المقالات

09 نوفمبر 2022

جحيم الرغبات

أيها القارئ العزيز، لتكن رغبتك الأولي والعظمي هي الحياة مع الله. أما باقي الرغبات فلتكن داخل هذه الرغبة العظمي. واحذر من أن تعيش في جحيم الرغبات العالمية التي تستعبد من يخضع لها أو يسعى إليها بحث أحد الحكماء في أسباب السعادة والشقاء. فوصل إلي حقيقة عميقة في فهمها وهي: أن أهم سبب للشقاء هو وجود رغبة لم تتحقق: فقد يعيش الإنسان فقيرا. ويكون سعيدا في نفس الوقت. ولكن إن دخلت إلي قلبه رغبة في الغني ولم تتحقق، حينئذ يتعب ويشقي. وأيضا قد يكون الإنسان مريضا وراضيا شاكرا، يقابل الناس في بشاشة وابتهاج، لا يشقيه المرض. ولكن المريض الذي تدخل في قلبه رغبة في الشفاء ولم تتحقق فهذا بلا شك يتعب في رغبته إن رحلة الرغبات داخل القلب تتعبه وتضنيه، وترهقه وتشقيه: إنه يشتاق، ويشقي في اشتياقه. يريد ويجاهد ويتعب لكي يصل. ويلتمس الوسائل، فيفكر ويقابل ويكتب ويشكو، ويروح ويجيء، ويسعى ويتعب في سعيه. وقد ينتظر طويلا متي تتحقق الرغبة، ويشقي في انتظاره. يصبر ويضيق صدره، ويمل ويضجر. ويدركه القلق حينا، واليأس حينا آخر. أو قد يتعبه الخوف من عدم الوصول إلي نتيجة. وربما يتعب من طياشة الفكر ومن أحلام اليقظة، أو من أن رغباته مجرد آمال، مجرد قصور في الهواء، لا يراها إلا إذا أغمض عينيه! وقد ينتهي سعيه وتعبه إلي لا شيء. ويحرم من رغبته التي يود تحقيقها، فيشقي بالحرمان وأخطر من هذا كله، فإن آماله وأغراضه قد تجنح به عن طريق الصواب. فتقوده إلي الخداع، أو اللف والدوران، أو التذلف والتملق، أو الكذب أو الرياء، أو ما هو أبشع من كل هذا. وقد صدق أحد الحكماء حينما قال: لابد أن ينحدر المرء يوما إلي النفاق، وإن كان في قلبه شيء يود أن يخفيه والعجيب في هذه الرغبات الأرضية، أنها تشقي الإنسان حتى إن تحققت! ذلك لأنها لا تقف عند حد.. فقد يعيش الإنسان في جحيم الرغبات زمنا. حتى إذا ما تحققت له رغبة، وفرح بها وقتا ما ما تلبس أن تقوده إلي رغبة أخري، إلي خطوة أخري في طريق الرغبات الذي لا ينتهي! إن الرغبات عندما تتحقق يلتذ بها، وتقوده اللذة إلي طلب المزيد وللوصول إلي هذا المزيد، قد يجره إلي تعب جديد، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. .. ويكون كمن يشرب من ماء، مالح، كلما شرب منه يزداد عطشا. وكلما يزداد اشتياقًا إلي الماء، في حلقة مفرغة لا يستريح فيها ولا يهدأ صاحب الرغبة يعيش في رعب إما خوفًا من عدم تحقق رغبته. أو خوفًا من ضياعها إن كانت قد تحققت ومن القصص اللطيفة في هذا المجال أن رجلًا فقيرًا لا يملك شيئًا علي الإطلاق، كان يعيش في منتهي السعادة. يضحك ملء فمه، ويغني من عمق قلبه. وفي إحدى المرات رآه أحد الأمراء وأعجب به. فمنحه كيسًا من الذهب. فأخذ الرجل الفقير كيس الذهب إلي بيته. وبدأت الآمال والرغبات تدخل إلي قلبه: أية سعادة سيبنيها بهذا المال! ثم لم يلبث الخوف أن ملك عليه، لئلا يسرق أحد منه هذا الذهب قبل أن يبني سعادته به، فقام وخبأ الكيس وجلس مفكرًا. ثم قام وغيَّر المكان الذي أخفاه فيه. ثم حاول أن ينام ولم يستطع. وقام ليطمئن علي الذهب.. وفي تلك الليلة فقد سلامة. حتى قال لنفسه: أقوم وأعيد هذا الذهب إلي الأمير، وأنام سعيدًا كما كنت.إن الإنسان قد يقاد من رغباته، ورغباته تمثل نقطة ضعف فيه، يقوده الناس منها: وما الإنسان الذي تكون رغباته في أيدي الناس، في حوزتهم أو في سلطانهم أو في إرادتهم! وبإمكانهم أن يحققوها له، وبإمكانهم أن يحرموه منها. لذلك يعيش عبدا للناس. تتوقف سعادته علي رضاهم لقد عاش النساك في سعادة زاهدين لا تتعبهم الرغبات هؤلاء قد ارتفعوا فوق مستوي الرغبات الأرضية. ولم تعد لهم سوي رغبة واحدة مقدسة هي الحياة مع الله والتمتع بعشرته. وهذه لا يستطيع أحد من الناس أن يحرمهم منها. وهكذا فإن سعادة الناسك الزاهد تنبع من داخله، من قبله، من إحساسه بوجود الله معه. وإذ تتبع سعادته من داخله، لا تصير تلك السعادة رهنا للظروف الخارجية، كما لا يتحكم الناس فيها حقا أي شيء في العالم يمكن أن تتعلق به رغبات الروحيين ؟! لا شيء فليس في العالم سوي المادة والماديات، ومشتهيات الجسد والنفس أما رغباتهم هم فتتعلق بالله وسمائه وبعالم الروح. لذلك ليس في العالم شيء يشتهونه. لو كان الذي يشتهونه في هذه الأرض، لتحولت الأرض إلي سماء. إن الروحيين أعلي من رغبات العالم وأسمي. العالم لا يعطيهم بل هم بركة للعالم. وبسببهم يرضي الله علي الأرض. وإنهم نور للعالم يبدد ظلماته. وهم بهجة للأرض ونعمة هؤلاء لا يعيشون مطلقا في جحيم الرغبات الأرضية.ولقد تأملت في حياتي أحد هؤلاء الزاهدين المرتفعين عن مستوي الرغبات الأرضية فناجيته بآبيات من الشعر قلت فيها: كل ما حولك صمت وسكون هدوء يكشف السر المصون هل تري العالم إلا تافها يشتهي المتعة فيه التافهون؟ هل تري الآمال إلا مجمر يتلظي بلظاه الآملون لست منهم هم جسوم بينما أنت روح فر من تلك السجون نعم ما أجمل أن يعيش الإنسان سعيدا بالله. يمكن أن تكون له رغبات داخل محبة الله ولكن لا يمكن أن تستعبده الرغبات.تكون الرغبات مفتاحًا في يده، ولا تكون أسغلالًا في يديه. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
02 نوفمبر 2022

القلب المطمئن المملوء بالسلام

ما أعمق القلب الذي يعيش في سلام داخلي، يملك الهدوء عليه، وكل ضيقات العالم لا تزعجه إنه يستمد سلامه من الداخل، وليس من الظروف المحيطة.. لذلك فإن الظروف الخارجية لا تزعزعه. حقًا، إنه ليس من صالح الإنسان أن يجعل سلامه يتوقف على سبب خارجي إن اضطربت الأحوال يضطرب معها، وإن هدأت يهدأ. سبب خارجي يجعله يثور، وسبب يجعله يفرح، وسبب يبكيه، وسبب يبهجه.. مثل هذا يكون كما قال الشاعر: كريشه في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق الرجل القوى يجعل الظروف الخارجية تخضع لمشاعره، تخضع لقوة قلبه، لا أن تتحكَّم في انفعالاته. ولا يخضع هو لها إن حدث حادث معين، يتناوله في هدوء، يفحصه بفكر مستقر، ويبحث عن حل له. كل ذلك وهو متمالك لأعصابه، متحكم في انفعالاته. وبهذا ينتصر، ويكون أقوى من الأحداث، ويحتفظ بسلامه الداخلي.. وذلك لأن قلبه كان أكبر من الظروف وأقوى من الأحداث.. وما أصدق ذلك الكاتب الروحي الذي قال إن قطعة من الطين يمكنها أن تعكر كوبًا من الماء، ولكنها لا تستطيع أن تعكر المحيط يأخذها المحيط، ويفرشها في أعماقه، ويقدم لك ماءً رائقًا لذلك أيها القارئ العزيز، كن واسع القلب. كن رحب الصدر. كن عميقًا في داخلك. قل لنفسك في ثقة: أنا لا يمكن أن أضعف، ولا يمكن أن تنهار معنوياتي أمام الأخبار المثيرة، أو أمام الضغطات الخارجية. مهما حدث، فسأحاول أنى لا أنفعل. وإن انفعلت، سأحاول أن أسيطر على انفعالاتي.. سأبتسم للضيقات، وسأكون بشوشًا أمام الضغطات.. وسأثبت -بقوة من الله- حتى تمر العاصفة لا تفكر في الضيقة التي أصابتك، ولا في أضرارها ومتاعبها. بل فكر في إيجاد حل لها إن كثرة التفكير في الضيقة هي التي تحطم الأعصاب وتتعب النفس أحيانًا يكون التفكير في الضيقة أشد إيلامًا للنفس من الضيقة ذاتها. إن التفكير في الضيقات هو الذي يجلب الأحزان والأمراض والهم والفكر. وهو لون من الانهيار ومن الخضوع تحت ثقل الضيقة أما التفكير في إيجاد حل للضيقة، فهو الذي يعمل على سلام النفس وراحتها. ضع في نفسك أن كل ضيقة لها حل وكل ضيقة لها مدى زمني معين تنتهي فيه فكر في حل لضيقتك، فإن وصلت إليه تستريح. وإن لم تصل، ثق بروح الإيمان أن لدى الله لهذه الضيقة حلول كثيرة، وأنه -تبارك اسمه- قادر أن يعينك وأن يحل جميع إشكالاتك. وتذكر ضيقات سابقة قد حلها الله، ومرت بسلام.واحذر من أن يوقعك الشيطان في اليأس، أو أن يصور لك الأمر معقدًا لا حل له.. فإن الإنسان المؤمن لا ييأس.المؤمن يعرف أن الله موجود، وانه إله رحيم، ورحمته غير محدودة، وهو ضابط الكل، والعالم كله في قبضة يديه وأن الله يدبر كل شيء حسنًا، ولا بد أنه سيتدخل ويعمل عملًا.. لذلك فإن المؤمن يستريح في أعماقه، ويلقى على الرب كل همه، ويستودعه جميع إشكالاته أما الذي يستسلم لليأس، فإنه يضيع نفسه. وقد يتصرف في يأسه أي تصرف خاطئ يكون أكثر ضرارًا من المشكلة القائمة نفسها مثال ذلك الذي ييأس من مشاكل الحياة فينتحر.. أو مثال تلك الفتاة التي تخطئ، وتيأس من إيجاد حل لمشكلتها، فتستسلم للخطيئة وتضيع إن القلب القوى لا يستسلم للضيقات، والقلب الأقوى لا يشعر بالضيقة، لأنها لم تضايقه. وأتذكر أنني قلت في إحدى المرات إن الضيقة قد سميت ضيقة لأن القلب قد ضاق عن أن يتسع لها ولو كان القلب متسعًا، ما شعر أنها ضيقة. لو كان متسعًا، ما تضايق منها.. الضيق إذن في قلوبنا، وليس في العوامل الخارجية.. وإن تعكرنا نحن، تبدو أمامنا كل الأمور متعكرة وإن تعبنا في الداخل، تبدو أمامنا كل الأمور متعبة.. أليس حقًا أن أمرًا من الأمور قد يضايق إنسانًا ما، وفي نفس الوقت لا يتضايق منه إنسان آخر، هو نفس الأمر ليس المهم إذن في نوع الأحداث التي تحدث لنا، بل المهم بالأكثر هو الطريقة التي نتقبل بها الأحداث ونتصرف معها الإنسان القوى الذي يصمد أمام الإشكالات، يزداد قوة والإنسان الضعيف الذي ينهار أمامها، يزداد ضعفًا فالإشكالات، فالإشكالات هي نفس الإشكالات ولكنها تقوى شخصًا وتزيده صلابة ومراسًا وحنكة، وتضعف شخصًا أخر، وتزيده انهيارًا وخورًا وحزنًا لذلك كونوا أقوياء من الداخل، وخذوا من الضيقات ما فيها من بركة، وليس ما فيها من ألم لقد سمح الله بالضيقات من أجل فائدتنا ونفعنا. وفي ذلك قال القديس يعقوب الرسول"احسبوه كل فرح يا أخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة". إن المؤمن يشعر أن الله قد سمح له بالضيقة من جل نفعه، لذلك يفرح بالضيقة وبهذا يقدم لنا الكتاب درجة روحية أعلى من احتمال الضيقات، وهى الفرح بالضيقات إن المسألة تحتاج إلى إيمان لأنك ربما ترى الضيقة فقط ولا ترى الخير الإلهي الكامن فيها إن هذا الخير لا تراه بالعين المادية، ولكنك تراه بالأيمان، بثقتك في عمل الله المحب وحسن رعايته.. مثال ذلك يوسف الصديق: أحاطت به التجارب والضيقات حتى اتهم اتهامات باطلة وألقى في السجن. ولكن السجن كان طريقة إلى الملك إن أهل العالم قد تزعجهم التجارب، أما الإنسان المؤمن فهو ليس كذلك. إن المتاعب قد تحيط به من الخارج، ولكنها لا تدخل مطلقًا إلى داخل نفسه إنه كالسفينة الكبيرة التي تمخر عباب المحيط، تضطرب الأمواج حولها، وهى سائرة في رصانة نحو هدفها، طالما أن المياه ما تزال خارجها.. مسكينة تلك السفينة، إن وُجِدَ ثقب في نفسيتها، واستطاعت المياه أن تنفذ إلى داخلها..!! احذروا أيها الأحباء من أن تدخل المياه إلى أنفسكم واعلموا في كل ضيقة أن التجارب التي يسمح بها الله، لها شروط منها:- 1- أنها على قدر احتمالكم، 2- وأيضا كل تجربة معها المنفذ 3- وإنها لابد تؤول إلى نفعكم، إن أحسنتم استخدامها. إن الله في محبته للبشر، لا يسمح أن تحل تجربة بإنسان يكون احتمالها أكثر من طاقته. كل التجارب التي يسمح بها الله هي في حدود احتمالنا والتجارب القوية، لا يسمح بها الله إلا للناس الأقوياء الذين يحتملونها.. ما أجمل قول الكتاب "ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوها" (1 كو 10: 13). 4- والتجارب هي مدرسة للصلاة إنها تدرب الإنسان كيف يحنى ركبتيه أمام الله، وكيف يرفع قلبه قبل أن يرفع يديه، طالبًا العون من الله، الذي هو معين من لا معين له ورجاء من لا رجاء له عزاء صغيري القلوب، وميناء الذين في العاصف. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
26 أكتوبر 2022

الذين يعطون

تكلمنا عن القلب الحنون، الذي يعطف على الناس روحيًا. هذا القلب يعطف أيضًا ماديًا، وباستمرار يعطى وهذه هي شيمة الذين يعطون: يعطون بحب، وبسخاء وباستمرار، وبدون أن يطلب منهم.. وبراحة داخلية ما أجمل أن نشرك الله معنا في أموالنا، فيكون له نصيب منها وما نعطيه لله، لا نحسبه جزءًا ضائعًا من مالنا، وإنما نحسبه بركة كبيرة لباقي المال إذ أن الله عندما يأخذ من مالنا شيئًا، إنما يبارك هذا المال، فيزيد أكثر من الأصل بما لا يقاس. ويصبح مالًا مباركًا، ويعوضه الرب أضعافا من جهات أخرى. ونجد أننا بهذا العطاء قد زدنا ولم ننقص وفى الواقع أننا لا نعطى الله من مالنا، بل من ماله هو.. إن كل شيء نملكه هو ملك لله، ونحن مجرد أمناء عليه، مجرد وكلاء لله في هذا المال الذي استودعنا إياه لكي ننفقه في الخير. حقًا، ما الذي نملكه نحن؟! نحن الذين قيل عنا إننا:"عراة جئنا إلى الأرض، وعراة نعود إلى هناك".. الله هو المالك الحقيقي لكل ما نملك. وما أصدق داود النبي حينما قال لله "من يدك أعطيناك" وقد ظهر العطاء في التوراة في وصية العشور، حيث طلب الله من الناس أن يدفعوا العشور من كل ما يملكون ولكن العشور لم تكن كل شيء في العطاء.. كانت هناك أيضًا البكور، والنذور، والتقدمات، والقرابين، والنوافل وفي البكور كان الإنسان يعطي أوائل ثمار الأرض. أول حصيده يقدمه للرب، لكي يبارك الرب كل الحصاد. كما كان يقدم المولود البكر من كل حيواناته، حتى ابنه هو البكر، كان يقدمه لخدمة الرب، كما قال الرب في التوراة " قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم" ما أجمل أن نعطي البكور للرب: المرتب الأول الذي يتقاضاه الإنسان، والعلاوة الأولى وأول إيراد خاص يصل إليه. فمثلًا أجرة أول عملية يجريها الجراح يقدمها للرب وأول كشف للطبيب، وأول درس خصوصي للمدرس، وأول عمل يد للصانع. وهكذا يبارك الله كل أعمالنا لأنها بدأت به، وقدمنا أولى ثمارها له بل أن بكور الوقت نقدمها لله أيضًا.. الساعة الأولى في النهار نقدمها لله. أول كلمة ننطق بها كل يوم تكون كلمة موجهه إلي الله. أول عمل نعمله في يومنا يكون مختصًا بالله وعبادته. وبهذا يبارك الله يومنا ويقدسه وبنفس الوضع أول يوم في عامنا يكون يومًا للرب وفي عطائنا لا يصح أن نحاسب الله بالدقة الحرفية. فإن دفعنا العشور مثلًا، لا يجوز أن نقول لله: "كفاك هذا! ليس لك شيء عندنا بعد!" كلا، إن العشور والبكور هي الحد الأدنى للعطاء، وأما العطاء فلا حدود له، أنه يختص بالقلب الحنون العطوف الذي يعطي عن حب مهما كانت قيمة العطاء، دون أن يحاسب الله على ما يعطيه ولقد جاءت المسيحية فرفعت العطاء عن مستوى العشور. وقالت: "من له ثوبان، فليعط الذي ليس له". ولم تكتف بهذا، بل تطورت إلي العطاء بغير حدود. فقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس: "مَنْ سألك فأعطه. ومَنْ طلب منك، فلا ترده"هكذا لم يقتصر العطاء على العشور والبكور والنذور.. بل بقى باب الكمال مفتوحًا لما هو أكثر من هذا فعندما جاء الشاب الغني إلي السيد المسيح يستلهم منه معرفة الطريق الذي يوصله إلي الحياة الأبدية، أجابه بتلك الوصية الجميلة الخالدة "إن أردت أن تكون كاملًا، أذهب وبع كل مالك وأعطيه للفقراء، وتعال أتبعني"هذه الوصية، نفذها القديس انطونيوس حرفيًا وبها أسس الحياة الرهبانية فباع ثلاثمائة فدان كان يملكها من أجود الأطيان، ووزع ثمنها على الفقراء، وعاش حياة الزهد والنسك وسير القديسين تحكي لنا صور عجيبة للعطاء فالقديس الأنبا سرابيون الناسك، رأى رجلًا فقيرًا، وإذ لم يكن له ما يعطيه، باع إنجيله وأعطاه ثمنه وفي ذلك الوقت لم تكن هناك مطبوعات، وكان الإنجيل مخطوطة ثمينة ثم مر بعد ذلك فرأى فقيرًا آخر وإذ لم يكن له شيء أخر يعطيه، خلع ثوبه وأعطاه له. ورجع إلي مسكنه بلا ثوب ولا إنجيل. فلما سأله تلميذه(أين إنجيلك يا أبي؟)، أجابه(كان هذا الإنجيل يقول لي "اذهب بع كل مالك وأعطيه للفقراء" فبعته لأنه كان كل ما لي).. فقال له تلميذه(وأين ثوبك؟) فأجابه(خلعته ليلبسه المسيح..) ولعل أجمل ما في العطاء، أن يعطى. الإنسان من أعوازه لأن الشخص الذي يعطى من أعوازه، إنما يفضل غيره على نفسه، بل يتعب لأجل إراحة غيره. وهذا هو منتهى الحب الذي فيه تزول الذاتية، وتحل في موضعها محبة الغير.. وقد مدح السيد المسيح الأرملة الفقيرة التي وضعت شيئًا ضئيلًا في الصندوق. وقال إنها أعطت أكثر من الجميع، لأنها أعطت وهي محتاجة إن القلب الحنون دائمًا يعطى. وإن لم يجد شيئًا يعطيه، فإنه يعطى كلمة حب و قد يوجد شخص يقترض لكي يعطى غيره. أو يطلب من الآخرين لكي يعطى للمحتاجين. ومن هنا نشأت الجمعيات الخيرية التي تجمع لتعطى ولكن أهم عطاء هو القلب ذاته. أعط الناس من قلبك، قبل أن تعطيهم من جيبك أعطهم عاطفة، قبل أن تعطيهم مالًا. أظهر لهم أنك شخص محب، وليس مجرد شخص محسن.. والعطاء الخالي من الحب يكون عملًا اجتماعيًا أو إداريا، ولكنه ليس عملًا روحيًا والقلب الحنون عندما يعطى، إنما يشعر أنه يتعامل مع الله ذاته من مال الله، يعطى عيال الله، دون أن يشعر بأي فضل من جهته هذا القلب العطوف يعطى للكل لا يقتصر على الأصدقاء والأحباء، وذوى القربى، وبنى جنسه، وأخوته في الدين والمذهب. كلا، بل يضع أمام عينيه أن يريح الكل، ويشفق على الكل. وبهذا يكسب الكل، ويحيط نفسه بجو من المحبة والقلب العطوف يعطى دون أن يطلب منه هو دائم التفكير في احتياجات الناس، دون أن يقولوا له يريد أن يريح الناس، يريد أن يسعدهم. وأن وضعت في يده مسئولية، يستخدمها لراحة الناس. وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أية إمكانية، فإنه يستخدمها لأجل راحة الناس، كل الناس.والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام، إن سمع أن هناك شخصًا متعبًا أو محتاجًا. بل يظل يفكر ماذا يفعل لأجله لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذى أحدًا، لأنه يتألم لآلام الناس، أكثر من تألمهم هم. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
19 أكتوبر 2022

القلب الحنون

تحدثنا في مقالين آخرين: عن القلب الكبير المملوء بالتسامح والعفو وعن القلب الهادئ المملوء بالسلام والطمأنينة ونريد اليوم أن نعرض للقلب الحنون، المملوء بالشفقة والحب القلب القاسي، باستمرار يحطم ويهدم. وقسوته لا تشفق، ولا ترحم. إنه نار تأكل كل شيء، حتى نفسهاأما القلب الحنون العطوف، فإنه يفيض رقة وإشفاقًا على كل أحد، حتى الذين لا يستحقون، وحتى على أعدائه وحنو الإنسان على غيره، قد يشمل الكائنات جميعًا فيحنو على العصفور المسكين، وعلى الفراشة الهائمة، وعلى الزهرة الذابلة بل قد يحنو على الوحش المفترس، مثل القديس الذي رأى أسدًا يئن من شوكة في قدمه، فانحني وأراحه منها وقد يكون الحنو في نواح مادية أو جسدية، وقد يكون في نواح نفسية أو روحية وخلاصة الأمر أن القلب المملوء حنانًا، يفيض بهذا الحنان في كل المجالات، وعلى الكل. فيشفق على الفقير المحتاج، وعلى المريض المتألم، كما يشفق على البائس والمتعب نفسيًا، وعلى الساقط في الخطية المحتاج إلى من يأخذ بيده ليقيمه والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب، وإنما تتحول فيه العاطفة إلى عمل جاد من أجل إراحة الغير إن الحنان النظري هو حنان قاصر، حنان ناقص، يحتاج إلى إثبات وجوده بالعمل. ولهذا قال القديس يوحنا الحبيب: "يا أخوتي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق"إن القلب الحنون يمكنه أن يكسب الناس. أما القلب القاسي فينفرهم الناس يحتاجون إلى من يعطف عليهم، إلى من يأخذ بيدهم، إلى من يشجع الضعيف، ويقيم الساقط، ويفهم ظروف الناس واحتياجاتهم. وتكون له روح الخدمة فيخدم الكل، ويساعد الكل، ويعين الكل، ولا يحتقر ضعفات أحد.. كما قال الكتاب: "شددوا الركب المخلعة، وقوموا الأيدي المسترخية" وقيل عن السيد المسيح إنه كان: "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ".. هذه الفتيلة المدخنة ربما تهب ريح فتشعلها، فتضئ مرة أخرى و كان حنوه يشمل الروح والجسد معًا. وهكذا قيل عنه في الإنجيل المقدس إنه: "كان يجول يصنع خيرًا".. كان يشفق على الأرواح الساقطة فيقيمها بالتوبة، ويشفق على الأجساد المريضة فيشفيها.. "يطوف المدن والقرى: يكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض وكل ضعف في الشعب".أحضروا إليه مرة امرأة خاطئة قد ضبطت في ذات الفعل، وانتظروا منه أن يحكم برجمها حسبما تقضى الشريعة أما هو فقال لهم: من منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر". وانصرف المطالبون برجمها لأنهم أيضًا خطاة. واطمأنت المرأة. فنظر إليها السيد المسيح وقال لها: وأنا أيضًا لا أدينك.. أذهبي بسلام. ولا تعودي تخطئي أيضًا".. هذا هو الحنو الذي يكسب القلب، ويقوده إلى التوبة.. فليتنا نحنو على الخطاة، لكي نكسبهم إلى الله.إن الله يحنو علينا، حتى ونحن في عمق خطايانا. ومن دلائل حنوه أنه يستر ولا يكشف كم من أناس قد غطسوا في الشر حتى غطاهم، وما يزال الله يستر.. لم يكشفهم، ولم يفضحهم، ولم يعلن خطاياهم للناس.. لأنهم ربما لو انكشفوا لضاعوا، وانسد أمامهم الطريق إلى التوبة بعد فقدهم لثقة الناس.إن القلب الحنون يستر خطايا الناس. لا يتحدث عنها، ولا يشهر بها، ولا يقسو في الحكم عليها.. بل قد يجد لهم عذرًا، أو يخفف من المسئولية الواقعة عليهم.. وأن قابلهم لا يفقد توقيره لهم، معطيًا إياهم فرصة للرجوع.. بل قد يضحى بنفسه من أجلهم، ويتحمل المسئولية عوضًا عنهم إن استطاع قال القديس يوحنا ذهبي الفم: "إن لم تستطع أن تمنع من يتكلم على أخيه بالسوء، فعلى الأقل لا تتكلم أنت""وأن لم تستطع أن تحمل خطايا الناس، وتنسبها إلى نفسك لكي تبررهم، فعلى الأقل لا تستذنبهم وتنشر خطاياهم"أن القلب الحنون يعيش في مشاعر الناس. يتصور نفسه في مكانهم، ولا يجرح أحدًا ويبرهن على نقاوة قلبه بعطفه على الكل وهو يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات وإن أقوى الناس ربما تكون في حياته ثغرات وقد يسقط، إن اشتدت الحرب عليه، وأن تخلت عنه النعمة الحافظة لذلك ينظر إلى الناس في حنو، في قيامهم وفي سقوطهم أيضًا.كان القديس يوحنا القصير إن سمع عن أحد أنه سقط، يبكى. فإن سئل في ذلك يقول: (معنى هذا أن الشيطان نشيط. وإن كان قد أسقط أخي اليوم، فقد يسقطني أنا غدًا..). وهكذا -في أتضاع- لم يضع هذا القديس نفسه في مرتبة أسمى من غيره. وبكل حنو نظر إلى سقطة غيره، ونسبها إلى عمل الشيطان، لا إلى فساد طبع ذلك الأخ.وبهذا كان أقوى المرشدين الروحيين هم الذين يفهمون النفس البشرية، ولا يقسون عليها في ضعفاتها إن القلب الحنون لا يعامل الناس بالعدل المطلق مجردًا، إنما يخلط بعدله كثيرًا من الرحمة. ولا يجعل عدله عدلًا جافًا حرفيًا يطبق فيه النصوص، بل أيضًا يقدر الظروف المحيطة، سواء كانت عوامل نفسية أو تربوية أو عوامل اجتماعية.أما الذي يصب اللعنات على كل مخطئ، دون أن يقدر ظروفه أو يفحص حاله، فإنه قلب لا يرحم القلب الحنون لا يحكم على أحد بسرعة.. بل يعطى كل أحد فرصة للدفاع عن نفسه، ولتوضيح موقفه و هو أيضًا لا يكثر اللوم والتوبيخ، وإن وبخ، فإنما يكون ذلك بعطف وليس بقسوة. وقد يقدم لتوبيخه بكلمة تقدير أو كلمة حب، حتى يكون التوبيخ مقبولًا. وأن احتاج الأمر منه إلى حزم وشدة وعنف، فقد يفعل ذلك مضطرًا. ولكنه في مناسبة أخرى يصلح الموقف، ويعالج بالحنو نفسية ذلك المخطئ والقلب الحنون لا يخجل أحدًا، ولا يحرج أحدًا. وقد يشير إلى الخطأ من بعيد، بألفاظ هادئة. وربما بطريق غير مباشر، وربما في السر وليس في أسماع الناس أما الذي يرجم الناس بالحجارة، فعليه أن يتروى، لئلا يكون بيته من زجاج. وليعلم أن كل الفضائل بدون المحبة ليست شيئًا. والمحبة تتأنى وتترفق. والحكمة هي أن نكسب الناس بالحنو، وأن لا نخسر الناس بالقسوة. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
12 أكتوبر 2022

القلب الكبير

لا يكن قلبك ضيقًا يتأثر بسرعة، ويتضايق بسرعة، ويندفع للانتقام لنفسه بل كن كبيرًا في قلبك، وواسع الصدر، تحتضن في داخلك جميع المسيئين إليك.وحينئذ ستشعر بالسلام الداخلي، وتدرك بركة القلب الكبير القلب الكبير لا تتعبه إساءات الناس، ولا يقابل الإساءة بالإساءة. إنما تذوب جميع الإساءات في خضم محبته وفي لجة احتماله. القلب الكبير أقوى من الشر الخير الذي فيه أقوى من الشر الذي يحاربه. ودائمًا ينتصر الخير الذي فيه.. ومهما أسيء إليه، يبقى كما هو، دائم المحبة للناس، مهما صدر منهم.. وفي إساءاتهم، نراه لا ينتقم منهم، بل يعطف عليهم إنهم مساكين، قد غلبهم الشر الذي يحاربهم.. وهم يحتاجون إلى من يأخذ بيدهم، وينقذهم من هذا الشر الذي خضعوا له في إساءاتهم لغيرهم وإذا انتقم الإنسان لنفسه، يكون الشر قد غلبه، وأخضعه لحب الانتقام، وأضاع من قلبه التسامح والاحتمال والمودة ومحبتنا للناس توضع تحت الاختبار عندما نتعرض لإساءاتهم كل إنسان يستطيع أن يحب من يحبه، ويحترم من يحترمه، ويكرم من يكرمه.. كل هذا سهل لا يحتاج إلى مجهود. ولكن نبيل هو الإنسان الذي يحب من يكرهه، ويكرم من يسئ إليه. وفي هذا يقول السيد المسيح في عظته المشهورة على الجبل: "لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم.. وإن سلمتم على أخوتكم فقط فأي فضل تصنعون؟! " أليس الخطاة أيضًا يفعلون هكذا؟! " وأما أنا فأقول لكم: أحبو أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم". هنا ولا شك تكون المحبة بلا مقابل. أي أن الإنسان المحب لم يأخذ محبة في مقابل محبته. لم يأخذ أجرًا على الأرض، ولذلك يكون كل أجره محفوظًا في السماء، إذ لم يستوف منه شيئًا على الأرض. إن القلب الكبير ليس تاجرًا: يعطى حبًا لمن يقدم له حبًا، أو يعمل خيرًا مع الذي ينقذه شكرًا إنه يصنع الخير مع الكل، بلا مقابل. يعمل الخير لأن هذه هي طبيعته. لذلك فإنه يعمل الخير مع من يستحقه، ومع الذي لا يستحقه أيضًا، مع المحب ومع المسيء، مع الصديق ومع العدو.. مثل الشمس التي تشرق على الأبرار والأشرار، ومثل السماء التي تمطر على الصالحين والطالحين بل أنه درس نتعلمه من الله نفسه، الذي يحسن إلينا حتى ونحن في عمق خطايانا إن القلب الكبير لا يعامل الناس كما يعاملونه، وإنما يعاملهم حسب سموه وحسب نبله. وهو لا يتغير في سموه وفي نبله طبقًا لتصرفات الناس حياله. إنه لا يرد الإساءة بالإساءة لأنه لا يحب أن تصدر عنه إساءة لأحد، ولو في مجال الرد. أما الضعاف فإنهم يتأثرون بتصرفات الناس، ويتغيرون تبعًا لها. وهنا نسأل ما معنى رد الإساءة بالإساءة، ومقابلة الخطأ بالخطأ؟ لقد أجاب القديسون على هذا الأمر، وشرحوه في جملة نقاط لا مانع من أن نوضحها في هذا المقال: 1- هناك إنسان يرد الإساءة بمثلها: التصرف بتصرف، والشتيمة بشتيمة، والإهانة بإهانة.. وقد يرى نفسه أنه تصرف بعدل ولم يخطئ، لأن هناك من يردون الإساءة بأشد منها، ويعللون ضمائرهم بأنهم في موقف المعتدى عليه. 2- هناك نوع آخر لا يرد الإساءة بمثلها، فلا يقابل إهانة بإهانة، أو شتيمة بشتيمة. ولكن الرد يظهر في ملامحه: في نظرة احتقار، أو تقلب الشفتين بازدراء، أو في صمت قاتل.. إلخ. 3- وقد يوجد من لا يفعل شيئًا من هذا، ولكن رده يكون داخليًا، في قلبه وفي نيته. ويتصور في قلبه أشياء تحمل معنى رد الإساءة أو أشد، ولكنها مخفاة.. 4- و يوجد إنسان قد لا يفعل في الداخل من الإساءة. ولكنه إذا سمع أن المسيء أصابه مكروه يفرح بالخبر، ويرى أن الله قد انتقم له. وبهذا لا يكون قلبه نقيًا تجاه من أساء إليه.. 5- وقد يوجد إنسان لا تحاربه هذه المشاعر، بل قد يحزن حقًا إذا حدث مكروه لمن أساء إليه، ولكنه في نفس الوقت لا يفرح إذا حدث خير لهذا المسيء. إذ يرى انه لا يستحق الخير، فيتضايق لأخباره المفرحة، وبهذا لا يكون قلبه نقيًا من جهته.. 6- إنسان آخر قد لا يفعل شيئًا من هذا كله. ولكن إساءة المسيء تظل عالقة بذهنه. آه لم ينسها، لأنه لم يغفر بعد.. هذا أيضًا لم يصل بعد إلى الحب الكامل الذي ينسى الإساءة ولا يعود يذكرها. لأن المحبة – كما يقول الكتاب تستر كثرة من الخطايا. 7- وقد يوجد شخص ينسى الإساءة، ويستمر في نسيانها زمنًا. ثم تحدث إساءة جديدة من نفس الشخص، فيرجع ويتذكر القديمة أيضًا التي كان قد نسيها، ويتضايق بسبب الاثنتين معًا.. وبهذا يدل على أنه لم يغفر الإساءة القديمة، وأنها لم تمت في قلبه، وإنما كانت نائمة ثم استيقظت. مثل جرح ربما يكون قد اندمل، ولكن موضعه ما يزال حساسًا، أقل لمسة تؤذيه إن هناك طريقتين لمواجهة الإساءة: طريقة التصرف، وطريقة الترسيب أما طريقة التصرف فهي الطريقة الروحية، التي بها يصرف الإنسان الغضب بطريقة سليمة: بإنكار الذات، بلوم النفس، بعامل المحبة، بالبساطة أما طريقة الترسيب فتشبه دواء في زجاجة يبدو صافيًا من فوق، بينما هو مترسب في أسفلها، وأقل رجه تعكر السائل كله الذي يملأ الزجاجة. إن هذا الصفاء الظاهري من فوق، ليس هو صفاءًا حقيقيًا طاهرًا ولكن لعل إنسان يقول: كيف يمكننا الوصول إلى تلك الدرجات الروحية من صفاء القلب تجاه الإساءة؟ ألا تبدو غير ممكنة..؟ إنها قد تبدو صعبة أو غير ممكنة بالنسبة إلى القلوب الضيقة التي لم تمتلئ بالمحبة بعد ولا بالاتضاع. أما القلب الكبير فإنه يتسع لكل شيء. انه لا يفكر في ذاته ولا في كرامته، بل يفكر في راحة الآخرين وفي علاجهم. لذلك لا تهزه الإساءات كذلك هو يعلم أن المسيء، إنما قبل كل شيء - يسئ إلى ذاته لا غيره. إن الذي يقترف الإساءة إنما يسئ إلى مستواه الروحي وإلى نقاوة قلبه وإلى أبديته. ولكنه لا يستطيع أن يضر غيره ضررًا حقيقيًا.. فالذي يشتم غيره مثلًا، إنما يبرهن على نوع أخلاقياته هو، دون أن يضر المشتوم في شيء. يبقى المشتوم في مستواه العالي، لا تقلل الشتيمة من جوهر معدنه الكريم، بل هي تدل على خطأ مقترفها.. والذي أصابته هذه الإهانة، إن كان قلبه نقيًا كبيرًا، فإنه لا يتأثر: يأخذ موقف المتفرج الذي يرثى لضعفات غيره، لا موقف المنفعل وهكذا تتضح أمامنا درجات روحية لمواجهة الإساءة وهي احتمال الإساءة، ومغفرة الإساءة، ونسيان الإساءة، ومحبتك لمن أساء إليك. ففي أية درجة من هذه كلها تضع نفسك أيها القارئ العزيز؟ درب نفسك على هذه الدرجات الروحية، لكي تصل إلى نقاوة القلب. وإن لم تستطع أن تصل إلى أية واحدة منها، فعلى الأقل لا تبدأ بالإساءة إلى غيرك خذ موقف المظلوم لا موقف الظالم. واعلم أن الله سيقف إلى جانبك. وأما الظالم فإنه يعادى الله قبل أن يعاديك، وسيقف الله ضده و عندما يقف الله معك ضد ظالميك، قل له كما قال السيد المسيح: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون"..قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
05 أكتوبر 2022

رحلة الخبر إلى أذنيك

ليس كل ما يصل إلى أُذنيك هو صدق خالص. فلا تتحمَّس بسرعة لكل ما تسمع ولا لكل ما تقرأ. ولا تتخذ إجراءًا سريعًا لمُجرَّد كلام سمعته من إنسان ما. بل تحقق أوَّلًا. واعرف أن كثيرًا من الكلام يقطع رحلة طويلة قبل أن يصل إلى أُذنيك.صدق الحكيم الذي قال "لا تُصدِّق كل ما يُقال". لهذا اجعل عقلك رقيبًا على أُذنيك، وافحص كل ما تسمعه. ولا تُصدِّق كل خبر، لئلا تُعطي مجالًا للوشاة والكاذبين، ولِمَن يخترعون القصص، ولِمَن يؤلِّفون الأخبار، ولِمَن يدسُّون ويشهدون شهادة زور. كل هؤلاء يبحثون عن إنسان سهل يُصدِّقهم. وقد قال عنهم أمير الشعراء أحمد شوقي: قد صادفوا أذنًا صفواء ليِّنة فأسمعوها الذي لم يُسمعوا أحدًا وما أجمل قوله أيضًا عن مثل هذا الذي يُصدِّق كل ما يسمعه، ويقبل الأكاذيب كأنها صدق: أثَّر البهتان فيهِ يا له من ببغاءٍ وانطوى الزورُ عليهِ عقله في أُذنيهِ نعم لو كُنَّا نعيش في عالم مثالي، أو في وسط الملائكة، لأمكنك حينئذ أن تُصدِّق كل ما تسمعه، ولا تتعب ذاتك في فحص الأحاديث ولكن ما دام الكذب موجودًا في العالم، وما دمنا نعيش في مُجتمع توجد فيه ألوان من الناس يختلفون في نوع أخلاقياتهم، وفي مدى تمسكهم بالفضيلة، فإنَّ الحكمة تقتضي إذن أن نُدقِّق ونُحقِّق قبل أن نُصدِّق، وأن نفحص كل شيء ونتمسَّك بما هو حق، ولكن قد يقول أحدهم: " إنني أُصدِّق هذا الخبر على الرغم من غرابته، لأنني سمعته من إنسان صادق لا يمكن أن يكذب" نعم، قد يكون هذا الإنسان صادقًا، ولكنه سمع الخبر من مصدر غير صادق، أو من مصدر غير دقيق... أو قد يكون الشخص الذي حدَّثك أو نقل الخبر إلى مَن حدَّثك، جاهلًا بحقيقة الأمر، أو على غير معرفة وثيقة أكيدة بما يقول ... أو قد يكون مبالغًا أو مازحًا أو مداعبًا. أو رُبَّما يكون قد أخطأ في السماع أو الفهم. أو أن المصادر التي استقى منها معلوماته غير سليمة أو رُبَّما يكون المصدر الأصلي الذي أخذ عنه هذا وذاك غير خالص النية فيما يقول، وهناك أسباب شخصية تدفعه إلى طمس الحقائق، أو إلى الدَّس والإيقاع بين الناس. أو قد يكون من النوع الذي يتباهى بمعرفة الأخبار والسبق إلى نشرها بين الناس. فيقول ما يصل إليه بسرعة بدون تحقيق... وقد يكون مُحبَّا للإستطلاع، يلقي الخبر ليعرف ما مدى وقعه على الناس ولكن رُبَّما يقول القائل: " إني لم أسمع هذا الخبر من فرد واحد فقط، إنَّما من كثيرين، مما يجزم بصحته" فنقول: إنه لا يصح أن نحكم عن طريق السماع دون تحقيق، حتى لو سمعنا من كثيرين فما أكثر ما يكون كلام الكثيرين على وفرة عددهم، له مصدر واحد مخطئ ... وما أكثر ما تتفق جماعة كبيرة من الناس على كذب مشترك، وفي التاريخ أمثلة كثيرة عن هذا الأمر. وما أكثر ما تتفق مجموعة من شهود الزور على أمر ما، وهكذا تفعل أيضًا مجموعات من ناشري الشائعات إنَّ وصية "لا تشهد بالزور" كما أنها موجهة إلى المُتكلِّم، هى أيضًا موجهة إلى السامع. فالذي يسمع الكذب ويقبله، إنَّما يُشجِّع الكاذب على الاستمرار في كذبه. وبقبوله، يحيط نفسه بأُناس مخطئين غير مخلصين وكذلك فإنَّ ناقل الكذب يُعتبر كاذبًا، وشريكًا في نشر الكذب. وقد يقع تحت هذا العنوان أيضًا مروجو الشائعات الكاذبة. بل قد يقع في هذا الفخ، البسطاء الذي يُصدِّقون كل ما يسمعونه! ويتكلَّمون عنه. كأنه حقيقة، دون فحص أو تدقيق. وفي الحقيقة لا نستطيع أن نُسمِّي مثل هذه بساطة. لأنَّ البساطة في جوهرها هى عدم التعقيد، وليس قلة الفهم أو البعد عن الحكمة والتدقيق. ونحن نؤمن بالبساطة الحكيمة، وبالحكمة البسيطة اثنان يشتركان في خطية الكذب: قابل الكذب، وناقل الكذب. وكلاهما يشتركان مع الكاذب الأصلي في نشر كذبه وإن كانت بعض المشاكل تتسبَّب أحيانًا من نقل الكلام، فإن أقل الناس ضررًا مَن ينقلون الكلام هم، كما يفعل جهاز تسجيل الصوت ( الريكوردر ) الأمين المُخلص، الذي لا يزيد شيئًا على ما قيل، ولا ينقص، بل يُعطي صورة دقيقة صادقة عمَّا قيل إنَّما بعض الأشخاص قد يسمع كلامًا، فيتناوله ويضيف عليه رأيه الخاص ومفهومه الخاص، واستنتاجه وأغراضه وظنونه، ويُقدِّم كل ذلك معًا لإنسان آخر، كأنه الكلام المُباشر الذي سمعه مِمَّن نطق به!! انظروا يا إخوتي ماء النيل وقت الفيضان، وهو بني اللون من كثرة ما حمل من طمي ... هذا الماء كان في أصله ماءً نقيَّا صافيًا رائقًا عندما نزل مطرًا من السماء على جبال الحبشة. ولكنه طوال رحلته في الطريق، كان ينحت الطمي من الصخور، ويختلط بالطين حتى وصل إلينا في الفيضان بصورته وهو بُني اللون طيني هكذا كثير من الأخبار التي تصل إليك مُشبَّعة بالطين، رُبَّما كانت رائقة صافية في بادئ الأمر. والفرق بينها وبين ماء النيل، أن طينه مُفيد للأرض. أمَّا الطين الذي خلطه الناس في نقلهم للأحاديث، فإنه ضار وخطر ومُفسد للعلاقات. كثير من الأخبار عندما تصل إليك، تكون أخبار مختلفة جدًا عن الواقع. وسأضرب لذلك مثلًا: مُجرَّد خبر هو: حدث حوار ساخن بين صديقين في أحد الموضوعات. وصل هذا الخبر إلى زميل لهما فقال: "وقد سمعت أن أحدهما جرح شعور صديقه أثناء الحوار جرحًا غائرًا، وأهانه إهانة شديدة". ووصل هذا الكلام إلى شخص آخر، فأضاف: " وطبيعي أن هذا الذي أهين قد غضب غضبًا شديدًا وتألَّم". ووصل الخبر إلى شخص ثالث، فقال: " وسمعت أيضًا أنه قال بعد ذلك: " صديقي هذا هو خطيب أختي. فإن تزوَّجها سوف يهينها كما أهانني، ويجعل حياتها مُرًّا وعلقمًا". ووصل هذا الكلام إلى شخص رابع، فأضاف: " وقد سمعت أنه ذهب إلى أسرته محملًا بهذه المشاعر، وحكى لهم كل شيء وهو متضايق ومتألِّم". وسمع هذا الكلام شخص خامس، فقال: " وطبيعي أن أب هذه الأُسرة قال في اجتماع عائلي: نشكر اللَّه الذي كشف لنا هذا الشخص العنيف قبل أن يتزوج ابنتنا. لا شكَّ أنه إذا تمَّ زواجه بها، سيجعل حياتها جحيمًا لا يُطاق". ووصل هذا الكلام إلى شخص سادس، فقال: " ولابد أنه في اجتماع الأُسرة نوقش موضوع فك تلك الخطوبة". ووصل هذا الكلام إلى شخص سابع، فأسرع ونشر خبرًا في إحدى المجلات بعنوان: (مأساة فتاة مخطوبة)، قال فيه: "حدثت مشادة حامية بين صديقين، أدَّت إلى خلاف بينهما، ثم بين أُسرتيهما. وانتهى بفك الخطوبة التي بين أحدهما وأخت الآخر. وانتظروا التفاصيل بالأسماء في العدد المُقبل".« حدث كل هذا بينما الصديقان اعتبرا حوارهما موضوعيًا وليس شخصيًا. وخرجا منه وهما في صفاء تام، دون أن يترك أي أثر سيئ في نفسية أحدهما ضد الآخر. ولكن هكذا كانت رحلة الخبر عن حوارهما الساخن.لذلك أقول مرَّة أخرى: لا تُصدِّق كل ما يُقال. بل حقِّق ودقِّق، قبل أن تُصدِّق. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية
المزيد
21 سبتمبر 2022

كان يجول يصنع خيرًا

موضوعنا اليوم عن عبارة قيلت عن الرب إنه "كان يجول يصنع خيرًا"، ونص الآية هو: "الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا" (سفر أعمال الرسل 10: 38).إلهنا المحب الذي يحب البشر كان "يجول يصنع خيرًا" وهذا ليس في العهد الجديد فقط بل في العهد القديم أيضًا. الآن وكل أوان. فطريقة الله في العمل هي أن يجول يصنع خيرًا.أي الله دائمًا يسير ليفتقد الناس المتعبين ليريحهم. ويفتقد المرضى ليشفيهم. مريض بركة حسدا: كان الله يسير في أحد المرات، ووجد إنسان مريض مقعد منذ 38 سنة. 38 سنة مقعد وجالس بجوار البِركة! فتحنن الله عليه وقال له "احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ" (إنجيل مرقس 2: 11؛ إنجيل يوحنا 5: 8). المولود أعمى: رأى رجل مولود أعمى فشفاه. وبعد أن شفاه بوقت قليل وجد أن اليهود أخرجوه من المجمع فمر عليه خارج المجمع وافتقده وأعطاه الإيمان.كان يسوع يتحنن على المرضى ويشفيهم. فهو يجول يصنع خيرًا.طريقة ربنا أنه يجول يصنع خيرًا ويريح الناس."ينادي للمأسورين بالعتق وللمسبيين بالإطلاق"، ونص الآية هو: "لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ" (سفر إشعياء 61: 1). عطف الرب وتحننه على الخطاه: الله افتقد العشارين: كان الرب يسوع سائرًا في مكان الجباية ووجد عشار فقال له تعالى اتبعني، بينما العشارين كانوا مكروهين. مكروهين عند المجتمع ولكنهم غير مكروهين عند الله.مرَّ الرب على زكا رئيس العشارين وقال له: "أنا اليوم أبيت في بيتك". وتعجب زكا من هذا جدًا وكذلك اليهود. كيف يبيت يسوع عند شخص خاطئ.لم يدركوا الفرق بين الإنسان العادي بضعفه البشري عندما يبيت مع إنسان خاطئ فيضار. وبين المسيح الذي عندما يبيت عند إنسان خاطئ ينقذه من خطيئته.لذلك قال له يسوع: "اليوم حدث خلاص لأهل هذا البيت"، ونص الآية هو: "الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ" (إنجيل لوقا 19: 9).إلهنا يجول يصنع خيرًا مع الكل.جلس مع العشارين وكان يأكل معهم. وقد انتقده اليهود في هذا وقالوا له: "كيف تجلس مع الخطاة وكيف تأكل معهم"، ونص الآية هو: "لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟"، "مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟"، "لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ"؟! فقال لهم: "لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى" (إنجيل متى 9: 12؛ إنجيل مرقس 2: 17؛ إنجيل لوقا 5: 31) فالمرضى يحتاجون إلى من يجلس معهم.القديسين لا يحتاجون التوبة ولكن الخطاة يحتاجون إليها. هل يتمثل كل رجال الدين بيسوع؟ بعض رجال الدين إذا وجد شخص خاطئ يرفضوه وقد يطردوه. وكأنهم يقولون له: "أنت لا تصلح أن تكون ابن لله".بينما الله لا يفعل هذا مع الخطاة. الله يأخذ المطرودين ويصلحهم.نجد الله يقول حزقيال 34 "أَنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. وَأَطْلُبُ الضَّالَّ، وَأَسْتَرِدُّ الْمَطْرُودَ، وَأَجْبِرُ الْكَسِيرَ" (سفر حزقيال 34: 15، 16). فهذه هي طريقة الله.أحيانًا كبرياء القلب عند بعض رجال الدين تجعلهم يرتفعون عن مستوى الخطاة ويرفضوهم.أما الله فبقلبه الحنون الواسع الطيب لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا. هو الداعي الكل إلى الخلاص. طريقة الله يجول يصنع خيرًا. المرأة السامرية: مر الله على السامرية، وهذه السامرية كانت غارقة في الشر، فقد عاشت مع 5 رجال والذي كان معها ليس زوجها. ولكن السيد المسيح اقترب إليها وكلمها. واستطاع بكلماته الرقيقة الطيبة أن يجذبها للتوبة دون أن يحرجها. لدرجة أنها آمنت وذهبت لتدعو أهل بلدها للإيمان أيضًا.فلأنه يجول يصنع خيرًا. في جولانه قابل إمرأة سامرية فخلصها. المرأة الخاطئة: في جولانه مرَّ بامرأة مضبوطة في ذات الفعل، فأراد أيضًا أن يخلصها. وقال للناس: "من كان منكم بلا خطية فليرجمها أولًا بحجر"، ونص الآية هو: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ" (إنجيل يوحنا 8: 7). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وظل يكشف لكل واحد خطيئته إلى أن انسحبوا واحد وراء الآخر. وقال لها: "أين الذين أدانوك؟ لم يبق منهم أحد، وأنا أيضًا لا أدينك. اذهبي ولا تعودي تخطئي. عطف الرب وتحننه على الحزانى مثل: أرملة نايين: السيد المسيح كان يعطف ليس فقط على الخطاة بل على الكل.في أحد المرات وهو سائر يجول يصنع خيرًا وجد امرأة أرملة من مدينة نايين تبكي لأن ابنها الوحيد مات. فلم يستطع أن يتحمل بكائها. فأقام هذا الشاب ودفعه إلى أمه وقال لها لا تبكي. مريم ومرثا: ثم مر في بيت عنيا ووجد مريم ومرثا يبكون على أخيهم لعازر، الذي مات منذ 4 أيام. فطلب منهم أن يذهبوا به إلى قبره. وذهب معهم حيث دُفن لعازر وقال له: "لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا" (إنجيل يوحنا 11: 43).السيد المسيح يجول يمسح دموع الحزانى. ويزيل ضيق الناس. محبة الله افتقدت حتى المقاومين مثل: شاول الطرسوسي: شاول الطرسوسي كان من الذين قاوموا الرب ووقفوا ضد المسيحية، ويقول الكتاب عن شاول الطرسوسي أنه كان يجر رجالًا ونساءًا إلى السجن، بخطابات يأخدها من رؤساء الكهنة.شاول هذا المسيح مر عليه وهو في طريقه لدمشق، وقال له يا شاول لماذا تضطهدني. كان يصالحه. وليس فقط يصالحه، بل يجعله رسول. كان الله يرى فيه طاقات قوية يمكن أن يستخدمها في الخير.كان يجول يصنع خيرًا. الله يجول يصنع خيرًا من بدء الخليقة: خلاص آدم وبنيه: الله كان يجول يصنع خيرًا منذ القدم، حتى من أيام آدم.آدم أخطأ وخاف من الله وكان غير قادر على مواجهة الله.ولكن الله لم يتركه هكذا، بل ذهب إليه وبدأ بمصالحته وبدأ يتفاهم معه ومع حواء. ولم يتفاهم معهم فقط بل أعطاهم وعد بالخلاص. وكان بذلك يقول لهما "إن كانت الحية ضحكت عليكما فإن نسل المرأة سيسحق رأس الحية" (عن سفر التكوين 3: 15) الله يخلص ما قد هلك: الله لا ييأس من أحد. يجول يصنع خيرًا حتى مع الميئوس منهم في نظر الآخرين.ولذلك قال: "ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (إنجيل متى 18: 11؛ إنجيل لوقا 19: 10). الله يسعى إليك حتى دون أن تطلب. يسعى إليك دون أن تطلب. تقول له أنا يا رب خاطي وواقع ولا أستطيع أن أقوم. فيقول لك أنا أقيمك. أنا أرسل إليك وسائل نعمة. ووسائل النعمة هذه تقيمك.الله قادر على كل شيء ولا يعثر عليه أمر. خلاص لوط: لوط اشتهى الأرض المعشبة وترك إبراهيم والمذبح، وسكن وسط الأشرار في سدوم. ولكن الله لم يتركه بل جاء ليطلب ما قد هلك. وأنقذه الله مرتين. مرة عندما سُبيَ أهل سدوم، حيث أرسل له إبراهيم ليحارب عنهم وينقذهم. ومرة عندما أُحرقت سدوم، حيث أرسل الله ملاكين أخذوا لوط وأسرته وخرجوا بهم من المدينة.الله يطلب ويخلص ما قد هلك. ليس فقط من قد سقط، بل من قد هلك. الله يدعو الكل إلى الخلاص. حتى الذي لا يقبل الله، نجد الله يصبر عليه لكي يخلصه.هناك شخص لا يرجع عن خطيئته من أول محاولة ولكنه قد يعود بعد عاشر محاولة أو حتى المحاولة العشرين.أخطر ما يقع فيه الآباء الكهنة أن ييأسوا من خلاص الخطاه. فيقولون عن شخص ما: "هذا الإنسان شرير جدًا لا ينفع معه وعظ أو نصح أو إرشاد".أحد هؤلاء الآباء طرد إنسان خاطئ وكانت حجته "ابن الهلاك للهلاك يدعى" عن الآية القائلة: "وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهَلاَكِ" (إنجيل يوحنا 17: 12). من قال هذا؟! فالله داعي الكل إلى الخلاص. ونصليها كل يوم. الله يجول يصنع خيرًا حتى مع المظلومين فالكتاب يقول:"الرب يحكم للمظلومين"، ونص الآية هو: "الْمُجْرِي حُكْمًا لِلْمَظْلُومِينَ" (سفر المزامير 146: 7). الرب يحكم للمظلومين: يوسف الصديق: من أمثلة هؤلاء المظلومين يوسف الصديق.لقد باعه إخوته كعبد وظلمته امرأة فوطيفار، وادعت عليه شرًا. وظلمه فوطيفار نفسه ووضعه في السجن. لكن الله لم يتركه، الله لم يحكم له بالخروج من السجن فقط بل الله حكم أن يكون يوسف الصديق الرجل الثاني في المملكة.وجعل الله كل الذين ظلموا يوسف الصديق يأتون ويسجدون عند قدميه. فالكتاب ذكر كيف أن إخوته الذين ظلموه جاءوا إليه وسجدوا عند قدميه. لم يكتب الكتاب عن فوطيفار أنه جاء وسجد عند قدمي يوسف، ولكن من المؤكد أن هذا حدث؛ ففي الغالب جاء فوطيفار أيضًا وسجد عند قدمي يوسف الصديق. الله يعضد الضعفاء والخائفين والذين في ضيقة: الله عجيب في أنه يجول يصنع خيرًا. يعمل في الناس بروحه القدوس ويعمل في الناس بنعمته ويعمل في الناس بملائكته ويصنع مع كل أحد خيرًا. داود النبي: نجد داود النبي يقول: "دفعت لأسقط والرب عضدني"، ونص المزمور هو: "دَحَرْتَنِي دُحُورًا لأَسْقُطَ، أَمَّا الرَّبُّ فَعَضَدَنِي" (سفر المزامير 118: 13) الله يقف بجوار من هم في ضيقة.أنا سأقول لكم عن واحد كان في ضيقة. هذا الواحد هو عصفور وقع في فخ الصيادين. ماذا يفعل العصفور أمام فخ الصيادين؟! الله يتدخل فينكسر الفخ ونحن نجونا، ونص الآية هو: "انْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ الْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِينَ. الْفَخُّ انْكَسَرَ، وَنَحْنُ انْفَلَتْنَا" (سفر المزامير 124: 7). هذا هو عمل الله. الله عضد يعقوب عندما كان خائفًا: يعقوب أب الآباء كان هارب من أخيه عيسو الذي قال "أقوم وأقتل أخي"، ونص الآية هو: "فَأَقْتُلُ يَعْقُوبَ أَخِي" (سفر التكوين 27: 41).وعندما كان يعقوب هارب وتعبان، ولا يعرف حل لمشكلته، ظهر له الله في السلم السمائي وقال له: لا تخف "وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ" (سفر التكوين 28: 15). فطمأنه. الله عضد يوحنا الحبيب في المنفى: كان القديس يوحنا الحبيب في ضيقة حيث كان في المنفي في جزيرة بطمس وكان متعب. فظهر له الرب برؤى عجيبة وقال له: أنا "الْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتًا، وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ" (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 1: 18). ليس هذا فقط بل أظهر له السماء مفتوحة ورأى عرش الله.من كان يفكر أن يوحنا الحبيب وهو في أرض السبي يرى السماء مفتوحة ويرى عرش الله والملائكة الذين حوله ويعطيه الله رسائل. كل هذا في جزيرة بطمس مكان المنفى.لكن الله مستعد أن يعمل مع الكل، يجول ويصنع خيرًا. الله عضد التلاميذ الخائفين في العلية: المسيح وجد التلاميذ الذين هربوا وقت الصلب وكانوا خائفين ومتعبين ومختفيين في العلية.فدخل وافتقدهم وقال لهم"أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا" (إنجيل متى 14: 27؛ إنجيل مرقس 6: 50؛ إنجيل يوحنا 6: 20).وظل يفتقدهم 40 يوم إلى أن أرجعهم إليه. الله يفتقد حتى الأرض الخربة الخاوية: الله لم ينقذ العصفور الضعيف فقط من الفخ. بل الله افتقد الأرض الخربة الخاوية الله ذهب للأرض الخربة الخاوية وقال: "لِيَكُنْ نُورٌ، فَكَانَ نُورٌ، وَرَأَى اللهُ النُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ" (سفر التكوين 1: 3، 4). والله يفتقد أيضًا نفوسنا الخربة: والأرض الخربة الخاوية، التي أشرق فيها الله النور من الممكن أن تقال على كل نفس.كل نفس خربة وخاوية من الفضيلة الله يقول لها ليكن نور فيصير نور ويرى الله النور أنه حسن.الله الذي يجول يصنع خيرًا مر على كل المتعبين. الله قد يخلصك بزيارات النعمة وقد يستخدم الإنذارات والتجارب: من الممكن أن يعمل الله مع الخاطئ بزيارات النعمة فتعمل فيه كلمة الله وتقربه من الله.ولكن هناك البعض لا يفيقوا إلا بالتجارب. البعض لا تحركه الكلمة الطيبة. ولكن تحركه صفعة على وجهه. فقد يلجأ الله للتجارب لخلاص البعض ولكن لا يستخدم هذا مع الكل وليس في كل الأوقات وقد يفيق الإنسان بإنذار مثل أهل نينوى، قال لهم إن لم تتوبوا ستهلك المدينة فرجعوا وتابوا. لماذا ؟ نفع معهم الإنذار. الله يجول يصنع خيرًا بأية الطرق. بالطريقة التي تصلح للشخص. الله لم يترك أوغسطينوس: أوغسطينوس كان غارقًا في الفساد. ليس الفساد فقط من جهة أخلاقه. إنما فساد من جهة العقيدة. حيث كان بعيدًا عن الله كل البعد. وأمه ظلت تبكي عليه. ولكن الذي يجول يصنع خيرًا جال وأمسك بأغسطينوس وأنقذه مما هو فيه. أرسل إليه القديس أمبروسيوس أسقف ميلان فأقنعه بكلامه، وأرسل إليه سيرة الأنبا أنطونيوس الراهب فتأثر بها. وأخيرًا تاب واعتمد وعمره 30 سنة. وقال لله "تأخرت كثيرًا في حبك أيها الجمال الذي لا ينطق به. كنت معي ولكنني من فرط شقاوتي لم أكن معك".ظل الله وراء أوغسطينس إلى أن صالحه وأصلحه وأصلح به كثيرين. الله لم يترك ماريا القبطية وبيلاجيا وموسى الأسود: الله لا يترك أحد. لم يترك ماريا القبطية التي كانت في منتهى الفساد. ولم يترك بيلاجيا. ولم يترك موسى الأسود. هل تخاف من موسى الأسود؟ أنا سآخذه وأجعله مثال للوداعة والخدمة.الرب عجيب فهو يجول يصنع خيرًا. فلنتذكر إحسانات الرب لنا: ليت كل واحد فيكم يقرأ المزمور"بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ" (سفر المزامير 103: 2) تذكر حجم الخير الذي عمله الله في حياتك. فمشكلتنا أننا ننسى الأمور الطيبة ولا نذكر إلا الأمور المتعبة.لا يوجد شك أن الله يجول يصنع خيرًا. جال على بيتك وعلى قلبك وعلى حياتك وصنع فيها خيرًا لا يجب أن تنساه. الله لم يترك الخصي الحبشي: كان الخصي الحبشي سائرًا بمركبته فقال الرب لفيلبس سير وراء هذه المركبة. وظل الرب وراءه حتى قاده للخلاص وعمده.الله قد يعمل معك خير مباشر وقد يرسل لك شخص يقودك للخلاص.نشكر الله الذي يفعل معنا خيرًا كل حين. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
14 سبتمبر 2022

عيد النيروز

ما هو عيد النيروز؟ نحتفل كل عام في مثل هذا الوقت بعيد النيروز وهو رأس السنة القبطية (أول توت) أو عيد الشهداء. والأقباط جعلوا لأنفسهم تقويم خاص بهم هو التقويم القبطي أو تقويم الشهداء والذي يبدأ بسنة 284م. وهي بداية عصر ديوقلديانوس الذي كان من أقسى عصور الاضطهاد التي مر بها الأقباط. مكانة الشهداء في الكنيسة: والكنيسة تحب الشهداء وتحب الاستشهاد وإن كنا نحتفل بعيد الشهداء في 10 سبتمبر تقريبًا فنحن نحتفل بالشهداء في كل يوم تقريبًا.والشهداء لهم عندنا مقام كبير جدًا وتبنى الكنائس على أسمائهم والأديرة أيضًا على أسمائهم وخصوصًا أديرة الراهبات.دير أبو سيفين على اسم الشهيد مارقوريوس أبو سيفين.ودير الأمير تادرس على اسم الشهيد الأمير تادرس.ودير مارجرجس في مصر القديمة ودير مارجرجس في حارة زويلة ودير القديسة دميانة على اسم الشهيدة دميانة. كلها أديرة على أسماء شهداء.فنحن نحب الشهداء ونحتفظ بأيقوناتهم ونقدس رفات أجسادهم ونسمي الكنائس بأسمائهم. استفانوس أول الشهداء: والاستشهاد في الكنيسة بدأ من أول نشأة الكنيسة.آخر شهيد في العهد القديم هو يوحنا المعمدان وأول شهيد في العهد الجديد هو استفانوس الشماس. واستفانوس الشماس نضع اسمه في المجمع قبل الآباء البطاركة. وقبل كثير من الرسل.الاستشهاد بدأ باستفانوس واستمر على مر الأيام والاستشهاد بدأ في الكنيسة في العهد الجديد، من أول استفانوس واستمر على مدى العصور المختلفة.جميع الآباء الرسل أنهوا حياتهم بالاستشهاد ما عدا يوحنا الحبيب الذي تعذب عذابات فوق الوصف ولكنه لم يستشهد. الاستشهاد اكليل: تصوروا محبة يسوع المسيح ليوحنا المعمدان عندما قال عنه في متى 11 "لم تلد النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان"، ونص الآية هو: "لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (إنجيل متى 11: 11).ومع ذلك أكرمه إكرامًا آخر بأن يكون شهيدًا كان يستطيع أن ينقذه بالموت ولكنه أعطى له بركة أن يكون شهيد. الاستشهاد شمل الكل وليس الرسل فقط الاستشهاد شمل حتى من كانوا أعداء للمسيحية: لونجينوس الشهيد: والاستشهاد شمل الأعداء أيضًا فلونجينوس الذي طعن المسيح بالحربة صار شهيدًا في المسيحية وله يوم في السنكسار نذكره فيه. الشيهد أريانوس والي أنصنا: وأريانوس الذي كان أقسى ولاة مصر في عهد دقلديانوس، فقد كانوا عندما يحتاروا في شخص مسيحي يسلموه لأريانوس.أريانوس هذا حدثت له معجزة وصار شهيدًا.ونقول في الكنيسة ونقول في السنكسار في مثل هذا اليوم تعيد الكنيسة لتذكار القديس أريانوس والي أنصنا. الاستشهاد شمل النساء والأطفال أيضًا: والاستشهاد شمل أيضًا الأطفال والنساء. وليس فقط الرجال.نسمع عن الأم دولاجي وأولادها. ونسمع عن الشهيدة يوليطا وابنها الشهيد قرياقوس.ونسمع عن الطفل أبانوب.الاستشهاد شمل الكل وليس الرسل فقط. الاستشهاد صار شهوة المؤمنين: الاستشهاد صار شهوة في وقت من الأوقات (شهوة الموت على اسم المسيح).فكانت طريقة تفكير المؤمنين هي ما المشكلة في ضربة سيف ثم أجد نفسي في الملكوت مع المسيح؟! فهذا هو أقصر وأضمن الطرق المؤدية للسماء.لذلك في أقوال الآباء نجد كتب كثيرة موضوعها "الحث على الاستشهاد" أصبح الاستشهاد شهوة كما قال بولس الرسول: "لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا" (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 1: 23). تاريخ الكنيسة هو تاريخ الشهداء: ووجدنا تاريخ الكنيسة هو تاريخ الاستشهاد بدءًا من العصر الروماني الأول والاستشهاد الذي تم على يد نيرون والذي استشهد في عصره بطرس وبولس إلى أواخر العصر الروماني في أيام دقلديانوس.واستمر الأمر إلى سنة 313 م (هذا التاريخ هام يجب أن نحفظه جميعًا)، ففي سنة 313 م صدر قانون من قسطنطين الملك بالحرية الدينية.ولكن مع ذلك ومع الحرية الدينية استمر الاستشهاد والإرهاب الديني حتى بعد مجمع خلقيدونية. وكثير من الآباء استشهدوا من اخوتهم المسيحيين المخالفين لهم في المذهب.والسيد المسيح لم يقل لتلاميذه أنهم عندما يؤمنوا به سيسيروا في طريق مفروش بالورود، بل قال لهم: "فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ" (إنجيل يوحنا 16: 33).وأيضًا في يوحنا الإصحاح السادس عشر قال لهم: "تأتي ساعة وأتت الآن يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله" وفي بعض الترجمات "يقدم قربان لله"، ونص الآية هو: "تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً للهِ" (إنجيل يوحنا 16: 2). القديس الشهيد يوليوس الأقفهصي: ولأن الاستشهاد يعتبر بركة نحن نشكر القديس يوليوس الأقفهصي الذي كان يكتب أسماء الشهداء وسيرتهم ويجمع أجسادهم.كان رجلًا قديسًا وحفظ لنا تاريخًا عظيمًا جدًا. الشهداء هم أعظم القديسين: الشهداء هم من أعظم القديسين. أعظم من الرهبنة وأعظم من الكهنوت. لماذا؟ لأن السيد المسيح يقول "لا يوجد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه عن أحبائه"، ونص الآية هو: "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ" (إنجيل يوحنا 15: 13). والشهيد وضع نفسه عن إيمانه وبذلك يكون قدم أعظم حب.كل إنسان يجاهد ولكنه قد لا يصل للاستشهاد. فالاستشهاد هو أقصى جهاد يمكن أن يصل إليه المؤمن.والاستشهاد أيضًا كان يسبقه عذابات كثيرة ولكن الله كان يعطي الشهداء القوة على الاحتمال حتى يوصلهم إلى أن يقدموا أنفسهم بسلام. الاستشهاد دليل عمق الإيمان وعمق المحبة لله: الاستشهاد يدل على عمق المحبة لله. المحبة التي يبذل فيها الإنسان نفسه.والاستشهاد يدل على عمق الإيمان. وعمق الإيمان بالحياة الأخرى.لأن لولا الإيمان بالله والحياة الأخرى ما كان الإنسان يبذل حياته. والاستشهاد هو شهادة للدين، وهو أيضًا قدوة لكل الأجيال التي تبعت عصور الشهداء. الكنيسة تعد أولادها للإستشهاد: الكنيسة أعدت أولادها الشهداء أعدتهم بالإيمان الثابت.وأعدتهم بمجموعة من المدافعين عن الإيمان apologists، الذين كانوا يدافعوا عن الإيمان ويردوا على كل كلام الوثنيين ضد الإيمان المسيحي.وأعدتهم أيضًا بالزهد في العالم وعبارة "لا تحبوا العالم وكل ما في العالم"، ونص الآية هو: "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ" (رسالة يوحنا الرسول الأولى 2: 15). وأعدتهم بعبارة ماران آثا Maranath (اليونانية: μαραν αθα)، أي الرب آت (ماران تعني ربنا وآثا تعني آت).والكنيسة أيضًا شجعتهم بالاهتمام بعائلاتهم. "أريد أن الجميع يكون بلا هم" نقطة هامة أريد أن تعرفوها هي عندما تكلم بولس الرسول عن عدم الزواج وقال: "أريد أن الجميع يكون بلا هم" لم يكن يقصد بكلمة "بلا هم" معنى "بلا زواج"، بل كان يقصد أن المتزوج – وخاصة أنه كان يتكلم وهو في العصر الروماني- صعب عليه أن يدخل في حياة الاستشهاد لأنه يفكر في مصير امرأته وأولاده، أي أنه يحمل هم امرأته وأولاده.فبولس الرسول عندما يقول "بلا هم" يقصد بها "أنه حتى إذا جاءت ساعة الاستشهاد لا يكون لديكم من تحملوا هم مصيره". نفسية الشهيد: وعصر الاستشهاد قد انتهى والقديس أوغسطينوس تعرض لهذه النقطة حيث قال: "نفرض أن شخص يريد أن يصبح شهيد وقد انتهى عصر الاستشهاد فماذا يفعل". قال: "الذي له نفسية الشهيد يعتبر من الشهداء حتى لو لم يستشهد" أي له نفسية الشهيد الذي لديه الاستعداد أن يبذل حياته. والذي لديه الإيمان القوي والثقة بالله. والذي عنده محبة العالم الآخر والإيمان به. الكنيسة تقوت بالاستشهاد: وأريد أن أقول أن الاستشهاد لم يضعف الكنيسة بل قوى الكنيسة.لذلك نقول أن الكنيسة بنيت على الدم وعلى الصمود وليس مجرد حياة رعوية فقط. كيف نستفيد من عيد النيروز/عيد الشهداء؟ أما الآن ونحن في عيد الشهداء فليتنا نفكر ماذا نستفيد من عيد النيروز في حياتنا.نحن نقول أننا أبناء الشهداء. فكيف تكون لنا نفسية الشهداء الذين هم آبائنا؟ كيف يكون لنا نفس مشاعرهم ونفس إيمانهم؟ في بداية عام جديد للشهداء ليت كل واحد منا يفكر كيف يبدأ هذا العيد بداية طيبة. على الأقل يكتسب فضيلة تنمو معه ويدرب نفسه عليها طوال العام. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
31 أغسطس 2022

أنصاف الحقائق

هناك موضوع معين يتسبب في كثير من المشاكل، وفي كثير من الخصومات ويخلق جوًا من النزاع، ومن سوء التفاهم بين الناس ليتنا نحلل هذا الموضوع لكي نصل إلى حله.. إنه مشكلة أنصاف الحقائق. إن الحقيقة هي كل متكامل، وليست جزءًا قائمًا بذاته. وأنصاف الحقائق ليست كلها حقائق و كثير من الناس يشوهون الحقيقة، ولا يقدمون لها صورة سليمة، بسبب استخدامهم أنصاف الحقائق وفى كل قضية تقدم إلى المحاكم، كل طرف من المتنازعين يقدم نصفًا للحقيقة، يصورها تصويرًا خاصًا، ويقدم الطرف الآخر النصف الآخر، ولا تظهر الحقيقة إلا باجتماع النصفين معًا. لأن الذي يقدم نصف الحقيقة لا يكون منصفًا. فتقديم الأنصاف ليس فيه إنصاف قد تشرح إساءة الناس إليك، دون أن تشرح الأسباب التي دفعتهم إلى هذه الإساءة، وتكون في حديثك عن إساءاتهم، مهما كان كلامك صادقًا، مجرد معبر عن نصف الحقيقة. وعندما تجلس إليهم وتناقشهم في اتهاماتك لهم، ويدافعون عن أنفسهم، حينئذ يقدمون لنا النصف الآخر من الحقيقة الذي لم تذكره أنت ليتك كلما تتهم إنسانًا، تنصفه أيضًا بأن تذكر النصف الآخر من الحقيقة الذي يدافع به هو عن نفسه ففي دفاعك نوع من النبل ومن محبة الحق، ومن الإنصاف.. وليتك تدافع عنه أمام نفسك قبل أن تتهمه، فربما هذا الدفاع يمنعك من الاتهام كثيرًا ما سمعت زوجات وأزواجًا في مشاكل عائلية قد تتطور إلى طلاق، فأسمع أنصاف حقائق. استمع إلى الزوجة فتشعرني بأن زوجها وحش كاسر، قاسى الطبع سيئ المعاملة، واستمع إلى الزوج، فيشعرني بأن الزوجة مستهترة أو مقصرة في واجباتها. ويندر أن يذكر واحد من الطرفين حجج الآخر وبسبب أنصاف الحقائق قد يحدث سوء تفاهم بين الناس. وسنضرب لذلك أمثلة.. قد يشكو ابن من أن والده لا يقوم باحتياجاته ولوازمه ولا يصرف عليه، وربما يكون النصف الآخر من الحقيقة أن الأب لا يملك ما يصرفه على ابنه، ولو كان يملك ما قصر في حقه.. وقد تشكو سيدة من أن صديقة لها أخلفت موعدها معها. وربما يكون النصف الآخر أن هذه الصديقة معذورة، وقد منعها زوجها من الذهاب وهى لا تستطيع أن تصرح بهذا لأسباب خاصة وقد نحكم على طالب بأنه فاشل في دراسته، ونقسو عليه في حكمنا. وربما يكون النصف الآخر من الحقيقة أن ظروفه العائلية قاسية جدًا، لا تساعده إطلاقًا على الاستذكار، أو أن ظروفه المالية لا تساعده على شراء الكتب اللازمة ليتنا نكون مترفقين في أحكامنا، فنحن قد نرى الخطأ فقط، دون أن نرى أسبابه ودوافعه وظروفه.لقد خلق الإنسان محبًا للخير بطبيعته، وما الشر إلا دخيل عليه. وللشر في حياة الإنسان أسباب كثيرة، ربما يكون بعضها خارجًا عن إرادته. وقد يرجع بعضها إلى عوامل بيئية، أو وراثية، أو لأمور ضاغطة يعلمها الله وحده. لذلك كونوا مترفقين بالناس.. وقد يكسر إنسان قانونًا من القوانين، أو نظامًا من الأنظمة. وربما يكون هذا الكسر هو نصف الحقيقة، ويكون النصف الآخر هو خطأ في هذا القانون أو في هذا النظام يحتاج إلى تعديل.. لهذا كانت كثير من الدول تعدل في أنظمتها، وتطور في قوانينها لأن المشرعين ليسوا آلهة. ولهذا أيضًا كان المنصفون ينظرون دائمًا إلى روح القانون وليس إلى حرفيته إن الذين يتمسكون بحرفية القوانين وينسون روحها، لا يكونون عادلين في أحكامهم.. ومن أمثال هؤلاء الذين يتمسكون بحرفية وصية من وصايا الله، دون أن يدخلوا إلى روح الدين وعمقه، ودون أن يتكشفوا الأسباب والأهداف التي من أجلها وضع الله تلك الوصية والذين يتمسكون بأنصاف الحقائق، إما يفعلون ذلك عن جهل أو عن عمد وعن معرفة.. فإن فعلوا ذلك عن معرفة يكونون مدانين، لأنهم أخفوا الحقيقة، وقد يكون وراء الإخفاء خطأ آخر أبشع.. ولذلك تطلب غالبية المحاكم من الشهود أن يقولوا: "الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق" فعبارة: "كل الحق " عبارة لها وزنها ولها عمقها ومشكلة أنصاف الحقائق بدأ النقاد المنصفون يتحاشونها.. كان الناقد قديمًا يكتفي بذكر العيوب والنقائص فقط. وهكذا كان ينقص بدلًا من أن ينقد.. أما الناقد المنصف فهو الذي يحلل الأمر تحليلًا، ويذكر ما فيه من مزايا ومن عيوب، من نواحي قوة ونواحي ضعف. وقد يُرجع كل شيء إلى أسبابه، في صدق، وفي إنصاف وقد يقع الإنسان في أنصاف الحقائق نتيجة لكراهية أو تعصب أو تحيز أو ميل خاص.. مثال ذلك مدير عمل لا يذكر موظفًا معينًا إلا بالإساءة والتجريح، ولا يذكر موظفًا آخر إلا بالتقدير والإطراء، ويكون لكل منهما ما له وما عليه.. ولكنها أنصاف الحقائق وقد تدخل مشكلة أنصاف الحقائق في الرئاسة والإرادة.. فلا يتذكر المدير أو الرئيس إلا سلطته فقط، وكيف أنه صاحب حق في أن يأمر وينهى، ويعين ويعزل، كأنه متسلط في مصائر الناس. وفى ذلك ينسى النصف الآخر من الحقيقة، وهي آن الرئاسة محدودة بقانون وبضمير وبمسئولية أمام الله، وبواجبات من الرعاية الحقة وينبغي أن يحيط بها كل رئيس عمل جميع من تشملهم إدارته ومسئوليته وقد تدخل مشكلة أنصاف الحقائق في حياتنا الروحية، حينما نعمل لدنيانا فقط، وننسى حياتنا الأخرى.. حينما نهتم بكيف نعيش ههنا على الأرض، وننسى النصف الآخر من الحقيقة وهو أننا سنقدم عن حياتنا هذه حسابًا أمام الله في اليوم الأخير، يوم لا يجدي عذر، ولا ينفع شفيع وقد تدخل أنصاف الحقائق هذه في مسائل التربية.. فيظن الأب المسكين أن كل واجبه هو مستقبل أبدى من حيث تعليمه وتوظيفه، وأكله وشربه وصحته وكافة احتياجاته المادية. وينسى النصف الآخر من الحقيقة وهو واجبه حيال أبدية هذا الابن وروحياته وعلاقته بالله ومشكلة أنصاف الحقائق هذه قد تدخل في الحياة الاجتماعية، وتسبب متاعب كثيرة وبخاصة في الفهم الخاطئ للحرية. فقد يقول إنسان: "أنا حر. أفعل ما أشاء" وينسى النصف الآخر من الحقيقة وهو أن عليه أن يمارس حريته بشرط ألا يتعدى على حريات غيره من الناس فالذي يقيم حفلة ويرفع مكبرات الصوت فيها كما يشاء، وينتشر هذا الصوت العالي في كل مكان، مدعيًا بأنه حر. إنما ينسى حريات الآخرين، وكيف أن هذا الصوت قد يزعج نائمًا في فراشه، أو مريضًا محتاجًا إلى الراحة، أو تلميذًا يذاكر دروسه، أو قومًا يتحدثون في موضوع ما أو أي شخص يريد أن يستغل وقته في شيء آخر غير سماع هذا الحفل ليتنا ننظر إلى الحقائق كاملة.. ولا نكتفي بأنصاف الحقائق، لئلا تضللنا.. قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل