المقالات

17 سبتمبر 2018

عوامل تشويش الفكر الأرثوذكسى

عوامل عديدة تشابكت لتفسد الفكر الأرثوذكسى الآبائى من جهة حياتنا مع الله وعلاقتنا به، ولعل أبرز هذه العوامل (النزعة الفردية فى الخلاص) التى يتبناها المنهج البروتستانتى، وكذلك (النسكيات المتطرفة) التى كان يتبناها المنهج الكاثوليكى الغربى. ولعل أهم الموضوعات التى أحباها الغموض والإنحراف موضوع (توبتنا)، وأزعم أننى أستطيع تلخيص ما يدور بذهن الشباب من جهة التوبة فى هذه النقاط :- 1- أن التوبة هى رجعة حاسمة عن الخطية يعقبها قداسة السيرة بدون سقطات. 2- أن الرجوع للخطية بعد الإعتراف معناه أن توبتى لم تكن حقيقية وهى غير مقبولة. 3- إن إرتباطى بالمسيح يستلزم قداسة السيرة… وهذه القداسة تحتاج مجهود عنيفاً واستمرارية فى عدم الخطأ. 4- بما أننى – عملياً – لا أستطيع ألا أخطئ، وليس لدى مقدرة على السلوك فى نسكيات عنيفة.. لذلك فإما أن : أ- أعيش بقلبين أحدهما يليق بالكنيسة ويكون لى صورة التقوى بها دون قوتها. والآخر يليق بحياتى الخاصة وبالعالم وأوافقه على كل إنحرافاته. ب- أو أنه لا فائدة ولنترك الكنيسة لمن يستطيع، أما أنا (فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت). صديقى الشاب… لعلك توافقنى فى هذا الزعم… ولكن دعنا الآن نتلمس مفهوم التوبة فى ضمير الكنيسة كما صاغته فى نصوص الليتورجيا (القداس)… ولنبحر معاً فى أعماق أنهار القداس الإلهى لعلنا نخرج منه بتحديدات تنير أمامنا الطريق فيسهل… إذ أن القداس فى الحقيقة – يحوى منهج توبة متكامل بفكر أرثوذكسى آبائى أصيل… لأول وهلة سنلاحظ أن : 1- التوبة هى عمل مستمر ومتكرر ومدى الحياة :- يبدأ الكاهن القداس بصلاة سرية يرددها أثناء فرش وتجهيز المذبح فيقول: “أيها الرب العارف قلب كل أحد القدوس لمستريح فى قديسيه. الذى بلا خطية وحدة، القادر على مغفرة الخطايا. أنت يا سيد تعلم أننى غير مستحق ولا مستعد، ولا مستوجب لهذه الخدمة المقدسة التى لك. وليس لى وجه أن اقترب وافتح فمى أمام مجدك المقدس، بل ككثرة رأفتك اغفر لى أنا الخاطئ وامنحنى أن أجد نعمة ورحمة فى هذه الساعة وارسل لى قوة من العلاء… الخ” تأمل كيف تنضج هذه الصلوه بالتوبة والانسحاق والشعور بالخزى بسبب كثرة الخطايا… ومن الذى يقدمها؟ أنه الكاهن المحسوب فى ضمير الكنيسة أنه شفيع فى المذنبين أمام الله ثم يستمر الكاهن فى تقديم توبة عميقة منسحقة طوال القداس حتى يختمه بهذه الصلوة قبل التناول: “… لا تدخلنا فى تجربة، ولا يتسلط علنا كل أثم، لكن نجنا من الأعمال غير النافعة، وأفكارها وحركاتها ومناظرها وملامسها، والمجرب أبطله، واطرده عنا، وانتهر أيضاً حركاته المفروسة فينا، واقطع عنا الأسباب التى تسوقنا إلى الخطية، ونجنا بقتك المقدسة… الخ” أنك تستطيع أن تلمس روح التوبة المتغلفة ليست فى هذه الصلوة فقط بل فى كل صلوات القداس الإلهى، كأن القداس قد وضع فقط للتائبين…، ما يعنينى هنا أن: 1- استمرار صلوات التوبة طوال القداس إنما يشير إلى ضرورة استمرارية التوبة فى حياتنا. 2- أن يبدأ القداس وينتهى بالتوبة؟ معناه أن التوبة هى عمل يستمر مدى الحياة، منذ أن ادرك ذاتى وحتى الإنتقال إلى السماء. 3- تكرار القداس يومياً بنفس النمط ونفس الصلوات يدل على أن التوبة – فى ضمير الكنيسة – هى عمل متكرر يومياً فلو كانت التوبة هى مجرد مرحلة يعقبها قداسة بدون سقطات، لصار فى الكنيسة نوعان من القداسات أحدهما للمبتدئين التائبين ويكون مليئاً بعبارات التوبة والانسحاق، والآخر للمتقدمين (الذين لا يخطئون) ويكون مليئاً بالحب والتسبيح والفرح، ولا مجال فيه للتوبة والانسحاق. إننا نتطلع أحياناً إلى يوم نتحرر فيه تماماً من الضعفات والسقطات ونعيش القداسة فى ملئها وبهجتها… وعندما يتأخر هذا اليوم نصاب بالإحباط واليأس الفشل… غير عالمين أنه سيأتى ولكن فى الدهر الآتى… أما فى هذا الدهر فإننا زمان التوبة والنمو… لذلك فالكنيسة الملهمة رتبت لنا توبة فى كل يوم حاسبة فى ضميرها أننا ضعفاء ساقطون لأنه “ليس عبد بلا خطية، ولا سيد بلا غفران” مرد انجيل الصوم الكبير… فليست الكنيسة متحف قديسين ولكنها مستشفى تائبين. إننا ندخلها خطاه فى كل يوم فتبررنا بدم المسيح الذى تستجلبه لنا بالتوبة والإعتراف والحل… لاحظ هذا الحوار الذى يدور بين الكاهن والشماس والشعب فى نهاية كل صلاة طقسية (خاصة القداس). يقول الشماس : احنوا رؤوسكم للرب (وهى دعوة للتوبة والإعتراف السرى أمام المسيح فى حضور الكنيسة كلها)؟ يرد الشعب : أمامك يارب (أى ها نحن أمامك منحنين معترفين بذنوبنا وآثامنا وميولنا الرديئة). ينبه الشماس : ننصت بخوف الله (مشيراً إلى قرار خطير يصدر بعد قليل يجب أن ننصت لنسمعه بمخافة). يقول الكاهن : السلام للكل (أى أن هذا القرار الخطير سيحمل سلامة للكنيسة كلها). يرد الشعب : ولروحك أيضاً. ثم فى هدوء وصمت عميق يحنى كل مصلى رأسه ويقرع صدره ويعترف أمام الله بخطاياه… والكاهن كذلك يتوب عن نفسه وعن الشعب ثم يقرأ عليهم التحليل. لاحظ أن : توبة + اعتراف + تحليل = غفران. هذا يدفع الشماس لأن يصرخ (خلصنا ومع روحك أيضاً) شاهداً للكاهن والشعب أن خلاصنا قد حضر بسبب الغفران… فيفرح الشعب ويتهلل ويصرخ بنبع الفرح قائلاً أمين كيرياليصون كيرياليصون… وفى القداس خاصة يكمل الكاهن الحوار قائلاً: القدسات للقديسين (أى هذا الجسد والدم يأخذهما فقط القديسون التائبون الآن). فتصرخ الكنيسة بإنكسار ووداعة: واحد هو الآب القدوس، واحد هو الإبن القدوس، واحد هو الروح القدس. (معترفة بذلك أن واحداً قدوس فى هو الله؟ وان كان قداسة فينا هى مجرد انعكاسات قدسته فى وجوهنا) وعلى هذا الرجاء وبهذه الثقة نتقدم للتناول من الأسرار المحيية… ونخرج من الكنيسة مبررين بدم المسيح … ولكن غير معصومين من الخطأ.. لذلك فنحن مدعوون للعودة للكنيسة مراراً وتكراراً… ندخل خطاه ونخرج متبررين… وبتكرار التوبة والعودة للمسيح تضمحل الخطية من أعضائنا ويزداد الاشتياق للمسيح وطهارته… ولكننا سنظل خطاة وسيظل المسيح (الذى بلا خطية وحده القادر على مغفرة الخطايا)، مهما ترقينا فى الفضيلة والحب والالتصاق بالمسيح فنحن “تراب ورماد”. لكن بينما أنا خاطئ متعثر فى خطواتى، وميولى الرديئة تدفعن للسقوط، أجد الكنيسة تدعونى قديساً (القدسات للقديسين)، “أحباء الله مدعوين قديسين” (رو 7:1) فكيف يكون ذلك؟ الإجابة هى الركيزة الثانية فى مفاهيم التوبة بالفكر الأرثوذكسى : 2- التوبة هى عمل كل الكنيسة بكل أعضائها :- فلا يوجد فى الكنيسة فئتان : خطاة مبتدئون، وقديسون كاملون، بل الكل خطاة قديسون، لأن التوبة تجعل الزانى بتولاً والخاطئ قديساً لا تتخيل – صديقى الشاب – أنك وحدك تخطئ مع (جيل الشباب الخطاة)… أبدأ.. كلنا نخطئ وكلنا نحتاج التوبة… ونحن – الإكليروس – شركاؤك فى الضيقة وفى الضعف وتحت الآلام مثلك… اسمع الآب الكاهن – المحسوب أنه قائد وقدوة – يصل فى القداس قائلاً: “اذكر يارب ضعفى أنا المسكين، وأغفر لى خطاياى الكثيرة، وحيث كثر الأثم فلتكثر هناك نعمتك، ومن أجل خطاياى خاصة، ونجاسات قلبى لا تمنع شعبك من نعمة روحك القدوس. حاللنا وحالل كل شعبك من كل خطية ومن كل لعنة ومن كل جحود ومن كل يمين كاذبة ومن كل ملاقات الهراطقة الوثنية. أنعم علينا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم لنهرب إلى التمام من كل أمر ردىء للمضاد… الخ” لو كان الحال أن الحياة الروحية مفصولة إلى مرحلتين: التوبة والقداسة؟ لكان من البديهى أن يكون الكاهن قد انتهى من مرحلة التوبة، ولا حاجة له أن يصلى مثل هذه الصلوات المفعمة بالأنكسار والتذلل وليتركها للخطاة المبتدئين… ولكن فكر الكنيسة هو أن التوبة والقداسة صنوان يسيران معاً، فأنا خاطئ لأننى إنسان ضعيف وأنا قديسى لأن المسيح يقدسنى بنعمته… “إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم” (1يو 8:1،9) نحن خطاه (هذا طبع) والمسيح يطهرنا (لأنه أمين وعادل)، ف تظن صديقى أن القداسة بعيدة المنال أو أنك غريب عن القديسين، بل أنت وأنا وأبى الكاهن وكل الكنيسة تائبون… ورجوعنا للخطية لا يلغى إنتمائنا للمسيح ونبوتنا له، فالأحرى أن ننتبه سريعاً ونقوم من سقطاتنا بدون يأس… متمثلين بذلك الراهب الحاذق الذى قال للشيطان “ألست أنت تضرب مرذبة وأنا أضرب مرذبة”… العبرة بالنهاية؟ والذى يصير إلى المنتهى فهذا يخلص… والصديق يسقط فى اليوم سبع مرات ويقوم. والأكثر من هذا أنك تسمع الآب الكاهن يطلب عن خطاياه وعن جهالات الشعب “اعط يارب أن تكون ذبيحتنا مقبولة عن خطاياى وجهالات شعبك” حاسباً خطايا الشعب أنها جهالات أما الكاهن فليس له عذر فى خطية وعندما يتقدم الكاهن ليغسل يديه قبل تقدمه الحمل، وقبل البدء فى القداس لا يكون هدفه فقط نظافة اليدين وإنما نظافة القلب من الخطية والشهوات لأنه يصحب الغسيل بالصلاة “تنضح على بزوفاك فأطهر، تغسلنى فأبيض أكثر من الثلج… اغسل يدى بالنقاوة…”. لقد جاء المسيح لأجل الخطاة ليدعوهم للتوبة… والأبرار (فى أعين ذواتهم) ليس لهم نصيب فى عمل المسيح وعندما أدركت الكنيسة هذه الحقيقة سلمتنا – أولادها – سر التوبة مدى الحياة لنكون دائماً فى مجال عمل رب المجد… فإذا كنت خاطئاً مثلى فلا تيأس بل اعرف أنك من صميم عمل المسيح لأنه قال: “لم أت لأدعو ابراراً بل خطاة إلى التوبة… لأنه.. لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” وإذا اعترضت بأن توبتك ضعيفة وأنك تميل – مثلى – إلى الخطية والسقوط فأعلم أن : 3- الغفران يعتمد على قوة السر وأمانة الله :- لذلك قيل عن سر التناول (السر العظيم الذى للخلاص) صلاة الاستعداد، (السر العظيم الذى للتقوى)، والرشومات ويخاطب الكاهن الله قائلاً: “اللهم معطى النعمة، مرسل الخلاص، الذى يفعل كل شئ فى كل أحد”… فثق صديقى أن الله “رحمته قد ثبتت علينا” مرد اسباتير، وأن “الله يرفع هناك خطايا الشعب من قبل المحرقات (الجسد والدم) ورائحة البخور (الصلوات)” مرد الإبركسيس… وكل الكنيسة تصرخ بهذا المرد الرائع “كرحمتك يارب ولا كخطايانا” ولا نستطيع أن ننسى الإعلان المقدس عن الجسد والدم أنه “يعطى عنا خلاصاً وغفراناً للخطايا”وهناك حركة طقسية غاية فى الأبداع تطمئنك أن خطاياك قد ألقيت على دم المسيح… فالكاهن يغطى يديه بلفافتين الأولى على يده اليسرى تمثل الخطايا والضعفات والثانية على يده اليمنى تمثل بر المسيح (لأنه أخذها من فوق الحمل) وقبلما يرشم الكاهن الشعب بكلمة أجيوس (قدوس) يبدل اللفائف ويضع ما كانت بيده اليسرى على الكأس ويمسك ما كانت على الكأس بيده اليمنى ليرشم بها الشعب معلنا بذلك أن خطايانا جميعا قد ألقيت على الدم المقدس وأننا ننال البر بدم المسيح (اللفافة حتى على الكأس) راشما إيانا بكلمة قدوس ليقدسنا حقيقة أن توبتنا ضعيفة ومريضة ولكن لنا رجاء فى الله “الذى يحيى الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رو 17:4) ونصرخ مع “أبو الولد” بدموع “أومن يا سيد فأعن عدم إيمانى” (مر 9:24) فلو كانت توبتى عدما، فأومن أنك ستعمل فيها عجبا وتخلصنى بنعمتك لأننى عاجز بجهدى ولكننى لن أيأس من رحمتك. لذلك وبناء على ما تقدم فإن التوبة الأرثوذكسية فيها : 4- ينتفى الإحساس بالإنجاز والبر الذاتى :- لأنه ليس بمقدرتى ومهارتى، ولا بفرادتى بل بالكنيسة وبالكاهن وبالسر… لذلك يتكرر طوال القداس المرد الشهيد “كيرياليصون – يارب ارحم” عالمين أننا مهما تقدسنا أو تبررنا فنحن بحوجة شديدة لرحمة الرب… ودائماً تسمع التعبير “نحن عبيدك الخطاة غير المستحقين…”، “نحن الاذلاء غير المستحقين…”، “ضعفى أنا المسكين…” بينما نشكر الله فى انكسار أنه “جعلنا أهلاً الآن أن نقف فى هذه الموضع المقدس..” ولأنه “جعلنا مستحقين…” وبروح العشار التائب نصرخ “نسالك يا سيدنا لا تردنا إلى خلف… لأننا لا نتكل على برنا بل على رحمتك، هذه التى بها أحييت جنسنا…” صلاة الحجاب… وتستطيع أن تستشف هذه الروح المنسحقة طوال صلوات القداس لأن الكنيسة المقدسة قد أدركت بروح إله أن القلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله إن التوبة الأرثوذكسية هى عملنا الوحيد المتكرر طوال الحياة واللازم لكل أعضاء الكنيسة وهى تستجلب لنا غفران خطايانا بدم المسيح ونعمته المجانية اعتماداً على أمانته وحبه لذلك فالتائب المسيحى لا ينتفخ ولا يفتخر بل يظل طوال عمره محتاجاً لرحمة الله وغفرانه. ربى يسوع الغالى القدوس لن أيأس بعد اليوم ولن استهتر أيضاً… لن أتوانى عن القيام عقب السقوط وكذلك لن أتوانى عن دعوتك لحمايتى من السقوط إكراماً لجسدك واحتراماً لكنيستك… واثقاً أنه بكثرة غفرانك ستضمحل الخطية من أعضائى وسأترك فى الفضيلة حتماً… وسيجىء اليوم بنعمتك – الذى فيه يزداد لهيب حبك فى قلبى أعلى من لهيب الشهوة فى جسدى… “نفسى تنتظر الرب أكثر من المراقبين الصبح” (مز 6:130) لك المجد آمين. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
29 أكتوبر 2018

عصر ما بعد السبي وحتى التجسد

بعد العودة من السبي واستقرار أمور شعب الله نسبيًا، وبناءً على تنظيم عزرا ونحميا لخدمة الهيكل والتسبيح، عادت للهيكل أمجاده القديمة،ومع مرور الوقت استقرت التنظيمات الخاصة بالعبادة داخل الهيكل،وصار لها ترتيب مستقر استمر حتى مجيء ابن الله بالجسد، حيث شارك فيها بالتسبيح ربنا يسوع مع تلاميذه القديسين والدارس في تاريخ الليتورجيا اليهودية وترتيباتها الطقسية يجد هناك نصوصًا وطقوسًا تشبه إلى حد كبير ترتيب طقس صلوات كنيستنا المسيحية في وجوه كثيرة، ونستطيع أن نتتبع هذه الترتيبات الطقسية اليهودية على مدار السنة فيما يلي: ? استخدام المزامير والتسابيح في العبادة اليومية بهيكل أورشليم كانت المزامير وتسابيح الأنبياء تُشكِّل المادة الأساسية لكل العبادة بالتسبيح في الهيكل بأورشليم فعلى مدار الأسبوع كانت هناك تسابيح مُخصصة لكل يوم، وكذلك كانت هناك تسابيح مُرتبة للأعياد والمواسم الدينية:- (1) تسابيح الأيام يوم الأحد:- يُمثل يوم بداية الخليقة، فكانوا يُسبِّحون بالمزمور (24): "للرَّب الأرضُ ومِلؤُها المَسكونَةُ، وكُلُّ السّاكِنينَ فيها لأنَّهُ علَى البِحارِ أسَّسَها، وعلَى الأنهارِ ثَبَّتَها مَنْ يَصعَدُ إلَى جَبَلِ الرَّب؟ الطّاهِرُ اليَدَينِ، والنَّقيُّ القَلبِ" إنه مزمور يتكلَّم عن سيادة الرب على الخليقة كلها، وصفات الشعب الذي يستحق أن يعبُده، ثم يختم بالحَث على الخضوع لهذا الإله العظيم الجبار. يوم الاثنين:- هو يوم خلق السماء (الجَلَد)، فكانوا يُسبِّحون بالمزمور (48) حيث يشكرون الله من أجل السماء الأرضية (صهيون)، فيقولون: "عظيمٌ هو الرَّبُّ وحَميدٌ جِدًّا في مدينةِ إلهِنا، جَبَلِ قُدسِهِ جَميلُ الارتِفاعِ، فرَحُ كُل الأرضِ، جَبَلُ صِهيَوْنَ اللهُ في قُصورِها يُعرَفُ مَلجأً كما سمِعنا هكذا رأينا في مدينةِ رَب الجُنودِ، في مدينةِ إلهِنا اللهُ يُثَبتُها إلَى الأبدِ ذَكَرنا يا اللهُ رَحمَتَكَ في وسطِ هيكلِكَ". يوم الثلاثاء:- هو يوم خلق الأرض والبحار والزروع، فيُسبِّحون بالمزمور (82) الذي يتكلّم عن الظلم الذي أصاب الأرض، فصار الناس كالبحر الذي يبتلع الأحياء بدون سبب: " حتَّى مَتَى تقضونَ جَوْرًا وترفَعونَ وُجوهَ الأشرارِ؟ مِنْ يَدِ الأشرارِ أنقِذوالا يَعلَمونَ ولا يَفهَمونَ في الظُّلمَةِ يتمَشَّوْنَ تتَزَعزَعُ كُلُّ أُسُسِ الأرضِ". + يوم الأربعاء:- هو يوم خلق الشمس والقمر والنجوم، فيُسبِّحون بالمزمور (94) وفيه يتكلمون مع الله (شمس البر): "يا إلهَ النَّقَماتِ يارَبُّ، يا إلهَ النَّقَماتِ، أشرِقِ ارتَفِعْ يا دَيّانَ الأرضِ ويقولونَ: الرَّبُّ لا يُبصِرُ، وإلهُ يعقوبَ لا يُلاحِظُ (وهم لا يعلمون أن الله هو النور الحقيقي الذي يعطي البصر والبصيرة للخليقة التي خلقها) الغارِسُ الأُذُنَ ألا يَسمَعُ؟ الصّانِعُ العَينَ ألا يُبصِرُ؟الرَّبُّ يَعرِفُ أفكارَ الإنسانِ أنَّها باطِلَةٌ عِندَ كثرَةِ هُمومي في داخِلي، تعزياتُكَ تُلَذذُ نَفسي فكانَ الرَّبُّ لي صَرحًا، وإلهي صَخرَةَ مَلجإي". + يوم الخميس:- خلق الله الحيوانات البحرية وطيور السماء، فيُسبِّحون بالمزمور (81): "رَنموا للهِ قوَّتِنا اهتِفوا لإلهِ يعقوبَ"، لقد عبر الإسرائيليون البحر الأحمر ككائنات بحرية، ثم طاروا في برية سيناء كطيور السماء، لذلك يُسبِّحون: "ارفَعوا نَغمَةً وهاتوا دُفًّا، عودًا حُلوًا مع رَبابٍ انفُخوا في رأسِ الشَّهرِ بالبوقِ، عِندَ الهِلالِ ليومِ عيدِنا عِندَ خُروجِهِ علَى أرضِ مِصرَ في الضيقِ دَعَوْتَ فنَجَّيتُكَ استَجَبتُكَ في سِترِ الرَّعدِ جَرَّبتُكَ علَى ماءِ مَريبَةَ أنا الرَّبُّ إلهُكَ، الذي أصعَدَكَ مِنْ أرضِ مِصرَأفغِرْ فاكَ فأملأهُ". + يوم الجمعة:- خلق الله البهائم والوحوش، ثم خلق الإنسان تاج الخليقة جميعًا لذلك حق لهم أن يُسبِّحوا الله بالمزمور (93): "الرَّبُّ قد مَلكَ لَبِسَ الجَلالَ لَبِسَ الرَّبُّ القُدرَةَ، ائتَزَرَ بها أيضًا تثَبَّتَتِ المَسكونَةُ لا تتزَعزَعُ كُرسيُّكَ مُثبَتَةٌ منذُ القِدَمِ منذُ الأزَلِ أنتَ رَفَعَتِ الأنهارُ يارَبُّ، رَفَعَتِ الأنهارُ صوتها ترفَعُ الأنهارُ عَجيجَها مِنْ أصواتِ مياهٍ كثيرَةٍ، مِنْ غِمارِ أمواجِ البحرِ، الرَّبُّ في العُلَى أقدَرُ شَهاداتُكَ ثابِتَةٌ جِدًّا ببَيتِكَ تليقُ القَداسَةُ يارَبُّ إلَى طولِ الأيّامِ". + وفي يوم السبت:- استراح الله من جميع أعمال الخليقة التي خلقها، فيُسبِّحون بالمزمور (92)، وذلك أثناء سكب السكيب المقدس(1) في يوم السبت الذي فيه يجتمعون بالهيكل وفي المجامع للصلاة، والتسبيح، وقراءة كلمة الله - وكان يُعتبر عندهم عيدًا أسبوعيًا عظيمًا. كان اللاويون يُرنمون هذا المزمور على ثلاث مراحل، والكهنة ينفخون في الأبواق ويقولون: "حَسَنٌ هو الحَمدُ للرَّب والتَّرَنُّمُ لاسمِكَ أيُّها العَليُّ. أنْ يُخبَرَ برَحمَتِكَ في الغَداةِ، وأمانَتِكَ كُلَّ ليلَةٍ، علَى ذاتِ عشَرَةِ أوتارٍ وعلَى الرَّبابِ، علَى عَزفِ العودِ لأنَّكَ فرَّحتَني يارَبُّ بصَنائعِكَ بأعمالِ يَدَيكَ أبتَهِجُ ما أعظَمَ أعمالكَ يارَبُّ! وأعمَقَ جِدًّا أفكارَكَ! أمّا أنتَ يارَبُّ فمُتَعالٍ إلَى الأبدِ الصديقُ كالنَّخلَةِ يَزهو، كالأرزِ في لُبنانَ يَنمو مَغروسينَ في بَيتِ الرَّب، في ديارِ إلهِنا يُزهِرونَ أيضًا يُثمِرونَ في الشَّيبَةِ يكونونَ دِسامًا وخُضرًا، ليُخبِروا بأنَّ الرَّبَّ مُستَقيمٌ صَخرَتي هو ولا ظُلمَ فيهِ"وفي نهاية ذبيحة السبت يُغني اللاويون "مزمور موسى" (تث32)، مُقسمًا على ستة أقسام، يتخللها نفخات أبواق الكهنة، ويشترك كل الشعب في التسبيح (راجع تث1:32-43) ثم يختمون التسبيح بترنيم "تسبحة موسى" (خر15)، وهو الهوس الأول الذي تستخدمه كنيستنا القبطية حتى اليوم ليُعبِّر عن فرحتنا بالخلاص الذي تممه الرب لنا بعبورنا المعمودية كما عبر بنو إسرائيل البحر. (2) تسابيح الأعياد في الأعياد أيضًا كانت هناك مزامير وتسابيح مُخصصة لكل عيد فعلى سبيل المثال:- (1) عيد الفصح:- كانوا يُرتلون مزامير التهليل (112-118) وفيها يُسبِّحون الله على أعماله العظيمة في خروج بني إسرائيل من مصر كان الاحتفال يبدأ بالتقديس (أي يقولون تسبحة "قدوس قدوس قدوس")، ثم يتناولون كأسًا من عصير الكرمة، ثم يسأل أحد الجلوس عن أهمية هذا اليوم فيُجيبه رئيس المتكأ: لأنه "بيد قوية أخرجنا الرب من مصر"، بعد ذلك يُسبِّحون بالجزء الأول من المزامير وتُسمى (مزامير الهلّيل): "نورٌ أشرَقَ في الظُّلمَةِ للمُستَقيمينَ هو حَنّانٌ ورحيمٌ وصِديقٌ الصديقُ يكونُ لذِكرٍ أبدي لا يَخشَى مِنْ خَبَرِ سوءٍ قَلبُهُ ثابِتٌ مُتَّكِلاً علَى الرَّب قَلبُهُ مُمَكَّنٌ فلا يَخافُ حتَّى يَرَى بمُضايِقيهِ (فرعون وجنوده) شَهوةُ الشريرِ تبيدُ" (مز112)هذا الخروج العظيم يستحق التسبيح والتمجيد لله: "هَللويا سبحوا يا عَبيدَ الرَّب مَنْ مِثلُ الرَّب إلهِنا المُقيمِ المَسكينَ مِنَ التُّرابِ، الرّافِعِ البائسَ مِنَ المَزبَلَةِ ليُجلِسَهُ مع أشرافٍ، مع أشرافِ شَعبِهِ المُسكِنِ العاقِرَ في بَيتٍ، أُمَّ أولادٍ فرحانَةً" (مز113) إنه يتكلَّم عن الأمة التي كانت مُستعبدة، ثم حررها الله بالعبور المقدَّس في الفصح العظيم وفي المزمور (114) يتكلَّم بوضوح عن الخروج المقدس: "عِندَ خُروجِ إسرائيلَ مِنْ مِصرَ، وبَيتِ يعقوبَ مِنْ شَعبٍ أعجَمَ، كانَ يَهوذا مَقدِسَهُ، وإسرائيلُ مَحَلَّ سُلطانِهِ البحرُ رَآهُ فهَرَبَ الأُردُنُّ رَجَعَ إلَى خَلفٍ الجِبالُ قَفَزَتْ مِثلَ الكِباشِ، والآكامُ مِثلَ حُملانِ الغَنَمِ ما لكَ أيُّها البحرُ قد هَرَبتَ؟ وما لكَ أيُّها الأُردُنُّ قد رَجَعتَ إلَى خَلفٍ؟ وما لكُنَّ أيَّتُها الجِبالُ قد قَفَزتُنَّ مِثلَ الكِباشِ، وأيَّتُها التلالُ مِثلَ حُملانِ الغَنَمِ؟ أيَّتُها الأرضُ تزَلزَلي مِنْ قُدّامِ الرَّب، مِنْ قُدّامِ إلهِ يعقوبَ! المُحَولِ الصَّخرَةَ إلَى غُدرانِ مياهٍ، الصَّوّانَ إلَى يَنابيعِ مياهٍ" بعد ذلك يتناولون كأسًا ثانية، ويغسلون أياديهم، ثم يأكلون الأعشاب المُرّة والفطير، ثم كأسًا ثالثة، ويُسبِّحون بباقي مزامير التهليل ثم المزمور (115) الذي يتحدث عن حالهم قبل العبور حيث العدو وراءهم والبحر أمامهم، وهم يطلبون أن يتمجد الله بانقاذهم من يد أعدائهم الوثنيين: "ليس لنا يارَبُّ ليس لنا، لكن لاسمِكَ أعطِ مَجدًا، مِنْ أجلِ رَحمَتِكَ مِنْ أجلِ أمانَتِكَ لماذا يقولُ الأُمَمُ: أين هو إلهُهُمْ؟ إنَّ إلهَنا في السماءِ كُلَّما شاءَ صَنَعَ أصنامُهُمْ فِضَّةٌ وذَهَبٌ، عَمَلُ أيدي الناسِ لها أفواهٌ ولا تتكلَّمُ لها أعيُنٌ ولا تُبصِرُ لها آذانٌ ولا تسمَعُ لها مَناخِرُ ولا تشُمُّ لها أيدٍ ولا تلمِسُ لها أرجُلٌ ولا تمشي، ولا تنطِقُ بحَناجِرِها مِثلها يكونُ صانِعوها، بل كُلُّ مَنْ يتَّكِلُ علَيها"ثم يردف في باقي المزمور بحَثْ شعب الله أن يتكلّوا عليه، لأنهم سبقوا واختبروا قوته، وصنيعه معهم أمام البحر الأحمروفي المزمور (116) يُعبّر عن حال الشعب بعد العبور، وتأمله فيما كان عليه، وكيف أنقذه الرب من حبال الموت وشدائد الهاوية: " لأنَّكَ أنقَذتَ نَفسي مِنَ الموتِ، وعَيني مِنَ الدَّمعَةِ، ورِجلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ ماذا أرُدُّ للرَّب مِنْ أجلِ كُل حَسَناتِهِ لي؟ حَلَلتَ قُيودي فلكَ أذبَحُ ذَبيحَةَ حَمدٍ، وباسمِ الرَّب أدعو"ثم يُسبِّحون بالمزمور (117) حيث يدعون كل الأمم للمشاركة في التسبيح بهذا العيد العظيم:"سبحوا الرَّبَّ يا كُلَّ الأُمَمِ حَمدوهُ يا كُلَّ الشُّعوبِ لأنَّ رَحمَتَهُ قد قَويَتْ علَينا، وأمانَةُ الرَّب إلَى الدَّهرِ" والمزمور (118): "اِحمَدوا الرَّبَّ لأنَّهُ صالِحٌ" وكانوا يرتلونه بلحن طويل ختامًا للتسبيح في هذا العيد العظيم، ويتناولون في الآخر كأسًا رابعة، وينتهي الاحتفال وكانت هذه المزامير تُرنم أيضًا أثناء ذبح خروف الفصح، والكهنة يُبوقون ثلاث مرات بأبواقهم الفضية. (2) عيد اليوبيل:- الذي يحتفلون فيه بتحرير العبيد، والإبراء من الديون كانوا يُسبِّحون بالمزمور (81) لله الذي حرَّرهم من عبودية فرعون، وأنقذهم من الظلم والانكسار: "انفُخوا في رأسِ الشَّهرِ بالبوقِ، عِندَ الهِلالِ ليومِ عيدِنا عِندَ خُروجِهِ علَى أرضِ مِصرَ (عندما تحرر يوسف من العبودية والسجن، وصار رئيسًا ومُدبرًا) جَعَلهُ شَهادَةً في يوسُفَ عِندَ خُروجِهِ علَى أرضِ مِصرَ سمِعتُ لسانًا لم أعرِفهُ: أبعَدتُ مِنَ الحِملِ كتِفَهُ (حررته من نير العبودية) يَداهُ تحَوَّلَتا عن السَّل (تحررتا من السخرة والعمل القاسي) في الضيقِ دَعَوْتَ فنَجَّيتُكَ (حررنا من عبودية إبليس) استَجَبتُكَ في سِترِ الرَّعدِ. جَرَّبتُكَ علَى ماءِ مَريبَةَ اِسمَعْ يا شَعبي فأُحَذرَكَ يا إسرائيلُ، إنْ سمِعتَ لي! لا يَكُنْ فيكَ إلهٌ غَريبٌ، ولا تسجُدْ لإلهٍ أجنَبي أنا الرَّبُّ إلهُكَ، الذي أصعَدَكَ مِنْ أرضِ مِصرَ أفغِرْ فاكَ فأملأهُ فلم يَسمَعْ شَعبي لصوتي، وإسرائيلُ لم يَرضَ بي فسَلَّمتُهُمْ إلَى قَساوَةِ قُلوبِهِمْ، ليَسلُكوا في مؤامَراتِ أنفُسِهِمْ. لو سمِعَ لي شَعبي، وسلكَ إسرائيلُ في طُرُقي، سريعًا كُنتُ أُخضِعُ أعداءَهُمْ، وعلَى مُضايِقيهِمْ كُنتُ أرُدُّ يَدي مُبغِضو الرَّب يتذَلَّلونَ لهُ، ويكونُ وقتُهُمْ إلَى الدَّهرِ وكانَ أطعَمَهُ مِنْ شَحمِ الحِنطَةِ، ومِنَ الصَّخرَةِ كُنتُ أُشبِعُكَ عَسَلاً"لقد كان التسبيح والمزامير جزءًا أساسيًا في احتفالات كنيسة العهد القديم بالأعياد المقدسة. (3) عيد المظال:- وفيه يتذكرون أيام أن كانوا يعيشون في خيام في البرية قبل دخولهم أرض الموعد فكانوا يُسبِّحون بالمزمورين (67،65) فيقولون في المزمور (65):"لك ينبغي التسبيح يا الله في صهيون، ولك يُوفَى النَّذرُ يا سامع الصلاةِ، إليك يأتي كل بشرٍآثام قد قويت عليَّ مَعَاصينا أنت تُكفِّر عنها طوبى للذي تختاره وتُقرِّبه ليسكُن في ديارِك لنشبَعنَّ من خير بيتك، قُدسِ هيكلِك تجعل مطالع الصباح والمساء تبتهج تعهَّدت الأرض وجعلتها تفيضُ تُغنيها جدًّا سواقي الله ملآنة ماءً تُهيِّئ طعامهم لأنك هكذا تُعدُّها أَرْوِ أتلامَهَا مَهِّد أخاديدَها بالغُيوث تٌحلِّلُها تُبارِك غلَّتها كلَّلت السنة بِجُودك، وآثارك تَقطُر دسمًا تَقطُر مراعي البرية، وتتنطَّق الآكامُ بالبهجة اكتَست المُروجُ غنمًا، والأودية تتعطَّف برًّا تَهتف وأيضًا تُغنِّي"وفي المزمور (67) كانوا يتضرعون إلى الله أن يترأف عليهم، وأن تمتد معرفته بين الشعوب فيقولون:"ليَتَحَنَّنِ اللهُ علَينا وليُبارِكنا ليُنِرْ بوَجهِهِ علَينا لكَيْ يُعرَفَ في الأرضِ طَريقُكَ، وفي كُل الأُمَمِ خَلاصُكَ يَحمَدُكَ الشُّعوبُ يا اللهُ يَحمَدُكَ الشُّعوبُ كُلُّهُمْ تفرَحُ وتبتَهِجُ الأُمَمُ لأنَّكَ تدينُ الشُّعوبَ بالاستِقامَةِ، وأُمَمَ الأرضِ تهديهِمْ يَحمَدُكَ الشُّعوبُ يا اللهُ يَحمَدُكَ الشُّعوبُ كُلُّهُمْ الأرضُ أعطَتْ غَلَّتَها يُبارِكُنا اللهُ إلهنا يُبارِكُنا اللهُ، وتخشاهُ كُلُّ أقاصي الأرضِ"كان ضمن طقس هذا العيد العظيم أنه كان يخرج من الهيكل موكب عظيم من الكهنة واللاويين والشعب، ويذهبون إلى بركة سلوام كان أحد الكهنة يحمل وعاء من الذهب يملأه ماءً من بركة سلوام، ويعود الموكب إلى الهيكل مصحوبًا بالهتاف والترانيم والتسابيح يقودها جماعة المُسبحين وداخل الهيكل يستقبل الكهنة هذا الموكب بالنفخ ثلاثًا في الأبواق، ثم يصبون الماء على المذبح إشارة لخروج الماء من الصخرة على يد موسى النبي وشُرب آبائهم منها، وأثناء انسكاب الماء تُعزف الموسيقى في الهيكل، ويرنمون مزامير الهلّيل (113-118)، (التي يستخدمونها في عيد الفصح) كذلك كان عندما يأتون إلى المقاطع: "اِحمَدوا الرَّبَّ لأنَّهُ صالِحٌ"، "يارَبُّ أنقِذْ" يُلوح الشعب بالأغصان ويُرددون من تسابيح إشعياء: "هوذا اللهُ خَلاصي فأطمَئنُّ ولا أرتَعِبُ، لأنَّ ياهَ يَهوهَ قوَّتي وترنيمَتي وقد صارَ لي خَلاصًا فتَستَقونَ مياهًا بفَرَحٍ مِنْ يَنابيعِ الخَلاص صَوتي واهتِفي يا ساكِنَةَ صِهيَوْنَ، لأنَّ قُدّوسَ إسرائيلَ عظيمٌ في وسطِكِ" (إش2:12-6)وقد شارك السيد المسيح نفسه في احتفالات عيد المظال (راجع يو2:7، 14،10) وفي أحد السنوات التي حضر فيها هذا العيد، وعند وصول موكب الكهنة الموصوف سابقًا إلى الهيكل وعند انسكاب الماء غزيرًا من الجرة التي يحملونها أراد الرب يسوع أن يُنبِّه ذهنهم إلى الماء الحقيقي للخلاص، والصخرة الحقيقية التي هي ربنا يسوع المسيح نفسه فقال لهم: "إنْ عَطِشَ أحَدٌ فليُقبِلْ إلَيَّ ويَشرَبْ مَنْ آمَنَ بي، كما قالَ الكِتابُ، تجري مِنْ بَطنِهِ أنهارُ ماءٍ حَي" (يو37:7-38)، وكان هذا الإعلان: "في اليومِ الأخيرِ العظيمِ مِنَ العيدِ" (يو37:7)لقد أراد الرب يسوع أن يشرح لليهود أن كل ما كُتب في العهد القديم كان رمزًا له، وأن كل احتفالاتهم الطقسية كانت تمهيدًا لاكتشاف شخصه القدوس فهو بالحق شبع نفوسنا، ورواء ظمأنا "مَنْ يُقبِلْ إلَيَّ فلا يَجوعُ، ومَنْ يؤمِنْ بي فلا يَعطَشُ أبدًا" (يو35:6) وقد سبق وتنبأ بذلك إشعياء النبي حينما قال: "أيُّها العِطاشُ جميعًا هَلُمّوا إلَى المياهِ، والذي ليس لهُ فِضَّةٌ تعالَوْا اشتَروا وكُلوا. هَلُمّوا اشتَروا بلا فِضَّةٍ وبلا ثَمَنٍ خمرًا ولَبَنًا" (إش1:55)، وسيتحقق هذا بالحقيقة في الأبدية السعيدة "والرّوحُ والعَروسُ يقولانِ: تعالَ! ومَنْ يَسمَعْ فليَقُلْ: تعالَ! ومَنْ يَعطَشْ فليأتِ ومَنْ يُرِدْ فليأخُذْ ماءَ حياةٍ مَجّانًا" (رؤ17:22) إن المسيح صخرتنا الحقيقي هو موضوع تسبيحنا اليوم، كما كان هو موضوع تسبيح كل الأجيال فكانوا يتكلّمون عنه في تسبيحهم قائلين: " لَنَشبَعَنَّ مِنْ خَيرِ بَيتِكَ، قُدسِ هيكلِكَ سواقي اللهِ مَلآنَةٌ ماءً" (مز65). (4) عيد الأبواق:- هو عيد رأس السنة المدنية عند اليهود، وبداية الشهر السابع من السنة الدينية عندهم، "وكلَّمَ الرَّبُّ موسَى قائلاً: كلّمْ بَني إسرائيلَ قائلاً: في الشَّهرِ السّابِعِ، في أوَّلِ الشَّهرِ يكونُ لكُمْ عُطلَةٌ، تذكارُ هُتافِ البوقِ، مَحفَلٌ مُقَدَّسٌ عَمَلاً مّا مِنَ الشُّغلِ لا تعمَلوا، لكن تُقَربونَ وقودًا للرَّب" (لا23:23-25) وكان الكهنة ينفخون في الأبواق، ويعزف اللاويون على آلات موسيقية، ويترنم الشعب بالمزامير خاصة مزمور (81)، (وهو نفس المزمور المُستخدم في عيد اليوبيل)، ثم يُبارك الكاهن الشعب بالبركة المقدسة التي كان يستخدمها موسى النبي "يُبارِكُكَ الرَّبُّ ويَحرُسُكَ يُضيءُ الرَّبُّ بوَجهِهِ علَيكَ ويَرحَمُكَ يَرفَعُ الرَّبُّ وجهَهُ علَيكَ ويَمنَحُكَ سلامًا" (عد24:6-26)وقد وصف سفر العدد تفاصيل الاحتفال بهذا العيد: "وفي الشَّهرِ السّابِعِ، في الأوَّلِ مِنَ الشَّهرِ، يكونُ لكُمْ مَحفَلٌ مُقَدَّسٌ عَمَلاً مّا مِنَ الشُّغلِ لا تعمَلوا. يومَ هُتافِ بوقٍ يكونُ لكُمْ. وتعمَلونَ مُحرَقَةً لرائحَةِ سرورٍ للرَّب" (عد1:29-2) لقد كان الرقم (7) رقمًا محبوبًا ومقدسًا في العبادة اليهودية، لأنه يُمثل السبت والراحة والعبادة، ولأنه رقم الكمال لذلك كانوا يحتفلون في بداية الشهر السابع بهذا العيد أما في المسيحية فقد صار الرقم (8) هو الرقم المحبوب والمُقدس، لأنه يرمز إلى الأبدية، حيث ندخل في يوم جديد بعد السبعة أيام، التي تُمثل الزمان الحاضر لذلك قام السيد المسيح في اليوم الثامن من الأسبوع (الأحد)، وصار يوم الأحد هو يوم العبادة المسيحية بدلاً من سبت اليهود ولعل الختان في اليوم الثامن من ميلاد الطفل كان يسبق ويُشير إلى العهد الجديد بدم المسيح وقيامته كذلك في شريعة التطهير حيث تقدَّم الذبائح في اليوم الثامن (راجع عد10:6) إشارة إلى التطهير بدم المسيح وقيامته أيضًا بعد أن استعرضنا الرحلة الطويلة لخدمة التسبيح في العهد القديم منذ عهد داود حتى مجيء رب المجد في الجسد لنا أن نتساءل:ما هو موقف الرب يسوع نفسه من التسابيح التي كان يمارسها اليهود أيام حضوره بالجسد على الأرض؟ نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
31 مارس 2019

الاحد الرابع احد السامرية

السامرية جاءت لتشرب من ماء غير مرو، فقابلها يسوع وقال لها: "لو كنت تعلمين عطية الله (المعمودية). لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد (لا تعاد معموديته).بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء (الروح القدس) ينبع إلى حياة أبدية"جاءت السامرية لتشرب من بئر يعقوب وقلبها متعلق بخمسة أزواج وآخر ليس زوجاً.. فوجدت هناك بئر يسوع (المعمودية) والعريس الأوحد مخلص كل البشرية لقد رفع يسوع ذهنها إلى الحياة بالروح والحق، التي تليق بالمسيحيين، ليفطم قلبها من عبادة الحرف التي تليق باليهود والوثنيين إن المعمودية حد فاصل العودة إلى الينبوع الحي "لأن شعبي عمل شرين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية، لينقروا لأنفسهم أباّراً، أباّراً مشققة لا تضبط ماءً " (إر 13:2) الماء الذي كانت تشرب منه السامرية كان ماء غير مروٍ بل كانت تعطش أيضاً إلى الشهوات والنجاسات "كل مَنْ يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً (يو13:4) وهي مسكينة لأنها عطشانة لم تجد ما يرويها.. فلجأت، إلى آبار العالم المشققة، لعلها ترتوي ولكن عطشها كان يزيد في كل مرة "كان لَكِ خمسة أزواج، والذي لكِ الآن ليس هو زوجك" (يو18:4)عندما رجعت إلى ينبوع ماء الحياة، هناك الارتواء بالحق "لو كنتِ تعلمين عطية الله، ومَنْ هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حياً" (يو 10:4)"مَنْ يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الآبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماءٍ ينبع إلى حياة أبدية" (يو14:4) مسكينة هي النفس التي لم تلتق بعد بينبوع ماء الحياة مَنْ يستطيع أن يطفئ لهيب ظمأ الناس؟مَنْ يستطيع أن ينجو من هلاك العطش إلى الشهوات؟الينبوع وحده قادر أن يروي ويشفي ويسعد الإنسان"يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي" (يو 15:4) أعطني من مياه ينبوعك النقي، لكي لا احتاج مرة أخرى إلى قاذورات العالم، ولكي لا آتي هنا مرة أخرى إلى حيث أماكن العثرة والخطية والضياع حقاً إن "النفس الشبعانة تدوس العسل، وللنفس الجائعة كل مر حلو" (أم 7:27) فأعطني يا سيدي القدوس أن أرجع إليك، لأشبع بك فأدوس على عسل العالم المر وأنكر الفجور والشهوات، وأكون لك إلى المنتهى. نيافة الحبر الجليل الأنبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
10 ديسمبر 2018

الرب يسوع يُشارك في خدمة التسبيح

نستطيع أن نتوقع أن ربنا يسوع المسيح نفسه قد اشترك في ترنيم المزامير داخل الهيكل، وفي المجامع أيام السبت حسب الترتيب المستقر وقتها هذا الأمر بدأ منذ طفولة الرب يسوع "وكانَ أبَواهُ يَذهَبانِ كُلَّ سنَةٍ إلَى أورُشَليمَ في عيدِ الفِصحِ" (لو41:2)، واستمر بعد ذلك وهذا يتضح من بقائه في الهيكل في سن 12 سنة "وبَعدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ وجَداهُ في الهيكلِ، جالِسًا في وسطِ المُعَلمينَ، يَسمَعُهُمْ ويَسألُهُمْ" (لو46:2) ويتضح أيضًا من مواظبة السيد المسيح على المجمع في أيام السبوت "وجاءَ إلَى النّاصِرَةِ حَيثُ كانَ قد ترَبَّى ودَخَلَ المَجمَعَ حَسَبَ عادَتِهِ يومَ السَّبتِ وقامَ ليَقرأَ" (لو16:4) لقد كان الرب يسوع مُشاركًا في كل العبادة، لأنه بتجسده كان لا بد له أن يُمارس كل ما يختص بنا كإنسان كامل وقد شرح الرب يسوع ذلك في قوله ليوحنا المعمدان: "لأنَّهُ هكَذَا يَليقُ بنا أنْ نُكَملَ كُلَّ بِرٍّ" (مت15:3)وقد شارك أيضًا تلاميذ الرب يسوع في خدمة التسبيح بالهيكل وهذا واضح في التسبيح الذي قدَّمه تلاميذه الأطهار عند دخوله أورشليم "ولَمّا قَرُبَ عِندَ مُنحَدَرِ جَبَلِ الزَّيتونِ، ابتَدأَ كُلُّ جُمهورِ التلاميذِ يَفرَحونَ ويُسَبحونَ اللهَ بصوتٍ عظيمٍ، لأجلِ جميعِ القوّاتِ التي نَظَروا" (لو37:19) وكذلك في ليلة آلام السيد المسيح حيث قيل: "ثُمَّ سبَّحوا وخرجوا إلَى جَبَلِ الزَّيتونِ" (مت30:26) ويغلب الظن أنهم سبَّحوا بـ "مزامير التهليل" حسب عادة اليهود في مثل هذا العيد، وهي (المزامير 112 - 118). (1) وصف لروحانية أيام السيد المسيح على الأرض يُمكن أن نقول إن التسبيح وخدمة الهيكل والذبائح كانت قد وصلت إلى قمم عالية وقت تجسد الله فكان الهيكل يعُج دائمًا بالمصلين، وكانت مواعيد الأعياد والصلوات والذبائح تُتمم بكل تدقيق وحرص، كما يظهر في قصة زكريا: "فبَينَما هو يَكهَنُ في نَوْبَةِ فِرقَتِهِ أمامَ اللهِ، حَسَبَ عادَةِ الكَهَنوتِ، أصابَتهُ القُرعَةُ أنْ يَدخُلَ إلَى هيكلِ الرَّب ويُبَخرَ" (لو8:1-9)، مما يدل على انتظام الفرق والنوبات والعوائد الكهنوتية والدخول للهيكل والتبخير كانت هناك أيضًا فئات كثيرة من الشعب حريصة على إتمام الواجبات الدينية مثل الفريسيين والصدوقيين والكتبة وإن اتسمت عبادتهم بالحرفية وغياب الروحانية، ولكن مع ذلك يذكر العهد الجديد العديد من الشخصيات المباركة التي مارست العبادة بروحانية وتقوى مما يدل على الأثر القوي لذبيحة التسبيح على حياتهم وروحانيتهم ومن هؤلاء مثلاً: زكريا الكاهن وامرأته أليصابات اللذان شهد عنهما الإنجيل "وكانا كِلاهُما بارَّينِ أمامَ اللهِ، سالِكَينِ في جميعِ وصايا الرَّب وأحكامِهِ بلا لومٍ" (لو6:1) ولم يكونا هما فقط بل قيل أيضًا: إن جمهورًا كثيرًا من الشعب كان يصلي ففي قصة ظهور الملاك لزكريا قيل: "وكانَ كُلُّ جُمهورِ الشَّعبِ يُصَلّونَ خارِجًا وقتَ البَخورِ" (لو10:1)، وقد فهم الشعب بكل حِس روحي دقيق أن زكريا قد رأى رؤيا في الهيكل لأنه كان صامتًا بعد خروجه من الهيكل (راجع لو22:1). (2) شخصيات روحانية بارزة عاصرت التجسد الإلهي إنه جيل عظيم أنجب زكريا وأليصابات، وأنجب يوحنا أعظم مواليد النساء، بل وأنجب سيدة كل البنات العذراء القديسة مريم من والديْن تقيين أيضًا وهما يواقيم وحنة وهذا الجيل أيضًا أنتج لنا كل الآباء الرسل الأطهار، وكل الجيل الأول للمسيحيين قبل دخول الأمم في الإيمان حقًا لقد صلبوا رب المجد، ولكن في وسط ذلك الجيل المعوج والملتوي كانت هناك أنوار تضيء بينهم في العالم (راجع فيلبي15:2) وأعتقد أن الفضل في ذلك يرجع إلى تهذيبهم روحيًا من خلال ذبيحة التسبيح والصلاة بالهيكل لقد كانت معظم تسبحة "العذراء مريم" مأخوذة من كلمات المزامير والتسابيح الموجودة بالهيكل مما يدل على شِبعها بهذه الروح الكنسية العميقة بسبب تواجدها الدائم بالهيكل قبل أن يأخذها الشيخ يوسف النجار إلى منزله وكذلك تسبحة "زكريا" بعد ولادة يوحنا المعمدان امتلأت بتعابير من المزامير والتسابيح، والتسبحة التي فاه بها سمعان الشيخ تدل على روحانية سامية في تأليف التسبيح الكنسي كذلك قيل عن "حنة النبية" بنت فنوئيل إنها كانت "وهي أرمَلَةٌ نَحوَ أربَعٍ وثَمانينَ سنَةً، لا تُفارِقُ الهيكلَ، عابِدَةً بأصوامٍ وطَلِباتٍ ليلاً ونهارًا فهي في تِلكَ السّاعَةِ وقَفَتْ تُسَبحُ الرَّبَّ، وتكلَّمَتْ عنهُ مع جميعِ المُنتَظِرينَ فِداءً في أورُشَليمَ" (لو37:2-38) إنني أتعجب من هذه الروحانية السامية فهذه امرأة تعيش في الهيكل 84 سنة، وعندها روح النبوة، وتتوقع مع كثيرين من سكان أورشليم فداءً عتيدًا أن يحدث قريبًا حسب النبوات لذلك تقف في استقبال الطفل يسوع تُسِّبحه وتُمجد خلاص الله!!!من الظلم أن نعتبر كل الجيل الذي ظهر فيه السيد المسيح جيلاً شريرًا لأنهم صلبوه، ولكن دعونا نرى هذه الأنوار التي تدل على الروحانية السامية في بعض الأشخاص المعاصرين لهذا الجيل. لقد قيل أيضًا عن "يوسف الرامي" إنه: "كانَ هو أيضًا مُنتَظِرًا ملكوتَ اللهِ" (مر43:15). و"شاول الطرسوسي" بالرغم من أنه كان يضطهد المسيحيين، لكنه كان يفعل ذلك بجهل كأنه يقدم خدمة لله حسب قول السيد المسيح: "بل تأتي ساعَةٌ فيها يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقتُلُكُمْ أنَّهُ يُقَدمُ خِدمَةً للهِ" (يو2:16)، وقد اعترف بذلك القديس بولس الرسول قائلاً: "أنا الذي كُنتُ قَبلاً مُجَدفًا ومُضطَهِدًا ومُفتَريًا ولكنني رُحِمتُ، لأني فعَلتُ بجَهلٍ في عَدَمِ إيمانٍ" (1تي13:1)، وطفوليته كانت مليئة بمعرفة الله، كما شهد هو بنفسه "فسيرَتي منذُ حَداثَتي التي مِنَ البُداءَةِ كانَتْ بَينَ أُمَّتي في أورُشَليمَ يَعرِفُها جميعُ اليَهودِ، عالِمينَ بي مِنَ الأوَّلِ، إنْ أرادوا أنْ يَشهَدوا، أني حَسَبَ مَذهَبِ عِبادَتِنا الأضيَقِ عِشتُ فريسيًّا" (أع4:26-5) وإن كانت روحانياته بطريقة فريسية متشددة، لكنها على كل الأحوال تدل على اهتمام روحي وانشغال بالأمور الدينية بطريقة تناسب الفكر اليهودي الحرفي، ويشهد القديس بولس أيضًا أن الأسباط جميعًا كانوا في حالة روحية عالية توقعًا لمجيء المسيح "الذي أسباطُنا الاثنا عشَرَ يَرجونَ نَوالهُ، عابِدينَ بالجَهدِ ليلاً ونهارًا" (أع7:26) وعائلات كثيرة كانت تتوارث الإيمان والتقوى والعبادة الروحانية مثل عائلة تيموثاوس الرسول فقد كان أيضًا من الشخصيات المباركة في هذا الجيل: جدة تيموثاوس (لوئيس)، وأمه (أفنيكي) "إذ أتذَكَّرُ الإيمانَ العَديمَ الرياءِ الذي فيكَ، الذي سكَنَ أوَّلاً في جَدَّتِكَ لوئيسَ وأُمكَ أفنيكي، ولكني موقِنٌ أنَّهُ فيكَ أيضًا" (2تي5:1) كل هذه الشخصيات الروحانية المباركة المعاصرة لوقت تجسد كلمة الله تدل على المستوى الروحي الراقي الذي كانوا يتمتعون به وتُشير إلى ارتفاع قيمة العبادة والتسبيح عند الشعب. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
10 سبتمبر 2018

الحرب ضد الهراطقة والأخطاء الفكرية للجماعات المنحرفة

ثانياً: الأخطاء الفكرية للجماعات الدينية المنحرفة وبعد أن أسدل الستار على موضوع الانحراف الفكرى العقيدى الذى انجرف فيه مجموعة من الشباب المسيحى، ربما يتساءل البعض: ما هى الأخطاء المنهجية التى سقطوا فيها؟ وما هى خطورتها عليهم وعلى من يتبعهم؟ فى البداية أود أن انبه ذهن القارئ… أن الكنيسة لا تحارب أشخاصاً، ولكنها تقاوم فكراً منحرفاً، ومنهجاً معيباً فى الخدمة… فليست القضية هى فلان من الناس… ولكن هى انحراف فكرى ظهر سابقاً فى أشخاص آخرين.. وربما يظهر مرات ومرات بمدى التاريخ، مع أناس أمناء لأنفسهم وذواتهم فقط، وليسوا أمناء للمسيح والكنيسة.. دعونا الآن ندرس أخطاءهم بطريقة موضوعية منهجية… 1- خطأ وجود منهجين (علناً وسراً) الخادم الصادق يكون صريحاً فى الإيمان (راجع تى 4:1) ويجاهر بهذا الإيمان دون كذب أو مراوغة، بل ويفتخر بإيمانه وبالدفاع عنه، كمثل الرسل وكل الآباء “لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا” (أع 20:4). أما إن لجأ الخادم إلى تغيير تعليمه، فيتكلم علناً كلاماً طيباً وشرحاً جميلاً… وفى السر يتكلم بأمور ملتوية… فهذا دليل على عدم صدقه وعدم أمانته “رجل ذو رأيين هو متقلقل فى جميع طرقه” (يع 8:1). إنه يبدو أمام سامعيه كمثل الملاك البرىء، لأنه حريص ألا يظهر آراءه الخاطئة إلا للخاصة والمريدين… وقد يلجأ إلى تعليم تلاميذه ألا يجاهروا بهذه الآراء، بحجة أنها (تثير شكاية الشيطان ضدهم!!). وبذلك يتعلم تلاميذه الخبث والكذب والدهاء… فهل هذه سمات تعليم المسيح؟ هل علم الآباء بهذه الطريقة الملتوية؟ هل كان القديس أثناسيوس يعلّم فى العلن بتعليم لا يوافق عليه فى السر؟. أو يتكلم فى السر بكلام يخالف ما يقوله فى العلن؟ إن وجود منهجين للتعليم فى خدمة الخادم، دليل قاطع على كذبه، وعدم أمانته، وهو غير جدير أن يتبعه الناس، لأنه غير صادق مع نفسه.أن هؤلاء الكاذبين ينطبق عليهم قول السيد المسيح: “يا أولاد الأفاعى كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار. فإنه من فضلة القلب يتكلم الفم” (مت 34:12).لقد قيل عن الشيطان أنه “متى تكلم بالكذب؛ فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب” (يو 44:8) أما الخادم الحقيقى فهو صادق “من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه. وأما من يطلب مجد الذى أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم” (يو 18:7). يتبقى هنا سؤال: لماذا يصدق الناس الكذب ؟ يجيبنا على هذا، معلمنا بولس الرسول: “الذى مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم فى الهالكين، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا، ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب، لكى يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم” (2تس 9:2-12). 2- خطأ المنهج الانعزالى إن الكنيسة المقدسة هى جسد المسيح.. وكلنا أعضاء فى هذا الجسد، بدون تحزب أو تقوقع.. الجميع مفتوحون على بعض… “هذه الكائنة من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها” بل والممتدة من الأرض إلى السماء، تجمع فى داخلها كل المؤمنين فى السماء وعلى الأرض بدون تمييز. أما هذه الجماعات، فهى تنظر إلى نفسها على أنها كيان خاص متميز… (تلامذة فلان)… ويعطون لأنفسهم اسماً يميزهم عن باقى المؤمنين (المريمات… كنيسة العهد الجديد… التلمذة الروحية… مجموعة الشركة الروحية… الخ). وينظرون إلى باقى المسيحيين، على أنهم مزيفون… ولن يخلص إلا من يدخل هذه الجماعة المتقوقعة والمعزولة (التى عزلت نفسها فكرياً عن باقى نسيج الكنيسة)…وتكون النتيجة أن المنتمى لهذه الجماعات يحتقر أصدقاءه وأسرته وكنيسته والأباء الكهنة والكل.وتظن هذه الجماعة فى نفسها أن الله اختصها برسالة خاصة!!.”أن ظن أحد أنه شئ وهو ليس شيئاً فإنه يغش نفسه” (غل 3:6)، “لا يخدعن أحد نفسه” (1كو 18:3). يجب أن يتضع الإنسان ويعرف قدر نفسه “فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئاً؛ فإنه لم يعرف شيئاً بعد كما يجب أن يعرف” (1كو 2:8). لقد حارب السيد المسيح هذه الروح المتكبرة التى تجعل الكنيسة مليئة بالنتوءات “وقال لقوم واثقين بأنفسهم أنهم أبرار، ويحتقرون الآخرين هذا المثل..” (لو 9:18). “أنتم الذين تبررون أنفسكم قدام الناس. ولكن الله يعرف قلوبكم. أن المستعلى عند الناس هو رجس قدام الله” (لو 15:16). لمثل هؤلاء المنعزلين نهدى قول معلمنا بولس الرسول: “إن وثق أحد بنفسه أنه للمسيح، فليحسب هذا أيضاً من نفسه، أنه كما هو للمسيح، كذلك نحن أيضاً للمسيح” (2كو 7:10). وطبعاً لا يخفى على القارئ، خطورة انتشار هذه الروح المليئة بالكبرياء، والإحساس بالتميز ويصير لهذه الجماعة الخاصة إجتماعات خاصة، وشرائط كاسيت خاصة، وتعليم خاص… وإتصالات سرية… ويتم التنبيه عليهم أن يقرأوا لفلان من الكتّاب، ولا يقرأو لباقى الناس… الخ. إنهم يصيرون كمثل بؤرة صديدية فى جسم الكنيسة، أو كمثل ورم خبيث لا يتآلف مع باقى أنسجة الجسم… واصلح علاج له هو الاستئصال. إن الانعزالية والتحوصل هى التعبير المباشر عن الكبرياء، وإحساس التميز، واحتقار الآخرين، وإدانتهم… وكل هذا ليس من روح المسيح. 3- خطأ القائد الأوحد وإدعاء النبوة : لقد تعلمنا فى الكنيسة أن نستقى مياها بفرح من جميع الآباء… ويصير المسيحى كمثل النحلة النشيطة، يرتشف رحيق أزهار الكنيسة… فيسمع للبابا وللأساقفة وللآباء الكهنة، والوعاظ والخدام… وينفتح قلبه ليتعلم من الجميع… فيصير تكوينه الروحى متوازناً.. قد يكون أحد المتكلمين متخصصاً فى الطقس، لا يتكلم إلا فيه… وآخر له المنهج النسكى فى الشرح، وثالث يتبنى المنهج الإجتماعى والإنسانى… ورابع يشرح الإنجيل بكفاءة… الخ. فإذا أغلقت على نفسى مع معلم أوحد… صرت نسخة منه أتبنى أفكاره وأدافع عنه كمن يدافع عن المسيح!! أما إذا انفتح قلبى على الجميع، صرت مجملاً بالمعرفة، متنوعاً ومتوازناً فى الفكر والسلوك والإيمان.. خطر هذه الجماعات، أنها لا تسمع إلا لقائد واحد… ويقدسونه حتى درجة اعتباره القائد المُلهم، والنبى الذى يسمع صوت الله، ويتكلم مع الروح القدس وجهاً لوجه. وها هو أرميا النبى يقول: “فقال الرب لى: بالكذب يتنبأ الأنبياء بإسمى. لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم. برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم” (أر 14:14).”فإن كثيرين سيأتون باسمى قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثيرين” (مت 5:24). ليس شرطاً أن يدّعى المسيح الكاذب أنه المسيح بوضوح، فحتماً سوف لا يصدقه الناس ولكن يكفى لأن يكون كاذباً أن يدّعى أنه مخلص الكنيسة!! لا يوجد مخلص للكنيسة إلا المسيح فقط، وليس لأى إنسان مهما كان أن يدّعى، أن الكنيسة قد فسدت، وأنها تحتاج إليه أو إلى وجوده، وإلى مجهوده لكى تخلص.”لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضاً” (مت 24:24)، “ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين” (مت 11:24). “احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم..” (مت 15:7،16). “لأنه لا يأتى (المسيح) إن لم يأت الارتداد أولاً، ويستعلن إنسان الخطية إبن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهاً أو معبوداً، حتى أنه يجلس فى هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله” (2تس 3:2،4). حتى إن كان هذا المعلم الأوحد أرثوذكسياً فى فكره، فسيقود تابعيه إلى هوة عبادة الأشخاص.. وإن كان منحرفاً فى فكره، وليس أرثوذكسياً فسيقودهم إلى الهلاك أجمعين.. فالخطر قائم فى الحالتين..السيد المسيح وهو المعلم الصالح الأوحد… لكنه لم يتبع هذا المنهج المريض… فكان يحترم معلماً آخر فى جيله هو يوحنا المعمدان… وقد أرسل تلاميذه اثنين اثنين أمام وجهه، ليشاركوا فى خدمة التعليم… ولم يمسخ شخصيات تلاميذه، بل كان لكل منهم نكهته الخاصة، مع الاحتفاظ بالروح الواحد، والتعليم الواحد، والإيمان الواحد… إن القائد الأوحد، هو خطر على كل الوجوه، حتى ولو كان سليماً عقائدياً… فما بالك إن كان منحرفاً، وإنحرافه واضح… إلى أين سيقود تابعيه ومريديه، بل وعابديه؟ وخطورة القائد الأوحد، أنه يمسخ شخصيات تابعيه، ويعمل لهم (غسيل مخ) فيصيرون عابديه وتابعيه، حتى لو قادهم للانتحار (مثلما حدث فى بعض بلاد الغرب). 4- بث روح الإحباط والفشل لكى يثّبت هذا القائد الأوحد أقدامه فى قلوب تابعيه… عليه أن ينشر فكرة أن الكنيسة كلها فاسدة… ومجموعته فقط هى مجموعة المؤمنين الحقيقيين!! لن يتعب كثيراً هذا القائد، فى كشف سلبيات الآباء والخدام، والتركيز على الضعفات… ويتجاهل الإيجابيات، والقوة فى خدمات الكنيسة… فتصير الدنيا مظلمة فى عيون سامعيه.. إذ يقول لهم: أن كل شئ خراب، والكنيسة مخزية ومخجلة وخربة… ولا أمل فى إصلاحها… وقد فارقها روح الله… وابتعدت عن روح الآباء!!! الخ.إن الخادم الروحى يعلّم أولاده الإيجابية، وعدم إدانة الناس… وأن ننظر إلى الجانب المضىء… أما الجانب الضعيف فعلينا أن نتكاتف ونسد الثغرة… لا أن نفرح بها ونضخمها، وتصير سبباً فى انتشار الإحباط واليأس“من أنت الذى تدين عبد غيرك. هو لمولاه يثبت أو يسقط… أما أنت فلماذا تدين أخاك؟، أو أنت أيضاً لماذا تزدرى بأخيك. لأننا جميعاً سوف نقف أمام كرسى المسيح… بل بالحرى احكموا بهذا أن لا يوضع للأخ مصدمة أو معثرة” (رو 4:14،10،13).لمصلحة من – إلا الشيطان – أن يُعَلَمْ للشباب أن الكنيسة فاسدة… بكل قيادتها وآبائها… من سيتشجع ويتوب؟ من سيتقوى ويخدم؟ أنها بكل تأكيد ضربة شيطان، حتى يفقد الشباب عزيمته على العمل الروحى.ليست الكنيسة فاسدة، بل هى جماعة القديسين، الذين يعمل فيهم الروح القدس… وضعفات الأشخاص تحسب على أنها جهاد قانونى… لأننا لا نستسلم للضعف… ولا يستطيع أحد أن يدّعى أنه بلا ضعف أو بلا خطية… فلماذا ننظر إلى ضعف البعض على أن الكنيسة كلها ضاعت؟ولماذا لا ننظر إلى جهاد هؤلاء المحسوبين أنهم ضعفاء؟ إن هذا المنهج منهج شيطانى الذى “يتكلم بكلام ضد العلى، ويبلى قديسى العلى، ويظن أنه يغيرّ الأوقات والسنة” (دا 25:7) ولماذا لا نكون منصفين، ونقدِّر إيجابيات الناس ونحترم إنجازاتهم؟ إن الخادم الروحى يبث فى الشباب روح التفاؤل، والرجاء والحماس للعمل فى إتضاع، مع روح احترام الآخرين الكبار والصغار.. 5- الغيبية والخرافات المنهج الأرثوذكسى يقوم على الإنجيل والآباء والليتورجيا.. أما أصحاب المناهج المنحرفة، فيكون مرجعهم الرؤى والأحلام والإعلانات و (الروح القدس قال لى)… “لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: لا تغشكم أنبياؤكم الذين فى وسطكم، وعرافوكم ولا تسمعوا لأحلامكم التى تتحلمونها، لأنهم إنما يتنبأون لكم باسمى بالكذب أنا لم أرسلهم يقول الرب” (أر 8:29،9).ويتحكم صاحب المنهج المنحرف فى خصوصيات تلاميذه… فيرشح لأحدهم زوجة، ويمنع زواج آخر، بحجة أن الروح القدس غير موافق!! ويلغى العقل والفكر كأنه مضاد للإيمان لقد خلق الله لنا عقلاً، لكى نستخدمه لا لنتجاهله… وعندما نستخدم العقل جيداً يتمجد الله فينا، لأنه هو خالق هذا العقل الجبار. بينما إذا استسلمنا للغيبيات فإننا نهين الله لأننا تجاهلنا عطيته العظيمة لنا (يجب أن نفكر). أين المرجع الكتابى الذى يقول أن الكحة تطرد الشيطان، كما يعتقدون؟! وأين الآباء الذين علّموا بأن الأحاسيس الروحية تسكن فى أعضاء الإنسان، كالكبد والطحال والمرارة؟! “أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح.. لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم” (1يو 1:4).إن الإفلاس الروحى والفكرى، يقود الناس إلى هذه الخرافات والغيبيات، التى تهين المسيحية، والفكر المسيحى، أمام غير المسيحيين. الذين أحياناً يعتبرون أن المسيحية، هى مجموعة هذه الأفكار التافهة. “ولكن كان أيضاً فى الشعب أنبياء كذبة، كما سيكون فيكم أيضاً معلمون كذبة، الذين يدسون بدع هلاك. وإذ هم ينكرون الرب الذى اشتراهم، يجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعاً. وسيتبع كثيرون تهلكاتهم. الذين بسببهم يجدف على طريق الحق. وهم فى الطمع يتجّرون بكم بأقوال مصنعة الذين دينونتهم منذ القديم لا تتوانى وهلاكهم لا ينعس” (2بط 1:2-3). 6- خطورة الروحانية الإنفعالية الإنسان مركب من جسد ونفس وروح… إذا كانت الروحانية مرتبطة بالجسد فقط، سيكون التدين مريضاً فريسياً حرفياً. وإذا كانت مرتبطة بالنفس فقط، سيكون التدين نفسانياً عاطفياً إنفعالياً مزيفاً ومؤقتاً لذلك فى المنهج الأرثوذكسى، نتعامل مع الله “بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له، الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا” (يو 23:4،24). فى المنهج الأرثوذكسى، الجسد يتروحن ولكن لا تكون العبادة حسب الجسد. والنفس تتسامى، ولكن لا تكون العبادة على مستوى العاطفة… والروح تقود الكيان الإنسانى، ولكنها تكون خاضعة لروح الله… أما المناهج المنحرفة، فتعتمد على إثارة عاطفة السامعين… سواء بالترانيم الحماسية والموسيقى الصاخبة… أو بالكلمات العاطفية المتأججة بالمشاعر… أو بالوعظ الحماسى، الملىء بالإنفعال والإيحاءات النفسية. أو بالأكثر بالهتافات المليئة بالحماس والإنفعال، فمثلاً يكررون عدة مرات “دم يسوع المسيح يطهرنى من كل خطية” بصوت مرتفع وحماسى، كمن يسير فى مظاهرة!!حتى لو كانت العبارة صحيحة عقيدياً… ولكن الهتاف العاطفى والإنفعالى خاطئ… لأنه سريعاً ما يزول، ويعود الإنسان مرة أخرى إلى برودته الحقيقية، بعد أن زالت عنه السخونة المزيفة. لم نسمع عن الآباء أنهم كانوا يهتفون هكذا.. ولا وجدت فى ألحان الكنيسة، أو تسابيحها مثل هذه العواطف المريضة… إن الروحانية المزيفة، تكون كالنار فى القش… والروحانية الأرثوذكسية، كالماء ينحت فى الصخر، بهدوء وعمق واستمرارية.لذلك نرفض هذه العبادة الإنفعالية لأنها من النفس، وليست من الروح. 7- التكلم بالألسنة ورسائل الروح القدس موضوع التكلم بألسنة، محسوم وواضح فيه رأى الكنيسة الأرثوذكسية. وليس مجالنا الآن أن نشرح موقف الكنيسة منه… ولقد شرح بكل تفصيل معلمنا بولس الرسول، معنى هذه الموهبة فى (1كو 14:12). ويمكن للقارئ أن يرجع لهذا النص ويقرأه بهدوء ولكن ما يعنينا فى هذا المجال أنه إن كان خادم يدّعى، أنه قبطى أرثوذكسى، فلماذا لا يلتزم بإيمان كنيسته القبطية الأرثوذكسية؟ إن كانت الكنيسة تعلّم أنه لا يوجد حالياً تكلم بألسنة، حسبما ورد فى (1كو 22:14).فكيف لأحد خدامها أن يتكلم بألسنة؟ إما أن الكنيسة كلها ليست أرثوذكسية، وهذا الأخ أرثوذكسى حقيقى، أو أن الكنيسة أرثوذكسية، وهذا الأخ غير أرثوذكسى… وفى كلا الحالتين يجب عليه أن يكون صادقاً مع نفسه، ولا يدّعى انتماءه لهذه الكنيسة المجيدة، بل يعلن هويته الحقيقية وإنتماءه الحقيقى الخادم الأمين الصادق، يخضع لإيمان كنيسته ويلتزم به، ويعيه جيداً، ولا يسقط فى إنحرافات… وإن سقط فهو غير جدير بأن يكون معلماً فى الكنيسة إن التكلم بألسنة فى هذه الجماعات، هو تعبير عن كل الأخطاء السابق شرحها… فهى تكريس لمبدأ الغيبية والخرافات… ومبدأ الروحانية الإنفعالية، ومبدأ الجماعة المختارة ومبدأ تغييب المخ والعقل، ومبدأ الكبرياء والإحساس بالتميز… (ارجو من القارئ أن يستزيد فى القراءة عن موقف الكنيسة فى موضوع التكلم بألسنة). 8- عدم الخضوع للكنيسة والمجمع المقدس إن أبسط مبادئ الروحانية، أن يكون الإنسان خاضعاً ومطيعاً، “لأن التمرد كخطية العرافة والعناد كالوثن والترافيم” (1صم 23:15). كيف تمنع الكنيسة إنساناً من التعليم بقرار من المجمع المقدس (أعلى سلطة كنسية)… ولا يلتزم هذا الإنسان بهذا القرار؟أننى اتساءل، لو سحبت نقابة الأطباء، العضوية من أحد الأطباء المشهورين… هل يجرؤ أن يمارس الطب؟ إن الكنيسة ومجمعها المقدس، هى المسئولة عن سلامة التعليم.. وكل خادم يجب أن تكون تعاليمه حسب ما تقول به الكنيسة… وإن نبهت الكنيسة، خادماً لأخطائه، عليه أن يخضع ويلتزم، وإن أصرَّ على أخطائه فهو جدير بالقطع أما عدم الخضوع للكنيسة، فهو أيضاً برهان صادق على كل ما ذكرناه سابقاً: الكبرياء والعناد، والإنفعالية، والغيبية، والإحساس بالتميز… إنه منهج الشيطان الذى قال: “اصعد فوق المرتفعات السحاب. أصير مثل العلى” (أش 14:14)، والذى قيل عنه: “ويفعل الملك كإرادته، ويرتفع ويتعظم على كل إله، ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة، وينجح إلى إتمام الغضب، لأن المقضى به يجرى. ولا يبالى بآلهة آبائه، ولا بشهوة النساء، وبكل إله لا يبالى لأنه يتعظم على الكل” (دا 36:11،37). “من أجل أنه قد ارتفع قلبك وقلت أنا إله، فى مجلس الآلهة أجلس فى قلب البحار، وأنت إنسان لا إله، وإن جعلت قلبك كقلب الآلهة” (حز 2:28). إن جميع الهراطقة بطول التاريخ بدأوا هكذا، وانتهوا إلى التدمير الكامل، لأنفسهم وتابعيهم والكنيسة مسئولة ليس فقط عن حفظ التعليم السليم، ولكن أيضاً عن حفظ شعبها، بعيداً عن الذئاب الخاطفة… الذين “يرعون أنفسهم” (حز 2:34) ويتسلطون على مشاعر الناس وأفكارهم، ويستحوذون على أموالهم وأشخاصهم… وينحرفون بهم إلى عبادة الأشخاص، دون معرفة الله يجب أن ينتبه شعبنا المحب للمسيح لأنه قديماً قيل: “سبى شعبى لعدم المعرفة” (أش 13:5)، “إن سمعوا وأطاعوا قضوا أيامهم بالخير وسنيهم بالنعم. وإن لم يسمعوا فبحربة الموت يزولون ويموتون بعدم المعرفة” (أى 11:36-12).”أيها الأولاد هى الساعة الأخيرة. وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتى. قد صار الآن اضداد للمسيح كثيرون. من هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة” (1يو 18:2)نرجو من الرب أن يحفظنا جميعاً فى سلامة الإيمان والسلوك والتعليم… له كل المجد الى الابد امين نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
24 سبتمبر 2018

الأساس اللاهوتى للأيقونة

إن إكرام الأيقونات فى كنيستنا الأرثوذكسية يستند إلى أهم عقيدة نؤمن بها ، ولها أثر مباشر فى قضية خلاصنا ، وهى عقيدة تجسد الله وحضوره الحقيقى بيننا ؟ فعندما نكرم الأيقونات فإننا نعلم إيماننا بحقيقة تجسد وتأنس ربنا يسوع المسيح ففى العهد القديم تعامل الله على الناس بواسطة أفعال إلهية وعن طريق أفواه الأنبياء أما فى العهد الجديد فقد تجسد كلمة الله "وحل بيننا ورأينا مجده" (يو 14:1) ،"الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة . كلمنا فى هذه الأيام الأخيرة فى ابنه .. الذى وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمته قدرته" (عب 1:1-3) أى أن الآب نفسه ظهر للبشر بشخص الابن "أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفنى يا فيلبس ؟! الذى رأنى فقد رأى الآب" (يو 9:14) أى أننا نستطيع أن نرى الله فى شخص ربنا يسوع المسيح ، وهذا ما نتميز به عن الوضع فى العهد القديم لأن المسيح هو "صورة الله غير المنظور (كو 15:1) ، لذلك أمكننا أن نرسم أيقونة للمسيح "الذى هو صورة الله" (2كو 4:4) كفلاحة منظورة لحضور الله غير المنظور وتأكيد لهاذا الحضور الإلهى وتنبيه للذهن إلى أصل الصورة أى المسيح نفسه . فنحن لا نخلط بين الصورة والأصل ولا نعبد الخشب والألوان والأوراق التى تكون الصورة بل نعبد الله الحى وحده ونكرم أيقونته . 2- عهد الناموس والأيقونات لقد منع شعب العهد القديم من صنع الأصنام والصور وعبادتها : "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة مما فى السماء من فوق وما فى الأرض من تحت وما فى الماء من تحت الأرض . لا تسجد لهن ولا تعبدهم" (خر 20: 4،5) فكيف نفس هذا الأمر؟إن المعنى الحقيقى لهذه الوصية واضح فيما قبله من آيات : "أنا الرب إلهك الذى أخرجك من ارض مصر من بيت العبودية . لا يكن آلهة أخرى أمامى" (خر 20: 2،3) فالغرض من الوصية ألا ينقاد الشعب إلى عبادة غريبة عن الله ، خاصة وأنهم كانوا قد خرجوا للتؤمن أرض مصر التى تلوثت بعبادات وثنية عديدة وآلهة كثيرة وكانوا - وقتئذ وحتى مجئ المسيح - محاطيه بأمم كثيرة تعبد آلهة عديدة مصورة فى تماثيل وأحجار وألواح ... لذلك كان يؤكد الله عليهم دائماً آلا يختلطوا بالأمم وألا يتنجسوا بعباداتهم الرديئة "أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيرى" (اش 6:44) ومع ذلك فقد سقط الشعب الإسرائيلى مراراً عديدة فى العصيان وعبادة الأوثان لذلك كان من المنطقى أن يشدد الله عليهم آلا يلتفتوا إلى النحوتات ومصنوعات الأيادى والصور وأن يعبدوا فقط الله غير المنظور ومع وجود هذا المنع القاطع إلا أن الله قد أوص شعبه فى العهد القديم أن يصنع بعض الأدوات المادية التى تساعد فى العبادة وأن تنال هذه الأدوات كرامة وتقديساً يليق بالله الحاضر فيها والمعلن عنه بواسطتها مثل : 1- لوحى العهد : "ثم قال الرب لموسى أنحت لك الوصية من حجر مثل الأولين . فأكتب أنا على اللوحين الكلمات ..." (خر 1:34) ولا شك أن هذين الوصية قد نالا كرامة ومجداً واحتراماً من بنى إسرائيل ولم يكن أحد يجرؤ أن يلمسها أو حتى أن ينظر إليهما إذ قد حفظا فى التابوت الذى لا يلمسه أحد به يحمله اللاوليون بطقس خاص دون أن يلمسوه ومع كل هذا التوتير الزائد للالواح لم يكن يعتبر هذا انحراف أو عيادة ألواح 2- محتويات خيمة الاجتماع : وقد شرح الرب لموسى أدق تفاصيل صناعة التابوت والمائدة والمذبح مرحضة النحاس والمسكن وكل هذه كانت تعامل بوقار وهيبة ولا يقترب إليها إلا اللايون باستعدادات خاصة وبطرق خاصة حتى أنه عندما "مد عزة يده إلى تابوت الله وأمكن لأن الثيرات انشمصت ، محمى غضب الرب على عزة وضربه الله هناك لأجل غفلة فما ، هناك لدى تابوت الله" (2صم 6: 6،7) 3- تماثيل أخرى : فقد أوصى الله بعمل تمثالين من الذهب للكاروبيم "وتصنع كروبين من ذهب . صنعة خراطة تصنعهما على طرفى الغطاء . فاصنع كروبا واحداً على الطرق من هنا . وكروبا آخر على الطرق من هناك . من الغطاء تصنعون الكروبين على طرفين . ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق مظللين بأجنحتها على الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى الآخر . نحو الغطاء يكون وجهاً الكروبين" (خر 25: 18-20) وهذا الكاروبان اسماها معلمنا بولس " كاروبا المجد" (عب 5:9) 4- فى هيكل سليمان : "وعمل فى لامحراب كروبين من خشب الزيتون على الواحد عشر أذرع ... وشكل واحد الكروبين ... وغشى الكروبين بذهب . وجميع حيطان البيت فى مستديرها رسمها نقشاً بنقر كروبيم ونخيل وبراعم زهور من داخل ومن خارج ... ورسم عليها نقش كروبيم ونخيل وبراعم زهور ... وبنى الدار الداخلية ثلاثة صفوف منحوته وصفاً من جوائز الأرز" (1مل 6: 23-36) وأشكال أخرى كثيرة عملها الملك سليمان نعمل تماثيل لأثنى عشر ثوراً يحملون حوضاً كبيراً للمياه له شفة منقوشة بمنظر قثاء مستديراً صغير والشفة نفسها كمثل شفى كأس بزهر سوسن (راجع 1مل 7: 23-26) ، ومناظر أسود وثيران وقلائد زهور وأكاليل أعمده مزينة برمانات ... الخ راجع 1مل 7: 29-50)) كل هذا يدلنا على أن الله عندما أوصى بعدم عمل صور وتماثيل لم يخطر استعمال أدوات للعبادة ولكنه منعاً قاطع عبادة الأوثان وتألين المادة عهد النعمة والأيقونات 3- لقد تغير الوضع بسبب التجسد 1- التجسد قدس المادة وأعاد إليها بهاءها الأول وإمكانية اتحاد الله بالإنسان وتجليه فى المادة صار الله حاضراً فينا ورأيناه وتلامسنا معه فلم يعد قريباً لذهن الإنسان أن يتخيل الله فى شكل وثن كما حدث قديماً بسبب احتجاب الله وانحجاب موفته 2- ترقت البشرية وصار الله يعاملها كالبنين الناضجين "سمعتم أن قيل للقدماء .. أما أنا فأقول لكم ..." فلم تعد هناك رعبة انحراف العبادة إلى الأوثان 3-الله بتجسده قد جدد طبيعتنا الساقطة الفاسدة وجعلنا مشابهة صورته "لأن الذين سبق نعرفهم سبق نعينهم ليكونوا مشبها ينه صورة ابنه ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين" (رو 29:8) ، "الذى سينير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده" (فى 21:3) ، لذلك صار فى إمكاننا أن نعاين الصورة الأصلية للإنسان التى قصدها الله فى أدم ... نراها فى أولئك الذين جددهم المسيح بتجسده وحفظوا بطهارتهم نقاوة الصورة فلبسوا "صورة السماوى" (1كو 49:15) ، "ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما فى مرأة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2كو 18:3) فالأيقونة الكنسية لا ترسم شخصياً عادياً (كالفوتوغرافى) ولكنها ترسم "الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله فى البر وقداسة الحق" (أف 24:4) . 4- ماذا يحدث فى طقس تدشين الأيقونات ؟:- 1- التدشين هو التكريس أى التقديس والتخصيص لله ... فتصير الأيقونة بعد تدشينها أداة مقدسة لإعلان حضور الله بفعل الروح القدس ؛ لذلك وجب تكريمها والتبخير أمامها وتقبيلها بكل وقار . 2- يقوم بطقس التدشين الأب الأسقف وليس غيره ... والأصل فى ذلك أن كل أعمال الكهنوت كالمعمودية والأفخارستيا وسيامات الكهنوت والشمامسة والتدشين والزواج وغيره كان يقوم بها الأب الأسقف ويعاونه فى ذلك الأباء الكهنة ... وعندما اتسعت المسيحية وكثر المؤمنون وظهرت الحاجة ملحة إلى ممارسات كهنوتيه فى كل مكان وفى أطراف الإيبارشيات ، سمح للكاهن بأن يمارس الممارسات المتكررة كالمعمودية والافخارستيا والزواج ومسحة المرضى وغيره ... أما الطقوس التى قد تمارس مرة واحدة فى العمر وفى مناسبات نادرة مثل تدشين الكنائس والمعموديات والأيقونات وإدارة المذبح فطلب من اختصاص الأسقف بالإضافة إلى سيامات الكهنوت والشمامسة ... 3- فى الصلاة التى يصليها الأب الأسقف لتدشين الأيقونة يذكر الأساس الكتابى واللاهوتى لعمل الأيقونات :- أ- الأساس الكتابى : "أيها السيد الرب الله ضابط الكل أبا ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الذى من قبل عبده موسى أعطانا الناموس منذ البدء أن يضع فى قبة الشهادة (خيمة الاجتماع) نماذج للشاروبيم (تماثيل) هؤلاء الذين يغطون بأجنحتهم على المذبح . وأعطيت كلمة لسليمان من جهة البيت الذى بناه لك فى أورشليم" وهنا فى ايجاز تذكر الكنيسة مرجعها الكتابى فى عمل الأيقونة .. وكأنها ترفع أذهان المؤمنين وأن يرجعوا فى الكتاب كل الزينة والنقوش والصور والمثالات التى صنعها كل من موسى وسليمان عند بناء بيت الله سواء أيام أن كان خيمة أو عندما بنى كحجارة ... ب- الأساس اللاهوتى : "وظهرت لاصفيائك الرسل بتجسد ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح ليبنوا لك كنائس وأديرة على اسم قديسيك وشهدائك" وهنا تبرز الكنيسة إن الأساس الخريستولوجى الذى تبنى عليه الكنائس وما فيها هو ظهور الابن الوحيد وتجسده كما سبق أن شرحنا فى هذا المقال . ج- عمل الروح القدس : "من أجل هذا نسأل ونطلب منك يا محب البشر أرسل روحك القدوس على هذه الصور التى للقديسين أو (للشهداء) (الفلانيين)" إننا نؤمن إيماناً قاطعاً أن الروح القدس يحل على الأيقونات بالصلاة وبالدهن بالميرون فيقدسها ويؤهلنا للكرامة والتوقير الذين تستحقها فيرشم الأسقف الأيقونات بالميرون وينفخ فيها نفخة الروح القدس قائلاً : "فليكونوا ميناء خلاص . ميناء ثبات .. لكى من يتقدم إليهم بأمانة (بإيمان صادق) ينال نعمة من الله بواسطتهم لمغفرة الخطايا" إنه تعبير رائع تطلقة الكنيسة على الأيقونة إنها ميناء خلاص وميناء ثبات لكل نفس متعبة فى بحر العالم المتلاطمة الذى يزعج سلامنا وأمننا ويهددنا بالفرق فى الخطية والمشاكل والهموم الدينونة .. فتلجأ النفس إلى أيقونات القديسين لدى فيهم إشعاعات النور الإلهى .. وترى فيها إلهام النصرة والطهارة فتتشجع النفس وترتقى إلى السماويات ماسكة برجاء المجد ... ناظرة إلى رئيس الإيمان ومكملة الرب يسوع ... د- خاتمة الصلاة : "لأنه مبارك ومملوء مجداً اسم القدوس أيها الأب والابن والروح القدس الأن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين" حقاً القديسون يمجدونك يارب وبمجد ملكك ينطقون .. ووجودهم بيننا فى الكنيسة هو برهان مجد الله "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكى يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذى فى السموات" (مت 16:5) لذلك تعتبر الكنيسة أن تدشين الأيقونة هو مباركة وتمجيد لاسم الله القدوس ... إذ عندما يلتفت المؤمنون إلى كرامة القديسين ومجدهم ترتفع أنظارهم إلى السماء ليمجدوا اسم الله ويباركوه . لك المجد فى جميع القديسين الله نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
23 سبتمبر 2018

العمق الكنسى

كثيراً جداًما نرى الآن بعض من الناس يعيشون بسطحية وهذه السطحية تقودهم إلى التفاهة الفكرية والممارسة السطحية الخاطئة وهذه تقريباً هى المشكلة التى نعانى منها الآن فى هذا الجيل. فقد كان هناك جيل قبل هذا ينقصه المعرفة، وناس بعيدة عن الكنيسة ولا تدخلها إلا فى المناسبات.. أماالآن فقد حدث العكس فكثير من الناس يذهبون إلى الكنيسة، وأصبحت الكنائس ممتلئة بعدد كبير من الناس ولكن ينقصهم العمق.. ودورنا نحن كخدام أن نتجه ناحية العمق والتعميق ولكى نكون فى حياة عمق مع الله لابد أن يكون هناك ثلاث مستويات: ‌أ- الممارسة : أن نمارس بعمق، ولكى أمارس بعمق لابد أن يكون هناك فهم.‌ب- الفهم : أن نفهم ونعى الكنيسة ونعى الممارسة.‌ج- الخدمة : أن أسلم هذه الممارسة للناس. وهذه الثلاثة أشياء (الممارسة، الفهم، الخدمة) سوف تطبقها على أربع نقاط أساسية نود الحديث عنها: 1-الكنيسة. 2-الليتورجيا. 3-الإنسان. 4-الإنجيل. 1- الكنيسة : كلنا نعرف أن الكنيسة هى جسد المسيح، وعندما أقول هذا أفهم أننى عضو فى هذا الجسد وأن بقية الناس أيضاً هم أعضاء فى هذا الجسد، وهذا يقودنا إلى مفهوم الشركة. ومن الخطورة أن أكون مدرك لهذا وفاهم ولا أستطيع أن أمارس. ويجب أن نفهم وندرك أن عضويتنا فى هذا الجسد لا تلقى تميزنا ولكنها تبرزه، وتجعل كل إنسان يستطيع أن يقدم شخصيته من خلال خدمته وهذا لا يلغى الخدام الآخرين، ولا يجعلنى أتكبر عليهم بل على العكس على أن أكون فرحان وسعيد أنم جسد الكنيسة به عدد من الخدام الممتازين. وإذا كنت أفهم وأدرك معنى الكنيسة لابد وأنم أخدم بهذه الروح، وهذه سوف تلغى موضوع العزلة، أن يكون الإنسان جالس فى برج عالى ولا يستطيع أحد الوصول إليه. والذى يفهم معنى الكنيسة يفرح جداً بالخدام وإمكانياتهم ويشعر أنها إضافة إليه ويفرح أن هناك إمكانية جديدة أضيفت إلى الكنيسة.وهكذا عندما أفهم الكنيسة أستطيع أن أعيش حياة الشركة التى فيها وأفرح بجميع الخدام الذين حولى ويخدمون معى. فالكنيسة بها الأسقف والكاهن والشماس والشعب، ولا يمكن أن تصبح كنيسة بدونهم. وهذا لا يعنى أن بها طبقات ولكن بها تمايز من أجل أن يمشى (يسير) العمل، فهذا هو قصد الله أن يكون هناك تمايز وتنوع وتعدد فى الأعضاء من اجل بهاء الكنيسة وبهاء الجسد وتكامله. وهذا شئ يسعدنى أن تكون الكنيسة مثل الفردوس الملئ بعدة أنواع من الزهور والنباتات والتى تصنع فى النهاية جنة حلوة. 2- الليتورجيا : هى الصلوات المشتركة التى تقوم بها معاً فنحن نقوم بالصلاة جماعياً (هذه وسيلة) وسيلة تحقق معنى الكنيسة، فإذا كنا جسد واحد لابد أن نصلى أيضاً بلسان واحد، والليتورجيا تعبر عهن هذا اللسان وسيلة لخدمة الناس، ولها على أن أسأل نفسى أن هى من خدمتى؟ أخشى أن تكون غير موجودة، فنحن فد نهتم بالترانيم والألحان والمهرجانات، وقد تأتى الليتورجيا فى المركز الثانى ولكنها لابد أن تكون فى المركز الأول. فإذا بدأنا فى تسليم الليتورجيا للمخدومين فسوف يعيشوا فى الكنيسة بلا انحرافات ونضمن أنه سوف يثبت فى الكنيسة ويرتبط بها أكثر وأكثر. (التسبحة، القداس، الاعتراف، التناول، الأجبية) كل هذه تجعل الإنسان له أساسات عميقة. والليتورجيا هى التى تشبع الاحتياجات العميقة للإنسان. وقد عاشت الكنيسة حتى القرن ال 20 بالليتورجيا، ففى هذا القرن فقط أدخلنا (مدارس الأحد والتعليم)، أى أنهم كانوا قديسين وأيضاً مستعدين للاستشهاد (أعلى درجة فى الروحيات) من خلال الليتورجيا فقط. فالذى يضع الليتورجيا أساس لخدمته يضع يده على كنز، ويسلم هذا الكنز إلى جيل محظوظ لأنه بمنتهى البساطة سيشربوا الإيمان وبمنتهى البراعة سيعبروا عنه وبمنتهى القوة سيثبتوا فيه إلى المنتهى. وسنجد فى الليتورجيا حلاً للمشاكل اليومية للشباب، فإذا كان فى ضيقة مادية أو اقتصادية تجد أن الكنيسة تصلى من أجل احتياجات الناس. (من أجل الأرملة واليتيم والضيف ومن أجلنا كلنا نحن الذين نرجوك ونطلب أسمك القدوس) فكل الظروف اليومية تعرضت لها الليتورجيا. فهى (الليتورجيا) وسيلة رائعة للخدمة، فكم من الناس رجعوا وتابوا بواسطة الليتورجيا. فإذا كنت أفهم هذا يجب أن أمارسه. 3- الإنسان : الإنسان فى نظر الأرثوذكسية محترم ومهم جداً. اللاهوت الأرثوذكسى يقوم على الاتحاد بين الله والإنسان،أما اللاهوت الغربى فيفصل بين الطبعتين لأنه لا يستطيع أن يفهم أن الله يتحد بالإنسان اتحاد كامل.ونرى جميع البدع والهرطقة فرقوا بين الله والإنسان وقالوا أن الله لا يستطيع أن يتحد بالإنسان ونرى أنهم فى ذلك وقعوا فى أخطاء كبيرة عندما فرقوا بين اللاهوت والناسوت وقالوا أنه لا يستطيع الناسوت أن يتحد بالاهوت بل هناك طبعتين. وقالوا أنه لا يستطيع الناسوت أن يتحد بالاهوت بل هناك طبيعتين. ولكن الفكرالأرثوذكسى (أثناسيوس، كيرلس) قال: ما الذى يستبعد أن الله يتحد بالإنسان؟ أهذا الإنسان نكره؟ أنه محترم جداً ومخلوق على صورة الله ومثاله. فما الذى يجعل الله يستنكر أن يتحد بالإنسان؟ أنه لا بد أن يتحد بالإنسان، لأن الإنسان محترم فى نظر الله. وعندما يتحد الله بالإنسان لا يلغى إنسانيته، ونحن نجد فى المسيح إنسانية واضحة جداً، نجده يبكى ويتحدث كثيراً عن نفسه ويقول "ابن الإنسان" وهذه من أعز الألقاب لديه أبن الإنسان وهذا لأنه يحبنا ويحترمنا جداً. ونجد أن الله أعطى دور للإنسان وهو الجهاد والله عليه دور وهو النعمة، فإذا أنا لغيت وأهملت دور الإنسان، إذن فأنا أحتقره (وهذا هو الفكر البروتوستنتى) وهناك أيضاً من يعظم مكن دور الإنسان جداً ويلغى دور الله (البلاجسيين). وإذا كان الله لا يحترم الإنسان وطبيعته البشرية، لما تجسد وأخذ صورة إنسان ليخلصنا ولو أن دور الله منعدم والإنسان فقط بجهاده فما هى أهمية التجسد؟ كان كل إنسان بجهاده يمكن أن تغفر له خطيته. ولكن كان لابد من التجسد الذى يبرهن على أن هناك دور هام لله وهذا الدور لا يقوم بدون مشاركة الإنسان. "فالله الذى خلقك بدونك، لن يخلصك بدونك" (أغسطينوس). لابد من الشركة بين الله والإنسان، وهذا معناه تعظيم وتقدير الله للإنسان. فإذا كان الإنسان محترم فى نظر الله فلابد أن يكون هذا المفهوم واضح عندى وعلى أن أنطلق فى خدمتى من خلال هذا المفهوم، فلا يفقد شخص وأقول لا يهم. "فالإنسان هدف ولا ينبغى أن يفقد ظلف" (موسى النبى) فهذه هى الخدمة الحلوة. 4- الإنجيل : ليس الإنجيل تراث فكرى لليهود، ولا هو تسجيل للتاريخ، ولا هو كتاب للمعلومات العلمية والثقافية والجغرافيا. فهو ليس كتاب علم ولكنه خطاب من الله للنفس البشرية. فالنفس البشرية العامة التى ليس لديها أى احساس بالله تمسك بالإنجيل وتقوم بتشريحه.فقد نظر الآباء إلى الإنجيل على أنه وجبة دسمة ولذيذة وبشارة مفرحة للقلب. فقد كان لديهم "الهذيذ"بالكتاب أى قد يجلسوا ويقرأوا أية واحدة فقط طوال الليل ومن كثرة حلاوتها وجمالها لايستطيعوا أن يتركوها ويذهبوا إلى آية أخرى. فقد كانوايأكلون الكتاب المقدس كان يهضم ويمتص ويحدث له تمثيل غذائى فى داخلهم ويدخل إلى نسيج حياتهم. وعندما أدرك أن هذا هو شكل الكتاب المقدس سيصبح له معنى أخر ووضع أخر وتصبح له مكانته. فمن المؤسف أن يمضى يوم على الإنسان دون أن يقرأ فى الإنجيل وقراءة بشبع "لتسكن فيكم كلمةالمسيح بغنى" فالكنيسة والليتورجيا والإنسان والإنجيل أن أنا أدركتهم بطريقة صحيحة سوف أمارسهم بطريقة صحيحة وأستطيع أيضاً أن أسلمهم بطريقة صحيحة نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
15 أكتوبر 2019

السيد المسيح في سفر التكوين - أخنوخ البار

مسيحنا قبل الزمان، وهو كائن قبل إبراهيم وكل الأيام، لأنه بالحقيقة الله الأزلي، لذلك فنحن نراه مختبئًا بين السطور في فصول العهد القديم دعنا نستكمل مسيرة البحث عنه، واكتشافه في سفر التكوين من خلال الأحداث والآيات والرموز والشخصيات.. أخنوخ البار معروف أن أخنوخ لم يمت ولكن الله نقله إلى السماء حيًّا "سارَ أخنوخُ مع اللهِ، ولم يوجَدْ لأنَّ اللهَ أخَذَهُ" (تك5: 24) لقد كان سن أخنوخ حينما رُفع إلى السماء 365 سنة (تك5: 23)، وهذا الرقم هو عدد أيام السنة الكاملة وكأن الكتاب يقول لنا إن أخنوخ عاش حياة كاملة غير ناقصة وفي نهايتها أُصعد إلى السماء إنه رمز للمسيح الحي الذي عاش بيننا على الأرض حياة كاملة ثم بعد موته صعد إلى السماء بقوة لاهوته وبمجده الذاتي لقد كان قتل هابيل رمزًا لموت المسيح على الصليب، وكذلك صعود أخنوخ حيًّا كان أيضًا رمزًا لحياة المسيح وصعوده إلى السماء حيًّا، فالرمز لا يمكن أن يكتمل في شخص واحد المسيح وحده هو الذي تجتمع فيه جميع المعاني ويكشف لنا معلمنا بولس الرسول سر هذا الإصعاد وهو الإيمان "بالإيمانِ نُقِلَ أخنوخُ لكَيْ لا يَرَى الموتَ، ولم يوجَدْ لأنَّ اللهَ نَقَلهُ إذ قَبلَ نَقلِهِ شُهِدَ لهُ بأنَّهُ قد أرضَى اللهَ. ولكن بدونِ إيمانٍ لا يُمكِنُ إرضاؤُهُ، لأنَّهُ يَجِبُ أنَّ الذي يأتي إلَى اللهِ يؤمِنُ بأنَّهُ مَوْجودٌ، وأنَّهُ يُجازي الذينَ يَطلُبونَهُ" (عب11: 5-6) فأخنوخ البار كان يؤمن الله، ويؤمن بمجيء الفادي الذي يعطينا الحياة، لذلك أعطاه الله الحياة عربونًا لكل البشر وشهادة لكل التاريخ، وإعلان أنه توجد حياة أخرى ليست الحياة هي هنا فقط على الأرض، بل هناك حياة أبدية تنتظر البشر عندما يتركون هذه الأرض وهذه الحياة الأبدية هي المسيح "وهذا هو الوَعدُ الذي وعَدَنا هو بهِ: الحياةُ الأبديَّةُ" (1يو2: 25)، "فإنَّ الحياةَ أُظهِرَتْ، وقد رأينا ونَشهَدُ ونُخبِرُكُمْ بالحياةِ الأبديَّةِ التي كانَتْ عِندَ الآبِ وأُظهِرَتْ لنا" (1يو1: 2) ويذكر معلمنا يهوذا الرسول نبوة عن أخنوخ لم ترد في أسفار العهد القديم، لكن كانت محفوظة في التقليد الشفاهي اليهودي حيث يقول: "وتنَبّأَ عن هؤُلاءِ أيضًا أخنوخُ السّابِعُ مِنْ آدَمَ قائلاً: هوذا قد جاءَ الرَّبُّ في رَبَواتِ قِديسيه" (يه14) وهنا يكشف الكتاب عن أن أخنوخ كانت له روح النبوة، رمزًا للسيد المسيح الذي أخبرنا بكل مشيئة الآب "أنا أظهَرتُ اسمَكَ للنّاسِ الذينَ أعطَيتَني مِنَ العالَمِ" (يو17: 6)، "لأنَّ الكلامَ الذي أعطَيتَني قد أعطَيتُهُمْ" (يو17: 8)، "وعَرَّفتُهُمُ اسمَكَ" (يو17: 26)، "لا أعودُ أُسَميكُمْ عَبيدًا، لأنَّ العَبدَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سيدُهُ، لكني قد سمَّيتُكُمْ أحِبّاءَ لأني أعلَمتُكُمْ بكُل ما سمِعتُهُ مِنْ أبي" (يو15: 15)، "لأني لم أتكلَّمْ مِنْ نَفسي، لكن الآبَ الذي أرسَلَني هو أعطاني وصيَّةً: ماذا أقولُ وبماذا أتكلَّمُ" (يو12: 49) فالسيد المسيح هو الله بالحقيقة، ولكن أيضًا بتجسده صار إنسانًا، وكإنسان حقيقي صار له وظيفة النبوة حيث يخبرنا بكل مشيئة الآب وقد ذكر معلمنا يهوذا أن أخنوخ هو السابع من آدم.. لأن رقم سبعة يدل على كمال الزمان حيث إن الزمن مقسم إلى أسابيع. وكأنه يقول إن أخنوخ يرمز إلى كمال الزمان، لكي يأتي بعده (الثامن) الذي هو بداية الزمان الجديد أي الأبدية السعيدة مشيرًا إلى السيد المسيح الذي بقيامته وصعوده إلى السماء فتح لنا باب السماء وصرنا – فيه وبه – لنا الحق أن نصعد مثله ونسكن هناك بعد القيامة العامة.. إن ثبتنا في الإيمان به والمحبة والعمل بوصاياه ليتنا نسير مع الله مثلما سار أخنوخ، ونعيش أمام الله حياة كاملة مقدسة بالإيمان وبإرضاء الله، ويكون ذهننا مرتبطًا بالسماء كمثل أخنوخ الذي استحق أن ينقله الله حيًّا إلى السماء.. "فإنْ كنتُم قد قُمتُمْ مع المَسيحِ فاطلُبوا ما فوقُ، حَيثُ المَسيحُ جالِسٌ عن يَمينِ اللهِ. اهتَمّوا بما فوقُ لا بما علَى الأرضِ" (كو3: 1-2). وهذا يؤهلنا أن نتمجد مع المسيح في محبته بحسب نبوة أخنوخ "قد جاءَ الرَّبُّ في رَبَواتِ قِديسيهِ" (يه14)، "مَتَى أُظهِرَ المَسيحُ حَياتُنا، فحينَئذٍ تُظهَرونَ أنتُمْ أيضًا معهُ في المَجدِ" (كو3: 4) ليتنا ندرك مع أخنوخ أن الحياة ليست هي هذه الأرض فقط بكل طموحاتها وشهواتها العابرة وليس كل شيء هو هذا الجسد بمطالبه ورغباته وشهواته إنما هناك حياة أخرى جديرة بالاهتمام والانشغال والتعلق "لأنَّكُمْ قد مُتُّمْ وحَياتُكُمْ مُستَتِرَةٌ مع المَسيحِ في اللهِ" (كو3: 3). ربي يسوع.. دعني أُميت شهوات العالم في جسدي وحياتي. وأعيش مكرسًا لك كأخنوخ البار. ويتعلق قلبي بكَ هناك في السماء. وتصير طموحاتي سمائية. ورغباتي روحانية. ولا أشبع إلاّ بكَ. وبكل ما هو سمائي وروحاني. ولتنقلني إلى ملكوت مجدكَ. لأكون هناك فيكَ وبكَ لأستريح. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
11 أغسطس 2018

الشفيعة المؤتمنة

"طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما... بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 27:11،28). "طوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو 45:1). طوبى لمريم العظيمة التي "كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها" (لو 19:2). طوبى لمن تكلمت بالروح القدس معلنة "هوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني" (لو 48:1). نطوبك يا ذات كل التطويب لأنك بالحقيقة ارتفعت على كل السمائيين، وصرت سماء ثانية تحمل القدوس كالشاروبيم وأبهى. يا للعجب.. الأم الأعجوبة.. الأم والعذراء.. الأم والأَمَة.. الملكة والعبدة.. كيف لعقلي الصغير أن يستوعب هذه الأعجوبة. فتاة صغيرة تحمل في حضنها (يهوه).. أخبريني يا أمي كيف استوعبت الخبر.. وكيف احتملتِ الخبرة.. من تخافه الملائكة وترتعب أمامه القوات.. من يقف الكهنة أمامه بكل احتشام ويتطهرون عندما يكتبون اسمه.. كيف حملتيه أنت في بطنك وحضنك وكيف رضع من لبن ثدييك. خبريني يا عروس المسيح الباهرة كيف كان (يحبو) يسوع.. ومتى تكلم.. وكيف نطق الحروف الأولى.. أخبريني عن أسرار الملك، إذ أنه (شابهنا في كل شيء، ما خلا الخطية وحدها).. كان مثلنا "يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو 52:2) ولكنه كان "ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه" (لو 40:2). اِحكي يا أم النور عن النور والبهاء الذي كان يحيط بطفلك العجيب.. وخبرينا عن المجد والوقار والرزانة والنعمة المنبعثة من شخصه القدوس.. طوباك يا مريم لأنك عاينت ما لم تره عين.. وخبرت ما لم يختبره إنسان وصدَّقتِ ما يفوق العقل.. وعقِلتِ ما يصيب بالذهول. إنني أقف من بعيد يحجبني الزمان السحيق والمكان البعيد... أقف مذهولاً من الأمر نفسه الذي استوعبتِهِ أنت وعشتِهِ. قلبي ولساني وعقلي وحواسي يتيهون.. وقلمي يعجز عن خط الكلمات.. مشاعري مختلطة ولا أستطيع الكلام أو أن أرتب العبارات.. لأنني مأخوذ ومشدود بسبب بهائك الكامل يا أم كل طهر وأصل البتولية. قالعذراء عروس الله.. "هاأنت جميلة يا حبيبتي. ها أنت جميلة عيناك حمامتان" (نش 15:1)، "كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة" (نش 7:4)، "قد سبيت قلبي يا أختي العروس.. قد سبيت قلبي.. ما أحسن حبك يا أختي العروس.. شفتاك يا عروس تقطران شهداً، تحت لسانك عسل ولبن ورائحة ثيابك كرائحة لبنان، أختي العروس جنة مغلقة عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 9:4-12). لم تكن العذراء فقط أم الله "طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما" (لو 27:11)، بل هي أيضاً عروس الله وصديقته التي كانت "تحفظ كلامه في قلبها" (لو 51:2)، لذلك فقد نالت الطوبيين "إن القديسة مريم استحقت التطويب من أجل إيمانها بالمسيح أكثر من كونها حبلت به، إن صلة أمومتها بالمسيح لم تعطها أي ميزة.. الميزة الحقيقية التي للقديسة مريم، هي في كونها حملت المسيح في قلبها كما في بطنها" أغسطينوس. لقد خضعت العذراء في حب وفرح "هاأنذا أمة الرب ليكن لي كقولك" (لو 38:1). واحتملت سيوفاً كثيرة "وأنت يجوز في نفسك سيف لتعلن أفكار من قلوب كثيرين" (لو 35:2). ولكنها في هذه كلها كانت أنموذجاً رائعاً للاحتمال والهدوء والوداعة.. ثم صاغت خبرتها هذه في عبارة نصيحة لكل الأجيال "مهما قال لكم فافعلوه" (يو 5:2). نعم يا أمي الطاهرة سأطيع أبنك وأخضع لتدبيره.. هوذا أنا عبد للرب ليكن لي كقولك وكتدبيرك لحياتي وكخطتك لي قبل أن أولد وليتمجد اسمك القدوس فيَّ وفى كنيستك. وأنت يا أمي المحبوبة.. أتوسل إليك يا حبيبتي العروس.. اسنديني بعطفك لكي أتمم مشيئة ابنك فيَّ.. ولكي أخضع لصوته الإلهي، دون تردد أو تذمر أو إحجام. وأتمم عمله فيَّ دون عائق أو مانع.. مجداً وإكراماً للثالوث القدوس وسلاماً وبنياناً لكنيسة الله. العذراء صديقة الإنسان. لقد فشلت حواء أن تكون "أم كل حي" (تك 20:3) لأنها جلبت علينا حكم موت فصار كل مولود منها ومن نسلها ابناً للموت ووقوداً للهلاك، ولكن مريم العذراء صارت وسيلة وسلَّماً ينزل عليه الله الحي.. لكي يحيي جنس البشر.. يحيينا عندما نتحد به.. في المعمودية والإفخارستيا، فنصير أيضاً أعضاء فيه.. ونصير أيضاً أبناء لمريم بسببه.. وهكذا تصير العذراء مريم (أم جميع الأحياء) وتصير بالحق (حواء الثانية).. رفعت من شأن جنسنا (أنت بالحقيقة فخر جنسنا) وصارت لنا شفيعة ترفع احتياجاتنا لابنها الحبيب، "ليس لهم خمر" (يو 3:2) وتتوسط لديه لغفران خطايانا ولكي يسندنا في جهادنا وتوبتنا وفى خدمتنا ونمونا. إن العذراء عندما رفعت احتياج الناس لابنها (ليس لهم خمر) لم تكن تلفت نظره إلى حدث فاته ولم تكن تحاول الحصول على موافقة صعبة ولكن وساطتها تكون بسبب اتحاد قلبها الرقيق برحمة ابنها وشفقته، وموقفها النبيل يعبر عن محبة ابنها وحنانه غير المحدودين.. إنها وهى الأم التي تعرف قلب الابن وما به من ينابيع الحب تجاه البشر تشفع فينا لتستجلب مراحم الله الصادقة، ولكنها أيضاً فيما تشفع فينا توجهنا أن نطيعه "مهما قال فافعلوه" (يو 2:5). فرسالة العذراء لنا أن نطيع ونخضع وننفذ مشيئة الله فينا ونحن دائماً الرابحين لأن إرادة الله لحياتنا هي دائماً للخير والبنيان. "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده" (رو28:8). فطوبى للنفس التي تخضع للمسيح، ستستفيد بشفاعة العذراء. وطوبى للقلب الذي يعشق المسيح، ستكون العذراء سنده. وطوبى لمن جعل المسيح منتهى أمله، ستحضر العذراء إليه عند انفصال روحه من جسده. لقد صارت العذراء أماً لكل البشرية عندما قرر المسيح على الصليب مخاطباً إياها بخصوص يوحنا الحبيب "يا امرأة هوذا ابنك" (يو 26:19) وليوحنا "هوذا أمك" (يو 27:19).. لم يكن يوحنا هنا إلا نموذجاً للبشرية المخلصة المحبوبة والتي ترافق السيد حتى في آلامه.. إن كل نفس تشارك المسيح صليبه وترافقه في آلامه تصير ابنة للعذراء.. إن مكان لقاء العذراء مع يوحنا وارتباطهما برباط الأمومة والبنوة كان أمام الصليب.. يا سيدي هبني صليباً يجعلني ابناً لأمك.. إن كل آلام الصليب تهون واستخف بها.. في مقابل أن أكون ابناً لأمك البتول آخذها إلى خاصتي (يو 27:19) وتصير معي في مسكني تشاطرني الأكل والصلاة... النوم والسهر الخدمة والخلوة... كأم معينة ومنقذة في الشدائد. العذراء مثال للكنيسة : "هؤلاء كلهم (الكنيسة) كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة، مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته" (أع 14:1).. إن العذراء مريم هي عضو أساسي ومشارك مع الكنيسة حتى اليوم في الصلاة والطلبة وإقتبال الروح القدس ولكن عضوية أم النور عضوية متميزة، فهي نموذج ومثال رائع لما ينبغي أن تكون عليه النفس البشرية التي هي اللبنة الصغيرة في بناء الكنيسة الكبير. كما أن العذراء بقيت عذراء بعد الولادة، كذلك الكنيسة تحفظ عذراوية كيانها المقدس بالرغم من وجودها في العالم بكل إغراءاته، فالكنيسة للعالم هي نور وملح ولكنه نور لا ينبغي أن ينطفئ وملح لا يجب أن يفسد. العذراء وقد صارت أماً لله نظرت إلى نفسها كأمة متواضعة، وكذلك الكنيسة تسلك بروح الوداعة والاتضاع والمسكنة بالروح مع كثرة المواهب والأسرار التي تمتلكها بقوة وفعل الروح القدس. العذراء في هدوء "آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (يو 45:1)، وسلمت أمرها للرب "ليكن لي كقولك" (لو 38:1).. كذلك الكنيسة تمسكت بالإيمان السليم وحافظت عليه في قلبها وطقسها وحياتها، مسلِّمة كل المشيئة لله الذي يقود ويدبر كل أمور الكنيسة بحكمته وعين رعايته الساهرة. العذراء مريم جاز في نفسها سيف الألم عندما شك يوسف فيها.. وبالأكثر عندما رأت ابنها الحبيب الحنون معلقاً على الصليب.. "العالم يفرح لقبوله الخلاص وأما أحشائي فتلتهب عندما أنظر إلى صلبوتك، الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا ابني وإلهي" (الأجبية).. وكذلك الكنيسة عاشت وتعيش مضطهدة ومتألمة ومرفوضة من العالم، كحملان وسط ذئاب (لو 3:10)، ولكما ازداد الألم والضغط على الكنيسة كلما نمت وتمجدت لأن الآلام دائماً معبرنا للمجد، ولأن رئيس خلاصنا ورأسنا هو المسيح المصلوب. العذراء خدمت البشرية واجتذبتها للخلاص بهدوئها وصمتها، "لأنك قدمت لله ابنك شعباً كثيراً من قبل طهارتك" (التسبحة اليومية).. وكذلك الكنيسة تعمل في البشرية كمثل الخميرة التي يسرى مفعولها في هدوء لتخمر العجين كله. فليست الخدمة الفعالة هي ذات الرنين العالي والشهوة الواسعة والدعاية الجوفاء.. ولكن الخدمة الفعالة هي خدمة العمق والهدوء والرزانة تلك التي خدم بها آباؤها القديسون منذ القدم، فربحوا نفوساً كثيرة للملكوت وكان النموذج الرائع لهذه الخدمة الأم العذراء بطهارتها وعمقها وزانتها المؤثرة. إن مجرد ذكر اسم العذراء يحث النفس على الخشوع والصلاة، ويملأ القلب بهجة ووقاراً، كما يشيع في الجسد القداسة والنقاء.. إنها كأم تجمعنا حولها.. وتقدمنا لابنها.. فلنهتف إذاً مع أليصابات "مباركة أنت في النساء" (لو 42:1). نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل