المقالات
21 يوليو 2021
الضمير صلاحيته عناصره أنواعه تأثراته
الضمير هو طاقة أوجدها الله في الإنسان للتمييز بين الخير والشر، والحلال والحرام، و اللائق وغير اللائق وما يجوز وما لا يجوز. لذلك دعي بالشريعة الطبيعية أو بالشريعة الأدبية غير المكتوبة.وقد كان هو الحكم الداخلي في الإنسان قبل زمن الأنبياء، قبل الوحي والشريعة المكتوبة. وبه كمثال تسامي يوسف الصديق عن الخطأ مع امرأة سيده حين طلبت ذلك منه. بينما عاش يوسف قبل موسي النبي بمئات السنين، وقبل أن يأمر الله في الوصايا العشر قائلا 'لا تزن' ولكن كان هناك الضميرولكن لما ضلٌ الضمير، حينئذ أرسل الرب وصاياه الإلهية لترشد الإنسان وتكون ميزانًا يزن به أفعاله ونواياه. وسنضرب أمثله للدلالة علي أن الضمير قد يضلٌ:
ذلك الشخص الذي يقتل ابنته أو أخته إذا سقطت وفقدت عفتها ألا يري بضميره انه يمحو عار الأسرة ويرد شرفها؟! بل إن البعض في الريف قد يتعبه ضميره إن لم يقتل هذه الفتاة!!
كذلك الشخص الذي يفجر نفسه أو يفجر سيارة، ويقتل بذلك مجموعة من الأبرياء، ويدمر بعض ألاماكن، ألا يعتبر نفسه شهيدا، وانه قام بعمل وطني يسجل له بالفخر؟! وقد شجعه ضميره علي ذلك!!
يمكننا إذن أن نقسم الضمائر إلي أنواع منها الضمير الصالح الذي يحكم حكمًا خيرًا ونيرًا، ودقيقًا. وهو مثل ميزان الصيدلي لا يزيد في تركيب الدواء ولا ينقص وهناك ضمير واسع يبلع الجمل، وهو يقبل أمورًا خاطئة عديدة، لا يوبخ عليها إطلاقًا، بل قد يجد لها تبريرًا يريحه!
بينما هناك أيضًا ضمير ضيق أو موسوس أو متشدد. يظن الخطأ حيث لا يوجد خطأ، أو يضخم كثيرًا من قيمة الأخطاء. وهو بهذا يضيق علي الناس بأحكامه ويغلق أمامهم أبواب السماء!
علي أن هناك أنواعًا أخرى من الضمائر كالضمير الغائب، أو الضمير النائم أو الضمير الميت الذي يوصف صاحبه بأنه بلا ضمير!!
مثال ذلك القاتل الذي تعوَّد القتل، أو السارق الذي تعود السرقة، أو الظالم الذي يصبح الظلم جزءا من طبعه!
وكذلك القاسي القلب وكل من هؤلاء يرتكب الخطايا ولا يشعر انه قد اخطأ ومثلهم أيضًا الكاذب الذي تعود الكذب، والفاجر الذي تعود الفجورهؤلاء تصير خطاياهم شيئا طبيعيا في نظرهم، لا يبكتهم عليها ضمير، ولا يندمون كلما أخطأوا..!
أما الضمير السليم أو الضمير الصالح، فله وظائف مهمة منها التشريع، والمحاكمة، وإصدار الحكم.. ففي التشريع يعلن ما كان ينبغي أن يقال أو أن يفعل طبقًا لوصايا الله وتمشيًّا مع المبادئ السليمة والمثل. ومن جهة المحاكمة يقول للشخص ماذا فعلت؟ ولماذا فعلت؟ وكيف فعلت؟ وكيف جرؤت أن تفعل؟ وأين خشية الله في قلبك؟ ومن جهة إصدار الحكم يحكم الضمير باللوم أو بالتوبيخ وقد يصل الأمر إلي تعذيب الضمير، وقد يحكم بوجوب تصحيح ما قد فعله وعلاج نتائجه والضمير لا يحكم فقط علي الفعل، إنما حتى علي النية والغرض. ويحكم علي المشاعر الباطنية، وعلي الفكر ومن هنا كان الضمير أوسع دائرة وأعمق أثرًا من القوانين الموضوعة وما أكثر الأمور التي لا يحكم عليها القانون. ولكن يحكم عليها الضمير، ويكون حكمه غير قابل للنقض ونطاق الضمير يشمل ما قبل الفعل وما بعده فهو من جهة النواحي الطيبة، يستحث ويدفع ويشجع. أما من جهة الأمور الرديئة، فهو يمنع أو ينذر ويبصر بالعواقب كما انه لا يتناول الفعل فقط، إنما يحكم أيضًا علي تأثيره ونتائجه ومقدار ردود هذا الفعل علي أن الضمير قد يصطدم بالإرادة التي ربما تقف ضده!
فضمير الشخص قد يقول له إن هذا الأمر واضح الخطأ ومع ذلك فانه يفعله!! كالتدخين مثلًا: يقول له الضمير انه يضر صحتك وصحة الذين حولك.. وفيه تفقد مالك وتفقد إرادتك. ومع ذلك لا يمتنع الإنسان عن التدخين، لان إرادته لا تستطيع!
ومن هنا قال البعض عن الضمير انه قاض عادل غير انه ضعيف والضعيف يقف ضد تنفيذ أحكامه أما لماذا هو ضعيف، فذلك لان هناك مؤثرات أخرى كثيرة تضغط عليه.. وقد لا يستطيع مقاومتها.الضمير يتأثر بالشهوة.. وكلما كانت الشهوة قوية، يضعف أمامها الضمير والشهوة علي أنواع. منها شهوة الجسد، وشهوة المناصب والارتفاع، وشهوة العظمة، وشهوة السيطرة، وشهوة الانتقام، وغير ذلك.. وحينما تشتد الشهوة فإنها تطرح الضمير جانبا فيفقد سلطانه وتتولي الشهوة قيادة الموقف، بلا ضمير، وتدبر الأمر حسب هواها.. ومن هنا أيضًا كانت المصالح الشخصية هي من الأمور الضاغطة علي الضمير أو السيطرة عليه، أو التي تحل محله، سواء بالنسبة إلي ضمير الفرد أو ضمير الدول. حتى لو كانت النظرة إلي المصالح الشخصية نظرة غير سليمة.
إذن الدوافع أيًا كانت لها سيطرة علي الضمير مما يؤثر علي الضمير أيضًا مقدار المعرفة ودرجة الذكاء فقد يخطئ الضمير في حكمه نتيجة للجهل أو لنقص المعرفة أو لخطأ في الأمور المعروضة عليه وعلاج ذلك هو التوعية والإرشاد السليم. وقد يخطئ الضمير، أو تختلف أحكام الضمائر، باختلاف العقول وتنوع درجات الذكاء فيها. فضمير الإنسان الحكيم العاقل غير ضمير الإنسان العادي أو الأقل ذكاء أو البسيط في تفكيره وعلاج نقص العقل أو المعرفة هو الاسترشاد. وكما قال الشاعر: فخذوا العلم علي أربابه.. واطلبوا الحكمة عند الحكماء ومن الناحية المضادة قد يخطئ الضمير نتيجة للإرشاد الخاطئ إن كان خاضعًا لإرشاد يضلله. وكما يقول المثل 'أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى'، يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ (إنجيل متى 15: 14؛ إنجيل لوقا 6: 39).مما يؤثر علي الضمير أيضًا: العرف و البيئة وحماس الجماعة: فهناك عادات متوارثة وعرف سائد وتأثيرات للبيئة قد يتبعها الإنسان دون أن يفكر أو يحلل.. وبهذا تحل محل ضميره!
كما تؤثر علي الضمير مشاعر الجماعة واقتناعها أو حماسها. مثال ذلك في بعض مظاهرات الطلبة قد ينقاد بعضهم وراء هتافات الجماعة وحماسها، دون أن يفكر ما هو الخير. ولكنه إذا خلا إلي نفسه، أو إذا قبض عليه وجلس في الحبس منفردا، ربما يناقش الأمر بضمير آخر قد تخلص من تأثير المظاهرة وهتاف الزملاء ونفس الوضع لمن يكون تحت تأثير ما تنشره بعض الصحف، أو ما توحي به بعض دور الإعلام. في كل ذلك وما يشبهه يكون الضمير تحت تأثير خارجي، يستمر إلى أن يوجد ما يتوازن معه.الضمير أيضًا قد يتأثر أيضًا بالمبدأ الميكيافلي 'الغاية تبرر الواسطة' فقد يقبل وسيلة خاطئة، إن كانت في نظره توصل إلي هدف يراه سليمًا، وكثيرًا ما تستخدم هذه الفكرة عن الوصوليين الذي هدفهم هو مجرد الوصول إلي ما يريدون أيًا كانت الوسائل!!
والعجيب أن هؤلاء يبررون وسائلهم الخاطئة اعتمادًا علي أهداف وحجج وأسباب تكون حكيمة في أعينهم! وقد قال احد الآباء الروحيين "كثيرًا ما يكون طريق جهنم مفروشا بالأعذار والتبريرات" والمقصود هو التبريرات التي تغطي علي حكم الضمير.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
14 يوليو 2021
العنف المُنَفِّر والمدمِّر
لا يستريح أحد إلي العنف، حتى من الطبيعة إن كانت عنيفة:
إنها مخيفة تلك الأعاصير العنيفة التي تغرق مدنا وتشرد سكانها، وكذلك السيول العنيفة التي تجرف أمامها كل معالم الحياة. وأيضًا الزلازل التي تهز الأرض وتهدم بيوتا. والبراكين التي تحرق وتدمر.. بل ما أشدها رعبًا تلك الأمواج الصاخبة من بحر هائج تهدد السفن وركابها بالغرق. ومثلها الحرائق العنيفة التي تتلف وتميت.أيضا عنيفة جدا تلك الأمراض التي يقف أمامها الطب عاجزًا كل ما يستطيعه أن يسكن بعض الآلام القاسية التي تنتج عنها، دون أن يجد لها علاجًا..!
كل هذه أنواع عنف من الطبيعة. وكلها غير مقبولة. وماذا تراه يصنع الإنسان تجاهها؟! ولكن هناك نوعا آخر من العنف قد يصدر من جانب البشر أنفسهم. فما هو؟
لعل أبرزه العنف في الاعتداء. وهو علي أنواع ودرجات:
عنف قد يبدأ بالإهانة والضرب، وقد يصل إلي القتل، أو ما يعرف باسم التصفية الجسدية. وربما يشمل ألوانًا من التعذيب، تخرج عن نطاق المشاعر الإنسانية، ولا تتفق مع أبسط أنواع الرحمة. وقد يتعرض له الأبرياء بلا سبب.. وهذا ما يسمي الإرهاب. ومن ضحاياه الأفراد أو الجماعات.
والعنف عموما هو سلوك منفر، ولا يتفق مع الوداعة واللطف. ولا مع حسن التعامل بين الناس، ولا مع فضيلة السلام التي يدعو إليها الدين، والتي هي لازمة لسلامة المجتمع.. والعنف لا يتفق أيضًا مع المحبة التي تربط بين الناس. وفي ظلها يعيش كل شخص آمنا لا يخشي شرًا من أحد.
وقد ينتج العنف عن أسباب عديدة، ربما في مقدمتها قساوة الطبع، أو التهور أو اللامبالاة بمشاعر الآخرين ومصائرهم..
فالشخص القاسي يكون عنيفًا:
ليس فقط في تصرفاته وتعامله مع غيره. بل حتى ملامح وجهه يظهر فيها العنف، في نظرات عينيه، وفي لهجة صوته، وفي أسلوب تخاطبه.والشخص العنيف قد يظهر عنفه في كلامه الجارح العنيف الذي لا يحترم فيه أحدًا. بل يكون مستعدًا للاحتكاك بغيره لأتفه الأسباب أو لغير ما سبب! ولقد صدق الشاعر حينما قال عن مثل هذا:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدت أطير
أما عن العنف الناتج عن تهور ولا مبالاة:
فمن أمثلته كثير من حوادث المرور، التي في بعضها يهجم سائق عربة نقل طائش علي سيارة خاصة أو علي أتوبيس، وتكون نتيجة طيشه ولامبالاته قتل بعض الركاب أو إصابة بعضهم بإصابات خطرة.. وهذا السائق نفسه قد يلقي حتفه.. وكل ذلك بسبب عنفه في قيادة عربته، وعدم مبالاته بأرواح الناس.
وقد يقول البعض انه عنف غير مقصود. ولكن نتائجه عنيفة حتى لو كانت غير مقصودة.. وهذا الأمر قد يتكرر أيضا في بعض حوادث القطارات عن إهمال.
هناك عنف آخر يحدث نتيجة للخصومة والعداوة:
ليست كل عداوة فيها عنف. فربما تقتصر علي مشاعر من الكراهية وتقف عند هذا الحد. ولكن عنف العداوة يظهر في الرغبة في الانتقام، أو في تدمير العدو بأية الطرق.. إما بتشويه سمعته، أو بتدبير بعض المؤامرات ضده. أو الشماتة به والفرح بسقوطه. وهنا تكون مشاعر الخصومة عنيفة جدًا.وقد يظهر عنف الخصومة، حينما يرفض الطرف العنيف كل محاولات الصلح التي تبذل لإرجاع العلاقة بينه وبين الطرف الآخر.
وأحيانا يكون العنف في العتاب، إذا قبل أحد الخصمين عتابًا:
المفروض في العتاب انه تقريب لذات البين بين الطرفين، والوصول إلي التفاهم ثم إلي الصلح.. ولكن بعض أنواع العتاب تكون عنيفة جدًا، لدرجة أنها تعقد الأمور بالأكثر، وتجعل الهوة بين الطرفين أكثر اتساعًا. وقد صدق الشاعر حينما قال:
ودع العتاب فرب شر كان أوله العتاب
لذلك إن أردت أن تعاتب، فكن لطيفًا في عتابك.. وليكون قصدك هو الصلح، وليس تبرئة نفسك وإظهار خطأ الطرف الآخر. ولا تستخدم في عتابك عبارات قاسية أو اتهامات.
هناك عنف آخر في طريقة التربية في محيط الأسرة إذ انه بفهم خاطئ، قد يظن الأب انه يكون حازما في تربية أولاده، وذلك بالتضييق عليهم في كل شيء في دخولهم وخروجهم ومعاملاتهم.. وتتعب ابنته مثلا من هذه القسوة، وتهرب من البيت، لتلقي بنفسها في أي صدر حنون يعوضها بشفقته عن قسوة أبيها. وهكذا يحصد الأب نتيجة عنفه..!
أو قد يحاول أحد والديها أن يرغمها علي الزواج من قريب لها لا تحبه. فتهرب من إتمام هذا الزواج الذي يراد إتمامه عنفًا، أو قد تقبل مرغمة وتحيا تعيسة تندب حظها وقد يحدث عنف آخر في محيط التربية بين أستاذ قاس وتلاميذه، فيكرهونه ويكرهون علمه بسبب معاملته القاسية.وقد يكون عنف الزوج في معاملة زوجته، سببًا في أن تطلب الطلاق أو الخلع، هاربة من هذا الزواج الذي لم تعد تطيقه. أو قد ينتهي الأمر بجريمة للتخلص من الزوج، مثلما طلعت علينا الأخبار في بعض الجرائد.
حقًا، إن العنف كثيرًا ما يولد عنفا مضادا في الجانب الآخر.
علي أن العنف قد يوجد كذلك في محيط الإدارة والوظائف. مثال ذلك مدير يعاقب أحد الموظفين بطرده أو فصله فصلا تعسفيا، غير مبال بمصير هذا الموظف بعد فصله، وبخاصة إن لم يكن له مورد رزق آخر..!
إن الفصل من الوظيفة هو أعنف عقوبة بالنسبة إلي موظف.. وهناك عقوبات كثيرة أخري يمكن أن يلجأ إليها رئيس العمل، دون أن يلجأ إلي قطع رزق إنسان تحت إدارته والطرد من العمل يولد إحساسًا عنيفا بالظلم. وربما لا يقدر هذا المطرود أو المفصول أن يقف ضد رئيسه في المحاكم!
ونفس الإحساس بالظلم يشعر به من يرفض المسئولون تعيينه أو ترقيته، علي الرغم من أن كفاءته تؤهله لذلك. ولكنه العنف!
وقد يتطور الأمر بهذا المظلوم إلي اليأس، ويجره اليأس إلي أخطاء أخري.. واليأس شعور طاغ عنيف ونتائجه عنيفة والعنف يظهر كذلك في بعض الثورات الدموية العنيفة وقد حكي لنا التاريخ أمثلة منها، وما تبعتها من محاكمات ومن مقاصل وإعدام. ولعل ما فعله روبسبير Robespierre بعد الثورة الفرنسية The French Revolution مثل لذلك.. وكذلك ما فعلته الثورة الشيوعية حينما قامت في روسيا وأحيانا لا يكون عنف الثورات فيما تسفكه من دماء، إنما قد يكون أيضا في قوانين عنيفة، يقصد بها حماية الثورة وتثبيتها والعنف كما يوجد عند الأفراد، يوجد أيضا عند شعوب عنيفة، لا تعالج مصالحها إلا بالعنف. ويوجد أيضا عند أصحاب ما يسمونه بالطبع الناري. كما يوجد كذلك في أفلام العنف وتأثيرها ولا يفوتني في هذا المجال أن أذكر عنف العادات وسيطرتها، وعنف الإدمان وما يرغم عليه المدمنين من أخطاء كذلك عنف الفكر إذا سيطر. وأعنف الأفكار سيطرة هو فكر الإلحاد، لأن الشيطان بكل عنفه يدفع إليه.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
07 يوليو 2021
التواضع في الخدمة
المفروض في الخادم أنْ يتَّصف بصفات روحية ولعلَّ في مُقدمتها التواضع ومن أهمية هذه الصفة أنَّ السيد المسيح قال لتلاميذه"تعلَّموا منِّى لأَنِّي وديع ومتواضع القلب" (مت29:11).كان يمكن أنْ يُركِّز على فضائل كثيرة تتمثَّل في شخصه القدوس ولكنه ركَّز على التواضع والوداعة ذلك لأنَّ الذي يخدم كثيرًا ما يحارب بالكبرياء أو العظمة إذ يجد أنَّه قد انتقل من صفوف المخدومين إلى مصاف الخُدَّام.وأنَّه أصبح من الأشخاص المهمين في الكنيسة ومن الأشخاص الذين يؤخذ رأيهم في سيامة كاهن جديد للكنيسة بل ربما يكون هو أحد المُرشَّحين للكهنوت لذلك نريد أنْ نُقدم بعض ملاحظات في هذا الموضوع:
إنه خادم
حسنٌ هذا اللقب أنَّه خادم وليس سيدًا!
ولم نُعطه لقب كارز، أو مُعلِّم، أو مُدرِّس وظيفته أنْ يَخدم لا أنْ يُسيطر أو يتكبر فالكبرياء ليست من صفات الخادم والعجيب أنْ السيد المسيح نفسه لقَّب نفسه بلقب خادم. وعلى الرغم من أنَّه ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ16:19) إِلاَّ أنَّه انحنى وغسل أرجل التلاميذ لكي يُعطيهم مثالًا (يو15، 5:13) بل قال أيضًا "أَنَّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت28:20).ولقب خادم قد تُلقَّب به الملائكة أيضًا فقيل عنهم في رسالة العبرانيين "أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أنْ يرثوا الخلاص" (عب14:1) وقيل في المزمور "الذي خلق ملائكته أرواحًا وخُدَّامه نارًا تلتهب" (مز4:104).وكما لَقَّبَ الملائكة بأنَّهم خُدَّام، كذلك الرسل أيضًا يقول القديس بولس الرسول عن نفسه وعن زميله أبلوس "من هو بولس ومن هو أبلوس؟ بل خادمان آمنتم بواسطتهما" (1كو5:3) ويقول عن مساعده تِيخِيكُس "يُعرِّفكُم بكل شيء تِيخِيكُس الأخ الحبيب والخادم الأمين في الرب" (أف21:6) ويقول عن أَبَفْرَاسَ "الذي هو خادم أمين للمسيح لأجلكم" (كو7:1) وقال عن القديس مرقس الرسول "إنَّه نافع لي للخدمة" (2تى11:4).وقال بصفة عامة "كفايتنا من الله، الذي جعلنا كُفَاةً لأَنْ نكون خدَّام عهد جديد" (2كو6، 5:3). وقال أنَّ الله أعطانا خدمة المصالحة.. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2كو20، 18:5) والآباء الرسل عند اختيار الشمامسة السبعة، قالوا "أَمَّا نحن فنعكف على الصلاة وخدمة الكلمة" (أع4:6).آباؤنا الرسل كانت لهم خدمة الكلمة، وخدمة المصالحة.والآباء الكهنة عمومًا هم خدام المذبح وكلمة شماس معناها خادم.والكاهن الذي يستلم الذبيحة يُسمَّى في الطقس (الكاهن الخديم) حتى الأرملة التي كانت تخدم في الكنيسة اشترط فيها الرسول أن تكون "مشهودًا لها في أعمال صالحة.. أضافت الغرباء غسلت أرجل القديسين" (1تى10:5) والعناية بالفقراء نسميها الخدمة الاجتماعية.وحتى اجتماع مُدرِّسي التربية الكنسية نُسمِّيه اجتماع الخدام.فمادمت يا أخي خادمًا اسلك في اتضاع كخادم ولا يرتفع قلبك من الداخل. افهم الكلمة في جوهر معناها، ولا تجعلها تفقد حقيقتها ومدلولها وكان القديس أوغسطينوس يُصلِّى من أجل رعيته قائلًا "أَطلب إليك يا رب من أجل سادتي عبيدك..".إنْ كُنت خادمًا فيجب أنْ تتصف بالطاعة.طاعة لله وطاعة لرؤسائك في الخدمة ومديريك.بعض خدام التربية الكنسية يَتحَدُّون الأب الكاهن فلا يحترمونه ولا يُطيعونه ومع ذلك يقولون أنَّهم خُدَّام! ونفس الوضع نقوله عن الكاهن الذي لا يطيع أُسْقُفُه!! ونقوله عن أعضاء الكنيسة الذين ينفردون بالعمل دون مشورة رئاستهم الكنسية!!
لا تظن أنَّك أحد قادة العمل الرعوي أو التعليمي في الكنيسة.بل تذَكَّر باستمرار أنَّك خادم واسلك كما يليق بخادم واحذر أنْ تفقد تواضعك لأنَّه كما يقول الكتاب "قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم18:16).
2- من الأمور الأخرى التي تجلب التواضع في الخدمة: التلمذة.
التلمذة
يظن بعض الخُدَّام أنَّهم لمَّا أصبحوا خُدامًا انتهى بالنسبة إليهم عصر التلمذة وهذا فهم خاطئ.إنما لكي تحتفظ بتواضعك احتفظ باستمرار بتلمذتك.كل المسيحيين في العصر الرسولى كانوا يُدْعَون تلاميذًا والسيد الرب لمَّا أرسل الأحد عشر للكرازة قال لهم "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (مت19:28) وفي انتشار الكرازة قيل "وكانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا" (أع7:6).إذن اسْتَمِرْ تلميذًا للرب وتلميذًا للكنيسة ولا يكبر قلبك.وإن شعرت أنَّك صرت مُعَلِّمًا وأصبحت فوق مستوى التلمذة اعرف جيدًا أنَّك بدأت تسقط في الكبرياء.أَتَذَكَرْ أنَّنا حينما كنا خُدَّامًا في مدارس الأحد في كنيسة الأنبا أنطونيوس منذ حوالي 45 سنة كان كل خادم يجلس كمستمع أو كتلميذ في أربعة اجتماعات كل أسبوع، في اجتماع الأسرة وفى اجتماع الخُدَّام واجتماع الشبان وفي الفصل الكبير الذي كان يبدأ في السابعة والربع مساء، بعد انتهاء التدريس في باقي الفصول.وباستمرار كان الخُدَّام يتعلمون من غيرهم فيستمرون في تواضعهم.قل لنفسك أنا باستمرار مازلت أتعلم ومحتاج أنْ أعرف.
وإنْ عشت في حياة التلمذة ستتخلص من مشاكل كثيرة ستتخلص أولًا من روح الجدل وكثرة المناقشات (المقاوحة) وتكون مستعدًا أنْ تتقبل الرأي الآخر بروح طيبة.لأنَّ الذين يدخل فيهم روح الجدل يُسْلِمَهم إلى روح العناد وتصلب الرأي ويظنون أنَّهم يفهمون أكثر من الكبار. بل وقد يظنون أنَّهم هم الكبار.احتفظ إذن بطفولتك الروحية حسب قول الرب:"إنْ لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت3:18).وما أكثر الأمثلة لقديسين عاشوا تلاميذ يشوع ظلَّ تلميذًا لموسى طول حياته إلى أنْ رقد موسى في الرب وأليشع ظلَّ تلميذًا لإيليا إلى أنْ صعد إلى السماء، فوَدَّعَهُ بعبارة يا أبى يا أبى يا مركبة إسرائيل وفرسانها (2مل12:2) والقديس أثناسيوس الرسولي مع أنَّه كان بابا الإسكندرية احتفظ بتلمذته للقديس أنطونيوس الكبير ولما كتب سيرته قال "وأنا نفسي صببت ماء على يديه" أي كان يخدمه.كان التلاميذ قديمًا يجلسون عند أقدام مُعَلِّميهم.فلا يجلسون إلى جوارهم وأمامهم بل كان المُعَلِّم يجلس على كرسي وتلاميذه جلوس على الأرض عند قدميه وعن هذا قال القديس بولس الرسول "وُلِدْتُ في طَرْسُوسَ كيليكيَّة ولكن رَبَيْتُ في هذه المدينة مُؤَدَّبًا عند رِجْلَيّ غَمَالائيل" (أع3:22) هذا هو اتضاع التلميذ أمام مُعَلِّمُه ويَعتبر أيضًا أنَّه ليس فقط يُعلِّمُه بل يُربيه أيضًا ويؤدبه.ما أصعب أنَّ خادمًا يقرأ كتابًا أو كتابيْن فيتكبر على مُعلِّميه.ويتكبر أيضًا على آبائه الكهنة ويفرض مشيئته على أب اعترافه فإما أنْ يوافق الأب على رأيه أو يعصاه!! وهكذا يصير حكيمًا في عينيّ نفسه الأمر الذي نهانا عنه الكتاب فقال "لا تكن حكيمًا في عينيّ نفسك وعلى فهمك لا تعتمد" (أم7، 5:3) عش إذن تلميذًا متواضعًا.والْتَمِسْ المعرفة من كل مصادرها تتلمذ على أب اعترافك وعلى آباء الكنيسة وعلى الاجتماعات الروحية وتتلمذ على الطبيعة على زنابق الحقل وطيور السماء وتتلمذ على الكتب الموثوق بها ولا تظن مهما كبرت أنَّك قد ارتفعت عن مستوى التعليم.
إنَّ تاريخ الكنيسة يُسجل لنا قصصًا عجيبة عن اتضاع القديسين في التلمذة.تصوروا واحدًا من الآباء الكبار مثل القديس موسى الأسود يطلب كلمة منفعة من الصبي زكريا فلما يستحى الفتى منه قائلًا: "أنت عمود البرية وتطلب منِّى كلمة؟!" يجيبه القديس "صدقني يا ابني لقد عرفت من الروح الذي عليك أنَّ عندك كلمة أنا محتاج أنْ أعرفها"..!
والقديس مكاريوس الكبير أخذ كلمة منفعة من راعى بقر.. وكان الآباء يلتمسون كلمة منفعة بينما كانت لهم سيرة ملائكية يشتهى الكثيرون أنْ يتعلموا منها.
التواضع في التعليم
صدقوني أكثر ما يتعب كنيستنا حاليًا هو عدم التواضع في التعليم.كل خادم يأتي له فكر جديد في تأملاته أو من قراءاته يحاول يجعله عقيدة ويُدَرِسَه للناس، وهناك نوع من الكُتّاب، ويروق لهم إلغاء المفهوم السائد ليُقَدِّموا بدلًا منه مفهومًا جديدًا وكأنَّ الواحد منهم قد اكتشف ما لا تعرفه الكنيسة كلها والناس جميعًا وكأنَّه يعلم ما لا يعلمون.المشكلة هي تقديم المفاهيم الشخصية وليس تعليم الكنيسة وعقيدتها.ومحاولة للجدل وللإثبات ولإقناع الناس بخطأ المفهوم السائد والبعض قد ينتقد الكنيسة. والبعض يُغَيّر ألفاظ القداس والبعض يُصَرِّحْ بزيجات بعكس قوانين الكنيسة والبعض يُصَلِّى بقداسات غير مألوفة في كنيستنا.وكل واحد من هؤلاء يعتبر نفسه مصدرًا للتعليم.وكأنَّه جبهة مستقلة في تعليمه أو جزيرة قائمة بمفردها في المحيط وإنْ تدخلت الكنيسة لإصلاح الوضع، يقيم الدنيا ويقعدها، ويُحيط نفسه بمجموعة خاصة من تلاميذه لتسانده، ويقف ضد الكنيسة وينادى بأنَّ تعليمه هو السَّليم والكل مخطئ!
وقد تجد لكل فرع من التربية الكنسية منهجًا خاصًا.أمين الفرع لا يعجبه المنهج العام، فيُعَدِّل فيه ويُبَدِّل، أو يضع منهجًا خاصًا يرى أنه الأفضل والأصوب.وإن شاء الله سنضع منهجًا موحدًا ونأخذ فيه رأى الآباء وقادة الخدمة فنرجو بعد وضعه أنْ يتواضع الخدام ويعملوا به.. ولا يقف لنا أحد ليقول من حقي أنْ أعترض.. ومن حقي أنْ أرفض، ومن حقي أنْ أسير حسب فكرى وإلاَّ فأين هي الديمقراطية في الكنيسة ولا يقول له أحد أين هو التواضع؟!
الكنيسة الأولى تميزت بالفكر الواحد.لأنَّها كانت كنيسة متضعة تخضع لفكر قادتها.أمَّا البروتستانتية التي نادت بالحرية في التفسير والتعليم، فقد تكونت فيه مواهب متعددة زادت فيها مذاهب على المائة، أمَّا الكنيسة المحافظة التقليدية فإنها تحفظ الإيمان سليمًا، ولا تسمح بالمفاهيم الفردية التي تتحول إلى عقائد بل تنصح أصحابها بالاتضاع.الخادم المتواضع أيضًا لا يستعرض معلوماته!!
إنَّما يقدم التعليم في أسلوب روحي هادئ. لا يحاول أن يفلسف المعلومات ولا يمسك ببعض الكلمات ويضع أمامها النص العبري أو اليوناني، أو بعض الترجمات الإنجليزية. وقد لا يكون الشعب على علم بشيء من كل هذا. وقد لا يكون كل هذا لازمًا لإثبات الفكرة التي يُقَدِّمْها. وقد لا تكون المراجع التي يستخدمها سليمة وقد يتبع في ذلك بعض المذاهب التي تسير بالمنهج العقلاني لا بالمنهج الروحي.الخادم المتواضع ينزل إلى مستوى الخدومين ولا يبهرهم بمعلومات فوق مستواهم لا تفيدهم بشيء.إنَّه لا يُفكر في ذاته والمستوى الذي يريد أنْ يأخذه الناس عنه. إنَّما ينشغل بفائدة الناس الروحية، بينما تختفي ذاته تمامًا.لذلك هو يُحَضِّر درسه أو عظته أو محاضرته ولا مانع عنده أنْ تكون ورقة تحضيره ظاهرة فهو لا يُضَيِّع فائدة السامعين من أجل أنْ يأخذوا عنه فكرة أنَّه يتكلم من الذاكرة الخادم المتواضع يهتم بتحضير درسه.ولا يعتمد على معلوماته السابقة ولا على ذاكرته، كما يفعل بعض الخدام الكبار، ولا يُحَضِّرون ما يقولون فتبدو كلماتهم أحيانًا ضعيفة لأنَّهم لم يتواضعوا بل وثقوا بأنفسهم وبقدراتهم أزيد مما يجب.الخادم المتواضع يحترم عقليات السامعين مهما صغروا.ويبذل كل جهده لكي يقدم لهم كلامًا دسمًا يشبعهم.
التواضع والذات
الخادم المتواضع ينكر ذاته. يختفي لكي يظهر الرب، كما قال القديس المعمدان "ينبغي أنَّ ذلك يزيد وأنِّى أنا أنقص" (يو30:3).أمَّا غير المتواضع فيتخذ الخدمة ليبنى بها ذاته بطريقة خاطئة فهو يفكر كيف يرتقى في الخدمة، وليس كيف يرتقى بالخدمة، ويفكر في مستوى المجالات التي يتكلم فيها، وربما يسعى إلى المناصب وقد يصطدم بقيادات الكنيسة. ويتعوَّد كيف يأمر وينهى وينتقد وربما يفتخر بخدمته ومدتها ومستواها.يقول أنا لي 20 سنة في الخدمة. أنا خرَّجت أجيالًا.. ويكبر في عينيّ نفسه ويريد أنْ يُطاع، لا أنْ يطيع ويصطدم بالأنظمة الموضوعة. ويحكى قصصًا عن ماضيه ويدخله روح العظمة.
الخادم المتواضع يكون كالنسيم الهادئ.في دخوله وخروجه لا يشعر به أحد، يكون رقيقًا دمثًا وديعًا، لطيفًا في معاملاته، لا يخدش شعور أحد، لا يجرح إنسانًا، لا يهتم بتولي مناصب في الخدمة، يطيع في كل ما يوكل إليه، "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (مت19:12) "ولا يرتئي فوق ما ينبغي" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 3).
احذر أنْ تُفقدك الخدمة تواضعك.لأنَّ كثيرين كانوا متواضعين قبل الخدمة ثم تغيروا. أمَّا أنت فلا تكن كذلك لأنَّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! (مت26:16).
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب الخدمة الروحية والخادم الروحي
المزيد
30 يونيو 2021
الجسد والروح
تذكرت مرة أننا مخلوقون من تراب الأرض، وأننا سنعود مرة أخرى إلى التراب بعد الموت فقلت في أبيات من الشعر:
يا تراب الأرض يا جدي وجد الناس طُرّا
أنت أصلي, أنت يا أقدم من آدم عمرًا
ومصيري أنت في القبر إذا وُسَدتُ قبرًا
على أنني راجعت نفسي، وتذكرت أن التراب هو أصل الجسد فقط، الذي خُلق من تراب أو من طين، قبل أنا ينفخ الله فيه نسمة حياة هي الروح. فعدت أصحِّح فكري, وأقول في أبيات أُخرى:
ما أنا طينٌ ولكن أنا في الطين سَكْنتُ
لست طينًا, أنا روح من فم الله خرجتُ
سأمضي راجعًا لله أحيا حيث كنت
وفي الحقيقة ما أنا مجرد جسد, ولا مجرد روح, بل أنا كلاهما معًا, جسد وروح وهكذا كل إنسان أيضًا.
الجسد والروح متحِدانِ معًا, يكونان إنسانًا واحدًا, غير أن طبيعة كل منهما تختلف عن طبيعة الآخر. ولذلك كثيرًا ما نرى أن الجسد يشتهي ضد الروح, والروح تشتهي ضد الجسد, حتى أن كلا منهما يقاوم الآخر.مشكلة الجسد أنه مادي, لذلك فشهواته تتركز في المادة وفي كل ما هو مادي, أما الروح فاتجاهاتها سامية, فوق مستوى المادة الجسد ينشغل بالمرئيات والمحسوسات. أما الروح فيمكنها أن تنشغل بالأمور غير المرئية, بل وبالإلهيات أيضًا الجسد يدركه الموت, حينما تنفصل الروح عنه ويموت الجسد تخل عناصره, ويفقد الشعور والحيوية, أما الروح فلا تموت وما أكثر الحديث عن شهوات الجسد الخاطئة, وعن سقطاته الجسد يقع في شهوة الطعام, وفي المُسكِرات والمخدرات والإدمان، كما يقع أيضًا في شهوة الزنا وسائر سقطات الجنس, كما يقع في كثير من خطايا اللسان, والاعتداء على الآخرين بأنواع وطرق شتى.. وقد تمتد يده إلى السرقة وإلى الرشوة.. وما إلى ذلك من أجل هذا, كان كثير من الأبرار ومن النُسَّاك, ينظرون إلى الجسد كمصدر للخطيئة, ويبذلون كل الجهد للانتصار على شهوات الجسد, ويصبح قمع الجسد من الفضائل الأساسية. ولا ننسى أن الصلاة فضيلة في جميع الأديان, وهو فترة لانضباط الجسد ليعطي فرصة الروح فهل معنى كل ذلك أن الجسد شرٌ في ذاته كما يتخيله البعض؟!
كلا, بلا شك، فلو كان الجسد شرًا, ما كان الله يخلق الجسد, بل الجسد خير إذا لم ينحرف، وإذا لم يقاوم الروح. وإذا لم يخضع لعوامل نفسية خاطئة أيضًا لو كان الجسد شرًا, ما كنا نُكرمْ رفات الأبرار والشهداء.. ولو كان الجسد شرًا ما كان الله ينعم عليه بالقيامة والحياة الأخرى بل كان يكفيه ما عاشه على الأرض, دون امتداد لحياته ولو كان الجسد شرًا, ما كان الأنبياء والرُسلْ يعيشون حياة بارة على الأرض, ولهم أجساد..! وكانت أجسادهم طاهرة ومقدسة.. الجسد إذن ليس شرًا في ذاته, ولكنه قد ينحرف فيخطئ. الروح أيضًا يمكن أن تخطيء سواء كانت وحدها, أو متحدة بالجسد.
وأول خطايا عرفها العالم كانت خطايا "أرواح"!
وأقصد بذلك خطايا الشياطين, وهم أرواح ليس لهم أجساد. وقد وصِفوا بأنهم أرواح شريرة أو أرواح نجسة الشياطين –وهو روح- وقع في خطية الكبرياء، وما زال في كبريائه يتحدى ملكوت الله على الأرض, وفي كبريائه يعصى الله ويكسر وصاياه. كذلك -وهو روح- وقع في خطيئة الحسد, فحسد الإنسان على ما وهبه الله من نعمة. ولا يزال يحسد القديسين والأبرار ويحاول إسقاطهم. وفي إغرائه للبشر يقع في خطايا الخداع والكذب بتصوير الشر أنه خيرًا! والشيطان -وهو روح- يقع في التجديف على الله تبارك اسمه, وينشر الإلحاد والبدع والأفكار المنحرفة.وكما يخطئ الشيطان وهو روح. كذلك يمكن أن تخطئ أرواح البشر.روح الإنسان قد تخطئ، وتجد الجسد معها في الخطأ.
الروح مثلًا قد تسقط في الكبرياء, ثُم تجر الجسد معها في كبريائها، فيجلس في كبرياء، ويمشي في خيلاء, ويتكلم في عظمة, وينظر في غطرسة.. وتكون الكبرياء قد بدأت في الروح أولًا ثُم تحولت إلى الجسد.
الروح قد تَفْتُر في محبتها لله, ثُم يقود الجسد معه في الفتور, فيكسل في صلواته, ويُهمِل واجبات العبادة.
إن ضعفت الروح, يخور الجسد وان بعدت الروح عن الله, ينهمك الجسد في ملاذ الحياة والدنيا.
إن تشبعت روح الإنسان بالكراهية, يمارس الجسد هذه الكراهية, فقد يعتدي على غيره, بيده أو بلسانه أو بقلمه. وهنا نسأل: هل حوادث القتل ترجع إلى الجسد مع الروح؟ وتكون الروح هي البادئة والمشجعة والمخططة!!
ومن الناحية الأخرى: إذا قويت الروح, فأنها ترفع الجسد إلى فوق, فالروح المعنوية عند المريض إذا قويت تجعله يحتمل المرض ويجتاز مراحله الصعبة. وإن ضعفت روحه المعنوية, فإنه يستسلم للمرض وينهار..
كذلك في الصوم: إذا نفذت الروح بالصلوات والتأملات والتسابيح والقراءات المقدسة, فإن الجسد يستطيع أن يحتمل الصوم بدون تعب...
وأيضًا الجندي في ساحة القتال إذا كانت روحه قوية لا تعرف للخوف معنى, بل تحفزها محبة الوطن, فأنها تدفع الجسد إلى الاستبسال والشهامة.
وعمومًا فإننا تجاوبًا وتضامنًا ما بين الروح والجسد..
ففي الصلاة مثلًا, أن كانت الروح خاشعة, فإن الجسد يخشع بالتالي، تنحني ركبتاه بالركوع أو السجود, وترتفع عيناه في الصلاة, وترتفع يداه. وإذا لم تكن الروح خاشعة, يكسل الجسد أيضًا.
الروح إذا حزنت, ممكن أن ملامح الوجه تعيب, ودموع العين تتساقط. وإذا فرحت الروح، تظهر البشاشة على الوجه, وتلمع العينان في فرح إذا سلم إنسان على رئيس له, أو على شخص كبير السن أو عالي المقام, فإن الاحترام الذي يكنه في روحه, يظهر في أنحاء جسده وتقريبًا كل المشاعر التي للروح, تظهر في حركات الجسد, أو في نظرات العينين, أو في لهجة الصوت, أي يكشفها الجسد لذلك لا نستطيع كثيرًا, أن نمنع هذه الصلة بين الروح والجسد، ولهذا فإن محاسبة الإنسان في القيامة, تكون للروح والجسد معًا لا يُدان الجسد بدون الروح, ولا تدان الروح بدون الجسد لقد اشترك الاثنان معًا في عمل الخير أو الشر، إما أن الروح خضعت للجسد في شهواته, أو أن الجسد أسلم قيادته إلى الروح, وارتفع معها, وعَبَّر عن سموّها بأفعاله ونصيحتنا لكل إنسان أن يقوي روحياته, ويسلك في السلوك الروحي, وحينئذ سيجد أن جسده يتجاوب مع الروح في عمل البرفالجسد يمكنه أن يتعب في خدمة الآخرين بفرح, وان يبذل ذاته ليسعد غيره, كما يمكنه أن يتبرع بدمه, إذا كان احد المرضى في حاجة إليه, بل أن يضحي بعضو من أعضاء الجسد لأجل حياة إنسان آخروكل الخدمات الاجتماعية التي تراها في العالم، وكذلك كل أعمال الإنقاذ التي يقوم بها رجال الإسعاف, ويقوم بها من يعملون في إطفاء الحرائق, وإنقاذ المشرفين على الغرق... كلها أعمال يشترك فيها الجسد مع الروح. الروح تدفع والجسد ينفذ.إن الله وهبنا الجسد، كما وهبنا الروح, هو قادر أن يعمل فيها لمجد اسمه, ولنشر الخير على الأرض, في غير تناقض, بل في تعاون تام بين الروح والجسد.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
23 يونيو 2021
التوازن في الفضائل
قال بعض الحكماء في تعريف الفضيلة:'إن الفضيلة هي وضع متوسط بين الإفراط والتفريط' أي التوسط بين الإفراط في الزيادة، والتفريط الذي هو النقص أي أن يسلك فيها الإنسان بميزان الاعتدال. لا يبالغ حتى يصل إلي التطرف، ولا يتهاون فيصل إلي الإهمال..فالمبالغة مرفوضة سواء كانت سلبًا أو إيجابًا..
فما هو ميزان الفضيلة في التدين مثلًا؟
التدين هو الوضع المتوسط بين المغالاة إيجابًا إلي حد التطرف، والمبالغة سلبًا إلي مستوي الاستهتار.
كذلك هي الوضع المتوسط بين التشدد في التطبيق إلي درجة التزمت، والمغالاة في التساهل إلي درجة الاستباحة.
كذلك في التعامل مع الناس، ما أجمل المثل المصري القديم:
'لا تكن لينًا فَتُعْصَر، ولا يابِسًا فَتُكْسَر' إنها نفس سياسة الاعتدال فلا يصح أن يكون الإنسان متساهلًا في حقوق نفسه، حتى يدوس الغير عليه في امتهان ولا مبالاة. ولا يكون عنيفا في تعامله مع الآخرين، بحيث يصبح موضع بطشهم وانتقامًا منه بسبب شدة تعامله. وأتذكر أنني في شبابي، رثيت احد أساتذتنا الأفاضل، فقلت في بعض أبيات من الشعر:
يا قويا ليس في طبعه عنف ووديعا ليس في ذاته ضعف
يا حكيما أدب الناس وفي زجره حب وفي صوته عطف
لك أسلوب 'نزيه' طاهر ولسان أبيض الألفاظ عف
وهكذا توجد حدود للطيبة فلا يبالغ فيها حتى تبدو وكأنها لون من ضعف الشخصية كما لا يبالغ في الحزم حتى يتحول إلي عنف وبهذا توضع قاعدة للتربية، يسلك بها الآباء نحو أبنائهم. يشعر فيها الابن بحب أبيه وعطفه، وفي نفس الوقت بكرامة أبيه وهيبته والأب في معاملة الابن، يحنو بغير تدليل، ويؤدب بغير قسوة. لا يهمل التأديب بسبب الحب، ولا ينسي الحب حينما يؤدب.
نفس الوضع بين الاحترام والدالة:
ففي علاقة كل شخص برؤسائه وأولي الأمر منه: عليه أن يحترم رئيسه في غير خوف وان عامله رئيسه بدالة، لا يستغل الدالة بحيث يفرط فيما يليق بالرئيس من هيبة وتوقير.
وتطبق نفس القاعدة بالنسبة إلي الطاعة:
فعلي الصغار أن يطيعوا الكبار، ولكن ليس بلون من العبودية أو صغر النفس. وعليهم أن يطيعوا الأوامر، لا بأسلوب يفقدون فيه شخصياتهم، أو يصبحون كقطع من الشطرنج يحركها الكبار..! إنما يكون هناك توازن في الطاعة. بحيث يطيع كل شخص رئيسه، وفي نفس الوقت يطيع ضميره، ويطيع القيم السليمة. ولا مانع في سبيل ذلك من السؤال والحوار وإبداء الرأي. إن عبارة 'الطاعة العمياء' تحتاج إلي تفسير ولا تنفذ ألا في حدود معينة لا تتنافي مع القيم.
مبدأ التوازن يطبق أيضًا في موضوع الحرية:
بحيث تأخذ الحرية وضعًا متوسطًا بين الكبت والتسيب فلا تمنع الحرية في كبت وإجبار، حيث يفقد الشخص الشعور بإنسانيته، كما يفقد إرادته، وكأنه مسير رغم أنفه!
ومن الناحية الأخرى لا تطلق الحرية بلا ضابط، حتى تصل إلي التسيب، ويتصرف فيها الشخص بلا رادع يردعه عن أخطائه!والحل الأمثل هو الوضع المتوسط بين الضبط والضغط.وحبذا لو حدث ذلك عن طريق التوعية والتربية والإرشاد. بحيث يسلك الإنسان في طريق مستقيم، منضبطًا بدافع من اقتناعه ونقاء قلبه، دون ضغط عليه من الخارج.
التوازن ينطبق أيضا علي الوضع المتوسط بين الصمت والكلام:
فلا يبالغ الإنسان في الكلام حتى يصل إلي الثرثرة، أو التحدث في ما لا يليق، وما لا يخصه، وما ليس في معرفته. ولا يكثر من الكلام حتى يمل سامعوه. كما يحرص أن يتكلم دون أن يخطئ، ودون أن ينطبق عليه قول الحكيم 'لَيْتَكُمْ تَصْمُتُونَ صَمْتًا. يَكُونُ ذلِكَ لَكُمْ حِكْمَةً' (سفر أيوب 13: 5).ومن الناحية الأخرى لا يبالغ في الصمت، حتى يحسب عيبًا.. بل يتكلم حين يحسن الكلام، ويصمت حين يجب الصمت. ويحفظ التوازن بين صمته وكلامه.
هناك توازن أيضا في معني الشجاعة وفي استخدامها:
الشجاعة لازمة في الدفاع عن الحق، وفي نصرة المظلوم، وفي رفض الظلم (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)والاستبداد ولكن لها حدودًا. فلا يجوز أن تصل إلي التهور واللامبالاة. كما لا تكون بأسلوب من الطيش والاندفاع وعدم التروي ولا يكون الدافع إليها بأسباب خاطئة أنها شيء محبوب إذا مورست في حكمة، وبطريقة سليمة.
نتكلم أيضا عن توازن في مفهوم القوة واستخدامها القوة لا يجوز أن تتطور إلي العنف أو البطش أو الاعتداء علي الغير. إنما تكون أولا في قوة الشخصية وقوة الإقناع، وفي الحكمة وحسن التصرف، والبعد عن التجبر وتهديد الآخرين.
التوازن يكون أيضا في المديح وفي النقد:
فالمديح المتزن يكون تعبيرا عن تقدير الغير في صفاتهم السامية، أو تصرفاتهم الحسنة. ولكن لا يجوز أن يبالغ احد في المديح، حتى يصل إلي التملق أو النفاق، ولا يكون برياء أو عدم صدق!
كذلك لا يبالغ احد من الناحية المضادة، بحيث لا يمدح علي الإطلاق! وإنما يجب أن يعطي لكل ذي حق حقه من التكريم بالنسبة إلي الكبار، ومن التشجيع بالنسبة إلي المبتدئين والصغار.كذلك في النقد، لا يصح أن يصل إلي مستوي الذم والسب والإهانة والتشهير. فلك أن تنقد في مجال النقد ولكن ليس لك أن تجرح الناس أو تحط من كرامتهم فللنقد حدود.
وفي هذا المجال، هناك فرق بين الصراحة والإهانة:
بدافع من الإخلاص، يمكن للصديق أن يتكلم في صراحة، لكن في مودة ولا تخرج الصراحة عن حدودها إلي جرح المشاعر. فهنا تعتبر إهانة، ولا تكون مقبولة وأيضا في غير مجال الصداقة، يمكن أن يكون الإنسان صريحًا. إنما لا يكون هدامًا في صراحته. له أن يوضح الأمور، وقد يذكر الأخطاء، في أدب وبغير تحقير. وأيضًا يكون عادلا، لا يتجني في صراحته. كما تكون صراحته ممتزجة بالصدق، مع ذكر نقاط المديح أن وجدت مختلطة بالأخطاء. كأن يمدح الهدف مثلًا، وينقد الوسيلة.
وفي الحياة الخاصة يكون هناك توازن في المتعة واللهو والمرح:
من حق الإنسان أن يتمتع بأمور جائزة ومحللة. ولكن لا يبالغ في المتعة بحيث تصل إلي الفجور. ولا يخرج المرح عن حدوده، حتى يصل إلي التهريج! أو أن يمتزج اللهو بأخطاء لا يرضي عنها الضمير. كذلك من حق الإنسان أن يفرح، بحيث لا يتبذل في أفراحه.أيضا من حق المرأة أن تتزين، دون أن تبالغ في زينتها حتى تصل إلي التبرج وإلي الفتنة وإعثار الآخرين!
الفن أيضًا يجب ألا يخرج عن معناه، وان يحتفظ بتوازنه فلا يتطور إلي أساليب ومعان لا تليق..!
إننا لا ننكر جمال الفن ولزومه. ولكن تبقي أمامنا أسئلة: ما هو الفن؟ وهل كل ما يسمونه فنا، هو فن بالحقيقة؟ ثم ما هي أهداف الفن؟ وهل هو يحقق أهدافه؟
الرسم فن، والموسيقي فن، والغناء فن، والتمثيل فن، والتصوير فن، والنحت فن.. وما أجمل أن تكون للفنون أهداف سامية ورسالة نبيلة وحش هو لقب 'الفنون الجميلة' وحبذا لو وجد التوازن بين الهدف من الفن، والوسيلة في الأداء والتعبير.. وهذا الموضوع طويل.
أخيرا نقول أن كل ما ذكرناه في موضوع التوازن، هو مجرد أمثلة بسيطة للتوضيح ويبقي المجال مفتوحًا.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
17 يونيو 2021
شركة الروح القدس والنعمة
شركة الروح القدس تعني أن الروح القدس يشترك مع الإنسان في العمل، وهي تُقال في البركة في نهاية كل اجتماع، كما ورد في (2كو13: 14).وهي ما عبّر عنه القديس بطرس الرسول بقوله: «لكي تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد» (2بط1: 4). أي شركاء في العمل. وعن هذه الشركة يصلي الآب الكاهن في أوشية المسافرين قائلًا: "اشترك في العمل مع عبيدك في كل عمل صالح". ويقول القديس بولس الرسول عن نفسه وعن أبولس «نحن عاملان مع الله» (1كو3: 9).
والشركة مع الروح القدس هي على نوعين.
إمّا أن يبدأ الروح القدس بعمل فينا، ونحن نشترك معه في العمل. وإما أن نبدأ نحن، والروح يشترك معنا.
لا يهم بأي الأمرين يبدأ العمل. المهم في الشركة.
والحياة الروحية تتلخص في هذه العبارة "الشركة مع الله في العمل". يقول الكتاب «الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل المسرة» (في2: 13). ولكن المهم هو أن نشترك مع الله في العمل.النعمة تعمل في الكل. زيارات النعمة تفتقد كل أحد. فالذي يشترك معها، ويستجيب لها، ويقبلها، هو الذي يستفيد ويحيا بالروح.
يتوقف نجاحنا الروحي على هذه الاستجابة، على مدى الـResponse. أمّا الذي لا يستجيب لعمل النعمة، فإنه يفقد هذه المعونة الإلهية.
النعمة عملت حتى في يهوذا الأسخريوطي.
فبعد أن خان سيده، وباعه بثلاثين من الفضة، وسلّمه لأعدائه.. عملت النعمة فيه، وبكّته ضميره. فذهب وأرجع المال إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلًا لهم «قد اخطأت إذ أسلمت دمًا بريئًا» (مت27: 3، 4). لكن يهوذا لم يكمل العمل مع النعمة. بل استلمه الشيطان، وحول ندمه إلى يأس. «فمضى وخنق نفسه» (مت27: 5).
النعمة لا ترغم إنسانًا على أن يحيا بالروح. ولكنها واقفة على الباب تقرع، كما قال الرب في (رؤ3: 20). من يفتح لها، تدخل وتعمل فيه، ومعه.
لنا مثل واضح ورائع فيما حدث مع عذراء النشيد.
قالت «صوت حبيبي قارعًا: افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي. لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل» (نش5: 2). لكنها لم تستجب لصوت النعمة، واعتذرت.. فماذا كانت النتيجة؟ لقد قالت «حبيبي تحول وعبر. نفسي خرجت حينما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني» (نش5: 6).
هناك إذًا عاملان في خلاص النفس: العمل الإلهي، وأيضًا العمل البشري في اشتراكه مع العمل الإلهي. إنها شركة الروح القدس.
شركة القلب والإرادة مع عمل النعمة في الإنسان.
يقول الكتاب «بالنعمة أنتم مخلّصون» (أف2: 8). ويقول أيضًا «متبررين مجانًا بنعمته بالفداء» (رو3: 24).
ولكن هل الجميع خلصوا؟! كلا. بل خلص الذين استجابوا، الذين «نخسوا في قلوبهم" وآمنوا، واعتمدوا» (أع2: 37، 41). الذين فتحوا قلوبهم لعمل الروح فيهم. واشتركوا معه في العمل.. إذًأ خذها قاعدة أساسية في حياتك: كل عمل لا يشترك معك فيه الروح القدس، اتركه وأبعد عنه.. الكنيسة المقدسة بدأ تأسيسها بالروح القدس يوم الخمسين (أع2).
ومنح الآباء الرسل موهبة التكلم بألسنة، لكي ينشروا الإيمان للجميع.. وكثرت مواهب الروح (1كو12، 14). وحتى في اختيار الشمامسة السبعة، اُشتُرِط أن يكونوا مملوئين من الروح القدس والحكمة (أع6: 3).
وفي العهد القديم أيضًا كان الروح القدس يعمل.
لقد حلّ الروح القدس على شاول الملك فتنبأ (1صم10:10). كذلك حل روح الرب على داود لما مسحه صموئيل النبي (1صم16: 13). وقبل شاول وداود، نسمع عن شمشون أن «روح الرب كان يحركه» (قض14: 19؛ 15: 14). وروح الرب كان يحل على الأنبياء. ولذلك نقول عنه في قانون الإيمان «الناطق في الأنبياء". وفي ذلك يقول القديس بطرس الرسول «لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط1: 21).
ومع أهمية عمل الروح، توجد خطورة شديدة في مفارقة الروح.
فشاول الملك قيل عنه «وفارق روح الرب شاول، وبغته روح رديء من قبل الرب» (1صم16: 14). ما أخطر هذا: أن الذي يفارقه روح الله، يمكن أن تتسلط عليه الشياطين. لذلك فإن المرتل يصرخ قائلًا للرب في المزمور «روحك القدوس لا تنزعه مني» (مز51: 11).
ومن الناحية الإيجابية، يقول لنا الكتااب «امتلئوا بالروح» (أف5: 18).
أي افتحوا قلوبكم للروح لكي يملأها. وكونوا مؤهلين لذلك. كونوا هياكل للروح القدس لكي يسكن الروح فيكم (1كو3: 16). وعندما يسكن الروح فيكم ويعمل، اشتركوا معه في العمل.
لقد حل الروح القدس على التلاميذ، واشعلهم للخدمة. هذا هو الجانب الإلهي. وماذا عنهم هم؟ ملأوا الدنيا كرازة ونشاطًا.
الروح القدس منح الموهبة للتلاميذ، وهم وعظوا وعمّدوا. ولم يهملوا النعمة التي عملت فيهم. وهكذا يقول القديس بولس الرسول: «بنعمة الله أنا ما أنا. ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة. بل أنا تعبت أكثر من جميعهم. ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي» (1كو15: 10). ومع أنه ينسب العمل إلى النعمة، إلا أنه يقول أيضًا «جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان.. » (2تي4: 7). هذا هو الجانب البشري المشارك لعمل النعمة.
الروح القدس يتكلم. ولكن من له أذنان للسمع فليسمع.
حتى في التوبة. الروح القدس يبكت النس على خطية (يو16: 8). ويدعوهم إلى الحياة الروحية. فمنهم من يقبل ويتوب. أما الباقون فيقول لهم الرسول «إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم» (عب3: 8، 15). الروح القدس ينخس القلب، ويعطي الرغبة في التغيير. ولكنه لا يرغم أحدًا على السير في الطريق الروحي.. هو يعطي كلمة للمبشرين، ويعطي تأثُّرًا للسامعين. وعليهم الاستجابة.
يونان النبي نادى لشعب نينوى. فتأثروا وتابوا بمناداته.وكم من آخرين قتلوا الأنبياء، ورجموا المُرسَلين إليهم (مت23: 37) ورفضوا التوبة، ولم يشتركوا مع الروح. بل كانوا مقاومين الروح القدس كما وبخهم الشماس القديس اسطفانوس (أع7: 51).
الفلك مفتوح للجميع. وكل من يدخله يخلص.وقد خلصت فيه ثماني أنفس بالماء (1بط3: 20). بل دخلته أيضًا حيوانات وطيور. أمّا الذين لم يدخلوا إلى الفلك، فقد هلكوا جميعًا بمياه الطوفان، مع أن الفرصة كانت مقدمة لهم.
نفس الفرصة كانت متاحة لأصهار لوط في سادوم.
كان الغضب سيحل على سادوم وتحترق بالنار بسبب شذوذها وزناها. وكلّم لوط أصهاره وقال «قوموا أخرجوا من هذا المكان، لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره» (تك19: 14). وهلك أصهار لوط، لأنهم لم يستجيبوا لدعوة الروح لهم على فم لوط..
إنها مأساة، نهاية الذين رفضوا مشاركة الروح في عمله.
نفس الوضع في رفض عمل الروح، حينما تحدث القديس بولس في أثنيا. ولم يستجب الفلاسفة الأبيقوريون والرواقيون لكلامه، بل قال بعضه «ترى ماذا يريد هذا المهذار أن يقول؟!» (أع17: 18). ولكن استجاب لعمل الروح ديونسيوس الأريوباغي (أع17: 34) الذي قيل إنه صار أسقفًا فيما بعد. كما استجابت امرأة اسمها دامرس وآخرون.
كان اليهود أيضًا من الذين رفضوا عمل الروح فيهم.
إذ يقول الإنجيل عن الرب «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يو1: 11) «النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يو1: 5). وقال الرب عن الروح القدس «روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه» (يو14: 17). وطبعًا لا يقبله لأن قلوب هذا العالم مغلقة أمام الروح لا تريد أن تعرفه.
كان عملًا من أعمال الروح هو ظهور العذراء في جيلنا، وبخاصة في الزيتون.
كثيرون قبلوا عمل الروح، وتعمق الإيمان في قلوبهم. وبعضهم استحقوا أن ينالوا معجزات شفاء. ولكن البعض رفضوا شركة الروح، وأخذوا يعللون الظهور المعجزي والأنوار الإلهية بأمور عالمية تحرمهم من عمل النعمة فيهم. بل أن البعض قد جدف على ذلك الظهور!! فحرم نفسه من الشركة مع الروح، وحرم نفسه من بركة العذراء.
إن العقل البشري الذي يسلم فكره لتجديف الشياطين ويرددها، إنما هو إنسان يقاوم عمل الروح القدس.
عكس ذلك المولود أعمى، الذي طلى الرب مكان عينيه بالطين، ثم قال له «اذهب اغتسل في بركة سلوام» (يو9: 6، 7). فهذا لم يقاوم الروح. ولم يقل كيف أُشفى بطين يمكن أن يعمي البصير؟! وكيف أغتسل في البركة، والغسيل يزيل الطين؟! بل أطاع ونفذ، فاستحق معجزة الشفاء.
حقًا إن بساطة الإيمان تساعد على الشركة مع الروح القدس.
لقد تاه الخروف الضال، والنعمة بحثت عنه فوجدته (لو15).وسلّم هذا الخروف نفسه للراعي، فحمله على منكبيه فرحًا. ولو أنه عاند ورفض العودة إلى الحظيرة، لبقي تائهًا في البرية.إن الطاعة وحياة التسليم من خصائص الشركة مع الروح.
مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
16 يونيو 2021
الروح القدس.. لاهوته واقنومه
قال القديس بطرس "إن الكذب على الروح القدس معناه الكذب على الله" (أع5: 23). ومادام هو روح الله، (أي 33: 3) (2كو3: 3)، وهو روح السيد الرب ( اش61: 1)، إذن هو الله.هذا المعزي، روح الله، حل على التلاميذ في يوم الخمسين (أع2: 1 4). وهو الذي وعد به الله في سفر يوئيل النبي قائلًا "ويكون بعد ذلك أنى أسكب روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلهم شيوخكم أحلامًا، ويري شبابكم رؤى" ( يؤ2: 28). وقد ذكر القديس بطرس أن هذه النبوءة تحققت في يوم الخمسين (أع2 : 16، 17).هو روح الله، وهو "روح ابنه" (غل4: 6) "روح المسيح" (1بط1: 11). وهو "روح الرب" (اش11: 2) "روح السيد الرب" (اش61: 1). قيل في سفر أيوب الصديق "روح الرب صنعني" (أي33: 4). وقال حزقيال النبي "وحل على روح الرب وقال لي..." (خر11: 5). وقال القديس بطرس في توبيخ ما فعله حنانيا وسفيرا " ما بالكما قد اتفقتما على تجربة روح الرب" (أع5: 9). وهو " روح الحق" (يو14: 17). وقال عنه السيد المسيح "روح الحق الذي من عند الآب ينبثق" (يو15: 26). وقال أيضًا " متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو16: 13).
ويثبت لاهوت الروح القدس أنه في الثالوث القدوس.إنه واحد مع الآب والابن. وفي ذلك يقول السيد المسيح الرب أرسله القديسين "تلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (أع28: 19) ولاحظوا هنا أنه يقول "باسم" وليس "بأسماء"... وهذا يوافقه أيضًا ما ورد في رسالة القديس يوحنا الأولي، إذ يقول " فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة (اللوجوس) والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يو5: 7 ).
ويثبت لاهوته أيضًا أنه الحي ومعطي الحياة.ولذلك يسمى "روح الحياة" (رو8: 2). وقد ورد في سفر حزقيال النبي، أنه هو الذي يحيى الموتى (حز37: 9، 10). ومن الذي يستطيع أن يحيى الموتى ويقيهم، إلا الله وحده. الروح القدس هو أقنوم الحياة. هو مصدر الحياة في العالم كله، سواء الحياة بمعني الوجود أو البقاء، أو الحياة مع الله. وبصفه قانون الإيمان بأنه " الرب المحيى".
ويثبت لاهوت الروح القدس، أنه مصدر الوحى وقانون الإيمان يصف لروح القدس بأنه "الناطق في الأنبياء". ولعل هذا يوافق ما ورد في الرسالة الثانية للقديس بطرس الرسول عن الوحي الإلهى إذ قال "لأنه لم تأت نبوءة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط1: 21). ومادام الوحى من الروح القدس، إذن هو من الله، لأنه من روح الله. لذلك قال القديس بولس الرسول "كل الكتاب موحي به من الله، ونافع للتعليم" (2تى3: 16). يقول الرسول أيضًا "حسنًا كلم الروح القدس آباءنا بأشعياء النبى قائلًا.." (أع28: 25-27). وكمثال لهذا الوحي قال حزقيال النبى "... وحل على روح الرب وقال لي ك قل هكذا قال الرب..." (حز11: 5). ويقول الوحي الإلهى في سفر اشعياء النبى " أما أنا فعهدي معهم -قال الرب- روحى الذي عليك وكلامى الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك، ولا من فم نسلك... من الآن وإلى الأبد" (اش59: 21).
ثانيا: أقنوم الروح القدس
شهود يهوه لا يعتقدون أن الروح القدس أقنوم (شخص Hypostasis)، بل يرونه مجرد قوة!!، وللرد على ذلك نقول إن ما ورد عن الروح القدس في الكتاب المقدس، يدل أنه شخص ... فهو يتكلم: ويقول الرب في ذلك لتلاميذه القديسين " لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت10: 20). ويقول الرسول أيضًا عنه " إن سمعتم صوته ، فلا تقسوا قلوبكم" (عب3: 7-9). وهو الذي قال " افرزوا لي برنابا وشاول، للعمل الذي دعوتهما إليه" (أع13: 3). فهو هنا يتكلم، وأيضًا يدعو... وهو يعلم، ويذكر، ويرشد، ويخبر، ويبكت.وفي ذلك يقول الرب لتلاميذه عن الروح القدس "يعلمكم كل شيء، يذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26). وأيضًا "متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق... ويخبركم بأمور آتية" (يو16: 12، 13). وهو أيضًا الذي يبكت على خطية (يو16: 8).
وهو يقود المؤمنين جماعات وأفرادًا. يقول الرسول " لأن الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله" (رو8: 14).
وهو يقيم الرعاة: وعن ذلك قال القديس بولس لأساقفة أفسس " احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس عليها أساقفة" (أع20: 28). وهو الذي يحدد تحركات الخدام. فيقول القديس لوقا الإنجيلي عن القديس بولس الرسول وأصحابه " وبعد ما اجتازوا في فريجية وكورة غلاطية، منعهم الروح القدس أن يتكلمون بالكلمة في آسيا. فلما أتوا إلى ميسيا، حاولوا أن يذهبوا إلى بيثينية، فلم يدعهم الروح " (أع16: 6، 7).
والروح القدس يعزى المؤمنين ويشفع فيهم.
يقول السيد المسيح " وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد" (يو15: 26). ويقول الرسول " الروح نفسه فينا بأنات لا ينطق بها" ( رو8: 26). إذن هذا الذي يتكلم ويعلم ويذكر، ويرشد ويخبر، ويبكت، ويقود المؤمنين ويقيم الرعاة، ويحدد تحركاتهم، ويعزى ويشفع... أليس هو شخصًا؟! أما القوة فهي إحدى نتائج حلوله على المؤمنين (أع1: 8). كما نقول أيضًا إن حلوله يمنح غيره وحرارة، ويمنح حكمة ومعرفة... إلخ.
مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
15 يونيو 2021
الروُح القُدس مع التلاميذ
السيد المسيح – بعد القيامة – بعد أن قضى مع رسله القديسين أربعين يومًا يحدثهم عن الأمور المختصة بملكوت الله (أع1:3).. قبل أن يفارقهم ويصعد إلى السماء، قال لهم «فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي» (لو24: 49).وماذا كانت تلك القوة التي كان لابد أن ينتظروها؟قال لهم «لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (أع1: 8). نعم، ما كان ممكنًا لهم أن يبدأوا الخدمة والعمل الروحي الكرازي، إلا بعد أن يلبسوا تلك القوة من الأعالي، بحلول الروح القدس عليهم..لقد تتلمذوا على السيد المسيح نفسه أكثر من ثلاث سنوات. يسمعون تعاليم هذا المعلم العظيم، «الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ» (كو2: 3)، بكل ما في تعليمه من عمق وقوة وتأثير.. وما يرونه منه عمليًا في أسلوب التعامل مع الكل، وفي طريقة الخدمة، وفي العجائب والمعجزات.. نعم لم يرَ الرب هذا كله كافيًا لهم، ولا كذلك مدة الأربعين يومًا التي قضاها معهم بعد القيامة..بل كان لابد لهم في الخدمة من نوال قوة من الروح القدس. وهكذا ضرب لنا الرب مثلًا عمليًا في إعداد الخدام..إننا كثيرًا ما نُخطئ في سرعة تقديم خدام للعمل في كرم الرب، قبل أن ينضجوا، وقبل أن ينالوا قوة من الروح القدس..! ليس المهم في عدد الخدام، وإنما في قوتهم الروحية.وليس المهم في سرعة إعدادهم، إنما في طريقة امتلائهم.إن عظة واحدة من القديس بطرس الرسول – بعد حلول الروح القدس عليه يوم الخمسين – كانت كافية لجذب ثلاثة آلاف شخص، نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ وتقدموا لقبول المعمودية (أع2: 37، 41).وهكذا كان عمل الروح قويًا مع باقي الرسل الذين كانوا «وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ، وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ» (أع4: 33). لذلك نقرأ عن خدمتهم أنه «وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ» (أع2: 47). ولذلك نقرأ أيضًا أنه «وَكَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ تَنْمُو، وَعَدَدُ التَّلاَمِيذِ يَتَكَاثَرُ جِدًّا فِي أُورُشَلِيمَ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الْكَهَنَةِ يُطِيعُونَ الإِيمَانَ» (أع6: 7).هذه أمثلة واضحة من الخدمة المثمرة، التي كان روح الرب يعمل فيها باستمرار، وهو الذي يُعطي كلمة للمُبشرين. ما أوسع وما أعمق عمل الروح القدس في الكنيسة الأولى.كان الروح القدس هو الذي يختار ويأمر برسامتهم.إنه هو القائل للآباء «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ» (أع13: 2). يقول الكتاب «فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا. فهذان إذ أُرسلا من الروح القدس، انحدرا إلي سلوكية..» (أع13: 3، 4).إذًا الروح القدس دعا الرسولين بولس وبرنابا، وأرسلهما.. بل كان أيضًا يحدد أماكن الخدمة.. كما قيل مرة أن الروح القدس منعهم من أن يتكلموا بالكلمة في آسيا، وفي بِثِينِيَّةَ.. ثم أرشدهم أن يذهبوا إلى مقدونية (أع16: 6-10).كان الروح القدس أيضًا هو الذي يقود المجامع المقدسة.فأول مجمع مقدس عقده الآباء الرسل في أورشليم سنة 45م، ختموا قراراته بقولهم «قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ، أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ..» (أع15: 28). إذا كان عمل الروح القدس لازمًا للآباء الرسل بهذا الشكل، فكم بالأولى يكون أكثر لزومًا للخدام العاديين، الذين إذا اخطأوا يكونون عثرة للخدمة وللشعب.فإن كان البعض قد خدموا وفشلوا في خدمتهم، أو على الأقل كانت خدمتهم ناقصة لم تصل إلى مستوى الكمال المطلوب، يكون السبب الأساسي أنهم كانوا يخدمون بدون عمل الروح القدس فيهم. وهذا يُرينا أهمية قيادة الروح القدس للخدمة.أول عمل للروح القدس أنه يُعطي قوة. هو أيضًا يُعطي معرفة وحكمة وإرشادًا. ويُعطي أيضًا سلطة.والروح القدس يُعطي مواهب متعددة ومتنوعة، ذكرها القديس بولس الرسول في رسالته الأولى إلى كورنثوس إصحاح 12.فمن جهة القوة في الخدمة، فهو ليس فقط يُعطي كلمة للخادم كما طلب بولس الرسول الصلاة من أجله قائلًا «لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ» (أف6: 19).. إنما بالأكثر فإن الروح يُعطي للكلمة تأثيرًا وفاعلية في النفوس، ويُعطي قدرة على التنفيذ، ويعمل في الإدارة. ويُعطي أيضًا ثمرًا للكلمة. ومن اهتمام الكنيسة بعمل الروح القدس لأجل كل إنسان، وضعت لنا ضمن الصلوات اليومية: صلاة الساعة الثالثة الخاصة بحلول الروح القدس وعمله.أنا أعرف أن غالبيتكم تصلون صلاة باكر وصلاة النوم. ولكن هل تهتمون – على نفس القدر – بصلاة الساعة الثالثة، التي تقولون فيها للروح القدس "أيها الملك السماوي المُعزي، روح الحق الحاضر في كل مكان والمالئ الكل، كنز الصالحات ومُعطي الحياة. هلّم تفضل وحلَ فينا وطهَرنا من كل دنس أيها الصالح، وخلَص نفوسنا".إن لكم علاقة بالآب ظاهرة في غالبية صلواتكم وفي صلاة الشكر. ولكم علاقة بالابن المخلص الفادي، وبالذات كما في صلاة الساعة السادسة، التي تقولون فيها "يا مَنْ في اليوم السادس والساعة السادسة، سمَرت على الصليب لأجلنا..". ولكن ما هي علاقتكم بالروح القدس، وأنتم لا تستطيعون أن تحيوا في حياة البر بدونه؟..إننا في الساعة الثالثة نطلب نعمة الروح القدس، وعمل هذه النعمة فينا، وبخاصة لأجل تطهيرنا.ونقول في تحليل الساعة الثالثة "نشكرك لأنك أقمتنا للصلاة في هذه الساعة المقدسة، التي فيها أفضت نعمة روحك القدوس بغنى على التلاميذ خواصك القديسين..".ونكرر عبارة نعمة الروح القدس، فنقول "أرسل إلينا نعمة روحك القدوس، وطهرنا من دنس الجسد والروح. وانقلنا إلى سيرة روحانية، لكي نسعى بالروح ولا نكمل شهوة الجسد".لاحظوا هنا إنه بالنسبة إلى الروح القدس، نتكلم عن حلول النعمة، وليس عن حلول الأقنوم، كما يخطئ البعض..وحلول النعمة هو للرسل، ولنا نحن أيضًا..ولاحظوا أيضًا عمل الروح القدس لأجل طهارة الجسد والروح.وحسن أن الإنسان يطلب طهارة نفسه عن طريق عمل الروح القدس فيه، وليس بمجرد جهاده البشري الذي يقع فيه ويقوم.. هناك أعمال أخرى للروح القدس، حيث نقول عنه في صلاة الساعة الثالثة: روح النبوة والعفة، روح القداسة والعدالة والسلطة.ويقول عنه سفر إشعياء النبي «رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ» (أش11: 2). كل هذا، نطلب عمله فينا في صلواتنا.أما عن السلطة، فهي خاصة أولاً بالكهنوت وعمله.وفي ذلك سلطان مغفرة الخطايا، كما قال الرب لتلاميذه بعد القيامة «اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو20: 22، 23).فالكاهن حينما يغفر الخطايا للمعترفين التائبين إنما يغفر بسلطان الروح القدس العامل فيه. كما يقول للرب عن الشعب في آواخر القداس الإلهي "يكونون محاللين من فمي بروحك القدوس".وروح السلطة بالنسبة إلى المؤمنين العاديين:إما أن يكون لهم سلطة على أنفسهم بضبط النفس، أو أن يكون لهم سلطة على الشياطين، فلا يمكنوها من أنفسهم أو من إرادتهم.. والروح القدس هو أيضًا روح الحق (يو15: 26) وروح العدالة.فالذي يعمل فيه روح الله، يكون حقانيًا وعادلًا يفصّل كلمة الحق بالاستقامة، ولا يأخذ بالوجوه، ولا يتكلم بالباطل.ولا نستطيع أن نضع حدودًا لعمل الروح القدس، الذي هو كنز الصالحات، ومُعطي الحياة، ومُعطي المواهب، كما ورد في (1كو12) يُعطي كلام حكمة، وكلام علم، ولآخر إيمان، وبنوة، وأعمال شفاء، وعمل قوات..وأيضًا لا ننسى عمل الروح القدس في كل أسرار الكنيسة.فنحن نولد في المعمودية من الماء والروح. ثم ننال سرَ المسحة المقدسة (بزيت الميرون المقدس) حيث نثبت في الروح، ونصبح هياكل للروح القدس، وروح الله يسكن فينا (1كو3: 16)... مع عمل الروح القدس عن طريق باقي أسرار الكنيسة.
مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
14 يونيو 2021
عيــد حلوُل الرُوح القدُس
عيد حلول الروح القدس صار بالنسبة إلينا من الأعياد الكبيرة جدًا الذي تحتفل به الكنيسة كل عام برسامات ينتظرها الجميع.لذا أحب أن أكلمكم اليوم عن الروح القدس...ومن أهمية عمل الروح القدس معنا، قال السيد الرب لتلاميذه القديسين: «أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم» (يو16: 7).. وقال لهم عنه إنه «يمكث معكم إلى الأبد.. ويكون فيكم» (يو14: 16، 17).أي أن السيد المسيح له المجد، عاش معهم بالجسد إلى أن صعد إلى السموات، ثم وعدهم بالروح القدس ليمكث معهم إلى الأبد، روح الحق المعزي.. فما الذي ينبغي علينا أن نعرفه عن الروح القدس؟
الروح القدس هو روح الله. لذلك فهو موجود منذ الأزل.نقرأ عنه في الآيات الأولى من سفر التكوين. إذ يقول الوحي «في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخاوية. وعلى وجه الغمر ظلمة. وروح الله يرف على وجه المياه» (تك1: 1-2).والروح القدس يتكلم عنه إشعياء النبي، ويُعطي له أسماءً، فيقول «.. روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب» (إش11: 2).ونضيف إلى ذلك في صلاة الساعة الثالثة من كل يوم فنقول: "..روحًا مستقيمًا ومحييًا، روح النبوة والعفة، روح القداسة والعدالة والسلطة". ونناديه بقولنا: "أيها الملك السمائي المعزي، روح الحق الحاضر في كل مكان والمالئ الكل، كنز الصالحات، ومُعطي الحياة..".ويقول عنه الرب في إنجيل يوحنا:«روح الحق الذي من عند الآب ينبثق» (يو15: 26). وعقيدة الانبثاق من الآب هذه، ذكرها مجمع القسطنطينية المسكوني المقدس في قانون الإيمان. غير أن الإخوة الكاثوليك يضيقون عليها "ومن الابن" Filioque أي and from the son. وهذا مخالف لعقيدة الثالوث القدوس. ففي تشبيه الثالوث بالنار، نقول "تتولّد منها حرارة، وينبثق منها ضوء" ولا نقول إن الضوء ينبثق من الحرارة! بل أن الضوء والحرارة كليهما يخرجان من الأصل أي النار، وليس أحدهما من الآخر..
الروح القدس كان يعمل في العهد القديم أيضًا.نسمع في قصة شمشون أن روح الرب كان يحركه في محلة دان (قض13: 35). ونقرأ أنه بعد أن مُسِح شاول ملكًا، أنه «حلَ عليه روح الله فتنبأ» (1صم10:10). كذلك داود لما مسحه صموئيل النبي ملكًا «حلَ روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا» (1صم16: 13).وطريقة حلول الروح القدس على كلٍ من شاول وداود، كانت بواسطة مسحهما بزيت المسحة Anointing Oilالذي أمر الرب بإعداده في سفر الخروج (خر30: 22-31). وقد مُسِح به هارون رئيسًا للكهنة، إذ صبّ موسى النبي من هذا الزيت على رأس هارون ومسحه (لا8: 12)، كما نقول في المزمور «كالطيب الكائن على الرأس...» (مز133: 2). وكذلك مُسِحت بهذا الزيت المقدس: خيمة الاجتماع، والمذابح والأواني فتقدست (خر40، لا8). وبهذا الزيت أيضًا مُسِح ملوك وأنبياء (1مل19).ونتيجة المسحة، كان يحل روح الله، وتحل مواهبه أيضًا.ونقرأ في سفر يوئيل النبي قول الرب:«ويكون في ذلك اليوم أني أسكب روحي علي كل بشر. فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلامًا، ويرى شبابكم رؤى» (يوئيل2: 28).وهذا ما قد تم في يوم الخمسين، حسبما شرح القديس بطرس الرسول الآية التي وردت في سفر يوئيل النبي (أع2: 16، 17).
الروح القدس أيضًا كان يمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر.كان حدث بالنسبة إلي السبعين شيخًا أيام موسى النبي الذي قال له الرب: «اجمع إليّ سبعين رجلًا من شيوخ إسرائيل.. فأنزل أنا وأتكلم معك.. وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم» (عد11: 16، 17). وهنا يقول الكتاب «فنزل الرب في سحابة وتكلم معه، وأخذ من الروح الذي عليه، وجعل على السبعين رجلًا الشيوخ. فلما حلّ عليهم الروح تنبأوا» (عد11: 25).
نلاحظ أنه قبل موسى، لما فسرّ يوسف الصديق حلم فرعون، «قال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلًا فيه روح الله؟!» (تك41: 38).وهنا كانت موهبة الروح هي تفسير الأحلام، أي روح المعرفةكذلك كان هناك عمل آخر لروح الله، في كل فنّ. فبالنسبة إلى ما تحتاجه خيمة الاجتماع، قال الرب لموسى«انظر، قد دعوت بصلئيل بن أوري بن حور، من سبط يهوذا باسمه. وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة، لاختراع مخترعات ليعمل في الذهب والفضة والنحاس، ونقش حجارة للترصيع ونجارة الخشب، ليعمل في كل صنعة..» (خر31: 1-5).هنا نرى أن الروح القدس يعمل حتى في موهبة الصناعة التي تُعطي للبعض، حتى في المجوهرات وصناعة الخشب
من أهم صفات الروح أيضًا، أنه الناطق في الأنبياء.وهذه عبارة في مضمون قانون الإيمان. أي أن الروح القدس هو مصدر الوحي الإلهي للكتب المقدسة. فكل ما نطق به الأنبياء والرسل في الكتب المقدسة كان مصدره الروح القدس.وفي هذا قال القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية: "لم تأتِ نبوءة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم بها أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط1: 21).
حاليًا– في العهد الجديد – يُنال الروح القدس بواسطة ثلاثة أمور: بالمسحة المقدسة، ووضع أيدي الكهنوت، والنفخة المقدسة. فمن جهة النفخة المقدسة، كُتب في إنجيل يوحنا أن ربنا يسوع بعد قيامته – لما ظهر لرسله القديسين في العلية – قال لهم «كما أرسلني الأب أرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ في وجوههم وقال لهم: أقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر لهم. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت»(يو20:21-23).ونحن في سيامة الأب الأسقف أو الأب الكاهن، ننفخ في وجهه ونقول: "اقبل الروح القدس". فيفتح فمه ليتقبل النفخة المقدسة، ويقول مع المزمور «فتحت فمي واقتبلت لي روحًا». أما عن وضع الأيدي، فكان الروح القدس – في عهد الآباء الرسل – يُنال بوضع أيدي الرسل. كما ورد في منح الروح القدس لأهل السامرة. إذ أن مجمع الرسل في أورشليم أرسل إليهم بطرس ويوحنا «حينئذ وضعا عليهم الآيادي، فقبلوا الروح القدس» (أع8: 14-17). وكذلك بالنسبة إلى أهلأفسس«لماوضعبولسيديه عليهم، حل الروح القدس عليهم» (أع19:6).وبالمثل في سر الكهنوت، قال القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس «أذكرك أن تضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديّ» (2تي1: 6). على أن المسحة عُرفت أيضًا في العهد الرسولي. كما يقول القديس يوحنا الرسول «وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس..» (1يو2: 20) «.. والمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم» (1يو2: 27). ونحن في منح سر المسحة للأطفال بعد العماد: نمسحهم بزيت الميرون المقدس، ونضع الأيدي عليهم، وننفخ في وجوهم. ونقول لهم: أقبلوا الروح القدس.وبسر المسحة المقدسة، نصبح هياكل للروح القدس. والروح القدس يسكن فينا..وفي هذا يقول القديس بولس الرسول في رسالته الأولي إلي كورنثوس: «أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم» (1كو3: 16)، «أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم» (1كو6: 19). إذًا فليتذكر كل واحد منّا أنه في يوم مسحه بزيت الميرون المقدس، أنه قد صار هيكلًا للروح القدس، وأصبح الروح القدس يسكن فيه..
الروح القدس يعمل في الكهنوت، والكهنوت يُؤخذ بالروح القدسوله سلطان مغفرة الخطايا. ولكن لعل أحدًا يقول: كيف هذا؟ ولا يغفر الخطايا إلا الله وحده! نقول: نعم، الروح القدس الذي في الكاهن هو الذي يغفر الخطايا. كما يقول في القداس الإلهي: ".. يكونون محاللين من فمي بروحك القدوس". إذًا الروح القدس هو الذي يغفر الخطايا، وتصدر هذه المغفرة من فم الكاهن. والحِلَ الذي يعطيه الكاهن، يعطيه بصلاة التحليل التي قول فيها: الله يحاللك. الله يسامحك. الله يغفر لك..والروح القدس يدخل أيضًا في كل أسرار الكنيسة. ويدخل في قرارات المجمع المقدس. فأول قرار صدر من المجمع في أورشليم أيام الآباء الرسل، قالوا فيه «رأى الروح القدس ونحن...» (أع15: 28).
والروح القدس يعمل في الخدمة أيضًا..والآباء الرسل لم يبدأوا الخدمة، إلا بعد أن حلَ عليهم الروح القدس وتحقق فيهم وعد الرب «ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم.. وحينئذ تكونون لي شهودًا» (أع1: 8).الروح القدس هو الذي كان يختار الخدَام، كما قال «افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه..» (أع13: 2، 4). وكان هو الذي يوجَه الخدام، ويعمل فيهم ويعمل بهم.إن طلب الروح القدس هو موضع صلاتنا اليومية في الساعة الثالثة.نطلب أن يحل فينا، وأن يطهرنا من دنس الجسد والروح ونصرخ إلى الله قائلين: روحك القدوس لا تنزعه منا.ولكن يدخل في حريتنا أن نقبل الروح، ونعمل معه، وندخل في "شركة الروح القدس". أو أن نرفض، ونطفئ الروح، ونقاوم الروح. وأخطر شيء هو التجديف على الروح القدس، أي رفضه بالتمام مدى الحياة. ولكن ما أجمل قول الكتاب «لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله» (رو8: 14).هنا وأنبّه الذين ينخدعون ويظنون كل روح يقودهم هو روح الله!! يقول الرسول «لا تصدقوا كل روح. بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله. لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلي العالم» (1يو4: 1).
مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد