المقالات

26 مايو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شمجر بن عناة

شمجر بن عناة وكان بعده شمجر بن عناة فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر "قض 3: 31 مقدمة هل سمعت أو قرأت عن المشاجرة الخيالية الطريفة بين أصابع اليد الواحدة، والتي تخيلها أحد الكتاب وتقول، إنها بدأت بالإبهام، عندما ادعى أنه الأعظم، وأن الله لهذا السبب خلقه منفصلاً عن بقية الأصابع، حتى لا تجسر على الاقتراب منه، إذ هو السيد، وهي العبيد؟؟ وثارت السبابة على هذا المنطق، وقالت: لو أن الرآسة بالحجم لتسلط الثور أو الفيل على ابن آدم، إنما الرآسة بمن له القدرة على الأمر والنهي،.. والناس عندما تأمر أو تنهي، تجدني أنا في مواجهة الغير، أنا الآمر الناهي بين الناس، أنا الرئيس، وضحكت الإصبع الوسطى وهي تقول: إن السيادة متوفرة لي، فأنا أطول الكل، والكل إلى جواري أقزام،.. وصاحت البنصر، ولوحت بالخاتم الذهبي فيها التي تعود الناس أن يضعوها في اليد اليسرى، وقالت: إنه لا يضعون خاتم الزواج إلا فيَّ!!.. وقالت الخنصر مهلاً أيها الصحاب، فقد أكون أصغر الكل، لكنني كما تلاحظون أحمل الجميع فوقي!!.. ربما كانت الخنصر أقرب الجميع إلى الصدق والصواب،.. لكن العبرة الحقيقية ليست في واحدة من الأصابع، بل في صاحب اليد الذي يحملها ويحمل أصابعها معاً!!.. كان شمجر بن عناة واحداً من أكثر المغمورين في الكتاب، لكن هذا الرجل المغمور المجهول، استخدمه الله كالأصبع الصغير في إنقاذ شعبه، والله على استعداد أن يستخدم أضعف الناس أو أقلهم حظاً من ظروف الحياة، حتى ولو لم يملك من الأسلحة في يده إلا منساس البقر، أو ذلك المنخص الذي يخز به الحيوان عندما يتوقف عن السير ويرفض التقدم بعناء!!.. إنها قصة إنسان تبعث الرجاء في أضعف الناس عندما يدفعهم الله إلى الأمام،.. ولو لم يكن يزيد في حياته العادية عن راعٍ من رعاة الأبقار. هلم معاً نر قصة شمجر بن عناة، ولماذا اختارته العناية ليكون من أوائل القضاة في إسرائيل: شمجر راعي البقر ليس هناك ما يخلب لب الصغار أو الشباب، قدر رؤياهم على الشاشة أو في صفحات الكتب رعاة الأبقار الأمريكيين، ولا أنسى صبياً صغيراً طريفاً التقيت به ذات يوم، وهو يلبس زيهم، بالحزام العريض، وإذ سألته ماذا تود أن تكون في الحياة؟، وظننت أنه سيختار مهنة من مهن الناس التي يراها حوله، كأن يكون طبيباً أو مهندساً أو صانعاً أو تاجراً، وجاء في الجواب: أريد أن أكون واحداً من رعاة الأبقار.. إنه يريد أن يمتطي صهوة جواد يسابق الريح، ويصعد به فوق الجبال أو السهوب، ويدفع أمامه الأبقار إلى المراعي، وهو يدخل في عراك مع من يعتدي عليها أو عليه، وهو لا يبالي بالجروح التي تصيبه أو تأتيه من الآخرين، إنه يريد أن يكون ابن الطبيعة الطليق وهو لا يرغب في قيود الحضارة أو المتحضرين!!.. إنه مفتون بما أطلق عليه توماس كارليل "عبادة البطولة" أو تمجيد البطولة كما يقول علماء النفس، أو هو ذلك النوع من الحياة الذي يضيق بالمنطق القائل نأكل ونشرب لأننا غداً نموت، أو نقضي أيامنا بهدوء وسكينة، حتى يطوح بنا من بعدنا في حفرة يسوونها بالتراب، لأننا تراب وإلى تراب نعود،.. كان شمجر بن عناة راعياً من رعاة الأبقار، ظهر منذ آلاف السنين، قبل رعاة الأبقار الأمريكية، وكان لا يملك عندما داهمه في مزرعته وبين أبقاره ستمائة من الغزاة، وتلفت حوله، فلم يجد سلاحاً يواجههم به، ولم يجد بين يديه سوى منساس البقر، فأمسك به، وأبى أن يتراجع وقتل ستمائة بمنساس البقر، ويبدو أنه كان يملك في ذاته وداخله شيئاً أعظم وأكمل بما لا يقاس من هذا المنساس. شمجر والإيمان الخارق في أعماق كل واحد منا كمؤمنين قوة خارقة، لو نملك الإفصاح عنها تصبح آية للعالمين هل قرأت عن ذلك الرجل الذي وجد فرخاً صغيراً من أفراخ النسر فحمله إلى بيته، ووضعه بين أفراخ الدجاج، وأطعمه من طعامها، وكان ينظر إلى الفراخ، والفراخ تنظر إليه، كان وضعه غريباً في وسطها، وكان وضعها معه لا يقل غرابة، وابتدأ ينمو في حجمه، وابتدأ جناحاه يطولان، على أنه لم يلبث أن أصابه الضمور، وقلت حركته، فأخذه صاحبه إلى أعلى البيت وتركه على السطوح، ولكنه لم يلبث أن عاد من هناك إلى وسط الفراخ،.. ماذا يفعل معه الرجل؟، أخذه ذات صباح، إلى جبل عال، وأعطى وجهه للشمس وظهر النور العظيم، وهب النسيم، وإذا بشيء عجيب لا يدري النسر كنهه، فقد رفع عينيه نحو السماء، ومد جناحيه في الفضاء وارتعش بكامله، وصعد إلى أسمى علو، وعندئذ أدرك أنه لم يخلق للأرض، ولكنه خلق للسماء!! هذا هو شمجر بن عناة، وهذا هو أنا وأنت حينما ندرك الحقيقة التي تغيب عن حياتنا سنوات طويلة، نعيش فيها أسرى الهزيمة، والضياع، واليأس كفرخ النسر في عشش الدجاج، كان شمجر بن عناة يعلم أن أمة ولدت إبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف وموسى ويشوع أمة أبطال، لم يكن لهم من قوة في ذاتهم ولكنهم استمدوا قوتهم من الله القادر على كل شيء.. وما من شك بأن شمجر بن عناة كان يسأل نفسه على الدوام لماذا نعيش في ظل الطغيان والضيق والهزيمة واليأس والله لم يتغير، وآباؤنا كشفوا عن أعظم الانتصارات التي جاءتهم من الاستناد إلى الله،.. وقد أدرك الرجل بأنه ليس في حاجة إلا إلى الإيمان،.. وليس الإيمان ببعيد عنه أو من أي إنسان يرغب في الاتصال بالله،.. إن الإيمان لا يزيد عن تغيير حالة قلب، وارتقاء بالنفس لتفرد جناحيها بلا حدود أو قيود في سماء الله،.. وليس الإيمان إلا أن ينتظر الله: "ومنتظرو الرب يجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور".. وما الذي يمنعه من الأجنحة المرتفعة!!.. لم يطلب الله من الإنسان شروطاً معينة حتى تكون له هذه الأجنحة. فهي للعالم ولمحدود العلم، وهي للفقير وللغني، وهي للصغير وللكبير، وهي للرجل والمرأة، وهي لمن يقف في أول الصف، أو من يكون في الصف الأخير!!.. وإذا كان شمجر بن عناة قد أدرك هذه الحقيقة في عودته إلى التاريخ القديم، فلعلنا أكثر قدرة منه نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، وما أكثر ما يحفل التاريخ المقدس بآلاف الأبطال الذين جاءوا من الصف الأخير ليأخذوا الصف الأول، ولم يكن لهم ما يميزهم سوى الإيمان بالله!!.. ألم يكن غلاماً صغيراً ذاك الذي لم يدع إلى المعركة بل ذهب إليها ليرى إخوته الكبار؟؟ أو في لغة أخرى لم يكن حتى في الصف الأخير، بل كان خلف الصفوف جميعاً، ومع ذلك برز لا يضحى في الصف الأول مع الملك، وقائد الجيش، بل ليبرز الجميع، ويصبح هو وحده بطل المعركة، وذلك لأنه كان يملك إيماناً أكثر من الجميع.. ألم تكن "جان دارك" الفتاة الفلاحة الفرنسية في الثامنة عشرة من عمرها، عندما قادت الجيش الفرنسي المهزوم، لتحول الهزيمة إلى نصر، وتتوج الملك، وهي لا تعرف شيئاً عن فنون الحرب، وتعرف كل شيء عن قدرة الإيمان في حياة أبسط الناس على الأرض؟؟ أمن فقط، قد يكون هو النداء الأول والأخير لأبسط إنسان على الأرض ليتحول مثل راعي البقر القديم ليصنع المعجزات!!.. شمجر والغضب المقدس تقول دبور في أغنيتها العظيمة: "في أيام شمجر بن عناة في أيام ياعيل استراحت الطرق، وعابرو السبيل ساروا في مسالك معوجة".. وهي تعطي الصورة التي تلت عصر يشوع، والتي عاث الفساد فيها في البلاد، وضاع الأمن، وانقلبت الأوضاع حتى أضحى المسافرون لا يجرؤون على السير في الطرق التي امتلأت باللصوص، إلى الدرجة أن عابري السبيل كانوا يبحثون عن المسالك الجانبية المعوجة، لعلهم يفلتون من قطاع الطرق، كان النهب هو الشائع، والأمان هو الاستثناء، وكان السر واضحاً في ذلك أن الشعب ترك إلهه، فتركه إلهه للفزع والرعب والضياع، وكان راعي الأبقار ينظر إلى الأوضاع فيلتهب قلبه بالثورة المكبوتة، إنه يعلم أن سر البلوى هو انصراف الناس عن الإله العظيم الذي أخرجهم من مصر وأعطاهم الأرض، ومع ذلك رفضوه واختاروا: "آلهة حديثة حينئذ حرب الأبواب".. وستبقى الحرب دائماً على الأبواب، عندما نقفل الباب في وجه إلهنا، ورأى شمجر الظلم والطغيان والنهب، في الحقول الضائعة، والجموع الجائعة، والشعب المستعبد المسكين،.. وامتلأ الرجل بالغضب المقدس،. هناك نوعان من الغضب يختلفان تمام الاختلاف، ويتباينان تمام التباين،.. هناك الغضب الآثم الذي يصنع بر الله، كغضب نبوخذنصر عندما امتلأ غيظاً وتغير منظر وجهه على شدرخ وميشخ وعبد نغو، وأمر بأن يحمي الأتون سبعة أضعاف أكثر مما كان معتاداً أن يحمي، وذلك لأن هؤلاء تعمدوا ألا يعبدوا آلهته أو يسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه،.. ومثل هذا الغضب أناني حقود قاس مستبد متغطرس يكرهه الله كل الكراهية، ويعاقب -إن آجلاً أو عاجلاً- صاحبه والداعي إليه،.. لكن هناك نوعاً من الغضب الآخر، كغضب فنيحاس الذي طعن الزاني والزانية، ودان القباحة المتسهترة التي تفعل الشر في المكان المقدس، وهناك غضب موسى عندما رأى العجل الذي عبدوه الإسرائيليون، وطحنه وسحقه وذراه على وجه المياه، وهناك غضب المسيح عندما حمل سوطه وطرد من حولوا بيت الله إلى مغارة لصوص،.. رؤى أحد رجال الله، وهو يتميز غيظاً وغضباً في الطريق، لأنه رأى لونا ًمن ألوان الظلم لا يستطيع أن يسكت عليه ويهادنه، ورؤى آخر يمسك فرشاته، ويحمل سلماً، إلى مكان كتبت فيه كلمات قبيحة، لابد له أن يمحوها محواً، لأنها آذت عينيه، ويمكن أن تفسد حياة الكثيرون من الشباب الذين يقرأونها كان شمجر بن عناة يملك هذا النوع من الغضب المقدس!!.. شمجر والدفاع المشروع إن المدقق في قراءة قصة شمجر بن عناة، يرى أن شمجر لم يكن مهاجماً، إذ لا يتصور قط أن رجلاً يحمل معه منساس البقر ليأخذه سلاحاً يهاجم به ستمائة رجل من الأعداء الأشداء المسلحين، بل المتصور أن الرجل كان في حقله أو كان يرعى أبقاره في مكان ما، وتعرض له الغزاة على أسلوب وحشي مثير،.. فهل كان له أن يهرب، ويترك أرضه، أو أبقاره، ويعتبر النجاة نوعاً من الفوز، يغبطه عليه أهله وصحبه عند عودته إلى البيت؟؟ لا أعتقد أن الرجل أصيب بحالة من الجنون، كذلك الجندي الذي دخل في وسط الأعداء وأخذ يمعن تقتيلاً، وعندما نظره معسكره على هذه الحال، ورجع إليهم، قالوا له ماذا فعلت وكيف جرؤت على الدخول في وسط الأعداء على هذه الصورة؟.. أجاب: لست أعلم، لأني وجدت نفسي في حالة من الجنون لا أدريها، هي التي فعلت كل هذا،.. لا أظن أن شمجر بن عناة كان له هذا النوع من الجنون، إنما أعلم أن الرجل أدرك ما قاله كرومويل فيما بعد، عندما سألته أمه: ألا يحسب حساب المعارك التي يدخلها.. أجاب: يا أمي توجد لحظات في الحياة لا يستطيع الإنسان فيها أن يقيم أي وزن لما يمكن أن يحدث،.. أليس هذا ما وصل إليه الثلاثة فتية الذين رحبوا بالنار سواء خرجوا منها أحياء أو لم يخرجوا، وهذا نسمعه من جوابهم الحاسم للملك القديم!: "يا نبوخذنصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من آتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك أننا لا نعبد آلتهك، ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته".. لو أن حادث شمجر مع الغزاة كان حادثاً شخصياً لا يتكرر، لربما أمكن التصرف فيها بصورة مخالفة،.. لكن هذا الاعتداء كان أكثر من اعتداء شخصي إذ هو اعتداء على أمة وشعب، وأكثر من ذلك هو تحد وإهانة واستهتار باله هذا العشب، والعقيدة الدينية التي يتمسك بها، هو صراع بين تابوت الله وداجون، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة،.. وأدرك شمجر بن عناة أنه أفضل له أن يعود إلى بيته حياً أو ميتاً من أن يسلم للظلم والفساد والشر أن يفعله فعله!!.. إن السؤال عن الدفاع المشروع، ما يزال من أهم الأسئلة التي تطرح على الذهن البشري -ما هي فلسفته ووسائله وحدوده؟!! وباديء ذي بدء نحن لا نعرف جماعة إنسانية ترفض في الأرض كلها فكرة الدفاع المشروع، إلا طائفة الكويرز أو الأصحاب، وهذه الطائفة لا تقبل العنف بأي صورة، وقد حدث أن سيدة من "الأصحاب" دخلت ذات يوم إلى بيتها، فرأت لصاً يعبث بأموالها ومجوهراتها، ولما رآها وجه غدارته نحوها، فقالت له: لا تفزع ولا داعي لأن توجه غدارتك إلى، إن عندي الكثير، وخذ ما تريد، وأنت قبل وبعد الكل إنسان وأخ لي،.. وأسقط في يد الرجل،.. وقال لها: يا سيدتي لقد قاومني الناس كثيراً، وحولوا بهذه المقاومة مني مجرماً عتيداً، ولم أسمع لغة كهذه قط من بين الناس، ولم أسمع أن واحداً دعاني أخاً، بل أنا في نظرهم مجرم حثالة الناس، لن آخذ شيئاً منك يا سيدتي،.. وخرج، ولعله خرج إنساناً آخر.. هذه هي فلسفة الأصحاب، إنهم يرفضون مقاومة الشر استناداً إلى قول المسيح: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين"، على أن المسيح -فيما أعتقد- لم يكن يقصد المعنى الحرفي بالدليل أنه لم يطبقه هو، وقال للخادم الذي لطمه أمام رئيس الكهنة: "إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي وإن حسناً فلماذا تضربني".. كما أن بولس فسر المقاومة المقصودة هنا مقاومة الشر بالشر إذ قال: لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل اعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. على أن بولس نفسه، وهو خير مفسر للمسيح ولكلامه، لم يفسر الأمر بالتخلي عن الحق المشروع للإنسان الذي يمكنه أن يتمسك به في لحظات الدفاع عن النفس، فعندما اعتدى عليه دون حق في فيلبي، وأرسل الولاة الجلادين إلى حافظ السجن ليطلقه وسيلا أجاب: "ضربونا جهراً غير مقضي علينا ونحن رجلان رومانيان وألقونا في السجن أما الآن يطردوننا سراً كلا بل ليتأتوا هم أنفسهم ويخرجونا".. ولم يكن له لطف المسيح عندما أمر حنانيا رئيس الكهنة أن يضربوه على فمه: "حينئذ قال له بولس سيضربك الله أيها الحائط المبيض أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس وأنت تأمر بضربي مخالفاً الناموس".. إن فلسفة الدفاع المشروع تدور وجوداً وعدماً حول كسب المعتدي، والوصول إلى السلام، ورفعه إلى مستوى العدالة والحق الإلهي،.. وفي سبيل ذلك يمكن التخلي عن الحق الشخصي، في سبيل غرض أعلى وأسمى، على أن هذا لا يعني بحال ما طرح جميع الوسائل الأخرى التي قد تكون في إمكانية الإنسان، كالحق الذي كان لبولس بصفته مواطناً رومانياً يحق له التمسك بتطبيق القوانين الرومانية العادلة، إذا ما شط المعتدي، وحاول أن يتجاوز هذه القوانين والحقوق!!.. على أن الالتجاء إلى القضاء ليس مطلقاً، فقد يكون الأفضل مرات متعددة معالجة الأمور بعيداً عن هذا السبيل، ولا سيما إذا كان المتنازعون من الإخوة أو المؤمنين، وقد عاب الرسول على الكورنثيين الالتجاء إلى المحاكم الخارجية، وطلب دعوى التحكيم الكنسي دون هذه المحاكم: "أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين وليس عند القديسين ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم. فإن كل العالم يدان بكم فأنتم غير مستأهلين للمحاكم الصغري" إن الحق في الدفاع المشروع أمر ينبغي أن يقدره الإنسان بكل كلمة وفطنة، ولسنا نعلم مدى فلسفة ذلك المرسل الذي كان يسير في ليلة من الليالي وهو يركب في إحدى البلاد الشرقية، فخرج إليه جماعة من قطاع الطرق، فرفع سلاحه في وجههم، وكانوا يعرفونه، فقالوا له: هل يجوز لمرسل أن يقتل الآخرين، وهو أول من ينادي بالوصية القائلة: لا تقتل؟.. وكان جوابه: إني وأنا أرفع السلاح أنفذ الوصية، لأني إذا سلمت بسهولة في نفسي، فأنا أشارككم في قتلها، وترك القاتل ليقتل دون الوقوف في طريقه دون حماية النفس، إنما هو تشجيع مباشر له على العدوان وحماية غير مباشرة للنفس التي حرم الله قتلها!!.. هل كانت هذه الحكمة هي حكمة شمجر بن عناة؟.. أم أن شمجر كان يرى نفسه قاضياً لإسرائيل، وأن مهمته أن يدفع الظلم والاعتداء، وأن أنوار العهد الجديد لم تصل إليه أو تصل إلى ياعيل التي ضربت رجلاً نائماً لا يملك الدفاع عن نفسه، وقد استأمنها على نفسه في هذا البيت؟؟.. مهما يكن الأمر فإن عصر الرجل، كان يختلف ولا شك عن عصرنا من نوع الحياة والهدف والغاية، وكانت قضية الرجل قضية دينية، لم يدفع فيها عن نفسه شراً فحسب، بل كان أكثر من ذلك رجلاً يدفع الشر على البؤساء والمعذبين والمظلومين من شعب الله في أيامه!!.. فإذا جئنا إلى العصر المسيحي، فليكن موقفناً دائماً من الاعتداء نسيان الصالح الشخصي، أو الرغبة الشخصية في الانتقام، والسعي ما أمكن إلى كسب المعتدى لله، والحق والسلام، والتسليم في كافة الأمور لمن يقضي بعدل!!. غير أن هناك شيئاً واحداً لا يجوز التزحزح عنه قيد أنمله، وهو أن لا يكون السلام على حساب الحق ومجد الله،.. وهنا لننصت بكل خشوع إلى قول السيد: "لم آت لألقي سلاماً على الأرض بل سيفاً".. ولقد بلغ المؤمنون أروع صور الشهادة، عندما أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله!!.. لقد أبى الشهداء في روما أن يقبلوا السلام على حساب يسوع المسيح، ومع أن هناك أمثلة لا تنتهي، لكننا سنذكر قصة غلام صغير ارتبطت قصته باستشهاد مارسيلوس، وكان الغلام اسمه ماركوس بولو سيرفيللي، وكان في الثالثة عشرة من عمره وكان ينتسب إلى عائلة سيرفيللي النبيلة التي أدت أروع ما تستطيعه عائلة لبلادها،.. وعندما وجه القاضي التهمة للغلام بأنه مسيحي، أجاب على الفور: هذا الاتهام يعد شرفاً لي. أنا مسيحي، وأعتبر نفسي سعيداً لأني أستطيع أن أعترف بذلك أمام هذا الجمع الغفير، وعندما قال له القاضي: أيها الولد الشقي: هل تعرف نوع التهمة الموجهة ضدك؟؟ أجاب: أنا متهم بغير جريمة، وإيماني يعلمني أن أخاف الله، وأخدم الامبراطور، وأطيع كل القوانين العادلة، وقد نفذت كل هذا بضمير صالح،.. قال له القاضي: إن جريمتك أنك مسيحي خائن للوطن، فأجاب: أنا مسيحي، ولكني لست خائناً للوطن، وإذ قال له القاضي: إن القانون يحرم الإيمان بالمسيح ومن يكسر هذا القانون عقابه الموت.. أجاب: أنا مسيحي.. قال القاضي: إذاً فعقابك الموت.. وقال الغلام: فليكن. حاولوا أن يثنوه بكافة الطرق، بالتهديد، والإغراء، ولكنه ثبت كالطود الراسخ ووضع الغلام أمام نمر جائع.. وتحول كتلة من العظام والدم!!.. ومات شجاعاً كأفضل ما يكون الإنسان في الشهادة المسيحية ولو غرق في بحر من دم!!.. شمجر والوسيلة الضعيفة هوجم شمجر بن عناة، ولم يكن يملك سلاحاً، فإن الفلسطينيين جردوا الشعب من كل سلاح، كان يرعى أبقاره، وكان يمسك بمنساس البقر، وكان المساس هو السلاح الوحيد الذي يحمله، ويمكن أن يستخدمه، ولم يتوان الرجل عن استخدام الوسيلة الهزيلة الضعيفة، التي قادته إلى النصر وإلى قيادة الأمة بأكملها،.. من الناس من هو على استعداد أن يحارب، ولكن بشرط أن يكون في يده السلاح المناسب، ولو أدرك الحقيقة أن السلاح المناسب، هو الذي بين يديه، مهما كان ضعيفاً أو ضئيلاً أو صغيراً،..عند الأمريكيين قصة صبي صغير اسمه لوقا فارنوم، وكان ولداً فقيراً أعرج، صبي حداد، وحدث ذات يوم أثنآء حرب الاستقلال، والصبي يقف أمام الدكان، وهو حزين لأنه لا يستطيع أن يذهب إلى المعركة لعجزه وضعفه، وإذا بجماعة من الفرسان تمر به، ويسألونه وقد تبينوا أن معلمه غير موجود، عما إذا كان يستطيع أن يضع حدوة للحصان، فأجاب بالإيجاب لأنه ساعد معلمه كثيراً في صنع الحدوات، وتركيبها،.. وقام بالعمل خير قيام، وقال له القائد: اعلم أيها الصغير أنك قمت بعمل في خدمة بلدك يساوي عمل عشرة جنود، وكان المتكلم هو الكولونيل وارنر الذي أرسل لنجدة معركة من أهم المعارك التي قلبت ميزان الحرب، ولم يكن يعلم الولد الصغير الأغنية القائلة: لما سقط المسمار ضاعت الحدوة لما ضاعت الحدوة ضاع الحصان لما ضاع الحصان ضاع الراكب لما ضاع الراكب ضاعت المعركة لما ضاعت المعركة ضاعت الدولة كل هذا حدث لما ضاع المسمار ليس الأمر أمر راعي البقر أو المنساس في يده، إذ أن الأمر أعظم من ذلك بما لا يقاس، إذ هو أمر الله الذي يمسك بالراعي والمنساس معاً، والله لابد أن يكون الأول والأخير في المعركة، وكرامته لا يعطيها لآخر، لو كان هناك شيء آخر مع موسى غير العصا، لربما التفت الناس إلى هذا الشيء، ولم يروا الله السيد المنتصر،.. ولو كان هناك شيء بيد داود غير المقلاع وحجارة الوادي الملس، في مواجهة جليات، لما ظهر الله، ولما استطاع الشاب القديم أن يقول للجبار: "أنت تأتي إليَّ بسيف ورمح وترس وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتم اليوم، هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك وأقطع رأسك..".. لم ير شمشون على مقربة منه -وهو يواجه الفلسطينيين- سوى لحي حمار كان سلاحه في قتل ألف منهم!!.. وهكذا يعمل الله في الآنية الضعيفة في كل العصور والأجيال أو كما قال أحدهم: "لا بالقدرة ولا بالقوة استطلع لوثر أن يواجه ثورة روما وقوتها ومقامها ويحقق الإصلاح،.. ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم بوث أن يقابل الفقر والسخرية والهزء وينشيء جيش الخلاص العظيم.. ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم لويد جارسون أن يهاجم -وهو أعزل- نظام الرق، ويطلق من عقالها القوة التي حررت آخر الأمر أربعة ملايين من العبيد" لقد أدهشت شجاعة وليم أورنج في تسليح الفلاحين في هولندا والفلاندرز ضد طغيان الملك فيليب وألفا الدموية، وإذ تساءل الملك الأسباني عمن يكون وراء هذه الحركة من حلفاء أو ملوك: أجاب وليم الشجاع: "إنك تسألني عما إذا كانت قد دخلت في حلف رسمي مع قوة أجنبية ألا فاعلم أني قبل أن أحمل على عاتقي قضية هذه الولايات المنكوبة قد دخلت في الحلف والعهد مع ملك الملوك ورب الأرباب".. ولقد فعل هذا من قبل شمجر بن عناة وهو يمسك منساس البقر، وتستطيع أنت وأنا أن نفعل، في مواجهة معارك الخطية والإثم والفساد والشر، ذات الشيء ونحن نغني أغنية بولس العظيمة: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني"..!!..
المزيد
19 مايو 2022

شخصيات الكتاب المقدس سنبلط

سنبلط " ولما سمع سنبلط أننا آخذون فى بناء السور غضب واغتاظ كثيرا "" نح 4: 1 " مقدمة سنبلط واحد من أقدم الأسماء التى تقف على رأس كل تعصب دينى أو جنسى أو اجتماعى أو ثقافى فى الأرض!!.. ولا يمكن أن تعرف قصته الصحيحة، وقصة طوبيا العبد العمونى، وجشم العربى، قبل أن تعلم أنه وقف على رأس الصراع، لأنه كان سامرياً تشرب روح الحقد والبغض والشر لكل ما هو يهودى، الحقد الذى عاش مئات السنين حتى نراه على لسان السامرية وهى تقول للمسيح: « كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودى وأنا امرأة سامرية ».. " يو 4: 9 " لأن اليهود لا يعاملون السامريين، وعندما رفضت إحدى قرى السامريين أن تقبل المسيح ثار ابنا زبدى، وطلبا من السيد أن تنزل نار من السماء لتحرق القرية بأكملها، وزجرهما المسيح قائلا: « من أى روح أنتما؟!.. " لو 9: 55 " ولكنها - على أية حال - روح التعصب التى تنتقل على مر العصور والأجيال، وتأخذ ألوانها المتعددة بين الناس، فى الصراع بين العبد والحر، والأسود والأبيض، والشيوعى والرأسمالى، ومختلف الأديان والعقائد والمذاهب،... وكم سالت الدماء أنهاراً لهذه الدوافع الرهيبة الكريهة الحمقاء بين بنى البشر من فجر التاريخ وإلى يومنا الحاضر، دون أدنى توقف أو تردد أو خشية أو تسامح أو تعقل!!..ولعله من المناسب لهذا أن نتعرض لقصته ونعرف كيف يضيع أكثر الجهد البشرى فيما هو ضار وبشع ومخيف، بسبب الأشخاص الممتلئين بالتعصب الأعمى الممقوت!!... ولهذا يحسن أن نراه من الجوانب اتالية: سنبلط وعداوته الأسم سنبلط يعنى « سن معطى الحياة » وسن هذا كان إله القمر الذى يتعبدون له،... وفى مخطوطات البردى التى وجدت فى معبد الفيلة بمصر، ذكر اسم سنبلط كحاكم السامرة فى وقت داريوس الثانى حوالى عام 407 ق.م.، وكان له ولدان يحملان أسماء عبرانية اسم أحدهما دلايا، والاسم الآخر شلمايا،.. وهو على أية حال وقف مع طوبيا العبد العمونى، وجشم العربى وقفة العداء المستحكم من نحميا وأورشليم، وبدأت بين الفريقين حرب حياة أو موت، والسر فى هذا كله، اعتقاد سنبلط الجازم بأن قوة أورشليم ضعف للسامرة، وأن حياتها فناء لبلده، أو على أقل تقدير، على حساب السامرة ومجدها وجلالها وعظمتها!!... وفى الحقيقة أن سر العداء والحزبية البغيضة والقاتلة بين الناس، هو فيما يطلق عليه « المزاحمة »، إذ أن الأرض، مهما اتسعت، لا تتسع فى تصور المتزاحمين لاثنين يجمعهما مكان واحد، أو مكانان متقاربان أو مجالان فيهما شبهة التزاحم أو التضارب أو التنافس،... وقد ضاقت الأرض كلها أمام أول أخوين، إذ لم يستطع قايين أن يرفع وجهه أو يأخذ مكانه، طالما كان هناك هابيل أخوه على وجه الأرض، وطالما حظى بالرضا الإلهى، والسمو الذى يجعله متقدماً عنه، وهو الأصغر. وربما الأضأل حجماً وشكلا!!... ولم تتسع الأرض كلها أمام لامك، ومن تعدى عليه، والمظنون أنه كان بسبب أمور نسائية: « اسمعا قولى يا أمرأتى لامك، وأصغيا لكلامى. فإنى قتلت رجلا لجرحى، وفتى لشدخى »" تك 4: 23 "... وكيف تحتمل الأرض المتصارعين على امرأة والمتقاتلين فى سبيلها، وقد نشبت حرب تروادة من أجل هيلين اليونانية الجميلة والصراع عليها!!؟... فإذا تحولنا إلى إبراهيم ولوط، أو إلى إسحاق وإسماعيل، أو إلى يعقوب وعيسو، لوجدنا أن المزاحمة القاسية لم تمكنهم من البقاء فى وحدة واحدة أو جيرة متقاربة،.... كان داود ولداً محبوباً جداً من شاول، إلى أن تغنت بنات إسرائيل: « ضرب شاول ألوفه وداوود ربواته » " 1 صم 18: 7 " وإذا به يقول ليوناثان ابنه: « لأنه مادام بن يسى حياً على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك. والآن أرسل وأت به إلىّ لأنه ابن الموت هو ».. " 1صم 20: 31 ".إن التاريخ حافل بصراع البيوت المختلفة على القوة والجاه والنفوذ والسيطرة فهى تتصاهر أو تتقاتل، وهى تحب أو تحقد، وهى تتعاهد أو تتآمر بدافع المزاحمة للوصول إلى المكان الأسمى والأفضل!! والدولة فى كافة الصور والألوان تتصارع صراعها الخفى أو المنظور، من أجل مصالحها المتعارضة المتضاربة، وهى تعقد المعاهدات أو تثير الحروب تبعاً لهذه المزاحمة العنيفة القاسية،... والعداوة والصداقة بينها تدور وجوداً وعدماً تبعاً لمصالحها المختلفة المتضاربة المتشابكة!!.. والنظم الاجتماعية والاقتصادية تلعب دورها الرهيب فى هذا المجال!!.. فالصراع بين العبد والحر، وبين الأسود والأبيض، وبين الفقير والغنى، والشيوعى والرأسمالى جعلت الإنسان بلا عقل، وحولته وحشاً ضارياً يبطش بأخيه الإنسان دون وازع أو زاجر من ضمير أو إنسانية،... فإذا انتهينا إلى ما هو أرهب وأقسى ونعنى به صراع الأديان منذ فجر التاريخ، وصراع المذاهب المختلفة فى الدين الواحد،... لتعجبنا للمذابح والمجازر التى جرت فيها الدماء أنهاراً باسم الدين، الذى تحول اسمه الجميل إلى أبشع ما عرف الإنسان من حقد وكراهية وطغيان وانتقام!!... ومن الموسف أو المؤلم أنه باسم المسيح، حدثت المعارك المذهبية، ومذبحة سان بارثولميو، وغيرها من صور المعارك المتكررة فى أحشاء التاريخ، ومن الموسف أو المؤلم أن يتقدم زنجى أمريكى إلى راعى كنيسة من كنائس البيض يطلب أن ينضم إلى عضوية الكنيسة، وقد ارتبك الراعى لطلب هذا الزنجى، وتحير كثيراً، إذ كيف يستطيع أن يرفض طلبه، وهو شخص مشهود له بالحياة المسيحية التى تجيز له القبول فى عضوية الكنيسة، وكيف يقبله،الكنيسة لا تقبل إلا البيض فى عضويتها، وإذ لم يكن له من جواب ينقذه من حرج الموقف قال للزنجى: دعنا نصلى ونتقابل فيما بعد لنرى ماذا يقول المسيح لنا!!؟ وقد كان هذا الجواب كافياً لأن يفهم منه الزنجى أن طلبه مرفوض، فخرج متألماً ولم يعد لمقابلة الراعى … غير أنه حدث أن تقابل الاثنان صدفة فى الشارع بعد ذلك بمدة، فقال الراعى، وقد أراد أن يغطى موقفه الأول، لم لم تحضر إلى مرة أخرى … ألم نتفق على المقابلة ثانية!!؟ فأجابه الزنجى: لقد صليت وأخذت الجواب!!... وإذ سأله الراعى ماذا قال له المسيح أجاب: لقد قال لى لا تحزن، فأنا نفسى واقف على باب هذه الكنيسة منذ عشرة أعوام دون أن يسمح لى أحد بالدخول فيها!! وقد يكون هذا الجواب لاذعاً،.. لكنه فى واقع الأمر الصورة الدقيقة لما يحدث فى عالمنا الحاضر، باسم الدين، وتحت مظلته!!.. سنبلط وأسلحته شاء اللّه أن يعطينا صورة واضحة لأسلحة سنبلط، لا لأنها أسلحة قديمة، يلزم أن نعرفها، كما نتعرف على القوس والسهام والترس والحراب التى تعود الناس أن يقاتلوا بها، قبل أن يعرف العالم أسلحة الدمار والتخريب الحديثة المعروفة فى الوقت الحالى!!.. فالحقيقة أن سنبلط يتكرر فى كل جيل وعصر وأسلحته القديمة تظهر فى حياة الإنسان العصرى سواء بسواء!!.. ولعل أول سلاح استخدمه هو السخرية: « ولما سمع سنبلط الحورونى وطوبيا العبد العمونى وجشم العربى هزأوا بنا واحتقرونا » " نح 2: 19 ".. « ولما سمع سنبلط أننا آخذون فى بناء السور غضب واغتاظ كثيراً وهزأ باليهود وتكلم أمام إخوته وجيش السامرة وقال ماذا يعمل اليهود الضعفاء. هل يتركونهم؟. هل يذبحون؟. هل يكملون فى يوم؟ هل يحيون الحجارة من كوم التراب وهى محرقة؟ وكان طوبيا العمونى بجانبه، فقال إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب فإنه يهدم حجارة حائطهم، إسمع يا إلهنا لأننا قد صرنا احتقاراً » " نح 4: 1 - 4 ".. والسخرية فى العادة هى التعبير االدقيق عن الكبرياء والتعالى والحقد والضغينة والمرارة والكراهية، التى تظهر فى لغة الإنسان ولفظه،... وهى التمنى الأسود الذى قد يظهر فى الفكاهة أو النكتة أو الشتيمة أو الملحمة أو ما أشبه من عبارات أو ألفاظ،... وهى المحاولة التى يبدأ بها الإنسان لإرضاء نفسه، قبل أن يرضى الآخرين، إذ هى الصورة الذهنية لما يتمناه لعدوه أو خصمه - سواء أكان يدرى أو لا يدرى - فى لغته وكلامه،... ولم يكن سنبلط يرى فى خياله إلا مدينة أورشليم وهى أكوام من تراب محرقة بالنار، بدون ذبيحة أو مذبح، يسكنها جماعة من الضعفاء والتعساء البائسين،.. وكان طوبيا يتخيل المدينة وقد امتلأت بالثعالب وبنات آوى، والثعلب يقفز هنا وهناك بين خرائبها، ليهدم البقية الباقية من أنقاضها لكى تسوى بتراب الأرض،... وكلاهما يستريح إلى هذا الخيال الذى يملأ ذهنه، ويحلو أن يعبر عنه بما يصادفه من ملحة أو نكتة، وإذا صح ما يتجه إلىه رجال علم النفس من أن النكتة ليست إلا انعكاساً للكبت النفسى، وأن الفرد أو الشعب الذى يحسنها، قد يكون فى الحقيقة معذباً فى داخله، يسرى عن نفسه أو يخادعها أو يغطيها أو يتجاهلها، باللفظ المضحك أو الرواية الساخرة،... وقد تحول العذاب النفسى لسنبلط وطوبيا وجشم إلى الهزل الذى به يواجهون نحميا فى بناء سور أورشليم!!... والسخرية إلى جانب ذلك هى نوع من المداورة تجاه العجز عن العمل،... ومن ثم تظهر فى العادة تعويضاً فى الشعوب المغلوبة على أمرها، إفصاحاً عن السخط العاجز عن أى سلاح آخر قد يحمله الإنسان لاقتضاء حقه، ودفع ما يتعرض له من ظلم أو شر!!.. ولما لم يكن لدى سنبلط شئ فى البداءة يستخدمه ضد نحميا، أسرع بسلاح السخرية يجرب حده، ومفعوله، تعبيراً للوصف الكتابى الدقيق: « ولما سمع سنبلط الحورونى وطوبيا العبد العمونى ساءهما مساءة عظيمة لأنه جاء رجل يطلب خيراً لبنى إسرائيل».. " نح 2: 10 " وكان سنبلط - إلى جانب السخرية - مفترياً، وهو يذكر بشاول الطرسوسى عندما كتب عن نفسه يسجل تاريخه الآثم فى القول: « كنت مجدفاً ومضطهداً ومفتريا ».. (1 تى 1: 13) والافتراء هو الكذب الذى يأخذ صورة النميمة والوقيعة، وقد أراد سنبلط أن يستعدى الملك على نحميا فادعى: « ما هذا الأمر الذى أنتم عاملون، أعلى الملك تتمردون» " نح 2: 19 ".. وليس على المفترى إلا أن يكذب، ويصور الأمور على العكس ما هى عليه، ويكررها حتى يبدأ هو فى تصديقها، ثم يشيعها لعلها تأتى بالمقصود منها... والافتراء هو السلاح الذي صال به المتآمرون وجالوا فى كل عصور التاريخ، فجعلوا الحلو مراً، والمر حلواً، والظلام نوراً، والنور ظلاماً،.. ألم تستخدمه إيزابل باتهام نابوت اليزرعيلى بالتجديف على اللّه والملك؟ وليس أيسر من إثبات التهمة بإشاعة الجو المناسب لها بالصوم والصلاة، وإبداء الحزن عليها كأعظم جريمة يتصور وقوعها فى ذلك الحين، فإذا وجد الشاهدان اللذان يمكن أن يعدا للشهادة بذلك، فالعقوبة لا تلحق بنابوت وحده، بل لابد لفظاعتها ورهبتها، أن تجرف أسرته معه، فيرجم الكل، ويصبح الكرم بلا وارث، فيرثه الملك بحكم تقليد كان متبعاً وقتئذ!!.. وألم يستخدمه اليهود فى أكبر جريمة فى التاريخ بتصوير يسوع المسيح، ثأثراً على قيصر، ولابد من وضع حد لهذه الثورة بالصليب!! وما أكثر ضحايا الافتراء من الشهداء الذين ذهبوا كاستفانوس، تلصق بهم أبشع التهم وأقساها وأحطها، وهم منها جميعاً براء، ولكنه الافتراء والكذب اللذان استخدمهما الشيطان منذ القديم، وربما من فوق المنابر التى هى أساساً للنداء بالحق!!.. ويكفى أن ننقل صورة لعظة ألقاها أحد رجال الدين ممن حملوا قرار حرمان مارتن لوثر إلى كنيسة ألمانية، وقد قال فى روتشبرج ما يلى: « أيها الآباء والأخوة والأبناء، إن الكنيسة عانت طويلاً من سم حية نشأت بين أحضانها، هذه الحية هى مارتن لوثر، والسم هو تعاليمه التى ينشرها... ولا حاجة إلى أن أخبركم عن قصة ضلاله فهو أولا فى كبرياء قلبه يحتج على المحبة العظمى فى قلب أبينا البابا المقدس الذى جعل من الميسور بيع غفران الخطايا عند أبوابنا،... وهو فى هذا يؤذى الكنيسة إذ يعظ ضد الصكوك المقدسة والغفرانات، ويمنع خلاص النفوس، وهو قد كتب حججاً كاذبة وسمرها على باب الكنيسة وتنبرج، وانتشرت من هناك فى كل ألمانيا، وكثيرون يموتون فى خطاياهم، ويذهبون إلى الجحيم بسبب هذه الحجج، وقد كانت الكنيسة مترفقة به، إذ وعدته بالعفو إذا تراجع، وأعطته الفرصة ليظهر فى أوجسبرج أمام قداسة الكاردينال جاجيتان الذى تعامل معه بلطف، ولكن دون جدوى، وبعد هروبه الجبان من أوجسبرج كان له الشرف أن يتقابل مع دكتور إيك العظيم الذى تغلب عليه تماماً، ومع ذلك فهو ما يزال ينشر أكاذيبه فى كل مكان، وقد أضحى الآن أكثر غطرسة وقسوة،.. إذ لم يكتف بمهاجمة الغفرانات، بل بدأ يهاجم البابا نفسه، وقد كتب كتباً متعددة ممتلئة بالباطل والأضاليل، وزرع الشوك فى عقول الكثيرين من أبناء الكنيسة المؤمنين، وأبعد آلافاًعن الأم الوحيدة الحقيقية، الكنيسة، ولهذا فإن البابا عزم على أن يضع حداً لهذا الهرطوقى الكبير وأبى الأكاذيب »...كان سنبلط من أقدم الناس الذين لجأوا إلى الافتراء فى مقاومة نحميا بمحاولة استعداء الملك ضد الرجل الذى وثق به، وجعله من فرط الثقة فيه ساقياً له!!... ولم يكتف سنبلط بذلك، بل لجأ إلى سلاح الغدر باستخدام عنصر المفاجأة فى الحرب،... ولما سمع سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والاشدوديون أن أسوار أورشليم قد رممت والثغر ابتدأت تسد غضبوا جداً وتآمروا جميعهم معاً أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضرراً... وقال أعداؤنا لا يعلمون ولا يرون حتى ندخل إلى وسطهم ونقتلهم ونوقف العمل »" نح 4: 7 - 11 ".. والغدر من أشر الأسلحة الشيطانية، منذ ذلك اليوم الذى قتل فيه قايين أخاه الآمن الوادع عندما دعاه ليذهب معه إلى الحقل وقام هناك على أخيه وقتله،... ومنذ أن باع أخوة يوسف أخاهم وغمسوا قميصه فى الدم، وسلموه إلى أبيه الذى أكد أن وحشاً افترس ابنه، ولم يعلم أن الوحش كان أبناءه أخوة يوسف،.. ومنذ أن صاح يوليوس قيصر عندما انهالت عليه الطعنات: « حتى أنت يابروتس »... وكم بيت المتآمرون الخطط والمؤامرات حتى يفاجأ الضحايا: « لا يعلمون ولا يرون حتى تدخل إلى وسطهم ونقتلهم ».. ولم يردع الغادرين أيام نحميا إلا علمه بالنية الغادرة، واستعداده لمواجهتها!!.. فإذا لم يكن هناك من سبيل إلى الحرب الخارجية، فلا بأس من الحرب الداخلية، فيما أطلق عليه فى الحرب العالمية الأخيرة الطابور الخامس، وهم جماعات الحزنة، والنفعيين، والوصوليين، وقد كانوا كثيرين أيام نحميا فأشاعوا الرعب، والمذمة، والتذمر حتى تكل الأيدى عن العمل، وحتى يستولى اليأس والقنوط على العاملين،... وحتى تنطفئ الجذوة الممتلئة بالحماس والولاء والنشاط فى الخدمة،... لست أعلم مدى الصدق فى قول الرجل الذي صاح: « ربى احمنى من أصدقائى أما أعدائى فأعرف كيف أقابلهم »... فأنا إنسان أحتاج مع نحميا إلى حماية اللّه من الصديق ومن العدو أيضاً،... لكن الحقيقة المريرة أن الذين قد يكونون معنا فى الكنيسة، هم أشد ضراوة وقسوة من الذين نواجههم فى الخارج،... لقد كان المتآمرون يوم المسيح فى حاجة إلى يهوذا الأسخريوطى حتى تنجح مؤامرتهم البشعة الرهيبة،... وفى أيام نحميا يكفى القول: « وكان واحد من بنى يوياداع بن الياشيب الكاهن العظيم صهراً لسنبلط الحورونى فطردته من عندى » " نح 13: 28 " دانية سنبلط المتزوجة بابن الكاهن العظيم، كان يمكن أن تفعل الكثير مما فعلته إيزابل من قبل فى شعب اللّه!!.. وكان يمكن للكثيرين من المتحالفين مع سنبلط أو المتعاطفين معه، أن يضروا بالقضية ضرراً بالغاً، لولا شجاعة نحميا ومقاومته الباسلة لهم!!...على أنه وقد عجزت هذه الأسلحة جميعها عن إسقاط الرجل، عمد سنبلط إلى سلاح آخر، يمكن أن نطلق عليه سلاح المداهنة بغية اللقاء والتشاور والتفاهم، فى الوقت الذى يبطنون الشر له، يزعمون أن اللقاء للخير ولمصلحة الجميع، وكل مرادهم إدخاله فى متاهة النظريات والمفاوضات وما تحفل به من كلام منمق، وقبلات حلوة، وولائم كريمة، إنه مزج السم بالدسم ومحاولة إبعاد الرجل عن العمل الجاد، وصرفه عنه بالحيل والأساليب الملتوية الشيطانية،... وإنها لأكبر كارثة فى حياة فرد أو أمة أو شعب، إبطاء العمل أو تأجيله حتى تنتهى اللجان المعينة من درسه، والأخذ بأفضل الوسائل للوصول به إلى غايته،... وليس أبلغ من سخرية أحدهم عندما قال: « إن اللّه صنع العالم فى ستة أيام لأنه لم تكن هناك لجنة معينة للعمل!!..والسلاح الأخير الذى حاول سنبلط استخدامه للقضاء على عمل نحميا، هو إسقاط القيادة أمام الشعب وإظهارها بمظهر الخوف والجبن إذ استأجر شمعيا بن دلايا من الكهنة، والذى كان يسكن فى بيت اللّه، لكى يدعو نحميا للدخول إلى بيت اللّه فى الهيكل على زعم أنه المكان الذى يمكن أن يختبئ فيه عن أعين الذين قد عقدوا العزم على أن يأتوه فى الليل ليقتلوه،... وهو لم يقصد حمايته، بل قصد فى الواقع تعريته ليظهر أمام الناس بمظهر القائد الجبان الذي يخاف على نفسه وعلى مصيره،.. لقد كان نحميا هو قائد الحركة وزعيمها البارز، فإذا ظهر أنه إنسان يبحث عن سلامته الخاصة، فى وقت ينبغى أن يقود الصفوف، وأن يبرز أمامها، فهنا الكارثة، إذ تتلطخ سمعته بالوحل، فينصرف الناس عنه، ويشكون فى خدمته وعمله ورسالته!!... ولكن نحميا فطن إلى الهدف الخبيث، وصاح صيحته العظيمة المدوية: « أرجل مثلى يهرب ومن مثلى يدخل الهيكل فيحيا؟ لا أدخل ».. " نح 6: 11 " عندما حاولوا تخويف لوثر بالقول أنه لن يعود من ورمس حياً، … وعندما جاءه رسول من قبل صديق من النبلاء الألمان بهذا.. قال للرجل: « اذهب وقل لسيدك إنه لو كان هناك شياطين فى ورمس بعدد القراميد على سطوح المنازل فإنى سأذهب إلى هناك »...!!.. سنبلط: الرد على أسلحته وصراعه من الطريف أن أحدهم، وهو يتحدث عن أسلحة سنبلط، شبهه ببعض البنادق التى أرسلت إلى الانجليز فى حرب البربر فى جنوب إفريقيا، وقد أراد الانجليز أن يجربوا فاعلية هذه الأسلحة ومدى بلوغها الهدف،... كانوا على رابية، وأبصروا على رابية أخرى، بالمنظار المكبر، قطيعاً من الماعز عدده عشرة، فجعلوها هدفهم، وأطلقوا عليها عشرين طلقة، ثم ذهبوا إلى المكان ليروا أن العشرة تحولت إلى إحدى عشر من الماعز، لأن واحدة فى ذلك الوقت ولدت أخرى!!... لم يفشل سنبلط فحسب، بكل أسلحته، بل أعطانا صورة للنجاح الذى تتمخض عنه خدمة اللّه فى وسط الشدائد والمتاعب والمقاومات، وهذا ما يحدث دائماً فى كل جيل وعصر، عندما يصنع اللّه من الشر خيراً، ومن الآكل أكلا ومن الجافى حلاوة،... ومن حقنا ونحن فى قلب المؤامرات الشريرة التى لا تنتهى طالما بقى أشرار ومؤمنون على الأرض،... أن نسأل كيف نقاوم الشر وننتصر عليه؟.. ومن اللازم أن نعلم بادئ ذى بدء، أننا: « وإن كنا نسلك فى الجسد لسنا حسب الجسد نحارب. إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة باللّه على هدم حصون. هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة اللّه ومستأثرين كل فكر إلى طاعة المسيح » " 2 كو 10: 3 - 5 ".. لقد كان السلاح الأول فى مواجهة سنبلط هو سلاح الإيمان،.. إذ أن حركة نحميا من أولها إلى آخرها كانت تتميز بالإيمان،.. وهذا الإيمان بدأ من أول الأمر فى عزلة النقاوة التى رفضت الاختلاط أو التعاون أو التهاون مع الوثنيين، فهو لا يرضى شركتهم، ولا يقبل مصاهرتهم، وهو لا يقود جماعة اختلط فيها الحابل بالنابل، والمؤمن بغير المؤمن،... إنه جاء ليبنى سوراً للمدينة، وسوراً أعظم، عازلا من الوجهة الروحية، كل اختلاط بالفساد والشر والوثنية والتعامل مع الشر،... على أن هذا الإيمان كان من الوجهة الأخرى، الإيمان فى قوة اللّه التى تعمل معه،.. لقد أدرك أن له الصديق القوى القادر على كل شئ... وسلاح الإيمان هو أمضى الأسلحة فى مقاومة الصعاب الهائلة التى تعترض طريقنا فى الحياة،... وهو الذى مكن أبطال الإصلاح فى كل العصور والأجيال من أن يهتفوا هتاف الرسول: « فماذا نقول لهذا. إن كان اللّه معنا فمن علينا »... " رو 8: 31 " وكان السلاح الظاهر أيضاً مع نحميا: سلاح الصلاة... كان الرجل يؤمن بأن الصلاة تستطيع أن تواجه جيوش الأرض كلها، وليس سنبلط وحده،.. وقد كان اختباره عظيماً فى فاعليتها، منذ اللحظة التى وقف فيها أمام الملك، عندما رأى وجهه المكمد،... وإذا خاف رفع عينيه فى الصلاة إلى اللّه، وقال: « فصليت إلى إله السماء » " نح 2: 4 " وأنت لا تستطيع أن تقرأ السفر دون أن تدرك أن نحميا كان يواجه دائماً مشكلاته بالصلاة،... وما أجمل أن ندخل معه فى مواجهة الظروف والمشاكل فى اختبار الصلاة، قال بللى صاندى فى حديثه عن الصلاة: « صلى إبراهيم من أجل ابن فأعطاه اللّه نسلا كالرمل الذى على شاطئ البحر.. صلى من أجل سدوم فسمع اللّه صلاته وأخرج لوطاً منها،.. صلى يعقوب من أجل اللقاء الطيب مع عيسو!!.. وصلى موسى من أجل الغفران لشعبه، وصلى جدعون للانتصار على المديانيين، وصلى إيليا وأجابه اللّه بنار، وصلى يشوع فكشف عاخان، وصلت حنه فولدت صموئيل، وصلى حزقيا فقتل مائة وخمسة وثمانون ألفاً من الأشوريين، وصلى دانيال فسد اللّه أفواه الأسود، وصلى الرسل فجاء يوم الخمسين!!... وكان من المستحيل على نحميا أن ينجح من غير الصلاة! على أن نحميا أجاب على سنبلط، وعلى سخريته، ونقده، وتهديده، وتشويشه بشئ واضح ظاهر، هو العمل المستمر، دون توقف أو تردد أو إهمال أو تكاسل،... وما من شك بأن ظروفه كانت قاسية، والعمل الذى يواجهه كان جسيما، لكنه أجاب على كل شئ إجابة أحد خدام اللّه الذى جاءته ذات يوماً سيدة تشكو مر الشكوى من مدرسى مدرسة الأحد الذين يعلمون أولادها الأربعة، وقالت للراعى: أعتقد أنه يلزم أن تغيروا هؤلاء المدرسين جميعاً!!.. وأنصت إليها الراعى ثم قال: « إنى أتفق معك، وأنت تعلمين أنه خلال العامين السابقين، وأنا أحاول معك ومع زوجك للمساهمة فى خدمة مدرسة الأحد،.. وأنت إلى هذه الساعة ما تزالين ترفضين!!.. بل لا تزالين ترفضين تحمل أية مسئولية فى عمل الكنيسة، فهل يحق لك بعد هذا أن تنتقدى الذين يبذلون جهدهم حتى ولو لم يكن كافياً؟ ».. على أية حال، كان نحميا عظيماً ورائعاً، إنه واجه النقد بالعمل، ولم يتوقف قط ليدخل فى نقاش أو مجادلة مع هذا أو ذاك من الناس!!.. وليس هناك ما هو أعظم من أن نرد على الناس، وعلى سخريتهم، ونقدهم، واحتقارهم، بغير العمل، حتى نصل معهم إلى الحقيقة التى فيها يتحولون من الاحتقار للعاملين، إلى الاحتقار لأنفسهم!!.. وما من شك فى أن اليقظة والسهر من أهم ما ينبغى أن نواجه به عداوة. الآخرين وخصومتهم، ونحن لا نستطيع أن نبنى سوراً لخدمة اللّه ومجده، بغير العين المفتوحة، والقلب الملتهب، واليد المجتهدة، واليقظة الكاملة كما فعل نحميا قديماً فى مواجهة سنبلط وطوبيا وجشم، وكما علمنا السيد فى معنى أعظم وأكمل عندما قال: « إسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة» " مت 26: 41 "..!!.
المزيد
12 مايو 2022

شخصيات الكتاب المقدس سليمان

سليمان "فلنسمع ختام الأمر كله اتق الله وأحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله" جا 12: 13 مقدمة لا شبهة في أن سليمان الحكيم يعد واحداً من أعقد الألغاز التي اختلف الناس في فهمها، وذهبوا فيها شتى الأفكار والمذاهب،.. وقد تساءل الكثيرون منذ القديم، وما يزالون إلى اليوم يتساءلون، وأغلب الظن أن سؤالهم سيبقى قائماً لي أن تنتهي الأرض، وما عليها ومن عليها ما مصير سليمان الأبدي؟!!.. وإذا كان دانتي الشاعر العظيم لم يتردد في ضمه في كتاب الكوميديا الإلهية إلى الزمرة المنتخبة من المعلمين العظماء في السماء،.. فإن الكسندر هوايت على العكس من ذلك، لم يترك لنا بارقة أمل في ذهابه إلى المجد، إذ عده من المطروحين خارج المدينة المقدسة السماوية، ولم يقطع الرسام العظيم أوركاخبا بهذا الرأي أو ذاك، إذ استبدت به الحيرة الكاملة، في الصورة العظيمة التي رسمها في بيزا، وفي فلورنسا، وفيها نرى سليمان ينهض في يوم القيامة عند سماع البوق الأخير، مرتدياً ثوبه الملكي، وتاجه، متعباً متألماً، لا يدري أين يتجه.. أإلى اليمين مع المخلصين، أم إلى اليسار مع الهالكين؟!!.. وإن كان لنا أن ندلي برأي في الأمر، وأية كفة نعتقد أنها الراجحة،.. فإن الرجاء في سليمان لا يرجع في شيء البتة، إلى الرجل أو عظمته، أو حكمته بل إلى كل شيء، في إحسان الله، ورحمته، وجوده، وحبه، وهباته، وعطاياه التي هي بلا ندامة،.. ومن ثم سندرس قصة سليمان من جوابنها المختلفة التالية: سليمان من هو؟!! هو سليمان بن داود، أطلق عليه أبوه الاسم "سليمان".. والكلمة مرتبطة بالسلام، وهي تشير في أكثر من معنى إلى أن مولده مرتبط بالسلام.. وقد أطلق عليه ناثان "يديديا" أو "محبوب الرب" لكي يؤكد هذا المعنى، وما هو أكثر منه!!.. أجل وإنها النعمة العظيمة التي اختارت هذا الابن بالذات، ليكون هو مختار الرب، ووارث العرش، وإذا كان الله قد عبر بوفاة الابن الأول -ثمرة الخطية- عن كراهيته العميقة العتيدة للخطية، وإذا كان قد أعلن عن أكثر من عقوبة، للعثرة التي جلبتها هذه الخطية في حياة الأمة والناس،.. فإنه في الوقت نفسه قد عبر عن رضاه العميق بتوبة داود وبثشبع في الابن الثاني محبوب الله ومختاره،.. ولم يتردد داود لذلك أن يدعوه "سليمان" تعبيراً عن السلام العميق الذي ناله بالغفران الإلهي، والثقة بأن الله قد طرح وراء ظهره خطيته الكبرى،.. كما أنه -إلى جانب ذلك- آمن بالوعد الإلهي، بأن عصر ابنه سيكون عصر السلام والهدوء والراحة، الذي يتمكن معه هذا الابن من إتمام رسالته العظيمة، وبناء بيت الله، البيت الذي سيصبح نقطة تجمع الشعب حول الحياة الدينية، والاقتراب الصحيح لله!!.. ومع أن نشيد الأنشاد يمتد بكل تأكيد إلى ما هو أبعد وأعظم من سليمان، إلى ذلك الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر، إلا أن المفسرين أكدوا أن سليمان لم يكن جميلاً فحسب، بل كان بارع الجمال. وأن جماله الذي ورث فيه الكثير من أبويه، قد جاء وصفه في قول العروس: "حبيبي أبيض وأحمر معلم بين ربوة رأسه ذهب إبريز قصصه مسترسلة حالكة كالغراب عيناه كالحمام على مجاري المياه مغسولتان باللبن جالستان في وقبيهما، خداه كخميلة الطيب واتلام رياحين ذكية، شفتاه سوسن تقطران مراً مائعاً، يداه حدقتاه من ذهب مرصعتان بالزبرجد، بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق ساقاه عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من إبريز، طلعته كلبنان فتى كالأرز، حلقه حلاوة وكله مشتهيات. هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم". فإذا كانت هذه الأوصاف الرمزية تشير إلى المسيح في أكثر من معنى، إلا أنها على الأقل تعطينا صورة واضحة إلى من جاء في حد ذاته رمزاً ليسوع في كثير من المواضع والصور"..وقد اشتهر سليمان قبل وبعد كل شيء بالحكمة، إذ دعى في الأجيال كلها "سليمان الحكيم"، ونحن نعلم أن فرصته العظمى للتفوق في الحكمة جاءت إثر حلمه في جبعون، لكنه الواضح أن سليمان كان حكيماً، بطلبه هذه الحكمة، وقد وفر له الله منابع الحكمة، إذ ولد من أبوين مقتدرين في الإداك والفهم، فداود أبوه كانت له المقدرة العظمى في التأمل العميق، وأمه وإن كانت قد اشتهرت بجمالها الفائق- إلا أنه يعتقد أنها ورثت عن جدها أخيتوفل الألمعية والذكاء وقوة التمييز،.. وأعطاه الشفافية، والقدرة الهائلة في فهم الطبيعة البشرية، والحكم على العلاقات بين الناس، كما أنه كان من أقدر الناس في عصره، وفي كافة العصور، على استيعاب الفلسفة، والشعر، والتاريخ الطبيعي، وغيرها من المعارف والعلوم!!... "وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر، وكان أحكم من جميع الناس من إثيان الأزراحي وهيمان وكلكول ودردع بني ما حول، وكان صيته في جميع الأمم حواليه وتكلم بثلاثة آلاف مثل وكانت نشائده ألفاً وخمساً، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا الثابت في الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك، وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعون حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته"..وكان سليمان -بكل تأكيد- أقرب أولاد داود إلى الله، ولعل أثر ناثان في مطلع حياته كان عميقاً، إذ كان ناثان مربياً له، ويبدو أن داود وهو شيخ يراقب أولاده، رأى ابنه سليمان أصلح أولاده جميعاً ليرث العرش، وشتان بينه وبين أمنون أو إبشالوم أو أدوينا، ومن ثم وعد داود بثشبع بقسم أن يكون سليمان وريثه في العرش،.. ولم يشأ أدونيا الذي كان ابناً مدللاً متكبراً، ويكفي أن الكتاب يصفه: "ولم يغضبه أبوه قط قائلاً لماذا فعلت هكذا".. لم يشأ أن ينتظر وفاة أبيه أو حتى أخذ رأيه وموافقته، فنصب نفسه على العرش بدون علمه، وقد انحاز إليه جميع إخوته الذين كانوا أقرب على شاكلته، من سليمان الذي لم يدع إلى الحفل أو يشارك فيه،.. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه الرجل الذي يعتقد أنه كاتب المزمور الثاني، والخامس والأربعين، والثاني والسبعين، والمائة والسابع والعشرين، وكلها واسعة الرؤى ممتدة الأحلام، إلى جانب أسفار الأمثال، والجامعة، ونشيد الأنشاد، والذي لم يسترح أو يهدأ حتى أكمل بناء بيت الرب وصلى في تدشين صلاته العظيمة، وكلها تشهد بعظمة الحياة الدينية التي وصل إليها ذلك الملك القديم!!... سليمان واختياره بعد أن توج سليمان واستوى على عرشه، أحس أنه في حاجة عميقة إلى الله، وإلى إرشاده وهدايته ومعونته، فسعى إلى جبعون الواقعة على بعد ستة أميال إلى الشمال من أورشليم حيث كانت هناك خيمة الاجتماع التي عملها موسى، وحيث كانت تقدم الذبائح لله، وأقام حفلاً دينياً عاماً يبدأ به حياته الملكية بتكريس عظيم أمام الله، وأصعد هناك ألف محرقة، وليس العبرة في حد ذاتها بهذا العدد الكبير من المحرقات كما يقول صموئيل: "هل مسرة الرب المحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش" أو كما يقول ميخا "بم أتقدم إلى الرب وأنحني للإله العلي هل أتقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة هل يسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار زيت هلى أعطي بكري عن معصيتي ثمرة جسدي عن خطية نفسي. قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك"...وقد جاء سليمان في الواقع بإحساس الضعف والاتضاع والحاجة إلى الله،.. وإذ رآه الله على هذا الوضع ظهر له في حلم، ووضع أمامه الاختيار المطلق دون قيد أو شرط،.. ولعله من اللازم قبل أن نتعرض لاختيار سليمان أن نشير إلى أنه ليس وحيداً أو منفرداً في هذا الاختيار، إذ أن كل واحد منا مثله له مملكته الخاصة، ومن حقه أن يختار اختياره المطلق، وما يريد بالنسبة لهذه المملكة صغرت أو كبرت على حد سواء،.. وإذا كان اليونانيون قد صوروا في أساطيرهم القديمة، هرقل بطلهم العظيم، وقد جلس ذات يوم في شبابه محزوناً متضايقاً، وإذا بفتاتين حسناوين تمران به، واحدة اسمها "اللذة" والأخرى اسمها "الفضيلة".. أما الأولى فقد وعدته أن تقدم له حياة رضية ممتلئة بالبهجة والمسرات، بينما وعدته الأخرى أن تقدم له حياة ممتلئة بالنفع والشهرة، ورفض هرقل نداء اللذة، واستجاب لنداء الفضيلة، وعاش حياته كلها لمعونة الضعيف والمحتاج والبائس... وإذا كان لورد ملبورن عندما أعلن الأميرة الشابة فيكتوريا أنها أصبحت ملكة انجلترا لم يجد أفضل من أن يقرأ لها حلم سليمان في جبعون، فمن الواضح أن الاختيار يواجه كل إنسان في الحياة،.. وحتى رفض الاختيار، هو نوع من الاختيار الذي لا يمكن تفاديه!!..جاء الاختيار إلى سليمان وهو نائم، والاختيار الصحيح يأتينا مصحوباً بنوم ما، إذ لابد أن ينام فينا الإنسان الأناني الضعيف، الناقص، الشرير المقاد بالجسد، ليستيقظ فينا الإنسان الأسمى والأعلى والأعظم،.. وقد نام هذا الإنسان في سليمان، إذ أن الله عندما سأله: "اسأل ماذا أعطيك، ربما همست في أذنه التجربة.. "أطل طول أيام، أطلب ثروة وغنى، أطلب أنفس أعدائك"!!.. ويبدو هذا من قول الله: ولم تسأل لنفسك أياماً كييرة ولا سألت لنفسك غني، ولا سألت أنفس أعدائك، مما يشجع على الاعتقاد أن المجرب قد جرب بهذه كلها، ولكنه انتصر عليها جميعاً. وطلب القلب الفهيم. والقلب الفهيم يتطلب أمرين واضحين، إذ يبدأ أولاً بالذهن الجبار المقتدر الحكيم، الذي يستطيع الكشف عن الحقيقة المخبأة وراء ستار من الأضاليل والأكاذيب، وخير مثال علي ذلك قصة الزانيتين اللتين احتكمتا إليه في قصة الابن الميت والآخر الحي،.. على أن الأمر أكثر من ذلك لا يقف عند حدود الذهن بل يتعداه إلى "القلب" والذي قال عنه في الأمثال: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة"... والحكمة الصحيحة عند سليمان تتضح من قوله في سفر الأمثال: "بدء الحكمة مخافة الرب ومعرفة القدوس فهم"... وفي الحقيقة أن سليمان كان يدرك بالتأكيد أن الإنسان لا يمكن أن يكون حكيماً إلا إذا كانت له الرابطة القوية العميق بالله، والتي جعلته يقول في المزمور الثاني والسبعين: "اللهم أعط أحكامك للملك وبرك لابن الملك يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق تحمل الجبال سلاماً للشعب والآكام بالبر يقضي لمساكين الشعب يخلص بني البائسين ويسحق الظالم"... أو إذا جاز التعبير: إن الحكمة هي "الشفافية" التي يعطيها الله للإنسان لكي يبصر الحقيقة، أو الإلهام، أو الإيحاء، بالمعنى الذي قاله يعقوب: "وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطي له"!!..كان اختيار سليمان بجانبيه "السلبي والإيجابي" مقبولاً وحسناً أمام الله، وقد أعطاه الله لذلك فوق ما يطلب أو ينتظر، إذ أعطاه الغنى والكرامة إلى جانب الحكمة الفائقة التي اشتهر بها، على أنه من اللازم أن نشير أيضاً إلى أن عطية الله كانت مشروطة بشرط واضح متكرر: "فإن سلكت في طريقي وحفظت فرائضي ووصاياي كما سلك داود أبوك فإني أطيل أيامك"... "والآن أيها الرب إله إسرائيل: احفظ لعبدك داود أبي ما كلمته به قائلاً لا يعدم لك أمامي رجل يجلس على كرسي إسرائيل إن كان بنوك إنما يحفظوا طرقهم حتى يسيروا أمامي كما سرت أنت أمامي".. "وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلب واستقامة، وعملت حسب كل ما أوصيتك، وحفظت فرائضي وأحكامي فإني أقيم كرسي ملكك على إسرائيل إلى الأبد كما كلمت داود أباك قائلاً لا يعدم لك رجل عن كرسي إسرائيل"... وقد أخفق سليمان في تحقيق هذا الشرط، أو كما قال أحدهم: إن الاختيار الموضوع أمام الإنسان ليس مجرد اختيار بين الرديء والحسن، بل أكثر من ذلك، بين الرديء والحسن والأحسن، وقد اختار سليمان الحسن، وعجز عن أن يصل إلى الأحسن، ومرات كثيرة يكون الحسن عدو الأحسن، أو أن التوقف عند الحسن قد يعود بصاحبه إلى الوراء إلى الرديء.. إنه من الحسن أن نطلب "القلب الفهيم" الذي ميز بين الحق والباطل، والخير والشر، والنور والظلام،.. ولكن الأحسن أن نطلب "القلب النقي"... ولو طلب سليمان طلبة أبيه العظيمة: "قلباً نقياً أخلق في يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" لما تردى في المنحدر الذي آل إليه فيما بعد،.. كانت طلبة سليمان الحسنة، كمن يبني قلعة عظيمة من غير أسوار، ما أسرع ما تسقط أو تنهار عند أي اقتحام أو هجوم،.. ألم يقل كونفوشيوس الحكيم الشرقي الذي جاء بعد سليمان بخمسة قرون: "هذه هي الأشياء التي ترعبني، إني لا أصل إلى مستوى الفضيلة الذي أرغبه، وأنني لا أعيش تماماً حسبما علمت، ولست قادراً على السير في حياة البر وعمله في الوقت الذي أعرف فيه أن هذا هو البر إني لا أستطيع عمل الخير، ولست قادراً على تغيير الشر في نفسي أنا لست الإنسان الذي ولد حكيماً"؟؟ سليمان وأمجاده لم يكن سليمان الملك من أعظم ملوك يهوذا وإسرائيل فقط "بل من أعظم ملوك التاريخ قاطبة، وقد أحاطت به هالة من المجد لم تتح لكثيرين قبله أو بعده، حتى اقترن اسمه في بعض المواطن بالتقاليد والأساطير التي لا تجد سندها في كتاب الله، ويكفي أن نعلم أنه كان من أعظم ملوك الأرض وأغناهم وأحكمهم، حتى أن شهرته ذاعت في الخافقين، فاجتذبت من أقصى الأرض ملكة سبأ لتسمع حكمته كما أن سيدنا له المجد أدناه من نفسه كثيراً عندما قال هوذا أعظم من سليمان ههنا، ولعل أمجاده الثلاثة الشهيرة: مجد الإمبراطورية وما أكثر ما يشبهون امبراطورية سليمان بالامبراطورية الأغسطسية إذ كان عصر سليمان أقرب العصور إلى عصر أوغسطس قيصر أول امبراطور للامبراطورية القديمة، على أن مجدها الحقيقي جاء في أنها كانت رمزاً وصورة ضئيلة لمجد مملكة ابن الله في الأرض، إذ كانت تجمع إليها ثروة الأمم: وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة، وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة".. وأليست هذه رمزاً لصورة أورشليم العليا أمنا جميعاً والتي وصفها الرائي بالقول: "وكان بناء سورها من يشب والمدينة من ذهب نقي شبه زجاج نقي وأساسات سور المدينة مزينة بكل حجر كريم الأساس الأول يشب. الثاني ياقوت أزرق. الثالث عقيق أبيض الرابع زمرد ذبابي. الخامس جزع عقيقي. السادس عقيق أحمر. السابع زبرجد. الثامن زمرد سلقي. التاسع ياقوت أصفر. العاشر عقيق أخضر. الحادي عشر اسمانجوني. الثاني عشر جمشت. والاثنا عشر باباً اثنتا عشرة لؤلؤة كل واحد من الأبواب كان من لؤلؤة واحدة وسوق المدينة ذهب نقي كزجاج شفاف"... كما أن الامبراطورية كانت متسعة امتدت من حدود مصر إلى العراق، وكان الملوك المجاورون يتزلفون إلى سليمان بالهدايا والتقدمات والخدمة وكان الرعايا من اليهود أو الأمم على حد سواء، أما اليهود فكانوا أشبه بالرمل الذي على البحر في الكثرة أما الأمم فكانوا من ممالك متعددة تخضع لهذا الملك العظيم، وقد خلا حكم سليمان من الحروب الخارجية والمنازعات الداخلية، وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كرمته وتحت تينته من دان إلى بئر سبع كل أيام سليمان، كما امتلأت البلاد بالرفاهية والترف، ويبدو هذا من طعام سليمان اليومي وخيله ومربكاته، وألوان العظمة التي كان يرفل فيها... ولم يكن هذا كله إلا رمزاً لذاك الذي وصفه سليمان في المزمور الثاني والسبعين: "يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام، إلى أن يضمحل القمر ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. أمامه تجثو أهل البرية وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة ملوك شبا وسبأ يقدمون هدية ويسجد له كل الملوك. كل الأمم تتعبد له. لأنه ينجي الفقير المستغيث، والمسكين إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس، ويخلص أنفس الفقراء من الظلم والخطف يفدي أنفسهم، ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا... يكون اسمه إلى الدهر قدام الشمس يمتد اسمه ويتباركون به. كل أمم الأرض يطوبونه، مبارك الرب إله إسرائيل الصانع العجائب وحده ومبارك اسم مجده إلى الدهر، ولتمتليء الأرض كلها من مجده آمين ثم آمين"... أو الصورة الأخرى التي أشار إليها دانيال في القول: "وأما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها"... مجد الهيكل عندما بنى جستناين الامبراطور كنيسة أجا صوفيا. وكانت أعظم عمل قام به إلى جانب تجميع القانون الروماني البيزنطي، ودشنها عام 548م. رفع يديه نحو السماء وصرخ: مجداً لله الذي حسبني مستحقاً أن أقوم بعمل عظيم كهذا، ثم تلتفت حوله وصاح: لقد تفوقت عليك يا سليمان!!!.. وهو يقصد أن يقارن بين الكنيسة العظيمة التي بناها، وهيكل سليمان العظيم على أرض المريا،.. وحقاً كان الهيكل آية من آيات الفن والجمال.ومن صلاة سليمان نعلم أن الهيكل كان عنده أكثر جداً من الأبهاء والعظمة التي كانت لمبانيه، إذ كان المكان الذي يحمل اسم الله، ويرمز إلى حضوره،.. كما أنه كان مركز العبادة، والشركة، والأخوة التي تربط الشعب بإلههم، وببعضهم البعض،.. وهو المكان الذي يستطيع أن يتجه إليه خيال المنفي والمسبي، ومن ثم رأينا دانيال في السبي، وإن كان لا يراه بعينه المادية، أو يراه حطاماً في أورشليم، إلا أنه الرمز الذي تفتح في اتجاه الكوى، كمكان الغفران والتضرع والأمل،.. وقد أوضح الله لسليمان أن هذه المعاني جميعاً ستبقى ما بقيت الرابطة الروحية مع الله، فإذا تمسك الشعب الصورة المادية، فإن الله سيجعل إسرائيل مثلاً وهزأة في جميع الشعوب: "وهذا البيت يكون عبرة".. مجد الحكمة ومن العجيب أن امبراطورية سليمان ذهبت، وذهب معها الهيكل، تماماً كما ذهبت الامبراطورية الرومانية القديمة، وكنيسة أجا صوفيا، وبقيت حكمة سليمان في سفر الأمثال، والجامعة ونشيد الأنشاد، تماماً كما بقى القانون الروماني البيزنطي، والذي هو أبو القوانين الحديثة، وكان مفخرة جستينان عندما أمكنه تجميعه، ليحمي الحضارة الحديثة ويمدها بأعظم الصور القانونية في الأرض!!.. ومن الملاحظ دائماً أن الكلمة المكتوبة، أقوى من كل الأوضاع المادية، وأبقى وأخلد!!.. وإذا كان أبناء عصر سليمان، قد تعلموا الكثير من الحكمة في سعيهم إليه من هنا ومن هناك، من أبناء أمته أو الأمم الغريبة، كما سعت إليه ملكة سبأ، تستلهم منه الحكمة والمعرفة،.. فإن العصور بأكملها ما تزال إلى اليوم تنهل، وستنهل مما ترك سليمان في أسفاره الكتابية الثلاثة!!.. سليمان وتجاربه كان شكسبير يقول: إن الجهل في الحياة سبب كل تعاسة ومأساة، ولكن سليمان لم يكن جاهلاً، وقد سقط سقوطه الشنيع رغم حكمته العظيمة، لثلاث تجارب قاسية: دبلوماسية الحكم كانت الدبلوماسية في نظر چورچ ماثيسور، وهو يحلل شخصية سليمان هي السر في كل ما وصل إليه وأصابه،... وماثيسون يعتقد أن سليمان لم يجمع في قصره ألف امرأة لمجرد الشهوة الجنسية، مهما كانت رغبته فيها، بل أن سليمان نفسه والأمم الذي حوله بروابط سياسية، بهذا الجمع الحاشد من النساء، إذ جاء مع بنت فرعون بالموآبيات والعمونيات والأدوميات والصيدونيات والحثيات، وهو يخطط لذلك في الوصول إلى السلام مع جميع جيرانه، دون الحاجة إلى النزاع معهم ورفع السلاح في وجوههم!!.. كما أنه أراد أن يوحد الأمة من الداخل، وهو لا ينسى أن الأمة كانت أساساً تلتف حول عائلة شاول في سبط بنيامين. وأن الاتحاد الظاهري، يحمل في أطوائه جرثومة الانقسام التي لم تلبث أن ظهرت فيما بعد في أيام ابنه، وهو يريد أن يذيب كل انقسام وفرقة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يشغل الناس بالحصول على الثروة التي تغنيهم عن كل تفكير في نزاع داخلي ومن ثم عمد إلى التجارة فأنشأ أسطولاً ناجحاً وتبادل مع الأمم الذين حوله التجارة التي دفعت الأمة دفعاً قوياً إلى الأمام.. ومن ثم جعل -كما ذكرنا- الفضة في أورشليم مثل الحجارة، والأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة!!... وعندما ينشغل الناس بالثروة، ستنسيهم الثروة أي شيء آخر يمكن أن يكون موضوع اهتمامهم وانشغالهم على الإطلاق!!... بل لعله من الناحية الدينية قصد بأن يجمع الشعب حول الهيكل، إذ يصبون هناك حنينهم وأشواقهم وشركتهم، الأمر الذي أفزع خيال يربعام فيما بعد، فأراد أن يفصل إسرائيل عن يهوذا بتمثالي الذهب في بيت إيل ودان، ليمنع الشعب من العودة إلى أورشليم إلى الهيكل،.. وسقط سليمان في الفصل -بهذه الدبلوماسية- بين الحكمة النازلة من السماء، والحكمة النفسية الأرضية البشرية، ونسى سليمان أول درس في الحكمة أنها عطية الله، وليست ذكاء البشر!!.. ومن الغريب أن الرجل الذي قال: "توكل على الرب بكل قلبك وعلى فهمك لا تعتمد في كل طرقك أعرفه وهو يقوم سبلك".. لم يستطع أن يدرك هذه الحقيقة، وارتبط أول ما ارتبط بمصر وغيرا من الأمم، على العكس من القصد الإلهي والغاية من شعب الله نفسه،.. وحفر بذلك -وهو لا يدري- الهوة الواسعة التي تردي فيها أخريات حياته!!.. إن الحكمة الإلهية لمن يريد أن يأخذها هي أشبه الكل بالتيار الكهربائي سيظل قوياً جباراً متغلباً طالما كان مرتبطاً بأصل الكهرباء، فإذا انفصل عن هذا الأصل لأي سبب من الأسباب، فإنه يموت في نفس الدقيقة التي يتم فيها هذا الانفصال!!.. وقد حدث هذا -للأسف- في قصة سليمان، وأين سليمان الذي قيل عنه في مطلع حياته: "والرب أحبه" من سليمان الذي وصف في أخريات حياته: "فغضب الرب على سليمان"..! الترف واللذة كانت التجربة الثانية أمام سليمان تجربة الترف واللذة، وقد أفصح عن ذلك في الأصحاح الثاني من سفر الجامعة، على النحو العجيب الذي وصل إليه، وهل كان من المنتظر من الإنسان الذي قال في سفر أمثال لله: "أبعد عني الباطل والكذب لا تعطني فقراً ولا غنى أعطني خبز فريضتي لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب أو لئلا أفتقر وأسرق وأتذخ اسم إلهي باطلاً" هل كان من المنتظر وقد أغرق نفسه في الثورة بغير حدود، والتصق بالمحبة وبالعدو الهائل من الفساد، وبحث عن الشهرة هنا وهناك ألا تفعل حياة الترف واللذة فيه ما فعلت، فتحرقه كالشمعة، إذ يضعف أمام نسائه، فيملن قلبه ويبني لهن -إلى جانب هيكل الله- مرتفعات وثنية ليقدمن عليها ذبائحهن، ويموت في الستين من عمره، دون أن يتحقق له طول العمر، الوعد المشروط بالسير مع الله وفي صحبته، ولكنها حياة اللذة والترف التي كتب عنها في الأصحاح الأخير من سفر الأمثال: "كلام لموئيل ملك مسا علمته إياه أمه ماذا يا ابني ثم ماذا يا ابن رحمي ثم ماذا يا ابن نذوري لا تعطي حيلك للنساء ولا طرقك لمهلكات الملوك ليس بالموئيل ليس للملوك أن يشربوا خمراً ولا للعظماء المسكر لئلا يشربوا وينسوا المفروض ويغيروا حجة كل بني المذلة".. ومن المؤسف أن سليمان شرب من الكأس حتى الثمالة، ونسى كل المفروض عليه!!.. القسوة والعنف لقد بدأ حكمه وختمه بكل قسوة وعنف، لقد اعتقد أنه من الحزم أن يتخلص في مطلع حكمه ممن يظن أنهم سيقفون في طريق هذا الحكم، لم يوصه أبوه بقتل أدونيا أخيه، فعفا عنه حتى طلب أبيشج الشونمية الفائقة الجمال، وكان أدونيا -كما يعتقد الشراح- يقصد بخبث أن يعيد مركزه مع الشعب بأخذ امرأة أبيه وضمها إلى بيته، كما كانت عادة الملوك بضم النساء والسراري للملوك السابقين، ولهذا قال سليمان لأمه: "ولماذا أنت تسألين أبيشج الشونمية لأدونيا، فاسألي الملك لأنه أخي ولأبياثار الكاهن ويوآب ابن ضرويه".. وبطش سليمان بأخيه، وتحول أيضاً إلى يوآب، ثم بعد ذلك إلى شمعي بن جيرا، لكي يتخلص من كل من يمكن أن يكونوا مقاومين له في الخفاء أوالظاهر،.. ودفع سليمان الشعب إلى السخرة القاسية، وأقام له الرب في أخريات حياته الخصوم أمثال هد الأدوحي ورزون بن البيداع ويربعام بن نباط، وزرع سليمان بهذه القسوة والعنف ما حصده ابنه رحبعام بعد ذلك سريعاً!!.. كان سليمان حكيماً، ومع ذلك لم يستطع أن يدرك أن السيطرة الحقيقية للإنسان على آخر، لا يمكن أن تتم بالعنف والطغيان، بل بالرفق والمحبة!!.. وعجز الملك العظيم أن يصل إلى القلوب بمثل ما فعل من هو أعظم منه إذ استولى على قلوب تلاميذه وأتباعه بالمحبة العجيبة الفائقة الحدو!!.. سليمان ومصيره لا نستطيع أن نذهب ما ذهب إليه الكسندر هوايت في فقدان الرجاء في سليمان،.. من الحق أنه انحرف في أخريات حياته، وليس عن جهل، لقد تنكب الطريق، وانحرف وهو يعلم معنى الانحراف: "وكان في زمن شيخوخة سيلمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب كقلب داود أبيه".. لكن رجاءنا لا يرجع إلى شيء في سليمان نفسه بل إلى كل شيء في شخص الله، الذي وعد داود: "متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك أثبت مملكته، هو يبني بيتا لاسمي وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً إن تعوج أؤدبه بقضيب الناس، وبضربات بني آدم ولكن رحمتي لا تنزع منه كما نزعتها من شاول الذي أزلته من أمامك ويأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك كرسيك يكون ثابتاً إلى الأبد!!" ومع هذا الوعد ينصرف أساساً إلى بيت داود الذي سيبقى ثابتاً حتى يأتي منه المسيح مخلص العالم، حتى ولو تعوج بعض أبنائه، ممن سيعالج الله تعوجهم بالضربات والمتاعب والآلام،.. وإذ كان سليمان قد بنى المرتفعات لنسائه الغريبات، فمن المتصور أنه لم يسجد هو أمام هذه المرتفعات، وإنما فعل ليترك لهن حرية السجود كما يردن: وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن".. ومن المتصور أن سليمان كتب سفر الجامعة في أخريات حياته، وإذا كان الكسندر هوايت لم يستطع أن يكتشف توبة سليمان خلال أسفاره التي كتبها، فنحن على العكس من ذلك نرى رجلاً عاش وقتاً طويلاً يشرب من كأس العالم، محاولاً أن يرتوي من ملذاته الكثيرة المتعددة، ولكنه خرج باختباره المؤلم الحزين: "باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح".. ولعله -وهو يشرب من كافة المسرات والمباهج- قد تبين ما قاله السيد فيما بعد: "الذي يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية"... وهو شديد اليقين بالدينونة الأبدية: "افرح أيها الشاب في حداثتك وليسرك قلبك في أيام شبابك واسلك في طرق قلبك وبمرأى عينيك واعلم أنه على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة".. وقد ختم الجامعة بقوله: "فلنسمع ختام الأمر كله "اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله. لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي إن كان خيراً أو شراً"...كان لورد بيكون من أعلى الناس فهماً ودراية وعلماً وحكمة، وكان أشبه بالحكيم القديم سليمان في حكمته وفي سقوطه أيضاً، لكنه وجدوا في مخلفاته في النهاية صلاة مرفوعة إلى الله يقول فيها: "أيها الرب الإله الكريم، أبي منذ صباي، وخالقي وفادي ومعزي، وأنت الإله الذي تتغور إلى أعماق القلوب، وتفحص أسرارها، وأنت تعرف المستقيم القلب، وتحكم على المنافق، وتأتي بأفكار الناس وأفعالها إلى الميزان، وتقيس نواياها بالمقياس الدقيق، ولا يمكن للطرق المتلوية أن تختفي عن عينيك، لقد أحببت يا رب محافلك، ونحت على الانقسامات في كنيستك، وسررت ببهاء مقدسك، وقد جعلت مخلوقاتك كتبي، ولكن الكتب المقدسة كانت قراءاتي، وقد بحثت عنك في دور القضاء، والحقول، والحدائق ووجدتك في هيكلك.. إن خطاياي تعد بالألوف، وتعدياتي بعشرات الألوف أيضاً، ولكن تطهيرك بقى لي، والتهب قلبي كالجمرة التي لم تطفيء بنعمتك على مذبحك،.. وكما تزايدت أفضالك عليَّ تزايدت أيضاً تصحيحاتك، وكلما كثرت امتيازاتي العالمية، كثرت سهامك السرية المصوبة إليَّ، وكلما ارتفعت أمام الناس تهاويت في وضاعتي أمامك، وأعترف أنني إلى جانب خطاياي التي لا تحصى مدين لك بالوزنات والنعم التي أغدقتها على، والتي لم أضعها في منديل، أو أستثمرها، بل استخدمتها أسوأ من ذلك فيما لا يفيد، حتى أضحت نفسي غريبة في بيت سياحتي،.. يا رب ارحمني، واهدني في طرقك، ثم خذني بعد ذلك إلى مجدك!!.. كان الكسندر هوايت يتمنى فيما يقدر أن يجد شيئاً من مخلفات سليمان يمكن أن يكون مثل هذه الصلاة، ونحن نعجب كيف لم يتنبه الواعظ الكبير، إلى الروح الغالبة في الجامعة، روح الإحساس العميق بالأسى والألم والبطلان في كل ما يمكن يخلف المجد العالمي، في أعماق النفس البشري، والصرخة الباكية في كل العصور: "باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح" روح الإفلاس الذي لم يعد يقدره الإنسان يجمعه سوى في تقوى الله وحفظ وصاياه: "لأن هذا هو الإنسان كله".. أجل ومرة أخرى إن رجاءنا في مصير سليمان لا يرجع إلى مجرد التمني ألا يضيع كاتب الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد، وبعض المزامير التي غنت للأجيال بمجد من هو أعظم من سليمان، وملكوته الأبدي الذي لا ينتهي،.. لكن الرجاء ينصب أولاً وأخيراً في وعد الله بالتأديب بقضيب الناس، وضربات بني آدم، دون انتزاع الرحمة من ذاك الذي قال أكثر من مرة، وهو أرحم الراحمين: "هوذا أعظم من سليمان ههنا"... له المجد الدائم الأبدي آمين.
المزيد
05 مايو 2022

شخصيات الكتاب المقدس سارة

سارة «إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر... قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك» مقدمة لا أعلم أن هناك إنساناً على الأرض يتمنى في حياته أن يكون دميمًا، أو عاطلاً من أي جمال، إذ يحب كل مخلوق في الأصل، أن يكون جميلاً، والجمال هو الأساس في هذا الكون، في الطبيعة والحياة، لأنه خرج من إله جميل، يعكس صورته الرائعة فيما يبدع أو يصنع، ولذا لا عجب أن تكون الكلمة المتكررة في قصة الخلق «ورأى الله كل ذلك أنه حسن» كما ختمت بالقول: «ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا».وما اقترب مخلوق أو إنسان من الله، الا وأضحى جميلاً، كمثل ما وصل إليه موسى من جمال أخاذ، مبهر، غير عادي، بعد أن صعد إلى الله، وبقى في حضرته العلية هناك أربعين يومًا في الجبل المقدس، والإنسان، وقد تملكه على الدوام حب الجمال، لا يألو جهداً - يدري أو لا يدري - أن يكون أشبه بالكاتب الفرنسي الكبير ديماس الذي إذ ولد أسمر اللون، أصر على أن يعيش أبيض بما يضفي على حياته من جمال وجلال وشخصية، ومن ثم نرى الناس تهرب من القبح، وتحاول أن تخفي البقع أو العيوب، بالمحاولات التي لا تنتهي من أسباب التزيين والتجميل، في المظهر والملبس، وما أشبه مما تراه في كل زمان وكل مكان حيث يوجد الناس على ظهر هذه الأرض...وإذا كان الجمال قد أحدث هذا الأثر أو الجهد في حياة الناس، فإنه يقف من الوجهة الأخرى، وراء أقسى ما عرفه الإنسان من تجارب وخطايا وأثام وآلام ومجازر وحروب في التاريخ البشري.. ومن الغريب أن الناس تقرأ قصة سارة الجميلة، والجميلة جدًا، دون أن تتلفت أو تتأمل في أثر هذا الجمال من وجهتيه القويتين في حياتها.. وأغلب الظن أنهم يفعلون ذلك، لأن جمال سارة رغم أنه مفتاح حياتها ومحور كيانها وشخصيتها، إلا أنه دائمًا يقع في الظل، إذ أن شخصية إبراهيم زوجها، لم تعط الناس الفرصة الكافية الكاملة، للتحديق، والتدقيق، في هذا الجمال الأنثوي الرائع، ولعلنا اليوم نستطيع أن نتأمله كما جاء في القصة الكتابية من ثلاث وجهات. سارة وروعة جمالها مما لا شبهة فيه أن سارة كانت واحدة من أعظم الجميلات اللواتي ظهرت على هذه الأرض، والشيء العجيب والمثير حقًا، أن المصورين لم يتعرضوا بأعمال الخيال، في صورهم التي خلدوا بها بعض السيدات، أمام عقول وأفكار الناس، لأم المؤمنين، ليخرجوها في هذه الصورة أو تلك، على ما كانت عليه من جمال أدار الرؤوس، في كل مكان ذهبت إليه، وقد يكون هذا كما أشرنا، إلى وجودها على الدوام، في ظل زوجها، الذي استرعى كل الانتباه، كما أنها في طبيعتها، وعلى عكس المألوف في الجميلات، كانت لا ترغب في الظهور، أو لفت النظر إلى هذا الجمال إذ هي ساكنة إلى خيمتها، منزوية فيها، لا تظهر أمام الآخرين، كما جاء في جواب إبراهيم على سؤال مولاه: «أين سارة امرأتك، فقال ها هي في الخيمة».ومهما كان الأمر فمما لاشك فيه إنها كانت واحدة من أجمل بنات جنسها في عصرها، وفي كل العصور كان جمالها، الجمال الكلداني الذي جاء من وراء آرام النهرين، الجمال الذي كان يلفت النظر لكل من يقترب منه أو يتطلع إليه، الجمال الذي كان ولاشك معروفًا لديها، فلم تكن تجهل حقيقة جمالها، أو عظمة هذا الجمال، الجمال الذي كان يدركه إبراهيم إدراكًا عميقًا في قوله: «أني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر».... الجمال الذي رآه المصريون: «فرأوا المرأة أنها حسنة جداً، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون».. أو هو الجمال الذي لم يكن في نظرهم يليق بأقل من الملك نفسه، كما أن أبيمالك ملك جرار كان على ذات الفكرة عندما رآها «وأراد أن يتخذها لنفسه زوجة»... على أي حال فان المرء لا يمكن أن يمر بقصتها، دون أن يذكر في الحال، أنها من ذلك الصنف الطويل المبهر الذي لا ينتهي، في الجميلات المؤمنات، اللواتي أعدن الجمال إلى صاحبه، وخالقه، وكرسنه في الحياة أو الموت لمجد الله،.. عندما وقف الضابط الروماني في قصة اندروكليس يحاول أن يمنع الفتاة المسيحية من الاستشهاد، وهو يقول إن جمالها هذا لا ينبغي أن يذهب نهبة الضياع، والهلاك، والموت، وهي تتعلق بأمل، قد لا يكون موجودًا عن عالم آخر! أما هي فقد أجابته بنبل وشهامة.. إن الله استولى على جمالها!! وإنها ستذهب إليه، لأنها ستجد هناك جمالاً أبهر وأعظم وأمجد!! وكانت الفتاة على حق، فإن جمال الجسد أي جسد كان، هو لله، قبل أن يكون لصاحبته، أو لزوج من الأزواج بين الناس، وأن هذا الجسد، مهما بلغ من الروعة والعظمة والمجد، سيبقى جسدًا ترابيا حيوانيًا، حتى يبلغ ما ذكره الرسول في قوله: «وأجسام سماوية، وأجسام أرضية لكن مجد السموات شيء ومجد الأرضيات آخر... هكذا أيضًا قيامة الأموات يزرع في فساد ويقام في عدم فساد، يزرع في هوان ويقام في مجد، يزرع في ضعف ويقام في قوة، يزرع جسمًا حيوانيًا ويقام جسمًا روحانيًا».. وهذا ما تعرفه المسيحية بخلاص الجسد.. فإذا كان المسيح يخلص أرواح المؤمنين، غداة انتقالها من الجسد إلى الله، فان خلاص الجسد ومجده الأعظم لابد أن يتحقق في صبح القيامة في اليوم الأخير!! واذا عن لواحد أن يسأل عن الفرق بين هذا وذاك، ونسبة الامتياز في الأخير عن الأول من حيث الجلال والمجد، فعليه أن يذكر ما أشار إليه الرسول بولس من فارق بين حبه الحنطة والشجرة الجميلة الخضراء المثمرة والمنبثقة عنها... على أن سارة كانت إلى جانب جمال شكلها، على حظ وافر وكبير من جمال العقل، قال أحدهم إذ قرأ بعض كتابات جون رسكن، يا لهذا الرجل من عقل جميل، ومع أن سقراط كان دميم الخلقة، إلا أنه كان جميل العقل جبار التفكير، والمرأة التي تجمع إلى جمال شكلها، جمال العقل،.. تعتبر بحق امرأة ممتازة بين الناس،.. وجمال سارة من هذا القبيل، إنها عاشت على الدوام تأخذ مكانها إلى الخلف من إبراهيم تطيعه داعية إياه سيدها، ولم يكن هذا مما يقلل مركزها، أو يفقدها مكانتها من الإجلال والاحترام، بل بالحري، يعظمها ويكرمها، وفي الوقت نفسه ينظم العلاقة الوظيفية بينها وبين زوجها، فيأخذ هو مركز القيادة، وتأخذ هي مركز الدفع الخفي والخلفي، المتاح لها، في دفع القافلة إلى الأمام، في الرحلة التي خرج كلاهما ليكونا رائديها وأبويها على مر العصور والأجيال، وقد كان إبراهيم الرحالة الأول في سبيل الإيمان، سعيدًا كما قال أحدهم: لأنه في رحلته الخالدة لم يجد امرأة تكثر الأسئلة وهو ينقل من مكان إلى مكان، ولا ينبغي أن يتصور أحد أن مرجع هذا كله، أنها كانت ضحلة التفكير سطحية التأمل، بل على العكس تمامًا أن تفكيرها وذكاءها، كانا محسوبين عليها، كما سنرى فيما بعد، عندما دفعت هاجر إلى حضن إبراهيم، فسقطت فيما يسقط فيه الأذكياء من الاعتماد على الفكر أو الرأي، دون الانتظار لإرادة الله الأعلى والأسمى، وفي غير هذا الأمر، كانت وستبقى المثل العظيم، للمرأة الفاضلة التي تبني بيتها، بالحكمة المضاعفة، حكمة من يعمل ولا يظهر ويدفع ولا يبين، ويؤثر ولا يفتخر،.. زوجها معروف في الأبواب حين يجلس بين مشايخ الأرض، كما يقول الحكيم سليمان، وليس مهملاً أو متروكًا أو منتقص القدر أو الكرامة، كما تفعل الكثيرات من الجميلات، تعاليا أو كبرا أو بدعوى أن الزوج ليس مثل إبراهيم في قوة الشخصية، أو عظمة حياته، أو جلال تدبيره، اذ أن هذا الفرض أن صح وجوده، لا يبرر ظهور امرأة على الرجل، أو دفعه إلى الخلف بأية حركة، بل العكس هو الصحيح، اذ يضاعف من جهدها، في تغطيته بحكمة، متى ظهر منه النقص والعورة والضعف والقصور، وكم لعبت نساء حكيمات مثل هذا الدور في كل العصور، حتى يقال بحق خلف كل رجل عظيم امرأة عاقلة!! على أن جمال الروح أعظم من جمال البدن، والعقل عند هذه الأم العظيمة القديمة!!.. قالت الفتاة المأخوذة بروعة جلستها مع سيدة عظيمة: يا سيدتي إني مستعدة أن أعطي العالم كله، إذا كان لي أن أحصل على مثل هذا البهاء والجمال المتوفرين لشخصك، والظاهرين في حياتك والمرسومين على وجهك، وأجابت الأخرى بكل هدوء ورصانة! وهذا يا بنيتي، هو الثمن الذي دفعته بالضبط للحصول على ذلك، وما من شك بأن سارة يحق لها أن تقول مثل هذا القول إذ إن جمال روحها كان واضحًا من اللحظة الأولى التي خرجت فيها مع زوجها العظيم في رحلته الخالدة، إلى حيث لا يعلم إلى أين يأتي، ولا شبهة في أنها وهي تطوح بالعالم القديم خلفها، لتكون أما لجميع الخالدين من المؤمنين، كانت تكشف عن روح من أجمل الأرواح التي عاشت على ظهر الأرض بين الناس، كانت سارة واحدة من أعظم الحالمات بالرؤى العظيمة، اذ عاشت سنوات طوالاً، تحلم برؤيا أمم وممالك وشعوب، تخرج من أحشائها وتبارك كل الأرض، وما من شك بأن هذه الرؤيا رسمت، تدري أو لا تدري، أروع وأمجد مظاهر الجلال والجمال في حياتها ونفسيتها العظيمة، وليس هناك فيما أعتقد، ما يعطي الإنسان جمالاً، أو يضفي عليه من مسحة نورانية قدر تملكه لرؤيا عظيمة، أو حلم كبير! ان الرؤيا أو الحلم يصنع للإنسان جناحين عظيمين يحلق بهما على ارتفاع من كل ضيق أو سأم أو ملل أو تعب أو شك ويرقي به فوق كل ما يعكر النفس، ويهزم المشاعر، ويحطم الآمال، وأصحاب الشباب الخالد، هم الذي علت أحلامهم على واقع الحياة المضطربة بالمآسي والمفشلات والمتاعب والدموع، كانت سارة امرأة غنية ولو قيس ما عندما من ذهب وثروة بمقاييس عصرنا الحاضر، لكانت من أولئك الذين يطلق عليهم في عالمنا بأصحاب الملايين، لكني اعتقد أن غناها الحقيقي لم يكن فيما تملك من مادة، بل فيما وصلت إليه من إيمان، اذ قيل: «بالإيمان سارة نفسها أيضًا أخذت قدرة على إنشاء نسل وبعد وقت السن ولدت اذ حسبت الذي وعد صادقًا».. كانت سارة غنية في روحها بالإيمان بالله!.وإلى جانب هذا كله لم تعرف المرأة الجميلة قط، حياة الشموخ، أو التعالي، أو الكبرياء، بل على النقيض كانت زينتها الحقيقية الروح الوديع الهادي، الذي هو قدام الله كثير الثمن، كانت هذه المرأة - اذا جاز التعبير - ذات جسد من لجين، أو فضة كما يقولون، وعقل من ذهب، وروح درية، ينطبق عليها حقًا قول الحكيم القديم «امرأة فاضلة من يجدها لأن ثمنها يفوق اللآليء». سارة وتجارب جمالها وهل يمكن أن يوجد في الوجود جمال، دون أن يخلق في عالمنا هذا، عالم المتناقضات، الكثير من المتاعب والتجارب، ولعل أول تجربة لهذا الجمال تجربة القلق والخوف، كان إبراهيم كرحالة، يخشى، كما هو متصور، من الاعتداء على كل ثمين وغال عنده،... إذ ليس لمعدوم أن يخشى متابعة سارق أو مطاردة لص ولكن إبراهيم لم يكن معدمًا، بل كان رجلاً واسع الثراء، غنيًا جدًا، على أن أغلى ما كان يملك، لم يكن متاعا أو شيئًا، بل شخص زوجته الجميلة الحسناء، اذ كانت هي وحدها في كفة، وكل ذهبه، وفضته ومقتنياته في الكفة الأخرى،.. وكان إبراهيم يخاف على زوجته، أكثر من كل ما يقتني بل أكثر من حياته هو أيضًا، ولم يكن اتفاقه مع زوجته، على أن تذكر أنها أخته في كل مكان يقصد حماية حياته هو، بل أنه وقد أحبها حبًا عميقًا، كان يقصد أن يعيش من أجلها كما هو ظاهر من قوله: «وتحيا نفسي من أجلك» كانت سارة في الأصل اسمها «ساراي» أو «أميرتي» وكانت أشبه بالدرة أو التاج على مفرق الرجل، كانت أميرته المحبوبة والعزيزة عليه، وكان جمالها غير عادي يثير خوفه وفزعه، كما يخاف الإنسان على اللبن النقي من أن تعلق به أوساخ أو ذرات من التراب، وهذا في الواقع مجد الجمال، وخطورته أيضًا، فهو على قدر ما يريح العين لصاحبه، يثير الرغبة والشهوة في نفس الكثيرين، ومن الوقت الذي صاح فيه لامك لامرأتية عادة وصلة «اسمعا قولي يا امرأتي لامك، واصغيا إلى كلامي، فاني قتلت رجلا لجرحي وفتي لشدخي» ويقال أن ذلك كان بسبب تعرض آثم لحياته الزوجية،.. إلى الوقت الذي يضيع فيه آمنون أخته وضاع في أثرها،... إلى حروب تروادة من أجل هيلين اليونانية الجميلة... إلى قصص لا تنتهي، في كل جيل وعصر، سيبقى الجمال في القمة بين أعظم أسباب المتاعب والشرور والمخاوف والمجازر والآلام البشرية، على أنه إذا كان الجمال تجربة بهذا المعنى، والتجربة تقتضي أن يواجهها الإنسان بكل تأمل وحرص، إلا أن التجربة تتجاوز حدها، إذا تحول هذا التأمل والحرص، إلى القلق والخوف والفزع، وهذه مأساة الإنسان ومحنته الدائمة في الأرض، كان إبراهيم يعلم من اللحظة الأولى، أنه يسير كغريب في الأرض في كنف الله وحمايته ورعايته، وأنه لا يستطيع أن يحرس نفسه أو زوجته، دون سند من الله أو عونه أو ستره أينما اتجه أو سار أو تولى.. وكان وهو أبو المؤمنين، عليه وأن يعلم أنه يسلك على الدوام بالإيمان لا بالعيان، ومن ثم كان خليقًا به وبزوجته، ألا يلجأ إلى ما اتفقا عليه من ذكر نصف الحق وليس الحق كله، بأن تذكر سارة أنها أخته، وتتحاشى أن تشير إلى أنها زوجته، ومرات كثيرة ما يكون نصف الحق، أبشع من الباطل والافك والكذب بعينه، وإذا كان الله قد أفهمها بوضوح، عدم رضائه على ما فعلا في مصر، وكيف تدخل بالضربات العظيمة على فرعون وبيته لينقذهما من آثار ما أقدما عليه من حكمة بشرية كاذبة، فكيف يمكن تفسير تكرار الأمر نفسه في جرار بعد سنوات كثيرة من الحادثة الأولى، وبعد توالي معجزات الله العظيمة في حياته، والتي علمته بما لا يقبل الشك أن قوته ترجع أولاً وأخيرًا، إلى يد الله القوية المتداخلة في رعايته وحراسته، على أي حال أن طبيعتنا البشرية الراهنة تردنا بين الحين والآخر إلى إدراك، مدى الوهن والضعف الذي نحن عليه، والذي يمكن أن تتعرض إليه، حتى ولو كنا في مجد الحياة، وجلال السمو، نحلق في آفاق الإيمان العظيمة المرتفعة، وأكثر من هذا فأنه عندما تكثر الخطية، تزداد النعمة، وأن التجارب التي تحيط بنا كان يمكن أن تضيع تاريخنا وتمحو إيماننا، لولا يد الله الرحيمة التي تمتد إلينا عند ما نشرف على الغرق، أو نقترب من الهلاك والهاوية!! كما ينبغي أن نعلم أن نصف الحق أو الكذب الأبيض، أو ما إلى ذلك من صور، قد تنتهي بالإنسان إلى عكس ما كان يحلم أو يشتهي أو يتصور، فيلحق بقائله ما لحق بإبراهيم من هوان وتوبيخ على يد فرعون وابيمالك الوثنيين، إن مزج الاتكال على الله بالحكمة البشرية ومحاولة الربط بينهما، كثيرًا ما أديا إلى نتائج، لولا رحمة الله لكان من الصعب أو المستحيل تدارك آثارها المفجعة الرهيبة!! ويظهر هذا على وجه الخصوص في التجربة الثانية، تجربة التأثير البشري المتولد عن سلطة الجمال وقوته! نحن نعلم أن الجمال كثيرًا ما يلعب بالرؤوس، ويثير المشاعر، ويسلب ألباب الناس، بسحره القوي، وسلطانه العظيمة، ولا أعلم إلى أى مدى، كان إبراهيم واقعًا تحت سلطان جمال امرأته العظيم، لكنني أعلم على أي حال، ان إبراهيم لم يبدأ في التفكير في قصة ارتباطه بهاجر، بل أن القاريء المتعمق للقصة الكتابية يرى أن هذه الفكرة بدأت واختمرت في ذهن سارة، وأن إبراهيم كان مترددًا كل التردد تجاهها حتى خضع لرأي زوجته، والمفسرون مختلفون في هذا الأمر إلى حد كبير، فما هو الدافع ياترى لهذه الفكرة التي سيطرت بشدتها وعنفها على سارة حتى الزمت إبراهيم أن يخطو خطواته التنفيذيه فيها.. هل يرجع الأمر إلى أن هذه المرأة الجميلة، بلغ جمالها زروته في نكران الذات، وهي اذ عجزت عن أن تأتي لإبراهيم بابن الموعد، طلبت أ ن يأتي عن طريق آخر، عن طريق جاريتها هاجر، أم أن الأمر على العكس من ذلك، كما يتصور البعض، إذ أنها الكبرياء، التي نهضت في أعماق المرأة ورغم وداعتها، لتحصل على الولد بأي ثمن، وحيث أن النظام المتبع في تلك العصور، إن ابن الجارية يحسب لها، دفعت جاريتها إلى حضن زوجها ليأتي لها بالابن المنشود المرتقب، أم هي كما يرى آخرون نوع من الحكمة الواهمة، التي تحاول بالتحايل أن تحصل على ما ترغب أو تريد عن طريق الذكاء والفهم وإعمال الفكر البشري، أم هي الحيرة التي تتخبط هنا وهناك عندما لا يسعفها الصبر، فتأتي من الأعمال مالم تكن تشتهي أن تطلب أغلب الظن أن سارة لم تكن تعرف بالتمام أن الطبيعة البشرية تتشابك عواطفها كأشجار الغابة، فلا تكاد تعرف تمامًا حقيقة الوازع أو الدافع، خلف مختلف الأعمال التي تقوم بها أو تنتهجها، على أي حال مهما كان الدافع أو الوازع فان سارة قالت لابرام هوذا الرب قد أمسكني عن الولادة، أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين فسمع أبرام لقول ساراي فأخذت سارة امرأة ابرام هاجر جاريتها بعد عشر سنين لإقامة ابرام في أرض كنعان وأعطتها لابرام رجلها زوجة له» وتم للمرأة ما يفرضه الجمال من سلطان وقوى على الكثيرين من الأزواج بين الناس. والتجربة الثالثة لما يمكن أن يفعله الجمال تجربة القسوة التي نراها في قصة سارة تجاه زوجها، وجاريتها، وإسماعيل الصغير معا، أما زوجها، فقد أخذت تحمله ظلما هي السبب فيه، ونتائج، لو أنصفت لأدركت أنها هي، وليس هو، الأساس والمصدر لكل ما وصلا إليه، أما جاريتها، فقد أذلتها، حتي هربت أولا، ثم طردت مع ابنها ثانيًا، الذي كاد يصل إلى الموت عطشًا عندما تاهت في برية سين، ومع أن لله في كل هذا إرادته العليا، وحكمته الخالصة، وأنه وحده قادر أن يستخلص، من مقاصد الناس ونواياهم ودوافعهم المتباينة ما يتمم به مشيئته العليا، وإرادته الأزلية، إلا أن ما يعينيا ههنا، أن المرأة الجميلة قد تتحول لأسباب كثيرة، إلى الأنثى الطاغية، التي تخرج عن رقتها وهدوئها، فتتحرك لتفعل بأسلوب مباشر أو غير مباشر ما يتردد الرجل مرات كثيرة عن اتيانه، أو الإقدام عليه!! سارة ومجد جمالها على أنه إلى جانب هذا كله، فمما لاشك فيه أن جمال سارة بلغ ذروته الحقيقية، ومجده الأعلى، في السنين الأخيرة من حياتها عندما استوى ونضج، وتجاوز حد التجارب، وخلفها وراءه، كانت المرأة الكبيرة، أشبه بقرص الشمس الذهبي، عندما يأخذ سبيله لحظة الشفق إلى الغروب، لقد تطهر جمالها واتسع، وخلا من البقع المتناثرة، التي علقت به في وسط التجارب التي ألمت به كما أسلفنا في رحلة الحياة،..فقد عاشت سارة في السنوات الأخيرة من عمرها تتوفر على تربية اسحق ابنها، مع إبراهيم أبيه، والبادي أن اسحق أخذ منها الكثير، مما طبع عليه من حياة الهدوء والسلام، مما جعله أقرب إليها من أبيه، كما أن أسحق أعطاها بمولده ومجيئه بعد تسعين عاماً من عمرها، الابتسامة التي ارتسمت على وجهها وأضاءت حياتها بأكملها، حتي أنها اسمته اسحق أي ضحك، تعبيرًا وتجسيدًا للبهجة والسرور والإشراق، التي تغلغت في حياتها، مما لم تكن عرفته واختبرته من قبل، على امتداد السنين الطويلة قبل مولده، لقد عرفت قبل اسحق جمال الشكل، والعقل، والروح، ولكنها بعد ميلاد ابنها، عرفت جمال الأمومة على نحو كان من العسير أن تدركه في معناه الصحيح، لو عاشت عاقرًا فاذا جاءت بناتها فيما بعد، على مختلف العصور والأجيال، يرين في العقم عاراً وذلة وهواناً مثل راحيل، وحنة، واليصابات، وغيرهن، تبين لنا إلى أي مدى توج جمال سارة بهذا اللون البهيج العظيم، مما تفخر به المرأة، جمال الأمومة، على أن هذه المرأة لم تقف عند جمال الأمومة القاصرة على أسرة محدودة أو بيت، لقد تحولت من «ساراي» أميرتي إلى سارة «أم الجماهير» لقد زها نورها عن أن يلمع في مجرد بيت أو أسرة أو شعب، ليمتد إلى أحشاء الزمن، ويتغلغل في جنبات التاريخ لتضحي أم القديسين والقديسات، من بيوت وأسر وأمم وشعوب، واتسعت هالة نورها، على نحو ربما لم تعرفه امرأة أخرى، سوى مريم العذراء، التي ولد منها المسيح سيدنا وربنا مخلص العالم! على أبواب مغارة المكفيلة أودع إبراهيم ميته، ليشتري الحقل والمغارة، قبل أن يدفن جثمانها المسجي، وهل لنا أن نلقي نظرة أخيرة على هذا الجمال العظيم المتألق، الذي لم تستطع الشيخوخة أن تنال منه، بل لعلها أعطته مسحة من القداسة التي بقيت في ذهن الرسول بطرس عندما قال: «فإنه هكذا كانت النساء القديسات أيضًا المتوكلات على الله يزين أنفسهن خاضعات لرجالهن كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها التي صرتن أولادها صانعات خيرًا وغير خائفات خوفاً البتة»...
المزيد
29 أبريل 2022

ما هي أهمية قيامة المسيح؟

الجواب تعتبر قيامة المسيح مهمة لعدة أسباب. أولاً، لأنها تشهد عن قوة الله العظيمة. فالإيمان بالقيامة يعني الإيمان بالله. فان كان الله موجوداً، وقد خلق الكون وله السلطان عليه، إذاً يكون له السلطان على إقامة الأموات. وإن لم يكن له هذا السلطان، فهو غير ولا يستحق إيماننا أو عبادتنا. فالذي خلق الحياة ويستطيع إقامة الموتى، هو الوحيد القادر أن يغلب الموت، وهو الوحيد الذي يستطيع أن ينزع شوكة القبر وينتصر عليه (كورنثوس الأولى 15: 54-55). فبإقامة يسوع المسيح من الموت، يذكرنا الله بسلطانه المطلق على الحياة والموت.قيامة المسيح مهمة أيضاً لأنها تثبت مصداقية ما قاله المسيح عن نفسه من يكون، وبالتحديد، أنه إبن الله والمسيا المنتظر. وبحسب ما قاله المسيح، فإن قيامته من الموت كانت "علامة من السماء" تثبت مصداقية خدمته (متى 16: 1-4). لقد شهد المئات من شهود العيان على قيامة المسيح (كورنثوس الأولى 15: 3-8)، وتعطينا قيامته دليل لا يدحض على كونه هو مخلص العالم.سبب آخر لأهمية قيامة الرب يسوع المسيح هو أنها تثبت طبيعته الإلهية وكونه بلا خطية. تقول كلمة الله أن "قدوس الله" لن يرى فساداً (مزمور 16: 10)، ويسوع لم يرى فساداً أبداً، حتى بعد موته (أنظر أعمال الرسل 13: 32-37). وعلى أساس قيامة المسيح كرز الرسول بولس قائلاً: "فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنَّهُ بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا وَبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى" (أعمال الرسل 13: 38-39).ليست قيامة المسيح إثباتاً لمصداقية ألوهيته فقط؛ بل تثبت أيضاً مصداقية نبوات العهد القديم التي تنبأت بآلام المسيح وقيامته (أنظر أعمال الرسل 17: 2-3). كما أن قيامة المسيح تثبت ما قاله بأنه سوف يقوم في اليوم الثالث (مرقس 8: 31؛ 10: 34). لو لم يكن المسيح قد قام، فلا رجاء لنا أن نقوم نحن أيضاً. في الواقع، بدون قيامة المسيح ليس لنا مخلص أو خلاص أو رجاء للحياة الأبدية. وكما قال بولس الرسول، يكون إيماننا "باطلاً"، والإنجيل بلا قوة، وخطايانا بلا مغفرة (كورنثوس الأولى 15: 14-19).قال الرب يسوع: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ" (يوحنا 11: 25)، وفي هذه العبارة يقول أنه هو مصدر كليهما. لا توجد قيامة بمعزل عن المسيح، ولا حياة أبدية. المسيح يعمل أكثر من أن يمنح الحياة؛ هو نفسه الحياة، ولهذا لا يملك الموت سلطاناً عليه. ويسوع يمنح الحياة لمن يثقون به، حتى نستطيع أن نشترك معه في إنتصاره على الموت (يوحنا الأولى 5: 11-12). فنحن الذين نؤمن بالرب يسوع المسيح سوف نختبر القيامة شخصياً لأن لنا الحياة التي يمنحها لنا المسيح وقد غلبنا الموت. من المستحيل أن يغلبنا الموت (كورنثوس الأولى 15: 53-57).الرب يسوع المسيح هو "بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ" (كورنثوس الأولى 15: 20). بكلمات أخرى، قاد المسيح طريق الحياة بعد الموت. وقيامة المسيح مهمة كشهادة على قيامة البشر، التي هي أحد الأعمدة الأساسية في الإيمان المسيحي. فالمسيحية تنفرد بأن مؤسسها قهر الموت ويعد كل أتباعه أن يكونوا مثل سيدهم. كل الأديان الأخرى التي أسسها رجال أو أنبياء كانت نهايتهم في القبر. أما نحن كمسيحيين فنعلم أن الله صار إنساناً، ومات عن خطايانا، وقام في اليوم الثالث. ولم يستطع القبر أن يوقفه. وهو حي ويجلس اليوم على يمين الآب في السماء (عبرانيين 10: 12).تقدم كلمة الله ضمان قيامة المؤمن عند مجيء المسيح لإختطاف الكنيسة. وهذا اليقين ينتج عنه ترنيمة إنتصار عظيمة يكتبها الرسول بولس في رسالة كورنثوس الأولى 15: 55 "أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (أيضاً هوشع 13: 14). إن أهمية قيامة المسيح لها تأثير على خدمتنا للرب الآن. يختم الرسول بولس خطابه حول القيامة بهذه الكلمات: "إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ كُونُوا رَاسِخِينَ غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ" (كورنثوس الأولى 15: 58). فلأننا نعلم أننا سوف نقام إلى حياة جديدة، يمكننا إحتمال الإضطهاد والخطر لأجل المسيح (الآيات 30-32)، مثلما تحملها الرب يسوع. وبسبب قيامة المسيح، إستبدل الآلاف من الشهداء المؤمنين عبر التاريخ حياتهم الأرضية طوعاً بحياة أبدية وموعد القيامة من الأموات.القيامة هي الإنتصار والغلبة المجيدة لكل مؤمن. لقد مات المسيح، ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مدون في كلمة الله (كورنثوس الأولى 15: 58). وهو سيأتي ثانية! سوف يقام الموتى في المسيح، والأحياء وقت مجيئه ستعطى لهم أجساد جديدة وممجدة (تسالونيكي الأولى 13:4-18). فما سبب أهمية قيامة المسيح؟ إنها تثبت من هو يسوع. كما توضح قبول الله لتضحية المسيح من أجلنا. وتثبت قدرة الله على إقامة الأموات. وتؤكد لنا أن أجساد الأموات الذين يؤمنون بالمسيح لن تظل مائتة، ولكنها سوف تقام إلى الحياة الأبدية.
المزيد
28 أبريل 2022

شخصيات الكتاب المقدس زوجة فوطيفار

زوجة فوطيفار «أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف» مقدمة لست أعلم لماذا جاءت هذه القصة مبكرة علي الصفحات الأولى من كتاب الله ولماذا حرص الوحي على أن يوردها على هذه الصورة على المسرح رغم ما فيها من دقة وقسوة وحساسية!!؟ هل يرجع الأمر إلى أن قضية الجنس هي واحدة من أهم القضايا وأعمها بين بني الإنسان إلى الدرجة التي جعلت عالم النفس الكبير فرويد يرد كل شيء في حياة البشر إليها!!؟ كما أن كتاب التاريخ والقصصيين والمثالين والمصورين والممثلين على شتى مسارح الدنيا يكادون في كل مكان وزمان يمدون الأصبع جميعًا ويشيرون إلى المثل الشائع المعروف: فتش عن المرأة!!.. أم لأن الصورة كما رسمتها القصة القديمة جاءت حافلة بأعمق الألوان في النور أو الظل على حد سواء. فاذا كانت أساطير اليونان، وهي تعرض لنا قصة هرقل ممن يعدونه أعظم أبطال اليونان، وكان عبدا لأحد الملوك، قد جلس على قارعة الطريق محزونًا متضايقًا مكروبًا في صدر شبابه، واذا بفتاتين حسناوتين تتقدمان إليه.. الأولى بحياة ممتلئة بالبهجة والرخاء والمسرة واذا يسألها عن اسمها تجبه أنا اللذة، وإن كان الأعداء يلقبونني آسم آخر هو الرذيلة!!... أما الثانية فقد أصدقته القول بأنها لا تستطيع أن تعطيه ما زعمت أو ادعت الأخرى إلا أنها يمكن أن توفر له حياة أفضل وأجمل متعة وممتلئة بالكفاح والحق والبطولة والشرف، واذ سألها ما اسمها أجابت: «الفضيلة!!.. ورفض هرقل نداء الرذيلة، ليسير في صحبة الفضيلة كل أيام حياته، ويضحي صديق البائس والمنكوب والمعوز والمحتاج والبطل الأسطوري الأعظم عند اليونانين جميعًا وهوذا أعظم من هرقل ههنا! هذا يوسف الذي صاح صيحته المدوية، وهو عبد في مواجهة التجربة، كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطيء إلى الله!! على أن القصة من الجانب الآخر، تعرض كيف يكسب الشر المعركة، ولكنه مع ذلك يخسر الحرب، كما حدث مع الشاب القديم الذي خرج من الحبس لا ليستمتع بحريته فحسب بل ليعوض عما ناله من حيف وظلم على الصورة التي أضحت مع الزمن مثلا وعظة وعبرة لكل من يريد أن يتعظ ويتعلم ويعتبر وها نحن نعرض القصة من جوانبها التالية: الزوجة وسر التجربة من الأقوال المأثورة للفيلسوف سينكا: إن الإنسان لا يموت ولكنه يقتل نفسه، وقال أحد الكيميائيين المعاصرين إن الإنسان ينتحر بالشوكة والسكين والمعلقة، يقصد بما يتناوله من طعام، فإذا كان سينكا يتحدث عن الموت من وجهته السياسية، أو الاجتماعية، أو الأدبية، فان الإنسان قد يموت موتًا أفظع وأرهب وهو ينصب الشراك لنفسه من الوجهة الروحية. ولعل تجربة هذه المرأة القديمة، قد اشترك فيها ثلاثة، يدرون أو لا يدرون وهم يوسف وفوطيفار والمرأة نفسها ولعل التجربة بدأت من اللحظة التي دخل فيها يوسف هذا البيت إذ كان كما نعلم، على أروع صورة من الحسن والبهاء والجمال، كفتى في أول خطى الشباب، في السابعة عشرة من عمره، على أنه كان أكثر من ذلك، حلو الحياة، خفيف الظل، سريع الحركة، جميل اللفظ، مدبراً، مفكرًا، عاقلاً، وديعًا، متواضعًا، وكان طوال عشر سنوات، قضاها في بيت فوطيفار أشبه بالقمر الجميل وهو يزداد تألقًا ونوراً وهو يتحول من الهلال إلى البدر، وغير خاف أن المرأة وهي ترقب هذا الجمال كانت تضعف يومًا وراء يوم عن مقاومة ما فيه من قوة رهيبة وسحر غلاب، ومصيدة الجمال ما تزال إلى اليوم في كل جيل وعصر من أخطر وأقسى المصايد التي يسعى إليها الناس بدون مقاومة كما تسعى الفراشة إلى حتفها في النور الذي يقتلها في التو واللحظة، على أن الثاني الذي شارك في التجربة كان فوطيفار نفسه، وأغلب الظن أنه وقد وثق في يوسف ووجد فيه الوكيل الأمين الصالح في الحقل أو البيت معًا، انصرف إلى عمله في بيت فرعون واستغرقه ذلك العمل حتى لم يجد متسعًا من الوقت في بيته إلا ليأكل أو يشرب أو ينام. وهكذا انصرف عن زوجته وهو لا يدرك كما ينصرف الكثيرون من الأزواج الذين ينسون أو يهملون حق البيت أو الزوجة أو الأولاد تحت ضغط ما يقال عنه الواجب أو زحمة الأعمال، مع أن واجبهم الأول المقدس - الذي لا يقل إن لم يتفوق علي كل واجب آخر - هو رعاية من لهم حتى لا يأتي ذلك اليوم الذين ينتبهون فيه، ولكن بعد ضياع الفرصة أو فوات الأوان إلى الخراب والضياع والكارثة التي ألمت بهم ببيوتهم وهم لا يدرون، على أنه إذا كان يوسف وفوطيفار مشتركين وهما لا يدريان في هذه التجربة فإن المرأة نفسها كانت أكثر الكل تقترب من التجربة أو تسعى إليها بنوع الحياة الذي كانت عليه أو عاشته في ذلك العصر، فبيتها كان ولاشك واحداً من البيوت الغنية الظاهرة المعروفة والذي اتسعت ثروته على يدي ذلك العبد الجديد الذي اشتراه فوطيفار. وأصيب البيت بما يمكن أن تصاب به بيوت الأغنياء من ترف وتنعم وما يمكن أن يلحقها من أدناس وخطايا وعيوب ومحن، ومما لا شبهة فيه أن ظاهرة الثراء تسبق على الدوام ما يمكن أن يصاب به المجتمع من تحلل وتعفن وضياع وتجارب!! وقديمًا وصف عاموس قومه من نساء ورجال بأقسى ما يمكن أن يوصف به الناس إذ وصف النساء ببقرات باشان اللواتي يعشن عيشة حيوانية. كما وصف الرجال بما هو أشبه اذ قال: «المضطجعون على أسرة من عاج والمتمددون على فرشهم والآكلون خرافًا من الغنم وعجولاً من وسط الصيرة الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدهنون بأفضل الأدهان».ومهما كان بين هذه العصور بعضها والبعض أو بينها وبيننا المئات أو الآلاف من السنين عبر الزمن أو الأجيال فان الظاهرة الملحوظة أن التاريخ يعيد نفسه، وكلما ازداد الناس من الثراء والترف والتمتع كلما اقتربوا أكثر من الخواء الروحي والضياع النفسي. ولعلنا ندرك بعد هذا كله لماذا سقطت زوجة فوطيفار في مثل هذه التجربة الشريرة التعسة المحزنة. الزوجة وقسوة التجربة ولا شبهة أن التجربة كانت قاسية بالغة القسوة تحمل في أركانها وحواشيها كل ما يمكن أن يجعلها أشبه بالبركان المندفع الثائر المتفجر، فقد كان هناك أولاً وقبل كل شيء.. الشباب والشباب بكل ما يمكن أن يحمله التعبير من المغزى أو المعنى ومع أننا لا نعلم عمر المرأة في ذلك الوقت إلا أننا نعلم أن يوسف كان في عنفوان القوة والحيوية والشباب وليس الشباب في الواقع كما صوره أحدهم إلا برميلا من بارود، على استعداد الانطلاق عند أي شاب أو شابة متى مسته النار أو اللهب وتزداد التجربة وتتصاعد إذا كانت ظروف الحياة وطبيعة العمل تقرب على الدوام بين الشعلة والبارود كما في قصة يوسف فاللقاء اليومي المتكرر والتعامل الدائم المستمر والاقتراب المتكاثر واللمس والرؤية والنظر والحديث والكلام هي بعض أسلحة الشيطان في الإثارة والغواية والإسقاط وقد تؤثر البيئة أو الثقافة أو الثروة أو التربية أو الجو أو ما أشبه من سرعة الاشتعال أو بطئه، ولكن الشاب هو الشاب، والتجربة هي التجربة، والخطية دائمًا قتلاها أقوياء، فلا يتصور أحد أنه في منعة أو قوة أو حصانة تجاهها فاذا كانت الخطية قد اسقطت شمشون وهو مضرب المثل في القوة، وأوقعت بداود، الذي قلبه حسب قلب الله، وانتصرت على سليمان، وهو الحكيم الواسع الحكمة والإدراك، فإنها بالأولى تستطيع أن تقضي على من هم أقل قوة ونقاء وحكمة، على أن التجربة كانت أكثر من ذلك شدة إذ كان يوسف عبدا مملوكًا لسيدته يؤمر فيطيع ويطلب فيخضع وكان في تصور المرأة أنها تستطيع أن تفعل به ما تشاء وتنال منه ما تريد وإن كانت تحولها الزلة في الواقع إلى المركز العكسي إذ تصبح الأمة المستعبدة الذليلة لأن كل من يفعل الخطية هو عبد لها. أما يوسف فقد قست التجربة عليه من هذا القبيل وطال به الزمن عشر سنوات من ذلك اليوم الذي استبدل فيه الحرية والعز والمجد وحضن أبيه، بما يعيش عليه في بيت فوطيفار من حياة مهما قيل في وصفها، فهي على أي حال لا يمكن أن تعدو حياة العبد الغريب الضائع المشرد ولعل المعارك التي يخوضها الغريب المتألم المتضايق مع نفسه هي أقسى المعارك وأشدها قاطبة مع النفس، وأكثر من الكل أن التجربة جاءت في العزلة في الوحدة والظلام ولم تأت مرة واحدة بل أخذت طابع الإلحاح والتكرار يومًا بعد يوم كما تذكر القصة الكتابية. وكل هذه قد جعلها واحدة من أقسى المعارك النفسية التي يمكن أن تحدث في حياة المؤمنين أو غير المؤمنين على حد سواء!!... الموقف الفاصل في التجربة على أن التجربة قد فصلت فصلاً حاسمًا بين الشاب والمرأة وأغلب الظن أن الفاصل كان مزدوجًا اذ كان فيه عنصر إلهي وآخر بشري، أما العنصر الإلهي فقد ظهر في تلك الصيحة المدوية التي رنت في كل الأجيال: «فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطيء إلى الله». لقد رأى يوسف - على العكس من المرأة - شخص الله فنجا من التجربة وانتصر عليها. ولقد صنعت له الرؤيا حواجز عالية كان من المستحيل عليه أن يتخطاها لتتحول التجربة إلى خطية، كان هناك حق الله عليه وهذا الحق يسبق على الدوام كل حق آخر ويعلو عليه وأن كان عبداً لفوطيفار أو زوجته وأن كان جسده قد اشترى بعشرين من الفضة إلا أن هذا الجسد ليس في الأصل ملكًا له أو لفوطيفار أو زوجة فوطيفار بل هو ملك لله وليس له أن يتصرف فيه إلا وفقًا لمشيئة المالك عز وجل، وأنه إذ يتصرف هكذا يعطي المجد لسيده، ولا يتعدى على حقوق الآخرين، أيضًا وهو يأبى لهذا أن يختلط حقه بحق الزوج أو يتعدى عليه ولذا نسمعه يقولك «ولم يمسك عني شيئًا غيرك لأنك امرأته»... ولو أمكن البشر جميعًا أن يدركوا هذه الحقيقة لأضحى مجد الله بين الناس هو الأساس الفعلي لكل ما يمكن أن يجدوه من حق وخير وعدل وكمال، وكانت هناك قداسة الله التي لا يمكن أن تلتقي بالشر أو ترضى عليه بل تتعارض معه وتتنافر تنافرًا دائمًا أبديًا، مع أن خطية الدنس لم يكن لها الحسبان الكثير في ذهن الناس في ذلك الوقت بل كانت شيئًا يكاد يكون عاديًا في الظلام الوثني القديم إلا أن يوسف لم يرها شرًا فحسب بل شرًا عظيمًا يخطيء فيه إلى الله قبل أن يخطيء إلى الناس، وإلى جانب حق الله وقداسته هناك عدالة الله بصفته الحاكم الأدبي الذي يحكم بين الناس جميعًا على ما يمكن أن يفعلوه أو يخرجوا به على ما أبدع من نظم أو شرائع أو نواميس، ولا يمكن لأي إنسان أن يخرج على هذه العدالة دون أن يلاحقه قصاص الديان العادل المقتدر الحكيم. ولم يستطع يوسف وقد رأي هذه الحواجز جميعًا تنهض في الطريق أن يتجاوزها أو يتعداها على العكس من المرأة التي لم تر الله فرأت التجربة واندفعت في طريقها كما يندفع الأحمق الأرعن المجنون.ولعل هذا يأتي بنا إلى الجانب البشري الفاصل في التجربة وهنا أيضًا اختلفت زوجة فوطيفار عن يوسف، أما هي فقد انتهزت السرية والعزلة والظلام وهي تعلم أنها أقرب الطرق وأيسرها إلى السقوط والانحدار والضياع، أما هو فقد رأى في الخروج والهروب والتباعد السبيل الحق إلى الخلاص والنجاة والانتصار الكامل على ما قد يراوده من ضعف شخصي أو إغراء شيطاني.وفي الحقيقة أن التاريخ لم يعرف حتى اليوم سبيلاً أفضل لمقاومة الشر والفساد والمجون والتجربة غير رؤية الله والهروب بعيداً وبأقصى ما نملك من قوة أو سرعة عن مجالها ومكانها وميدانها ودائرتها... الزوجة والجزاء بعد التجربة ولا يمكن أن نختم قصة هذه المرأة دون أن نرى الصور المتتابعة المتلاحقة لما سمح به الله أو أراد للمرأة والشاب معاً، أما الصورة الأولى فقد كانت محزنة مفجعة قاسية إذ هي الجزاء المعكوس والمقلوب الذي يحدث في العادة فيرتفع فيه الظلم إلى أعلى ويداس الحق والبر والشرف والقداسة تحت الأقدام ومع أن بعض الشراح يعتقدون أن فوطيفار شك كثيرًا في رواية زوجته إلا أنه آثرا أن يغطي الفضيحة والعار فيسجن العبد وهو يعلم أنه مظلوم ليبقى على سمعة زوجته ومركزها بين الناس، وأيا كان الأمر فان السؤال الذي يثور على الدوام لماذا يسمح الله أن تعلق الفضيلة على الخشبة في الوقت الذي تنطلق فيه الرذيلة ماجنة معربدة فاسدة شريرة!! هل يرجع لأن الفضيلة لابد أن تدفع ضريبتها في هذا العالم الحاضر الشرير!! أم لأن أبناء الله ينبغي أن يعطوا المجد لله لا في الجنة الناعمة فحسب بل في الأتون القاسي أيضًا؟ أم لأن الله يقصد أشياء أخرى أبعد كالامتحان أو التدريب أو ما أشبه!! أم لأنه يريد أن يؤكد أن الشر قد يكسب جولاته الأولى لكن الخير لابد أن ينجح وينتصر على صورة أعظم وأمجد وأجل!! ومهما يكن الجواب الذي نسمعه أو نعطيه فأننا نعلم أن يد الله كانت هناك وأن قوته ونعمته وحكمته كانت تعمل طوال الوقت خلف الستار على أنها عندما أعطت الجزاء العادل لم تعطه خفياً بل كان علانية أمام الكل وخرج يوسف من السجن لا ليرد اعتباره وحريته وشرفه فحسب بل ليصبح العبد سيداً والمرءوس رئيسًا، والبيت الذي ساد واحداً من الأتباع والرعايا.ومع أن القصة لا تكشف عما فعل يوسف مع هذا البيت فيما بعد إلا أنها تعلم بكل وضوح وجلاء عما قاله الجامعة فيما بعد: «إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر لأن فوق العالي عاليا يلاحظ والأعلى فوقها!!...» كما تعلن أن الفضيحة التي يحاول الإنسان أن يسترها داخل البيت قد لا تخرج خارجه فحسب بل تذهب عبر الأجيال والتاريخ إلى أبعاد لا يمكن تصورها: «لأنه ليس مكتوم لن يستعلن ولا خفى لن يعرف!!».
المزيد
24 يناير 2022

نياحة القديسين العظيمين مكسيموس و دوماديوس

في هذا اليوم تذكار القديسين الجليلين مكسيموس وأخيه دوماديوس. وكان أبواهما والندينيانوس ملك الروم رجلا خائفا الله قويم المعتقد، فرزقه هذين القديسين. وكانا منذ صغرهما مثل الملائكة في الطهر والقداسة، ملازمين الصلاة ومطالعة الكتب المقدسة. ولما تحقق لهما زوال هذا العالم وكل مجده، قررا تركه وعزما علي العيشة الرهبانية. فطلبا من أبيهما أن يسمح لهما بالذهاب إلى مدينة نيقية، ليصليا في مكان اجتماع المجمع المقدس المسكوني الأول، الذي انعقد سنة 325م، ففرح أبوهما وأرسل معهما حاشية من الجند والخدم كعادة أولاد الملوك. ولما وصلا أمرا الجند أن يرجعوا إلى أبيهما ويقولوا له: "إنهما يريدان أن يمكثا هناك أياما". ثم كشفا أفكارهما لأحد الرهبان القديسين من أنهما يريدان لباس الأسكيم المقدس. فلم يوافقهما علي ذلك خوفا من أبيهما، وأشار عليهما أن يذهبا إلى الشام حيث يقيم الرجل القديس الأنبا اغابيوس، فذهبا إليه وظلا عنده حتى تنيح. وكان قبل نياحته قد ألبسهما شكل الرهبنة، وعرفهما بأنه رأى في الليل القديس مقاريوس وهو يقول له: "أوص ولديك أن يأتيا إلىَّ بعد نياحتك ويصيرا لي بنينا". ثم قال لهما: "إنني كنت اشتهي أن أنظر هذا القديس بالجسد، ولكنني قد رأيته بالروح. فبعد نياحتي أمضيا إليه بسلام". وقد أنعم الله عليهما بموهبة شفاء المرضي، وشاع ذكرهما في تلك البلاد وخصوصا بين التجار والمسافرين، وتعلما صناعة شراع (قلوع) السفن. فكانا يقتاتان بثمن ما يبيعان منه، ويتصدقان علي الفقراء والمساكين بما فضل عنهما. وذات يوم رأي أحد حجاب أبيهما شراع إحدى السفن مكتوبا عليه "مكسيموس و دوماديوس" فاستفسر من صاحب السفينة فقال له: "هذا اسم أخوين راهبين، كتبته علي سفينتي تبركا، لكي ينجح الله تجارتي". ثم أوضح له أوصافهما بقوله: "إن أحدهما قد تكاملت لحيته والآخر لم يلتح بعد، فعرفهما الحاجب وأخذ الرجل وأحضره أمام الملك. ولما تحقق منه الأمر أرسل إليهما والدتهما والأميرة أختهما. فلما تقابلتا بالقديسين وعرفتاهما بكتا كثيرا. ورغبت أمهما أن يعودا معها فلم يقبلا، وطيبا قلب والدتهما وأختهما. وبعد ذلك بقليل تنيح بطريرك رومية، فتذكروا القديس مكسيموس ليقيموه بدلاً عنه. ففرح والده بذلك. ولما وصل هذا الخبر إلى القديس مكسيموس وأخيه، وتذكرا وصية أبيهما الأنبا أغابيوس، فغير الاثنان شكلهما، وقصدا طريق البحر الأبيض. وكانا إذا عطشا يبدل الله لهما الماء المالح بماء عذب، وتعبا كثيرا من السير حتى أدمت أرجلهما، فناما علي الجبل وقد أعياهما التعب، فأرسل الله لهما قوة حملتهما إلى برية الإسقيط، حيث القديس مقاريوس، وعرفاه أنهما يريدان السكني عنده. ولما رآهما من ذوي التنعم، ظن أنهما لا يستطيعان الإقامة في البرية لشظف العيشة فيها. فأجاباه قائلين: "إن كنا لا نقدر يا أبانا فأننا نعود إلى حيث جئنا". فعلمهما ضفر الخوص ثم عاونهما في بناء مغارة لهما، وعرفهما بمن يبيع لهما عمل أيديهما ويأتيهما بالخبز. فأقاما علي هذه الحال ثلاث سنوات، لم يجتمعا بأحد، وكانا يدخلان الكنيسة لتناول الأسرار الإلهية وهما صامتين، فتعجب القديس مقاريوس لانقطاعهما عنه كل هذه المدة، وصلي طالبا من الله أن يكشف له أمرهما. وجاء إلى مغارتهما حيث بات تلك الليلة. فلما استيقظ في نصف الليل كعادته للصلاة. رأى القديسين قائمين يصليان، وشعاع من النور صاعدا من أفواههما إلى السماء، والشياطين حولهما مثل الذباب، وملاك الرب يطردهم عنهما بسيف من نار. فلما كان الغد ألبسهما الإسكيم المقدس وانصرف قائلا: "صليا عني" فضربا له ميطانية وهما صامتين. ولما أكملا سعيهما وأراد الرب أن ينقلهما من أحزان هذا العالم الزائل. مرض القديس مكسيموس فأرسل إلى القديس مقاريوس يرجوه الحضور. فلما أتى وجده محموما فعزاه وطيب قلبه. وتطلع القديس مقاريوس وإذا جماعة من الأنبياء والقديسين ويوحنا المعمدان و قسطنطين الملك جميعهم قائمين حول القديس إلى أن أسلم روحه الطاهرة بمجد وكرامة. فبكي القديس مقاريوس وقال: "طوباك يا مكسيموس ". أما القديس دوماديوس فكان يبكي بكاء مرا، وسأل القديس مقاريوس أن يطلب عنه إلى السيد المسيح لكي يلحقه بأخيه. وبعد ثلاثة أيام مرض هو أيضا، وعلم القديس مقاريوس فذهب إليه لزيارته. وفيما هو في طريقه رأي جماعة القديسين الذين كانوا قد حملوا نفس أخيه، حاملين نفس القديس دوماديوس وصاعدين بها إلى السماء. فلما أتي إلى المغارة وجده قد تنيح، فوضعه مع أخيه الذي كانت نياحته في الرابع عشر من هذا الشهر. وأمر أن يدعي الدير علي اسمهما فدعي دير البراموس نسبه إليهما، وهكذا يدعى إلى هذا اليوم. صلاتهما تكون معنا. آمين.
المزيد
20 يناير 2022

شخصيات الكتاب المقدس زكريا النبى

زكريا النبى " هوذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان "" زك 9: 9 " مقدمة زكريا هو الحادى عشر بين الأنبياء الصغار الإثنى عشر، وكان معاصراً للنبى حجى، ويسميهما البعض « التوأمين بين الأنبياء »، وقد عاد الإسرائيليون من السبى البابلى، وقد عاد زكريا، وهو شاب، مع العائدين فى أول مرة، وكان كاهناً ونبياً، وقد كافح لبناء الهيكل الثانى فى أورشليم، وكان عليه أن يعمل على بناء هذا الهيكل، وفى الوقت نفسه يعد الشعب لحياة أفضل وأكمل، وإذا كان حجى - واسمه يفيد الحجج أو الذهاب إلى العيد، أو يمكن أن ندعوه فى اللغة الشائعة «عياد» الذى يعيد بعد السبى الطويل، ويعود إلى حياة الفرح والبهجة - فإن زكريا يمتد إلى أكثر من ذلك، إذ معناه « الرب يذكر » وقد كشف برؤاه الثمانى المجيدة، ونبواته الرائعة، كيف أن الرب سيذكر شعبه ويضمن سلامهم إلى آخر الأيام،... وهو من أكثر الناس لذلك حديثاً ونبوة عن يسوع المسيح ومجيئه فى الجسد، ووداعته، وصلبه، حتى تنتهى الرؤى والنبوات إلى آخر الأيام، ومن المعتقد أنه فى رؤاه وحديثه عن المسيح، لا يباريه فى هذا الشأن من الأنبياء سوى إشعياء، وأنه فى عرف الكثيرين يأتى تالياً لإشعياء فى هذا المجال!!.. ومن المعتقد أنه بدأ نبوته وهو شاب فى عام 520 ق.م.، وها نحن نراه فيما يلى: زكريا ورؤاه الثمانى المجيدة وهى ثمانى رؤى متتالية مجيدة، يقول البعض إن النبى رآها متلاحقة فى ليلة من الليالى، وقد نهض الناس لبناء الهيكل وربما كان ذلك فى تمام 025 ق.م.... ومن نعم اللّه على الإنسان أنه يعطيه الرؤيا،... وهى بركات روح اللّه التى تحدث عنها يوئيل النبى، عندما ينسكب روح اللّه على كل بشر، فيتنبأ بنوننا وبناتنا، ويرى شبابنا رؤى، ويحلم شيوخنا أحلاماً، والحياة فى الواقع، لا يمكن أن تكون صحيحة أو مجيدة بدون هذه الرؤى والأحلام، ومن ثم فإن الروائيين والكتاب والشعراء، وهم يتخيلون عالماً أفضل وأعظم وأمجد، تمتد رؤاهم عبر الواقع التعس المحزن الأليم،... وقد قال أحد الكتاب: « إن الرجل الذى يستطيع أن يتكلم إلى القلوب المهزوزة والنفوس التعسة، لابد أن يكون ذلك الإنسان الذى يعرف قلبه ونفسه، ومقدار ما عانى من اضطرابات مماثله لما يعانيه الناس الآخرون فى الحياة،.. الإنسان الذى خاض معركته، وجابه الظلام، ووصل إلى النور الذى أعطاه اللّه إياه فى مواجهة الآلام،... هذا الإنسان الذى منحة اللّه لمسة الحنان والرفق تجاه الشكوك والتعثرات والتخبطات التى تحيط بالناس حوله »... ولابد لنا أن نرى النبى بهذا المعنى، إذ أنه ليس الإنسان الذى يتلقى الوحى آلياً، أو الذى لا يدرك معنى الشكوك التى يكافحها، أو التجارب التى يندد بها، أو اليأس، أو البؤس الذى يريد أن يخلص الناس منه،... إنه الإنسان الخاضع لنفس الآلام التى يقع تحتها الآخرون، وقد جرب بتجاربهم، ولكنه بروح اللّه تعلم الانتصار والغلبة على المصاعب والمشاكل والمتاعب التى واجهها، وهو من نبع الإختبار، وبسلام الإيمان، يمكن أن يحارب فى معارك الرب، ويقود الناس إلى النصر فيها »... وبهذا المعنى كان زكريا النبى، وهو يكشف رؤى اللّه للناس!! فإذا تصور الناس فى زحام الحياة ومتاعب الأيام، أن اللّه قد ترك الأرض والقوى فيها يأكل الضعيف، والمستبد يهلك الوادع، وأن الأمور تسير فى كل شئ وفق الأهواء أو النزوات، وبدا كما لو أنه ليس هناك إله يحكم الناس، أو عناية تتمشى فى حياتهم، فإن ملاك اللّه يظهر لزكريا ليرى شجر « الآس »، وهو ذلك النوع من الشجر القصير الصغير، الظليل الجميل الدائم الاخضرار، العطرى الرائحة، وهو الاسم العبرى الذى أطلق على أستير الملكة، وربما أطلقه مردخاى عليهم إشارة إلى جمالها الفائق الفتان، وقد علته مسحة من الكابة والوحشة والتعاسة التى أورثها إياها الفقر واليتم والسبى،... وأورشليم كانت بهذا المعنى شجرة آس، وهى تعود من السبى والمنفى والألم، ولكنها ما تزال ممتلئة بالتعاسة والوحشة والبؤس،... وربما خطر على بال الناس فيها أن اللّه قد ترك الأرض،... ولكنه يؤكد أنه يرسل خيله لتجول فى الأرض كلها، وهو لا ينسى أحداً، ولا يهمل أحداً، ولا يتغاضى عن أحد.ومهما اختلف لون الخيل الحمر والشقر والشهب، ومهما كانت ترمز إلى ألوان العناية فى تعدد مظاهرها،... إلا أن المعنى المقصود هو أن اللّه لا يغفل عن شئ أو يهمل شيئاً فى الأرض!!.. وإذا كانت عناية اللّه تمتد إلى كل الأرض، فإنها تهتم على وجه الخصوص بشجرة الآس، التى ترمز إلى أورشليم، أو إلى كنيسة اللّه العلى،... التى تحيط بها المتاعب أو الضيقات ولكنها ليست متروكة على الإطلاق من اللّه.فإذا تحولنا إلى الرؤيا الثانية، فإننا نبصر هناك أربعة قرون، هى رمز للشر الذى سيطر فترة من الزمان، وبدد يهوذا وإسرائيل وأورشليم، وهذه القرون الأربعة، فى تصور الشراح، هى ممالك بابل، ومادى وفارس، واليونان، وروما، الممالك الأربع العالية التى بددت أورشليم، والتى خرج فى إثرها الصناع الأربعة وهم قوى اللّه العظيمة الأدبية، ورآها بعضهم البر، والعدالة، والضمير، والعناية، وهى التى ستتغلب آخر الأمر، وتقضى على كل المفاسد والاثام والشرور، وتؤكد أن اللّه لا يمكن أن يتخلى عن شعبه وأبنائه، وستسقط كل القوى الطاغية تحت أقدامهم، فإذا جئنا إلى الرؤيا الثالثة، فنحن أمام غلام يحاول أن يقيس أورشليم، ليرى كم طولها وكم عرضها، وقد بدت أمامه صغيرة ضعيفة مخربة، ولكن الملاك يمنعه، لأنه لا يمكن أن تقاس أورشليم التى ستتسع لكل المؤمنين فى الأرض، وهى ليست أورشليم القديمة، التى تعرضت للغزو والفتح والتدمير، بل أورشليم السماوية، كنيسة اللّه التى ستغزو وتمد أطنابها فى الأرض كلها.فإذا كان هناك خوف من آثام الماضى، وهل يمكن أن تتكرر، فنحن إزاء الرؤيا الرابعة، والتى يظهر فيها يهوشع الكاهن العظيم، وهو يمثل شعب اللّه، لابساً ثيابه القذرة، وإذا بالنعمة الإلهية تخلع عنه ثيابه، وإثمه، وتلبسه ثياباً مزخرفة، وتضع على رأسه العمامة الطاهرة، عندما يأتى عبد الرب « الغض » المسيح الذى بنعمته وروحه يزيل إثم الأرض وشرها بدم صليبه!!.. على النحو الذى قرأناه ونحن نتعرض لشخصية يهوشع فيما سبق من الشخصيات،فإذا ظهرت االصعوبات القاسية كالجبال الرواسى فى طريق بيت اللّه وعمله وخدمته، فنحن نرى فى الرؤيا الخامسة منظر المنارة التى كلها ذهب، وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها، وسبع أنابيب للسرج التى على رأسها وعندها زيتونتان... إحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره،.. ونحن هنا إزاء بيت اللّه الذى يشع منه النور ليملأ الأرض كلها، وإزاء النعمة التى تجعله دائماً مضيئاً ومنيراً، فإذا كانت هناك صعوبات هائلة، فى طريقه، فإن الجبل يضحى سهلا لا بقدرة الإنسان، أو قوته، أو جهده البشرى، بل بقوة وعمل روح اللّه، كما ذكرنا هذه الحقيقة عند دراسة شخصية زربابل التى يحسن الرجوع إليها فى هذا الموضوع،فإذا قيل: ولكن المدينة ما تزال ممتلئة بالأشرار والمجرمين واللصوص والأثمة والخطاة، فنحن هنا إزاء الدرج الطويل العريض الذى رآه فى الرؤيا السادسة والذى يحمل اللعنة والملعونين، لإبادة أسمائهم من الأرض فإذا قيل أيضاً: ولكن إلى متى يكون هذا، ومتى سيبقى الشر بعيداً عن النهوض مرة أخرى؟؟... فنحن نأتى إلى الرؤيا السابعة فى إيفة الشر التى تجلس فيها امرأة، وقد أغلق على فمها بثقل من الرصاص، وحملت على أجنحة لتدفن فى أرض شنعار، حيث لا تقوم لها قائمة بعد وحتى يبدو هذا مؤكداً فنحن آخر الأمر أمام الرؤيا الثامنة، التى تتحدث عن مركبات اللّه المنتصرة التى تخرج إلى كل مكان فى الأرض،.. ومن الواضح أن الخيل التى تقود المركبات مختلفة الألوان، فالحمر فى عرف الشراح تشير إلى الدم والمعارك التى يستخدمها اللّه كواحدة من سبل العناية وإتمام مشيئته، والدهم - وهى أقرب إلى السواد - تشير إلى الحزن والمجاعة، والشهيب الأقرب إلى البياض، تتحدث من البهجة والمسرة، والمنمرة الشقر، هى مزاج الآمال والآلام والراحة والمتاعب،... وقيل إن الحمر تتجه إلى الشمال إلى بابل، وتتبعها الدهم إلى مادى وفارس، والشهب نحو اليونان!! والنمرة نحو روما،فإذا أخذت الرؤى جميعها معاً، فإنها تبدو أمامنا فى صورة الصراع الظاهر فى سفر الرؤيا بين الخير والشر، وأن الشر مهما يفعل فسيسقط مهما بدت قوته، ومظهره، وسلطانه، وعمله!!... وأن الحق والخير والجمال والنور، مقرر لها الغلبة من أول الأمر ومن ابتداء المعركة!!.. أما زكريا نفسه، يبدو أمامنا فى صورة الرجل الذى يلمع وجهه بالرجاء، فى قلب الظلمة الداكنة!! زكريا والجواب على أسئلة الشعب عندما دمرت أورشليم وأخذ الشعب إلى السبى، وتحول الهيكل ركاماً وأنقاضاً وتراباً، فقد الشعب طقوسه وفرائضه، غير أنه فى السبى - وقد سيطر عليه الحزن، واستبد به الألم - رأى أن يأخذ نفسه بألوان من الصوم، لم تكن عنده أصلا، وعاش السبعين عاماً وهو يصوم وينوح فى الشهر الخامس والسابع،... وبعد أن انتهى السبى، كان لابد أن يسأل نفسه هذا السؤال: ترى هل يستمر فى الصوم، أو يغيره، أو يقلع عنه؟؟،.. وقد كان من المشجع على الاستمرار، أنه رغم العودة إلى أورشليم فإن الخراب الذى يسود البلاد، والحياة التى يعيشها الناس فى ضعف وفقر وجدب، وماتزال قائمة باقية، فهل يستمر فى الصوم إلى أن تنتهى وتتلاشى؟ وقد أجاب اللّه على لسان زكريا، مقرراً أن الأصل عند اللّه ليس الطقس أو الصوم، بل حياة البر والطاعة، وأنهم لو عاشوا هذه الحياة، لما جاء السبى، ولما كانت هناك حاجة إلى التزيد فى الطقوس والأصوام،... وأن السر كل السر فى الضياع هو أن الناس لم تسمع لكلمة اللّه ولا لشريعته وإرشاده، فكانت النتيجة مجئ غضب اللّه العظيم، والعقاب المروع، والنبى يكشف كيف أن الناس لم يسمعوا الشريعة، إذ أصموا آذانهم وثقلوها، وذلك سواء بالانتباه إلى أصوات أخرى تأتيهم من خداع العالم والخطية والشر، أو أنهم تمردوا على الكلمة فامتنعوا عن سمعها، بعد الإنصات أو عدم الذهاب إلى بيت اللّه، ولم يقبلوا الخدمة، فأداروا ظهورهم وأعطوا كتفاً معاندة، وكانت النتيجة أن ضاع السلام وولى، وجاء الخراب والتدمير والتشريد والنفى،والسلام لا يمكن أن يأتى بالفرائض والطقوس،... ومع أن زكريا كان يشجع على بناء هيكل اللّه، ولكنه مع ذلك لم يحاول أن يربط السلام بمجرد المساهمة فى بناء البيت أو تزيينه. إن السلام يرتبط بشئ فى الداخل فى سريرة الإنسان وأعماقه، ومن ثم فليس يكفى أن يصوم الصوم الطقسى فى شهور معينة من السنة، بل المهم أن يحب الحق ويصنع الإحسان والرحمة، ويمد يده للمساعدة، ولمعونة الأرملة واليتيم والغريب والفقير، إن مساعدة الضعيف والعاجز ثمرة من ثمرات الحياة الدينية المتعمقة مع اللّه، وهنا نجد النبى يحض على الدين العملى، وليس النظرى فحسب، وإذ قد لا يفهم الإنسان العقائد اللاهوتية العميقة، وقد يصعب عليه إدراك المباحثات الدينية البعيدة!!... لكنه يستطيع أن يحيا الحياة الدينية بممارستها!! إذ يحدث هذا، يقودنا النبى إلى العصر الذهبى المجيد الذى يتمتع فيه الناس بالحياة المبتهجة السعيدة، فنرى المدينة وقد امتلأت بصبيانها وبناتها، بشيوخها وشيخاتها، وهم يجلسون فى الراحة والأمن والسلام، دون ضيق أو إزعاج، فإذا بدت الصورة جزئياً فى العودة من السبى، إلا أن الأمر لن يقصر على شعب واحد، لأنه: « هكذا قال رب الجنود سيأتى شعوب بعد وسكان مدن كثيرة وسكان واحدة يسيرون إلى أخرى قائلين لنذهب ذهاباً لنرضى وجه الرب ونطلب رب الجنود. أنا أيضاً أذهب. فأتى شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود فى أورشليم وليترضوا وجه الرب. هكذا قال رب الجنود: فى تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم يتمسكون بذيل رجل يهودى قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا أن اللّه معكم » " زك 8: 02 - 32 " وهنا نخرج من نطاق اليهودية الضيق، إلى مجد المسيحية العظيم!!.. زكريا والنبوات عن المسيح يسوع وقد تتحدث زكريا عن المسيح فى أكثر من نبوة من نبواته، إذ تحدث عن دخوله المنتصر الظافر إلى أورشليم: « ابتهجى جداً يا ابنة صهيون اهتفى يابنت أورشليم. هو ذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان » " زك 9: 9 " وقد اقتبس هذه النبوة متى ومرقس ويوحنا، فى هذا الدخول المجيد، ولعلنا نلاحظ الفرق بين دخول هذا الملك، وغيره من ملوك الأرض،... ولقد قيل إن الإسكندر فى غزواته، وهو يقترب من المدن، كان يثير فيها الفزع والهلع والرعب أما المسيح فلا يمكن أن يقترن دخوله فى مكان ما، إلا بالبهجة والفرح والهتاف، وذلك لأنه يحل ومعه العدل والنصر والسلام،.. كيف لا وهو لا يدخل إلا وديعاً متواضعاً محباً، فوق حمار وجحش ابن أتان، كما فعل عندما دخل مدينة أورشليم ليموت هناك حبا وفداء لجنسنا البشرى الذى ضيعته الخطية، وأماته الإثم والتمرد والعصيان!! كما أن زكريا تنبأ ثانية عن المسيح المحتقر، المرفوض من شعبه: « فقلت لهم إن حسن فى أعينك فأعطونى أجرتى، وإلا فامتنعوا.، فوزنوا أجرتى ثلاثين من الفضة. فقال لى الرب ألقها إلى الفخارى. الثمن الكريم الذى تمنونى به فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخارى فى بيت الرب » " زك 11: 12 و13 " ومهما قيل عن ارتباط هذه النبوة بما جاء فى نبوات إرميا فى الأصحاح الثامن عشر والتاسع عشر، حيث يصور النبى قدرة اللّه وسلطانه على الشعوب بقدرة الفخارى على قطعة الطين فى يده، كما أن اللّه - إذ يأمر النبى إرميا أن يحطم إبريق الفخارى - يكشف عما سيفعله هو، كإله مقتدر، بالأمة الخاطئة، إلا أنه واضح أن النبى زكريا كشف عن المسيح المرفوض، والذى قدره شعبه بثلاثين من الفضة، وهو الأجر الذى يعطى تعويضاً عن العبد إذا نطحه ثور ومات: « إن نطح الثور عبداً أو أمة يعطى سيده ثلاثين شاقل فضة والثور يرجم » " خر 21: 32 " ومهما يقل الناس عن صفقات بخسة فى كل التاريخ والعصور والأجيال، فلا نعرف صفقة تعسة خاسرة كالتى باع بها يهوذا الأسخريوطى يسوع المسيح!!.. قيل إن أحد الشبان الأمريكيين دخل معرضاً من معارض الشمع وإذا به يرى صورة التلاميذ مجتمعين معاً فى حضرة المسيح، فما كان منه إلا أن هوى على تمثال يهوذا الأسخريوطى وحطمه تحطيماً،... وإذا بالمشرف على المعرض يذهل ويقول له: لماذا تفعل هكذا؟!.. « إنه تمثال!، وإذا بالشاب يجيب: تمثال أو غير تمثال،... إن يهوذا الأسخريوطى لا يمكن أن يدخل ولا يتنا إلا وينال هذا المصير ». ومع أن كثيرين إلى اليوم ما يزالون وقد دخلهم الشيطان، يفعلون مثل يهوذا القديم الذى باع سيده بأتفه الأثمان، إلا أن يهوذا ذهب إلى أتعس مصير يمكن أن يصل إليه إنسان!!... وهو المصير الدائم لمن يبيع المسيح الكريم مهما كان الثمن، فكم بالحرى لو كان الثمن تافهاً حقيراً!!.. على أن زكريا عاد فتنبأ عن رجوع اليهود إلى المسيح: « وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلى الذى طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون فى مرارة عليه كمن هو فى مرارة على بكره » " زك 12: 10 " وربما لم تعرف الأمة اليهودية حزناً عميقاً وشاملاً، كحزنها على يوشيا الملك عندما سقط فى معركة مجدو، التى أشار إليها زكريا النبى: « فى ذلك اليوم يعظم النوح فى أورشليم كنوح هدد رمون فى بقعة مجدون » "زك 12: 11".. ولم يكن هذا إلا رمزاً للألم والبكاء الذى أحسن به اليهود يوم موت المسيح على هضبة الجلجثة: « وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء اللواتى كن يلطمن أيضاً وينحن عليه... وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان، رجعوا وهم يقرعون صدورهم "لو 23: 27 و48"... فإذا سار اليهود فى عذابهم وآلامهم ومتاعبهم، فى كل أجيال التاريخ، وعندما يفتح اللّه عيونهم ليعودوا إلى الذى طعنوه، بالألم والحزن والتوبة!!.. فإن النبوة ستتحقق على ما أشار إليه الرسول بولس فى الأصحاح الحادى عشر من رسالة رومية « فإنى لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل. كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب » " رو 11: 25 و26 "وتنبأ زكريا - إلى جانب هذا كله - عن موت المسيح: « استيقظ يا سيف على راعى وعلى رجل رفقتى يقول رب الجنود. اضرب الراعى فتتشتت الغنم وأرد يدى على الصغار » " زك 13: 7 "... ولا أظن أن هناك كلمات يمكن أن تكون أجمل من كلمات ف. ب. ماير يوم قال: « إنه السيف الذى لمع فى يد الكروبيم على باب جنة عدن لحراسة طريق شجرة الحياة، وهدد الزوجين المعتديين بلهيبه المتقلب، إنه سيف العدل، سيف كلمة اللّه المنتقم على العصيان بالموت، وقد نام فى غمده أربعة آلاف عام، وإذا جاز أن نقول، باليقين الإلهى، بأن الرحمة لابد أن تلتقى بالعدل تجاه الناموس المكسور،... كان من المحال أن ينام فى غمده إلى الأبد،... ووعد اللّه لابد أن يتم، وفى ملء الزمان جاء المسيح ليكون كفارة، ليظهر بر اللّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال اللّه لإظهاره بره فى الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع » " رو 3: 25 و26 "... وقد أيد المسيح هذه الحقيقة: وهو يقول لتلاميذه، « حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون فى هذه الليلة لأنه مكتوب أنى أضرب الراعى فتتبدد خراف الرعية " " مت 26: 31 ". ولا تنتهى نبوات زكريا قبل الحديث عن مجئ المسيح الثانى العتيد،... وليس المجال هنا للبحث فى الحرفية « أو » الرمزية التى يتتسم بها الأصحاح الرابع عشر من زكريا.. فبعض الشراح يفسر الأصحاح تفسيراً حرفياً، حيث ينشق جبل الزيتون فعلا إلى نصفين يفصلهما واد كبير،... وتحدث معركة هر مجدون آخر معارك العالم التى يحسمها المسيح بظهوره العتيد،... غير أن هناك من يأخذ « أورشليم » أو « الكنيسة » بالمعنى الرمزى، دون أن يحدد صورة حرفية معينة، قد تكون أورشليم المشار إليها فى مطلع الأصحاح الرابع عشر، هى التى دمرها الرومان، أو قد تكون الكنيسة حين انهارت الحياة الروحية وغطاها الظلام فى العصور الوسطى، على أن اللّه لا يمكن ان يتركها أو يهملها، بل سيأتى ليحارب عنها، وينتصر، ويكون الملك له وحده وسواء تم هذا بالمعنى الحرفى أو الروحى، فإنه لا يمكن أن يتم إلا بعد المعاناة والمتاعب والزلازل، والعلامات التى أكد السيد المسيح أنها لابد أن تكون قبل مجيئه الثانى العتيد، فإذا جاء فإن مجيئه سيكون أشبه بعيد المظال الذى يعيد فيه اليهود سبعة أيام، أو فى لغة أخرى، إنه الخروج من تعب الخطية وشدتها وقسوتها ومعاناتها، إلى الراحة والسلام والاطمئنان. والملك الألفى العظيم العتيد،... وسواء كان هذا الملك هو حكم المسيح لمطلق لمدة ألف عام فى الأرض، كما يذهب مذهب، قبل الألف، الذى سبقت الإشارة إليه فى بعض الدراسات السابقة، أو هو انتصار كنيسة الرب يسوع بالمعنى الروحى الذى يقدس فيه كل شئ لمجد السيد، وهو الأرجح فى نظرنا، إذ لا نستطيع أن نفهم أن يتحول كل شئ قدساً للرب: « فى ذلك اليوم يكون على أجراس الخيل قدس للرب والقدور فى بيت الرب تكون كالمناضح أمام المذبح. وكل قدر فى أورشليم وفى يهوذا تكون قدساً لرب الجنود وكل الذابحين يأتون ويأخذون منها ويطبخون فيها. وفى ذلك اليوم لا يكون بعد كنعانى فى بيت رب الجنود» " زك 14: 20 و21 ".. ما لم نفهم الذبيحة المعنى الروحى،... ونفهم أن تقدس أقل الأشياء كالأجراس التى تعلق على رؤوس الخيل، والتى هى للزينة أو للصوت أو الرنين الذى يحدث منها كلما سارت فى الطريق،... أى أن، يصبح كل شئ - صغر أم كبر فى الأرض - لمجد اللّه وجلاله بالمعنى المفهوم فى الحياة المملوكة بالتمام للّه!!.. على أية حال كانت نبوات زكريا عبوراً طويلاً ممتداً من أورشليم وهيكلها القديم، وقد كانت أمام عينى النبى القديم أطلالا دارسة تحاول أن تقو وتنتفض من التراب، إلى أورشليم التى صلبت يسوع المسيح، ورأت من العذاب والضيق مالم تره مدينة أخرى فى كل التاريخ، إلى أورشليم أمنا السماوية، كنيسة الرب يسوع التى ستظهر فى اليوم الأخير بمجده الأبدى الفائق، حين تنتهى اللعنة إلى الأبد، ويصبح كل شئ فى السماء وعلى الأرض قدساً للرب!!..
المزيد
19 يناير 2022

عيد الغطاس - الظهور الالهى - الثيؤفونيا

عيد الظهور الإلهى وأهميته ... أهنئكم أحبائى بعيد الظهور الإلهي راجيا لكم حياة مقدسة مثمرة فى الرب . اننا اذ نحتفل بعيد (الأبيفانيا) Epiphany (إيبيفاني) أو عيد الغطاس المجيد، فاننا نتذكر الرب فى تجسده وعمادة ليقدس ويكرس لنا الطريق الى البنوة الحقيقية لله والولادة من الماء والروح ونتذكر معموديتنا يوم تعهدنا ان نجحد الشيطان ولا نسير فى طرقه وان نعلن ايماننا المسيحى ونحيا اوفياء لعهد تبنى الله لنا فى قداسة وبر وتقوى . تعمد السيد المسيح القدوس من القديس يوحنا المعمدان بالتغطيس { وللوقت وهو صاعد من الماء } ولذلك نسمى المعمودية "الغطاس". ليؤسس لمعموديتنا نحن المؤمنين به، ففيما نال هو المسحة بالمعمودية أعطانا من خلالها الولادة من الماء والروح . لذلك يوحنا المعمدان قال للناس {هوذا حمل الله الذى يحمل خطية العالم كله} (يو1:26). وشهد عنه قائلا: {إنى قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقرعليه، وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذى أرسلنى لأعمد قال لى : الذى ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذى يعمد بالروح القدس. وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابنالله} (يو 1: 33 – 34). + وهنا ربط بين معمودية السيد المسيح وحلول الروح القدس عليه وأنه يعمد بالروح القدس. معنى هذا أن الروح القدس حل على السيد المسيح كبداية للعهد الجديد لكى يحل على المؤمنين عبر الولادة من الماء والروح ومن خلال مسحة الميرون المقدس. لهذا تحتفل الكنيسة بعيد الغطاس المجيد لما فيه من أحداث هامة وإعلانات إلهيه تخص خلاصنا. ولعل أول كل هذا ظهورالله المثلث الأقانيم وقت عماد السيد المسيح.. لذلك يطلق علي هذا العيد (عيد الظهور الالهي).. فالاب ينادي قائلاً عن الرب يسوع وهو في الماء {هذا هو أبني الحبيب الذيبه سررت} (مت 3:17)، بينما الروح يحل في شكل حمامة مستقراً علي السيد المسيح ليعلن أنه المخلص الذي أتي لخلاص العالم ليصنع الفداء العجيب. ويقول في ذلك القديس أغسطينوس: (بجوار نهر الاردن ننظر ونتأمل المنظر الالهي الموضوع أمامنا.. فلقد أعلن لنا إلهنا نفسه عن نفسه بكونه ثالوث في واحد.. أي ثلاثة أقانيم في طبيعة إلهية واحدة). معمودية السيد المسيح ومعموديتنا .. الرب يسوع المسيح لم تكن لولادته من الماء والروح لأنه لابن الوحيد للاب بالطبيعة،)هذة العظه من منتدى أم السمائيين والأرضيين) فلم يكن نزوله فى المعمودية لكى يولد من الماء والروح لكنه كان نازلاً من أجل ان يستعلن انه المسيح الرب ويبدأ خدمته العامة لذلك سُمى بالمسيح، يسوع اسم الولادة والمسيح هذا اسم المسحة فى المعمودية، وبينما لرب يسوع يقف في إتضاع عجيب أمام يوحنا المعمدان في نهر الاردن ليعتمد منه.. أعلن الله ليوحنا عن الذي سيعمده إذ هو الابن الكلمة المتجسد . فشهد يوحنا المعمدان قائلاً: {أنا أعمدكم بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست مستحق أن أحل سيور حذائه.. هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي وأنالم أكن أعرفه لكن ليظهر لاسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء.. إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فأستقر عليه وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي تري الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو أبن الله..}(يو 1: 26 – 34). بهذه الشهادةالتي قدمها القديس يوحنا المعمدان يكون قد أعلن عن المخلص الحقيقي الذي استعلن وسط البشر في الماء ليحمل خطايا العالم.. وكأن من نزل في الماء قد ترك خطاياه واغتسل منها.. بينما إذ نزل الابن الكلمة المتجسد في الماء وهو بلا خطية قد احتمل كل خطايا البشر.. هذا هو سر الخلاص المعلن في نهر الاردن. يقول القديس اثناسيوس الرسولى عن معمودية السيد المسيح ومعمودتنا نحن وحلول الروح القدس عليه ( أن نزول الروح علي السيد المسيح في الأردن، إنما كان نزولاً علينا نحن بسبب لبسه جسدنا. وهذا لم يصر من أجل ترقيه اللوغوس، بل من أجل تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في مسحته، ولكي يُقال عنا " ألستم تعلمون إنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم " (1كو16: 3). + فحينما اغتسل الرب في الأردن كإنسان، كنا نحن الذين نغتسل فيه وبواسطته. وحينما اقتبل الروح ، كنا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته.ولهذا السبب ، فهو ليس كهارون ، أو داود أو الباقين قد مُسح بالزيت هكذا بل بطريقة مغايرة لجميع الذين هم شركاؤه أي " بزيت الابتهاج " الذي فسر أنه يعني الروح قائلاً بالنبي: " روح الرب علىَّ لأنه مسحني" (إش1: 61)، كما قال الرسول أيضًا: " كيف مسحه الله بالروح القدس" (أع38: 10). + متى قيلت عنه هذه الأشياء إلاّ عندما صار في الجسد واعتمد في الأردن، " ونزل عليه الروح " (مت16: 3). + وحقًا يقول الرب لتلاميذه إن " الروح سيأخذ ممالي" (يو14: 16)، و " أنا أرسله" (يو7: 16)، و" اقبلوا الروح القدس" (يو22: 20). إلاّأنه في الواقع، هذا الذي يُعطى للآخرين ككلمة وبهاء الآب يُقال الآن إنه يتقدسوهذا من حيث إنه قد صار إنسانًا، والذي يتقدس هو جسده ذاته. إذن فمن ذلك (الجسد) قدبدأنا نحن الحصول على المسحة والختم، مثلما يقول يوحنا " أنتم لكم مسحة من القدوس" (1يو20: 2). والرسول يقول " ختمتم بروح الموعد القدوس"(أف13: 1). + ومن ثمَّ فهذه الأقوال هي بسببنا ومن أجلنا( القديس اثناسيوس الرسولى عن العماد) لقد اعتمد السيد ليعلن لنا أنه الطبيب الحقيقي الذي جاء ليرفع خطايا البشر.. لم يقف في الماء لكي يقر بخطيئته كما فعل باقي الناس اللذين أعتمدوا من يوحنا.. فهو بلا خطية.. لهذا ذهل يوحنا حينما أعلن له عن ما هو الواقف أمامه لايعتمد.. لذلك قال له {أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي} (مت 3: 14) لقد حاول أن يمنعه من العماد لأنه بلا خطية.. فلماذا يعتمد ؟! فأجاب الرب علي يوحنا قائلاً {اسمح الان لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر. حينئذ سمح له} (مت3: 15). العماد في نهر الأردن + في قصة عبور بني اسرائيل ليدخلوا ارض الموعد قديما بقيادة يشوع ابن نون وفي نهر الاردن (يش20: 7 – 17) لما وضعوا تابوت العهد فى الماء انشق النهر فعبروا فيه وانتخبوا 12 رجل من أسباط اسرائيل رجل من كل سبط واخذوا حجارة ومروا عليها حتى عبروا نهر الأردن. قصة العبور كانت هذه القصة رمزا لعبورنا من خلال الرب المتجسد السماء أرض الموعد الحقيقية لذلك انفتحت السماء حين نزل الرب فى الماء كما انفتح النهر بحلول تابوت العهد فيه توافق فى الرمز والمرموز اليه . من هنا أخذت المعمودية أهمية خاصة لأنها عبور إلى ارض الموعد الحقيقية التي هي السماء. حلول الروح القدس على السيد المسيح هو حلول لأجل عمل الخلاص، الإبن الكلمة والروح القدس كلاهما أقنومين فى الثالوث القدوس.(هذه العظه من منتدى أم السمائيين والأرضيين) هذه الحادثة تؤكد أهمية هذا الرمز لما حدث في عماد الرب يسوع علي يد القديس يوحناالمعمدان لأن الرب جاء لكي يوصلنا إلي أرض الموعد الحقيقية وهي السماء.. لذلك كما كان نهر الاردن الوسيلة التي من خلالها وصل بني اسرائيل الي أرض الموعد هكذا تحقق الرمز في عماد الرب في نهر الاردن ليكون الوسيلة للوصول الي السماء.. وهكذا نفس الامر إذ بمجرد نزول الرب الي نهر الاردن انفتحت السماء ونزل الروح القدس علي هيئة جسمية في شكل حمامة وأستقر علي رأس الرب يسوع كاول إنسان يستقر فيه الروح القدس منذ غادر البشر كما جاء فيه (تك: 3) { فقال الرب لا يدين روحي في الانسان الي الابد لزيغانه هو بشر وتكون أيامة مائة وعشرين سنة}.. اي لا يدوم روحي في البشر.. ولتوضيح هذا المعني أريد أن لا نخلط بين السيد المسيح والروح القدس لاهوتياً (إذ هما أقنومان في الذات الالهية الواحدة) وبين حلول القدس علي السيد المسيح ناسوتياً. ولقد سبق الوحي الالهي وتنبأ عن ذلك قائلاً: {روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لانادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالاطلاق لأنادي بسنة مقبولة للرب} (أش61: 1، 2) + ان الإبن الكلمة والروح القدس كلاهما أقنومين فى الثالوث ولذلك هذا هو الوضع اللاهوتى، (مز45: 6،7) {كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك}. هذا الجزء الأول الخاص باللاهوت هذا عن الإبن ووضحها القديس بولس الرسول عن الإبن، {أحببت البر وأبغضت الاثم من أجل ذلك مسحك الله الهك بزيت الإبتهاج أفضل من رفقائك}هذا الجزء خاص بالوضع الناسوتى وهونفسه كرسيه إلى دهر الدهور هو نفسه الذى مُسح بزيت الإبتهاج. هذا هو الهدف من المعمودية أن يحل الروح القدس على السيد المسيح ناسوتياً. الملوك يمسحون بزيت قرن المسحة ولكن فى السيد المسيح حل الروح القدس عليه معطيه كمال المسحة المقدسة. ثمار المعمودية والولادة من الماء والروح + المعمودية ولادة من فوق من الماء والروح وبها نصير ابناء وبنات لله بالتبنى والنعمة وتغفر لنا خطايانا ونؤهل للدخول للسماء { اجاب يسوع الحق الحق اقول لك ان كان احد لا يولد من الماء و الروح لا يقدر ان يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو و المولود من الروح هو روح } يو 5:3-6 . + وكما يقول الانجيل { بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس } وبها نلبس الرب يسوع { لأن كلكم الذين أعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح } (غلا3: 27) . وننال التطهير الكامل والبر والقداسة (ف 3: 25). لكى يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكى يحضرها كنيسة مجيده لا دنس فيها ولا غضن ولا شيئاً من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب وبالمعمودية ندفن مع المسيح ونقوم {كل من أعتمد ليسوع المسيح قد أعتمد لموته} (رو6: 3، 4) . لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته فإن كنا قد متنا مع المسيح عن الخطية وشهوات العالم وقدمنا توبة عن اثامنا وخطايانا ننمو فى القداسة ونثمر ثمر الروح ونرث ملكوت السموات . + لهذا يحثنا القديس اغريغوريوس النزينزى ان نحتفل بهذا العيد بالتوبة والقداسة ( فلنكرم ليوم معمودية المسيح، ولنعيد عيدًا سعيدًا يفرحنا روحيًا بدلاً من أن نهتم بمعدتنا وشهواتنا. ما هي طريقة فرحنا ؟ اغتسلوا حتى تتنقوا. إذا كنتم قرمزيين من الخطيئة فصيروا بيضًا كالثلج بالاغتسال والتوبة. حاولوا أن تتنقوا لأن الله لايفرحه شئ بقدر ما تفرحه النقاوة وخلاص الإنسان الذي تجسد من أجله، ومن أجله كُتبت كل الكتب، وأعطيت كل الأسرار لكي يصبح (الإنسان) كوكبًا مشعًا بالضياء للعالم المنظور وأمام الملائكة، وقوة محيية للآخرين، ولكي تتقدموا أنتم كأنوار أمام الله النور الاعظم ، وان تدخلوا إلى مساكن النور ).
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل