المقالات

24 نوفمبر 2021

روحانية الصوم

أهنكم يا أخوتى ببداية صوم الميلاد المقدس،الذي هو فترة روحية يرتفع فيها الإنسان فوق مستوى الجسد، ويرتفع أيضًا فوق مستوى المادة.. وتتفرغ فيها الروح للعبادة.. وهذه هي حكمة الصوم. والصوم الحقيقي، هو الذي يتدرب فيه الصائم على ضبط النفس فإذا ما اتفق ذلك خلال الصوم، يصير ضبط النفس -بالنسبة إليه- هو منهج حياة، يستمر معه. والصوم ليس مجرد فضيلة للجسد، بعيدًا عن الروح!! فكل عمل لا تشترك فيه الروح، يعتبر فضيلة على الإطلاق، أن عمل الجسد في الصوم، هو تمهيد لعمل الروح، أو هو تعبير عن مشاعر الروح.. الروح تسمو فوق مستوى المادة والطعام، وفوق مستوى الجسد.. فتقود الجسد معها في موكب نصرتها، وتشركه في رغباتها الروحية. ويعبر الجسد عن ذلك بممارسة الصوم.إننا أن قصرنا تعريفنا للصوم على أنه إذلال للجسد بالجوع والامتناع عما يشتهيه، نكون قد أخذنا من الصوم سلبياته، وتركنا عمله الايجابي الروحي، وهو الأساس. الصوم ليس مجرد جوع للجسد، بل بالأكثر هو غذاء للروح.. ليس الصوم هو تعذيب للجسد كما يطن البعض.. إنما الصوم هو تسامي الجسد، لكي يصل إلى المستوى الذي يتعاون فيه مع الروح.والصائم الحقيقي ليس هدفه أن يعذب جسده، بل هو يقصد عدم السلوك حسب شهوات الجسد، فيكون إنسانًا روحيًا وليس جسدانيًا.. الصوم هو روح زاهدة، تشرك الجسد معها في الزهد والصوم ليس هو الجسد الجائع، بل هو الجسد الزاهد، أو على الأقل الجسد الذي يتدرب على الزهد في فترة معينة.ليس هو حالة الجسد الذي يجوع ويشتهي أن يأكل.. بل الجسد الذي يتدرب على التخلص من شهوة الأكل.. وبالتالي يفقد الأكل قيمته في نظره، من فرط اهتمامه بطعام آخر هو طعام الروح. الصوم فترة ترتفع فيها الروح، وتجذب الجسد معها تخلصه من أحمال وأثقال، وتجذبه معها إلى فوق، لكي يعمل معها من أجل الله بلا عائق، والجسد الروحي يكون سعيدًا بذلك.. الصوم هو فترة روحية، يقضيها الجسد والروح معًا في عمل روحي يشترك فيه الاثنان معًا في الصلاة والتسبيح والعشرة الإلهية.فيصلي الإنسان ليس فقط بجسد صائم، إنما أيضًا بنفس صائمة.بفكر صائم وقلب صائم عن الشهوات والرغبات، وبروح صائمة عن محبة المادة والماديات، في حياة مع الله تتغذى بمحبته ووصاياه..الصوم بهذا الشكل هو الوسيلة الصالحة للعمل الروحي.. وهو -الجو الروحي الذي يحيا فيه الإنسان جميعه- بقلبه ونفسه، وجسده وروحه، وبحواسه وفكره وعواطفه.. كل ذلك في مشاعر مقدسة..الصوم ليس مجرد علاقة بين الإنسان والطعام بل هو فترة مقدسة يشعر فيها الإنسان بعلاقته مع الله..والصوم الذي ليس هدفه القربى من الله، هو صوم باطل..الله هو الهدف. فنحن من أجل الله نأكل، ومن أجله نصوم.. من أجل الله نأكل، لكي ينال هذا الجسد قوة يستطيع بها أن يخدم الله، وان يكون أمينًا في واجباته التي كلفه بها الله من نحو الناس.. ونحن من أجل الله نجوع، لكي نخضع الجسد فلا نخطئ إلى الله. ولكي يكون الجسد تحت سيطرتنا، ولا نكون نحن تحت سيطرة الجسد، ولكيلا تكون رغبات الجسد وشهواته هي قائدنا في تصرفاتنا.. إنما نسلك حب الروح.لهذا كله، هناك فضائل لابد أن يرتبط بها الصوم، ليكون مقبولًا عند الله.. وأولى هذه الفضائل هي التوبة.. فالصوم البعيد عن التوبة هو صوم غير مقبول.. والله -تبارك اسمه- يريد القلب النقي أكثر مما يريد الجسد الجائع.والإنسان الذي يصوّم فمه عن الطعام، ولا يصوّم قلبه عن الخطايا، ولا يصوم لسانه عن الأباطيل، فصوم هذا الإنسان باطل بل أن الخطية التي يرتكبها الإنسان -وهو صائم- تكون عقوبتها أشد. لأنها تحمل كذلك الاستهانة بقدسية أيام الصوم.لذلك على كل صائم أن يتأكد من أن الصوم قد حوّل حياته إلى مستوى أفضل.. ليس فقط بالامتناع عن خطايا كان يقع فيها قبلًا. بل أيضًا باكتساب فضائل جديدة قد تدرب عليها.هذا ويكون من لوازم الصوم: التدريبات الروحية التي يكتسب بها الصائم صفات من حياة البر كانت تنقصه وليسأل الإنسان نفسه: كم من أصوام مرت عليه خلال ما مضى من سنوات، دون أن يكتسب فضائل جديدة تضاف إلى روحياته..؟! وإنما هو هو، لم يتغير فيه شيء!! ولم يدفعه صومه إلى درجات في حياة الروح، ينمو فيها سنة بعد سنة.لماذا لا نراقب أنفسنا أثناء صومنا؟ ولماذا لا نحاسب أنفسنا: في أية درجة روحية نحن الآن؟ وماذا بذلناه من جهد لكي تكون علاقتنا بالله أكثر عمقًا وأكثر قربًا؟!. وكما يرتبط الصوم بالتوبة، يرتبط أيضًا بالغذاء الروحي إن أخطر ما يتعب البعض في الصوم، أن يكون الجسد بلا غذاء، والروح أيضًا لا تجد ما تتغذى به، ويصبح الصوم مجرد فترة من الحرمان!! وهذا الحرمان يعطي صورة قاتمة عن الصوم.. فيشتهي البعض متى ينتهي الصوم ليأكلوا!! وغذاء الروح معروف، وهو الصلاة والألحان والتسابيح، والتأمل في كلام الله وعمق وصاياه والتأمل في صفات الله وفي سير الأبرار، والتأمل في الفضائل. وغذاء الروح أيضًا: المشاعر الروحية، والتفكير في السماء وفي الأبدية والروح إذا تغذت، تستطيع أن تحمل الجسد، فيحتمل الجسد جوعه وترتبط بالصوم أيضًا: أعمال الرحمة وإطعام الجياع فالإنسان الذي جرب في الصوم قسوة الجوع، بالضرورة يشفق على الجياع، ويعطيهم شيئًا من طعامه.. ليس هذا فترة الصيام فقط وإنما تصبح فضيلة له أن يهتم بكل جوعان ويعطيه ليأكل.وهكذا تدخل الرحمة في مشاعر الإنسان الصائم.. ولا تقتصر رحمته على إطعام الجياع فحسب، بل تشتمل الفقير واليتيم والمسكين، بكل أنواع الإحسان التي يقدر عليها.وأخيرًا أقول يا أخوتي، أن أيام الصوم هي فترة تخزين روحي للعام كله، تفيض بروحياتها على باقي أيام السنة.فالصوم ليس مجرد فترة تمر وتنتهي، وتنتهي معها فضائلها ومشاعرها!! كلا.. بل من عمق روحيات الصوم، يأخذ الصائم طاقة روحية تستمر معه بعد انقضاء الصوم أيضًا، وما تعوده خلال الصوم، وما درب نفسه عليه، يتحول بالوقت إلى جزء من طبعه لا يود أن يفقده.والتوبة التي كانت له في صومه، ليس من السهل أن يزول تأثيرها، وكذلك ما أصلحه في نفسه من طباع وعادات.فإن تخلصت من خطية في فترة الصوم، اثبت في ذلك، ولا تعد إلى ممارسة الخطيئة فيما بعد.وليكن هذا الصوم مباركًا في حياتك، وفي حياة كل من يتصل بك، ويراك أمثولة يقتدي بها. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
17 نوفمبر 2021

الوقت: قيمته، وموازينه، وكيف تقضيه

الوقت هو جزء من حياتك. والذي يضيع وقته، إنما يضيع جزءًا من حياته. والذي يقضي وقته في تفاهات، بلا شك أن حياته تافهة في نظره، لم يستفد منها، ولا أفاد غيره، لأن وقته لم يكن ذا فائدة لأحد! لقد منحك الله الوقت لهدف، هو هدف الحياة ذاتها. لذلك فالذي يبعثر وقته، بدون أي هدف بناء، يكون وقته رخيصًا في عينيه. وبالتالي تكون حياته رخيصة عنده، وعند الناس! إن عظماء الرجال الذين سجل التاريخ أسماءهم، هم الذين استغلوا وقتهم في بناء أنفسهم، وفي بناء المجتمع الذي عاشوا فيه. بل امتد نفعهم إلي أجيال طويلة أتت بعدهم. وذلك بما تركوه من تراث فكري أو علمي، كان نتيجة لاستخدام وقتهم في الخير والنفع كذلك طلاب العلم الذين نبغوا، هم الذين استفادوا من وقتهم في الدرس والاستذكار، فتفوقوا وبنوا لأنفسهم مستقبلا مرموقا، بعكس زملائهم الذين ضاع وقتهم هباء، وضاع معه مستقبلهم! ما أعجب الوقت، اسأل نفسك هل هو معك أم ضدك؟ لك أم عليك؟! ومن المهم لكل أحد: التوازن في توزيع الوقت لأن البعض يركزون وقتهم في أمر معين يهتمون به، بينما يهملون أمورًا أخري لا يمنحونها نفس الأهمية! أما الإنسان الحكيم، فإنه يوزع وقته بعدل ففيما هو يعطي وقته لمسئولياته الرسمية، يعطي وقتًا آخر لأسرته فيهتم بها، ووقتا آخر لصحته، ووقتا لتثقيف نفسه وتنمية معلوماته، ووقتا لبعض الخدمات الاجتماعية. ولا مانع من وقت كذلك للرفاهية المقبولة، حتى لا تكون حياته شدا مستمرا بدون راحة أو أي جانب من الاسترخاء 'Relax'. وقد وهبنا الله يوما في الأسبوع للراحة. وفي توزيع الوقت، لابد من جانب يخصص للعبادة يقضيه، الإنسان في الصلاة والخشوع، وفي القراءة الروحية والتأمل، وفي التسبيح والترتيل، لأن حياته الروحية هي أيضا جزء من مسئوليته تجاه نفسك، وهي لازمة لعلاقته بالله تبارك اسمه وأنا ضد المثل القائل 'ساعة لقلبك وساعة لربك'!! ذلك لأن هذا المثل فيه فصل بين القلب والرب! وكأن الساعة التي يعطيها الإنسان لقلبه، يكون فيها بعيدًا عن ربه!! والوضع السليم أن الإنسان فيما يعطي ساعة لقلبه، يكون في نفس الوقت مرضيا لربه. وأيضا فيما يعطي ساعة لربه، يكون سعيدا بذلك في قلبه.. وفي توزيع الوقت، ينبغي الاحتفاظ بالنسب سليمة:- فلا تطغي نسبة منها علي نسبة أخري. فمثلًا لا يكون الوقت الذي تقضيه مع ربك، قليلًا في مدته، وسطحيا في اهتمامه، بلا عمق! فأنت محتاج بالضرورة إلي وقت من الهدوء والسكون لأجل روحياتك، تحاسب فيه نفسك علي ما فعلته من أخطاء، وتقدم فيه توبة لله... كذلك عليك أن تراعي النسبة بين الوقت الذي تمنحه لنفسك، والوقت الذي تبذله لأجل غيرك. ومن النبل أن تضحي بوقت مناسب لخدمة الآخرين. وثق انه محفوظ لك عند الله والناس وما أجمل قول سليمان الحكيم: "لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ" (سفر الجامعة 3: 1) طبعا، كل أمر ينبغي عمله في الوقت المناسب له. فللحزن وقت، وللضحك وقت. للجد وقت، وللهو وقت. كما انه للكلام وقت، وللسكوت وقت. والإنسان الحكيم لا يسكت حين يجب الكلام، ولا يتكلم حين يحسن الصمت وكمثال: علي الزوجة ألا تكلم زوجها في أمر مهم تريده، في وقت يكون فيه مشغولا أو مرهقا، أو غير متفرغ لها، أو غير رائق في طبعه أو أعصابه. إنما تتخير الوقت المناسب هنا ونسأل ما هي أفضل الأوقات للإنتاج الفكري أو العملي؟ يختلف هذا الأمر من شخص لآخر، ولكنه علي أية الحالات يكون الوقت الهادئ هو أنسب الأوقات، سواء من جهة الهدوء الخارجي، أو هدوء النفس من الداخل البعض يناسبه الليل الهادئ الساكن بعيدا عن ضوضاء النهار. بينما البعض الآخر يناسبه الصباح الباكر، قبل أن تزحم ذهنه مشغوليات يوم جديد. والبعض يأخذ إيحاءه الفكري من أحداث تعرض أمامه تحمل في طياتها معاني معينة وعلي كل، لا يخضع الفكر في إنتاجه لقاعدة تشمل الكل، بل كل شخص له ظروفه، كذلك الإنتاج الفني من جهة الوقت، يسأل البعض أيضًا عن السهر والأرق وأسبابهما.. إن السهر غير الأرق. فقد يكون السهر عملا إراديا، بينما يكون الأرق هو عدم القدرة علي النوم. وربما يكون من أسباب الأرق، انشغال الفكر بما يتعبه، وكذلك انشغال النفس والأعصاب. وفي ذلك يقول المثل العامي 'ينام الليل من له قلب خالي.. ويري بعض الشعراء الذين كتبوا في الغراميات، أن تعب القلب في هذا الأمر يسبب الأرق. فيقول أمير الشعراء أحمد شوقي: يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده وذلك في قصيدته التي يقول فيها أيضًا: مضناك جفاه مرقده وبكاه ورحم عوده وفي نفس المعني يقول أحد الشعراء: لم يطل ليلي ولكن لم أنم ونفي عني الكري طيف ألم وفي حديثنا عن الوقت، لا يفوتنا الكلام عن مقاييس الوقت هناك مقاييس طبيعية يحددها الليل والنهار، وتوالي الفصول والسنين، بل تحددها أيضا الساعة والثانية علي أن هناك مقاييس أخري: منها الألم والملل. لاشك أن دقيقة واحدة من ألم لا يطاق، تكون أطول من ساعات عديدة في حالة الراحة..! إن الإحساس بالوقت في مقدار طوله، أو في حالة مروره وعدم مروره، تدخل فيه عوامل كثيرة جدا، بعضها نفسية أو مرضية والملل يجعل الوقت يمر طويلا ومتثاقلا، وكأنه لا يتحرك! بينما أوقات الفرح والمتعة، تمر بسرعة دون أن يدري بها صاحبها ودون أن يحس.. كذلك أيام السعادة في حياة كل إنسان. أما الوقت الذي ليس له مقياس، فهو الأزلية والأبدية الأزلية تعني ما لا بداية له. والأبدية تعني ما لانهاية له. والأزلية خاصة بالله وحده. إنه الوحيد الأزلي الكائن قبل الأكوان كلها، وقبل أن يخلق المقاييس التي يقاس بها الزمان والوقت أما الأبدية فتكون في العالم الآخر، بعد القيامة العامة حيث لا تكون هناك نهاية للزمن. وعلي هذا فإن حياتنا إذا ما قيست بالأبدية تصبح لاشيء. فكل رقم إذا وضع علي ما لانهاية، فإنه يؤول إلي صفر لذلك علي الإنسان أن يهتم بأبديته. فلا تغره سنوات قليلة أو كثيرة يقضيها علي هذه الأرض. ثم تواجهه بعد ذلك الأبدية، حيث لا يقف معه فيها سوي عمل الخير الذي عمله أثناء حياته علي الأرض: الخير من جهة نقاوة قلبه وفكره وتصرفاته. والخير من جهة ما عمله نحو غيره.لهذا كله علي كل إنسان أن يستفيد من وقته ليكون تمهيدا لمصيره في الأبدية. حتى يقف وقته شاهدا يدافع عنه أمام الله.. وفيما يهتم هنا بوقته ليكون نافعا. عليه أن يهتم أيضًا بحرصه علي أوقات الآخرين، فلا يشغلهم بما يعطلهم. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
10 نوفمبر 2021

الآخر.. مَنْ هو الآخر؟ ما علاقتك بالاخر؟

الآخر هو كل إنسان غيرك. فما هي علاقتك إذن بالآخر؟ حينما خلق الله أبانا آدم، خلق له كائنا آخر هو أمنا حواء وكانت علاقة كل منهما بالآخر علاقة حب وتعاون, نضعها كمثال طيب أمامنا. فلم يحدث في يوم من الأيام أن اختلف أحدهما مع الآخر إنما عاشا متزاملين ومتلازمين، يقطعان غربة العمر معا.يقطفان الورد معا، وقد يجرحان من الشوك معا ثم كانت أول مأساة مع الآخر، فيما قاساه ابنهما هابيل من أخيه الذي قام عليه وقتله. فكان المثال الذي علينا أن نتحاشاه.وبمرور الوقت اتسعت دائرة الآخر في الحياة: من العلاقة بين فرد وفرد، إلى العلاقة في محيط الأسرة، ثم القبيلة. وتطورت إلى العلاقات في البلد الواحد، إلى الوطن الواحد. وأخيرا إلى العالم كله، الذي نشأ من أسرة واحدة. فكيف يكون إذن التعامل مع هؤلاء؟ ولنبدأ بالتعامل مع الفرد، فنقول: هل أنت تحترم الآخر أيا كان، كإنسان؟ هل نتعاون معه؟ هل تساعد الآخر؟ هل تجده؟ هل أنت على استعداد أن تبذل نفسك لأجل الآخر، وتضحي من أجله بكل شيء؟ اعلم أنه حسب نوعية التعامل مع الآخر، يكون مقياس حضارة الإنسان، فالإنسان المتحضر يكون سهل التفاهم مع الآخر، يأخذ ويعطى معه في مودة ويسر، ولا يسرع إلى الخلاف ما أجمل ما قاله احد الحكماء "ما عاش من عاش لنفسه فقط" إنها الأنانية أو الانغلاقية، حيث يتمركز الشخص حول نفسه، ولا يخرج منها ويندمج مع الآخر. وهذا الاندماج هو البذرة التي يتكون بها المجتمع. وعلى العكس هناك من يرون أنهم لا يستطيعون أن يعيشوا بدون الآخر.. بل كل نشاطهم هو من أجل الآخر، وكل مواهبهم هي من اجل الآخر. وفي هذا يقول الشاعر إيليا أبو ماضي: يا صديقي أنا لولا أنت ما غنيت لحن كنت في قلبي لما كنت وحدي أتغنى وإن كانت هذه هي كلمات شاعر، وخواطره ومشاعره وألحانه، فإنها أيضًا هي علاقة الكاتب مع الآخر، أعني مع القارئ وكأن الكاتب يقول للقارئ. بلغة إيليا أبو ماضي: أنا لولا أنت ما كنت أكتب! إذ أنني من أجلك اكتب ، حيث يختلط فكرى بفكرك، ويصير لنا فكر واحد، وليس آخر. فأنت هدفي، وأنا وسيلتك. وأنت أذني، وأنا فمك. وكلانا واحد. وحقًا ماذا تكون جدوى كلماتي من غيرك؟! إنها لا شيء! نفس الأمر مع كل من يعمل عملًا، هو لغيره، أو نتيجته لغيره فالبائع لا شيء، إن لم يوجد المشترى والمتكلم لا جدوى لكلامه، إن لم يكن هناك الذي يسمع والراعي لا صفة له، إن لم تكن هناك رعية والمعلم ما هدفه، إن لم يكن هناك من يتلقى عليه العلم وهكذا دواليك وفى كل هذه الأمثلة تظهر أهمية الآخر.. نقطة أخرى في علاقة الإنسان بالآخر، وهي إن الإنسان الواسع القلب، لا يزاحم الآخر في طريق الحياة.. بل هو في سيره، يفسح طريقًا لغيره. يفسح له الطريق ليعبر، أو لكي يسير معه في نفس الطريق. إنه لا يتعالى على الآخر، ولا يتفاخر، وهدفه أن يلتقيًا ولا يتباعدًا. وأتذكر أنني كتبت عن ذلك في إحدى قصائدي منذ زمن بعيد. قل لمن يجرى ويعلو شامخ يا صديقي قف قليلًا وانتظرني نحن صنوان يسيران مع إنا في حضنك مل أيضًا لحضني قل لمن يعتز بالألقاب إن صاح في فخره: من أعظم منى؟! أنت في الأصل تراب"تافه" هل سينسى أصله من قال "إني"..؟! يا أخي اعرف جيدًا في صراحة كاملة انه كلما ازدادت (الأنا) عندك، حينئذ يختفي الآخر في مقاييسك حيث تقول: من الذي يعيش ويظهر، وينمو وينتشر: أنا أم الآخر؟ وحيث يقول البعض: إذا مت عطشان، فلا نزل المطر!! أو تقول : فلأكن أنا المنتصر على الدوام، وغيري المهزوم..! الدنيا هي دنياي أنا، خلقها الله لي، لكي أعيش!! وتنسى أن الله تبارك اسمه، قد خلق الدنيا للكل، والكل رعاياه وموضع اهتمامه لماذا تطلب أن يختفي الآخر لكي تظهر أنت؟ ألا يمكن لكما أن تعيشا معا؟ حقًا إن عمق الاهتمام بالآخر يكمن في إنكار الذات ،وإيثار الغير على النفس. بينما إهمالك للآخر لون من الأنانية يا أخي، لماذا يكون قلبك ضيقًا، فلا يتسع للآخر؟! ولماذا. إذا ما اتسع قلبك. فإنما ينفتح لنوعية خاصة من الناس ، بينما ينغلق أمام الآخرين؟! لماذا تخسر الآخر؟! ليتك تستمع إلى سليمان الحكيم حينما قال "رابح النفوس حكيم" على أن أسمعك وأنت تهمس قائلًا: "ولكن فلانًا لست اتفق معه، طبعي لا يتفق مع طبعه، وفكري لا يتمشى مع فكرة". هنا وأراني مضطرًا أن أردد عبارة جميلة قالها القديس يوحنا ذهبي الفم، وهي: "من لم توافقك صداقته، لا تتخذه لك عدوًا".لذلك نصيحتي لك، لا توسع دائرة أعدائك. فليس هذا من الصالح لك ولا لغيرك.. وهنا أسأل : إذا اختلف معك الآخر في الرأي، هل تحول ذلك إلى خلاف في القلب أيضًا؟! وهل حينئذ تهاجم الآخر، وتعاديه، وتحقره، وتشهر به؟!ً أم تحاول أن تلتقي به وتتفاهم؟ وإن التقيت معه في حوار، أيكون حوارًا هادئًا، أم ساخنًا، أم ملتهبًا؟ أم حوارًا يسوده الاحترام والمودة؟ وهل يكون هدفك من الحوار أن تنتصر على الآخر، وترغمه على قبول رأيك؟ وهل حوارك ليس للتفاهم، إنما لإثبات شخصيتك، وتثبيت فكرك؟ وهل يؤول حواركما حينئذ إلى مزيد من التباعد في الرأي والقلب؟! يا صديقي، هل تؤمن بحرية الرأي؟ وبالتنوع والتعدد في الأفكار؟ وهل يظهر ذلك في تعاملاتك؟ أم انك تعمل على إلغاء شخصية الآخر!! فإما أن يوافقك، أو تطرحه بعيدا عنك. ويتحول التنوع إلى خلاف، ويتحول الخلاف إلى قتال ويؤول القتال إلى عداوة، تحتد وتشتد!! في الزواج مثلا: لماذا يحدث الطلاق أحيانًا؟ أليس السبب هو نفس الإشكال؟ أنا أم الآخر؟! بينما الحكمة في الزواج، أن يصير الزوجان واحدًا، لا أن يكونا واحدًا وآخر..! وهكذا عن باقي أفراد الأسرة والأقارب، حيث يقول الواحد منهم عن قريبه: إنه لحم من لحمى، وعظم من عظامي. إنه دمى، وليس آخر وبالحب، يتسع نطاق أسرتك، حتى يشمل المجتمع كله. ولا تقول عن فرد منه إنه آخر. بل هذا المجتمع هو ذاتك الكبرى، وليس آخر..! عندئذ يتحول العالم كله إلى أسرة كبيرة متحابة، يتحدثون فيها عن التعاون الدولي، والمؤسسات الدولية، وما إلى ذلك لهذا كله، ينبغي على كل منا أن يتدرب على محبة الآخر. فالعلاقة مع الآخر كلما ازدادت قربًا تتحول إلى وحدة. وأتذكر أنني سئلت مرة عن الوحدة الوطنية فقلت: يا أخي المواطن: حينما أنظر إلى نفسي فأراك، وأنظر إليك فأراني، وكأنني أنظر في مرآة، وكأننا زوج واحد في جسدين، عندئذ تكون هذه هي الوحدة الوطنية... قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
03 نوفمبر 2021

المعرفة 2: أمور فوق معرفتنا ­ معرفة ضارة، مستويات المعرفة­ معرفة النفس

تكلمنا في العدد الماضي عن معرفة الله ­تبارك اسمه­ مع مقارنة بسيطة بمعرفة الناس. ونود اليوم أن نكمل حديثنا عن معرفة الناس: في الواقع ما أقل ما نعرفه، علي الرغم من انتشار العلم! فنسبة ما نعرفه ضئيلة إذا قورنت بما لا نعرفه..! ولا شك أن هناك عجائب فوقنا لا ندركها. وقد سمح الله بوجود أمور كثيرة تخفي علينا معرفتها حتى لا يصاب العقل البشري بالغرور في عصر التكنولوجيا الحديثة.ولعل في مقدمة ما نجهله، موضوع المعجزة والمعجزة سميت هكذا، لان العقل البشري يعجز عن تفسيرها.. إنها ليست ضد العقل، ولكنها مستوي فوق العقل، وعلي الرغم من أن العقل لا يدرك كيف تتم، إلا انه يقبلها بالإيمان ولا يهمه أن يعرف كيف تتم والمعجزات أمر يؤمن به كل متدين. ولعل من ابرز المعجزات التي يؤمن بها الكل: الخلق، والقيامة العامة.كلنا نؤمن أن الله خلق الكون، أي أوجده من العدم حيث لم يكن الكون موجودًا، خلق البشر والملائكة والطبيعة. ولكن كيف خلقها؟ بأية قدرة؟ هنا العقل لا يعرف. ولكنه يقبل بالإيمان.ونفس الوضع بالنسبة إلى القيامة العامة 'أو البعث'، كلنا نؤمن بذلك. والعقل يقبله، دون أن يعرف إطلاقًا كيفما يعود الإنسان إلى الحياة بعد الموت! معرفة هذا الأمر هي فوق مستوانا. كلها أمور تتعلق بقدرة الله غير المحدودة.وعبارة 'غير المحدود' يقف أمامها العقل عاجزا في معرفته.. واستخدام هذه العبارة من جهة الزمن، أمر آخر فوق نطاق معرفة العقل.. فكلمة أزلي، وكلمة ابدي، وكلمة سرمدي.. أي ما لا بداية له ولا نهاية، أمور قد يستخدمها العقل ولكنها فوق معرفته! حقًا ما معني عبارة 'لا بداية له'؟! ما معني الأزلية؟ ومتى قطع نطاق الأزلية في وقت ما ليوجد الكون؟.. إنها أمور لا يفحصها العقل وإنما يقدمها الإيمان ويقبلها الإنسان بالتسليم، كثوابت إيمانية. أمور أخرى فوق معرفتنا، تتعلق بالعالم الآخر.. متى ستكون بداية العالم الآخر؟ وكيف تكون؟ وأين..؟ إنها أمور ترتبط بالروح والموت وما بعد الموت.. وهي أيضًا فوق نطاق معرفتنا وتتعلق أيضًا بالنفس وكنهها وخواصها، وبالعقل.. ثم أليس عجيبًا أن العقل لا يعرف تماما كيف يعمل العقل!! وما مدي علاقة العقل بالمخ وما فيه من مراكز تعمل؟ وكيف يتوقف بعضها عن العمل، ويعجز العلم البشري والعقل البشري عن إعادة مراكز المخ المتوقفة إلى عملها الطبيعي! بل في عالمنا الحاضر، العالم المادي، أمور كثيرة لا نعرفها.مثال ذلك ما اقل معرفتنا عن الفلك وما فيه من شموس ونجوم وكواكب، وما فيه من شهب ومجرات.. كل ما نعرفه هو معرفة سطحية لا تدخل في نطاق التفاصيل.. لقد فرحنا ببعض أحجار من القمر، أتى بها رواد الفضاء، ومع ذلك لا يزال القمر لغزًا لا نحيط بكامل المعرفة عنه! ونفس الوضع نقوله عما نعرفه من جهة أعماق الأرض وأعماق البحار.. هناك معلومات بسيطة يقدمها لنا العلم نتيجة لاكتشاف وحفريات.. وتبقي الحقيقة الكاملة بعيدة عن معرفتها ونفس الكلام نقوله عن محتويات الجبال، وعن بعض الكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير والسيول والبراكين: ما تبدأ؟ ونطاق عملها وكيف تنتهي. هناك أيضًا أمراض خطيرة، مازال العلم حائرا أمامها، لا يعرف أسبابها، ولا يعرف طريقة القضاء عليها قبل أن تقضي علي المرضي! وما دامت معرفتنا محدودة نواجه سؤالا وهو: كيف ننمو في المعرفة؟ من جهة المعرفة: الممكنة، هناك وسائل عديدة لنموها: منها العلم، والقراءة، والمشورة، والخبرة، والتوعية. وكما قال الشاعر:- فاطلب العلم علي أربابه واطلب الحكمة عند الحكماء وحتى كل هؤلاء يقدمون من العلم علي قدر معرفتهم ولا شك معرفتهم محدودة. وقد تختلف مصادر المعرفة علي حسب قامتها ونوعيتها.. حتى معرفة تفاصيل عن الخير والشر وما يجب وما يجوز وما يليق، قد تختلف فيه الآراء. وقد تختلط المعرفة بالطباع والنزعات والأهواء وأحيانًا يتأثر التوجيه والإرشاد بما ينتشر من الشائعات. ومما لاشك فيه أن هناك نموا في المعرفة في العالم الأخرفعندما تخرج الروح من الجسد بالموت، تصبح معرفتها أكثر بعد أن تخلصت من ضباب هذا الجسد المادي ومن غرائزه ونزعاته وتأثراته. أما في الأبدية فسوف يتمتع البشر بلون من المعرفة أكثر عمقا عن طريق الكشف الإلهي revelation وعن طريق ما سوف يراه الإنسان من كائنات أخرى كالملائكة مثلًا، وما يختلط به من الأبرار بكل معارفهم.. ومن أمور أخرى جديدة عليه.وعموما فان المعرفة تنمو أيضًا بالموهبة أي بما يهبه الله للإنسان من مواهب منها المعرفة والحكمة واتساع العقل ومقدراته. وهناك معرفة في العالم الآخر، أعمق من كل هذا واسمي بما لا يقاس. وهي معرفتنا لله جل جلاله.إننا لا نعرف عن الله حاليا إلا ما يكشفه لنا الوحي الإلهي، لكي نؤمن بالله ونطيع وصاياه. ولكن الله غير محدود والعقل البشري ­مهما سما­ هو محدود. ولا يستطيع أن يحيط المحدود بغير المحدود لذلك في العالم الآخر سوف يكشف لنا الله عما يوسع معرفتنا به ­تبارك اسمه­ وعلي قدر ما يمكن لطبيعتنا البشرية أن تعرفه، شيئًا فشيئًا، وكلما تزداد معرفتنا بالله تزداد سعادتنا في الأبدية وتكون هذه المعرفة هي أشهى ما نتمتع به. إن المعرفة أفضل من الجهل بقدر ما النور أفضل من الظلام.ولكن ليست كل معرفة نافعة، فهناك معارف تافهة وأيضا هناك معرفة ضارة..! أما المعرفة التافهة فتختص بأمور لا تنفع شيئًا وللأسف كثيرًا ما يسعي إليها الناس أو ينشغلون بها وهي مضيعة للوقت وتشغل الذهن عن التفكير في ما ينفعه وصدق ذلك الآب الروحي الذي قال: كثيرًا ما نجهد أنفسنا في معرفة أمور لا ندان في اليوم الأخير علي جهلنا إياها! أما المعرفة الضارة فلها أمثلة عديدة منها:- معرفة ما يقوله عنك منافسوك وأعداؤك مما يثير قلبك عليهم. ومعرفة الشكوك الخطيرة التي تهز الإيمان في ثوابت تخص العقيدة.. ومعرفة صور من الخطيئة وتفاصيل تشوه نقاوة القلب وتجلب له شهوات تتعبه.. ومعرفة أسرار بعض الناس وأخطائهم مما يغير الإنسان إليهم وتقديره لهم.. ومعرفة أمور أخرى مماثلة يقول عنها القلب في صدق 'ليتني مع عرفت'! كذلك من الأمور الضارة المعرفة التي تنفخ والتي تصيب النفس بالخيلاء والكبرياء والي التباهي بالمعرفة..! علي أن من الأمور اللازمة لكل شخص أن يعرف نفسه جيدًا..وصدق ذلك الفيلسوف الذي قال: 'خير الناس من عرف قدر نفسه'. وهكذا لا يقع في الغرور ولا يتجاوز حدوده ولا ينسب إلى نفسه ما ليس فيه.. بل يعرف ويوقن انه مخلوق من تراب الأرض. وأتذكر إنني قلت مرة في احدي القصائد:- قل لمن يعتز بالألقاب إن صاح في فخره: من أعظم مني؟! أنت في الأصل تراب 'تافه'­ هل سينسي أصله من قال أني؟! ويهمنا في المعرفة أيضًا: ارتباط المعرفة بالعمل. فماذا يفيد الإنسان إن عرف كل شيء عن الفضيلة ولم يسلك فيها؟! لا شك أن الذي يعرف أكثر يُطالَب بأكثر. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
27 أكتوبر 2021

أهمية ردود الفعل

كل عمل يعمله الإنسان له ردود فعل. بل أيضًا كل كلمة يقولها. ذلك لأن من يزرعه الإنسان إياه يحصد. وينطبق هذا على كل ما يصدر عن الإنسان خيرًا كان أو شرًا. فردود الفعل تكون على الأرض وأيضًا في السماء نرى هذا أيضًا في العلاقات بين الناس بعضهم والبعض. فكل شيء له نتائجه المحبة تلد محبة، والعداوة تلد عداوة. واللطف يلد لطفًا. بل أن ابتسامة منك في وجه طفل، تطبع ابتسامة أخرى على شفتيه. والأدب والاحترام في معاملة الناس، يكون من ردود فعله احترامه من جهته. أتذكر زميلًا لنا في الدراسة كان لا يكلم أحدًا إلا باحترام شديد. وكانت النتيجة أن الكل يقابلونه بالمثل. وإن خرج أحد منهم عن اللائق، كان ذلك الزميل يتصرف بأسلوب رصين ورزين يجبر الآخر على تعديل سلوكه والالتزام بالاحترام في معاملته. وأتذكر أيضًا أن ناظر مدرسة كان يعامل المدرسين بجفاء وبأسلوب قانوني بحت، فكان رد الفعل هو كراهية جميع المدرسين له. وقد سأل "لماذا يكرهونني وأنا لم أخرج عن القانون في معاملة أحد منهم؟!" وكان الجواب: "أنت تعاملهم بالقانون وليس بالمحبة. بينما الناس لا يلجأون إلى القانون إلا إذا زالت المحبة من بينهم. ويقول المثل " إذا تراضى الخصمان استراح القاضي".إن الحزم يولد الانضباط، والتسيب يولد الفوضى. ولكن القسوة في الحزم تلد كراهية أو عداوة. لذلك ينبغي أن يكون الإنسان حكيمًا في حزمه، لا يتطرف فيه إلى القسوة أو الشدة الزائدة عن الحد. وقد قلت مرة في تأبين شخص عظيم منذ حوالي ستين عامًا:- يا قويًا ليس في طبعه عنفُ ووديعًا ليس في ذاته ضعفُ يا حكيمًا أدب الناس وفى زجره حب وفي صوته عطفُ لك أسلوب نزيه طاهر ولسان أبيض الألفاظ عفُّ † ينبغي للإنسان قبل كل كلمة يقولها، أن يفكر في ردود فعلها. ويحسب حسابًا لتأثيرها على من يسمعه ومدى انفعاله بها. ولذلك عليه أن يتحاشى الألفاظ القاسية، وعبارات التهكم، والكلمات التي لها أكثر من معنى، وقد تفهم من البعض على معنى سيئ. لذلك حاول في حياتك الخاصة أن تنتقى ألفاظك، وتكون بميزان دقيق ومع الأطفال بالذات، ينبغي أن يكون المتكلم حريصًا. فالطفل من كلامك قد يأخذ عنك فكرة لا تستطيع نزعها منه. ويجب أن تكون صادقًا فيما تقوله أمامه. وأن توفى بكل وعد تعده به. ولا تهز المثاليات التي في ذهنه بأخطائك في الكلام. واحترص من شدة التوبيخ والانتقاد، فإن لها ردود فعل. وكن رقيقًا. فالرقة لها رد فعل عميق في من يتعاملون معها. أحيانًا يكون الرجل رقيقًا جدًا في معاملته لخطيبته. وإذا ما تم زواجه بها، يظن للأسف الشديد أن الرقة هو لون من الكلفة، بينما قد زالت الكلفة بينهما بالزواج! وهذا خطأ شديد. لذلك احتفظ باحترامك لزوجتك. واستخدم الرقة واللطف لمعاملتها. بل والاحترام أيضًا. وسيكون رد الفعل لذلك طيبًا جدًا في نفسيتها. أتذكَّر في إحدى المرات وأنا أسقف أنه زارني أستاذ من جامعة كمبريدج University of Cambridge ومعه زوجته. فكان يجعلها تتقدمه باستمرار. وكان يتحدث عنها باحترام. ولا يذكر اسمها مجردًا وإنما معه لقبها. وكانت هي تحترمه بالمِثل. كذلك أذكر صديقًا لنا كان يتخاطب مع أبنائه باحترام، حتى مع الصغار منهم. وكان أطفاله يحبونه، إن أنه كان يُشعرهم بقيمة شخصية كل منهم، وبتوقيره لمواهبهم. هناك ألفاظ يُقال عن بعضها "مثل رجم الطوب". وتأتي بعكس ما يريد صاحبها. وفي الإنجيل: "بكلامك تتبرر، وبكلامك تُدان". حتى بالنسبة لرئيس العمل في معاملته لمرؤوسيه، يمكنه أن يوجههم ويشرح لهم أخطاءهم. ولكن بأسلوب غير جارح. فكل إنسان له مشاعره التي لا يقبل أن تُهان. ومن جهة ردود الفعل، يقول المَثل السائد: "اللي يشد ذيل القط، يخربشه". من أجل هذا عليك أن تدرس نفسيات الناس، وتعاملهم بما يناسبهم. فالزوجة أحيانًا تطلب من زوجها طلبًا وتظل تلح عليه إلحاح. وتكرر الإلحاح حتى يسبب له ذلك شيئًا من التَّبرُّم والضجر. ورُبَّما لا يحتمل المزيد من الإلحاح، فيثور أو يرفض، أو يرد بكلمة شديدة. وإن عرفت الزوجة أن هذا هو رد الفعل عند زوجها، عليها أن تحترس من الضغط على أعصابه بالإلحاح. ويمكن أن تُغير الطلب في مناسبة أخرى يكون فيها أكثر هدوءًا وأكثر استجابة.كذلك يحدث أحيانًا أن المرأة في بيتها تهمل ذاتها، ولا تهتم بزينتها أو جمالها. ويكون رد الفعل لذلك عند رجل ضعيف، أن تجذبه إغراءات من الخارج يجد أنها تفوق بيته جمالًا وشكلًا وأناقة. حقًا متى نرى بيوتنا لها الجاذبية التي تغنى الرجال والأبناء والكبار من طلب المتعة خارج البيت؟! كثيرًا ما نلوم الفتاة التي تفسد أخلاقها، وتستجيب لإغراء أحد الشبان وتخطئ معه. أو لتهرب من بيتها. وقد يكون ما تفعله هذه الفتاة هو رد فعل للمعاملة التي تلاقيها في منزل الأسرة. حيث لا تجد حبًا ولا حنانًا، والقسوة في المعاملة وانتهارها وكلامًا جارحًا. فتلجأ إلى طلب الحنان خارج البيت. وإن وجدته، تُسلم ذاتها وتسقط. ونصيحتنا إلى الآباء والأمهات، أن يشبعوا أبناءهم وبناتهم من الناحية العاطفية، وأن يبتعدوا عن القسوة والتقييدات الكثيرة. حتى لا يصير البيت بمثابة سجن عند الأبناء. ويكون رد الفعل هو الهروب أو الفساد. يحدث أحيانًا أن بعض رجال الدين لا يهتمون بالناحية الروحية لرعيتهم. ولا يفتقدون شخصًا إذا غاب وكثر ابتعاده عن بيت الله، دون أن يهتموا به أو يفتقدوه. ويكون رد الفعل أن يفتقده الشيطان أو الأصدقاء الأشرار. ويكون قلبه جاهزًا لهم مستعدًا، ويضيع ذلك الشخص. نفس الأمر نقوله عن عدم اهتمام أي إنسان بروحياته فيكون رد الفعل أنه يضعف ويكون رد الفعل في حياته أنه بإهماله الحرص يضعف، ويتعود أمورًا تتحول فيه إلى طبع. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
20 أكتوبر 2021

كيف تحل المشاكل

في حياة كل إنسان قد توجد مشاكل: فكيف يمكن مواجهتها حتى لا تتطور إلى ما هو أصعب: بعض الناس يلجأ إلى حلول خاطئة لا تفيده شيئًا.هناك من يواجه المشكلة بالاضطراب والحزن وأحيانا بكثرة البكاء والانهيار. كما يحدث مع كثير من النساء وينبغي أن نعرف أن البكاء لا يحل المشكلة والحزن لا يحلها وربما في الاضطراب يرتبك في أخطاء أخري يقع فيها فتتعقد معه الأمور.البعض الآخر قد يواجه المشكلة بحيلة خاطئة مثال ذلك الذي يحل مشكلة الفقر بالسرقة أو بوسائل أخري كالاحتيال أو النصب أو الرشوة وبهذا يحاول أن يعالج المشكلة بخطية, والخطية لا تؤدي إلى نتيجة سليمة وأن بدت موصلة إلى الغرض في بادئ الأمر! وما أسهل أن تؤدي إلى نتائج سيئة أو خطيرة فيما بعد كأن توصل إلى السجن أو إلى سوء السمعة علي الأقل.ومن أمثلة معالجة المشكلة بخطية أن فتاة تزني وتحمل -سفاحًا- فتعالج هذه المشكلة بالإجهاض فتضيف إلى خطية الزنى خطية القتل (قتل الجنين) وبهذا تقع في مشاكل أخري اجتماعية ودينية.وأحيانا يحاول شخص أن يحل مشكلته بالغضب, أو بالكذب أو الإنكار, ويقول إنه لم يفعل, أو يحاول إلصاق الخطية بشخص آخر وبهذا يضيف إلى الكذب خطية أخري هي ظلمه للغير.وهناك من يحاول أن يحل مشكلته بالغضب أو النرفزة, مثل أب يلاحظ إهمال ابنه أو تأخره في العودة مساء فيضربه في عنف ويمنعه من الخروج من البيت وتحدث مشاكل جديدة نتيجة لعنف الأب, وطبعا ليس هذا علاجًا علي الإطلاق بل قد تكون له نتائج جانبية رديئة.ومن أمثلة هذا أيضًا الزوج الذي يعامل أخطاء زوجته بعنف بالضرب أو الطرد أو الحبس في البيت: وتكون هذه نقطة البداية في فشل الحياة الزوجية.وهناك أيضا من يحاول أن يحل مشكلته بالعناد, وهذا النوع تكون في نفسيته ألوان من الكبرياء أو الأنانية, وقد يسمي ما بدر منه عزة نفس أو كرامة فيصر علي رأيه أو علي تصرفه مهما قاد ذلك إلى نتائج سيئة ويستمر في تشدده وتتعقد المشكلة أكثر من الأول بكثير ولا ينفعه عناده بشيء ولا يحل المشكلة. والبعض في حل مشكلته يلجأ أحيانا إلى القهر والعنف, والعنف قد يكون ماديًا أو جسديًا كالضرب أو الإيذاء أو القتل أو يكون عنيفا بالتهديد, وأحيانًا يكون البكاء أو الإضراب عن الطعام لونًا من العنف يلجأ إليهما الذين لهم حيلة للوصول إلى حل.. كل ذلك فيه لون من إرغام الغير علي قبول ما لا يرضاه وحتى ولو استجاب قهرًا لا يكون مقتنعًا من الناحية العقلية, ولا راضيًا في قلبه.وللأسف يحدث أحيانا في الريف أن يلجأ الوالدان إلى طرق من الإرغام الأدبي لكي تتزوج ابنتهما ممن لا ترضاه تحت ضغط مرض مفتعل من الأب أو الأم أو تحت ضغط الإلحاح المستمر أو النرفزة أو البكاء أو التخويف!! ولكن هناك طرقًا سليمة لمواجهة المشاكل:- أول طريقة للتخلص من المشاكل هي الوقاية منها فلا تنتظر حتى تأتيك المشكلة ثم تفكر كيف تحلها وإنما الأفضل أن تتجنبها قبل أن تأتي ولذلك ضع أمامك قاعدة هامة وهي (علاج الأسباب قبل علاج النتائج) إذن ابحث أولا عن سبب المشكلة, فإن كانت هناك خصومة بينك وبين إنسان هل يكفي أن تذهب إليه وتطلب منه العفو دون أن تعالج أسباب الخصومة؟! فإن بقيت الأسباب تبقي الخصومة مهما فعلت. ونفس الوضع في العلاقات الزوجية قد تذهب الزوجة إلى بيت أبيها غاضبة (لأسباب معينة) فهل يكفي أن تحل المشكلة بأن نرسل إليها وساطة لترجعها؟! أم الحل الطبيعي هو معالجة الأسباب التي أتت بها إلى الخروج من البيت. وأحيانا يفكر الناس في أسباب غير حقيقية لمشكلتهم: كفتاة مثلًا كلما يأتيها خطيب لا يرجع إليها مرة أخرى، وبتكرار الأمر تظن أن هناك عملًا قد عُمْلَ لها!! وبهذا يتلقفها من يَدّعون فَكْ العمل!! بينما قد يكون السبب الحقيقي هو مقابلة أسرتها للخطيب بطريقة غير لائقة! أو تعقيد الأمور بمبالغ مالية لا يقدر عليها الخطيب فلا يرجع.. أو أن أسلوبهم في الكلام لا يعجبه ويكون حل المشكلة في تفادي هذه الأسباب. حل المشاكل يحتاج أيضًا إلى حكمة, فالإنسان الحكيم يمكنه أن يحل مشاكله بعقل رزين وبتفكير هادئ ذلك لأن الإنسان المضطرب لا يستطيع أن يفكر بطريقة متزنة بل أن تفكيره المشوش لا يوصله إلى حل. ولعلك تقول وإن لم تكن لدي حكمة فماذا أفعل؟ أقول لك عليك حينئذ بالمشورة الصالحة. الجأ إلى إنسان عاقل أو إلى أب روحي حكيم لكي ينصحك بما يحل إشكالك. وفي ذلك قال الشاعر:- إذا كنت في حاجة مرسلًا فأرسل حكيما ولا توصه وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيبا ولا تعصه ولا تعتمد علي نفسك فقط في حل مشاكلك فكثيرا ما تحتاج إلى عقل إلى جوار عقلك لكي يسنده والإنسان الحكيم يفترض حلولًا كثيرة لمشاكله.والإنسان العاقل إن كانت له مشكلة مع شخص يراعي عقلية ذلك الشخص ونوعية نفسيته لكي يعرف أسلوب التعامل معه. فإن تعامل مع امرأة يراعي نفسية المرأة وليس نفسيته هو فقط, فمشكلتك مع شخص ذكي غير مشكلتك مع شخص بسيط، ومشكلتك مع العنيف غير مشكلتك مع الهادئ.والإنسان الحكيم يراعي في حل مشكلته الوقت والظروف ففي بعض الأوقات تكون الظروف مواتية, وفي أوقات أخري تكون الظروف لا تسمح فيحسن تأجيل الموضوع إلى موعد آخر.هناك مشاكل تحتاج في حلها إلى صبر وتحمل وأخرى تحتاج إلى شيء من التواضع والكلمة الطيبة، ومشاكل أخري تحتاج إلى الصلاة والإيمان. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
13 أكتوبر 2021

من الأعواز

يرجع هذا الموضوع إلى قصة أرملة فقيرة وضعت فلسين في صندوق العطاء‏,‏ أي بضعة ملاليم‏,‏ بينما كبار رجال القوم وضعوا بالمئات‏,‏ والسيد المسيح رأي هذه الأرملة الفقيرة في عطائها وقال‏:‏ الحق أقول لكم‏:‏ إن هذه الأرملة الفقيرة قد أعطت أكثر من الجميع لأن هؤلاء من فضلتهم. ألقوا في الصندوق, بينما هذه قد أعطت من إعوازها.حقًا إن الله ينظر إلى عمق العطاء وليس إلى مجرد قيمته, والذي يعطي من إعوازه من احتياجاته يدل علي عطاءه فيه الكثير من الحب, ومن تفضيل غيره علي نفسه بعكس الذي يعطي مما فضل عنه.وفي هذا الموضوع أود أن أتأمل معكم شخصية من يعطي من أعوازه, سواء من جهة المال, أو إعوازه من جهة الوقت, أو من جهة الراحة والصحة.هناك مثل عظيم للذي أعطي من أعوازه من جهة الأبناء انه إبراهيم أبو الآباء والأنبياء الذي أعطاه الله أبنًا في شيخوخته ثم أمره أن يقدم هذا الابن محرقة علي الجبل, فأطاع ومضي به ليذبحه حسب أمر الله, لذلك باركه الله بركة عظيمة, وبارك نسله. مثال آخر هو حنة أم صموئيل النبي وكانت عاقرًا, وصلت ونذرت أن الله إذا أعطاها نسلًا تكرسه لخدمته، وفعلًا عندما منحها الله ابنها صموئيل قدمته لخدمة الرب منذ أن استطاع السير علي قدميه, ويؤسفنا في هذه الأيام أن كثيرًا من النساء يبخلن علي الله في الموافقة علي تقديم الزوج أو الابن لخدمة الرب. مثل آخر ممن يعطي ممن إعوازه هو مثال من يعطي نفسه لخدمة الرب.. إذ يكون ناجحًا جدًا في خدمة العالم. ولكنه يفضل خدمة الرب وتكريس نفسه لذلك فيعطيه ذاته, التي لا يملك غيرها, ويترك كل شيء من أجله, انه بلا شك أعظم بكثير من الذي يعطي المال من الإعوازلاشك أن الذي عنده مال كثير ويعطي منه لخدمة المحتاجين, ولكن عطاءه لا يكون له عمق مثل الذي يعطي وهو محتاجًا إلى ما يعطيه.كانسان يقول إن مرتبي كله لا يكفيني فكيف أدفع العشور لله؟! حقًا انك ستعطي من إعوازك, لذلك سيبارك لك الله الباقي من مالك, فيكون أكثر من المرتب كاملًا. هناك وصية أخري من أيام موسى النبي هي وصية البكور, إذ كان الشخص عليه أن يعطي إبكار أو أوائل كل ما يأتيه من الخير سواء من النبات أو الحيوان, فالشجرة حينما تطرح ثمرًا, يعطي أولي ثماره لله, وكذلك إذا بهيمة أو شاه ولدت له, فيعطي أول نسلها لله, حاليا توجد أزمة بطالة للخريجين فإذا حدث ونال أحدهم وظيفة معينة طالما كان ينتظر ولكن حسب وصية البكور, فان أول مرتب يصل إليه من المفروض أن يقدمه للرب لخدمة الفقراء, ويعتبر هذا المرتب هو بكور إيراداته, وفي نفس الوقت عطاء, من الإعواز وبالمثل أول عملية جراحية يقوم بها طبيب, أو أول كشف أو علاج عليه أن يقدمه للرب وبالمثل علي كل مهندس أو مدرس أو محاسب أو محام أو صاحب مهنة, يقدم أول مكسب له لله, انه تنفيذ لوصية البكور, وفي نفس الوقت هو عطاء من الإعواز. ان الأمر باختصار يدل علي مدي محبة الإنسان للمال, أو ارتفاعه عن مستوي ذلك, بذلك فان مال الفقير الذي يقدمه لله, هو أكثر قيمة من مال الغني الموسر.أتذكر بهذه المناسبة قصة أولوجيوس قاطع الأحجار, الذي يكسب في اليوم درهمًا واحدًا فيمضي في الغروب إلى مدخل المدينة, ليري أي غريب قد جاء إليها, فيستضيفه من درهمه هذا الواحد.وأتذكر بهذه المناسبة قصة كاهن في الإسكندرية كان أقدم خدام الكنيسة الكبرى, وقابله في الطريق إنسان محتاج يطلب منه صدقة, ولم يكن في جيبه أي شيء من المال ليعطيه لهذا المحتاج, فاضطر أن يقترض من صاحب محل قريب, وما اقترضه أعطاه لذلك المحتاج لكي ينفذ وصية: "مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ" (إنجيل متى 5: 42؛ إنجيل لوقا 6: 30).ومن الأمثلة الأخرى الأب الفقير الذي يعلم أولاده من أعوازه, أو ذلك الأب المريض الذي يفضل عدم شراء الدواء اللازم له, ويقدم ثمن ذلك الدواء ليغطي احتياجات أبنائه, فهل يذكر الأبناء عطايا آبائهم, التي أعطوها لهم من احتياجاتهم. نقطة أخري هي العطاء من إعواز الوقت: أنت ترجع إلى بيتك وأنت في غاية التعب ولسان حالك يقول: ثقل النهار وحرّه لم أحتمل بسبب ضعف بشريتي, وتريد أن تنام وتستريح, ولكن ماذا عن الصلاة؟ تقول ليس لدي أي وقت لها. أو قل بصراحة ليس لدي اهتمام بها أو إنك لا تريد أن تعطي من أعوازك من جهة الراحة.. أعط إذن من إعواز وقتك سواء لعمل الصلاة, أو التأمل أو القراءة الروحية, وأعط من قلبك أيضًا, واعلم أن الله سوف لا ينسي لك تعبك, أنه سيقويك، أقول ذلك أيضًا من جهة الخدمة فلا تحاول أن تعتذر عنها مبررا ذلك بأنه ليس لديك وقت, بل أعط الخدمة من إعوازك في الوقت أيضًا, لا تحاول أن تبرر نفسك; بضيق الوقت مثلا وتذكر تلك العبارة المهمة التي تقول: إن طريق جهنم مفروش بالمبررات.اعرف أن عبارة ليس لدي وقت, ربما يكون تفسيرها: ليس عندي اهتمام بذلك, فلا شك أن الشيء الذي تعطيه اهتمامًا, سوف توجد له وقتًا.أيضا من جهة التربية المنزلية, الأب والأم مسئولان عن تربية ابناهما روحيًا وليس فقط من جهة الصحة والتغذية والملابس والتعليم, فهل يعتبر كل منهما أنه لابد أن يكون لديه وقت يقضيه في جلسة روحية مع أولاده يعلمهم طريق الخير والبر إنني في حضوري العيد الألفي لبناء الكنيسة في روسيا, شكرت الكنيسة علي حفظها للإيمان خلال سبعين سنة من الشيوعية, وشكرت أيضًا الأمهات والجدات اللاتي اهتممن بالأطفال وعلمنهم الإيمان وإعدادهم لذلك.قدموا إذًا وقتًا ولو من إعوازكم لتربية أولادكم. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
06 أكتوبر 2021

فوائد النسيان

كثير من الناس يشكون من أنهم ينسون، ويسألون باستمرار عن علاج للنسيان.. وحقًا إن للنسيان مساوئ كثيرة ومع ذلك فلكي ننصفه، نقول إن هناك ولا شك فوائد للنسيان النسيان على أنواع. هناك نسيان ضار ليس هو الذي نقصده في هذا المقال. فمن الخطأ طبعًا أن ينسى المرء واجباته الدينية أو واجباته العالمية. ومن الخطأ أن ينسى عهوده ووعوده ومواعيده. ومن الخطأ أن ينسى فضل الناس عليه أو ينسى بالأكثر إحسانات الله العديدة.. الخ على أن النسيان ليس كله شرًا، لقد سمح الله به من أجل نفع الإنسان وفائدته، لو أحسن الإنسان استخدامه.. فالإنسان الحكيم يعرف متى ينبغي أن يذكر، ومتى ينبغي أن ينسى. فلا ينسى حيث يجب التذكر، ولا يتذكر حيث يجب النسيان.. وسنحاول في هذا المقال أن نشرح بعض المجالات التي يحسن فيها النسيان.. فمن فوائد النسيان مثلًا أن ننسي إساءات الناس إلينا ننساها لكي نستطيع أن نصفح وأن نغفر. وننساها لكيلا يملك الغضب على قلوبنا من جهتها ننساها لكي نهرب من شيطان الحقد ومن شيطان الكراهية الذي ينسى أخطاء الناس إليه، يمكنه أن يحب الجميع، ويملأ السلام قلبه من جهة الكل. ويستطيع أن يقابل كل أحد ببشاشة، ولا يختزن في قلبه شرًا من جهة أحد لذلك إن أساء إليك أحد، لا تحاول أن تسترجع في ذهنك إساءته إليك. ولا تجلس مع الناس وتحدثهم عما فعله بك هذا المسيء لا تفكر في هذا الموضوع، ولا تتكلم فيه، لئلا يرسخ في ذاكرتك وفي قلبك، ويتعبك ولا تنسى فقط أخطاء الناس، إنما إنس أخطاءهم عمومًا. لو تذكرت على الدوام أخطاء الناس، لاسودت صورتهم في نظرك، ولعجزت عن أن تجد لك في الناس صديقًا كل الناس لهم أخطاء، ولو تذكرنا لكل واحد أخطاءه لما استطعنا أن نتعامل مع أحد وربما يدخل الشك إلى قلوبنا من جهة الناس جميعًا وربما لا نستطيع نتكلم باحترام مع كل أحد إن الله لا يضع أخطاءنا على الدوام أمام عينيه، فلنفعل هكذا مع الناس يقول لنا الإنجيل المقدس: "بالكيل الذي به تكيلون، يكال لكم ويزاد". ليتنا إذن ننسى أخطاء الناس، لكي ينسى الله أخطاءنا. وفي نفس الوقت الذي ننسى فيه أخطاء الناس، ينبغي أن نذكر خطايانا الخاصة، لكي نصل إلى حياة الاتضاع قال القديس الأنبا أنطونيوس (إن ذكرنا خطايانا، ينساها لنا الله، وإن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله) إذن اذكر خطاياك، وانس خطايا غيرك.. فإن هذا يقودك إلى الاتضاع وإلى المحبة أما الإنسان المتكبر أو غير المحب فإنه على العكس: دائمًا ينسى نقائصه الخاصة، ودائمًا يذكر أخطاء غيره. وقد يتحدث عن خطايا الناس، ويتضايق إن تحدث الناس عن خطاياه. كذلك من النسيان النافع، أن تنسى فضائلك، أو تنسى الأعمال الحسنة التي شاءت نعمة الله أن تعملها على يدك.. إن عملت خيرًا أو إن عمل الله خيرًا بواسطتك، فالواجب عليك أن تنسى ما عملته. لا تذكره، ولا تتذكره. لئلا يوقعك في هذا الأمر في الإعجاب بالنفس أو في الكبرياء، وأيضًا لكيلا تجلب لنفسك مديحًا من الناس يضيع معه أجرك في السماء إذ تكون – حسبما يقول الإنجيل – " قد استوفيت خيراتك على الأرض" الذي يعمل خيرًا، عليه أن يخفى الأمر، ليس عن الناس فقط، إنما حتى عن نفسه هو، بالنسيان. وفى هذا يقول السيد المسيح: "وأما أنت فمتى صنعت صدقة، فلا تعرف شمالك ما تفعله يمينك. لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء، هو يجازيك علانية".. حقًا إن الذي يذكر فضائله، أو يظهر فضائله، إنما يقع في الغرور ويفقد ثوابه.. لذلك إنس الخير الذي تعمله، وإن ألح عليك الفكر في تذكره، أو أن تكلم الناس عنك فانسب ذلك إلى نعمة الله وعمله لا إلى نفسك. ومن فوائد النسيان، أن تنسى المتاعب والضيقات.. أحيانًا يكون التفكير في الضيقة أشد إيلامًا وضررًا من الضيقة ذاتها.. اجعل الضيقات خارجك لا داخلك. لا تسمح بدخول الضيقات في فكرك أو في قلبك لئلا تتعبك. حاول أن تنساها. وإن ألح عليك الفكر ولم تستطع أن تنسى، حاول أن تنشغل بالقراءة أو بالعمل أو بالحديث مع الناس، لكي تنسى وعندما تنسى ضيقاتك ومتاعبك وآلامك، ستدرك أن النسيان نعمة وهبها لنا الله. وستشكر الله الذي جعلك تنسى.. أليس أن الأطباء يقدمون للمرضى المتعبين بأفكارهم ومشاكلهم النفسية، أدوية لكي تشتت تركيز أفكارهم فينسون.. وهكذا يحاول الإنسان أن يشترى النسيان بالطب والدواء والمال. مبارك هو الله الذي يهب النسيان مجانًا، لمحبيه إنس المتاعب إذن والهموم، لأن تذكرها يجلب الأمراض النفسية والعصبية، وأمراضًا أخرى باطنية كثيرة. من فوائد النسيان أيضًا أن ينسى الإنسان المعثرات التي تجلب له الخطية. فقد يقرأ شاب قصة بذيئة، أو يرى منظرًا خليعًا، أو يسمع كلامًا مثيرًا.. وإن لم ينسى كل هذا، تظل هذه الأمور حربًا على فكره تضيع نقاوة قلبه. ومن الخير له أن ينسى و قد يقع شاب في مشكلة عاطفية، ويحاول من أجل راحة قلبه أن ينسى وإن استطاع يعترف أن النسيان نعمة عظيمة لذلك حاول أن تنسى كل ما يعكر نقاوة قلبك لا تجلس وتفكر في أي أمر ينجس ذهنك أو مشاعرك إنما إن عبر شيء من هذه الأمور عليك لا تستبقيه ولا تعاود التفكير فيه لكي تنساه. ومن فوائد النسيان أيضًا أن تنسى التافهات لكي تبقى في ذهنك الأمور الهامة النافعة لك ولغيرك تصوروا مثلًا لو أن إنسانًا تذكر كل ما يمر عليه طوال يومه أو طوال أسبوع أو شهر من كل الأمور التافهة التي تختص بالأكل والشرب وأحاديث الناس ومناظر الطريق وأيضًا كل القراءات وكل الإحداث، مثل هذا الشخص لا تحتمل طاقة فكره أن تخزن المعلومات اللازمة له والأساسية.. لذلك يسمح الله أن ننسى التافهات لكي تبقى في ذهننا الأمور الهامة فقط تصور مثلًا إذا أردت أن تصلى، وجاءت إلى ذاكرتك كل الأخبار والأحاديث التي عبرت عليك في يومك!! هل تستطيع حينئذ أن تركز فكرك في الصلاة. كذلك إن أراد أحد أن يذاكر درسًا، أو أن يكتب بحثًا، أو أن يناقش موضوعًا هامًا، أتراه يستطيع ذلك وفي ذهنه كل التفاهات التي عبرت عليه في يومه أليس من صالحه أن ينساها؟! ولو إلى حين إن النسيان إذن عملية غربلة حيوية تغربل في الذهن وفي الذاكرة جميع المعارف والمعلومات والمناظر والسماعات والأخبار، فتستبقى منها النافع، وتترك ما لا يفيد حاولوا إذن أن تتحكموا في ميزان ذاكرتكم، ولا تستبقوا فيها إلا كل ما يفيدكم أما الباقي فانسوه فلمثل هذا أوجد الله النسيان.. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
27 سبتمبر 2021

الصليب في حياتنا

الصليب في حياتنا بمناسبة عيد الصليب، نذكر الكلمات الآتية:أول علاقة لنا بالصليب هي في المعمودية، حيث صُلِب إنساننا العتيق حتى لا نُستَعبَد بعد للخطية..والصليب قد حملته الكنيسة في حركة الاستشهاد وفي كل الاضطهادات التي لحقت بها على مر العصور.. والجميل في هذا الصليب أن الكنيسة قد حملته بفرح وصبر دون أن تشكو منه أو تتذمر.. تحول الصليب في حياة الكنيسة إلى شهوة تشتهيها وتسعى إليها. وكان إقبال المسيحيين على الموت يذهل الوثنيين، وكانوا يرون فيه الإيمان بالأبدية السعيدة، واحتقار الدنيا وكل ما فيها من ملاذ ومتع.. تحولت السجون إلى معابد، وكانت ترن فيها الألحان والتسابيح والصلوات من مسيحيين فرحين بالموت..وثالث مجال نحمل فيه الصليب هو الباب الضيق..فيه يضيّق الإنسان على نفسه من أجل الرب. يبعد عن العالم وكل شهواته. ومن أجل الله يزدرى بكل شيء. في سهر، في أصوام، في نسك، في ضبط النفس، في احتمالات لإساءات الآخرين.ويمكن أن يدخل في هذا المجال صليب التعب.. فيتعب الإنسان في الخدمة من أجل الرب. ويتعب في «صلب الجسد مع الأهواء» كما يقول الرسول: «ولكن الّذينَ هُم للمَسيحِ قد صَلَبوا الجَسَدَ مع الأهواءِ والشَّهَواتِ» (غلاطية 5: 24)، ويتعب في الجهاد وصلب الفكر، والانتصار على النفس، ويعلم في كل ذلك أنه ينال أجرته بحسب تعبه حسبما قال بولس الرسول (كورنثوس الأولى 3: 8).والمسيحية لا يمكن أن نفصلها إطلاقًا عن الصليب.. والسيد المسيح صارحنا بهذا الأمر، فقال: «في العالَمِ سيكونُ لكُمْ ضيقٌ» (يوحنا 16: 33)، وقال أيضًا: «وتكونونَ مُبغَضينَ مِنَ الجميعِ مِنْ أجلِ اسمي» (لوقا 21: 17).ونحن نفرح بالصليب ونرحب به، ونرى فيه قوتنا كما قال الرسول: «كلِمَةَ الصَّليبِ عِندَ الهالِكينَ جَهالَةٌ، وأمّا عِندَنا نَحنُ المُخَلَّصينَ فهي قوَّةُ اللهِ» (كورنثوس الأولى 1: 18).المسيحية بدون صليب، لا تكون مسيحية..وقد قال الرب: «إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يأتيَ ورائي فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعني» (متى 16: 24)، بل قال أكثر من هذا: «ومَنْ لا يأخُذُ صَليبَهُ ويتبَعُني فلا يَستَحِقُّني. مَنْ وجَدَ حَياتَهُ يُضيعُها، ومَنْ أضاعَ حَياتَهُ مِنْ أجلي يَجِدُها» (متى 10: 38، 39).والصليب قد يكون من الداخل ومن الخارج..من الداخل كما يقول الرسول: «مع المَسيحِ صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المَسيحُ يَحيا فيَّ» (غلاطية 2: 20). إنكار الذات إذًا (لا أنا)، هو صليب، وقليلون هم الذين ينجحون في حمل هذا الصليب..أما الصليب الخارجي، فهو كل ضيقة يتحمّلها المؤمن من أجل الرب، سواء بإرادته أو على الرغم منه. وعن هذا قال السيد الرب «في العالَمِ سيكونُ لكُمْ ضيقٌ» (يوحنا 16: 33)، وقيل أيضًا: «كثيرة هي أحزان الصديقين» (مزمور 34: 19)، وقيل كذلك: «بضيقاتٍ كثيرَةٍ يَنبَغي أنْ نَدخُلَ ملكوتَ اللهِ» (أعمال 14: 22).ولكن هذا الصليب – في كل أحزانه وضيقاته – هو موضع افتخارنا وأيضًا موضع فرحنا. وفي هذا يقول الرسول: «وأمّا مِنْ جِهَتي، فحاشا لي أنْ أفتخِرَ إلّا بصَليبِ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ، الّذي بهِ قد صُلِبَ العالَمُ لي وأنا للعالَمِ» (غلاطية 6: 14)، كما يقول أيضًا: «لذلكَ أُسَرُّ بالضَّعَفاتِ والشَّتائمِ والضَّروراتِ والِاضطِهاداتِ والضّيقاتِ لأجلِ المَسيحِ. لأنّي حينَما أنا ضَعيفٌ فحينَئذٍ أنا قَويٌّ» (كورنثوس الثانية 12: 10). كما ينصحنا معلمنا يعقوب الرسول قائلا «اِحسِبوهُ كُلَّ فرَحٍ يا إخوَتي حينَما تقَعونَ في تجارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عالِمينَ أنَّ امتِحانَ إيمانِكُمْ يُنشِئُ صَبرًا» (يعقوب 1: 2، 3).من محبة الكنيسة للصليب جعلته شعارًا لها..وكانت الكنيسة تعلم أولادها محبة الألم من أجل الرب، وتغرس في فكرهم قول الكتاب «إنْ تألَّمتُمْ مِنْ أجلِ البِرِّ، فطوباكُمْ» (بطرس الأولى 3: 14)، بل أن الألم اعتبرته المسيحية هبة من الله، وفي ذلك قال الكتاب: «لأنَّهُ قد وُهِبَ لكُمْ لأجلِ المَسيحِ لا أنْ تؤمِنوا بهِ فقط، بل أيضًا أنْ تتألَّموا لأجلِهِ» (فيلبي 1: 29).وفى الألم، وفى حمل الصليب، لا يترك الله أولاده، فإن قال المزمور: «كثيرة هي أحزان الصديقين»، إنما يقول بعدها: «ومن جميعها ينجيهم الرب» (مزمور 34: 19)، كما يقول أيضًا: «الرب لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين» (مزمور 125: 3).احمل صليبك.. كن مصلوبًا لا صالِبًاإن كنتَ مصلوبًا، فاضمن أن الله سيكون معك ويرد لك حقك كاملًا، إن لم يكن هنا ففي السماء. أمّا إن كنتَ صالبًا لغيرك، فثق أن الله سيقف ضدك حتى يأخذ حق غيرك منك ويعاقبك.إن كنت صالِبًا لغيرك، اعرف أن فيك عنصر الشر والاعتداء والعنف، وكلها أنواع من الظلم لا تتفق مع البر الواجب عليك، ولا حتى مع المثالية الإنسانية التي يتطلبها العلمانيون..أمّا إن كنتَ مصلوبًا وبخاصة من أجل الحق ومن أجل الإيمان، فاعرف أن كل ألم تقاسيه هو محسوب عند الله، له إكليله في السماء وبركته على الأرض.وثق أن السماء كلها معك: الله والملائكة والقديسون..إن كل الذين تبعوا الحق، تحمّلوا من أجله. وكل الذين تمسكوا بالإيمان، دفعوا ثمن إيمانهم..إن العنف يستطيعه أي أحد ولكنه لا يدلّ على مثالية، والظلم سهل بإمكان أي أحد، ولكن لا يوجد دين يوافق عليه..لذلك احتفظ بمثالياتك وخلقك واحمل صليبك، والباطل الذي يحاربك لن يدوم إلى الأبد..إن السيد المسيح الذي ذاق مرارة الألم واحتمل الصلب، قادر أن يعين المتألمين والمصلوبين في كل زمان وفي كل موضع. لذلك ضع أمامك صورة المسيح المصلوب تجد تعزية، وثق أن بعد الجلجثة توجد أمجاد القيامة... مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل