المقالات

15 يوليو 2019

إلى من نذهب؟

كيف نعيش بدون الكتاب المقدس؟!!! "كل الكتاب هو موحي به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي للبر" (2تي3: 16)العالم اليوم في أشد الحاجة إلى العودة للكتاب المقدس إن تغييب كلمة الله عن حياة الناس هي الخطر الأعظم وهي أيضاً الهم الشاغل للشيطان، لأنه يعرف أن كلمة الله هي خلاص العالم، لذلك ليس عجيباً إن كان الشيطان وهو يريد إهلاك العالم يعمي الناس عن الإنجيل، ويشغلهم عن معرفته، ويشككهم في صحته. فماذا يعني الإنجيل لنا؟ 1- نور لسبيلي:- "لأن الوصية مصباح، والشريعة نور" (أم23:6)، "فتح كلامك ينير، يعقل الجهال" (مز130:119). لذلك قيل "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (مز105:119)فمن يعيش بعيداً عن كلمة الله يعيش في الظلام "لأنهم عصوا كلام الله، وأهانوا مشورة العلي" (مز11:107) "من ازدرى بالكلمة يخرب نفسه، ومن خشى الوصية يكافأ" (أم13:13)ومن يقتني كلمة الله في قلبه يستنير، ويبعد عن الشر والخطية "فبكلام شفتيك أنا تحفظت من طرق المعتنف" (مز4:17) طوبى لمن يكتنز في داخله كلام الله "بم يزكى الشاب طريقه؟ بحفظه إياه حسب كلامك" (مز9:119) "خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك"(مز11:119)، "أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنيمة وافرة" (مز162:119) لذلك دعونا نهتف معاً: "يا بيت يعقوب، هلم فنسلك في نور الرب" (إش5:2). فلنقتني فينا كلمة الله الحية لتنير لنا الطريق، ونفهم ما هي مشيئة الرب. "وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2بط19:1) 2- سيف الروح:- إنه السيف الذي نحارب به إبليس "وخذوا خوذة الخلاص، وسيف الروح الذي هو كلمة الله" (أف17:6)، "لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته" (عب12:4)وهو السيف الخارج من فم المسيح كما رآه يوحنا في سفر الرؤيا "وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ16:1)إنها كلمة الله الحادة التي تقطع الشر، وتحارب الشرير "فتب وإلا فأني آتيك سريعاً وأحاربهم بسيف فمي" (رؤ16:2)، "ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم" (رؤ15:19)، "والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه" (رؤ21:19)ولعل هذا السيف هو الذي طلب الرب من تلاميذه أن يقتنوه عند التجربة "من له كيس فليأخذه ومزود كذلك ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفاً" (لو36:22)إنه السيف الذي انتصر به السيد المسيح على الشيطان في التجربة على الجبل حيث غلبه بالـ"مكتوب"وهو السيف الذي ألقاه السيد المسيح على الأرض "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً" (مت34:10)إنه السيف الذي استخدمه يوحنا المعمدان في وجه هيرودس "لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك" (مر18:6)وهو السيف الذي يستخدمه رجال الله ضد الانحرافات "وجعل فمي كسيف حاد. في ظل يده خبأني وجعلني سهماً مبرياً. في كنانته أخفاني" (إش2:49) 3- نار آكلة:- إن النار تطهر من الشوائب والقاذورات.. وهكذا كلمة الله تطهرنا من كل خطية.. "أنتم أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به" (يو3:15)إنها النار التي تكلم عنها إرميا النبي "لذلك هكذا قال الرب إله الجنود: من أجل أنكم تتكلمون بهذه الكلمة، هأنذا جاعل كلامي في فمك ناراً، وهذا الشعب حطباً فتأكلهم" (إر14:5)إنها نار ضد الشر لتطهر "هوذا اسم الرب يأتي من بعيد. غضبه مشتعل والحريق عظيم. شفتاه ممتلئتان سخطاً، ولسانه كنار آكلة" (إش27:30) "أليست هكذا كلمتي كنار، يقول الرب، وكمطرقة تحطم الصخر؟" (إر29:23)لذلك فكلمة الله تقدس إلى التمام "لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة" (اتي5:4). أما الخدام الذين يشتعلون بهذه النار المقدسة فلا يستطيعون أن يكتموها في داخلهم "لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا" (أع20:4)، وإذا أراد الخادم أن يصمت يجد قلبه مشتعلاُ بهذه النار "فقلت: لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه. فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي، فمللت من الإمساك ولم استطع" (إر9:20)، أما الذين يرفضون كلمة الله فيحترقون بها "لذلك كما يأكل لهيب النار القش، ويهبط الحشيش الملتهب، يكون أصلهم كالعفونة، ويصعد زهرهم كالغبار، لأنهم رذلوا شريعة رب الجنود، واستهانوا بكلام قدوس إسرائيل" (إش24:5) 4- مصدر قوة وثبات وحياة:- إن من يحتمي بكلمة الله يصير قوياً في مواجهة الشيطان والعالم "كتبت إليكم أيها الأحداث، لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير" (1يو14:2)، فمن يقتني الكلمة في داخله يصير أقوى من العالم وكل البشر "الله افتخر بكلامه. على الله توكلت فلا أخاف، ماذا يصنعه بي البشر" (مز4:56)، لذلك ينبهنا الله بمحبته أن نحتمي في كلامه "يا ابني أصغ إلى كلامي، أمل أذنك إلى أقوالي" (أم20:4) "وكان يريني ويقول لي: ليضبط قلبك كلامي أحفظ وصاياي فتحيا" (أم4:4). "كل كلمة من الله نقية، ترس هو للمحتمين به" (أم5:30)"إنكم إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي" (يو31:8)، "الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد" (يو51:8)، "إن ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم" (يو7:15) لذلك فنحن نحب كلمة الله ونتمسك بها لننال الحياة "متمسكين بكلمة الحياة"(في16:2)طوبى لمن يقرأ ويسمع ويعلم بكلمة الله حقاً يصير أقوى من كل العالم. نيافة الحبر الجليل الأنبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
31 مارس 2019

الاحد الرابع احد السامرية

السامرية جاءت لتشرب من ماء غير مرو، فقابلها يسوع وقال لها: "لو كنت تعلمين عطية الله (المعمودية). لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد (لا تعاد معموديته).بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء (الروح القدس) ينبع إلى حياة أبدية"جاءت السامرية لتشرب من بئر يعقوب وقلبها متعلق بخمسة أزواج وآخر ليس زوجاً.. فوجدت هناك بئر يسوع (المعمودية) والعريس الأوحد مخلص كل البشرية لقد رفع يسوع ذهنها إلى الحياة بالروح والحق، التي تليق بالمسيحيين، ليفطم قلبها من عبادة الحرف التي تليق باليهود والوثنيين إن المعمودية حد فاصل العودة إلى الينبوع الحي "لأن شعبي عمل شرين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية، لينقروا لأنفسهم أباّراً، أباّراً مشققة لا تضبط ماءً " (إر 13:2) الماء الذي كانت تشرب منه السامرية كان ماء غير مروٍ بل كانت تعطش أيضاً إلى الشهوات والنجاسات "كل مَنْ يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً (يو13:4) وهي مسكينة لأنها عطشانة لم تجد ما يرويها.. فلجأت، إلى آبار العالم المشققة، لعلها ترتوي ولكن عطشها كان يزيد في كل مرة "كان لَكِ خمسة أزواج، والذي لكِ الآن ليس هو زوجك" (يو18:4)عندما رجعت إلى ينبوع ماء الحياة، هناك الارتواء بالحق "لو كنتِ تعلمين عطية الله، ومَنْ هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حياً" (يو 10:4)"مَنْ يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الآبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماءٍ ينبع إلى حياة أبدية" (يو14:4) مسكينة هي النفس التي لم تلتق بعد بينبوع ماء الحياة مَنْ يستطيع أن يطفئ لهيب ظمأ الناس؟مَنْ يستطيع أن ينجو من هلاك العطش إلى الشهوات؟الينبوع وحده قادر أن يروي ويشفي ويسعد الإنسان"يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي" (يو 15:4) أعطني من مياه ينبوعك النقي، لكي لا احتاج مرة أخرى إلى قاذورات العالم، ولكي لا آتي هنا مرة أخرى إلى حيث أماكن العثرة والخطية والضياع حقاً إن "النفس الشبعانة تدوس العسل، وللنفس الجائعة كل مر حلو" (أم 7:27) فأعطني يا سيدي القدوس أن أرجع إليك، لأشبع بك فأدوس على عسل العالم المر وأنكر الفجور والشهوات، وأكون لك إلى المنتهى. نيافة الحبر الجليل الأنبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
26 فبراير 2019

مفاعيل الإفخارستيا في حياتنا

أولاً: الإفخارستيا والخلاص:- يقوم الفكر المسيحي على شرح قضية الخلاص.. والأسفار المُقدَّسة تشهد أن الله وحده هو المُخلِّص "أنا أنا الرَّبُّ، وليس غَيري مُخَلِّصٌ" (إش43: 11) "ها إنَّ يَدَ الرَّب لم تقصُرْ عن أنْ تُخَلِّصَ، ولم تثقَلْ أُذُنُهُ عن أنْ تسمَعَ" (إش59: 1)"هوذا هذا إلهنا. انتَظَرناهُ فخَلَّصَنا. هذا هو الرَّبُّ انتَظَرناهُ. نَبتَهِجُ ونَفرَحُ بخَلاصِهِ" (إش25: 9) بل وتعتبر الأسفار المُقدَّسة أن علامة الإله الحقيقي أنه يستطيع أن يُخلِّص تمييزًا له عن الآلهة الكاذبة"اِجتَمِعوا وهَلُمّوا تقَدَّموا معًا أيُّها النّاجونَ مِنَ الأُمَمِ. لا يَعلَمُ الحامِلونَ خَشَبَ صَنَمِهِمْ، والمُصَلّونَ إلَى إلهٍ لا يُخَلصُ" (إش45: 20). والخلاص في الفكر المسيحي يكون بغفران الخطايا، وليس بالخلاص من الأزمات الزمانية.. كما هو في الفكر اليهودي. لذلك قيل ليوحنا المعمدان وهو طفل وليد: "وأنتَ أيُّها الصَّبيُّ نَبيَّ العَلي تُدعَى، لأنَّكَ تتقَدَّمُ أمامَ وجهِ الرَّب لتُعِدَّ طُرُقَهُ. لتُعطيَ شَعبَهُ مَعرِفَةَ الخَلاصِ بمَغفِرَةِ خطاياهُمْ" (لو1: 76، 77) وغفران الخطايا لا بد أن يكون بسفك الدم "وبدونِ سفكِ دَمٍ لا تحصُلُ مَغفِرَةٌ!" (عب9: 22). لأن الدم يساوي الحياة، وسفك الدم يساوي بذل الحياة.. فالرب يسوع المسيح إلهنا خلَّصنا بغفران خطايانا بسفك دمه الكريم على الصليب من أجلنا.. "لأنَّ أُجرَةَ الخَطيَّةِ هي موتٌ" (رو6: 23).. فتسديد دين الخطية يستلزم بذل الحياة هذا الدم المسفوك على الصليب أعطانا إياه مُخلِّصنا الصالح لنشربه في سر الإفخارستيا حسب قوله الطاهر: "اشرَبوا مِنها كُلُّكُمْ، لأنَّ هذا هو دَمي الذي للعَهدِ الجديدِ الذي يُسفَكُ مِنْ أجلِ كثيرينَ لمَغفِرَةِ الخطايا" (مت26: 27، 28)، "لأنَّ جَسَدي مأكلٌ حَقٌّ ودَمي مَشرَبٌ حَقٌّ" (يو6: 55) فبالرغم من أن مُخلِّصنا الصالح قد سفك دمه عن الجميع "وهو كفّارَةٌ لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كُل العالَمِ أيضًا" (1يو2: 2) "لأنَّهُ هكذا أحَبَّ اللهُ العالَمَ حتَّى بَذَلَ ابنَهُ الوَحيدَ" (يو3: 16)ولكن للأسف لن يستفيد من هذا الفداء العظيم إلاَّ مَنْ يُؤمن فقط بالقيمة الخلاصية لهذا الدم"لكَيْ لا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يؤمِنُ بهِ، بل تكونُ لهُ الحياةُ الأبديَّةُ" (يو3: 16) "الذي يؤمِنُ بهِ لا يُدانُ، والذي لا يؤمِنُ قد دينَ، لأنَّهُ لم يؤمِنْ باسمِ ابنِ اللهِ الوَحيدِ" (يو3: 18)"الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: مَنْ يؤمِنُ بي فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ" (يو6: 47). ولكن الإيمان النظري وحده لا يفيد، فالكتاب يقول: "والشَّياطينُ يؤمِنونَ ويَقشَعِرّونَ!" (يع2: 19). فالشيطان نفسه يعرف القيمة الخلاصية لدم المسيح، ولكن بكل قطع لا يستطيع أن يستفيد من هذا الخلاص الثمين، بل يقشعر ويرتعب من مجرد تذكار فِعله لذلك فلابد للإنسان المسيحي أن يتقدَّم ليأكل الجسد ويشرب الدم لينال هذا الخلاص الثمين.. "يُعطى عنَّا خلاصًا وغفرانًا للخطايا" (القداس الإلهي). ثانيًا: الإفخارستيا والحياة الأبدية:- إننا ننال الحياة الأبدية بالإيمان بألوهية السيد المسيح"الذي يؤمِنُ بالاِبنِ لهُ حياةٌ أبديَّةٌ، والذي لا يؤمِنُ بالاِبنِ لن يَرَى حياةً بل يَمكُثُ علَيهِ غَضَبُ اللهِ" (يو3: 36)"الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّ مَنْ يَسمَعُ كلامي ويؤمِنُ بالذي أرسَلَني فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ، ولا يأتي إلَى دَينونَةٍ، بل قد انتَقَلَ مِنَ الموتِ إلَى الحياةِ" (يو5: 24)"الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: مَنْ يؤمِنُ بي فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ" (يو6: 47). ولكن أيضًا هذا الإيمان النظري لا يكفي، فلابد من الشركة في التناول من جسد الرب ودمه الأقدسين.. لننال الحياة الأبدية حسب قول السيد المسيح: "مَنْ يأكُلُ جَسَدي ويَشرَبُ دَمي فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ، وأنا أُقيمُهُ في اليومِ الأخيرِ" (يو6: 54). بل لقد أعلن السيد المسيح أنه بدون التناول من جسد الرب ودمه لا يمكن أن ينال الإنسان الحياة.. "الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنْ لم تأكُلوا جَسَدَ ابنِ الإنسانِ وتشرَبوا دَمَهُ، فليس لكُمْ حياةٌ فيكُم" (يو6: 53). أي أنه لا يوجد طريق آخر للحياة إلاَّ التناول من جسد الرب ودمه فالمسيح هو حياتنا.. راجع (كو3: 4)، وبدونه لا يكون لنا حياة. وهذا يفسر لنا لماذا "أُجرَةَ الخَطيَّةِ هي موتٌ" (رو6: 23). فالخطية هي انفصال عن الله، وهذا يؤدي حتمًا إلى الموت، كمثل انقطاع تيار الكهرباء عن المصباح الكهربائي، وكما أنه لا يمكن أن يعود الضوء إلى المصباح إن لم يتصل مرة أخرى بنفس التيار الكهربائي، بنفس الفولت والتردد.. وكذلك لا يمكن للإنسان أن يحيا إن لم يتصل مرة أخرى بالله ولذلك كان تدبير التجسد والفداء.. ففي التجسد اتحد اللاهوت بالناسوت في شخص ربنا يسوع المسيح اتحادًا أقنوميًا فريدًا ليس له نظير. وهذا الاتحاد أدى إلى انسكاب الحياة من لاهوت السيد المسيح إلى ناسوته، فأصبح الناسوت حيًّا ومُحييًا بقوة اللاهوت الذي فيه ولذلك ما كان يمكن أن يستمر هذا الناسوت في الموت، بل كان لا بد أن يقوم.. "الذي أقامَهُ اللهُ ناقِضًا أوجاعَ الموتِ، إذ لم يَكُنْ مُمكِنًا أنْ يُمسَكَ مِنهُ" (أع2: 24) حقًا لم يكن ممكنًا أن يُمسك من الموت إذ هو الحياة "أنا هو القيامَةُ والحياةُ" (يو11: 25) "أنا هو الطَّريقُ والحَقُّ والحياةُ" (يو14: 6) فالجسد الحاضر على الأرض ويمشي بين الناس هو جسد الله الكلمة الذي "فيهِ كانَتِ الحياةُ" (يو1: 4)، "لأنَّ عِندَكَ يَنبوعَ الحياةِ" (مز36: 9). نحن هنا نتكلَّم عن جسد المسيح الحي والمُحي، جسده الخاص الذي أخذه من القديسة العذراء مريم، وصار متحدًا اتحادًا أقنوميًا كاملاً بلاهوته الطاهر.. لكن كيف أنال أنا الحياة الأبدية؟!!لقد وضع لنا السيد المسيح طريقة سهلة جدًّا ننال بها الحياة به إذ قال"أنا هو خُبزُ الحياةِ" (يو6: 48) "أنا هو الخُبزُ الحَيُّ الذي نَزَلَ مِنَ السماءِ. إنْ أكلَ أحَدٌ مِنْ هذا الخُبزِ يَحيا إلَى الأبدِ. والخُبزُ الذي أنا أُعطي هو جَسَدي الذي أبذِلُهُ مِنْ أجلِ حياةِ العالَمِ" (يو6: 51) "مَنْ يأكُلْ هذا الخُبزَ فإنَّهُ يَحيا إلَى الأبدِ" (يو6: 58) وقد أعطانا فعلاً الرب يسوع جسده لنأكله ودمه لنشربه حتى نحيا به، وعلَّمنا أن هذا الأكل وهذا الشرب هما وسيلة الحياة الأبدية"فقالَ لهُمْ يَسوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنْ لم تأكُلوا جَسَدَ ابنِ الإنسانِ وتشرَبوا دَمَهُ، فليس لكُمْ حياةٌ فيكُم. مَنْ يأكُلُ جَسَدي ويَشرَبُ دَمي فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ، وأنا أُقيمُهُ في اليومِ الأخيرِ، لأنَّ جَسَدي مأكلٌ حَقٌّ ودَمي مَشرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يأكُلْ جَسَدي ويَشرَبْ دَمي يَثبُتْ فيَّ وأنا فيهِ. كما أرسَلَني الآبُ الحَيُّ، وأنا حَيٌّ بالآبِ، فمَنْ يأكُلني فهو يَحيا بي" (يو6: 53-57)وكأن السيد المسيح قد ذخر طاقة الحياة الأبدية في هذا الجسد المُقدَّس، وأعطانا أن نأكله كي نحيا به ونهتف مع مُعلِّمنا بولس الرسول: "لأنَّ ليَ الحياةَ هي المَسيحُ" (في1: 21)، "أحيا لا أنا، بل المَسيحُ يَحيا فيَّ" (غل2: 20). ثالثًا: الإفخارستيا ووحدة الكنيسة:- إذا كانت أسرار الكنيسة كلها تؤول إلى وحدة شعب الله، وقد وضعها الله في الكنيسة لتحقيق هذه الوحدة.. فالسر الذي لا يمكن إدراك كنهه بعيدًا عن مفهوم الوحدة.. هو سر الإفخارستيا.. سر الجسد الواحد.. سر المُصالحة بين الله والإنسان.. بين السماء والأرض.. بين النفس والجسد.. بين الشخص وإخوته إنه سر الكنيسة.. السر المقدس الذي يحقق معنى كلمة كنيسة.. جماعة المؤمنين، وهذا هو أيضًا سر الاجتماع.. حيث تجتمع الكنيسة كلها من أجله وبه، ومن خلاله يحضر السيد المسيح لكي يُتمم وحدة شعبه المقدس إن السيد المسيح - في سر الإفخارستيا – يستحضر شعبه كله إلى واحد.. فبكسر الخبز الواحد، يشترك الكل فيه، فيصير الجميع واحدًا.. "فإنَّنا نَحنُ الكَثيرينَ خُبزٌ واحِدٌ، جَسَدٌ واحِدٌ، لأنَّنا جميعَنا نَشتَرِكُ في الخُبزِ الواحِدِ" (1كو10: 17)، نصير جسدًا واحدًا للرأس الواحد، ولنا آب واحد، ويصير الكل عائلة إلهية واحدة. بهذا يجتذبنا المسيح يومًا فيومًا إلى اتحاد أعمق مع الآب والابن، ومع بعضنا بعضًا بالروح القدس، وهذا ما يُعبِّر عنه القديس "أغسطينوس" بقوله: "ينشأ سر سلامنا ووحدتنا فوق مذبحه". الاجتماع الإفخارستي يُعبِّر عن طبيعة الكنيسة:- يقول القديس "يوستينوس الشهيد" (القرن الثاني الميلادي): "في يوم الأحد يجرى عندنا في مكان واحد اجتماع جميع الساكنين في المدن والقرى، كانوا يجتمعون معًا برئاسة الأب الأسقف ليقيموا سر الإفخارستيا" ما كانوا – قديمًا – يقيمون في المدينة الواحدة إلا إفخارستيا واحدة بقيادة الأسقف الواحد للمدينة تعبيرًا عن وحدانية الكنيسة، وما كانوا يقيمون الإفخارستيا إلا إذا اجتمع كل شعب الله معًا يبدو أن الوضع تغيّر بسبب كثرة عدد المسيحيين، وعدم إمكانية اجتماعهم معًا في مكان واحد يضم الجميع.. فصار من حق الكهنة المحليين أن يقيموا إفخارستيا منفصلة عن إفخارستية الأب الأسقف، ولكنهم ملتزمون بنفس الإيمان والممارسة والتعليم، ولا يقيمونها إلا بإذنه وبحِّل من فمه. ولذلك يذكرون اسم الأسقف في كل قداس داخل إيبارشيته لإعلان وحدتهم معه كما أنهم في بداية خدمة القداس يتلون (تحليل الخدام)، ويذكرون فيه أسماء الآباء الأرثوذكس – الذين دافعوا عن الإيمان الأرثوذكسي – ساويرس وديسقوروس وكيرلس وذهبي الفم وأثناسيوس وبطرس خاتم الشهداء, وآباء المجامع الثلاثة المسكونية ثم من فم البابا والأب الأسقف.. إعلانًا أن هذا القداس ليس منفصلاً عن ليتورجية الآباء الأرثوذكس وعن أسقف المدينة. لذلك – فبالرغم من تعدّد القداسات في نفس الميعاد وفى نفس المدينة.. لكن ظل المعنى قائمًا أنه قداس واحد ممتد ومنتشر.. ممتد من مارمرقس إلى أثناسيوس وحتى اليوم، ومنتشر في كل مكان، ولكن المذبح واحد والجسد واحد والكنيسة جامعة، والكاهن واحد هو ربنا يسوع المسيح، وكهنة بشريون يمارسون كهنوت المسيح الواحد في هذا يقول القديس "أغناطيوس الأنطاكي": "كونوا غيورين, مواظبين على سر الشكر، لأن جسد ربنا يسوع المسيح واحد، الكأس واحدة في جسده الواحد، مائدة واحدة، وأسقف واحد مع الكهنة والشمامسة الخادمين معه. وعليه إذًا فكل ما تفعلونه, فافعلوه كأنه آت من الله"ومرة أخرى يقول القديس "أغناطيوس" موجهًا كلامه إلى الأفسسيين: "أما أنتم فلا تفعلوا شيئًا بدون الأسقف والكهنة، ولا تحاولوا أن تتمموا أي عمل منفردين، وإذا ظهر لكم أنه ضروري فافعلوه في الكنيسة، ولتكن صلاة واحدة، غفران واحد، فكر واحد، رجاء واحد في المحبة في الفرح الكامل. إن يسوع المسيح واحد، وليس شيء أفضل منه، وهكذا أنتم أسرعوا إلى هيكل الله الواحد، إلى مائدة واحدة وإلى يسوع المسيح الواحد"إن وحدة المذبح المقدس شرط، واجتماع الشعب معًا شرط، والأب الأسقف يتقدم إلى المائدة المقدسة الواحدة عندما تجتمع الكنيسة كلها معًا، ولا يستطيع أن يقيم الإفخارستيا بالاستقلال عن أعضاء الكنيسة المجتمعين حول هذه المائدة الواحدة. "حيث يكون الأسقف، فهنالك يجب أن يكون الشعب" (القديس أغناطيوس)فالمعنى الجميل لوحدانية الكنيسة، وعدم انقسامها يتحقق بأجلى وضوح في إقامة قداس الإفخارستيا. ولذلك نقول في القداس: "إجعلنا مستحقين – يا سيدنا – أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي نكون جسدًا واحدًا، وروحًا واحدًا، ونجد نصيبًا وميراثًا مع جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء" (القداس الباسيلي). صلوات الإفخارستيا تبرز معنى الوحدة الكنسية: (1) جميع الصلوات تُقدّم بلسان الكاهن، وبصيغة الجمع: "نشكرك، نسأل ونطلب، نسجد..". فالكاهن ينوب عن الشعب مُعبِّرًا عن وحدته واجتماعه.. "أنت الذي ينبغي لك التمجيد بصوت واحد من كل أحد..". (2) تهتم الليتورجيا بالصلاة عن كل الغائبين بالجسد.. حتى يتم اكتمال حضور الجميع بالروح قبل بدء الأنافورا. - ففي رفع بخور عشية نصلي من أجل إخوتنا وآبائنا الذين سبقوا ورقدوا في الإيمان المسيحي، وكذلك أيضًا نذكرهم في الترحيم بعد المجمع. - وفي رفع بخور باكر نصلي من أجل المرضى ومن أجل المسافرين. - وكذلك تصلي الكنيسة من أجل خلاص العالم وكل مدينة. - وتصلي من أجل الفقراء، ومن أجل الأرملة واليتيم والغريب والضيف. - وتصلي أيضًا من أجل الهراطقة أن يهدم الله آراءهم الهرطوقية، ويعودوا إلى حظيرة الإيمان الأرثوذكسي. - وتصلي أيضًا عن المتضايقين والموعوظين. - وعن الرئيس والمسئولين والجيران والمعارف. هذه الصلوات التي تقدمها الكنيسة بروح التوسل إلى عريسها المسيح.. إنما تُعبِّر تعبيرًا جيدًا عن معنى الإفخارستيا الحقيقي وهو تجميع الكل في المسيح ليكون الجميع جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا، ويكون هناك الاهتمام الواحد. (3) توزيع مزامير السواعي على جمهور المُصلين.. له أيضًا دلالة روحية جميلة، فما يُصليه الشخص بمفرده (12 مزمور في كل صلوة).. تُصليه الكنيسة معًا باعتبارها جسد واحد، ونحن أعضاؤه.. نتشارك معًا في الصلاة والطلبة. (4) في الصلوات التي يعترف فيها الكاهن بخطاياه وضعفاته أمام الله يتكلَّم بصيغة المفرد "أنت يا سيد العارف أني غير مستحق وليس لي وجه أن أقترب.. اغفر لي أنا الخاطئ.."، وعندما يتكلَّم مع الله عن احتياج الشعب يتكلَّم بصيغة الجمع (في نفس الصلوة): "نعم يا سيدنا كن معنا، اشترك في العمل معنا، باركنا، لأنك أنت هو غفران خطايانا، ضياء أنفسنا، حياتنا، وقوتنا ودالتنا" (صلاة الاستعداد)وهنا تُميز الكنيسة بوضوح بين وحدتنا أمام الله، وبين مسئولية كل شخص عن خطاياه الخاصة وتعدياته. والكاهن بروح متضعة - كما تلقنه الليتورجيا - يقر بخطاياه الخاصة، ويطلب عن الشعب، وإذا تكلَّم عن تعديات شعبه أمام الله يذكر أنها (جهالات). (5) في بداية ليتورجية القداس يعلن الكاهن ووجهه نحو الشعب ماسكًا القربانة فوق رأسه "مجدًا وإكرامًا للثالوث.. سلامًا وبنيانًا لكنيسة الله..". فالإفخارستيا هي بنيان الكنيسة بتجميع أعضائها، وتوحيدهم في جسد الله. وهنا كما في أوشية سلام الكنيسة تُذكر صفات الكنيسة التي هي واحدة وحيدة مقدسة جامعة رسولية أرثوذكسية. وهذا ما تؤكده صلوات الليتورجيا دائمًا أن الكنيسة واحدة غير منقسمة، وأنها وحيدة (أي فريدة في وحدتها) وارتباطها بالله، وأنها جامعة من كل مكان بدون تمييز أو تعصب.. فقط أن يكون الجميع واحدًا في الإيمان الأرثوذكسي. "هذه الكائنة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها، كل الشعوب وكل القطعان.." (أوشية السلام). (6) تهتم الليتورجيا القبطية بذكر آباء الكنيسة لنضمن اجتماعهم معنا.. فنذكر اسم بابا الكنيسة وأسقف الإيبارشية، كما نصلي عن الآباء القمامصة والقسوس وكل الشمامسة وكل الخدام. والأجمل من هذا أن الليتورجيا تهتم بأن نأخذ الحِّل من فم الآباء البطاركة والقديسين الأولين المدافعين عن الأرثوذكسية قبل أن نبدأ الأنافورا. فنحن نؤمن أنهم مازالوا أحياء ومازالوا يمارسون سلطانهم الكهنوتي في السماء، وأنهم حاضرون معنا في القداس، ولن يسمحوا لهرطوقي أن يشارك في الإفخارستيا، لذلك فالكنيسة تستأذنهم قبل البدء بالصلاة، ليكونوا معنا ويباركوا صلواتنا.. إنها شركة مقدسة رائعة. (7) وتهتم الليتورجيا أيضًا بإبراز حضور القديسين من خلال الهيتنيات، وصلاة المجمع، وفي السنكسار وفي التمجيد. إنهم مازالوا معنا في الجسد الواحد.. لم ينفصلوا بالموت بل تعمق انتماؤهم وهم الآن في السماء يجذبوننا بحبال الحب ليتعمق انتماؤنا نحن أيضًا لهذا الجسد المقدس العظيم. (8) ووجود هؤلاء القديسين معنا يحفّز توبتنا وقداستنا "نسألك يا سيدنا إجعلنا مستحقين نصيبهم وميراثهم، وأنعم لنا كل حين أن نسلك في آثارهم، ونكون متشبهين بجهادهم، ونشترك في العرق الذي قبلوه من أجل التقوى.. حارسًا بيعتك المقدسة هذه التي أسستها بواسطتهم.. وبارك خراف قطيعك، واجعل هذه الكرمة تكثر.." (سر الكاثوليكون). (9) صلاة الصلح جزء أساسي من ليتورجية القداس القبطي، ولا يمكن أن يبدأ الكاهن الأنافورا ويرفع الإبروسفارين من على المذبح إلا إذا نادى الشماس "قبلوا بعضكم بعضًا بقبلة مقدسة..". وتكون هذه القبلة المقدسة علامة الحب والمصافحة والمسامحة، ويكون جميع مَنْ بالكنيسة بروح واحد ومحبة كاملة.. حينئذ يمكن للكاهن أن يقول: "ارفعوا قلوبكم". إن القبلة المقدسة هي شرط للتناول من جسد الرب ودمه.. "إجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نقبل بعضنا بعضًا بقبلة مقدسة، لكي نتناول بغير طرحنا في دينونة من موهبتك غير المائتة السمائية". (10) يحضر معنا في القداس أيضًا الطغمات الملائكية، وليس القديسون فقط "الملائكة ورؤساء الملائكة والرئاسات والسلطات والكراسي والربوبيات والقوات، والشاروبيم والسيرافيم"، بل بالأكثر أننا نشاركهم تسبحتهم الإلهية.. "قدوس قدوس قدوس". (11) تؤكد الليتورجيا أيضًا على وصف الكنيسة بأنها (شعب مجتمع) "وجعلنا له شعبًا مجتمعًا". وهذه صفة محبوبة جدًّا تُعبِّرعن طبيعة شعب الله وجوهر الكنيسة، وتُعبِّر عن فعل الإفخارستيا في البشر في تجميعهم معًا في جسد واحد. (12) وبعد حلول الروح القدس في القداس الإلهي يصلي الكاهن معلنًا فعل الإفخارستيا فينا "إجعلنا كلنا مستحقين يا سيدنا أن نتناول من قدساتك (الجسد والدم) طهارةً لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي نكون جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا، ونجد نصيبًا وميراثًا مع جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء". (13) في ختام صلاة القسمة يصلي أبونا قائلاً: "طهِّر نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا وقلوبنا وعيوننا وأفهامنا ونياتنا.."، لاحظ أن هذه العبارات تُقال بصيغة الجمع، أي تُعبِّر عن كل الكنيسة.. تأمل بعد ذلك صيغة الصلاة.. "لكي بقلب (واحد) طاهر ونفس (واحدة) مستنيرة ووجه (واحد) غير مخزي..".. هذه الصيغة بالمفرد. لقد صارت الكنيسة قلبًا واحدًا طاهرًا، ونفسًا واحدة مستنيرة، ووجهًا واحدًا غير مخزي أمام الله.. وبمحبة كاملة. (14) وقبل التناول يصلي الأب الكاهن التحليل لتُغفر خطايانا، ونتقدم باستحقاق لشركة التناول، وفي صلاته هذه يقول: "لكي إذا طهرتنا كلنا (بالروح القدس وبالقداس) تؤلفنا بك (أي تجعلنا واحدًا كلنا معك) من جهة (بواسطة) تناولنا من أسرارك الإلهية"، إن الروح القدس في القداس يطهرنا، "وصيرنا أطهارًا بروحك القدوس". والتناول يوحدنا.. ووحدتنا مبنية على هذه الطهارة. ويؤكد أبونا هذه الطلبة قبل التناول مباشرة "وليجعلنا تناولنا من أسرارك المقدسة واحدًا معك إلى الانقضاء، لكي نكون جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا معك"إن ليتورجية القداس تعلن بكل وضوح فعل الإفخارستيا في تجميع شعب الله ووحدته.. وتشرح لنا كيف أن: "مَنْ يحرم نفسه من المذبح فهو محروم من الله، ويحسب ذئبًا مهما كان مظهره معتدلاً". (15) وفي القداس الغريغورى: "وصرت لنا وسيطًا مع الآب والحاجز المتوسط نقضته، والعداوة القديمة هدمتها، وصالحت الأرضيين مع السمائيين، وجعلت الاثنين واحدًا، وأكملت التدبير بالجسد" (صلاة الصلح). "الذي بكثرة رحمته حل عداوة البشر" (مقدمة القسمة في القداس الغريغوري). (16) وتعبَّر أيضًا ليتورجية "القديس غريغوريوس" عن كمال العلاقة التي تربط بين السمائيين والأرضيين بسبب الوحدة والصلح الذي أكمله السيد المسيح بالصليب: "الذي ثبَّت قيام صفوف غير المتجسدين (الملائكة) في (بين صفوف) البشر، الذي أعطى الذين على الأرض (البشر) تسبيح السيرافيم، اقبل منا نحن أيضًا أصواتنا مع غير المرئيين، احسبنا (معدودين ضمن) مع القوات السمائية". (17) وتبرز أيضًا ليتورجية القديس غريغوريوس الحب الإلهي الذي يغمر الجنس البشري.. في الخلق والفداء والرعاية اليومية.. تبرز الحب الإلهي ليكون نموذجًا للسلوك الإنساني.. وكأن الليتورجيا تُفسِّر لنا الآية المقدسة.. "أيُّها الأحِبّاءُ، إنْ كانَ اللهُ قد أحَبَّنا هكذا، يَنبَغي لنا أيضًا أنْ يُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا" (1يو4: 11)إن محبة الله لنا لا يمكن التعبير عنها: "ليس شيء من النُطق يستطيع أن يَحُد لُجة (كثرة) محبتك للبشر"المحبة هي سبب الخلق: "خلقتني إنسانًا كمحب البشر".. "من أجل تعطفاتك الجزيلة كونتني إذ لم أكن"المحبة تظهر بوضوح في خليقة الله الخادمة للإنسان واحتياجاته: "أقمت السماء لي سقفًا، ثبت ليَّ الأرض لأمشي عليها، من أجلي ألجمت (أغلقت – وضعت حدودًا) البحر، من أجلي أظهرت طبيعة الحيوان، أخضعت كل شيء تحت قدمي، لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك"وكذلك تظهر المحبة في خلق الإنسان متميزًا عن كل الخليقة الأخرى: "أنت الذي جبلتني ووضعت يدك عليَّ، ورسمت فيَّ صورة سلطانك ووضعت فيَّ موهبة النطق، وفتحت ليَّ الفردوس لأتنعم، وأعطيتني عِلم معرفتك.."وتتجلى المحبة الإلهية بأكثر وضوح في فداء الإنسان: "أنت يا سيدي حولت ليَّ العقوبة خلاصًا، كراعٍ صالح سعيت في طلب الضال، كأب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط.. أنت الذي خدمت لي الخلاص لما خالفت ناموسك"ولم يكن الفداء مجرد موت من أجل الإنسان ونيابة عنه.. بل كان هناك أيضًا التجسد بكل تبعاته التي قبلها الله الكلمة، ورضى بها حبًا بنا.. "واضعت ذاتك وأخذت شكل العبد، باركت طبيعتي فيك، وأكملت ناموسك عني، عرفتني القيام من سقطتي.. أزلت لعنة الناموس.. احتملت ظلم الأشرار بذلت ظهرك للسياط، وخديك أهملتهما للطم، لأجلي يا سيدي لم ترد وجهك عن خزي البصاق" وكانت حياة السيد المسيح على الأرض تفيض حبًا وعطاءً لكل الناس: "وهبت النظر للعميان، أقمت الموتى من القبور، أقمت الطبيعة بالكلمة.. أعطيت إطلاقًا لمَنْ قُبض عليهم في الجحيم" وتستمر الليتورجية في شرح هذا الحب الإلهي: "أتيت إلى الذبح مثل حمل حتى إلى الصليب، أظهرت عظم اهتمامك بي، قتلت خطيتي بقبرك، أصعدت باكورتي إلى السماء" "نشكرك.. لأنك أحببتنا هكذا، وبذلت ذاتك للذبح من أجل خطايانا، شفيتنا بضرباتك وأبرأتنا بجراحاتك، وأنعمت علينا بالحياة من قبل جسدك المقدس ودمك الكريم" (صلاة الشكر بعد التناول)إن الحب الإلهي الرائع الذي تشرحه ليتورجية القديس غريغوريوس.. إنما هي نموذج تلح به الكنيسة على أذهان المؤمنين أثناء الصلاة، لينطبع فيهم ويصير موجِّهًا لسلوكهم اليومي. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
12 فبراير 2019

عصر ما بعد داود وسليمان - الجزء الثاني

+ نهضة في عهد يهوياداع الكاهن.. وقد حدثت نكسات أخرى في حياة الشعب، وسادت الشرور والآثام، وتراجعت الروحانية والحب والتسبيح حتى قام كاهن عظيم هو "يهوياداع". ردَّ يهوياداع الشعب إلى الله، وخلع "عثليا" الملكة الشريرة، وملَّك يوآش بن أخزيا. وكان تجليس الملك في حفل ديني مهيب أعاد إلى الأذهان مجد الهيكل القديم أيام داود وسليمان: "وإذا المَلِكُ واقِفٌ علَى مِنبَرِهِ في المَدخَلِ، والرّؤَساءُ والأبواقُ عِندَ المَلِكِ، وكُلُّ شَعبِ الأرضِ يَفرَحونَ ويَنفُخونَ بالأبواقِ، والمُغَنّونَ بآلاتِ الغِناءِ، والمُعَلمونَ التَّسبيحَ" (2أخ13:23). وبعد حفل التجليس هذا الذي أحيا مجد التسبيح في الهيكل.. "قَطَعَ يَهوياداعُ عَهدًا بَينَهُ وبَينَ كُل الشَّعبِ وبَينَ المَلِكِ أنْ يكونوا شَعبًا للرَّب" (2أخ16:23). لقد كان من علامات هذه النهضة الروحية أن "جَعَلَ يَهوياداعُ مُناظِرينَ علَى بَيتِ الرَّب عن يَدِ الكهنةِ اللاويينَ الذينَ قَسَمَهُمْ داوُدُ علَى بَيتِ الرَّب، لأجلِ إصعادِ مُحرَقاتِ الرَّب، كما هو مَكتوبٌ في شَريعَةِ موسَى، بالفَرَحِ والغِناءِ حَسَبَ أمرِ داوُد" (2أخ18:23). لقد كان التسبيح هو المقياس الذي يقيس درجة الحرارة الروحية لشعب الله. والنظام الذي أرساه داود النبي كان هو المعيار والمرجع عند إعادة أي ترتيب لخدمة الهيكل. + نهضة في عهد حَزَقيَّا الملك البار.. قام في يهوذا ملك عظيم تقي هو "حَزَقيَّا" الذي قيل عنه إنه "عَمِلَ المُستَقيمَ في عَينَيِ الرَّب حَسَبَ كُل ما عَمِلَ داوُدُ أبوهُ" (2أخ2:29). هذا الملك القديس اجتهد أن ينهض بالشعب روحيًا "فتحَ أبوابَ بَيتِ الرَّب ورَمَّمَها" (2أخ3:29)، ونبَّه الكهنة واللاويين إلى التوبة (راجع 2أخ4:29-11). ثم "أوقَفَ اللاويينَ في بَيتِ الرَّب بصُنوجٍ ورَبابٍ وعيدانٍ حَسَبَ أمرِ داوُدَ وجادَ رائي المَلِكِ وناثانَ النَّبي، لأنَّ مِنْ قِبَلِ الرَّب الوَصيَّةَ عن يَدِ أنبيائهِ. فوَقَفَ اللاويّونَ بآلاتِ داوُدَ، والكهنةُ بالأبواقِ. وأمَرَ حَزَقيّا بإصعادِ المُحرَقَةِ علَى المَذبَحِ. وعِندَ ابتِداءِ المُحرَقَةِ ابتَدأَ نَشيدُ الرَّب والأبواقُ بواسِطَةِ آلاتِ داوُدَ مَلِكِ إسرائيلَ. وكانَ كُلُّ الجَماعَةِ يَسجُدونَ والمُغَنّونَ يُغَنّونَ والمُبَوقونَ يُبَوقونَ. الجميعُ، إلَى أنِ انتَهَتِ المُحرَقَةُ" (2أخ25:29-28). كانت عودة رائعة إلى الله، فيها اقترنت – مثلما فعل داود – الذبيحة الدموية مع ذبيحة التسبيح. وبعد ذلك: "قالَ حَزَقيّا المَلِكُ والرّؤَساءُ للاويينَ أنْ يُسَبحوا الرَّبَّ بكلامِ داوُدَ وآسافَ الرّائي، فسَبَّحوا بابتِهاجٍ وخَرّوا وسجَدوا... فاستَقامَتْ خِدمَةُ بَيتِ الرَّب. وفَرِحَ حَزَقيّا وكُلُّ الشَّعبِ مِنْ أجلِ أنَّ اللهَ أعَدَّ الشَّعبَ" (2أخ30:29،35-36). كانت أيام حزقيا أيامًا روحية عاد فيها الشعب للرب، وعملوا "عيدَ الفَطيرِ سبعَةَ أيّامٍ بفَرَحٍ عظيمٍ، وكانَ اللاويّونَ والكهنةُ يُسَبحونَ الرَّبَّ يومًا فيومًا بآلاتِ حَمدٍ للرَّب... وأكلوا المَوْسِمَ سبعَةَ أيّامٍ، يَذبَحونَ ذَبائحَ سلامَةٍ ويَحمَدونَ الرَّبَّ إلهَ آبائهِمْ... وفَرِحَ كُلُّ جَماعَةِ يَهوذا، والكهنةُ واللاويّونَ... وكانَ فرَحٌ عظيمٌ في أورُشَليمَ، لأنَّهُ مِنْ أيّامِ سُلَيمانَ بنِ داوُدَ مَلِكِ إسرائيلَ لم يَكُنْ كهذا في أورُشَليمَ. وقامَ الكهنةُ اللاويّونَ وبارَكوا الشَّعبَ، فسُمِعَ صوتُهُمْ ودَخَلَتْ صَلاتُهُمْ إلَى مَسكَنِ قُدسِهِ إلَى السماءِ" (2أخ21:30-27). كَمُلَت الفرحة الحقيقية إذ "أقامَ حَزَقيّا فِرَقَ الكهنةِ واللاويينَ حَسَبَ أقسامِهِمْ، كُلُّ واحِدٍ حَسَبَ خِدمَتِهِ، الكهنةَ واللاويينَ للمُحرَقاتِ وذَبائحِ السَّلامَةِ، للخِدمَةِ والحَمدِ والتَّسبيحِ في أبوابِ مَحَلاَّتِ الرَّب" (2أخ2:31). كذلك اهتم الملك حزقيا بأن يعطي مرتبات مجزية للكهنة واللاويين والمُسبِّحين، ولاحتياجات الهيكل "وأعطَى المَلِكُ حِصَّةً مِنْ مالِهِ للمُحرَقاتِ، مُحرَقاتِ الصّباحِ والمساءِ... وقالَ للشَّعبِ سُكّانِ أورُشَليمَ أنْ يُعطوا حِصَّةَ الكهنةِ واللاويينََ، لكَيْ يتمَسَّكوا بشَريعَةِ الرَّب" (2أخ3:31-4). + نهضة في عهد يوشيا الملك.. في عهد "يوشيا" الملك البار حدثت نهضة روحية جديدة، وكان أيضًا من علامات هذه النهضة أنه اهتم بترتيب خدمة التسبيح: "وكانَ الرجالُ يَعمَلونَ العَمَلَ بأمانَةٍ، وعلَيهِمْ وُكلاءُ... ومِنَ اللاويينَ كُلُّ ماهِرٍ بآلاتِ الغِناءِ" (2أخ12:34)، "عَمِلَ يوشيّا في أورُشَليمَ فِصحًا للرَّب" (2أخ1:35)، وذبح الذبائح واهتم بالتسبيح مع الذبيحة وباقي الترتيبات: "والمُغَنّونَ بَنو آسافَ كانوا في مَقامِهِمْ حَسَبَ أمرِ داوُدَ وآسافَ وهَيمانَ ويَدوثونَ رائي المَلِكِ" (2أخ15:35). لذلك فعند موته "كانَ جميعُ المُغَنينَ والمُغَنياتِ يَندُبونَ يوشيّا في مَراثيهِمْ" (2أخ25:35). إن الأحوال السياسية والعسكرية للمملكة كانت تتأرجح صعودًا وهبوطاً، وكانت حياتهم الروحية تتذبذب أيضًا بين الروحانية العالية، والانتكاس إلى الأوثان.. أما التسابيح الكنسية فكانت هي المؤشر المُعبِّر بصدق عن عمق روحانية الشعب، ومحبته لله وانتمائه للهيكل.. فكانت تعلو مع ارتفاع الروحانية وتهبط مع النكسات الروحية حتى وصلت قمة مأساة شعب الله عند سبي بابل. فما هي إذًا قصة هذا السبي؟ نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
05 فبراير 2019

عصر ما بعد داود وسليمان

+ إنْ حَفِظَ بَنوكَ عَهدي.. رأينا فيما سبق كيف أعد الله داود النبي، ومن بعده ابنه سليمان الحكيم، لإدخال خدمة ذبيحة التسبيح إلى خدمة العبادة الرسمية في الهيكل. وكيف صار التسبيح الكنسي ذا شأن عال جدًّا، وعلى أعلى مستوى من التنظيم والمهارة والخبرة والفن. وكان الملك داود ومن بعده سليمان يهتمان بهذا النشاط الروحي بنفسيهما. الآن وبعد أن "اضطَجَعَ سُلَيمانُ مع آبائهِ فدَفَنوهُ في مدينةِ داوُدَ أبيهِ. ومَلكَ رَحُبعامُ ابنُهُ عِوَضًا عنهُ" (2أخ31:9).. ماذا حدث لخدمة التسبيح؟ ماذا حدث لهؤلاء المغنين والعازفين الذين كان الملك نفسه يهتم بهم وباحتياجاتهم، ويتابع بنفسه نشاطهم وخدمتهم، ويصرف على خدمتهم وحياتهم وبيوتهم من خزينة الملك؟ (1) رحبعام والانقسام.. وتدهور خدمة التسبيح لقد انقسمت المملكة بسبب سوء تصرف رحبعام، وصارت المملكة مملكتين (يهوذا وإسرائيل)، وفي الغالب كانت مملكة يهوذا أكثر تدينًا من مملكة إسرائيل، "وكانَتْ حَربٌ بَينَ رَحُبعامَ (ملك يهوذا)، ويَرُبعامَ (ملك إسرائيل) كُلَّ أيّامِ حَياتِهِ" (1مل6:15). انصرف الملك والجيش والناس إلى الحرب، ولم يعد أحد ينتبه إلى هؤلاء المرنمين والموسيقيين الموهوبين ليرعاهم.. فبدأت خدمة التسبيح في الانحدار والانحطاط. وحافظ سبطا يهوذا وبنيامين بالكاد على خدمة الذبائح فقط، في مقابل انسياق كل باقي أسباط إسرائيل وراء الأوثان. هذا ما عيَّر به "أبِيَّا" ملك يهوذا شعب إسرائيل المنحرفين وراء يربعام الملك عابدين الأوثان قائلاً: "وأنتُمْ جُمهورٌ كثيرٌ ومَعَكُمْ عُجولُ ذَهَبٍ قد عَمِلها يَرُبعامُ لكُمْ آلِهَةً. أما طَرَدتُمْ كهنةَ الرَّب بَني هارونَ واللاويينَ، وعَمِلتُمْ لأنفُسِكُمْ كهنةً كشُعوبِ الأراضي (الأمم)... للذينَ ليسوا آلِهَةً؟ وأمّا نَحنُ فالرَّبُّ هو إلهنا، ولم نَترُكهُ. والكهنةُ الخادِمونَ الرَّبَّ هُم بَنو هارونَ واللاويّونَ في العَمَلِ، ويوقِدونَ للرَّب مُحرَقاتٍ كُلَّ صباحٍ ومساءٍ" (2أخ8:13-11). في هذا الكلام ذكر "أبيّا" خدمات الهيكل التي نظمها موسى، ولم يتطرق إلى ذكر فرق التسبيح التي نظمها داود، ومن بعده سليمان. ومن ذلك يبدو أن هذه الفرق كانت قد ضعفت أو توقفت.. أي أن أسباط مملكة إسرائيل (الشمالية) انساقت إلى الأوثان، وتركت عبادة الله الحي.. ومملكة يهوذا (الجنوبية) أيضًا قد انشغلت، وتركت عنها خدمة التسبيح. فقد كانت البلاد في حالة حرب وفوضى وانشغالات كثيرة "وفي تِلكَ الأزمانِ لم يَكُنْ أمانٌ للخارِجِ ولا للدّاخِلِ، لأنَّ اضطِراباتٍ كثيرَةً كانَتْ علَى كُل سُكّانِ الأراضي" (2أخ5:15). لم يدُم الأمر هكذا كثيرًا، بل كانت ذبيحة التسبيح تتأرجح في قوتها بحسب زمان الملك الذي يملِك، وظروف المملكة.. فإن كان الملك بارًا تقيًا والمملكة في حالة سلام كان التسبيح يأخذ مكانته في الاهتمام والاعتبار، وإذا كان الملك شريرًا معوجًا والمملكة في حالة حرب وفوضى كان يضعف الاهتمام بالتسبيح، ويتفرق المُسبِّحون والعازفون، ويتوقف التسبيح من هيكل الرب أو يضعف مستواه الروحي والفني. (2) نهضات روحية متعاقبة كانت من أهم علامات النهضة الروحية التي يقوم بها أي ملك يملك على يهوذا، أو (إسرائيل) أن يعيد إلى الهيكل بهاءه، بتنظيم خدمة التسبيح. + نهضة في عهد آسا الملك.. في عهد "آسا" الملك.. وبَّخ النبي "عزريا بن عوبيد" الشعب، فتنبهوا ونزعوا الرجاسات من كل أرض يهوذا وبنيامين، وعادوا إلى الرب "ودَخَلوا في عَهدٍ أنْ يَطلُبوا الرَّبَّ إلهَ آبائهِمْ بكُل قُلوبِهِمْ وكُل أنفُسِهِمْ" (2أخ12:15). كانت علامة هذا العهد أنهم "حَلَفوا للرَّب بصوتٍ عظيمٍ وهُتافٍ وبأبواقٍ وقُرونٍ. وفَرِحَ كُلُّ يَهوذا..." (2أخ14:15-15). كذلك كانت عودة هتاف التسبيح، هي العلامة المميزة لعودة الروح إلى الشعب، بعد عصور من التمزق والتمرد وعبادة الأوثان والحروب العنيفة. + نهضة في عهد يهوشافاط.. في عهد "يهوشافاط" الملك تعرضت الدولة لهجوم من الأعداء.. فرجعوا إلى الرب، وكان أحد المُسبِّحين هو الذي قاد الشعب للتوبة وهو "يَحزَئيلَ بنَ زَكَريّا... مِنْ بَني آسافَ، كانَ علَيهِ روحُ الرَّب في وسطِ الجَماعَةِ" (2أخ14:20). وكانت عودتهم للرب مرتبطة بالتسبيح "فخَرَّ يَهوشافاطُ لوَجهِهِ علَى الأرضِ، وكُلُّ يَهوذا وسُكّانُ أورُشَليمَ سقَطوا أمامَ الرَّب سُجودًا للرَّب. فقامَ اللاويّونَ مِنْ بَني القَهاتيينَ ومِنْ بَني القورَحيينَ ليُسَبحوا الرَّبَّ إلهَ إسرائيلَ بصوتٍ عظيمٍ جِدًّا" (2أخ18:20-19). في الغد وقف "يهوشافاط" لتحفيز الشعب على العودة للرب، و"أقامَ مُغَنينَ للرَّب ومُسَبحينَ في زينَةٍ مُقَدَّسَةٍ... وقائلينَ: "احمَدوا الرَّبَّ لأنَّ إلَى الأبدِ رَحمَتَه"ُ. ولَمّا ابتَدأوا في الغِناءِ والتَّسبيحِ جَعَلَ الرَّبُّ أكمِنَةً علَى بَني عَمّونَ وموآبَ وجَبَلِ ساعيرَ الآتينَ علَى يَهوذا، فانكَسَروا" (2أخ21:20-22). فكان الفضل في نصرتهم يرجع إلى التسبيح. وعاد الشعب من الحرب "ليَرجِعوا إلَى أورُشَليمَ بفَرَحٍ، لأنَّ الرَّبَّ فرَّحَهُمْ علَى أعدائهِمْ. ودَخَلوا أورُشَليمَ بالرَّبابِ والعيدانِ والأبواقِ إلَى بَيتِ الرَّب" (2أخ27:20-28). يا لفرحة إسرائيل بنصرته على الأعداء، بل بالأحرى بعودة المجد لإسرائيل؛ إذ عادوا يُسبِّحون الله بحسب ترتيب داود وسليمان. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
09 يناير 2019

مولود قبل كل الدهور

يظن البعض أن السيد المسيح قد سُمي (الابن) لأنه وُلد من العذراء مريم، وهذا الظن خاطىء، لأن ربنا يسوع المسيح هو (الابن) منذ الأزل، لأنه مولود من الآب قبل كل الدهور. فهو ابن الله منذ الأزل وإلى الأبد، وصار ابن إنسان بالتجسد في ملء الزمان. ولذلك يرد لقب (الابن) في العهد القديم (أي) قبل التجسد، ففي سفر الأمثال ورد النص التالي: "مَنْ صَعِدَ إلَى السماواتِ ونَزَلَ؟ مَنْ جَمَعَ الرِّيحَ في حَفنتيهِ؟ مَنْ صَرَّ المياهَ في ثَوبٍ؟ مَنْ ثَبَّتَ جميعَ أطرافِ الأرضِ؟ ما اسمُهُ؟ وما اسمُ ابنِهِ إنْ عَرَفتَ؟" (أم30: 4). كما ورد على سبيل النبوة في مواضع كثيرة منها: "مِنْ مِصرَ دَعَوْتُ ابني" (هو11: 1). والابن مولود من الآب قبل الدهور ولادة طبيعية، أي كخروج الشعاع من المصباح، أو ولادة الحرارة من النار. ونقصد بعبارة (الولادة الطبيعية) أنها بدون إرادة، فالشمس يخرج منها النور والحرارة تلقائيًا، ولا تكون شمس إن لم يخرج منها نور وحرارة، وكذلك الآب يخرج منه تلقائيًا الابن المولود والروح القدس المنبثق، ولا يكون آبًا إن لم يكن له ابن وروح خارجان منه باستمرار وبدون انفصال. وإذا لم يكن الله آبًا فماذا سيكون؟!! هل هو صنم لا يتحرك ولا يتفاعل ولا يتكلم ولا ينتج ولا يُؤثر ولا يشعر به أحد (منذ الأزل)؟ حاشا لله أن يكون هكذا.. بل هو كائن حي نابض بالحيوية والاشعاع الحي، لذلك فهو منذ الأزل إله حي يتكلم ويسمع ويتحرك ويحب، وينبعث منه الابن بطريقة الولادة والروح القدس بطريقة الانبثاق. وهناك حوار منذ الأزل بين الأقانيم وهم في وحدانية الجوهر، وهناك حب وحركة وحيوية في الله الواحد المثلث الأقانيم منذ الأزل. وأبوة الله هي مصدر كل أبوة في الخليقة، لأنه إن لم يكن الله أبًا يلد ابنًا، فكيف يخلق خليقة قادرة على الانجاب؟!! "أحني رُكبَتَيَّ لَدَى أبي رَبنا يَسوعَ المَسيحِ، الذي مِنهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشيرَةٍ (أبوة) في السماواتِ وعلَى الأرضِ" (أف3: 14-15).. أي منه تنبع كل أبوة وكل خصب في الخليقة الحية. + هنا يجب أن أوضح مرة أخرى أن الفروق بين ولادة الابن من الآب، وبين ولادة أي كائن من كائن آخر هي: (1) بدون زواج.. فالآب قادر أن يلد بدون مساعدة من أحد. (2) بدون أقدمية.. فالآب أزلي والابن أزلي. (3) بدون انفصال.. فالآب والابن ليسا إلهين منفصلين بل أقنومان متحدان. (4) باستمرار.. فالولادة من الآب مستمرة منذ الأزل وإلى الأبد. (5) بدون إرادة.. لأن خروج الابن من الآب هو خروج طبيعي تلقائي. ونفس الكلام يُقال أيضًا عن خروج الروح القدس من الآب بطريقة الانبثاق، ومع مساواة الأقانيم الثلاثة في الجوهر والألوهة والأزلية والقدرة. + مثال للإيضاح: ولادة الفكر من العقل.. هو أيضًا بدون زواج، وبدون أقدمية العقل عن الفكر، وبدون انفصال، وباستمرار، وبتلقائية. وكذلك ولادة الحرارة من النار، والشعاع من الشمس. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
01 يناير 2019

التجسـد الإلهـى

عقيدة التجسد هى أهم عقيدة فى الإيمان المسيحى لأنها هى التى تميز الفكر المسيحى.. فنجد أن العهد القديم هو بعينه إيمان المسيحية فى العهد الجديد ولكن مع زيادة أن الله تجسد العهد القديم كان ينبئ أن الله سوف يتجسد وفى العهد الجديد تحقق التجسد لذلك فلنتخيل وكأن التجسد هذا صبغة إذا وُضع فيها العهد القديم يخرج العهد الجديد ولذلك فإن الانسان المسيحى الذى لا يفهم التجسد فانه لا يفهم المسيحية ليس فقط نفهم بل ايضاً نعيش ونحيا مفاهيم التجسد. 1- ما معنى التجسد؟ 2- لماذا التجسد؟ 3- ماذا حدث فى التجسد؟ 4 - ما فائدة التجسد؟ 5- ما هى الإعتراضات على التجسد؟ ما معنى التجسد؟-1 + فى حياتنا العادية ممكن أن تتواجد فكرة معينة فى عقلك ونحن لا نراها.. وإذا حاولت وصفها فنحن لا نفهمها فتعمل لنا نموذج لنراها.. ففى هذه الحالة تصبح الفكرة تجسدت.. وايضاً الرسم والشعر والقصص والمسرحية... والمهم أن الشئ الغير محسوس يصير محسوساً والغير منظور يُصبح مرئى. +أما فى الفكر المسيحى.. فإننا نتكلم عن تجسد الله.. الله روح لا يًرى وأراد أن نراه فأخذ لنفسه جسد لكى يجعلنا نراه.. وكما نقول فى التسبحة "غير المرئى رأوه وغير المحسوس لمسوه وغير الزمنى صار تحت الزمان".. الله غير المحدود الذى يملأ الوجود صار إنسان فى حجمنا وشكلنا ومشى على الأرض وسطنا.. وممكن أن نشبه التجسد ايضاً بالإرسال التليفزيونى الذى يًبث من الأقمار الصناعية لكل العالم.. والجهاز الصغير (التليفزيون) هو الذى يستقبل الارسال .. وهذه الموجات هى موجات كهرومغناطيسية لا تًرى.. وهكذا ايضاً إرسال الموبايل (الشبكة).. فإذا كان البشر فعلوا كل هذا.. إلا يستطيع الله أن يتجسد ويصير مرئى لكى نعرفه؟!.. + وكلمة تجسد تعطى معلومة أن المسيح كان كائناً قبل ميلاده من العذراء مريم.. فكلمة تجسد هذه لا تقال عن ولادة أى طفل آخر لأن الطفل العادى لا يكن له وجود أساساً.. أما كلمة تجسد تعنى أنه كان موجود بدون جسد ثم أصبح موجود وله جسد.. وكما يقول معلمنا يوحنا فى رسالته الأولى "الذى كان من البدء الذى سمعناه الذى رأيناه بعيوننا الذى شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة فإن الحياة أُظهرت وقد رأيناه ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التى كانت عند الآب وأُظهرت لنا".. وكلمة أُظهرت تعنى أنها كانت موجودة ولكنها غير ظاهرة.. فالله (المسيح) كان موجود منذ الأزل ولكننا لا نراه لأنه ليس له جسد وهو أراد أن يرينا ذاته فتجسد فى شكل انسان. 2- لماذا التجسد: + تجسد لكى يفدينا من الموت لأن "أجرة الخطية موت" وذلك لأن الخطية إنفصال عن الله ومن ينفصل عن الله يموت.. مثل المصباح الذى ينفصل عن الكهرباء ينطفئ.. إذن فأنا حى بالله وإذا أخطأت أنفصل عن الله وأموت وليس لى رجاء.. فيجئ المسيح ويقول أنه سيموت مكانى.. وتظهر لنا مشكلة وهى أن المسيح لا يمن أن يموت.. فطبيعتة الله فكيف يموت؟!.. وكما نقول فى لحن أجيوس "قدوس الحى الذى لا يموت" طبيعته لا يموت وفى القبطى واليونانى "أثاناطوس" منها كلمة "أثناسيوس" أى "الخالد".. فكيف يموت الله؟!.. فيقول لنا أنه لكى يذوق الموت سيصبح إنسان ولكنه لا يفقد لاهوتيته.. مثل الدكتور الذى يريد أن يكون ضابط فيصبح دكتور ضابط.. وهذا هو ما حدث مع المسيح هو الله (دكتور) ويريد أن يكون انسان (ضابط) فلا يترك اللاهوت بل يدخل كلية الطهر (العذراء مريم) ويبقى داخلها 9 شهور.. ويخرج منها انسان دون أن يفقد لاهوته.. + فالمسيح إله وانسان فى نفس اللحظة.. فممكن أن يعمل أعمال الله أو أعمال الانسان (وكل هذا فى شخصية واحدة فى انسجام بدون انقسام أو إنفصال) وكما نقول فى اللحن "لم يزل إلهاً أتى وصار ابن بشر لكنه هو الإله الحقيقى أتى وخلصنا".. ولم يتغير لاهوته.. فجاء لكى يأخذ جسد (وهذا الجسد قابل للموت فيموت به لأجلنا) وكما نقول فى الأجبية "يا من ذاق الموت بالجسد" وكما نقول فى القداس "بموتك يا رب نبشر" فالله الذى لا يموت مات من أجلنا لأنه أخذ جسد.. + ومثال على ذلك النار لا يمكن أن تمسكها ولكن إذا وضعت فيها حديد يمكن أن تمسكها.. ويصبح الحديد مُحمى بالنار.. وبذلك أصبح الحديد يلسع مثل النار والنار يمكن مسكها مثل الحديد.. ولكن مازال النار نار(لاهوت) والحديد حديد (ناسوت).. ولم يتحول أى منهما للآخر.. ولذلك فالسيد المسيح بلاهوته اتحد بالناسوت فصار انسان حقيقى ولكنه الله يمشى ويتألم ويجوع. + كلمة لاهوت تعنى طبيعة الله.. وكلمة ناسوت تعنى طبيعة الانسان.. فجميعنا عندنا ناسوت كطبيعة واحدة وجميعنا متساويين فى الجوهر ولا فرق بين طفل وشيخ ورجل وامرأة أو حتى الجنين الذى فى بطن أمه فكلنا لنا طبيعة بشرية.. واتحد معنا المسيح فى هذه الطبيعة.. نمشى ونتكلم ولنا عقل ولنا حرية ولنا إرادة.. وجميعنا ننام ونجوع ونأكل ونشرب وننمو فى المعرفة ونكبر وجميعنا سنموت.. وكل انسان قابل للألم والمرض ولكن نختلف مثلاً فى نسبة الذكاء والجمال والطول والعمر.. ولكن جميعنا نشترك فى الطبيعة الانسانية والمسيح شاركنا فى هذه الطبيعة البشرية.. (نمى وكبر ونام وأكل وجاع وعطش وتألم وقبل الموت).. ولذلك نقول فى التسبحة "هو أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له نسبحه ونمجده ونزيده علواً" أخذ كل صفاتنا وأعطانا نعمته وقوته وطهارته وقداسته.. ولكننا لم نبدل الصفات بل أصبحنا شركاء فى نفس الشئ.. والمستفيد من كل هذا هو البشرية. 3- ماذا حدث فى التجسد؟ + أن المسيح بكل قوته ولاهوته دخل فى بطن العذراء وأخذ من لحمها ودمها وخلق لنفسه جسد اتحد به (طبيعة بشرية).. وجميعنا نعرف أنه لا يمكن أن تحبل أى بنت بدون زواج.. فكيف تحبل العذراء بدون زواج؟!... والأجابة هى هكذا: فى النبات لكى يكون عندنا شجرة لابد من وجود بذرة وأرض.. وهكذا فى الانسان الأم (الأرض) والأب عنده(البذرة).. والبذرة لابد أن تزرع فى الأرض الأم لتُخرج لنا انسان.. وهذه البذرة لا تُرى بالعين المجردة ومع ذلك يولد الطفل من الأم ووزنه حوالى 3.5 كيلو.. وكل هذا الجسد أخذه من الأم (ولكن لابد من وجود البذرة).. وأنا كانسان لكى أكون موجود فإنى مُحتاج لأب يمنحنى نعمة الوجود (البذرة) ومُحتاج لأم تعطينى الجسد... والسيد المسيح كان موجود من الأصل.. إذن فهو لا يحتاج لأب يعطيه الوجود ولكنه مُحتاج أم تعطيه الجسد.. ولذلك وُلد المسيح من أم بدون أب.. لأنه ليس له جسد فقط فأخذ يختار عناصر جسده لكى يخرج "أبرع جمالاً من بنى البشر".. وطبعاً المسيح أخذ يبحث عن الأم التى ليس مثيل لها.. ثم دخل داخلها واختار أحسن الصفات فيها.. وهى أحسن امرأة فى الوجود إذ لا يوجد مثلها.. "الآب تطلع من السماء فلم يجد من يشبهك أرسل وحيده أتى وتجسد منك"... + سؤال: أن السيد المسيح لم يحتاج إلى أب فلماذا احتاج إلى أم.. اليس هو الخالق؟!!.. وذلك لكى يأخذ نفس طبيعتنا وليس غريباً عنا فهو (ابن الانسان).. وشارك معنا فى اللحم والدم.. وذلك لكى يكون مساوى لنا فى جوهر الطبيعة البشرية.. وقد قالها معلمنا بولس فى رسالة العبرانين "إذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم تشارك فيهما هو ايضاً" وذلك لكى يبيد الخطية.. وإذا قلنا مثل البروتستانت ان العذراء علبة مجوهرات أخذنا الجوهرة وألقينا العلبة.. فالعلبة خشب والجوهرة ذهب.. ولم تأخذ الجوهرة شئ من العلبة أو من طبيعتها.. ولكننا نقول عليها أنها (أم الله) وليست (علبة الله).. لأنها هى الأرض التى أعطت المسيح الجسد.. والهراطقة قالوا عنها أنها (أنبوبة مر منها الله).. وكل هذا الكلام غير مضبوط لأنها (أم حقيقية) مثلما قالت لها أليصابات "من اين لى هذا أن تأتى أم ربى الىّ".. ويقول الكاهن فى الاعتراف فى القداس "اؤمن أن هذا هو الجسد الذى أخذه ابنك الوحيد من سيدتنا العذراء مريم".. + وهذا ما حدث فى التجسد أن الله بلاهوته دخل إلى بطن العذراء وأخذ من لحمها ودمها وكّون لنفسه جسد واتحد به.. ووُلد من عذراء وشابهنا تماماً ما خلا الخطية وحدها.. ومشى على الأرض كانسان وهو يحمل فى داخله كل جمر اللاهوت ولكنه أخفاه.. ولم يعلم أحد بسره سوى العذراء مريم فقط.. ولذلك جميعنا نقف أمامها مبهورين.. كيف أنها تحملت أن تُخفى فى قلبها معلومات لا أحد يقدر أن يعرفها أو يحتملها غيرها.. وهى بذلك ارتفعت فوق الطابع البشرى "أما مريم فكانت تحفظ جميع هذه الأمور متفكرة بها فى قلبها"... ولم تتكلم سوى مع أليصابات حين فتحت فمها وقالت "تعظم نفسى الرب وتبتهج روحى بالله مخلصى...." وفى عرس قانا الجليل قالت "ليس لهم خمر".. وقالت للخدّم "مهما قال لكم فافعلوه".. وهنا نجد أنها لم تتكلم سوى هذه الكلمات فقط ولم تفتح فاها بكلمات أخرى.. لا يوجد مثلها وبكل صراحة فهى تستحق أن تكون أم الله "أكسيا" أى مستحقة.. هكذا تجسد الله من عذراء بكر فتاة. 4- ما هى فوائد أو بركات التجسد؟ 1- الفداء: لولا التجسد ما كان الفداء.. إذ لا أحد يفدينا غيره. 2- إكتشفنا ما لم نكن نعلمه.. إذ اكتشفنا أن البشرية محترمة فى نظر الله.. وبدأ الانسان يسترد شعوره بذاته.. إذ أن الله نزل وعاش وسطنا.. إذن فالجسد ليس شرير.. بل ايضاً ازددنا احتراماً .. وذلك مثل الأب الذى اشترى تى شيرت لابنه ولم يعجبه.. ولكنه أعجبه عندما وجد أن رئيس الجمهورية يلبس مثله.. بل أن هذا التى شيرت هو بعينه الذى كان يلبسه رئيس الجمهورية.. إذن فهذا التى شيرت أصبح له قيمة فى نظر الولد.. وهكذا ربنا أعطانا جسد فاحتقرناه لأنه ملئ بالشهوات والنجاسات.. فأرانا أن ابن الله يلبس جسد مثل جسدنا هذا.. إذن فهذا الجسد محترم.. بل أن المفاجأة الأكبر هى أننا بالمعمودية والتناول اتحدنا بابن الله فصار جسدنا جزءاً منه.. فى هذه الحالة فجسدنا غالى جداً جداً.. ولذلك نقول فى القداس للمسيح "باركت طبيعتى فيك" فطبيعتنا أصبحت مباركة ومكرمة ومحترمة.. 3- أن هذا الجسد الذى اتحد به السيد المسيح عاش به على الأرض حياتنا العادية.. فقدس كل الحياة.. سواء شرب أو أكل أوصوم أو نوم أو استيقاظ أو كلام أو صمت أو عمل أو .. لأن كل هذا فعله هو.. فصارت الحياة كلها مقدسة.. فبعد التجسد لم يصبح المسيح مسيح الهيكل والصلاة فقط.. بل مسيح الحياة كلها.. فتستطيع أن تتقابل مع المسيح ليس فى الكنيسة فقط بل فى كل الأماكن لأنها كلها مقدسة. 4- المسيح بعد الموت والقيامة أخذ جسده وذهب به فى السماء فأصبح يوجد سابقة قانونية.. إذن ايضاً أجسادنا من الممكن أن تدخل معه للسماء.. لذلك يقول معلمنا بولس "دخل كسابق لأجلنا" يفتح لنا الباب.. وقال المسيح "أنا ذاهب لأعد لكم مكان".. فالسماء هى مكان للاهوت والملائكة ولكن المسيح أخذ الناسوت وأدخله فأصبح من الممكن لنا أن ندخل نحن ايضاً على حساب المسيح. 5- ما هى اعتراضات التجسد؟ يوجد ناس لا يصدقون التجسد.. 1- الناس الذين يقللون من قيمة الانسان فانهم يستكثروا أن الله يصبح انسان مثل مثال الولد والتى شيرت فانه لم يعجبه التى شيرت الذى أحضره له أبوه...إذن فيجب أن نحترم الطبيعة الانسانية فلا نستغرب تجسد الله. 2- نحن نقول الله تجسد.. ولكن المعترضون فهموها بالعكس.. إننا نؤله الانسان الذى هو المسيح.. ولكننا نقول أنه المسيح هو الله ثم أصبح انسان.. مثال التلميذ الذى يقول أنه مدير المدرسة لا يقبلوه.. ولكن المدير إذا دخل الفصل وسمع شرح المدرس مثل التلميذ فلا عجب فى ذلك لأن هذا من حقه.. فعندما يتنازل الكبير نمجده وعندما يتعاظم الصغير لا نقبله.. وخصوصاً أننا نعرف "أن الله على كل شئ قدير" ولم يقل أنه على كل شئ قدير إلا التجسد.. فلا يصح أن نحد من قدرات الله.. فيجب أن نفتح قلبنا لالهنا المتضع العظيم حتى لا نجده قد "تحول وعبر نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
24 ديسمبر 2018

عقيدة الثالوث القدوس

عقيدة الثالوث هي عقيدة أساسية في الفكر المسيحي، حتى أنه لا يمكن أن يُعتبر الشخص مسيحيًا إن لم يكن مؤمنًا بالثالوث.. وهناك حقائق لا بد أن نعرفها عن الثالوث القدوس: (1) حقيقة أزلية الله ثالوث في أقانيمه (الآب والابن والروح القدس) والله لا يتغيَّر، وهو ثابت من الأزل وإلى الأبد وبالتالي الله ثالوث منذ الأزل الآب كائن منذ الأزل ومعه الابن والروح القدس أيضًا منذ الأزل. بعض الناس يظنون أن الابن يُسمى ابنًا لأنه وُلد من العذراء مريم في ملء الزمان، وهذا خطأ.. لأن الابن اسمه ابن منذ الأزل، لأنه مولود من الآب قبل كل الدهور .. + "الرَّبُّ قَناني أوَّلَ طريقِهِ، مِنْ قَبلِ أعمالِهِ، منذُ القِدَمِ. منذُ الأزَلِ مُسِحتُ، منذُ البَدءِ، منذُ أوائلِ الأرضِ. إذ لم يَكُنْ غَمرٌ أُبدِئتُ. إذ لم تكُنْ يَنابيعُ كثيرَةُ المياهِ. مِنْ قَبلِ أنْ تقَرَّرَتِ الجِبالُ، قَبلَ التِّلالِ أُبدِئتُ. إذ لم يَكُنْ قد صَنَعَ الأرضَ بَعدُ ولا البَراريَّ ولا أوَّلَ أعفارِ المَسكونَةِ. لَمّا ثَبَّتَ السماواتِ كُنتُ هناكَ أنا. لَمّا رَسَمَ دائرَةً علَى وجهِ الغَمرِ. لَمّا أثبَتَ السُّحُبَ مِنْ فوقُ. لَمّا تشَدَّدَتْ يَنابيعُ الغَمرِ. لَمّا وضَعَ للبحرِ حَدَّهُ فلا تتعَدَّى المياهُ تُخمَهُ، لَمّا رَسَمَ أُسُسَ الأرضِ، كُنتُ عِندَهُ صانِعًا، وكُنتُ كُلَّ يومٍ لَذَّتَهُ، فرِحَةً دائمًا قُدّامَهُ. فرِحَةً في مَسكونَةِ أرضِهِ، ولَذّاتي مع بَني آدَمَ" (أم8: 22-31) "تقدَّموا إلَيَّ. اسمَعوا هذا: لم أتكلَّمْ مِنَ البَدءِ في الخَفاءِ. منذُ وُجودِهِ أنا هناكَ. والآنَ السَّيدُ الرَّبُّ أرسَلَني وروحُهُ" (إش48: 16) أما ميلاده من العذراء مريم فهو التجسد الإلهي، وظهوره للبشر، وصيرورته ابنًا للإنسان .. هذا ميلاد آخر غير الميلاد الأزلي من الآب "لَمّا جاءَ مِلءُ الزَّمانِ، أرسَلَ اللهُ ابنَهُ مَوْلودًا مِنِ امرأةٍ، مَوْلودًا تحتَ النّاموسِ" (غل4: 4) "والكلِمَةُ صارَ جَسَدًا وحَلَّ بَينَنا، ورأينا مَجدَهُ، مَجدًا كما لوَحيدٍ مِنَ الآبِ، مَملوءًا نِعمَةً وحَقًّا" (يو1: 14) "عن ابنِهِ. الذي صارَ مِنْ نَسلِ داوُدَ مِنْ جِهَةِ الجَسَدِ" (رو1: 3) "لكنهُ أخلَى نَفسَهُ، آخِذًا صورَةَ عَبدٍ، صائرًا في شِبهِ الناسِ" (في2: 7). (2) إعلان حقيقة الثالوث كان متدرجًا بالرغم من وجود الثالوث منذ الأزل، ولكن الله أعلن لنا ذاته بطريقة متدرجة، لكي نستوعب حقيقته الإلهية تثبيت عقيدة أن الله واحد "اِسمَعْ يا إسرائيلُ: الرَّبُّ إلهنا رَبٌّ واحِدٌ" (تث6: 4) "أنا الرَّبُّ هذا اسمي، ومَجدي لا أُعطيهِ لآخَرَ، ولا تسبيحي للمَنحوتاتِ" (إش42: 8)"أليس أبٌ واحِدٌ لكُلنا؟ أليس إلهٌ واحِدٌ خَلَقَنا؟ فلمَ نَغدُرُ الرَّجُلُ بأخيهِ لتدنيسِ عَهدِ آبائنا؟" (ملا2: 10)"هكذا يقولُ الرَّبُّ مَلِكُ إسرائيلَ وفاديهِ، رَبُّ الجُنودِ: أنا الأوَّلُ وأنا الآخِرُ، ولا إلهَ غَيري... لا ترتَعِبوا ولا ترتاعوا. أما أعلَمتُكَ منذُ القَديمِ وأخبَرتُكَ؟ فأنتُمْ شُهودي. هل يوجَدُ إلهٌ غَيري؟ ولا صَخرَةَ لا أعلَمُ بها؟" (إش44: 6، 8) "هكذا يقولُ الرَّبُّ فاديكَ وجابِلُكَ مِنَ البَطنِ: أنا الرَّبُّ صانِعٌ كُلَّ شَيءٍ، ناشِرٌ السماواتِ وحدي، باسِطٌ الأرضَ. مَنْ معي؟" (إش44: 24) "مِنْ أجلِ نَفسي، مِنْ أجلِ نَفسي أفعَلُ. لأنَّهُ كيفَ يُدَنَّسُ اسمي؟ وكرامَتي لا أُعطيها لآخَرَ" (إش48: 11) "أنتُمْ شُهودي، يقولُ الرَّبُّ، وعَبدي الذي اختَرتُهُ، لكَيْ تعرِفوا وتؤمِنوا بي وتفهَموا أني أنا هو. قَبلي لم يُصَوَّرْ إلهٌ وبَعدي لا يكونُ. أنا أنا الرَّبُّ، وليس غَيري مُخَلصٌ" (إش43: 10-11) "مَنْ فعَلَ وصَنَعَ داعيًا الأجيالَ مِنَ البَدءِ؟ أنا الرَّبُّ الأوَّلُ، ومع الآخِرينَ أنا هو" (إش41: 4)"أخبِروا. قَدموا. وليتشاوَروا معًا. مَنْ أعلَمَ بهذِهِ منذُ القَديمِ، أخبَرَ بها منذُ زَمانٍ؟ أليس أنا الرَّبُّ ولا إلهَ آخَرَ غَيري؟ إلهٌ بارٌّ ومُخَلصٌ. ليس سِوايَ. اِلتَفِتوا إلَيَّ واخلُصوا يا جميعَ أقاصي الأرضِ، لأني أنا اللهُ وليس آخَر" (إش45: 21-22) "أنا الرَّبُّ وليس آخَرُ. لا إلهَ سِوايَ. نَطَّقتُكَ وأنتَ لم تعرِفني. لكَيْ يَعلَموا مِنْ مَشرِقِ الشَّمسِ ومِنْ مَغرِبِها أنْ ليس غَيري. أنا الرَّبُّ وليس آخَرُ. مُصَورُ النّورِ وخالِقُ الظُّلمَةِ، صانِعُ السَّلامِ وخالِقُ الشَّر. أنا الرَّبُّ صانِعُ كُل هذِهِ" (إش45: 5-7)"وأنا الرَّبُّ إلهُكَ مِنْ أرضِ مِصرَ، وإلهًا سوايَ لستَ تعرِفُ، ولا مُخَلصَ غَيري" (هو13: 4)"اُذكُروا الأوَّليّاتِ منذُ القَديمِ، لأني أنا اللهُ وليس آخَرُ. الإلهُ وليس مِثلي" (إش46: 9). وهذه الحقيقة الأزلية أن الله واحد هي أيضًا جوهر الإيمان المسيحي في العهد الجديد، فالسيد المسيح نفسه وآباؤنا الرسل علَّموا بأن الله واحد كمثلما في هذه الآيات:- "فأجابَهُ يَسوعُ: إنَّ أوَّلَ كُل الوَصايا هي: اسمَعْ يا إسرائيلُ. الرَّبُّ إلهنا رَبٌّ واحِدٌ. وتُحِبُّ الرَّبَّ إلهَكَ مِنْ كُل قَلبِكَ، ومِنْ كُل نَفسِكَ، ومِنْ كُل فِكرِكَ، ومِنْ كُل قُدرَتِكَ. هذِهِ هي الوَصيَّةُ الأولَى. وثانيَةٌ مِثلُها هي: تُحِبُّ قريبَكَ كنَفسِكَ. ليس وصيَّةٌ أُخرَى أعظَمَ مِنْ هاتَينِ. فقالَ لهُ الكاتِبُ: جَيدًا يا مُعَلمُ. بالحَق قُلتَ، لأنَّهُ اللهُ واحِدٌ وليس آخَرُ سِواهُ" (مر12: 29-32) "إلهٌ وآبٌ واحِدٌ للكُل، الذي علَى الكُل وبالكُل وفي كُلكُمْ" (أف4: 6)"وهذِهِ هي الحياةُ الأبديَّةُ: أنْ يَعرِفوكَ أنتَ الإلهَ الحَقيقيَّ وحدَكَ ويَسوعَ المَسيحَ الذي أرسَلتهُ" (يو17: 3)"فمِنْ جِهَةِ أكلِ ما ذُبِحَ للأوثانِ: نَعلَمُ أنْ ليس وثَنٌ في العالَمِ، وأنْ ليس إلهٌ آخَرُ إلاَّ واحِدًا. لأنَّهُ وإنْ وُجِدَ ما يُسَمَّى آلِهَةً، سِواءٌ كانَ في السماءِ أو علَى الأرضِ، كما يوجَدُ آلِهَةٌ كثيرونَ وأربابٌ كثيرونَ، لكن لنا إلهٌ واحِدٌ: الآبُ الذي مِنهُ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ لهُ. ورَبٌّ واحِدٌ: يَسوعُ المَسيحُ، الذي بهِ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ بهِ" (1كو8: 4-6) كل هذه الآيات وغيرها .. أراد الله القدوس أن يثبِّت فينا معرفة أنه واحد لا إله آخر معه. (3) إشارات عن الثالوث في العهد القديم ومع أن الله قد ركّز في الإعلان الإلهي في العهد القديم على وحدانيته .. لم يكن ممكنًا اختفاء الثالوث نهائيًا بطول الأسفار المقدسة، لذلك هناك أيضًا إشارات في العهد القديم للثالوث "في البَدء خلق الله السماوات والأرض ... وروح الله يَرف على وجه المياه. وقال الله: (كلمة الله) ليكن نور، فكان نور" (تك1: 1-3). هنا يظهر الثالوث بوضوح منذ أول آية في الوحي المقدس (الله وروح الله وكلمة الله) "وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك1: 26). هنا استخدم صيغة الجمع.. ليست للتعظيم (كمثلما في اللغة العربية) ولكن لإعلان حقيقة الثالوث، بدليل أنه جاء بعدها "فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خَلقهُ. ذكرًا وأُنثى خَلقهُم" (تك1: 27). وهنا يؤكد على حقيقة التوحيد وهناك إشارة أخرى عن الابن جاءت في صيغة سؤال في سفر الأمثال .. "مَنْ صَعِدَ إلَى السماواتِ ونَزَلَ؟ مَنْ جَمَعَ الرِّيحَ في حَفنتيهِ؟ مَنْ صَرَّ المياهَ في ثَوبٍ؟ مَنْ ثَبَّتَ جميعَ أطرافِ الأرضِ؟ ما اسمُهُ؟ وما اسمُ ابنِهِ إنْ عَرَفتَ؟" (أم30: 4). (4) الظهور الإلهي الواضح في العهد الجديد بسبب تجسد ابن الله الوحيد عرفنا حقيقة الثالوث، فقد ظهر لنا الابن متجسدًا وأعلمنا بأبيه الصالح والروح القدس بداية هذا الإعلان الواضح كان عند معمودية ربنا يسوع المسيح حيث سمعنا صوت الآب قائلاً: "هذا هو ابني الحَبيبُ الذي بهِ سُرِرتُ" (مت3: 17) ورأينا الروح القدس في شكل حمامة "وإذا السماواتُ قد انفَتَحَتْ لهُ، فرأَى روحَ اللهِ نازِلاً مِثلَ حَمامَةٍ وآتيًا علَيهِ" (مت3: 16)، والابن كائنًا في الماء يشهد له الآب.. لذلك سُمي عيد الغطاس "عيد الظهور الإلهي" (الثيؤفانيا). وهنا تحققت نبوءات الأنبياء "ويَحُلُّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفَهم، روح المَشورَة والقوة، روح المعرفة ومَخافة الرب" (إش11: 2) "هوذا عَبدي الذي أعضُدُهُ، مُختاري الذي سُرَّتْ بهِ نَفسي. وضَعتُ روحي علَيهِ فيُخرِجُ الحَقَّ للأُمَمِ" (إش42: 1) "إني أُخبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضاءِ الرَّب: قالَ لي: أنتَ ابني، أنا اليومَ ولَدتُكَ" (مز2: 7) وبدأنا نعرف أن الله إلهنا هو الآب والابن والروح القدس، وبدأ السيد المسيح يكلمنا عن الآب والروح القدس في أحاديث طويلة، لذلك نقول له في القداس الغريغوري: "الذي أظهر لنا نور الآب، الذي أنعم علينا بمعرفة الروح القدس (الحقيقية)". (5) لماذا أخفى الله حقيقة الثالوث منذ البداية؟ لقد كانت البشرية في حالة ضعف شديد، ومائلة إلى عبادة الأوثان وتعدد الآلهة، فأراد الله أن يثبّت أولاً فكرة وحدانية الله حتى لا يُفهم الثالوث على أنه ثلاثة آلهة ولذلك نلاحظ أن جميع المسيحيين يؤمنون بالثالوث، ولم يحدث أن واحدًا فقط من المسيحيين قد فهم الثالوث على أنه تعدد آلهة أو ثلاثة آلهة. نحن نؤمن بإله واحد فيه ثلاثة أقانيم. (6) شرح معنى الثالوث أبسط شرح للثالوث هو أن نستخدم مثلثًا مجسمًا متساوي الأضلاع، وبالطبع سيكون متساوِ الزوايا لدينا الآن مثلث واحد وثلاثة رؤوس .. وكذلك نحن نؤمن بإله واحد وثلاثة أقانيم في المثلث تستطيع أن تقول أ = ب = ج ولكنك لا تستطيع أن تقول أ هو ب هو ج بعينه وإلا تحول المثلث إلى نقطة واحدة ولا يصير له وجود كذلك في الثالوث نقول إن الآب يساوي الابن ويساوي الروح القدس ولكننا لا نقول إن الآب هو الابن هو الروح القدس بعينه. مرة ثانية: لدينا مثلث واحد وثلاثة رؤوس .. وكذلك لدينا إله واحد وثلاثة أقانيم الآب متميز عن الابن ومتميز عن الروح القدس .. الثلاثة أقانيم متمايزة لو عرفنا أن المثلث كله من معدن الذهب الخالص، فإذا أردنا أن نعرف ما هو معدن الرأس (أ) سنقول إنه (ذهب)، الرأس (ب) هو أيضًا (نفس الذهب)، الرأس (ج) هو (نفس الذهب). لاحظ أننا نتكلم عن الرأس (أ) وليس النقطة (أ). الرأس (أ) : معناه المثلث كله وأنت تنظر إليه من النقطة (أ). الرأس (ب) : معناه المثلث كله وأنت تنظر إليه من النقطة (ب). الراس (ج) : معناه المثلث كله وأنت تنظر إليه من النقطة (ج). نفس الكلام ممكن أن يقال عن الثالوث: فالآب هو الله، الابن هو الله، الروح القدس هو الله والثلاثة هم إله واحد "فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يو5: 7). وإذا سألت: ما هو جوهر الآب؟ تكون الإجابة: (لاهوت) ما هو جوهر الابن؟ تكون الإجابة: (نفس اللاهوت) ما هو جوهر الروح القدس؟ تكون الإجابة: (نفس اللاهوت) فالثلاثة أقانيم لهم لاهوت واحد "نسجد له ونمجده"وبما أن الرأس (أ) هو المثلث كله منظورًا إليه من ناحية (أ)، والرأس (ب) هو المثلث كله منظورًا إليه من ناحية (ب).. نستطيع أن نقول إن الراس (أ) في الرأس (ب)، والرأس (ب) في الرأس (أ) .. ونفس الكلام يقال عن الرأس (ج) وهذا أيضًا ينطبق على الثالوث القدوس له المجد .. فالسيد المسيح أعلن لنا أنه في الآب والآب فيه"ألستَ تؤمِنُ أني أنا في الآبِ والآبَ فيَّ؟" (يو14: 10)"الآبَ الحالَّ فيَّ هو يَعمَلُ الأعمالَ" (يو14: 10)"صَدقوني أني في الآبِ والآبَ فيَّ" (يو14: 11)"ولكن إنْ كُنتُ أعمَلُ، فإنْ لم تؤمِنوا بي فآمِنوا بالأعمالِ، لكَيْ تعرِفوا وتؤمِنوا أنَّ الآبَ فيَّ وأنا فيهِ" (يو10: 38)"كما أنَّكَ أنتَ أيُّها الآبُ فيَّ" (يو17: 21). لذلك قال السيد المسيح:- "الذي رَآني فقد رأَى الآبَ" (يو14: 9). "والذي يَراني يَرَى الذي أرسَلَني" (يو12: 45). وهناك حقيقة أخرى هي:- بما أن: أ = ب = ج ولهم نفس الجوهر ونفس المقاسات.. لذلك فكل صفات (أ) موجودة في (ب) وفي (ج) وكذلك في الثالوث القدوس: كل صفات الألوهية التي في الآب موجودة أيضًا في الابن وفي الروح القدس، وهذا ما أعلنه السيد المسيح له المجد: "كُلُّ ما للآبِ هو لي" (يو16: 15) فالصفات (الأزلي، الخالق، القادر على كل شيء، العارف كل شيء، ضابط الكل، المُخلِّص، القدوس، .....) يشترك فيها الأقانيم الثلاثة .. ولا يمكن أن نتخيل أن أقنومًا رحيم والآخر غير رحيم، أو أقنومًا عادل والآخر غير عادل!! ففيهم جميعًا كل الصفات بالتساوي. ومع ذلك:- هناك صفة واحدة موجودة في الآب ولا يمكن أن توجد في الابن أو الروح القدس، وصفة أخرى في الابن لا يمكن أن توجد في الآب ولا الروح القدس، وصفة ثالثة تُسمى الصفة الأقنومية، والتي بدونها لا يكون هناك تمايز بين الأقانيم فلماذا يُسمى الآب آب، ولا يُسمى الابن أو الروح القدس؟ وكذلك نفس الكلام يقال عن الابن والروح القدس هذه الصفة الأقنومية لكل أقنوم تحِّدد لنا تميزه واسمه وعلاقته بالأقنومين الآخرين:- الصفة الأقنومية للابن أنه مولود لذلك فهو ابن والصفة الأقنومية للروح القدس أنه منبثق ولذلك فهو ليس ابنًا لأنه ليس مولودًا بل هو منبثق والآب هو الوالد للابن الباثق للروح القدس، ولذلك فصفته الأقنومية أنه ينبوع لا يمكن للآب أن يكون مولودًا وإلا لكان اسمه الابن ولا يمكن للابن أن يكون ينوعًا وإلا لصار اسمه الآب وكذلك الروح القدس أن يكون ينبوعًا ولا مولودًا بل هو روح قدس لأنه منبثق من الآب الآب هو الأقنوم الوالد والباثق، ولا يمكن أن يكون مولودًا ولا منبثقًا الابن هو الأقنوم المولود، ولا يمكن أن يكون والدًا ولا باثقًا ولا منبثقًا الروح القدس هو الأقنوم المنبثق، ولا يمكن أن يكون والدًا ولا مولودًا ولا باثقًا. شرح هذه العلاقة:- الآب كائن منذ الأزل بدون بداية وبدون سابق له، فهو أصل الوجود، ولا يمكن أن يكون له بداية، ولا يمكن أن يكون له خالق يخلقه .. بل هو الخالق وليس مخلوقًا الآب هو أصل الثالوث، يخرج منه الابن بطريقة اسمها الولادة، ويخرج منه الروح القدس بطريقة أخرى اسمها الانبثاق ولا يمكن أن يكون خروج الابن والروح القدس من الآب بنفس الطريقة وإلا لصار للآب ابنان أو روحان. ولكن الحقيقة هي أن الآب له ابن وحيد مولود منه قبل كل الدهور، وله روح وحيد منبثق منه أيضًا قبل كل الدهور "اللهُ لم يَرَهُ أحَدٌ قَطُّ. الاِبنُ الوَحيدُ الذي هو في حِضنِ الآبِ هو خَبَّرَ" (يو1: 18) "أنتُمْ تدعونَني مُعَلمًا وسيدًا، وحَسَنًا تقولونَ، لأني أنا كذلكَ" (يو13: 13)"لأنَّهُ هكذا أحَبَّ اللهُ العالَمَ حتَّى بَذَلَ ابنَهُ الوَحيدَ، لكَيْ لا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يؤمِنُ بهِ، بل تكونُ لهُ الحياةُ الأبديَّةُ" (يو3: 16) "فليَعلَمْ يَقينًا جميعُ بَيتِ إسرائيلَ أنَّ اللهَ جَعَلَ يَسوعَ هذا، الذي صَلَبتُموهُ أنتُمْ، رَبًّا ومَسيحًا" (أع2: 36)"الذي يؤمِنُ بهِ لا يُدانُ، والذي لا يؤمِنُ قد دينَ، لأنَّهُ لم يؤمِنْ باسمِ ابنِ اللهِ الوَحيدِ" (يو3: 18) واضح هنا أن السيد المسيح هو الابن الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، وكذلك الروح القدس هو روح واحد وحيد منبثق من الآب قبل كل الدهور .. ونقول في القداس الإلهي "واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس" نحن نؤمن بآب واحد، وابن واحد، وروح قدس واحد والثلاثة هم الإله الواحد "لكن لنا إلهٌ واحِدٌ الآبُ الذي مِنهُ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ لهُ. ورَبٌّ واحِدٌ يَسوعُ المَسيحُ، الذي بهِ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ بهِ" (1كو8: 6) هذا الشرح لا يُعني أن الآب أقدم أو أقيم أو أهم من الابن والروح القدس لأن الآب أزلي، وهو آب منذ الأزل. فلذلك له ابن خارج منه منذ الأزل والروح القدس أيضًا خارج منه منذ الأزل بدون أسبقية الآب عنهما كلمة الولادة وكلمة الابن توحي لغير العارفين أن هناك زواج، وأن الآب أكبر سنًا من الابن، وأن الابن عندما وُلد انفصل عن الآب كمثل ميلاد البشر والحيوانات. هنا لابد أن غير ولادة الابن من الآب أنها تختلف عن ولادات الناس والبهائم بأربعة اختلافات:- (1) لا يوجد زواج طبعًا، بل ميلاد الابن من الآب كميلاد الحرارة من النار، والشعاع من المصباح. (2) لا يوجد أسبقية، فالابن أزلي مع الآب، لم توجد لحظة أو جزء من الثانية كان الآب بدون ابن، وإلا لما كان أب ثم صار آب. وهذا معناه أن الله يتغير. الحقيقة أن الله لا يتغير وبالتالي فهو آب منذ الأزل، وبالتالي فالابن خارج منه منذ الأزل، كمثل النار أيضًا تخرج من الحرارة بدون أسبقية النار عن الحرارة بل حيث النار هناك الحرارة والضوء. وكذلك حيث الآب هناك الابن والروح القدس. (3) لا يوجد انفصال بين الآب والابن، بل هو خارج منه بينما هو كائن فيه بدون انفصال، كمثل خروج الحرارة من النار بدون أن تبرد النار ولا يكون فيها حرارة. وكمثل خروج الفكر من العقل وانتشاره في كل مكان، بينما هو ما يزال في عقل الإنسان. (4) ولادة الطفل تستغرق لحظات ثم ينفصل عن أمه، وخروج الرصاصة من المسدس تستغرق لحظة وتنطلق تاركة المسدس فارغًا. أما ولادة الابن من الآب فهو ولادة مستمرة بدون انقطاع منذ الأزل وإلى الأبد. كمثل أيضًا دوام خروج الحرارة من النار وما يقال عن ولادة الابن من الآب يقال أيضًا عن انبثاق الروح القدس من الآب .. أيضًا يكون الانبثاق بدون أسبقية. فالآب ليس أسبق على الروح القدس، وكذلك بدون زواج وبدون انفصال وبدون انقطاع بل باستمرار. الفرق بين الولادة والانبثاق:- في عالم الفيزياء يفرّقون بين طريقة خروج الحرارة من النار، فيقال (توليد الحرارة)، وبين خروج الضوء من النار، فيقال (انبعاث الضوء) .. وذلك لأن فيزيقيًا هناك اختلاف بين الطريقتين، ولو كان خروج النور والحرارة من النار بنفس الذبذبات والترددات والموجات لكان الاثنان حرارة أو الاثنان ضوءًا، ولكن هناك فارق بين الطريقتين، ولذلك هناك حرارة وهناك ضوء وكذلك في مجال شرح اللاهوت، لقد أعلن لنا الكتاب المقدس أن الابن مولود من الآب، والروح القدس منبثق من الآب، وليس لدينا معرفة كافية عن كنه الولادة أو كنه الانبثاق .. لعلنا سنعرف ذلك في الأبدية!! نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
17 ديسمبر 2018

المسيح ابن الآب

يتساءل البعض لماذا يُسمى السيد المسيح ابن الآب؟ وهل بنوته للآب كمثل بنوتنا نحن لله؟ المسيح هو ابن الآب لأنه مولود من الآب قبل كل الدهور، كما قيل في الآية المُقدَّسة "كُلُّ مَنْ يُحِبُّ الوالِدَ يُحِبُّ المَوْلودَ مِنهُ أيضًا" (1يو5: 1). والتعبير (مولود) يعني أن الابن خارج من الآب بطريقة يسميها الوحي المقدس (الولادة)، أما الروح القدس فهو خارج من الآب بطريقة أخرى اسمها (الانبثاق). وردت في (يو15: 26) وولادة الابن من الآب هي ولادة مستمرة وبدون انفصال، ولذلك قال السيد المسيح "ألستَ تؤمِنُ أني أنا في الآبِ والآبَ فيَّ؟ صَدقوني أني في الآبِ والآبَ فيَّ" (يو14: 10، 11)"لكَيْ تعرِفوا وتؤمِنوا أنَّ الآبَ فيَّ وأنا فيهِ" (يو10: 38)"في ذلكَ اليومِ تعلَمونَ أني أنا في أبي، وأنتُمْ فيَّ، وأنا فيكُم" (يو14: 20) "ليكونَ الجميعُ واحِدًا، كما أنَّكَ أنتَ أيُّها الآبُ فيَّ وأنا فيكَ، ليكونوا هُم أيضًا واحِدًا فينا، ليؤمِنَ العالَمُ أنَّكَ أرسَلتني" (يو17: 21) "أنا فيهِمْ وأنتَ فيَّ ليكونوا مُكَمَّلينَ إلَى واحِدٍ، وليَعلَمَ العالَمُ أنَّكَ أرسَلتني، وأحبَبتَهُمْ كما أحبَبتَني" (يو17: 23) وولادة الابن من الآب لم تكن تستلزم زواجًا (حاشا)، لأن الآب ليس عاجزًا عن ولادة الابن، ولا يحتاج إلى آخر يساعده.. بل الابن مولود من الآب قبل الدهورولا يوجد فارق زمني بين الآب والابن، لأنه الآب كائن منذ الأزل، وهو آب منذ الأزل، لذلك فله ابن أيضًا منذ الأزل.. لأن الله لا يتغير "في البَدءِ كانَ الكلِمَةُ، والكلِمَةُ كانَ عِندَ اللهِ، وكانَ الكلِمَةُ اللهَ. هذا كانَ في البَدءِ عِندَ اللهِ" (يو1: 1-2) "الرَّبُّ قَناني أوَّلَ طريقِهِ، مِنْ قَبلِ أعمالِهِ، منذُ القِدَمِ. منذُ الأزَلِ مُسِحتُ، منذُ البَدءِ، منذُ أوائلِ الأرضِ" (أم8: 22-23) "الذي هو قَبلَ كُل شَيءٍ، وفيهِ يَقومُ الكُلُّ" (كو1: 17) "والآنَ مَجدني أنتَ أيُّها الآبُ عِندَ ذاتِكَ بالمَجدِ الذي كانَ لي عِندَكَ قَبلَ كونِ العالَمِ" (يو17: 5) فالسيد المسيح كائن في الآب ومعه منذ الأزل، ومساو له في الجوهر والألوهة، ولأنه غير منفصل عن الآب والروح القدس فلذلك للثلاثة أقانيم جوهر واحد ولاهوت واحد، وهم الله الواحد "لكن لنا إلهٌ واحِدٌ: الآبُ الذي مِنهُ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ لهُ. ورَبٌّ واحِدٌ: يَسوعُ المَسيحُ، الذي بهِ جميعُ الأشياءِ، ونَحنُ بهِ" (1كو8: 6)"فإنَّ الذينَ يَشهَدونَ في السماءِ هُم ثَلاثَةٌ: الآبُ، والكلِمَةُ، والرّوحُ القُدُسُ. وهؤُلاءِ الثَّلاثَةُ هُم واحِدٌ" (1يو5: 7) والسيد المسيح خارج من الآب يحمل نفس جوهر الآب.. فالبشر يلدون بشرًا، وكل كائن يلد كائنًا آخر من نفس النوع، لذلك فالابن المولود من الآب (الله) هو أيضًا (الله)، ولكن الفرق هنا أن الآب والابن المولود منه ليسا شخصان منفصلان، وإلاَّ وقعنا في تعدّد الآلهة، بل هما أقنومان متحدان بدون انفصال منذ الأزل وإلى الأبد، ولهما روح واحد هو الأقنوم الثالث "الروح القدس"لذلك نهتف في الكنيسة: "واحد هو الآب القدوس.. واحد هو الابن القدوس.. واحد هو الروح القدس". فلنا آب واحد له ابن وحيد، والاثنان لهما روح واحد.. لذلك فهُم إله واحد، نسجد له في وحدانية الجوهر. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل