المقالات
11 أغسطس 2018
الشفيعة المؤتمنة
"طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما... بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 27:11،28).
"طوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو 45:1).
طوبى لمريم العظيمة التي "كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها" (لو 19:2).
طوبى لمن تكلمت بالروح القدس معلنة "هوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني" (لو 48:1).
نطوبك يا ذات كل التطويب لأنك بالحقيقة ارتفعت على كل السمائيين، وصرت سماء ثانية تحمل القدوس كالشاروبيم وأبهى.
يا للعجب.. الأم الأعجوبة.. الأم والعذراء.. الأم والأَمَة.. الملكة والعبدة.. كيف لعقلي الصغير أن يستوعب هذه الأعجوبة.
فتاة صغيرة تحمل في حضنها (يهوه).. أخبريني يا أمي كيف استوعبت الخبر.. وكيف احتملتِ الخبرة.. من تخافه الملائكة وترتعب أمامه القوات.. من يقف الكهنة أمامه بكل احتشام ويتطهرون عندما يكتبون اسمه.. كيف حملتيه أنت في بطنك وحضنك وكيف رضع من لبن ثدييك.
خبريني يا عروس المسيح الباهرة كيف كان (يحبو) يسوع.. ومتى تكلم.. وكيف نطق الحروف الأولى.. أخبريني عن أسرار الملك، إذ أنه (شابهنا في كل شيء، ما خلا الخطية وحدها).. كان مثلنا "يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو 52:2) ولكنه كان "ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه" (لو 40:2).
اِحكي يا أم النور عن النور والبهاء الذي كان يحيط بطفلك العجيب.. وخبرينا عن المجد والوقار والرزانة والنعمة المنبعثة من شخصه القدوس.. طوباك يا مريم لأنك عاينت ما لم تره عين.. وخبرت ما لم يختبره إنسان وصدَّقتِ ما يفوق العقل.. وعقِلتِ ما يصيب بالذهول.
إنني أقف من بعيد يحجبني الزمان السحيق والمكان البعيد... أقف مذهولاً من الأمر نفسه الذي استوعبتِهِ أنت وعشتِهِ.
قلبي ولساني وعقلي وحواسي يتيهون.. وقلمي يعجز عن خط الكلمات.. مشاعري مختلطة ولا أستطيع الكلام أو أن أرتب العبارات.. لأنني مأخوذ ومشدود بسبب بهائك الكامل يا أم كل طهر وأصل البتولية.
قالعذراء عروس الله..
"هاأنت جميلة يا حبيبتي. ها أنت جميلة عيناك حمامتان" (نش 15:1)، "كلك جميل يا حبيبتي ليس فيك عيبة" (نش 7:4)، "قد سبيت قلبي يا أختي العروس.. قد سبيت قلبي.. ما أحسن حبك يا أختي العروس.. شفتاك يا عروس تقطران شهداً، تحت لسانك عسل ولبن ورائحة ثيابك كرائحة لبنان، أختي العروس جنة مغلقة عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 9:4-12).
لم تكن العذراء فقط أم الله "طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما" (لو 27:11)، بل هي أيضاً عروس الله وصديقته التي كانت "تحفظ كلامه في قلبها" (لو 51:2)، لذلك فقد نالت الطوبيين "إن القديسة مريم استحقت التطويب من أجل إيمانها بالمسيح أكثر من كونها حبلت به، إن صلة أمومتها بالمسيح لم تعطها أي ميزة.. الميزة الحقيقية التي للقديسة مريم، هي في كونها حملت المسيح في قلبها كما في بطنها" أغسطينوس.
لقد خضعت العذراء في حب وفرح "هاأنذا أمة الرب ليكن لي كقولك" (لو 38:1). واحتملت سيوفاً كثيرة "وأنت يجوز في نفسك سيف لتعلن أفكار من قلوب كثيرين" (لو 35:2).
ولكنها في هذه كلها كانت أنموذجاً رائعاً للاحتمال والهدوء والوداعة.. ثم صاغت خبرتها هذه في عبارة نصيحة لكل الأجيال "مهما قال لكم فافعلوه" (يو 5:2).
نعم يا أمي الطاهرة سأطيع أبنك وأخضع لتدبيره.. هوذا أنا عبد للرب ليكن لي كقولك وكتدبيرك لحياتي وكخطتك لي قبل أن أولد وليتمجد اسمك القدوس فيَّ وفى كنيستك.
وأنت يا أمي المحبوبة..
أتوسل إليك يا حبيبتي العروس.. اسنديني بعطفك لكي أتمم مشيئة ابنك فيَّ.. ولكي أخضع لصوته الإلهي، دون تردد أو تذمر أو إحجام.
وأتمم عمله فيَّ دون عائق أو مانع.. مجداً وإكراماً للثالوث القدوس وسلاماً وبنياناً لكنيسة الله.
العذراء صديقة الإنسان.
لقد فشلت حواء أن تكون "أم كل حي" (تك 20:3) لأنها جلبت علينا حكم موت فصار كل مولود منها ومن نسلها ابناً للموت ووقوداً للهلاك، ولكن مريم العذراء صارت وسيلة وسلَّماً ينزل عليه
الله الحي.. لكي يحيي جنس البشر.. يحيينا عندما نتحد به.. في المعمودية والإفخارستيا، فنصير أيضاً أعضاء فيه.. ونصير أيضاً أبناء لمريم بسببه.. وهكذا تصير العذراء مريم (أم جميع الأحياء) وتصير بالحق (حواء الثانية).. رفعت من شأن جنسنا (أنت بالحقيقة فخر جنسنا) وصارت لنا شفيعة ترفع احتياجاتنا لابنها الحبيب، "ليس لهم خمر" (يو 3:2) وتتوسط لديه لغفران خطايانا ولكي يسندنا في جهادنا وتوبتنا وفى خدمتنا ونمونا.
إن العذراء عندما رفعت احتياج الناس لابنها (ليس لهم خمر) لم تكن تلفت نظره إلى حدث فاته ولم تكن تحاول الحصول على موافقة صعبة ولكن وساطتها تكون بسبب اتحاد قلبها الرقيق برحمة ابنها وشفقته، وموقفها النبيل يعبر عن محبة ابنها وحنانه غير المحدودين.. إنها وهى الأم التي تعرف قلب الابن وما به من ينابيع الحب تجاه البشر تشفع فينا لتستجلب مراحم الله الصادقة، ولكنها أيضاً فيما تشفع فينا توجهنا أن نطيعه "مهما قال فافعلوه" (يو 2:5). فرسالة العذراء لنا أن نطيع ونخضع وننفذ مشيئة الله فينا ونحن دائماً الرابحين لأن إرادة الله لحياتنا هي دائماً للخير والبنيان.
"ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده" (رو28:8).
فطوبى للنفس التي تخضع للمسيح، ستستفيد بشفاعة العذراء. وطوبى للقلب الذي يعشق المسيح، ستكون العذراء سنده. وطوبى لمن جعل المسيح منتهى أمله، ستحضر العذراء إليه عند انفصال روحه من جسده.
لقد صارت العذراء أماً لكل البشرية عندما قرر المسيح على الصليب مخاطباً إياها بخصوص يوحنا الحبيب "يا امرأة هوذا ابنك" (يو 26:19) وليوحنا "هوذا أمك" (يو 27:19).. لم يكن يوحنا هنا إلا نموذجاً للبشرية المخلصة المحبوبة والتي ترافق السيد حتى في آلامه.. إن كل نفس تشارك المسيح صليبه وترافقه في آلامه تصير ابنة للعذراء.. إن مكان لقاء العذراء مع يوحنا وارتباطهما برباط الأمومة والبنوة كان أمام الصليب.. يا سيدي هبني صليباً يجعلني ابناً لأمك.. إن كل آلام الصليب تهون واستخف بها.. في مقابل أن أكون ابناً لأمك البتول آخذها إلى خاصتي (يو 27:19) وتصير معي في مسكني تشاطرني الأكل والصلاة... النوم والسهر الخدمة والخلوة... كأم معينة ومنقذة في الشدائد.
العذراء مثال للكنيسة :
"هؤلاء كلهم (الكنيسة) كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة، مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته" (أع 14:1).. إن العذراء مريم هي عضو أساسي ومشارك مع الكنيسة حتى
اليوم في الصلاة والطلبة وإقتبال الروح القدس ولكن عضوية أم النور عضوية متميزة، فهي نموذج ومثال رائع لما ينبغي أن تكون عليه النفس البشرية التي هي اللبنة الصغيرة في بناء الكنيسة الكبير.
كما أن العذراء بقيت عذراء بعد الولادة، كذلك الكنيسة تحفظ عذراوية كيانها المقدس بالرغم من وجودها في العالم بكل إغراءاته، فالكنيسة للعالم هي نور وملح ولكنه نور لا ينبغي أن ينطفئ وملح لا يجب أن يفسد.
العذراء وقد صارت أماً لله نظرت إلى نفسها كأمة متواضعة، وكذلك الكنيسة تسلك بروح الوداعة والاتضاع والمسكنة بالروح مع كثرة المواهب والأسرار التي تمتلكها بقوة وفعل الروح القدس.
العذراء في هدوء "آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (يو 45:1)، وسلمت أمرها للرب "ليكن لي كقولك" (لو 38:1).. كذلك الكنيسة تمسكت بالإيمان السليم وحافظت عليه في قلبها وطقسها وحياتها، مسلِّمة كل المشيئة لله الذي يقود ويدبر كل أمور الكنيسة بحكمته وعين رعايته الساهرة.
العذراء مريم جاز في نفسها سيف الألم عندما شك يوسف فيها.. وبالأكثر عندما رأت ابنها الحبيب الحنون معلقاً على الصليب.. "العالم يفرح لقبوله الخلاص وأما أحشائي فتلتهب عندما أنظر إلى صلبوتك، الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا ابني وإلهي" (الأجبية).. وكذلك الكنيسة عاشت وتعيش مضطهدة ومتألمة ومرفوضة من العالم، كحملان وسط ذئاب (لو 3:10)، ولكما ازداد الألم والضغط على الكنيسة كلما نمت وتمجدت لأن الآلام دائماً معبرنا للمجد، ولأن رئيس خلاصنا ورأسنا هو المسيح المصلوب.
العذراء خدمت البشرية واجتذبتها للخلاص بهدوئها وصمتها، "لأنك قدمت لله ابنك شعباً كثيراً من قبل طهارتك" (التسبحة اليومية).. وكذلك الكنيسة تعمل في البشرية كمثل الخميرة التي يسرى مفعولها في هدوء لتخمر العجين كله. فليست الخدمة الفعالة هي ذات الرنين العالي والشهوة الواسعة والدعاية الجوفاء.. ولكن الخدمة الفعالة هي خدمة العمق والهدوء والرزانة تلك التي خدم بها آباؤها القديسون منذ القدم، فربحوا نفوساً كثيرة للملكوت وكان النموذج الرائع لهذه الخدمة الأم العذراء بطهارتها وعمقها وزانتها المؤثرة.
إن مجرد ذكر اسم العذراء يحث النفس على الخشوع والصلاة، ويملأ القلب بهجة ووقاراً، كما يشيع في الجسد القداسة والنقاء.. إنها كأم تجمعنا حولها.. وتقدمنا لابنها.. فلنهتف إذاً مع أليصابات "مباركة أنت في النساء" (لو 42:1).
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
04 أغسطس 2018
العذراء في القداس
أنتِ أرفع من السمائين وأجل من الشاروبيم، وأفضل من السيرافيم، وأعظم من طغمات الملائكة الروحانيين.أنت فخر جنسنا، بك تكرم الطهارة والعفة الحقيقة، اذ تفضلت على الخلائق التى ترى عظمة وكرامة الرب المسجود له الذى اصطفاك وولد منك(من أجل هذا كرامتك جليلة وشفاعتك زائدة فى القوة والإجابة كثيراً)(من ميمر للأبنا بولس البوشى)
تقدم كنيستنا القبطية للعذراء مريم تطوبيا وافراً وتمجيداً لائقاً بكرامتها السامية. وإذ نتتبع صلوات التسبحة اليومية ومزامير السواعى والقداس الإلهى نجد تراثاً غنياً من التعبيرات والجمل التى تشرح طوباويتها وتذكر جميع الأوصاف التى خلعتها عليها الكنيسة، وهى مأخوذة عن أصالة لاهوتية، وكلها من وضع آباء قديسين ولاهوتيين، استوحوها من الله، ومن رموز ونبوات العهد القديم، التى تحققت فى شخصية العذراء
فى الابصلمودية المقدسة السنوية-:
وهو الكتاب الذى يحوى التسبحة اليومية نجد فى الأيام العادية تمجيداً لاسم السيدة العذراء فى بدء صلاة نصف الليل فى القطعة الخاصة بالقيامة نخاطبها قائلين: "كل الأفراح تليق بك يا والدة الإله، لأنه من قِبَلك أرجع آدم إلى الفردوس ونالت الزينة حواء عوض حزنها" ونطلب شفاعتها فى آخر لبشين (أي تفسيرين) للهوس الأول والثانى، وكذا فى أول صلاة المجمع وهناك ثلاثة ذكصولوجيات (أى تماجيد) خاصة بالعذراء تقال فى صلاة عشية ونصف الليل وباكر، تحوى كثيرا من العبادات التى تمجد طوباويتها مثل: "زينة مريم فى السماويات العلوية عن يمين حبيبها تطلب منه عنا" وفى نهاية كل ذوكصولوجية نكمل: "السلام لك أيتها العذراء الملكة الحقيقة الحقانية السلام لفخر جنسنا لأنك ولدت لنا عمانوئيل، نسألك اذكرينا أيتها العفيفة الأمينة لدى ربنا يسوع المسيح ليغفر لنا خطايانا".وحسب النظام الأساسى للتسبحة اليومية تصلى المقدمة والهوسات الثلاثة الأولى ومديح الثلاثة فتية، المجمع، والذكصولوجيات، فالهوس الرابع ثم ابصالية اليوم وتذاكية اليوم (التذاكية هى تمجيد لوالدة الإله العذراء).
فى رفع بخور عشية وباكر-:
ترتل أرباع الناقوس بعد صلاة الشكر، وفيها تختلف الجمل، نرسل بها السلام للعذراء فى الأيام الواطس أو الآدام ثم نكمل: "السلام لك يا مريم سلام مقدس. السلام لك يا مريم أم القدوس" وتصلى القطع التى تسبق قانون الإيمان وأولها: "السلام لك أيتها القديسة" وبعض الذكصولوجيات وقانون الإيمانترتل أرباع الناقوس بعد صلاة الشكر، وفيها تختلف الجمل، نرسل بها السلام للعذراء فى الأيام الواطس أو الآدام ثم نكمل: "السلام لك يا مريم سلام مقدس. السلام لك يا مريم أم القدوس" وتصلى القطع التى تسبق قانون الإيمان وأولها: "السلام لك أيتها القديسة" وبعض الذكصولوجيات وقانون الإيمان
فى مزامير السواعي-:
رتبت الكنيسة فى صلاة الأجبية قطعا مختارة بعد إنجيل كل ساعة فى نظام دقيق، تختص القطعة الثالثة دائماً بطلب شفاعات العذراء. وفى بعض هذه القطع تلقب العذراء بأنها الكرمة الحقانية الحاملة عنقود الحياة، والممتلئة نعمة، سور خلاصنا الحصن المنيع غير المنثلم، باب الحياة العقلى.
فى القداس الإلهى:-
هنا يجرى ذكرى تطويب العذراء فى حوالى عشرة أجزاء مثل:
فى لحن البركة:
وقبل رفع الحمل يقال النشيد الكنسى للعذراء ومطلعه: "السلام لمريم الملكة الكرمة غير الشائخة...".
بعد صلاة الشكر:
ترتل فى الصوم المقدس أعداد من (مزمور 87) الذى يشير إلى العذراء باعتبارها مدينة الله المقدسة وهى: "أساساته فى الجبال المقدسة..".
عند رفع بخور البولس:
يقال فى الأعياد وأيام الفطر لحن: "هذه المجمرة الذهب...".
قبل وبعد قراءة الابركسيس:
ويتغير المرد الخاص بالعذراء فى خمس مناسبات من السنة القبطية.
مردات الإنجيل:
وهذه تختلف فى الأحدين الأولين من شهر كيهك عنها فى الأحدين الآخرين، فضلاً عن طلب شفاعتها فى أيام السنة العادية بعد تطويب قديس كل يوم.
فى قانون الإيمان:
أبرزت الكنيسة أهمية شخصية العذراء مريم كوالدة الإله فى التقليد الكنسى، بعد انعقاد مجمع أفسس مباشرة سنة 431م، وذلك لضبط مفهوم التجسد الإلهى ومقاومة بدعة نسطور؛ وهكذا أضافت مضمون العقيدة التى أقرها هذا المجمع فى مقدمة قانون الإيمان والتى مطلعها: "نعظمك يا أم النور الحقيقى...".
اسبسمسات أدام وواطس:
هى تقال بعد صلاة الصلح وقبل قداس المؤمنين وأشهرها "اِفرحي يا مريم العبدة والأم...".
فى مجمع القديسين وبعده:
طبقاً لمركز العذراء فى الطقس الكنسى يطلب الكاهن شفاعتها على رأس قائمة أعضاء الكنيسة المنتصرة فى صلاة المجمع، وكذا فى صلاة البركة والطلبة الختامية، ثم تردد قطعة: "بصلوات وشفاعات ذات كل قداسة الممجدة الطاهرة المباركة...".
ما يقال فى التوزيع:
يردد لحن "خبز الحياة الذى نزل من السماء واهب الحياة للعالم، وأنت أيضا يا مريم حملت فى بطنك المن العقلى الذى أتى من الآب...".
من بعد هذا العرض السريع للترتيب الكنسى الخاص بالسيدة العذراء، نلاحظ مقدار الغنى والوفرة
فى الصلوات والتسابيح المخصصة لتطويب وتمجيد العذراء مريم، كما تقضى الكنيسة يوميا عدة ساعات فى تكريم العذراء بالتسابيح الرائعة والألحان الدقيقة والمردات التشفعية المنسكبة.
ليتنا نقارن ذلك بكمية علاقتنا الشخصية بالعذراء مريم فى واقعنا اليومى، لتنطلق قلوبنا وألسنتنا على الدوام، لنمجد هذه التى قالت عن نفسها: "هوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى".
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
28 يوليو 2018
نماذج من تسابيح القديسين في الكتاب المقدس - الجزء الثاني
(2) تسبحة زكريا الكاهن
قيل عن زكريا وامرأته أليصابات: "كانا كِلاهُما بارَّينِ أمامَ اللهِ، سالِكَينِ في جميعِ وصايا الرَّب وأحكامِهِ بلا لومٍ" (لو6:1) وكان زكريا هذا كاهنًا لله العلي، استحق أن يرى ملاك الرب في الهيكل "واقِفًا عن يَمينِ مَذبَحِ البَخورِ" (لو11:1) ليُبشره بميلاد يوحنا المعمدان أعظم مواليد النساء هذا الرجل البار صار صامتًا لا يقدر أن يتكلَّم، لأنه لم يُصدِّق كلام الملاك من جهة ميلاد يوحنا المعمدان: "وها أنتَ تكونُ صامِتًا ولا تقدِرُ أنْ تتكلَّمَ، إلَى اليومِ الذي يكونُ فيهِ هذا، لأنَّكَ لم تُصَدقْ كلامي الذي سيَتِمُّ في وقتِهِ" (لو20:1) وبالفعل عندما وُلد يوحنا "في الحالِ انفَتَحَ فمُهُ ولسانُهُ وتكلَّمَ وبارَكَ اللهَ" (لو64:1) لقد انفتح فمه ولسانه على التسبيح ومُباركة الله، "وامتَلأَ زَكَريّا أبوهُ مِنَ الرّوحِ القُدُسِ، وتنَبّأَ قائلاً: مُبارَكٌ الرَّبُّ إلهُ إسرائيلَ لأنَّهُ افتَقَدَ وصَنَعَ فِداءً لشَعبِهِ" (لو67:1-68).
ربي يسوع
ليت لساني يخرس عن نطق الشر،
وينفتح فقط للتسبيح.
لقد استُؤمن زكريا على نعمة النبوة فصارت تسابيحه نبوات، ونبؤاته تسابيح لقد عرف بالروح القدس أن الله افتقد وصنع فداء لشعبه مع أن الرب يسوع لم يكن قد وُلد بعد، ولم يكن يوحنا ابنه المولود في هذه اللحظة هو الفادي المنتظر ولكنه علم بالروح أن يوحنا هو السابق الصابغ، وهو النذير الذي يسبق مجيء الحمل ليُعد له شعبًا مستعدًا "ويَتَقَدَّمُ أمامَهُ بروحِ إيليّا وقوَّتِهِ" (لو17:1).
لذلك حينما رأى زكريا ابنه الوليد الصغير يوحنا ارتفع ذهنه إلى العريس الحقيقي (ربنا يسوع)، ولم ينشغل كثيرًا بصديق العريس الذي هو يوحنا المعمدان إننا كذلك في تسابيح الكنيسة حينما نحتفل بأحد القديسين يرتفع ذهننا سريعًا إلى شخص ربنا يسوع المسيح، فهو قدوس القديسين، وهو المُمجد في جماعة القديسين، وهو "مُعلَمٌ بَينَ رَبوَةٍ" (نش10:5) لقد أدرك زكريا أن الله "أقامَ لنا قَرنَ خَلاصٍ في بَيتِ داوُدَ فتاهُ كما تكلَّمَ بفَمِ أنبيائهِ القِديسينَ الذينَ هُم منذُ الدَّهرِ" (لو69:1-70)، لم يكن يوحنا من بيت داود، بل من بيت لاوي (سبط الكهنوت)، وداود من سبط يهوذا، الذي خرج منه المسيح "الأسَدُ الذي مِنْ سِبطِ يَهوذا" (رؤ5:5) فزكريا هنا يتكلم عن قرن الخلاص الذي هو ربنا يسوع المسيح، ويُسبِّح الافتقاد الإلهي للبشرية ذاك الافتقاد الذي وعد به منذ القديم بالآباء والأنبياء أدرك زكريا أيضًا بروح النبوة أن المسيح سيُحقق لنا "خَلاصٍ مِنْ أعدائنا ومِنْ أيدي جميعِ مُبغِضينا" (لو71:1)، ونحن نعرف أن هؤلاء الأعداء والمبغضين هم الشياطين، وليس كالفكر اليهودي الحرفي المادي الذي كان يتوقع أن يأتي المسيا ليُخلصهم من حكم الرومان ويعطيهم مُلكًا أرضيًا زمنيًا لقد أعلن السيد المسيح أن مملكته ليست من هذا العالم لأنه ملك روحاني يملك على قلوب مُحبيه: "إنْ أحَبَّني أحَدٌ يَحفَظْ كلامي، ويُحِبُّهُ أبي، وإليهِ نأتي، وعِندَهُ نَصنَعُ مَنزِلاً" (يو23:14) إن ملكوت المسيح فينا هو تحقيق رحمته وعهده "ليَصنَعَ رَحمَةً مع آبائنا ويَذكُرَ عَهدَهُ المُقَدَّسَ" (لو72:1) ذلك العهد الذي أقسم لأبينا إبراهيم أن يُعطيه "القَسَمَ الذي حَلَفَ لإبراهيمَ أبينا: أنْ يُعطيَنا" (لو73:1-74)، إذ قيل: "بذاتي أقسَمتُ، يقولُ الرَّبُّ أُبارِكُكَ مُبارَكَةً، وأُكَثرُ نَسلكَ تكثيرًا كنُجومِ السماءِ وكالرَّملِ الذي علَى شاطِئ البحرِ، ويَرِثُ نَسلُكَ بابَ أعدائهِ، ويَتَبارَكُ في نَسلِكَ جميعُ أُمَمِ الأرضِ، مِنْ أجلِ أنَّكَ سمِعتَ لقَوْلي" (تك16:22-18) حقًا تحقق في ربنا يسوع هذا الوعد إذ تباركت جميع قبائل الأرض، في شخصه القدوس بالفداء الذي حققه لنا بصليبه المكرم، ودمه الطاهر المسفوك عليه إننا حقًا "بلا خَوْفٍ، مُنقَذينَ مِنْ أيدي أعدائنا" (لو74:1)، لذلك حقَّ لنا ووجب علينا أن "نَعبُدُهُ بقَداسَةٍ وبر قُدّامَهُ جميعَ أيّامِ حَياتِنا" (لو74:1-75).
فيما يُسبِّح زكريا الرب المُخلِّص، لم ينسَ أيضًا أن يتلو (ذكصولوجية) لتمجيد القديس يوحنا المعمدان، إذ أن مجد الله كائن في القديسين وزكريا يدرك أن تمجيد القديسين لا ينتقص من مجد الله؛ بل هو اعتراف بعمل الله في البشر لذلك اتجه نحو طفله الوليد وقال: "وأنتَ أيُّها الصَّبيُّ نَبيَّ العَلي تُدعَى، لأنَّكَ تتقَدَّمُ أمامَ وجهِ الرَّب لتُعِدَّ طُرُقَهُ لتُعطيَ شَعبَهُ مَعرِفَةَ الخَلاصِ بمَغفِرَةِ خطاياهُمْ" (لو76:1-77) ولا عجب فالسيد المسيح نفسه قد وضع (ذكصولوجية) تمجيد ليوحنا المعمدان، ومدحه بأشعار مازلنا نستخدمها حتى اليوم في تمجيد هذا القديس العظيم، لكي يفتح لنا الباب أن نُشارك في تذكار القديسين، ومديحهم وتمجيدهم بعبارات شبيهة بما قاله السيد المسيح نفسه "ابتَدأَ يقولُ للجُموعِ عن يوحَنا: ماذا خرجتُمْ إلَى البَريَّةِ لتنظُروا؟ أقَصَبَةً تُحَركُها الريحُ؟ بل ماذا خرجتُمْ لتنظُروا؟ أإنسانًا لابِسًا ثيابًا ناعِمَةً؟ بل ماذا خرجتُمْ لتنظُروا؟ أنَبيًّا؟ نَعَمْ، أقولُ لكُمْ: وأفضَلَ مِنْ نَبي! هذا هو الذي كُتِبَ عنهُ: ها أنا أُرسِلُ أمامَ وجهِكَ مَلاكي الذي يُهَيئُ طريقَكَ قُدّامَكَ! لأني أقولُ لكُمْ: إنَّهُ بَينَ المَوْلودينَ مِنَ النساءِ ليس نَبيٌّ أعظَمَ مِنْ يوحَنا المعمدانِ" (لو24:7-28)ولا ننسى أيضًا الملاك غبريال نفسه فقد قال قصيدة مدح في هذا القديس العظيم قبل أن يولد: "ويكونُ لكَ فرَحٌ وابتِهاجٌ، وكثيرونَ سيَفرَحونَ بوِلادَتِهِ، لأنَّهُ يكونُ عظيمًا أمامَ الرَّب، وخمرًا ومُسكِرًا لا يَشرَبُ، ومِنْ بَطنِ أُمهِ يَمتَلِئُ مِنَ الرّوحِ القُدُسِ ويَرُدُّ كثيرينَ مِنْ بَني إسرائيلَ إلَى الرَّب إلهِهِمْ ويَتَقَدَّمُ أمامَهُ بروحِ إيليّا وقوَّتِهِ، ليَرُدَّ قُلوبَ الآباءِ إلَى الأبناءِ، والعُصاةَ إلَى فِكرِ الأبرارِ، لكَيْ يُهَيئَ للرَّب شَعبًا مُستَعِدًّا" (لو14:1-17) إن الكتاب المقدس يُعلِّمنا أننا حينما نتكلم مع القديسين إنما نمجد الله الساكن فيهم، ونتذكر أعماله الخلاصية في حياتهم لقد تذكر زكريا الخلاص فيما يتكلم عن يوحنا "لتُعطيَ شَعبَهُ مَعرِفَةَ الخَلاصِ بمَغفِرَةِ خطاياهُمْ" (لو77:1)، وتذكر رحمة الله وافتقاده لنا "بأحشاءِ رَحمَةِ إلهِنا التي بها افتَقَدَنا المُشرَقُ مِنَ العَلاءِ ليُضيءَ علَى الجالِسينَ في الظُّلمَةِ وظِلالِ الموتِ، لكَيْ يَهديَ أقدامَنا في طريقِ السَّلامِ" (لو78:1-79) حقًا كان زكريا رجل الله، وقد امتلأ بالروح القدس، ليبهرنا بهذه التسبحة الخالدة.
ربي يسوع
دعني أمُجدك في قديسيك،
كما فعل زكريا البار بالروح القدس.
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
21 يوليو 2018
نماذج من تسابيح القديسين في الكتاب المقدس
(1) القديسة العذراء مريم والتسبيح
إن حياة العذراء مريم هي تسبيح في حد ذاتها صمتها واتضاعها، طهارتها ونقاوتها، احتمالها وخضوعها إن العذراء نفسها تسبحة كانت تمشي على الأرض، والآن في السماء وعندما فتحت هذه العروس الطهور فاها المبارك المقدَّس المملوء نعمة، كانت الكلمات الخارجة من فمها هي تسابيح غنية وعميقة تدل على روحها النسكية الأصيلة، وتدل أيضًا على شبعها بكلام الله فتسبحتها الواردة في إنجيل مُعلمنا لوقا البشير تتشابه كثيرًا مع تسبحة القديسة حَنَّة أم صموئيل، والتي وردت في (1صم1:2-10) عندما أدركت العذراء أنها صارت أم الله "أُمُّ رَبي" (لو43:1)، لم تتكبر ولم تنتفخ بل بالعكس حوّلت المجد والتعظيم لله "تُعَظمُ نَفسي الرَّبَّ" (لو46:1)، فالرب وحده هو الجدير بالتعظيم والرفعة ونحن في كل مرة نرفع تمجيدًا أو مديحًا لأمنا العذراء الطاهرة نراها أيضًا تحوِّل هذا المجد إلى الله ابنها ومخلصها وإلهها قائلة: "تُعَظمُ نَفسي الرَّبَّ، وتبتَهِجُ روحي باللهِ مُخَلصي" (لو46:1-47) لم تفتخر روحها بذاتها، ووضعها الجديد كملكة وأم للملك وأم لله، ولكنها ابتهجت بالله مخلصها لقد كانت العذراء مشغولة بالله وليس بنفسها، مثلما قالت حنة: "فرِحَ قَلبي بالرَّب ارتَفَعَ قَرني بالرَّب" (1صم1:2) هذه هي النفوس القديسة البارة المنشغلة بالله، وليس بذواتها البشرية ليتنا نتعلم هذا الدرس.
كذلك لم تنسَ العذراء مريم أنها أمَة الرب "هوذا أنا أَمَةُ الرَّب ليَكُنْ لي كقَوْلِكَ" (لو38:1)، "لأنَّهُ نَظَرَ إلَى اتضاعِ (مذلة) أَمَتِهِ" (لو48:1)ونحن يجب أن نتعلّم أيضًا من هذه الأم القديسة الطاهرة ألا ترتفع قلوبنا، بل ندرك دائمًا أننا "عَبيدٌ بَطّالونَ" (لو10:17) مهما عملنا من البر، ومهما وصلنا إلى مراتب روحية، أو كنسية، أو في العالم فالمسيح دائمًا مُمجد في عبيده المتضعين فقط بروح النبوة تنبأت القديسة العذراء مريم عما سيحدث في الكنائس في كل العالم، وفي كل الأجيال من جهة تطويبها وتمجيدها ومديحها: "فهوذا منذُ الآنَ جميعُ الأجيالِ تُطَوبُني" (لو48:1) نحن بالحق نُطوبك يا أم النور الحقيقي، لأنكِ صرتِ أهلاً لأن تحملي بين يديكِ الجالس على مركبة الشاروبيم، ومَنْ تسجد له الملائكة وكل الخليقة فأنتِ بالحقيقة تستحقي كل إكرام وتمجيد وتعظيم يا أم الله بالحقيقة وفي ملء الاتضاع العطر تفهم العذراء القديسة أن ما نالته من نعمة هو من إحسانات القدير ورحمته نحن نقول عنها إنها تستحق كل كرامة، وهي تقول عن نفسها إن ما نالته من كرامة كان إحسانًا ورحمة من القدير "لأنَّ القديرَ صَنَعَ بي عَظائمَ، واسمُهُ قُدّوسٌ، ورَحمَتُهُ إلَى جيلِ الأجيالِ للذينَ يتَّقونَهُ" (لو49:1-50)هذه هي الروح المُتضعة الحقيقية التي يقبلها الله، ويفرح بها "ليَمدَحكَ الغَريبُ لا فمُكَ" (أم2:27) وانطلقت العذراء القديسة مريم تسبِّح الله على صنيعه المجيد مع شعبه: "صَنَعَ قوَّةً بذِراعِهِ شَتَّتَ المُستَكبِرينَ بفِكرِ قُلوبِهِمْ أنزَلَ الأعِزّاءَ عن الكَراسي ورَفَعَ المُتَّضِعينَ أشبَعَ الجياعَ خَيراتٍ وصَرَفَ الأغنياءَ فارِغينَ عَضَدَ إسرائيلَ فتاهُ ليَذكُرَ رَحمَةً، كما كلَّمَ آباءَنا لإبراهيمَ ونَسلِهِ إلَى الأبدِ" (لو51:1-55) إنه هو الذي صنع القوة بتجسده، وغلبته للشيطان والخطية والموت، وهو الذي "يُميتُ ويُحيي يُهبِطُ إلَى الهاويَةِ ويُصعِدُ الرَّبُّ يُفقِرُ ويُغني يَضَعُ ويَرفَعُ يُقيمُ المِسكينَ مِنَ التُّرابِ يَرفَعُ الفَقيرَ مِنَ المَزبَلَةِ للجُلوسِ مع الشُّرَفاءِ ويُمَلكُهُمْ كُرسيَّ المَجدِ" (1صم6:2-8) حقًا بالرب قد "اتَّسَعَ فمي علَى أعدائي، لأني قد ابتَهَجتُ بخَلاصِكَ ليس قُدّوسٌ مِثلَ الرَّب، لأنَّهُ ليس غَيرَكَ، وليس صَخرَةٌ مِثلَ إلهِنا" (1صم1:2-2) "قِسيُّ الجَبابِرَةِ انحَطَمَتْ، والضُّعَفاءُ تمَنطَقوا بالبأسِ الشَّباعَى آجَروا أنفُسَهُمْ بالخُبزِ، والجياعُ كفّوا حتَّى أنَّ العاقِرَ ولَدَتْ سبعَةً، وكثيرَةَ البَنينَ ذَبُلَتْ" (1صم4:2-5) إن إلهنا هو إله المستحيلات "لأنَّهُ ليس بالقوَّةِ يَغلِبُ إنسانٌ" (1صم9:2) وإله تحقيق الوعد "كما كلَّمَ آباءَنا. لإبراهيمَ ونَسلِهِ إلَى الأبدِ" (لو55:1)، فهو لا يخلف وعده لأنه "أمينٌ وعادِلٌ" (1يو9:1) ليتنا نتعلم روح التسبيح من أمنا العذراء، ونتكلم في حضرة الرب مثلها بكلام مُتضع روحاني مليء بالفكر والعقيدة والإيمان الراسخ.
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
14 يوليو 2018
آباؤنا الرسل وخدمة التسبيح - الجزء الثاني
(د) تسبحة الغلبة والخلاص:
إن الأبدية السعيدة هي مكافأة الأبرار، وانتصار العدل على الأشرار وهذا أيضًا موضوع تسبيح السمائيين "فحَدَثَتْ أصواتٌ عظيمَةٌ في السماءِ قائلَةً: قد صارَتْ مَمالِكُ العالَمِ لرَبنا ومَسيحِهِ، فسَيَملِكُ إلَى أبدِ الآبِدينَ والأربَعَةُ والعِشرونَ شَيخًا الجالِسونَ أمامَ اللهِ علَى عُروشِهِمْ، خَرّوا علَى وُجوهِهِمْ وسجَدوا للهِ قائلينَ: نَشكُرُكَ أيُّها الرَّبُّ الإلهُ القادِرُ علَى كُل شَيءٍ، الكائنُ والذي كانَ والذي يأتي، لأنَّكَ أخَذتَ قُدرَتَكَ العظيمَةَ ومَلكتَ وغَضِبَتِ الأُمَمُ، فأتَى غَضَبُكَ وزَمانُ الأمواتِ ليُدانوا، ولتُعطَى الأُجرَةُ لعَبيدِكَ الأنبياءِ والقِديسينَ والخائفينَ اسمَكَ، الصغارِ والكِبارِ، وليُهلكَ الذينَ كانوا يُهلِكونَ الأرضَ" (رؤ15:11-18) ما أجمل هذا المنظر السمائي البديع فهناك أصوات عظيمة تليق بتسبيح الإله العظيم وحده، وهناك كلمات تسبيح تُعبّر عن سيادة الله، ومملكته الأبدية التي لن تزول، وهناك أيضًا الخوارس التي (ترابع) التسبيح بطريقة الأنتيفونا (المردات أو المرابعة) والأعظم أيضًا في هذا التسبيح أن الملائكة مُتهللة لهزيمة الشيطان، وسقوطه، وسقوط مملكته، وطرحه في بحيرة النار والكبريت لذلك صارت هذه الهزيمة المنكرة موضوع تسبيحهم، وبرهان شركتهم مع البشر القديسين الذين غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم "وسَمِعتُ صوتًا عظيمًا قائلاً في السماءِ: الآنَ صارَ خَلاصُ إلهِنا وقُدرَتُهُ ومُلكُهُ وسُلطانُ مَسيحِهِ، لأنَّهُ قد طُرِحَ المُشتَكي علَى إخوَتِنا، الذي كانَ يَشتَكي علَيهِمْ أمامَ إلهِنا نهارًا وليلاً وهُمْ غَلَبوهُ بدَمِ الخَروفِ وبكلِمَةِ شَهادَتِهِمْ، ولم يُحِبّوا حَياتَهُمْ حتَّى الموتِ مِنْ أجلِ هذا، افرَحي أيَّتُها السماواتُ والسّاكِنونَ فيها ويلٌ لساكِني الأرضِ والبحرِ، لأنَّ إبليسَ نَزَلَ إلَيكُمْ وبهِ غَضَبٌ عظيمٌ! عالِمًا أنَّ لهُ زَمانًا قَليلاً" (رؤ10:12-12) وهذه التسبحة تُشبه الهوس الأول الذي فيه نُسبِّح الله على نجاة شعبه، وهلاك فرعون في البحر الأحمر ونحن أيضًا نخلُص بعبورنا في المعمودية التي فيها يهلك الشيطان إن التسبيح في السماء يُعبّر عن الصفاء والنقاوة التي سنتمتع بها مع السمائيين، بعد أن طرح الله الشيطان المشتكي علينا في بحيرة النار، وخلّص الكون من شره وفساده وسلطانه المزعوم ما أجمل الحياة بعد هزيمة الشيطان: "ثُمَّ نَظَرتُ وإذا خَروفٌ واقِفٌ علَى جَبَلِ صِهيَوْنَ، ومَعَهُ مِئَةٌ وأربَعَةٌ وأربَعونَ ألفًا، لهُمُ اسمُ أبيهِ مَكتوبًا علَى جِباهِهِمْ وسَمِعتُ صوتًا مِنَ السماءِ كصوتِ مياهٍ كثيرَةٍ وكصوتِ رَعدٍ عظيمٍ وسمِعتُ صوتًا كصوتِ ضارِبينَ بالقيثارَةِ يَضرِبونَ بقيثاراتِهِمْ، وهُمْ يترَنَّمونَ كتَرنيمَةٍ جديدَةٍ أمامَ العَرشِ وأمامَ الأربَعَةِ الحَيَواناتِ والشُّيوخِ ولم يَستَطِعْ أحَدٌ أنْ يتعَلَّمَ التَّرنيمَةَ إلا المِئَةُ والأربَعَةُ والأربَعونَ ألفًا الذينَ اشتُروا مِنَ الأرضِ هؤُلاءِ هُمُ الذينَ لم يتنَجَّسوا مع النساءِ لأنَّهُمْ أطهارٌهؤُلاءِ هُمُ الذينَ يتبَعونَ الخَروفَ حَيثُما ذَهَبَ هؤُلاءِ اشتُروا مِنْ بَينِ الناسِ باكورَةً للهِ وللخَروفِ وفي أفواهِهِمْ لم يوجَدْ غِشٌّ، لأنَّهُمْ بلا عَيبٍ قُدّامَ عَرشِ اللهِ" (رؤ1:14-5) لقد انفتح المجال للبشر (المائة والأربعة والأربعون ألفًا – وهو رقم رمزي يدل على المؤمنين المتمتعين بالحياة الأبدية) أن يشتركوا مع صفوف السمائيين في تسابيحهم، ويتعلموا ترنيمهم، ويتبعوا الخروف حيثما ذهب.
(هـ) ترنيمة موسى "عبد الله":-
إنها تسبحة خالدة، تلك التي ترَّنم بها موسى مع شعبه عند خروجهم من أرض مصر، وتسجلت في سفر الخروج (الأصحاح 15) والآن نحن نُسبِّح الله بها (في الهوس الأول) من أجل أعماله العظيمة في خلاصنا الثمين من قبضة إبليس وسوف نستمر نُسبِّحها في السماء مع كل الغالبين، لأنه بالحقيقة أنقذنا من سلطان إبليس الظالم، فعندما ذُبح المسيح من أجلنا (مثل خروف فصح) عبر بنا من ظلمة الخطية إلى النور الحقيقي، ومن عبودية إبليس إلى حرية مجد أولاد الله"ورأيتُ كبحرٍ مِنْ زُجاجٍ مُختَلِطٍ بنارٍ، والغالِبينَ علَى الوَحشِ وصورَتِهِ وعلَى سِمَتِهِ وعَدَدِ اسمِهِ، واقِفينَ علَى البحرِ الزُّجاجي، معهُمْ قيثاراتُ اللهِ، وهُمْ يُرَتلونَ ترنيمَةَ موسَى عَبدِ اللهِ، وترنيمَةَ الخَروفِ قائلينَ: عظيمَةٌ وعَجيبَةٌ هي أعمالُكَ أيُّها الرَّبُّ الإلهُ القادِرُ علَى كُل شَيءٍ! عادِلَةٌ وحَقٌّ هي طُرُقُكَ يا مَلِكَ القِديسينَ! مَنْ لا يَخافُكَ يارَبُّ ويُمَجدُ اسمَكَ؟ لأنَّكَ وحدَكَ قُدّوسٌ، لأنَّ جميعَ الأُمَمِ سيأتونَ ويَسجُدونَ أمامَكَ، لأنَّ أحكامَكَ قد أُظهِرَتْ" (رؤ2:15-4).
(و) آمين... هللويا...
الحرية التي نتمتع بها بالحقيقة في السماء سوف تفك عقدة لساننا، فننطق بالتسبيح قائلين هللويا إنها كلمة تحمل معاني عميقة، فنحن نتهلل لإلهنا وبه، ونحمده ونفرح به من خلالها، لأنه بالحقيقة إلهنا القوي المحب، المنتقم من الأشرار، والرحوم على أبنائه الأحباء "وبَعدَ هذا سمِعتُ صوتًا عظيمًا مِنْ جَمعٍ كثيرٍ في السماءِ قائلاً: هَللويا! الخَلاصُ والمَجدُ والكَرامَةُ والقُدرَةُ للرَّب إلهِنا، لأنَّ أحكامَهُ حَقٌّ وعادِلَةٌ، إذ قد دانَ الزّانيَةَ العظيمَةَ التي أفسَدَتِ الأرضَ بزِناها، وانتَقَمَ لدَمِ عَبيدِهِ مِنْ يَدِها وقالوا ثانيَةً: هَللويا! ودُخانُها يَصعَدُ إلَى أبدِ الآبِدينَ وخَرَّ الأربَعَةُ والعِشرونَ شَيخًا والأربَعَةُ الحَيَواناتِ وسجَدوا للهِ الجالِسِ علَى العَرشِ قائلينَ: آمينَ! هَللويا! وخرجَ مِنَ العَرشِ صوتٌ قائلاً: سبحوا لإلهِنا يا جميعَ عَبيدِهِ، الخائفيهِ، الصغارِ والكِبارِ!. وسَمِعتُ كصوتِ جَمعٍ كثيرٍ، وكصوتِ مياهٍ كثيرَةٍ، وكصوتِ رُعودٍ شَديدَةٍ قائلَةً: هَللويا! فإنَّهُ قد مَلكَ الرَّبُّ الإلهُ القادِرُ علَى كُل شَيءٍ لنَفرَحْ ونَتَهَلَّلْ ونُعطِهِ المَجدَ! لأنَّ عُرسَ الخَروفِ قد جاءَ، وامرأتُهُ هَيّأتْ نَفسَها وأُعطيَتْ أنْ تلبَسَ بَزًّا نَقيًّا بَهيًّا، لأنَّ البَزَّ هو تبَرُّراتُ القِديسينَ" (رؤ1:19-8).
آه.. يا سيدي الرب..
آه.. لو تطرد الشيطان من حياتي،
وتنزع الظُلم من طبعي،
وتعطيني أن أُسبِّحك باستقامة القلب،
دون أي انشغال أو تشويش.
آه.. لو يتفرغ قلبي لخدمة التسبيح فقط!!
هذه هي حياة السماء وجمال تسابيحها أما الأشرار الذين حرموا أنفسهم من تسبيح الله في حياتهم، وكانوا بدلاً من ذلك يغنون بأغاني الشيطان، ونعيم الدنيا وموسيقى الشر، فسيتم فيهم قول الكتاب:"بقَدرِ ما مَجَّدَتْ نَفسَها وتنَعَّمَتْ، بقَدرِ ذلكَ أعطوها عَذابًا وحُزنًا" (رؤ7:18)"وصوتُ الضّارِبينَ بالقيثارَةِ والمُغَنينَ والمُزَمرينَ والنّافِخينَ بالبوقِ، لن يُسمَعَ فيكِ في ما بَعدُ ونورُ سِراجٍ لن يُضيءَ فيكِ في ما بَعدُ وصوتُ عَريسٍ وعَروسٍ لن يُسمَعَ فيكِ في ما بَعدُ لأنَّ تُجّارَكِ كانوا عُظَماءَ الأرضِ إذ بسِحرِكِ ضَلَّتْ جميعُ الأُمَمِ وفيها وُجِدَ دَمُ أنبياءَ وقِديسينَ، وجميعِ مَنْ قُتِلَ علَى الأرضِ" (رؤ22:18-24) طوبى لمَنْ يمتلئ فمه بالتسبيح، ولسانه بالنغم الروحاني، وقلبه بسكنى شخص المسيح حقًا سيكون له نصيب وميراث مع خوارس السماء في هذا التسبيح الأبدي البديع.
(ز) والبشر أيضًا يُسبِّحون..
لذلك نرى في سفر الرؤيا البشر الغالبين يُشاركون أيضًا في هذا التسبيح السمائي الجميل: "بَعدَ هذا نَظَرتُ وإذا جَمعٌ كثيرٌ لم يَستَطِعْ أحَدٌ أنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُل الأُمَمِ والقَبائلِ والشُّعوبِ والألسِنَةِ، واقِفونَ أمامَ العَرشِ وأمامَ الخَروفِ، مُتَسَربِلينَ بثيابٍ بيضٍ وفي أيديهِمْ سعَفُ النَّخلِ، وهُمْ يَصرُخونَ بصوتٍ عظيمٍ قائلينَ: الخَلاصُ لإلهِنا الجالِسِ علَى العَرشِ وللخَروفِ وجميعُ المَلائكَةِ كانوا واقِفينَ حَوْلَ العَرشِ، والشُّيوخِ والحَيَواناتِ الأربَعَةِ، وخَرّوا أمامَ العَرشِ علَى وُجوهِهِمْ وسجَدوا للهِ قائلينَ: آمينَ! البَرَكَةُ والمَجدُ والحِكمَةُ والشُّكرُ والكَرامَةُ والقُدرَةُ والقوَّةُ لإلهِنا إلَى أبدِ الآبِدينَ آمينَ!" (رؤ9:7-12) هؤلاء الغالبون قيل عنهم: "هؤُلاءِ هُمُ الذينَ أتَوْا مِنَ الضيقَةِ العظيمَةِ، وقد غَسَّلوا ثيابَهُمْ وبَيَّضوا ثيابَهُمْ في دَمِ الخَروفِ مِنْ أجلِ ذلكَ هُم أمامَ عَرشِ اللهِ، ويَخدِمونَهُ نهارًا وليلاً في هيكلِهِ، والجالِسُ علَى العَرشِ يَحِلُّ فوقَهُمْ لن يَجوعوا بَعدُ، ولن يَعطَشوا بَعدُ، ولا تقَعُ علَيهِمِ الشَّمسُ ولا شَيءٌ مِنَ الحَر، لأنَّ الخَروفَ الذي في وسطِ العَرشِ يَرعاهُمْ، ويَقتادُهُمْ إلَى يَنابيعِ ماءٍ حَيَّةٍ، ويَمسَحُ اللهُ كُلَّ دَمعَةٍ مِنْ عُيونِهِمْ " (رؤ14:7-17) طوبى لهؤلاء الغالبين لأنهم يقفون أمام عرش الله ويخدمونه بالتسبيح في هيكله المقدس نهارًا وليلاً أعطني يا مخلصي القدوس أن يكون لي نصيب في هذا الخورس السمائي، ولا تحرمني من نعمة التسبيح هنا في الكنيسة وهناك في الأبدية.
لي اشتهاء..
إن قلبي الآن يقفز فرحًا واشتياقًا أن يُشارك هذا الخورس السمائي العظيم حقًا قال مُعلمنا بولس الرسول: "ليَ اشتِهاءٌ أنْ أنطَلِقَ وأكونَ مع المَسيحِ، ذاكَ أفضَلُ جِدًّا" (في23:1).
"آمينَ. تعالَ أيُّها الرَّبُّ يَسوعُ" (رؤ20:22).
تعالَ ياربي يسوع،
لنتمتع بهذه الليتورجيا السمائية الملائكية،
التي لا يشوبها شائبة،
ولا يُعطلها شيء،
ومُحاطة بكل جمال وكمال سماوي.
ليس فقط جمال التسبيح،
ولكن أيضًا جمال الشركة ورائحة البخور.
"وجاءَ مَلاكٌ آخَرُ ووَقَفَ عِندَ المَذبَحِ، ومَعَهُ مِبخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وأُعطيَ بَخورًا كثيرًا لكَيْ يُقَدمَهُ مع صَلَواتِ القِديسينَ جميعِهِمْ علَى مَذبَحِ الذَّهَبِ الذي أمامَ العَرشِ فصَعِدَ دُخانُ البَخورِ مع صَلَواتِ القِديسينَ مِنْ يَدِ المَلاكِ أمامَ اللهِ" (رؤ3:8-4).
يا سيدي القدوس..
ليت صلواتي تكون رائحة بخور قدامك،
ولتكن حياتي بك مجمرة من ذهب،
وبخور عطر يملأ البيت (الكنيسة)
من رائحة طيب حبك.
لقد تمتعنا الآن بسياحة بطول الكتاب المقدس وعرضه، لنكتشف مفردات كنز التسبيح به، تاريخًا ونصوصًا وروحانية الآن دعونا نتأمل في بعض نماذج من تسابيح القديسين في الكتاب المقدس، ولنبدأ بتسبحة القديسة العذراء مريم أم الله.
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
07 يوليو 2018
آباؤنا الرسل وخدمة التسبيح
بعد قيامة رب المجد يسوع استمر الآباء الرسل في الذهاب إلى الهيكل للصلاة ويذكر سفر الأعمال مواظبة الآباء الرسل على صلوات السواعي بالهيكل ومع أن الذبائح الدموية (انتهت فاعليتها) لأنها كانت مجرد رمز للفداء وبطلت بالصليب لكنهم كانوا يجتمعون في الهيكل وخاصة في رواق سليمان:"تراكَضَ إليهِمْ جميعُ الشَّعبِ إلَى الرواقِ الذي يُقالُ لهُ "رِواقُ سُلَيمانَ" وهُم مُندَهِشونَ" (أع11:3) "وكانَ الجميعُ بنَفسٍ واحِدَةٍ في رِوَاقِ سُلَيمَانَ" (أع12:5) وهو نفس المكان الذي كان يتواجد فيه الرب يسوع "وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمشَّى في الهَيكَل في رِوَاقِ سُلَيمَانَ" (يو23:10) ماذا كانوا يفعلون في رِوَاقِ سُلَيمَانَ؟ بكل تأكيد كانوا يواظبون على الصلاة والتسبيح والمزامير"وكانوا كُلَّ حينٍ في الهيكلِ يُسَبحونَ ويُبارِكونَ اللهَ" (لو53:24)، وكان حضورهم أيضًا مرتبطًا بمواعيد الصلاة في الهيكل فمثلاً قيل: "وصَعِدَ بُطرُسُ ويوحَنا مَعًا إلَى الهيكلِ في ساعَةِ الصَّلاةِ التّاسِعَةِ" (أع1:3)، وقد ورد أيضًا ذكر الساعة الثالثة في (أع15:2)، والساعة السادسة "صَعِدَ بُطرُسُ علَى السَّطحِ ليُصَليَ نَحوَ السّاعَةِ السّادِسَةِ" (أع9:10)، والساعة التاسعة في (أع3:10) وقد قيل عن كل جماعة المؤمنين: "وكانوا كُلَّ يومٍ يواظِبونَ في الهيكلِ بنَفسٍ واحِدَةٍ" (أع46:2)،"وكانوا لا يَزالونَ كُلَّ يومٍ في الهيكلِ وفي البُيوتِ مُعَلمينَ ومُبَشرينَ بيَسوعَ المَسيحِ" (أع42:5)، وكان هذا كله متوافقًا مع المزمور القائل: "مساءً وصباحًا وظُهرًا أشكو وأنوحُ، فيَسمَعُ صوتي" (مز17:55) ما أجمل هذه الروح النُسكية العميقة التي كان يعيش بها آباؤنا الرسل مع الجيل الأول المسيحي "هؤُلاءِ كُلُّهُمْ كانوا يواظِبونَ بنَفسٍ واحِدَةٍ علَى الصَّلاةِ والطلبَةِ، مع النساءِ، ومَريَمَ أُم يَسوعَ، ومع إخوَتِهِ" (أع14:1)، "ولَمّا حَضَرَ يومُ الخَمسينَ كانَ الجميعُ مَعًا بنَفسٍ واحِدَةٍ" (أع1:2)، "وكانوا يواظِبونَ علَى تعليمِ الرُّسُلِ، والشَّرِكَةِ، وكسرِ الخُبزِ، والصَّلَواتِ" (أع42:2)، "مُسَبحينَ اللهَ، ولهُمْ نِعمَةٌ لَدَى جميعِ الشَّعبِ" (أع47:2) كانت حياتهم كلها تسبيح وصلاة وشكر حتى في أقسى الظروف، وكانت تسابيحهم إقتباسات من المزامير "فلَمّا سمِعوا، رَفَعوا بنَفسٍ واحِدَةٍ صوتًا إلَى اللهِ وقالوا: أيُّها السَّيدُ، أنتَ هو الإلهُ الصّانِعُ السماءَ والأرضَ والبحرَ وكُلَّ ما فيها" (أع24:4)، "ولَمّا صَلَّوْا تزَعزَعَ المَكانُ الذي كانوا مُجتَمِعينَ فيهِ، وامتَلأَ الجميعُ مِنَ الرّوحِ القُدُسِ، وكانوا يتكلَّمونَ بكلامِ اللهِ بمُجاهَرَةٍ" (أع31:4)، وعندما كان بطرس في السجن صلّت الكنيسة بلجاجة من أجله (أع5:12)، وكذلك كان بولس وسيلا في السجن "ونَحوَ نِصفِ اللَّيلِ كانَ بولُسُ وسيلا يُصَليانِ ويُسَبحانِ اللهَ، والمَسجونونَ يَسمَعونَهُما" (أع25:16) كانت معظم هذه التسابيح تُقام في هيكل أورشليم، ثم يُقيمون الإفخارستيا في البيوت، بدلاً – طبعًا – من الإشتراك في الذبائح الدموية بالهيكل، حيث حَلْ هنا المرموز إليه بدلاً من الرمز "وفي أوَّلِ الأُسبوعِ إذ كانَ التلاميذُ مُجتَمِعينَ ليَكسِروا خُبزًا، خاطَبَهُمْ بولُسُ وهو مُزمِعٌ أنْ يَمضيَ في الغَدِ، وأطالَ الكلامَ إلَى نِصفِ اللَّيلِ" (أع7:20)ومع انتشار الآباء الرسل في العالم ليكرزوا بإنجيل المسيح، حملوا معهم هذا الكنز العظيم الذي للتسبيح حتى تتعلّم كل الشعوب تسبيح الله وتمجيده.
(1) استمرار التسبيح في الكنيسة المسيحية:-
التسبيح في الكنيسة هو أعظم كنز ورثته المسيحية عن العبادة بهيكل أورشليم، حتى أنه كانت هناك وصية أساسية يُقدمها الرسل لأبنائهم المؤمنين أن يُسبحوا بالمزامير والتسابيح والأغاني الروحية "مُكلمينَ بَعضُكُمْ بَعضًا بمَزاميرَ وتسابيحَ وأغانيَّ روحيَّةٍ، مُتَرَنمينَ ومُرَتلينَ في قُلوبِكُمْ للرَّب شاكِرينَ كُلَّ حينٍ علَى كُل شَيءٍ في اسمِ رَبنا يَسوعَ المَسيحِ، للهِ والآبِ" (أف19:5-20) "لتَسكُنْ فيكُم كلِمَةُ المَسيحِ بغِنًى، وأنتُمْ بكُل حِكمَةٍ مُعَلمونَ ومنذِرونَ بَعضُكُمْ بَعضًا، بمَزاميرَ وتسابيحَ وأغانيَّ روحيَّةٍ، بنِعمَةٍ، مُتَرَنمينَ في قُلوبِكُمْ للرَّب" (كو16:3) كانت المزامير هي المادة الأساسية للصلاة في كل الاجتماعات الليتورجية في الكنيسة الأولى "فما هو إذًا أيُّها الإخوَةُ؟ مَتَى اجتَمَعتُمْ فكُلُّ واحِدٍ مِنكُمْ لهُ مَزمورٌ" (1كو26:14)، وكانت أيضًا المزامير هي وسيلة العزاء في الضيقات، وأيضًا وسيلة التعبير عن الفرح في أوقات الفرج " أعلَى أحَدٍ بَينَكُمْ مَشَقّاتٌ؟ فليُصَل أمَسرورٌ أحَدٌ؟ فليُرَتلْ" (يع13:5).
+ تسبحة جديدة..
ومع أن التسبيح في الكنيسة المسيحية هو استمرار للتسبيح بالمزامير في العهد القديم إلا أن هذا التسبيح كان قد اكتسب روحًا جديدة بسبب التجسد والخلاص وهذا ما تنبأت عنه المزامير نفسها:"غَنّوا لهُ أُغنيَةً جديدَةً أحسِنوا العَزفَ بهُتافٍ" (مز3:33) "رَنموا للرَّب ترنيمَةً جديدَةً رَنمي للرَّب يا كُلَّ الأرضِ" (مز1:96) إنها دعوة لكل الأرض، وليس لليهود فقط الأمر الذي تحقق بدخول الأمم إلى الإيمان، فصار لهم نصيب في تسبيح الرب"غَنّوا للرَّب أُغنيَةً جديدَةً، تسبيحَهُ مِنْ أقصَى الأرضِ أيُّها المُنحَدِرونَ في البحرِ ومِلؤُهُ والجَزائرُ وسُكّانُها" (إش10:42) "رَنموا للرَّب ترنيمَةً جديدَةً، لأنَّهُ صَنَعَ عَجائب خَلَّصَتهُ يَمينُهُ وذِراعُ قُدسِهِ" (مز1:98)إن الخلاص هو الباعث الأول للتسبيح تسبحة جديدة في الكنيسة "وجَعَلَ في فمي ترنيمَةً جديدَةً، تسبيحَةً لإلهِنا كثيرونَ يَرَوْنَ ويَخافونَ ويتوَكَّلونَ علَى الرَّب" (مز3:40) "يا اللهُ، أُرَنمُ لكَ ترنيمَةً جديدَةً برَبابٍ ذاتِ عشَرَةِ أوتارٍ أُرَنمُ لكَ" (مز9:144) "هَللويا غَنّوا للرَّب ترنيمَةً جديدَةً، تسبيحَتَهُ في جَماعَةِ الأتقياءِ" (مز1:149) طوبى لنا نحن الشعب المسيحي لأننا تذوقنا خلاص الله، وصار لنا فرح وابتهاج بخلاصه، وأُعطينا الحق أن نُسبِّح الله من أجل خلاصه العجيب، وتحققت فينا نبؤة المزمور: "وأنتَ القُدّوسُ الجالِسُ بَينَ تسبيحاتِ إسرائيلَ" (مز3:22) ولا يقتصر التسبيح على فترة وجودنا هنا على الأرض، ولكن الدارس لسفر الرؤيا سيكتشف لسعادته وجود تسبيح دائم لا ينقطع بالسماء بل يمكننا أن نعتبر أن تسبيحنا هنا على الأرض ما هو إلا تدريب على حياة التسبيح الدائم والحقيقي في السماء.
(2) التسبيح في السماء (كما ورد في سفر الرؤيا):-
إن ما يُميز حياة السماء هو التسبيح الدائم، والفرح غير المنقطع، وهذا ما يُعلنه سفر الرؤيا حيث يصف ليتورجيا السماء وصفًا دقيقًا يشمل صفوف وأنواع السمائيين، وملابسهم، وطريقة سجودهم، أو جلوسهم، والتسابيح التي يتلونها، والبخور المتصاعد من مجامرهم.
(أ) مجد السماء:-
تعالَ معي – صديقي القارئ – لنرى مجد السماء، وجمال التسبيح السماوي كما رآه يوحنا اللاهوتي الحبيب:"وللوقتِ صِرتُ في الرّوحِ، وإذا عَرشٌ مَوْضوعٌ في السماءِ، وعلَى العَرشِ جالِسٌ وحَوْلَ العَرشِ أربَعَةٌ وعِشرونَ عَرشًا ورأيتُ علَى العُروشِ أربَعَةً وعِشرينَ شَيخًا جالِسينَ مُتَسَربِلينَ بثيابٍ بيضٍ، وعلَى رؤوسِهِمْ أكاليلُ مِنْ ذَهَبٍ وفي وسطِ العَرشِ وحَوْلَ العَرشِ أربَعَةُ حَيَواناتٍ مَملوَّةٌ عُيونًا مِنْ قُدّامٍ ومِنْ وراءٍ لكُل واحِدٍ مِنها سِتَّةُ أجنِحَةٍ حَوْلها، ومِنْ داخِلٍ مَملوَّةٌ عُيونًا، ولا تزالُ نهارًا وليلاً قائلَةً: "قُدّوسٌ، قُدّوسٌ، قُدّوسٌ، الرَّبُّ الإلهُ القادِرُ علَى كُل شَيءٍ، الذي كانَ والكائنُ والذي يأتي" وحينَما تُعطي الحَيَواناتُ مَجدًا وكرامَةً وشُكرًا للجالِسِ علَى العَرشِ، الحَي إلَى أبدِ الآبِدينَ، يَخِرُّ الأربَعَةُ والعِشرونَ شَيخًا قُدّامَ الجالِسِ علَى العَرشِ، ويَسجُدونَ للحَي إلَى أبدِ الآبِدينَ، ويَطرَحونَ أكاليلهُمْ أمامَ العَرشِ قائلينَ: أنتَ مُستَحِقٌّ أيُّها الرَّبُّ أنْ تأخُذَ المَجدَ والكَرامَةَ والقُدرَةَ، لأنَّكَ أنتَ خَلَقتَ كُلَّ الأشياءِ، وهي بإرادَتِكَ كائنَةٌ وخُلِقَتْ" (رؤ2:4-11) ما أجمل هذا المنظر السمائي البهي الذي يشترك فيه الأربعة والعشرون شيخًا مع الأربعة الحيوانات غير المتجسدة في تسبيح الجالس على العرش بالثلاثة تقديسات.
(ب) العريس السمائي:-
إن أبهى ما في السماء هو الجالس على العرش في الوسط إنه ربنا يسوع المسيح الذي يجب له التسبيح إن مجرد وجوده وظهوره وحضوره هو تسبيح وفرح لا ينقطع، ومجد وكرامة لا يُعبَّر عنها، وهذا ما جعل هذه الطغمات السمائية تلهج بالتسبيح بهذه الطريقة السمائية البديعة إن النفس التي تنفتح على رؤية المسيح لابد أن ينطق لسانها وقلبها بالتسبيح ولأن المسيح حاضر دائمًا في كنيسته، ومُستعلن بكل بهائه (عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن بمجد أبيه والروح القدس) لذلك تحيا الكنيسة على الأرض في حياة التسبيح الدائم "أُخَبرُ باسمِكَ إخوَتي، وفي وسطِ الكَنيسَةِ أُسَبحُكَ" (عب12:2)، "فلنُقَدمْ بهِ في كُل حينٍ للهِ ذَبيحَةَ التَّسبيحِ، أيْ ثَمَرَ شِفاهٍ مُعتَرِفَةٍ باسمِهِ" (عب15:13).
(ج) ترنيمة جديدة:-
تعالَ معي ننتقل إلى منظر آخر سمائي يصف جمال التسبيح:" ورأيتُ فإذا في وسطِ العَرشِ والحَيَواناتِ الأربَعَةِ وفي وسطِ الشُّيوخِ خَروفٌ قائمٌ كأنَّهُ مَذبوحٌ ولَمّا أخَذَ السفرَ خَرَّتِ الأربَعَةُ الحَيَواناتُ والأربَعَةُ والعِشرونَ شَيخًا أمامَ الخَروفِ، ولهُمْ كُل واحِدٍ قيثاراتٌ وجاماتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَملوَّةٌ بَخورًا هي صَلَواتُ القِديسينَ وهُمْ يترَنَّمونَ ترنيمَةً جديدَةً قائلينَ: "مُستَحِقٌّ أنتَ أنْ تأخُذَ السفرَ وتفتَحَ خُتومَهُ، لأنَّكَ ذُبِحتَ واشتَرَيتَنا للهِ بدَمِكَ مِنْ كُل قَبيلَةٍ ولسانٍ وشَعبٍ وأُمَّةٍ، وجَعَلتَنا لإلهِنا مُلوكًا وكهنةً، فسَنَملِكُ علَى الأرضِ" ونَظَرتُ وسمِعتُ صوتَ مَلائكَةٍ كثيرينَ حَوْلَ العَرشِ والحَيَواناتِ والشُّيوخِ، وكانَ عَدَدُهُمْ رَبَواتِ رَبَواتٍ وأُلوفَ أُلوفٍ، قائلينَ بصوتٍ عظيمٍ: "مُستَحِقٌّ هو الخَروُفُ المَذبوحُ أنْ يأخُذَ القُدرَةَ والغِنَى والحِكمَةَ والقوَّةَ والكَرامَةَ والمَجدَ والبَرَكَةَ!" وكُلُّ خَليقَةٍ مِمّا في السماءِ وعلَى الأرضِ وتحتَ الأرضِ، وما علَى البحرِ، كُلُّ ما فيها، سمِعتُها قائلَةً: "للجالِسِ علَى العَرشِ وللخَروفِ البَرَكَةُ والكَرامَةُ والمَجدُ والسُّلطانُ إلَى أبدِ الآبِدينَ" وكانَتِ الحَيَواناتُ الأربَعَةُ تقولُ: "آمينَ" والشُّيوخُ الأربَعَةُ والعِشرونَ خَرّوا وسجَدوا للحَي إلَى أبدِ الآبِدينَ" (رؤ6:5-14) ما أجمل هذا المنظر السمائي البديع إنه سجود وقيثارات وبخور وترنيم، ثم خوارس تتبادل التسبيح، ومخلوقات سمائية تردد "آمين"والعجيب هنا أن الطغمات الملائكية يقولون للابن الوحيد: "لأنَّكَ ذُبِحتَ واشتَرَيتَنا للهِ بدَمِكَ" (رؤ9:5) ومعروف طبعًا أن الابن اشترانا – نحن البشر – بدمه ولم يشترِ الملائكة فلماذا إذًا يقولون له هذا التعبير؟إنهم حقًا "يُسبِّحون تسبحة الغلبة والخلاص الذي لنا" بحسب تعبير القديس "غريغوريوس اللاهوتي" في القداس الإلهي. فكما نشاركهم في تسبيحهم قائلين: "قُدّوسٌ قُدّوسٌ قُدّوسٌ" يُشاركونا هم أيضًا في تسبيحنا قائلين: "ذُبِحتَ واشتَرَيتَنا" ما أجمل شركة التسبيح!! إنها تُدخلنا في علاقة حب واتحاد مع السمائيين
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد