَّه يسكنه المسيح.
3ـ البرية:
يقول لنا الكتاب: ” أمَّا الصَّبي فكان ينمو ويتقوَّى بالروح، وكان في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل “، ولذلك نجد أديرتنا في الصحراء، وعندما نزور البَرِّيَّة ونزور آبائنا الرهبان ونتمتع بهم وبالحياة الديرية الجميلة تكون البَرِّيَّة أحد مصادر القوة في حياتك لأنَّ فيها انحلال من كل الرباطات الموجودة في العالم، وتدخل الكنيسة وتقضي وقت سواء في قداس أو تمجيد أو صلوات خاصة وتستشعر قوة صلوات الآباء
الذين عاشوا عبر أجيال وأجيال في الدير والخشوع وتنال قوة وإن كانت زياراتك للبرية قليلة يمكنك أن تستعيض عن ذلك بأقوال الآباء وسيرهم وجهادهم الروحي الذي عاشوا به والفكر الروحي.
4ـ الإمتلاء من الروح القدس:
من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس، نعمة خاصة، ونوال الروح القدس أعطاه هذه القوة، وامتلائه من الروح القدس وهو فى بطن أمه من بداية تكوينه وهو عمره شهوراً قليلة صار ممتلئ بعمل اللَّه وبالروح القدس.
هذه هى مصادر القوة في حياة يوحنا والتى جعلت يوحنا في آواخر أيامه وقبل السجن يشهد الشهادة الحية ويقول: ” لا يحل لك “، ويقولها بصوت حق وبقوة وكان يعلم أن هذه تُكلِّفه حياته، ولكن الحق كان أسمَى من الحياة، وكانت النتيجة أنه ينال إكليل الاستشهاد وتُقطع رأسه ولكن يظل صوته وتظل شخصيته ويظل النموذج الذي يُقدّمه القديس يوحنا نموذج رائع لنا كلنا في حياتنا وفي جهادنا.
قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
16 يناير 2019
عيد الثيئوفنيا …الظهور الآلهي
يأتي قبله عيدين الميلاد والختان وبعده عيدين عرس قانا الجليل ودخول المسيح الهيكل ….فهو يتوسط الخمسة أعياد التي نعيد بها خلال 40 يوم منذ ميلاد المسيح .
هذا هو اللقان الوحيد الذي يصلى ليلا يسبقه صوم يوما هو البرامون أي الأستعداد ونحن صمنا الأربعاء والخميس لأننا سنعيد الجمعة حيث سنعبر عن فرحتنا بالعيد جسديا من خلال الطعام .
مشهد عماد السيد المسيح مهم جدا في الكتاب المقدس وفي حياتنا فلنتجول بإذهاننا ونري السيد المسيح وسط الجموع التي جاءت لتلبي نداء يوحنا المعمدان بالتوبة لأنه أقترب ملكوت السموات. تفاجأ يوحنا بالسيد نازلا وسط المياه طالبا المعمودية ….هذا المشهد أريد أن أحدثك عن 3 مفردات به ….السيد المسيح- يوحنا المعمدان – المياه
السيد المسيح
تجسد وسط عائلته رأه الكثير…. والديه والرعاة ثم المجوس وفي اليوم الثامن أختتن ودخل الهيكل ثانية عندما تم 40 يوما ثم الهروب الى مصر حيث تباركت مصر به في كل ربوعها سيناء مصر القديمة الدلتا الصعيد
ثم عاد الى الناصرة وظهر عند سن الثانية عشر في الهيكل يحاور المعلمين الكبار وبقي هناك حتى سن الثلاثين حيث تعلم حرفة النجارة ففي اليهودية من لم يتعلم حرفة يتعلم السرقة.وعندما أتم الثلاثين سن النضوج عند اليهود فهم لا يستمعوا لأحد دون هذا السن بدء خدمته الجهارية بالعماد المقدس….فكان الظهور الألهي لكي يعلمنا أن الله واحد مثلث الأقانيم صوت الأب والمسيا في النهر والروح القدس كحمامة. نؤمن بإله واحد هو المحبة العاملة المتدفقة التي لا تقف أبدا.
لذلك نمارس أيماننا والطفل رضيع بعماده وتغطيسه ثلاثة مرات فنحن مدفونين معه في المعمودية ويصير أول عمل للرضيع يناله على إيمان والديه ليشب قويا مكتوب إسمه في السماوات مولود من الماء والروح.
يوحنا المعمدان
جاء لثمرة صلوات كثيرة مرفوعة من والديه زكريا الكاهن وامه إليصابات وفي الوقت المناسب جاءت البشارة وولد خاتم إنبياء العهد القديم قبل السيد المسيح بستة أشهر. عاش في البرية ناسكا نازها هيئته مهيبة نزل لضواحي اليهودية يدعوا الى التوبة كصوت صارخ في البرية يريد ان يوقظ الجميع من غفلة الخطية التي تتسبب في نوم الضمير. أختار أن تقطع رأسه في نهاية حياته وأن لا يعيش بلا ضمير نال الأستشهاد كي لا يبيع ضميره
في بداية كرازته نادي بإقتراب ملكوت السموات التي كانت في شخص السيد المسيح. هو الذي قال بعين النبوة” هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم كله” أي ذبيحة المسيح المرفوعة على عود الصليب المقدمة للجميع. لقب بالسابق لأنه أتى قبل المسيح والصابغ لأنه عمده والشهيد لأنه صوت الحق الذي قال لا يحل لك.
الماء
عنصر الحياة علي الأرض فإينما وجد ماء وجدت حياة فتجدهم يبحثون عنه في الكواكب كدليل على وجود الحياة. 70% من مساحة الأرض مياه و70% من تكوين الأنسان مياه. لذلك الماء أغلى شئ لأن فيه حياة الأنسان . له تاريخ في الكتاب المقدس من الطوفان وعبور البحر تاريخ هلاك وتاريخ حياة .. المسيح قابل السامرية عند بئر المياه شفي المخلع المريض لثمانية وثلاثون عاما عند البركة والمولود أعمى غسل عينيه في الماء ونحن نصلي قداسات تقديس المياه ونستخدمه في صلواتنا كرش المياه ويصير علامة ميلاد في المعمودية.
للماء قيمة في حياتنا اليومية فنهر النيل الذي يمثل 8% من مسلحة مصر نلتف كلنا حوله لأنه مصدر الحياه تاركين الصحراء. وفي العهد القديم كان عند المصريين آله لذلك في الضربات تم تحويله لدم.
يعتبر من أطول أنهار العالم يمر على 10 بلاد نحن آخرها …لكن هل تعلم أن هناك مليار من البشر لا يجدون مياه لنلتفت لقيمة المياه وعدم إهدارها فهي للشرب والأكل والزرع حتى صناعة الدواء
يزورنا الآن رئيس وزراء أثيوبيا ونحن نرحب به ونرحب بالتفاهم القائم والعلاقات الطيبة على مستوى الكنيسة والدولة….
لنحافظ على كل نقطة مياه ونتجنب أي إهدار لها فقيراط المياه يستطيع أن ينقذ إنسان.
عيد الغطاس نحتقل بذكرى ميلادنا في المعمودية لنحتفل بمعمودية أولادنا كأعياد ميلادهم فهو ليس تذكار تاريخي لكن للتوبة وحياة نقاوة القلب….فهل تعلمون أن قديما بعد الأنتهاء من الصلوات كانوا ينزلون مياه النيل للتقديس برغم أننا في طوبة.
ليحفظ مسيحنا بلادنا من كل شر ونصلي من أجل المسئوليين والقيادة السياسية فبلادنا لها مكانة عالية على جميع الأصعدة ..ليحفظ الله لادنا من أي شر ومن أي عنف ويبارك كنيسته وخدمتها وصلواتها فالمعمودية وأن كانت مرة واحدة لكنها تقديس للحياة كلها
يحميكم الله ويبارك في حياتكم والكنيسة التي بها نحن الآن تقوم بعمل التجديدات في ستر الهيكل والصحن أيضا وسوف نحتفل على مستوى الكنيسة بمرور 100 عام على إنشاء مدارس الأحد و50 عام على ظهور العذراء في الزيتون و50 عام على إنشاء الكاتدرائية ويتصادف أن يكونوا في نفس عام إفتتاح الكاتدرائية الجديدة كاتدرائية “ميلاد المسيح”ليبارككم المسيح .
قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
15 يناير 2019
الختان في العهد القديم..
كانت "عادة الختان" وما زالت سائدة بين كثير من الأجناس في أجزاء مختلفة من العالم في أمريكا وأفريقيا، كما كانت هذه العادة شائعة بين الساميين من مصريين كعادة صحية دون غياب البعد الديني عنها، كما عرف العبرانيون والعرب والموآبيون والعمونيون الختان، لكنه لم يكن معروفًا عند الآشوريين والبابليين. كذلك لم يكن الختان معروفًا لدى الفلسطينيين في كنعان؛ لذلك كان يُطلق عليها دائمًا وصف "الغُلف"، أي غير المختونين. - كان الختان بصفة عامة شرطًا أساسيًّا للتمتع بامتيازات دينية وسياسية معينة (خر12: 48،حز44: 9). ولأن الدين يشكل عنصرًا هامًا في الحياة، هناك نظريات كثيرة في أصل الختان وأسبابه، ويمكن القول بأن الختان نشأ كطقس ديني في العهد القديم كعهد بين الله وإبراهيم أبي الآباء منذ ألف وتسعمائة سنة قبل الميلاد تقريبًا، وكان الختان كعلامة أو كعهد على مستوى العلاقة الشخصية الداخلية بين الإنسان والله، ودخوله في رعوية الله، حيث قال له الرب: "أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك. لأكون إلهًا لك ولنسلك من بعدك. وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يُختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم. وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًّا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي".. (تك17: 7 ـ 14 ). -وهكذا مارس "موسى" الختان لابنه وقامت زوجته "صفورة" بختان ابنها في "مديان"؛ لتبيان أهمية الختان في طريق "موسى" للنزول إلى مصر لقيادة الشعب للخروج من عبودية فرعون: "وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله. فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه فقالت إنك عريس دم لي. فانفك عنه حينئذ قالت عريس دم من أجل الختان".. (خر24:4-26). -وما يدل على أهمية الختان، أن ختان الابن كان فيه نجاة لـ"موسى"؛ لأنها قالت له: "إنك عريس دم لي".. وكأن ميثاق وعهد زواجها قد تأيد بسفك الدم من ابنها في عملية الختان. وهكذا توثق الختان في شريعة "موسى" النبي، بعد الخروج أيضًا، ولم يكن مسموحًا للنزيل والغريب أن يأكلا من الفصح ما لم يختتنا: "وإذا نزل عندك نزيل وصنع فصحًا للرب فليختن منه كل ذكر ثم يتقدم ليصنعه.. أما كل أغلف فلا يأكل منه".. (خر12: 48). -وقد صنع "يشوع سكاكين" من "صوَّان" وختن بني إسرائيل في تل القلف. ودعى اسم المكان "الجلجال" (أي الدحرجة يش5: 1 ـ 9). فكان الختان علامة مميزة لنسل إبراهيم. واستخدامهم آلات عفا عليها الزمن كسكاكين الصوَّان، لدليل على مدى تمسكهم بهذا الأمر. -كما أننا نجد في كثير من فصول الكتاب المقدس، أمثلة للاستخدام المجازي "للختان"، فحتى الأشجار المثمرة كانت تُحسب غير طاهرة مدة السنوات الثلاث الأولى من عمرها، وفي السنة الرابعة، تقدم باكورتها إلى بيت الرب، وفي السنة الخامسة، يأكل أصحابها ثمارها: "ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غرلتها ثلاث سنين تكون لكم غلفاء لا يُؤكل منها. وفي السنة الرابعة، يكون كل ثمرها قدسًا لتمجيد الرب. وفي السنة الخامسة، تأكلون ثمرها لتزيد لكم غلتها أنا الرب إلهكم".. (لا23:19-25). وبهذا تصير ثمار الأشجار صالحه للأكل ومباركة للطعام. -فالختان هو عهد بين الله والمؤمن ليكون من شعب الله، وبالختان يتمتع الطفل المختتن بكامل الحقوق الرعوية لشعب الله، وعليه أن يُطيع وصايا الله عند بلوغه سن الإدراك ويُسَمَّى ابن أو بنت الشريعة، أي صار ملتزمًا بأحكامها. عيد الختان المجيد.. تحتفل الكنيسة بتذكار ختان السيد المسيح له المجد، في اليوم الثامن من عيد الميلاد، كما جاء في الكتاب المقدس "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سُمِّي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حُبل به في البطن".. (لو21:2). وهو من الأعياد السيدية الصُّغرى. وكان يُسمى قديمًا بـ"الأوكتافي"، أي "اليوم الثامن"؛ توقيرًا من المؤمنين، واحترامًا وإجلالاً لشخص الختن "يسوع المسيح" ربنا.. لقد خضع السيد المسيح للناموس في جسده، إذ وُجد في الهيئة كإنسان "واذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب".. (في 2 : 8 ). لقد أكمل الناموس كما قال "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل".. (مت 5 : 17). بخضوع المخلص لوصايا الناموس، وبإعطائه الكمال للوصايا في بُعدها الروحي، وأتمها عنا ليعتقنا من حرفية الناموس إلى روح الوصية، وبُعدها الروحي والأخلاقي، وليعتقنا من ثقل هذه الوصية كما يقول القديس بولس "إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يُثبِّت مواعيد الآباء".. (رو 15 : 8). المعمودية من الماء والروح... لقد اعتمد المخلص البار، ووضع لنا طريق البنوة والدخول في رعوية شعب الله والولادة الجديدة من الماء والروح لنكون له أبناء وبنات بالتبني كما قال الرب: "مَن آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن".. (مر 16 : 16)؛ لأنه لابد أن نولد من فوق بالماء والروح القدس لنصير أبناء الله بالتبني "أجاب يسوع الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله".. (يو 3 : 5)؛ ولهذا يقول الرسول بولس "وبه أيضًا خُتنتُ"..
القمص أفرايم الأنبا بيشوي
المزيد
13 يناير 2019
الختان وعيد الختان
أولاً: الختان
( أ ) معنى الكلمة: peritšmnw
1 - جاءت هذه الكلمة في الأدب اليوناني القديم بمعنى ”يقطع دائريًّا“ أو «يحز دائريًّا للقطع». واستخدمت في معنى «تقليم العنب». ولعل مَثَل الرب عندما شبَّه نفسه بالكرمة ونحن الأغصان، وأن الآب يقلِّم الأغصان لتأتي بثمر أكثر، إشارة غير مباشرة إلى الختان الروحي. 2 - ويشير ”استرابو“ (الحكيم اليوناني الشهير) إلى الختان بوضوح بصفته عادة يهودية مأخوذة من مصر. ولكن هذا أمر غير صحيح، وذلك بمقارنة الأصحاح الخامس من يشوع القائل إن ختان مَنْ تبقَّى من شعب إسرائيل قبل عبور الأردن كان يومئذ لرفع عار مصر عن الشعب.
(ب) الختان في العهد القديم:
1 - أصل الطقس: (تكوين 17): «وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي. أنتَ ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختن منكم كل ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيامٍ يختن منكم كلُّ ذكرٍ في أجيالكم. وَلِيد البيت والمُبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختاناً وليد بيتك والمبتاع بفضتك. فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبديًّا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختَن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي.» (تك 17: 9 - 14)
وبذلك فالختان كان بمثابة أول علامة عهد شخصي على مستوى العلاقة الداخلية غير المنظورة بين الله وبين كل فرد في شعب الله. وسُمِّي ”عهد الختان“ (أع 7: 8).
ولكن نجد العهد القديم يستخدم الختان ليس للإنسان فحسب، بل وللشجر أيضاً حاسباً أن الشجرة المغروسة جديداً تعتبر ”غلفاء“ أي غير مختونة (غير مقدَّسة) معنويًّا لمدَّة ثلاث سنوات، حيث يعتبر كل ثمرها ”أغلف“ أي نجساً لا يُؤكل، بل يُطرح. وفي السنة الرابعة تحسب الشجرة مقدَّسة بعدما يقدم طرحها للرب كتقدمة شكر، وبعد ذلك في السنة الخامسة تحسب حلالاً على الإنسان ومقدَّسة:
+ «ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غرلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء. لا يؤكل منها. وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قُدساً لتمجيد الرب. وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها. لتزيد لكم غلتها. أنا الرب إلهكم.» (لا 19: 23 - 25)
والمعنى هنا ينصبّ على تحويل الشجرة من غرس أرضي (شيطاني) عليه اللعنة الأُولى، إلى غرس سماوي (مقدَّس) حلَّت عليه البركة. وكأنها عملية جحد للشيطان تماماً كالذي يحتِّمه الطقس في المعمودية، تنتقل به الخليقة من معسكر الشيطان إلى معسكر الله.
وهذا يتضح أكثر في قصة موسى وزوجته صفورة وابنها البكر الذي ختنته في الطريق إلى مصر لتمنع عنه الهلاك، وكان دم ختانته على رجليه (القائمتين) علامة على التصاقه بالرب «فانفكَّ عنه، حينئذ قالت: عريس دم من أجل الختان.» (خر 4: 26)
والمُلاحَظ أن كلمة ”ختانة“ في اللغة السامية (الآرامية) القديمة تفيد معنى ”قطع الغلفة“، أو معنى ”العريس“، وقد استعملت كذلك منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد باعتبار أن الختانة هي علامة أو طقس الزواج. وقد انحدرت هذه المرادفة إلى اللغة العربية فـ”الختن“ هو ”العريس“، ولكن بمفهوم العريس الطاهر، أي الذي انفك عنه الشيطان بقطع غلفة النجاسة.
وفي أواخر العصر اليهودي اقتصرت الختانة الجسدية على مفهوم الدخول في شعب الله (كشعب اختاره الله وتزوجه لنفسه كابن بكر)، وقد اقتربت الختانة بأخذ الاسم الجديد الذي يلزم أن يكون مطابقاً لاسم أحد أفراد أسرته إمعاناً في تبعية الطفل لشعب الله.
وكان هذا الطقس، على العموم، في غاية الأهمية بالنسبة لليهودي المخلص لشعبه وإلهه، لدرجة أنه كان يهون جدًّا على الإنسان اليهودي أن يستشهد في سبيل تكميل ختانته لأن موت اليهودي بدون ختانة معناه الحرمان الأبدي من ميراث شعب الله.
2 - دخول طقس الختان في شريعة موسى مرتبطاً بالفصح:
وقال الرب لموسى وهارون هذه فريضة الفصح: كل ابن غريب لا يأكل منه، ولكن كل عبد مبتاع بالفضة تختنه ثم يأكل منه. النـزيل والأجير لا يأكلان منه.
وهنا ابتدأ الختان يأخذ صورة طقسية محضة ويتزحزح قليلاً قليلاً في التقليد اليهودي من وضعه الأصيل كعلامة عهد خاصة بين الله وكل فرد على المستوى الروحي والإيماني بحسب الترتيب الذي وضعه الله مع إبراهيم، حيث إبراهيم هو مركز إيمان وليس مركز طقس في الكتاب المقدَّس بعهديه.
3 - الخطأ الذي وقع فيه التقليد اليهودي
بخصوص أصل الختان ومستواه الروحي:
واضح من المنازعات التي حدثت في بداية البشارة بالإنجيل بين الأُمم غير المختونين، أن الفكر اليهودي كان قد تزحزح تماماً عن مفهوم الختان الروحي ومصدره الأصيل، وهو إبراهيم، إذ ظنوا أن مجرد العلامة في اللحم هي الختان، وأنه من وضع موسى وليس إبراهيم: «وانحدر قومٌ من اليهود وجعلوا يعلِّمون الإخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا» (أع 15: 1)، «وقد أُخبروا عنك أنك تعلِّم جميع اليهود الذين بين الأُمم الارتداد عن موسى قائلاً أن لا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد.» (أع 21: 21)
الرب يسوع يصحح وضع الختان أنه من إبراهيم وليس من موسى:
واضح جدًّا أن الرب يسوع لمح من حياة اليهود وتفكيرهم وتمسُّكهم بطقس الختان أنهم كانوا قد انحرفوا انحرافاً أكيداً عن معناه ومصدره الأصلي، لذلك نجده يصحح هذا التقليد بقوله: «أجاب يسوع وقال لهم: عملاً واحداً عملت فتتعجَّبون جميعاً (شفاء مريض بيت حسدا - مريض الـ 38 سنة)، لهذا أعطاكم موسى الختان، ليس أنه من موسى بل من الآباء (إبراهيم)، ففي السبت تختنون الإنسان، فإن كان الإنسان يقبل الختان (طقس إبراهيمي ثم موسوي) في السبت (والسبت طقس أهم إذ قد رتَّبه الله نفسه) لئلا يُنقَض ناموس موسى، أفتسخطون عليَّ لأني شفيت إنساناً كله في السبت؟ لا تحكموا حسب الظاهر!» (يو 7: 21 - 24)
وهنا يشير الرب إشارة في غاية الوضوح والعمق أن الختان الذي كان علامة خارجية لارتباط روحي داخلي بين الله والإنسان عند الآباء، صار عند الأجيال المتأخرة، وخصوصاً من بعد موسى، مجرَّد علامة خارجية خوفاً من نقض ناموس موسى وليس لاقتراب روحي أو قلبي إلى الله: كعهد علاقة إلهية والتصاق.
وشفاء الرب لمريض الثماني والثلاثين سنة بـ”كلمة“ يعبِّر عنه الرب: «لأني شفيت إنساناً كله». وهنا يجعل الرب كلمته الشافية شفاءً كليًّا أعلى من مستوى الختان، أي باعتبار الختان شفاءً جزئيًّا بالنسبة للشفاء الكلِّي الذي صنعه الرب مع المرض المزمن لأنه غفر خطاياه وشفاه، أي شفاه روحيًّا أولاً ثم جسديًّا!! في حين أن الختان كان يفيد الشفاء الجسدي وحسب.
وهكذا تكشف لنا هذه الآيات عن قيمة الختان في نظر المسيح بالنسبة للعمل الخلاصي الذي نـزل من السماء ليكمِّله لنا. فالختان في مضمونه الكلِّي على مدى العهد القديم كان في نظر الرب علامة ارتباط بين الإنسان والله، عجز الإنسان أن يتمِّم شروطها الروحية الداخلية، فانحصرت في حدودها الجسدية فقط، وبذلك فقدت عملها الشفائي الكلِّي أو الخلاصي. وهكذا ظلَّ مريض الثماني والثلاثين سنة مطروحاً عاجزاً مع أنه مختتن!! وكان مفروضاً أن اختتانه يُدخله ضمن وعد الله الذي يضمن له الشفاء، أو ربما يضمن له عدم المرض أصلاً وذلك إن كان يطيع أوامره ووصاياه.
المعنى الروحي العميق للختان في العهد القديم:
غُلْفة الشفتين:
لم يكن الختان يقتصر فقط في معناه العميق على أعضاء التذكير في الإنسان، فنحن نسمع موسى يقول لله: «كيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين (أي غير مختون الشفتين).» (خر 6: 12 و30)
وهنا ”غلفة“ الشفتين تفيد نجاسة الفم، وبالتالي ضعف الفم واللسان عن النطق بأقوال الله المقدَّسة، فتأتي الكلمات ضعيفة أو متلعثمة أو خاطئة!! وهذا يحقِّقه إشعياء النبي بوضوح: «فقلت ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود. فطار إليَّ واحد من السَّرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح ومسَّ بها فمي وقال: إن هذه قد مسَّت شفتيك فانتُزع إثمك وكُفِّر عن خطيتك.» (إش 6: 5 - 7)
غُلفة الآذان:
ونسمع إرميا النبي يقول لله: «من أكلِّمهم وأنذرهم فيسمعوا. ها إن أذنهم غلفاء (غير مختونة) فلا يقدرون أن يصغوا. ها إن كلمة الرب صارت لهم عاراً، لا يُسرون بها.» (إر 6: 10)
غُلْفة القلوب:
كذلك إرميا النبي يربط بين طهارة القلب ورضاء الله ربطاً شديداً في تعبير ختانة القلب ورفع نجاساته.
+ «اختتنوا للرب وانـزعوا غُرَل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أُورشليم لئلا يخرج كنار غيظي.» (إر 4: 4)
ويلاحظ هنا إن أرميا النبي يضيف الختانة لحساب الله «اختتنوا للرب». وهنا تعمُّق أكثر في المعنى اللاهوتي للختانة كعمل إلهي أو طقس روحي صرف، فهو إن كان يُجرى في لحم الجسد فهو يمتد إلى القلب والضمير ويوطد الصلة بالله!!
وإدراك صلة الختانة في اللحم بالطاعة لله يشدِّد عليه موسى منذ البدء «فاختنوا غرلة قلوبكم ولا تصلِّبوا رقابكم.» (تث 10: 16)
ويعود موسى أيضاً ويكشف عن معنى سرِّي تصوُّفي عميق للغاية للختان القلبي كعمل روحي يتم في الخفاء بجرح القلب نفسه جرح محبة أبدي: «ويختن الرب إلهك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا» (تث 30: 6). وهذا يفيد رفع كل أهواء وشهوات وتعلُّقات القلب بكل شيء في الدنيا فيصير القلب كله للرب!!
ونسمع أيضاً من الشهيد استفانوس أحد الشمامسة السبعة، وهو ينقل لنا صورة عن مفهوم الختان في العهد القديم الذي ورثه الأتقياء المختارون الذين قبلوا الروح القدس والإيمان بالمسيح، وذلك عند قوله: «يا قُساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان. أنتم دائماً تقاومون الروح القدس.» (أع 7: 51)
وهكذا يتضح أمامنا مقدار عمق معنى الختانة الروحي في العهد القديم. فالختان فهموه أنه ليس مجرد علامة في لحم أعضاء التذكير بقطع غلفة الذكر، بل يتعدى ذلك إلى الشفاه والآذان والقلوب. فأعضاء الإنسان كلها ذات غلفة، أي ذات غطاء جلدي يمنعها من الإحساس والاستجابة، وتحتاج إلى ختانة!!
فالشفاه الغلفاء لا تستطيع أن تبشر باسم الله وقوته وكلمته، حيث الغلفة هنا تفيد النجاسة. موسى كان يحس بأن شفتيه كانتا غلفاوتين. إشعياء النبي كذلك. من هنا كان الإحساس العميق بالحاجة إلى التطهير بالدم أو بالنار...
وكذلك الآذان الغلفاء، يصفها إرميا النبي بأنها لا تستطيع أن تصغي إلى كلمة الرب ولا أن تحترمها إذ تصير كلمة الرب وكأنها عار، تتحاشى سماعه، وإذا سمعتها لا تسرُّ بها!!
أما الشهيد استفانوس فيكشف لنا عن مفهوم القلب الأغلف غير المختون بأنه يقاوم الروح القدس، أي روح القداسة والطهارة، وأن هناك علاقة حتمية بين القلب الأغلف والأذن الغلفاء: فغلفة القلب تنشئ غلفة الأذن، وغلفة الأذن تنشئ غلفة القلب.
أما الغلفة فهي ترمز إلى الغلاف اللحمي، الذي يجعل القلب والآذان والشفاه حساسة للشهوة واللذة والنجاسة والانفعال بالغرائز اللحمية الحيوانية، فتنصدَّ عن كل ما هو طاهر ومقدَّس وروحي! ...
إذن، فكان معروفاً لدى الروحيين في العهد القديم أن طقس الختان كان عملاً روحيًّا يشير إلى قطع شهوة النجاسة بمفهومها المتسع، ليس من عضو الذكر فحسب، بل ومن القلب والأذن والشفاه ومن الإنسان كله، حتى يتطهَّر ويكون قريباً من الله متهيئاً لسماع كلمته والنطق بها والشهادة لها. وأخيراً يكون مستعداً للتعرُّف على المسيح نفسه عند مجيئه وظهوره باعتباره ”كلمة الله“ القدوس.
والله اختار عضو الذكر ليجري عليه الختان كعلامة عهد بين الله وإبراهيم ونسله، حتى ينتبه الإنسان أن عهد الله منذ البدء يقوم على الطهارة، ظاهرياً في اللحم وداخلياً في القلب وفي الأذن وفي الشفاه، تمهيداً لحلول كلمته وروح قدسه في هيكلنا.
فالاختتان في العهد القديم هو تماماً عملية تكريس كامل لله بكل الأعضاء، داخلياً وخارجياً!! ليصير الإنسان على مستوى عهد الله وقداسة الله «سر أمامي وكُن كاملاً» (تك 17: 1)، أو كما وضعها العهد الجديد على فم المسيح: «كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت 5: 48). ولذلك اعتُبر المسيح أنه خادم الختان!! لأنه الوحيد الذي تمَّم الختان على أعلى وأكمل مستواه، الروحي والجسدي معاً، بأن كان مقدِّساً أو مكرِّساً جسده ونفسه لله كليًّا من أجلنا: «لأجلهم أقدِّس أنا ذاتي.» (يو 17: 19)
وكان كذلك حتى يمكن أن يكمِّل الله فيه كل وعد الختان وعهده لنا، فيظهر فيه صدق وعد الله للإنسان منذ إبراهيم!! «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبِّت مواعيد الله.» (رو 15: 8)
وهكذا قبل إبراهيم الختان ليكون أباً لكل من يؤمن بالله ويدخل عهده ويصير من أهل بيت الله، وليس كالغريب أو النـزيل. ولكن لم يستطع أحد أن يحقِّق عهد الختان هذا ويثبت أهليته لله. وبقي صدق الله معلَّقاً من حيث وعده بقبول الإنسان ليكون من أهل بيته حتى مجيء المسيح، لأنه حتى ولا موسى نفسه استطاع ذلك، إذ قيل عنه أنه «كان أميناً في كل بيته كخادم ... أما المسيح فكابن.» (عب 3: 5 و6)
توارث الختان ثم توقُّفه:
كان في تأسيس عهد الختان الذي صنعه الله مع إبراهيم ما يشير بوضوح إلى أعماق سر الختان من جهة هدفه الروحي، وذلك حينما جعله يشمل ختانة الأطفال المولودين: «ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت، والمبتاع بفضة، من كل ابن غريب ليس من نسلك ... في ذلك اليوم عينه خُتِن إبراهيم وإسماعيل ابنه وكل رجال بيته وِلْدان البيت والمبتاعين بالفضة من ابن الغريب خُتنوا معه.» (تك 17: 12 و26 و27)
هنا يتجه الختان إلى الأثر أو المعنى الروحي الذي يتجاوز العلامة الخارجية، فهو ميراث يرثه الصغير ابن الثمانية الأيام بمقتضى إيمان أبيه، مجاناً؛ فينضم إلى شعب الله ويرث كل مواعيد الآباء وبركتهم، حتى ولو كان ابناً لعبد مشترى بالفضة غريباً عن رعوية إسرائيل، طالما كان هذا العبد أميناً لصاحب البيت وأميناً لإله إسرائيل ببرهان طاعة وصايا الله وأوامره.
وهكذا بمقدار ما للخطية من أثر توارثي، صار لبر الإيمان من أثر توارثي كذلك، وذلك بواسطة الختان الذي هو في حقيقته ختم مجَّاني لميراث بر الإيمان الذي ناله إبراهيم بسخاء الله وجوده. كما يحدِّد بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية: «وأخذ علامة الختان ختماً لبر الإيمان الذي كان في الغرلة، ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون وهم في الغرلة، كي يُحسب لهم أيضاً البر.» (رو 4: 11)
كذلك بالرغم من أن تكميل طقس الختان في لحم الغرلة كان يعطي الطفل المولود ابن ثمانية أيام كل حقوق الرعوية في شعب إسرائيل، إلا أن هذه الحقوق تتوقَّف كلها إلى أن يثبت المختون طاعته لوصايا الله عند بلوغه السن الذي يطالب فيه بتكميل الوصايا. وهذا نراه متركِّزاً بشدَّة في وصية الله لإبراهيم كشرط أساسي في تكميل كل بنود عهد الختان: «سر أمامي وكُن كاملاً فأجعل عهدي بيني وبينك.» (تك 17: 1 و2)
إذن، فكانت الطاعة لوصايا الله هي التي تجعل عهد الختان قائم المفعول دائم الأثر، وهكذا كان مفهوم الختان في العهد القديم، روحيًّا بمقدار ما كان لمفهوم الطاعة لوصايا الله! ...
وهكذا نرى أن عهد الختان كان يورَّث بالإيمان ويثبَّت بالطاعة:
+ «اختتنوا للرب وانـزعوا غرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أُورشليم لئلا يخرج كنار غيظي، فيحرق وليس مَنْ يطفئ بسبب شر أعمالكم.» (إر 4: 4)
+ «فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس. ولكن إن كنت متعدِّياً الناموس فقد صار ختانك غرلة.» (رو 2: 25)
ومن هنا يصبح الختان عديم المنفعة تماماً إزاء العجز عن تكميل الناموس. فإن كان قد بلغ العجز عن تكميل الناموس في نهاية العهد القديم إلى أقصى حالاته وعمَّ كل الشعب بلا استثناء: «الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس مَنْ يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (رو 3: 12)، يكون بذلك قد بلغ عهد الختان إلى حالة عديمة الفعل والأثر وتوقف نهائياً: «ها أيام تأتي يقول الرب وأعاقب كل مختون وأغلف» (إر 9: 25). وقد تم تهديد الله هذا بالحرف الواحد.
فنقرأ في السفر الأول للمكابيين في نهاية أيام حكم الملوك السلوقيين، وبالذات في أيام الملك أنطيوخس الرابع (175 - 163ق.م.)، أنه صدر حكم يمنع ختانة اليهودي، وكان أن الأم التي تختن ولدها تقتل: «والنساء اللواتي كُنَّ يختّنَّ أولادهن أماتوهنَّ حسب الأمر ... وكان على إسرائيل غضب عظيم جدًّا.» (1مك 1: 60)
وهكذا وضحت مشيئة الله أن ينـزع من إسرائيل في أواخر الأيام الختم، أو علامة الختان التي هي علامة تبعية الشعب لله، وحلَّ بدلها الغضب واللعنة في الحال والتبعية لملك الأُمم، إشارة إلى زوال مُلك الله عنهم.
ولكن أهمية الختان ظلت عند اليهود أقوى من الموت حتى وفي أعصب أوقات اضطهادهم. وكان يهون عليهم الاستشهاد في سبيل تكميلها، لأن الختان كان في صُلب الإيمان بمثابة ختم يلازم اليهودي بعد الموت، فهو ختم فداء لما بعد الموت. فالأغلف في حياته هكذا يكون في موته: «كلهم قَتْلى، ساقطون بالسيف، الذين هبطوا غُلْفاً إلى الأرض السفلى.» (حز 32: 24)
ختان المسيح في اليوم الثامن:
يقول بولس الرسول إن المسيح وُلِدَ «تحت الناموس» (غل 4: 4) لكي يكمل حرفية الناموس لأجلنا ويفتدينا من لعنته، حيث الإشارة هنا تتضمَّن الخضوع لعملية الختان في اليوم الثامن، كما كان يأمر بها الناموس، حيث أخذ أيضاً اسمه الذي كان قد تسمَّى به سابقاً.
أما بخصوص تتميم ختان اللحم والتدقيق في تكميل ذلك في اليوم الثامن بحسب الناموس، ففي ظاهره لا يعطي أية قيمة عملية، ولكن إذ يحمل هذا بالنسبة للمسيح بالذات أبعاداً روحية وسريَّة عميقة، لذلك ينبغي جدًّا الانتباه إلى دقائق هذه الأمور لما تحوي من استعلان للحق الإلهي.
وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير عمود الدين:
[لأن في اليوم الثامن (أي يوم الأحد) قام المسيح من الأموات وأعطانا الختان الروحي، وذلك بمقتضى ما أمر به الرسل القديسين: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19)، ونحن نؤكِّد هنا أن الختان الروحي يتم أساساً في المعمودية، حيث يجعلنا المسيح شركاء أيضاً في الروح القدس.]([1])
ويبدو أن البابا كيرلس الكبير هنا ينقل لنا تقليداً رسوليًّا ردَّده من قبله الشهيد يوستين في محاوراته مع تريفو:
[إن الوصية بطقس الختان التي تأمر بأن يعتمد الأطفال في اليوم الثامن، كانت رمزاً أو مثالاً للختان الحقيقي للخلاص من الخطية والشر، بواسطة قيامة الرب يسوع المسيح من الأموات في اليوم الأول من الأسبوع (الأحد)، الذي بالرغم من بقائه معتبراً الأول لكل الأيام إلا أنه يُدعى الثامن (لأنه أتى بعد السبت بحدث جديد فأكمل بعد مرور الأسبوع بسبعة أيامه عملاً لم يدخل أصلاً في حدود الأيام السبعة خصوصاً في أيام الخلقة القديمة).]([2])
ويعود القديس كيرلس الكبير ويشرح كيف يختنَّا المسيح بالروح القدس، بقوله:
[وعن هذا أيضاً، فإن يشوع القديم، الذي كان قائداً بعد موسى، هو مثال فإنه أولاً قاد بني إسرائيل عبر الأردن ثم في الحال توقَّف وختنهم بسكاكين من صوان؛ هكذا نحن بعد أن نعبر الأردن (أي المعمودية) يختنَّا المسيح بقوة الروح القدس لا مطهِّراً الجسد، ولكن قاطعاً بالأحرى النجاسة أو الفساد الذي في أنفسنا.]([3])
ثم يعود القديس كيرلس ويكشف عن مدى ارتباط خلاصنا بختانة المسيح في اليوم الثامن معتبراً أن المسيح اختتن لنا ونحن اختتنا فيه؛ فتمَّ لنا بختانة المسيح وفي ختانة المسيح، الخلاص!
[في اليوم الثامن، إذن، اختُتن المسيح وتقبَّل اسمه (يُدعى اسمه يسوع أي المخلِّص). لأنه عندئذ، أي بهذا، خلصنا بواسطته وفيه. كما قيل: «وبه أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية، بختان المسيح، مدفونين معه في المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه» (كو 2: 11 و12). أي أنه كما كان موت المسيح من أجلنا وكانت قيامته، كذلك كانت ختانته.]([4])
انتهاء عهد الختان:
وبتأسيس المعمودية التي يتم فيها الختان الروحي للإنسان، حيث يخلع جسد الخطية، ويلبس الجديد بالروح القدس، ويتم الختم الإلهي لتبعية الله بالاتحاد بالمسيح؛ انتهى عهد ختان اللحم.
وفي ذلك يقول القديس كيرلس أيضاً:
[ولكن بعد ختانة المسيح انتهى هذا الطقس إلى الأبد، وذلك بدخول المعمودية التي كان طقس الختان يرمز لها. لأن بسبب المعمودية لا نعود نمارس طقس الختان بعد. لأن الختان حسب ما يبدو لي كان يخدم ثلاث غايات:
الغاية الأولى: تخصيص نسل إبراهيم بعلامة أو بختم لتمييزهم عن بقية الشعوب الأخرى جميعاً.
الغاية الثانية: أن الختان كان يحمل صورة نعمة وفعالية المعمودية الإلهية حيث كان يُحسب قديماً أن المختون هو عضو في شعب الله بهذا الختم، هكذا أيضاً كل مَنْ يعتمد الآن يكون قد حصل في داخله على المسيح الختم، وبذلك يُكتب ضمن شعب الله المختار.
أما الغاية الثالثة: فهي تفيد رمزيًّا أن الشخص المؤمن قد تأسَّس في النعمة قاطعاً أولاً بأول كل الشهوات الجسدية وإماتة كل الأوجاع بعمل الإيمان الجراحي أي القاطع، وليس بقطع اللحم، إنما بالنسك المجتهد وبتطهير القلب مختتناً بالروح وليس بالحرف، الذي مدحه لا يحتاج، كما يقول بولس الرسول، إلى حكم بشري وإنما يعتمد على شهادة من فوق.]([5])
وهكذا نجد أن العماد حلَّ محل الختان بصورة أكمل وأشمل وبأثر روحي عميق وفعَّال. فبالمعمودية، كما يقول بولس الرسول، خلعنا جسم الخطية بأكمله وليس جزءًا منه، ولبسنا المسيح وصرنا فيه وبه خليقة جديدة كميلاد ثانٍ من السماء، وأصبحنا رعية مع القديسين، أهلاً وأحباء في بيت الله، وملوكاً وكهنة مع المسيح لله!...
ولكن لا ينبغي أن يتوه عن بالنا قط أن كل بركات المعمودية بحدودها الباهرة اللانهائية، إنما هي امتداد ”للختان“ عبر المسيح! فالختان - كما رأينا - سبق أن تصور فيه كل أسرار الحاضر؛ من أجل ذلك لم يحجم المسيح عن أن يخدم هذا السر في صورته الرمزية بحسب الوعد الأول، ليمنحنا الانفتاح اللانهائي على بركاته الأُولى والأخيرة «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبِّت المواعيد التي أُعطيت للآباء.» (رو 15: 8)
وبولس الرسول يرى أن الإنسان الجديد العابد بالروح والمتحد بالمسيح هو الآن بحد ذاته ”ختان كامل“ أو ”أوج الختان“ في أعلى مفهوم روحي له «لأننا نحن الختان، العابدين الله بالروح والمفتخرين في المسيح يسوع وغير المتكلين فيه على الجسد.» (في 3: 3 ترجمة حرفية)
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
12 يناير 2019
هِيرُودُسُ مُزْمِعٌ أنْ يَبْحَث عَنِ الصَّبيِّ ليُهْلِكَهُ
يسوع المسيح مخلص العالم؛ كان موضع مطاردة وانتقام وتصفية جسدية منذ ولادته. فكان هيرودس وأعوانه يترقبونه ليُوقعوا به خوفًا منه، بينما هو جاء ليكون لهم به حياة أفضل. حسبوا أنه جاء ملكًا ومسجودًا له؛ ليؤسس حكمًا زمنيًا؛ لكنه وياللعجب جاء ليؤسس ملكوتًا أبديًا لا يتزعزع ولا ينقرض.. وقد قال بفمه الإلهي الطاهر (مجدًا من هذا العالم لستُ أطلب) .. إنه وُلد حقًا لكي يشرق على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لذلك تهللت كل الأمم بمجيئه.. أتى إلى كل واحد لكي يقدس الذين يقبلونه بإخلاص؛ وأعلن نفسه للكل ليقدس كل من يأتي إليه، وليهدي أقدامنا في طريقه وحقه وحياته؛ ولا شيء يساوي معجزة خلاصنا من قبل صلاحه.
شابهنا فيما نعانيه على أرض هذه الدنيا من محن وفقر وتآمر بالقتل وافتراءات وتهجير ومطاردة. لذلك أتى الملاك في الحلم إلى يوسف النجار البار: (قُم خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر؛ وابقَ هناك؛ لأن هيرودس مزمع أن يبحث عن الصبي ليهلكه).. ففي كل عصر يوجد هيرودس وطغاة لهم أعوانهم يستبيحون الدماء ويهرقونها ويقدمونها قرابين للآلهة - (آلهة الأمم) – حتى يبقوا في مظلة سلطان رئيس هذا العالم.. أراد هيرودس قتل يسوع الطفل المولود خوفًا على مُلكه، وأراد نيرون قتل أبناء يسوع خوفًا على عرشه، وكلاهما طغاة يرزحون تحت أصفاد سخرية الجحيم وصداه المرعب في الظلمة الدهرية. فقد قيل عن هيرودس عقب موته - (إنه تسلل إلى العرش تسلل الثعلب؛ وحكم حُكم النمر؛ ومات ميتة الكلب) – كذلك نيرون المجنون الذي حرض الغوغاء ليحرقوا روما؛ كي يُلصق التهمة بالمسيحيين!!! فلا شيء جديد تحت الشمس؛ وما أشبه ما جرىَ وصدقيته بما يجري الآن في عالمنا من افتراءات وتعسف وازدراء وهدم وحرق؛ وكأنها من طبائع الأمور.
وما كان هروب المسيح له المجد إلى مصر سوى واقعة أو محطة من محطات رحلة الآلام؛ التي فيها حمل رئاسته على كتفيه في طريق الصليب. فهو البداية والنهاية؛ متعجبًا منه كل حين، متألمًا ومنتصرًا في قديسيه - (۲تس ١ : ١٠) – إنه دائمًا هو كما في الماضي هكذا في الحاضر؛ وهو أمس واليوم وإلى الأبد، يتحمل آلامنا ويحمل أحزاننا، وهو مغطىَ بالجروح لأجل أحبائه؛ ومتحملاً ضعفنا الذي لا نقدر ولا نستطيع أن نحمله بدونه، وهو أيضًا الذي يتحمل فينا كلمات التحقير والتكفير.. لأنه فينا مبغَض بواسطة العالم؛ الذي لا يعرفه؛ ومن ثم يرفضه ويعاديه.
لذلك لن تكون لنا قوة إلا به؛ ولا تعزية إلا إذا اختبرنا تدابيره الخلاصية؛ لأنها وحدها سبب بركة حياتنا؛ وبمقدار تجديدنا وتوبتنا واستنارتنا سنلمس حضوره العجيب.. فالقرار قرارنا!!! والتدبير هو من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا؛ إذ أنه قائم في وسطنا؛ لكننا لا نعرفه أحيانًا!!! فهل خبرناه وعرفناه وقبلناه وأطعناه؟؟!! لقد فتح لنا فسحات في قلوبنا ليدخل ويتعشى ويسكن ويقيم؛ بل ويملك... أتى إلينا؛ فلنأتِ إليه ونستقبله ليحل فينا. تنازل ليرفعنا؛ فلنمجده ونزيده علوًا ورفعة؛ إلى الأبد رحمته... ليعِيد الله علينا هذه الأيام بالسلام الذي من السموات، وليُنهضنا كي نخدمه ونشهد له كما يليق.
القمص أثناسيوس جورج
كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
11 يناير 2019
تَذْكَارُ أطْفَالِ بَيْتَ لحْم
أول شهداء المسيحية الذين استُشهدوا ولم يتم سؤالهم بل قُتلوا حتى قبل أن يتكلموا؛ ولم تكن المسيحية معروفة حينذاك... لكن الكنيسة اعتبرتهم شهداء ولم تستثنِ منهم أحدًا؛ بل اعتبرتهم أول مَن نال هذه الرتبة من أجل اسم المسيح... لم يسجل التاريخ جُرمًا أكثر بشاعة من ذبح هؤلاء الأطفال الرُضع،
فلم تشفع لهم براءتهم ولا رضاعتهم ولا أعضاؤهم الليّنة والغضّة أمام جنون وطيش هيرودس الذي انتزعهم من على ثِدِي أمهاتهم؛ في مجزرة جائرة اصطبغوا فيها بالدماء؛ وكانوا سابقين لآلام المخلص الذي غسل بدمه الكريم أرضهم المدنّسة بالمعاصي؛ وخلص بتدبيره الأمصار والأرض كلها.
فمع تهليل بيت لحم مدينة الأنبياء التي أينع فيها يسوع المسيح ربنا الكلمة المتجسد بسرّ عجيب؛ والتي سبق وأنبأت الكتب بظهوره المُحيي فيها؛ حيث تمت النبؤات وكملت؛ وقد صار بولادته فيها كل الحُسن والبهاء والجمال والحلاوة والخلاص؛ عندما أتى الله ظاهرًا... رب القوات بصوت القرن... النجم والكنوز والسجود والقرابين والرعاة والمجوس والفرح بالملك المولود؛ حيث رُبطت الشياطين وطُرحت خارجًا؛ وانسحقت بميلاد المخلص في أرض مدينة داود؛ التي فيها سُمعت ووُجدت العلامة التي أبصرت الخليقة كلها نورها فتهللت.
لكن الملك هيرودس الأدومي استدعى المجوس سرًا وتحقق من زمان ظهور النجم... الملك الأرضي اضطرب عندما وُلد الملك السماوي؛ اضطرب عندما سمع بعظمة الملك الحق، فالطغاة يتزعزعون أمام القوات الفائقة وأمام انهيار ممالكهم... خطط هيرودس بإحتيال ليخدع المجوس الذين صاروا كارزين له؛ وجازوا في التخوم ليقدموا السجود للملك الآتي لخلاصهم، أتوا من بعيد ليبشروا القريبين... يتقدمهم في ذلك النجمُ حيث كان الصبي مع أمه، وهناك فتحوا كنوزهم وهداياهم؛ كبداءة التقدمة في كنيسة المذود... ثم تركوا طريقهم وتحولوا إلى الطريق حتى لا يلتقوا بهيرودس؛ لم يرتدّوا أو يسلكوا طريقهم القديم كي لا يعودوا إلى هيرودس ثانية.
لكن هيردوس استشاط غضبًا بعد أن أحس أن المجوس قد سخروا منه. فامتلأ حسدًا وفقد كل حس آدمي وأصابه سُعار الدم؛ بينما هو الذي لا يستحق أن يعيش؛ وكان من الأفضل له أن يُعلق في عنقه حجر الرحى ويُلقىَ في البحر... لكنه أرسل ليفتش عن الملك الإلهي وقتل جميع الصبيان في بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحقق من المجوس؛ مُريدًا أن يقتل الطفل يسوع في جملتهم، فذبحوا الأطفال على الجبال؛ وسُمعت أصوات البكاء والنواح والعويل في بيت لحم المنسوبة لرحيل (تك ٤٨ : ٧)،(مت ٢ : ١٨)،(رؤ ٦ : ١٠).
جرىَ دمهم في مجرى طريق الخلاص وسط الآلام والبكاء وصراخ وزفير الأمهات المرتفع إلى عنان السماء؛ لأنهم ليسوا بموجودين... وقد صارت شهادتهم البريئة الطاهرة ملازمة لفصح المذود وللميلاد الفصحي؛ ولازالت جماجمهم في غرفة كنيسة المهد ببيت لحم... لم يكن ذبحهم محض صدفة؛ لكنه يمثل جزءًا لا يتجزأ من خدمة حياة المخلص؛ لأنهم قدموا عملاً كرازيًا وشهادة حق بريئة أمام العالم كله؛ يمثلون بها كنيسة العهد الجديد وبيعة الأبكار التي حملت البرارة والطهارة ومسكنة الروح... تلك التي لا يطيقها الطغاة وولاة العالم الزمني؛ بل يضطهدونها ويُخرسونها ليكتموا صوت شهادتها.
لقد تم عبور هؤلاء الأطفال وصاروا أبكارًا يتنعمون بتبعية الحمل الإلهي أينما وُجد في موكب روحي مقدس يتقدمه الحمل القائم وكأنه مذبوح؛ هم افتدوه؛ بينما هو فاديهم وفادي كل أحد، هم صاروا باكورة كنيسة الأحياء البسيطة القوية بلا تعقيد والحاملة سمات الحق الواضح والمستقر في الصليب؛ علامتها الجوهرية؛ والذي يُفصح عن طبيعة كيانها؛ كنيسة أبكار مرتفعة إلى فوق إلى السماء حيث مساكن النور في المظال الأبدية.
هيرودس اضطرب والطغاة أمثاله قتلة لا يهادنون حتى بالرغم من معرفتهم للنبؤات؛ فقد علم أن من بيت لحم سيخرج المدبر الذي سيرعى شعب الله... في بيت لحم أفراتة الصغرى التي ستكون بين ألوف يهوذا لأن منها يخرج المدبر (ميخا ٥ : ١٢)، لكن هيرودس في تجبُّره رأى أن هذا الطفل غريم له، وبدلاً من أن يذهب ليسجد له هو الآخر سجود العبادة؛ إحتال ليدبر له مقتلاً، فذبح هذا السفاح كل أطفال بيت لحم، أما يسوع فقد جاء ليدبر نجاة وخلاص العالم كله.
لقد طلب الأثيم الكنز المخفي فذبح الرُضع الأبرياء... لذلك أمست راحيل فاقدة التعزية لرؤيتها ذبح أولاد نسلها ذبحًا جائرًا وموتهم حتفًا في غير أوانه؛ حيث أخذت تنوح عليهم مفجوعة الأحشاء؛ لكنها الآن تسر وإياهم بمعاينتهم في أحضان إبراهيم... وهم الآن شفعاء بدم شهادتهم؛ ومن أجل طلباتهم أمام الحمل الحقيقي سيُنعم الله علينا بالمعونة وبنعمة غفران الخطايا.
السلام والطوبىَ والفرح لكم يا مَن نلتم مجدًا وإكرامًا ودالة عظيمة عند المخلص... ويا مَن تكلمتم وأنتم لم تقدروا أن تنطقوا بعد؛ بل تكلمتم بدمائكم وتمنطقت أجسادكم بذبيحة أعضائكم الليّنة والغضّة؛ وقد هيأ الله من أفواهكم سُبحًا للملك الصالح؛ تمشون معه على جبل صهيون كيمام بلا عيب وكفراخ النسور المرتفعة إلى العُلا، وليس مَن يشبهكم، وستسيرون أمام الديان في مجيئه الثاني عندما يأتي على السحاب وتنظره كل عين... فكما شهدتم في مجيئه الأول (ميلاده) ستشهدون في مجيئه الثاني (الدينونة)؛ حيث علامة الصليب تضيء في أياديكم، معطين المجد والكرامة والتسبيح للحي إلى أبد الآبدين؛ مبارِكين الملك الآتي بإسم الرب.
القمص أثناسيوس چورچ
كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
10 يناير 2019
لماذا جاء السيد المسيح إلى عالمنا
هذا يوضحه الإنجيلى بقوله: "لأن أبن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو10:19) وهذ1 يعنى الخطاة الهالكين. ولماذا جاء يخلصهم؟ السبب أنه أحبهم على الرغم من خطاياهم!! وفى هذا يقول الكتاب: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد, لكى لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية" (يو16:3). أذن هو حب أدى إلى البذل, بالفداء.
قصة ميلاد المسيح إذن, هى فى جوهرها قصة حب.
أحب الله العالم, العالم الخاطئ , المقهور من الشيطان, المغلوب من الخطية……العالم الضعيف العاجز عن أنقاذ نفسه! أحب هذا العالم الذى لا يفكر فى حب نفسه حباً حقيقياً, ولا يسعى إلى خلاص نفسه……بل العالم الذى فى خطيته أنقلبت أمامه جميع المفاهيم والموازين, فأصبح عالما ضائعاً. والعجيب أن الله لم يأت ليدين هذا العالم الخاطئ, بل ليخلصه، فقال: "ما جئت لأدين العالم, بل لأخلص العالم" (يو47:12). لم يأت ليوقع علينا الدينونة, بل ليحمل عنا الدينونة. من حبه لنا وجدنا واقعين تحت حكم الموت, فجاء يموت عنا. ومن أجل حبه لنا, أخلى ذاته, وأخذ شكل العبد, وصار إنساناً.
كانت محبة الله لنا مملوءة أتضاعاً, فى ميلاده, وفى صلبه.
فى هذا الأتضاع قبل أن يولد فى مذود بقر, وأن يهرب من هيرودس, كما فى إتضاعه أطاع حتى الموت, موت الصليب, وقبل كل الآلام والإهانات لكى يخلص هذا الإنسان الذى هلك.
رأى الرب كم فعلت الخطية بالإنسان!!! فتحنن عليه…..
كان الإنسان الذى خلق على صورة الله ومثاله قد أنحدر فى سقوطه إلى أسفل, وعرف من الخطايا ما لا يحصى عدده, حتى وصل إلى عبادة الأصنام "وقال ليس إله"….."الجميع زاغوا وفسدوا معاً" (مز 1:14-3)….. ووصلت الخطية حتى إلى المواضع المقدسة.
الإنسان وقف من الله موقف عداء. ورد الله على العداء بالحب!!!!
فجاء فى محبته "يطلب ويخلص ما قد هلك". وطبعاً الهالك هو الإنسان الذى عصى الله وتحداه,
وكسر وصاياه, وبعد عن محبته, "وحفر لنفسه آباراً مشققة لا تضبط ماء" (أر 13:2)……ولكن الله – كما أختبره داود النبى "لم يصنع معنا حسب خطايانا, ولم يجازنا حسب أثامنا, وإنما….كبعد المشرق عن المغرب, أبعد عنا معاصينا" (مز10:103-12). ولماذا فعل هكذا؟ يقول المرتل: "لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن" (مز 14:103).
حقاً إن الله نفذ (محبة الأعداء) على أعلى مستوى….
جاء الرب فى ملء الزمان, حينما أظلمت الدنيا كلها, وصار الشيطان رئيساً لهذا العالم(يو30:14) وأنتشرت الوثنية, وكثرت الأديان, وتعددت الآلهة…. ولم يعد للرب سوى بقية قليلة, قال عنها إشعياء النبى:"لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة, لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة"(إش9:1)
وجاء الرب ليخلص هذا العالم الضائع, يخلصه من الموت ومن الخطية.وقف العالم أمام الله عاجزاً, يقول له: "الشر الذى لست أريده, إياه أفعل"…… "ليس ساكنا فى شئ صالح" ……"أن أفعل الحسنى لست أجد" (رو 17:7-19). أنا محكوم على بالموت والهلاك. وليس غيرك مخلص (إش 11:43). هذا ما تقوله أفضل العناصر فى العالم, فكم وكم الأشرار الذين يشربون الخطية كالماء, ولا يفكرون فى خلاصهم!!
إن كان الذى يريد الخير لا يستطيعه, فكم بالأولى الذى لا يريده؟!إنه حقًا قد هلك ……لم يقل الكتاب عن المسيح إنه جاء يطلب من هو معرض للهلاك, وإنما من قد هلك….لأن "أجرة الخطية هى الموت" (رو 23:6).
والرب فى سمائه أستمع إلى آنات القلوب وهى تقول: قلبى قد تغير: الله لم أعد أطلبه. والخير لم أعد أريده. والتوبه لا أبحث عنها ولا أفكر فيها, ولا أريدها. لماذا؟؟ لأن "النور جاء العالم, ولكن العالم أحب الظلمة أكثر من النور, لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو19:3). وما دام قد أحب الظلمة أكثر من النور, إذن فسوف لا يطلب النور ولا يسعى إليه!!!
هذا العالم الذى يحب الظلمة, جاء الرب ليخلصه من ظلمته. "إلى خاصته جاء, وخاصته لم تقبله" (يو 11:1). وعدم قبولهم له معناه أنهم هلكوا. والرب قد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك. رفضهم له لا يعنى أنه هو يرفضهم. بل على العكس يسعى إليهم, لكى يخلصهم من هذا الرفض. "لأنه يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تى 4:2).
كذلك جاء يطلب الوثنيين الذين يعبدون آلهه أخرى غيره. هم لا يعرفونه. ولكنه يعرفهم ويعرف ضياعهم. وقد جاء لكى يطلبهم "النور أضاء فى الظلمة. والظلمة لم تدركه" (يو 5:1) ولكنه لم يتركهم لعدم إدراكهم له. إنما جاء ليعطيهم علم معرفته. وقد قال للآب عن كل هؤلاء الذين جاء ليخلصهم: "عرفتهم أسمك وسأعرفهم, ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به, وأكون أنا فيهم" (يو 26:17).
ما أكثر ما أحتمل الرب لكى يخلص ما قد هلك.
لست أقصد فقط ما أحتمله على الصليب ولكنى أقصد أيضًا ما أحتمله أثناء كرازته من الذين رفضوه , حتى من خاصته!!! التى لم تقبله…. حقًا ما أعجب هذا أن يأتى شخص ليخلصك, فترفضه وترفض خلاصه. ومع ذلك يصر على أن يخلصك!!!!
حتى الذين أغلقوا أبوابهم فى وجهه, صبر عليهم حتى خلصهم. كان فى محبته وفى طول أناته, لا ييأس من أحد…..جاء يعطى الرجاء لكل أحد, ويفتح باب الخلاص أمام الكل…."يعطى الرجاء حتى للأيدى المسترخية وللركب المخلعة" (عب 12:12). "قصبة مرضوضة لا يقصف, وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (مت 20:12). إنه جاء ليخلص, يخلص الكل. وكل هؤلاء مرضى وضعفاء وخطاة، ومحتاجون إليه. وهو قد قال: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى ما جئت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة" (مر 17:2).
من أجل هذا, لم يجد المسيح غضاضة أن يحضر ولائم الخطاة والعشارين ويجالسهم ويأكل معهم ويجتذبهم إليه بالحب. ويقول للمرأة التى ضبطت فى ذات الفعل: "وأنا أيضًا لا أدينك" (يو 11:8) لأنه ما جاء ليدينها بل ليخلصها.
وهكذا قيل عنه إنه "محب للعشارين والخطاة" (مت 19:11).
بل إنه جعل أحد هؤلاء العشارين رسوًلا من الأثنى عشر (متى). وأجتذب زكا رئيس العشارين للتوبة وزاره ليخلصه هو وأهل بيته, وقال: "اليوم حدث خلاص لأهل هذا البيت إذ هو أيضا إبن لإبراهيم" (لو 9:19). فتزمروا عليه قائلين: "أنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ" ولكنه كان يطلب ويخلص ما قد هلك.
إنه لم يحتقر الخطاة مطلقا, فالأحتقار لا يخلصهم! إنما يخلصهم الحب والأهتمام, والرعاية والأفتقاد, والعلاج المناسب…..العالم كله كان فى أيام المسيح "قصبة مرضوضة وفتيلة مدخنة". فهل لو العالم فسد وهلك, يتخلى عنه الرب؟! كلا… بل يعيده إلى صوابه.
حتى الذين قالوا إصلبه, قدم لهم الخلاص أيضاً. وقال للآب وهو على الصليب: "يا أبتاه أغفر لهم , لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون" (لو 34:23). ولماذا قال: "أغفر لهم"؟….لأنه جاء يطلب ويخلص ما قد هلك. ولهذا فتح باب الفردوس أمام اللص المصلوب معه…..
لم يكن ينظر إلى خطايا الناس, إنما إلى محبته هو.لم ينظر إلى تعدياتنا, إنما إلى مغفرته التى لا تحد. أما تعدياتنا فقد جاء لكى يمحوها بدمه. وحينما كان ينظر إليها, كان يرى فيها ضعفنا. لذلك قال له المرتل: "إن كنت للآثام راصداً يا رب, يا رب من يثبت؟! لأن من عندك المغفرة" (مز 130).
إنه درس لنا, لكى لا نيأس, بل نطلب ما قد هلك. هناك حالات معقدة فى الخدمة نقول عنها: "لا فائدة فيها" , فنتركها ونهملها كأن لا حل لها, بل نقول إنها من نوع الشجرة التى لا تصنع ثمراً، فتقطع وتلقى فى النار (يو 10:3). أما السيد المسيح فلم ييأس مطلقاً, حتى من إقامة الميت الذى قال عنه أحباؤه إنه قد أنتن لأنه مات من أربعة أيام (يو 11).
وهذا درس لنا أيضاً لكى نغفر لمن أساء إلينا. لأن الرب فى تخليصه ما قد هلك, إنما يغفر لمن أساء اليه. فالذى هلك هو خاطئ أساء إلى الله. والرب جاء يطلب خلاصه……!! كم ملايين والآف ملايين عاملهم الرب هكذا, بكل صبر وكل طول أناة، حتى تابوا وخلصوا. وبلطفه أقتادهم إلى التوبة (رو 4:2).
كثيرون سعى الرب إليهم دون أن يفكروا فى خلاصهم.وضرب مثالاً لذلك: الخروف الضال, والدرهم المفقود (لو15). ومثال ذلك أيضا الذين يقف الله على بابهم ويقرع, لكى يفتحوا له (رؤ 20:3). وكذلك الأمم الذين ما كانوا يسعون إلى الخلاص, ولكن السيد المسيح جاء لكى يخلصهم ويفتح لهم أبواب الإيمان. ويقول لعبده بولس: "إذهب فإنى سأرسلك بعيداً إلى الأمم" (أع21:22) لما ذكر القديس بولس هذه العبارة التى قالها له الرب صرخ اليهود عليه قائلين إنه: "لا يجوز أن يعيش" (أع 22:22).ولكن هداية الأمم كانت قصد المسيح الذى جاء يطلب ويخلص ما قد هلك.
جاء الرب يغير النفوس الخاطئة إلى أفضل.غير المؤمنين جاء يمنحهم الإيمان.والخاطئون جاء يمنحهم التوبة. والذين لا يريدون الخير جاء يمنحهم الإرادة. والذين رفضوه جاء يصالحهم ويصلحهم. وهكذا كان يجول يصنع خيراً (أع38:10).
حتى المتسلط عليهم إبليس جاء ليعتقهم ويشفيهم.
لذلك نحن نناديه فى أوشية المرضى ونقول له: "رجاء من ليس له رجاء, ومعين من ليس له معين. عزاء صغيرى النفوس, وميناء الذين فى العاصف". كل هؤلاء لهم رجاء فى المسيح الذى جاء يطلب ويخلص ما قد هلك….إنه عزاء الهالكين وأملهم لذلك دعى أسمه "يسوع" أى المخلص, لأنه جاء يخلص. ولذلك فإن ملاك الرب المبشر ليوسف النجار, قال له عن العذراء القديسة: "ستلد أبناً, وتدعو أسمه يسوع, لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت 21:1). مجرد إسمه يحمل معنى رسالته التى جاء من أجلها, أنه جاء يخلص ما قد هلك جاء يبشر المساكين, يعصب منكسرى القلوب. ينادى للمسبيين بالعتق, وللمأسورين بالإطلاق"(إش 1:61). ما أحلاها بشرى جاء المسيح بها. لم يقدم للناس إلهاً جباراً يخافونه….بل قدم لهم أباً حنوناً يفتح لهم أحضانه, يلبسهم حلة جديدة. ويضع خاتماً فى أصبعهم , ويذبح لهم العجل المسمن (لو 15). إلهاً يخلصهم من خطاياهم , ويمسح كل دمعة من عيونهم وهكذا أرتبط الخلاص بأسم المسيح وبعمله وفدائه. فإن كنت محتاجاً للخلاص, فأطلبه منه: يخلصك من عاداتك الخاطئة, ومن طبعك الموروث, ومن خطاياك المحبوبة, ومن كل نقائصك. ينضح عليك بزوفاه فتخلص, ويغسلك فتبيض أكثر من الثلج. هذه هى صورة المسيح المحببة إلى النفس, الدافعة إلى الرجاء فإن أردت أن تكون صورة المسيح, أفعل مثله. أطلب خلاص كل أحد. أفتقد سلامة أخوتك. وأولاً عليك أن تحب الناس كما أحبهم المسيح, وتبذل نفسك عنهم – فى حدود إمكاناتك – كما بذل المسيح. وتكون مستعداً أن تضحى بنفسك من أجلهم. بهذا تدخل فاعلية الميلاد فى حياتك ثم أنظر ماذا كانت وسائل المسيح لأجل خلاص الناس. أستخدم طريقة التعليم, فكان يعظ ويكرز, ويشرح للناس الطريق السليم , حتى يسلكون بالروح وليس بالحرف. وأستخدم أيضاً أسلوب القدوة الصالحة. وبهذا ترك لنا مثالاً, حتى كما سلك ذاك, ينبغى أن نسلك نحن أيضاً( 1يو 6:2). وأستخدم المسيح الحب, وطول الأناة, والصبر على النفوس حتى تنضج. كما أستخدم الأتضاع والهدوء والوداعة. وأخيرًا بذل ذاته, مات عن غيره, حامًلا خطايا الكل فأفعل ما تستطيعه من كل هذا. وأشترك مع المسيح, على الأقل فى أن تطلب ما قد هلك, وتقدمه للمسيح يخلصه وعلى الأقل قدم صلاة عن غيرك ليدخل الرب فى حياته ويخلصه. والصلاة بلا شك هى عمل فى إمكانك. ولا تكن عنيفاً ولا قاسياً فى معاملة الخطاة, بل تذكر قول الرسول: "أيها الأخوة إن انسيق إنسان, فأخذ فى زلة , فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة" (غل 1:6). كما إستخدم الرب روح الوداعة فى طلب الناس وتخليصهم
قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
09 يناير 2019
مولود قبل كل الدهور
يظن البعض أن السيد المسيح قد سُمي (الابن) لأنه وُلد من العذراء مريم، وهذا الظن خاطىء، لأن ربنا يسوع المسيح هو (الابن) منذ الأزل، لأنه مولود من الآب قبل كل الدهور.
فهو ابن الله منذ الأزل وإلى الأبد، وصار ابن إنسان بالتجسد في ملء الزمان. ولذلك يرد لقب (الابن) في العهد القديم (أي) قبل التجسد، ففي سفر الأمثال ورد النص التالي: "مَنْ صَعِدَ إلَى السماواتِ ونَزَلَ؟ مَنْ جَمَعَ الرِّيحَ في حَفنتيهِ؟ مَنْ صَرَّ المياهَ في ثَوبٍ؟ مَنْ ثَبَّتَ جميعَ أطرافِ الأرضِ؟ ما اسمُهُ؟ وما اسمُ ابنِهِ إنْ عَرَفتَ؟" (أم30: 4).
كما ورد على سبيل النبوة في مواضع كثيرة منها: "مِنْ مِصرَ دَعَوْتُ ابني" (هو11: 1).
والابن مولود من الآب قبل الدهور ولادة طبيعية، أي كخروج الشعاع من المصباح، أو ولادة الحرارة من النار.
ونقصد بعبارة (الولادة الطبيعية) أنها بدون إرادة، فالشمس يخرج منها النور والحرارة تلقائيًا، ولا تكون شمس إن لم يخرج منها نور وحرارة، وكذلك الآب يخرج منه تلقائيًا الابن المولود والروح القدس المنبثق، ولا يكون آبًا إن لم يكن له ابن وروح خارجان منه باستمرار وبدون انفصال.
وإذا لم يكن الله آبًا فماذا سيكون؟!! هل هو صنم لا يتحرك ولا يتفاعل ولا يتكلم ولا ينتج ولا يُؤثر ولا يشعر به أحد (منذ الأزل)؟
حاشا لله أن يكون هكذا.. بل هو كائن حي نابض بالحيوية والاشعاع الحي، لذلك فهو منذ الأزل إله حي يتكلم ويسمع ويتحرك ويحب، وينبعث منه الابن بطريقة الولادة والروح القدس بطريقة الانبثاق.
وهناك حوار منذ الأزل بين الأقانيم وهم في وحدانية الجوهر، وهناك حب وحركة وحيوية في الله الواحد المثلث الأقانيم منذ الأزل.
وأبوة الله هي مصدر كل أبوة في الخليقة، لأنه إن لم يكن الله أبًا يلد ابنًا، فكيف يخلق خليقة قادرة على الانجاب؟!! "أحني رُكبَتَيَّ لَدَى أبي رَبنا يَسوعَ المَسيحِ، الذي مِنهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشيرَةٍ (أبوة) في السماواتِ وعلَى الأرضِ" (أف3: 14-15).. أي منه تنبع كل أبوة وكل خصب في الخليقة الحية.
+ هنا يجب أن أوضح مرة أخرى أن الفروق بين ولادة الابن من الآب، وبين ولادة أي كائن من كائن آخر هي:
(1) بدون زواج.. فالآب قادر أن يلد بدون مساعدة من أحد.
(2) بدون أقدمية.. فالآب أزلي والابن أزلي.
(3) بدون انفصال.. فالآب والابن ليسا إلهين منفصلين بل أقنومان متحدان.
(4) باستمرار.. فالولادة من الآب مستمرة منذ الأزل وإلى الأبد.
(5) بدون إرادة.. لأن خروج الابن من الآب هو خروج طبيعي تلقائي.
ونفس الكلام يُقال أيضًا عن خروج الروح القدس من الآب بطريقة الانبثاق، ومع مساواة الأقانيم الثلاثة في الجوهر والألوهة والأزلية والقدرة.
+ مثال للإيضاح:
ولادة الفكر من العقل.. هو أيضًا بدون زواج، وبدون أقدمية العقل عن الفكر، وبدون انفصال، وباستمرار، وبتلقائية. وكذلك ولادة الحرارة من النار، والشعاع من الشمس.
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد