المقالات

26 أغسطس 2021

شخصية مريم العذراء والدة الإله ج4

مريم العذراء والدة الإله أم الرب وإخوته:- متى 12: 46 – 50، مرقس 3: 31 – 35، لوقا 8: 19 – 21 بمقارنة الفصلين الأولين المشار إليهما يبدو أن الحادثة المذكورة فيهما والتي تلفت نظرنا إلى مريم ثانية قد حدثت في كفرناحوم. وإلى تلك اللحظة كان الرب مشغولاً تماماً بخدمته المباركة. وكانت جموع غفيرة جداً التي انجذبت نحوه حتى أنه وتلاميذه لم يقدروا ولا على كسر خبز. "وأقرباؤه" سواء أكانوا المهتمين به أو المتضايقين مما كان يحدث "خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا أنه مختل". (مرقس 3: 20 و 21). هذه الحادثة هي التي ستشرح الواقعة التي سنتأملها الآن، لأنه في إنجيل مرقس تتبعها في الحال غالباً. ومرة أخرى نجده يتتبع بنشاط إرساليته الإلهية "وكان الجمع جالساً نحوه" (مرقس). "وفيما هو يكلم الجموع" (متى) "إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجاً طالبين أن يكلموه". وكما نفهم من لوقا أنهم "لم يقدروا أن يصلوا إليه لسبب الجمع" "ووقفوا خارجاً وأرسلوا إليه يدعونه" كما نتعلم من مرقس. وهكذا انتقل الكلام إلى دائرة المحيطين به من الجمع – الدائرة الداخلية بأن الرب يطلبه أمه وإخوته. وإذا نتتبع رواية متى – قال له أحد "هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجاً طالبين أن يكلموك".وفي البداية قد يبدو غريباً بعدما تعلمت مريم الدرس في قانا الجليل أن تتجاسر هكذا لتقاطع الرب في خدمته.ويمكن أن نفهم ذلك في ضوء الحادثة المشار إليها في (مرقس 3: 20 و 21). وعلى الرغم من أنه قد كُشف لمريم من هو يسوع فلم تستطع إلا أن تُظهر عواطفها الطبيعية هذه التي ازدادت وقويت وهي تشهد حياته الطاهرة والمقدسة – الحياة التي ظهرت منها محبة كاملة لله وللإنسان. ومطالب إلهية وأرضية (إذ كان خاضعاً وهو صبي ليوسف ومريم). وإن كانت مريم لم تكن قد رأت كل شذى وجمال ابنها الذي يمكن أن نتصوره جيداً غير أن ما رأته كان يكفي ليجعل يسوع موضوع مشغولية قلبها المتزايد. ولهذا عندما رأته خاضعاً مستسلماً، دون اعتبار للذات أو الراحة، متابعاً خدمته يوماً فيوماً، غير مبق على نفسه ولو في أدنى درجة لها، وهو لا يكف بلا كلل صباحاً وظهراً ومساءً، متمسكاً بكل فرصة ليكون فيما لأبيه. فقد كانت إلى حد بعيد محكومة بعواطفها الطبيعية ومنزعجة لأجله. وبهذه الطريقة فقط أوصلت الرسالة التي رغبت أن تتحدث بها معه بشكل يكون مفهوماً.وقبل أن نتأمل في إجابة الرب، فإنه من المفيد أن نشير إلى الصفة المميزة للحكمة الإلهية المستعلنة هنا. فالفشل من جانب التلاميذ وتعبيرات العداوة التي يطلقها الذهن الجسدي مسجلة كلها في الأناجيل لتتحول في الحال بالفكر الإلهي إما لكي تلفت انتباهنا إلى بعض سمات المجد في شخص المسيح نفسه أو لتعلمنا بعض الدروس الهامة للحق الإلهي. فلا شيء أكثر وضوحاً ليبين لنا أن الله وراء كل شيء حتى أنه يستخدم الكل لتتميم مقاصده سواء بالنعمة أو بالحكم. وهكذا كان مع مقاطعة مريم لخطاب الرب المسجل هنا. وتوضح لنا أمثلة (متى 13) أن الرب قد وصل إلى أزمة في خدمته. ولا نذهب بعيداً إذا قلنا أن الأمثلة التي نطق بها لم تقال قبلما يقطع علاقته بالأمة اليهودية المرتبط بها حسب الجسد. وهو ذات الشيء الذي يفعله الرب إزاء رسالة مريم ويا للكمال الإلهي الذي نراه في كلٍ من حكمته وغنى كلمته. إنه هو الأقنوم الإلهي الذي سبق فرأى كل شيء وجعله خاضعاً لأغراضه. إن إجابة الرب لأمه وإخوته تستحق منا كل انتباهنا الخاشع: "من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟. ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي! لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي" (متى 12: 48 - 50).ومع أننا مهتمون بالدرجة الأولى في تأملاتنا بتاريخ مريم الشخصي، غير أن هذا لا يمنع من أن نعبر سريعاً على التعليم النافع لهذه الحادثة. فبالنسبة لمريم نفسها فإن هذا الدرس شبيه للغاية بالدرس المعطى لها في قانا الجليل. وإذ كان الرب مشغولاً بتتميم إرادة الله في خدمته المباركة فإنه لم يسمح بمن يُعوِّق خدمته ولو كانت أمه بحسب الجسد. وفي تكريسه لصوالح أبيه لم يكن لديه ما يفعله معها (انظر يوحنا 2: 4). ويسمح لنا هنا أن نراه باعتباره لاوي الحقيقي والكامل. وقبل رحيل موسى كان قد بارك أسباط إسرائيل فقال عن لاوي: "الذي قال عن أبيه وأمه لم أرهما، وبإخوته لم يعترف وأولاده لم يعرف بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك" (تثنية 33: 9، انظر أيضاً مزمور 69: 8). ويا لها من أمور مباركة هذه التي نجدها ممثلة كلها في المسيح إزاء هذا المشهد الذي أمامنا! لقد كان لله تماماً وبكليته، وهكذا كان خارج العلاقات الطبيعية برمتها. لقد كان حقاً قائداً لشعبه في كل طريق يدعوهم أن يسلكا فيه (انظر 1 يوحنا 2: 6). وبأسلوب مماثل تمم فكر الله عن النذير، وهكذا في كل أيام انفصاله ونذره كان قدوساً لله. ومع أن نذره الآن مؤكد ويأخذ الآن شكلاً آخر وحالة أخرى، إلا أن حياته التي عاشها هنا كانت لله، وكان في كل طريقه هنا على الأرض بكامله لله.وبالإضافة إلى ما ذكرنا هناك معنى آخر. ففي ختام (ص 11) نجد أنه قد رفض، وأن مختار الله هذا قد نحى جانباً الأمة التي لم تقبل ماسياها. وإذا كان بركات النعمة مخيفة عن الفهماء والحكماء فإن الله أعلنها للأطفال. وأمكن ليسوع أن يحمد الآب "رب السماء والأرض" لأجل تدريبات نعمته بحسب مقاصدها الأزلية. وهكذا كما أعلن الآن "كل شيء قد دُفِع إليَّ من أبي. وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له". ولذلك عندما قال الرب إجابته لمن أخبره عن رغبة أمه وإخوته أن يتكلموا معه – من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟ كان في هذا إعلاناً عن عدم اعترافه بالروابط الطبيعية. ومن كما نتوقع أن نجده في الفصل التالي يذهب ليلقي البذار طالباً الثمر، إذ قال أتى مفتشاً عن الثمر ولكنه لم يجد.ونتعلم أيضاً بخلاف ذلك أنه أقام روابط حميمة وأكثر مودة مع تلاميذه إذ مد يده نحوهم وقال ها أمي وإخوتي! لأن من يصنع مشيئة أبي في السماوات هو أخي وأختي وأمي. ويا لها من نعمة ثمينة يعلنها مظهراً أمام الجميع ارتباطه الكامل بهذه البقية المسكينة والضعيفة التي تتبعه بخطوات مترددة، والتي بفضل عنايته ومؤازرته لها يثبتون معه في تجاربه! وإذ يصنعون مشيئة الآب وذلك بسماعهم لدعوته فإنه قد أحضروا إلى الدائرة التي يشكل فيها هو المركز والرأس والتي وجد فيها كل مسرته (مزمور 16: 3). ويمكننا أن نرى كيف اهتم بمريم بكل حنان عندما انتهت خدمته. وكان هذا أيضاً جزءاً من كماله كإنسان على الأرض. وليس أقل من ذلك كانت روابطه الحميمة بأولئك الذي أعطوا له كأبناء (أشعياء 8: 18).ويلاحظ أيضاً بالتأكيد أنه كان في هذا كالمثال الكامل. فكم يفشل الكثيرون في اتخاذ الموقف المتوازن بين استيفاء مطالب الله وشعبه وبين مطالب الروابط الطبيعية! إن خلو الفرد من العواطف الطبيعية هي علامة الأزمنة الأخيرة والخطيرة، ولكن إذا تغلبت هذه العواطف وعلت فوق المحبة للإخوة وأصبحت تتحكم في حياتنا فإننا لا نقدر أن نسلك في روح كلمات رنا المبارك. أما لو كان المسيح ممتلكاً لقلوبنا فإننا نرى جميع هؤلاء الذين هم له في ضوء عواطفه ومن جهة الحق الكنسي كعائلاتنا وأهلنا الذين يشغلون كأنهم الحقيقي. ليت قلوبنا تستنير بكلمات النعمة التي انسابت من شفتي ربنا في هذا الموقف. مريم تقف عند صليب يسوع:- (يوحنا 19: 25 - 27) عندما حمل سمعان الشيخ الطفل يسوع على ذراعيه قال لمريم "ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم، (وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف) لتعلن أفكار في قلوب". وقد كتبنا الكلمات التي تشير بصفة خاصة إلى مريم في شكل مائل، وقد وجدت تتميمها في المشهد لذي يحويه هذا الكتاب. لم يقال أنها تبعت يسوع إلى الصليب أو إذا كانت شهدت التعبير والإهانات واللطم الذي لحقه قبل محاكماته. ولقد أسدل الستار على مشاعر مريم وقلقها وألمها الشديد طوال الليل المظلم الكئيب لتسليمه، وإن كان لا بد أن السيف كان قد أترق أعماق نفسها طوال الليل والنهار عقب الفصح. غير أن روح الله يهتم هنا بالسيف الذي تسلط على الرب وليس على مريم. وقد دعينا لكي نتأمل اتجاهه مسلكه ووداعته وصبره واتضاعه وكلماته، والآن إذا تقترب أحزانه وآلامه من النهاية فإن الستار يرتفع إلى لحظة قصيرة حتى يمكننا أن نرى مريم عند الصليب أو بالحري أن ننظر إلى كمال يسوع في اهتمامه بمريم – بعدما تمم إرادة الله بخدمته على الأرض. كان آخرون مع مريم، ومريم أختها زوجة كليوباس، ومريم المجدلية. ولكن لمريم وللتلميذ المحبوب الذي كان واقفاً كانت كلمات الرب. لا يمكننا أن نخمن حيث صمتت كلمة الله ولكننا لا نزال نكرر ونؤكد أن مريم لم تستطع أن تتفرس في صليب ابنها القدوس بدون ألم لا ينطق به وبدون أن يتمزق قلبها بهذا المشهد المروع. لقد شاهدته لأكثر من ثلاثين عاماً ولم تستطع إلا أن تكون حساسة لشذاه الأدبي الفائق وجمال حياته المكرسة، ولا بد أنها قد رأت على الأقل بعض اللمحات من مجد شخصه. والآن صار من نصيبها أن تنظره مرفوضاً ومهاناً ومنبوذاً ومصلوباً! لقد نالت بكل تأكيد مؤزارة إلهية وهي تعبر هذه التجربة النارية. ولم يطن قلبها أقل من كونه ينفطر حزناً وهي تراه معلقاً على الصليب وتجد ابتهاج أعدائه بحقدهم الشيطاني وقد بلغوا غايتهم الشريرة.لا يمكننا مهما كان أن نتوانى في تأملات كهذه، ولا نتجاسر فنجعلها إلا لتزيد من تقديرنا لعطف وحنان يسوع لمريم في أحزانها. كانت كأسه على وشك أن تفرغ إذ نقرأ في الحال "رأي يسوع أن كل شيء قد كمل" وكان عالماً بما يدور في قلب مريم، وقد أنهى عمله، فتوجه إلى مريم بكلمات التعزية والمواساة. أكانت هي في ظلام رأسي في لحظات تجربتها المرة؟ كان النور يقترب ليبدد لظلمة ويؤكد لها أن الشخص الذي كانت تنظر إليه بأسى وحزن لا يوصف يفهم حزنها، فقد فتح شفتيه وقال عندما رأى أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً "يا امرأة هوذا ابنك، ثم قال للتلميذ هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته".عندما التأمل في هذه الكلمات يلفت انتباهنا تلك الحقيقة بأن الإنجيلي بالوحي يكتب كلمة "أم"بينما خاطبها يسوع "امرأة"، كانت مريم هي أم يسوع – هذه النعمة من الله قادت جبرائيل أن يعطي التحية لها كالمباركة بين النساء. ولكن كما رأينا أن الروابط الطبيعية لا يمكن الاعتراف بها أنها تشكل أي مطلب من حياة نذير ومكرس كامل والآن بما أن موت الرب صار وشيكاً وهذه الرابطة الحميمة والعاطفية ستنتهي برحيله من هذا المشهد – وحتى تلك اللحظة فإن الروح القدس يذكرنا بأنها أم يسوع. وبلا جدال فإننا نتعلم أن الكرامة التي منحها الله لمريم في دائرتها الخاصة لن تنتزع منها. إن الخطأ، بل الخطأ القاتل، كان في نقل الكرامة من الأرض إلى السماء، ونتيجة ذلك أنها نالت مجداً أعلى مما لابنها الحبيب.وفي كلمات ربنا هذه يمكننا أن نفهم بوضوح شيئين. ففي المكان الأول يعطي لمريم في حرمانها تعزية وغرضاً. إن التلميذ المحبوب الذي عرف فكر الرب أكثر مما عرفه أحد آخر (إذ كان يتكئ رأسها على صدر الرب) كان عليه أن يصبح ابناً لمريم، وكان على مريم أن تأخذه في عواطفها كابنها بطريقة جديدة كما أعطي لها من الرب نفسه. وفي الحقيقة لقد كان ميراثاً ثميناً لعواطف قلبه واستطاع أن يمنحها أعظم تعزية لها في تلك الظروف. وثانياً أنه نقل علاقته الأرضية إلى يوحنا عندما قال له "هوذا أمك". وهكذا خصص للتلميذ الذي كان يحبه تتميم كل المسؤوليات الحبية والمرتبطة بعلاقات القرابة. وبإيجاز فإن مريم سلمت من الرب لعناية يوحنا واهتمامه، الذي كان عليه أن يحنو عليها ويمنها عواطفه البنوية. لقد عرف الرب ما في قلب كل منهما التي كانت بحسب معرفته ومحبته لكل منهما حتى أنه استودعهما بعضهما لبعض وهكذا ربط قلبيهما معاً في الزمان الباقي لغربتهما على الأرض. آخر ذكر لمريم:- (أعمال 1) إن التلميذ المحبوب في طاعته لرغبة الرب قبل أن يميل رأسه ويسلم روحه كان قد أخذ مريم إلى بيته. ومن تلك اللحظة تختفي عن أبصارنا باستثناء مرة واحدة تذكر فيها. ولا نجدها عن دفن جسد الرب، ولا نجدها كذلك في البستان الذي قام منه باكراً. ولكن بعد صعود الرب حيث رأوه الرسل (أنظر أعمال 1: 1- 11). وبعد رجوعهم إلى أورشليم من الجبل الذي يدعى الزيتون صعدوا إلى العلية حيث أقام الرسل وبالارتباط بذلك نجد أخر مرة يذكر فيها اسم مريم في السجل المقدس. وقيل عن الأحد عشر "وكانوا يواظبون على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم لأم يسوع وإخوته"إن ذكر مريم أم يسوع بشكل خاص هنا باعتبارها واحدة من هذه الجماعة مع التلاميذ له أهمية عظيمة.ولاشك أن انتباهنا يستوقف بهذا الشكر الخاص لاسم مريم. والغرض من ذلك أن نتعلم أن مريم أصبحت تفهم من ذا الذي تنازل ليصبح ابنها بحسب الجسد، وأيضاً مع النور الذي دخل إلى نفسها من جهة موته وقيامته وتمجيده عن يمين الله، تتخذ الآن مكانها وأصبحت مندمجة تماماً مع تلاميذه هنا على الأرض. إنها لن تقدر الفضل المعطى لها ولو مثقال ذرة لكونها أم يسوع. ولن تتوقف عن كونها منعم عليها ومباركة في النساء، أمام الآن فبالإيمان بربها الممجد صارت معدودة بين الأفاضل في الأرض الذين كل مسرة الله بهم. إن عواطفها ومشاعرها الطبيعية قد اختفت في العبادة والتسبيح. لد كانت إناء مختاراً لولادة المسيح في هذا العالم وأصبحت الآن واحدة من أتباعه وتلاميذه المتواضعين، واحدة من تلك الرفقة المباركة التي سرعان ما تتشكل مسكن الله بالروح. وكما علّم الرب السبعين أنه شيء عظيم أن تكتب أسمائهم في السماء على أن يصبحوا أواني لقوته في الصراع مع العدو. وهكذا بالنسبة لمريم يصبح شيئاً عظيماً أن تكون حجراً حياُ في مسكن الله الروحي (كما صارت كذل في يوم الخمسين) مبنية عليه الذي هو الحجر الحي المختار من الله والكريم عن أن تكون أماً لربها على الأرض.ويلزم أن نضيف هنا أن أولادها صاروا مؤمنين بيسوع. ومعدودين مع مختاري الله ونالوا نعمة للاعتراف باسمه والارتباط بخاصته وهم الجماعة السماوية الجديدة. وكما اختيرت مريم أمه فقد اختيروا في المسيح من قبل تأسيس العالم واستعلن الاختيار في الزمن كشعبه. وقد أدركت مريم وأولادها أن سماع كلمة الله وحفظها أكثر بركة من مجرد الارتباط بيسوع هنا على الأرض خلال حياته وسياحته على الأرض،في علائق أرضية طبيعية. ولذلك فإن تمجيد مريم على حساب ربنا الممجد يضر ويعي التعليم الكتابي الصحيح ويفسد الخصائص المسيحية بجملتها.
المزيد
20 أغسطس 2021

شخصية مريم العذراء والدة الإله ج3

مريم العذراء والدة الإله مريم ويوسف يجدان يسوع في الهيكل:- لقد انقضت اثنتا عشرة سنة، ولم يذكر طيلة هذه الفترة غير شيئين أولهما: "وكان الصبي وينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه". والأمر الثاني: "وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح". وهذا شهادة أخرى لتقوى مريم وزوجها لعل هذا الأمر مذكور هنا للتأكيد على هذه الحقيقة. ولا يرد هنا عن مريم أنها كانت تأخذ معها الصبي يسوع في هذه المناسبات السنوية. كما لا نجد هنا كلمة تضاف لإشباع الرغبة البشرية لحب الاستطلاع، ولكن ما يتناسب فقط مع غرض روح الله هنا. فالكل في كمال إلهي – لأن كل كلمة في الكتاب كانت تعبيراً لحكمة إلهية. والحقيقة تتقرر في عدد 41 وهي مقدمة للحادثة التي تتبعها والتي ترتبط بمريم.إن العددين الأولين يمهدان طريقنا للموضوع، "ولما كانت له اثنتا عشر سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما". ومن السجلات اليهودية نعلم أن عمر الثانية عشر بين الشباب اليهودي يعتبر السن الكافي للنضوج وتحمل المسئولية الفردية أمام الله. والصبي الذي يبلغ هذا العمر يعتبر ابناً بحسب الشريعة ويطالب أيضاً بمتطلبات الناموس.والحقيقة التي يسجلها الوحي هنا بأن يوسف ومريم صعدا بيسوع إلى أورشليم عندما كان عمره اثنتا عشرة، لا يمكن أن تكون هذه الملاحظة دون معنى خاص لنا. أما ما حدثا في العيد فلم يتسجل هنا، إنما يلفت انتباهنا مباشرة بالحري إلى هذا الظرف بالذات، وهو عند رجوع مريم مع القافلة العائدة فإن يسوع بقي في أورشليم. وكان من الطبيعي أن يظنان بين الرفقة وذهبا مسيرة يوم يطلبانه بدون قلق. ولكنهما إذ لم يجداه بين الأقرباء والمعارف رجعا إلى أورشليم يبحثان عنه. ولمدة ثلاثة أيام في قلق ومخاوف وهما يطلبانه. فمما لاشك فيه بأن كل هذا بترتيب إلهي، فبينما كان "الصبي يسوع" يتمم إرادة أبيه فقد كان يجب ألا يتعطل عن عمله. وفي نهاية المدة "وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم". ليت القارئ يدرك هنا كيف أن الروح القدس قبل أن يسجل كلمات مريم فإنه يلفت انتباهنا إلى الحكمة التي يعلمها هذا الصبي القدوس- وهي حكمة مستعلنة بشكل واضح. "وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته". وكم هو حقيق بأن الله يسر بأن يشغلنا بكلمات ابنه المحبوب! أما مريم ويوسف – وهما من أذل الغنم على الرغم من أن يوسف كان ابناً لداود (متى 1: 21) – فقد اندهشا من هذا لمنظر ومريم بقلب أم متأثرة قالت "يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين".وقبل أن نأتي إلى جواب يسوع فلنتأمل قليلاً في كلمات مريم. لقد انقضى أكثر من اثني عشر سنة على تلك الإعلانات العجيبة التي أتى بها جبرائيل، وكذلك نفس المدة تقريباً على الأقوال النبوية لسمعان الشيخ، والتي لم تعترضها إلا أوقات عيد الفصح السنوية التي كانا يصعدان فيها إلى أورشليم. بخلاف ذلك مرت هذه السنوات هادئة في الناصرة تتخللها الحياة العائلية بالتزاماتها العادية. وليس أمر غير مصدق، بالرغم من كمالات ابنها الظاهرة في نموه عبر تلك السنوات، أن يصيب مريم العمى الجزئي تجاه طبيعة حياة يسوع اليومية أو على الأقل كانت تنسى النصيب الذي ينتظر ابنها. ولن نذهب بعيداً في تصوراتنا بل نلتزم بالمكتوب فقد كان هناك أمران في خطابها إلى يسوع تؤكد لنا هذا الافتراض السابق، فأولا اللوم الذي تتضمنه كلماتها "يا ابني لماذا فعلت بنا هكذا؟" وثانياً استخدمها لعبارة تتضمن يوسف معها "هوذا أبوك". ولسنا بحاجة إلى إبراز هذين الأمرين باعتبارهما فشلاً، وإن كنا لا نشك أنهما نبعاً من مشاعر طبيعية صافية وعلاقات نقية. ولكن من جهة أخرى يتبرهن لنا أن أسلوب حديثها هو نتاج عواطف شديدة لابنها الكامل.أما إجابة يسوع لأمه فكانت إعلاناً عن إدراكه لتلك العلاقة الإلهية بالإضافة إلى إعلانه أنه قد جاء ليفعل إرادة أبيه. قالت مريم ليسوع عن يوسف أنه "أبوك"، وكانت إجابته أنه بقي في أورشليم، كقوله، "ينبغي أن أكون فيما لأبي" كانت إرادة أبيه هي الشريعة العظمى في حياته، وفرحه في أن يعترف بها. وعب اعترافه بها مكان جواباً شافياً لسؤال مريم الذي أزاح به لومها الظاهر. ولا يدهشنا أنهما "لم يفهما الكلام الذي قاله لهما".وعلى ذلك نقرأ: "ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما". كانت إجابته لمريم في الهيكل قد ألقت الضوء الكافي على هذه السنين كلها ما بين أول فصح يصعد إليه وبين يوم معموديته إذ كان يعرف مركزه بدقة، لقد كان هنا فيما لأبيه أو لخدمة أبيه، وبالتالي في خضوعه ليوسف ومريم كان يفعل إرادة أبيه بنفس الكيفية كما بقي في أورشليم. فلم يكن هناك ولا يمكن أن يكون شيئاً من عدم الاتساق بين حياته اليومية وما يسمونه الناس الواجبات المقدسة. وكان كل نفس وكل شعور وكل فكر وكل كلمة وكل عمل إنما هي ثمار لحياة تقوية وتكريسية تامة لإرادة أبيه إذ كان يفعل كل حين ما يرضيه (يوحنا 8: 29). ويا له من مشهد يجرى يومياً أمام عيني مريم ويوسف في هذا المسكن المتواضع بالناصرة.وفي الختام يقال لنا عن "أمه" التي كانت "تحفظ جميع هذه الأمور متفكرة به في قلبها". هناك الأقوال في أورشليم وكذلك الأقوال في الناصرة. وهي في حالة من اليقظة وتتفكر متأملة في هذه الكلمات. ويمكننا أن نتأكد أن روح الله أعطاها بعض الإدراك لمعاني هذه الأقوال. لتؤازرها وتقودها وتعزيها في سنوات آتية. وأقول أنه ليست واحدة من بين جميع النساء أعطي لها الامتياز المبارك مثل مريم، فهي حقاً "المنعم عليها". ومرة أخرى نسترجع إجابة الرب للمرأة التي رفعت صوتها من الجميع قائلة له "طوبى للبطن الذي حملك والثديين الذين رضعتهما" أما هو فأجاب "بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه". هذه البركة ممنوحة لكل واحد من شعب الله. في قانا الجليل:- (يوحنا 2: 1 - 11) تمضي السنون قبلما نجد مريم مرة أخرى في سجل الوحي. رأيناها آخر مرة في أورشليم عندما كان يسوع عمره اثنتا عشرة سنة وقد صعدت مع رجلها إلى هناك لتحفظ عيد الفصح ثم رجعت إلى الناصرة. ولا يرد شيئاً عن يسوع أو عن أمه لمدة لا تقل عن ثمانية عشر عاماً. وطوال هذه الفترة التي كان فيها يسوع مختفياً كانت هي كذلك مختفية وهكذا يكون الأمر مع المسيحي فإن حياتنا الآن مستترة مع المسيح في الله، ولكن عندما يظهر المسيح حياتنا ستظهرون معه في المجد (انظر أيضاً 1 يوحنا 3: 2) كذلك في الإنجيل ففي اللحظة التي بدأ فيها يسوع ظهوره لإسرائيل (ص 1: 31) نجد مريم مرة أخرى تأتي في المشهد. ولكن لكي نفهم الأمر فهماً صحيحاً وما تبع ذلك فتجب ملاحظة أن سيرتها الشخصية تتوقف. وعندما نراها بعد ذلك أو يرد ذكرها فإما بغرض رمزي أو لتعلم درساً ثميناً في ارتباطها مع ربنا. وتجد ملاحظة أن مريم هذه المنعم عليها لا ينبغي أن تكون محط أنظار شعب الله عندما يأتي ابنها يسوع في المشهد، فما يشغل القارئ هو كمالاته وحكمته وخضوعه الكامل لإرادة إلهه ومجده، وفي نفس لوقت لا ننسى هذه الوحدة في العلاقة بين مريم وطفلها.ويقال لنا أنه "في اليوم الثالث" "كان عرس في قانا الجليل. وكانت أم يسوع هناك". "ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس". إن البعض يشكون إذ تناولنا هذا المشهد بشكل رمزي عندما نطرح الصورة النبوية لرجوع إسرائيل المستقبلي. والجملة التي تتكلم عن العرس أنه كان "في اليوم الثالث" إنما تشير بوضوح إلى ذلك المعنى النبوي، فاليوم الثالث يتكلم عن زمان البركة (وكذلك الدينونة إذا أضفنا إليها حادثة تطهير الهيكل) والتي جاءت بعد اليومين للشهادة وهما ليوحنا المعمدان وليسوع نفسه – والمسجلة في ص 1، والتي تعني غالباً القيامة – وهي ظلال مستقبلية لحقيقة بركة الشعب الأرضي وكذلك بركة الشعب السماوي والتي تتأسس على القيامة وحدها. ولكي نفهم الخاصية الرمزية لهذا العرس – فقد اتخذ العرس مجراه ولكنه اختير خاصة لإظهار هذا الغرض وهو مفتاح هذه الحادثة ولا بد لنا أن نقول ذلك لأن كثيرين حتى من المسيحيين أنفسهم لم يفهموا بحسب أفكارهم البشرية المناقشة التي دارت بين الرب نفسه في تعاملاته مع مريم في هذه المناسبة، وقد نسوا مجد ذاك الذي استعلن هنا كما في أماكن أخرى وكذلك كماله المستعلن في تلك العلاقة. ونقرأ "ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر. قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة؟ لم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه" (ع 3 - 5). ونسجل هنا ملاحظات كتبها واحد تشرح معنى هذا الجزء: [إنه في العيد (أو العرس) لا يعرف أمه، وهذه هي علاقته الطبيعية مع إسرائيل، والمنظور لها أنه قد ولد منها تحت الناموس، فإسرائيل أمه، إنه يفصل نفسه عنها ليتمم البركة]. وهذا يساعدنا في شرح طبيعة هذا المشهد الرمزي المشار إليه. وهذا صحيح فإذا كان يسوع قد ولد من امرأة وولد تحت الناموس، فقد كان عليه أن يموت عن هذه العلائق جميعها لكي يمجد الله تمجيداً كاملاً ويفتدي الذين هم تحت الناموس بأن يصير لعنة لأجلهم قبلما يأتي بالبركة لإسرائيل. وحبة الحنطة كان ينبغي أن تقع في الأرض وتموت لكي تأتي بثمر كثير.ولكن هناك شيئاً آخر يجب أن نتذكره أن يسوع قد أخبر أمه – كما رأينا كذلك من قبل – أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه أي لصوالح أبيه، وأنه قد أتى ليفعل إرادة أبيه وهو قد فعل ذلك ففي كل خطوة كان في شركة مع أبيه سواء من جهة التوقيت أو الأسلوب الذي يتبعه، كما قال عن نفسه "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل. لأن مهما عمل ذلك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5: 19 - 20). ولذلك كان من المستحيل عليه أن يقبل اقتراحاً من مريم عما ينبغي أن يعله وهذا معناه أن مريم تتدخل في منطقة مقتصرة ومحددة للآب وللابن. كان ما قالته تعبيراً عن حثها للرحمة وهو في ذات الوقت يعبر عن إيمانها بقوة يسوع التي لا يمكن أن تنكر. وعندما نأتي إلى دائرة كمال المسيح وتكريسه فإننا لا نسمع غير صوته الذي يقول أنه جاء ليفعل إرادة أبيه. إن هذا يفسر لنا قوله "مالي ولك يا امرأة؟؟ لم تأت ساعتي بعد".كانت كلمة يسوع لأمه التأثير المقصود، ويتضح هذا من حقيقة أنها لم تحاول أن تجيب،وأنها كانت تعتمد على تدخل يسوع وإظهار قوته، فقالت للخدام: "مهما قال لكم فافعلوه". وهذا جميل ورائع في حد ذاته، فمع أن مريم بسبب عواطفها الزائدة جربت في أن تأخذ مكاناً لا يخصها، وربما رغبة منها أن ترى ابنها يظهر علانية،ولكن سرعان ما تكلم الرب حتى عادت إلى مكانها الصحيح وانسحبت إلى الخلف. حتى وهي تتطلع إلى مجده الذي يفوق المجد البشري (ع 11) موصية الخدام بطاعة له لا تقبل الجدال. إن التوفيق بين عواطف الأمومة مع إيمانها بيسوع باعتباره يدعى ابن العلى وابن الله، وهي تراه في طريقة حياته اليومية يأكل ويشرب وينام، إنما يصبح هذا التوفيق أمراً صعباً ولكن الله نفسه كان يلاحظها ويفتح قلبها كل يوم لما كانت تحتاج أن تتعلمه وكذلك في هذه المناسبة عرس قانا الجليل. لم تعد تنشغل بتاتاً بنقص الخمر، وبقيت شاهدة بصمتها عن ما سيحدث، ولذلك استمتعت بهذا الامتياز الذي لا ينطق به كشاهدة لبداية هذه الآيات التي صنعها يسوع عندما أظهر مجده وآمن به تلاميذه. إن ما يصدر عما هو إلهي هو جزء من مجد الله وإظهار لحقيقة شخصه، وبالتالي فإن تحويل الماء إلى خمر كان بقوة كلي القدرة ونتيجة ذلك أن تلاميذه آمنوا به.كانوا قد قبلوه من قبل مع ضعف إيمانهم أما الآن فقد تثبت إيمانهم وذلك مريم أيضاً.وإذ أكمل يسوع إرساليته في قانا الجليل انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هناك أياماً ليست كثيرة. وللحديث بقية
المزيد
12 أغسطس 2021

شخصية مريم العذراء والدة الإله ج2

مريم العذراء والدة الإله مريم في بيت لحم:- إن كان الله له مطلق السلطان في مقاصده، فله أيضاً مطلق السلطان في اختياره لتلك الأواني التي تحقق مقاصده. ولأكثر من سبعمائة عام قبل ميلاد المسيح، تنبأ ميخا النبي بميلاد المسيح في بيت لخم: "أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل". وكانت هذه نبوة عن مكان ميلاد المسيا، وقد اقتبسها رؤساء الكهنة والكتبة في إجابتهم عن السؤال الذي طرحه هيرودس عليهم – أين يولد المسيح؟. ولكن كان بيت مريم في الناصرة في الجليل، وكان الوقت يقترب لميلاد طفلها القدوس، وهكذا: "في تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة (العالم أو الإمبراطورية الرومانية). وبناء على هذا القرار تحرك يوسف (ومعه مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى بابنها)، لكونه من بيت داود وعشيرته، وصعد من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية في مدينة داود التي تدعى بيت لحم. ولم يكن الإمبراطور الروماني يدري كثيراً عن نتائج هذه الفكرة التي طرأت على ذهنه. كما لاحظ أحد الكتاب أن "هذا العمل كان لتحقيق قصد الله العجيب، لكي يولد المخلص الملك في قرية – كانت بحسب شهادة الله لابد أن يتم فيها هذا الحدث". وما يلفت الملاحظة أكثر أنه على الرغم من صدور هذا القانون، والذي بموجبه صعد يوسف ومريم مع كثيرين أيضاً إلى مدينتهم ليكتتبوا هناك، غير أن الاكتتاب قد تم بعد ذلك بفترة "عندما كان كيرينيوس والياً على سورية". كم عجيبة حكمة الله وكمال طرقه! فيوسف كان عليه أن يأخذ مريم امرأته إلى بيت لحم، ويحرك الله الإمبراطور ليدفع إمبراطوريته للاكتتاب فيصعد يوسف إلى بيت لحم. يا له من برهان أكيد أن الله يمسك بزمام الحكم في يديه ويحرك قلوب الناس حيثما يشاء أن يمليها. والمسيحي يؤمن ويعرف ذلك وهو يستريح بسلام إزاء كل أعمال الناس ونشاطها، وإزاء كل التشويش والاضطراب والصراعات التي تجري هنا وهناك.وبينما كان يوسف ومرين في بيت لحم، أن مريم "ولدت ابنها البكر فقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل" (ع 7). وليس غرضنا في هذا الجزء أن نتناول موضوع التجسد، ولكننا بالحري نتكلم عن تاريخ مريم الشخصي. ونتجاسر أن نقدم لأحدهم بعض التأملات على هذا الحدث العجيب، وسر الأسرار فقال: "إن ابن الله ولد في هذا العالم ولكنه لم يجد مكاناً هنا. وإن كان جميع الناس لهم بيوت ولهم أماكن ولو في فندق غير أن ابن اله لم يجد مكاناً غير مذود. وهل عيثاً يسجل الروح القدس هذه الحادثة؟ كلا، فليس مكان لله ولا لأمور الله في هذا العالم. وهل نجد ما هو أكثر كمالاً غير تلك المحبة التي جعلته ينزل إلى الأرض. ولكنه بدأ في مذود وانتهى بالصليب، وبين البداية والنهاية كل الطريق لم يكن له أين يسند رأسه". ونحن كمؤمنين بكل خشوع وتعبد في حضرة إلهنا نتأمل في الطريقة التي بها "الله ظهر في الجسد" نعمة ربنا يسوع المسيح الذي من أجلكم افتقر وهو الغني لكي تستغنوا أنتم بفقره. وإذا كانت هذه الأمور هكذا فليتنا نتذكر أنه لكي يتمم مقاصد محبته ويفتدي شعبه سواء كان إسرائيل أم الكنيسة، كان لزاماً عليه أن يرفض في حيته ويصلب في موته. إن الطفل المضجع في الذود هو "غرض كل مشورات الله، وهو الممسك والوارث لكل الخليقة، المخلص لجميع الذين يرثوا المجد والحياة الأبدية". ولا عجب فإن مريم كانت محتجة كل هذا الوقت. ولا كلمة تسجل عنها لما كانت تشعر به أو تفكر فيه أو تقوله، والحق أنها كانت مختفية وراء مجد ابنها. مريم والرعاة:- وإذ نشير إلى أولئك الأتقياء الذين اختارهم الله ليتسلموا إعلان ولادة المخلص الذي هو "المسيح الرب"فذلك بسبب ارتباطهم بما تسجل في قصة مريم. فإن الله في هذا الوقت لم يمنح عظماء الأرض هذا الإعلان بل إلى فقراء شعبه والمتألمين الذين كان هؤلاء الرعاة معدودين منهم. فالأخبار والإعلانات الإلهية تعطى فقط للقلوب المعدة إعداداً إلهياً ولهذا فإننا نؤمن بأن هؤلاء الرجال البسطاء كانوا ممن ينتظرون فداء في أورشليم (انظر ع 38). وإذا كانوا ساهرين ليلاً على قطعان أغنامهم فقد أرسل لهم الملاك حاملاً بشائر الفرح العظيم لجميع الشعب، كما أعطاهم علامة للمصادقة على إيمانهم "تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود". وحالما أنهى رسالته سرعان ما "ظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله قائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".ولنترك للقارئ التقي أن يتأمل هذه الكلمات التي رنم الملائكة بها والتي ترينا على الأقل أن كل مقاصد الله لبركة شعبه إسرائيل تتحقق في شخص ابنه المحبوب، ولكن دعونا نتتبع هؤلاء الرعاة الذين في بساطة إيمانهم دون أن يتساءلوا عن هذا الحق الذي سمعوه ولكنهم قالوا بعضهم لبعض "لنذهب الآن إلى بيت لحم، وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مذود". ويا له من منظر ملأ عيونهم بالتحية له! ربما لم يدركوا المغزى الكامل لما رأوه أو مجد هذا الصبي. ولكنهم رأوه بقلوب ساجدة بدون شك. وليست هناك كلمة قيلت منهم ولا من مريم ولا من يوسف،ذلك لأنهم كانوا مثبتين عيونهم على المخلص المسيح الرب وهو مضجع في مذود. ولكن كان لا بد لهم أن يكونوا قد تكلموا، فيعد العبارة المتعلقة بشهادتهم "في الكورة" ونتيجة هذا إذ قيل "وكانت مريم تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها". فإذا ربطت هذا مع نهاية فقرة عدد 57 نستطيع أن نقول أن مريم كانت ذا نفس هادئة متأملة ومتجاوبة. فالاختيار لمثل هذه الإرسالية وبهذا التكليف يصبح من الصعوبة أن يكون بخلاف هذه الشخصية. إن أقل شعور تجاه صبي كهذا أقول أنه يجب أن يكون في رهبة حضور الله، وهنا يقصر الكلام عن التوضيح والإنسان يجب أن يعرف أكثر عن أفكارها وهي تحملق في وجه هذا الصبي العجيب الذي قال عنه أشعياء بالنبوة "ويدعى اسمع عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام". ولكن يا لها من نعمة حظت بها مريم، ومع ذلك فليست هي غرض السماء بل ابنها وهو غرض مشورات الله، الذي به استعلن مجد الله وتثبت وصار نافعاً في هذا العالم. ونحن نتعجب من السمات الجميلة التي اتصفت بها مريم والتي تتفق مع تقواها وسلوكها. مريم في الهيكل:- نتبين في كل من شخصية مريم ويوسف هذه الصفات التقوية التي نلحظها في انتباهها الشديد لدقائق كلمة الله سواء في أمر ختان الصبي القدوس أو في تطهير مريم، فقد كانت طاعتها لأوامر الناموس واضحة وصريحة (انظر لاويين 13). وكذلك في تقديم يسوع للرب "كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوساً للرب".وكان لا بد أن يمضي أربعون يوماً بعد ولادة الصبي قلما تظهر مريم في هيكل أورشليم. وفي هذه الفترة كانت قد تمت زيارة المجوس أو حكماء المشرق كما وردت في إنجيل متى. وفي هذا المشهد كما في مشهد زيارة الرعاة أيضاً لم تتخذ مريم دوراً ظاهراً بل كانت متوارية في الظل بإرادتها، وكانت في شركة مع الله – على الأقل بقدر قياسها، لذا كانت تعرف المجد الآتي لذاك "المولود ملك اليهود"، فلم تندهش كثيراً عندما رأتهم يخرون ساجدين له أو عندما فتحوا كنوزهم وقدموا له هداياهم – ذهباً ولباناً ومراً – كانت فرحة لكونها الإناء المختار لولادته، ولكن كان عليها أن تتعلم أنه بحكم هذا الارتباط والاندماج بمسيح الله فلا بد أن يلاقيها الاضطهاد من إله هذا العالم. ومن تلك اللحظة التي ولد فيها هذا الصبي ابن الله فإن التنين (أو الشيطان) الذي كان يترقب تلك اللحظة سعى أن يبتلعه. صارت مريم ويوسف وكذلك الطفل يسوع غرضاً لعداوة الملك الشرير ولكنهم كانوا تحت غطاء الحماية الإلهية والإرشاد الذي دفعهم للهروب إلى مصر. وبعدما عادوا إلى أرض إسرائيل إلى الجليل إلى منزلهم الأصلي استمتعا بهذا الشرف والامتياز الذي لا يقدر لخدمته – ذاك الذي لم يكن أقل من ابن الله.وإذ نتذكر تلك الحوادث لنستكمل القصة، والآن لنتأمل هذا المشهد في الهيكل. كتب ملاخي: "ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه" نعم لقد أتى "وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس". كانت أورشليم كعادتها – شعبها يبيع ويشتري النساء تتمم واجباتها المنزلية والرجال يلازمون حرفهم اليومية. كما كان ملكهم الأدومي المتعطش للدماء والقاسي والحزين والبائس ولكنه كان يعمي أتباعه بسخاء وعظمة صروحه المشيدة، عاملاً على إرضاء شهواته الدنيئة. وهكذا كان الجميع في جهل تام بهذه الحقيقة العجيبة أن الله قد افتقد شعبه، والمسيا الممجد الذي تنبأ له الأنبياء والذي يمتد ملكه إلى كل الأرض (انظر مزمور 72) كان في وسطهم وقد حمل إلى تخوم الهيكل المقدس. ولكن كيفما كان اتجاه الأمة وحالة عدم إيمانهم فإن الله يضمن دائماً معرفة ابنه المحبوب بالصورة التي يستحضره بها. وفي هذه الحالة أعد الله قلوب قليلين كانوا ينتظرون فداء في أورشليم للترحيب بمسيحه واختار الله اثنين من هؤلاء لينظراه بأعينهم في ذلك الوقت كانت مريم ويوسف يجتاز شوارع المدينة ومعهم هذه الوديعة الثمينة، وفعلاً كما كان يفعل أي قديسين يهود بسطاء في أحوال مشابهة لهذه الظروف. ودخلا إلى المكان المقدس دون أن ليلاحظهما أحد أو يعطيهما اهتماماً، ودون أن يعرفا شيئاً عما أعده الله أو ما سيفعله. وكما كتب الإنجيلي "وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان. وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه. وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتى بالروح إلى الهيكل" وجدنا هنا واحداً تحت السيطرة الكاملة للروح القدس، وقد دعاه الله وأعده لكي يأخذ ابنه على ذراعيه عندما دخل مريم ويوسف بالصبي يسوع ليصنعا له حسب عادة الناموس.يا له من مشهد عجيب فعلاً إذ يشغل انتباهنا حقاً لما فيه من فائدة ونفع لنا قبلما نستكمل موضوعنا. ليتنا نتذكر ونحن نتأمل هذا المشهد أننا نقف على أرض مقدسة. ونقرأ أن سمعان "أخذه على ذراعيه" أخذه من يدي أمه. مشهد عجيب! فهذه الأم التقية والمكرسة تضع طفلها بين ذراعي سمعان الشيخ. إن سمعان نال هذا الامتياز الثمين ليحمل على ذراعيه هذا الطفل الذي تتحقق وتتكمل فيه كل مشورات الله!.ولكن من هو هذا الصبي؟ إنه الكلمة الذي صار جسداً المكتوب عنه "في البدء كان الكلمة، والكلمة كانت عند الله، وكان الكلمة الله" (يوحنا 1: 1) وهو "صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة: فإنه فيه خلق الكل، ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أو رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء والذي فيه يقوم الكل". وهو الذي "فيه سر أن يحل كل الملء" (كو 1: 15 - 19). إنه هو الابن "الذي جعله وارثاً لكل شيء. الذي به عمل العالمين.. وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب 1: 2و3) ومن جهة أخرى باعتباره مولوداً في هذا العالم فقد كان هو نسل المرأة ونسل إبراهيم وابن داود. كل هذه الأمجاد وغيرها الكثير، فهو أقنوم إلهي تنازل وصار جسداً، إذ تدور حوله وتشع وتلمع من هذا الصبي المقدس الذي وضعته مريم بين ذراعي سمعان. ليتنا نحملق جيداً وبكل خشوع في هذا السر الإلهي، فكلما نظرنا بعمق أكثر كلما انحنت قلوبنا تعبداً وخشوعاً في حضرة ذاك الذي هو عطية الله التي لا يعبر عنها وأمام نعمة لا يسبر غورها ومحبة فائقة المعرفة.لقد وقف سمعان والصبي على ذراعيه أمام الله، وبقلب فائض بارك الله وقال: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل". لقد تحققت كل رغائبه، وانقطعت كل علاقة له بالأرض حالما امتلك خلاص الله، وكان مستعداً أن ينطلق بسلام. مثل موسى أيضاً عندما وقف على الفسحة ورأى الأرض التي أعطاها الله لشعبه، هكذا سمعان والصبي المقدس على ذراعيه مركز مشورات الله وتطلع إلى الأمام إلى الوقت عندما يستحضر الأمم إلى النور ويصبح المسيح مجداً لشعبه إسرائيل.وكان يوسف وأم الصبي يتعجبان من الكلمات التي قالها سمعان عنه، ذلك أنهما كانا لا بد أن يعرفا الأمور جزئياً. ونحن كذلك بشكل عام نأتي تدريجياً إلى معرفة الحق بكل قوته – ذلك الحق الذي نعترف نحن به. وتبع ذلك أمرين فإن الارتباط بالمسيح في هذا العالم يستحضر البركة والألم معاً. ونجد هنا مريم مثالاً على ذلك. فإن سمعان "بارك" الله، والآن يباركهما أي يوسف ومريم، ثم يتجه نحو مريم مخاطباً إياها قائلاً "ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم، (وأنت أيضاً يجوز في نفسي كسيف)، لتعلن أفكار من قلوب كثيرة". وهكذا فإن الله في نعمته ولطفه يستخدم عبده سمعان ليعد مريم بطريق طفلها – طريق الأحزان والرفض – ومن يشك أن هذا القول إن صب أساساً عندا وقفت عند صليب يسوع لتنظر أوجاعه وآلامه ألم يكن في ذلك اختراق للسيف في نفسها أيضاً؟ وفي طريق الله التي نجتازها كم من رحمة تحوطنا إذ نقترب – ليس دفعة واحدة بل – بالتدريج إلى نصيبنا من الأحزان، ونجد أنها عندما تقع علينا تظهر "لمعان محبته"! لا يمكن لمريم أن تنسى هذه الكلمات ولكنها كانت تحفظه "متفكرة به في قلبها"، ولابد أنها كانت دائماً تضع هذه الأقوال أمام الله في تأملاتها وصلواتها. ومن خل حياتها نجد أنها عاشت تحت ظل الصليب، وبالتأكيد فقد كان لها التعويض الكافي والمؤازرة وهي في رفقة ابنها. لابد أنه كان أمامها الكثير الذي لم تقدر أن تتركه ولكنها بالتأكيد كانت تستريح في معرفة أن يسوع هو مسيا المخلص الذي معها. ولم يوجد في كل الأرض من منح هذا الامتياز الذي لا ينطق به وتلك البركة – فلأجل خاطره ومحبة ل فقد أمكنها أن تعاين المستقبل وتترك بين يديه كل شيء اختاره لها في هذا الطريق.ونتبين فقر يوسف ومريم من الحادثة العرضية عندما قربوا ذبيحتهم عند تقديم يسوع. ونقرأ في اللاويين وبخصوص تطهير المرأة عند ولادتها: "وإن لن تنل يدها كفاية لشاة تأخذ يمامتين أو فرخي حمام الواحد محرقة والآخر ذبيحة خطية فيكفر عنها الكاهن فتطهر" (ص 18: 8). لم تكن مريم أن تنال يدها فتحضر شاة وروح الله يلفت انتباهنا أن ربنا قد ولد في ظروف مذلو وحياة متواضعة من البداية، نعم ومن قبل أن يأتي إلى الأرض كان فكره أن يتذلل ويتواضع، فأي أم لا تريد أن تحيط طفلها بكل وسائل الراحة والترف طالما تستطيع أن تفعل ذلك؟ ولكن كل شيء يتحدد بحكمة إلهية، إذ نرى ليس فقط ظروف ولادة ربنا بل أيضا كل طريقه في هذا العالم الذي لم يجد فيه أين يسند رأسه. وهذا يطبع فينا، كلما تفكرنا في ذلك نعمته التي لا ينطق بها.إذا انتهت طقوس الهيكل مع أقوال سمعان النبوية، "ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب" تركوا الهيكل وخرجوا من بواباته ومعهم هذا الكنز الثمين و "رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة". ممارسين أعمالهم اليومية، وهم يمتلكون سراً إلهياً لم يعفه أحد في الناصرة بخلافهم. وللحديث بقية
المزيد
05 أغسطس 2021

شخصية مريم العذراء والدة الإله

مريم العذراء والدة الإله أليس كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم، ومع ذلك فغالباً ما يخشى المرء أن يتناول موضوع هذه الشخصية التي نالت تقديراً عظيماً وبركة عجيبة بين نساء العالمين. وهناك سبب آخر ربما يعوق الكثير من المؤمنين في دراسة امتيازاتها وصفاتها، هذا السبب هو الوثنية التي جرفت معها الملايين الكثيرة من المسيحية المعترفة. وليس من ترياق لعلاج هذا الميل الوثني – الذي يُحزن كثيراً روح الله ويهين الرب نفسه – سوى التأمل فيما أنشدته هذه الأنية المختارة، هذا النشيد أو التسبحة المحفوظة لنا في الأناجيل. وهذا هو العمل الذي نقوم به بحسب قيادته لنا، بغرض أن نفهم فهماً جيداً، كما نتعلم من الروح القدس، نعمة الله العجيبة التي أفرزت تلك المرأة الفقيرة لهذه الكرامة التي لا يُنطق بها، وأيضاً ثمار تلك النعمة المستعلنة في إيمانها البسيط بالرب غير المتزعزع وفي تقواها وحياتها المتواضعة.ومن الملفت للنظر أننا نجد كلمات مريم وأعمالها مسجلة فقط في أناجيل لوقا ويوحنا، بينما في متى تُذكر مريم مع تفاصيل أخرى بالارتباط مع ميلاد يسوع في هذا العالم ولا تتجاوز أكثر من ذلك. ويوسف في هذا الأناجيل يبرز بشكل واضح فتنحدر سلسلة نسب يسوع من خلاله إذ يُحسب أنه ابن داود (ص 1: 16 و 20). وتبقى مريم الإناء المختار والمُعد من الله لامتياز لا يوصف لتصبر إناء تُقدم يسوع في وسط إسرائيل. ذاك الذي يخلص شعبه من خطاياهم، كما كتب هذا الإنجيلي "وهذا كله كان لكي يتم من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانيوئيل الذي تفسيره الله معنا".لقد تمت هذه النبوة وولد الطفل، وضياء مجده أشرق بلمعان من خلال مريم. ومن ثم نقرأ في الإصحاح التالي إذ قيل خمس مرات "الصبي وأمه" ولا يقال "الأم والصبي". فكيف يقال ذلك ما لم يكن هذا المولود ليس أقل من عمانوئيل – الله معنا؟ هذه الحقيقية متى فهمت كما ينبغي فإنها تخمد وراءها إلى الأبد الرغبة في تعظيم مريم فوق ابنها، كما علم الرب بنفسه في موضع آخر عندما أظهرت واحدة ممن أعجبها ما سمعته وأدهشها كلامه فقالت له "طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما" فأجابها "بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 11: 27 و 28). إنها ليست المرأة التي حظيت نعمة عظيمة ولكنه "نسل المرأة" الذي سحق رأس الحية، وهو ذاك الذي استغلت به كل مقاصد الله واكتملت. إنه هو ابن الله المحبوب وليس مريم الذي أمكنه أن يملأ قلوب شعب الله بالتسبيح والتعبد. إرسالية جبرائيل إلى مريم:- وعندما نأتي إلى إنجيل لوقا فإن تحتل مكانة بارزة في قصة الميلاد. أما التدريب الذي اجتازه يوسف في هذا الأمر فلا يرد عنه شيئاً هنا. إذ يقال هنا فقط أن مريم "عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم" (ص 1: 27). ويُنسَب لها أنها كانت تسكن الناصرة حيث أُرسِل الملاك جبرائيل من الله. وإذ كانت جالسة في المنزل، كما يتضح من هذه الكلمات "فدخل إليها الملاك"، قبلت منه التحية التي حياها بها – "سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك مباركة أنت في النساء". وجبرائيل هذا هو "الواقف قدام الله" (ع 19) والذي معه السر الإلهي بخصوص العذراء المختارة ونتبين من طبيعة تحيته لمريم أنه بمقدار النعمة المتفاضلة مع البركة التي تفردت بها بين نساء العالمين – والتي نالتها من الله. أيضاً نجد من كلماته مدى سرور إذ يشترك في أفكار الله.أما مريم فعندما رأت الملاك – الذي ظهر لها في صورة رجل بلا شك (انظر ص 24: 4) "اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية". لقد تفكرت في داخلها في كلمات جبرائيل ما مغزى ومعنى تلك الكلمات. ويمكننا أن ندرك ذلك جيداً إذا أعدنا على ذاكرتنا صفاتها ومركزها – فقد كانت امرأة تقية تخاف الله، وكيفما كانت سلسلة نسبها فقد يبدو أنها عاشت في ظروف متواضعة. فالتواضع والوداعة والإيمان هي السمات البارزة في حياتها الروحية. ولذلك فإنها اضطربت عند سماعها كلامه، وفكرت في داخلها، لا بالذهن الطبيعي تجاه شكوك ولادتها، بل بالحري كانت حيرة نفسها في معنى خطاب الملاك لها. وبما لها من بصيرة إلهية معطاة لها ونتبين ذلك في مشاعرها، فإن جبرائيل بدأ أول كل شيء أن يهدئ عقلها وحيرتها، لكي يعدها لتشترك في هذه الأمور العجيبة والتي جاء خصيصاً لذلك، مؤكداً لها أنها وجدت نعمة أمام الله. نقول أن إرسالية جبرائيل كانت لإعدادها. فما لم تصبح النفس في سلام وحرية تجاه الأمور الإلهية لا يمكنها أن تتمتع بها بعد (قارن دانيال 10: 19).ويا لها من رسالة سلمها جبرائيل "وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلى يدعى" ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه: ويملك على بيت يعقوب على الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (ع 31 - 33).ولأن موضوع تأملنا هنا شخصية مريم، فإننا لا نريد أن نسهب في الحديث عن هذا السر الذي لا يوصف وهو تجسد ربنا ومخلصنا المبارك، كما لا نريد أن نتوقف هنا عند هذه الألقاب المتعددة والأمجاد الكثيرة الممنوحة له. ولكننا نقول أولاً أن مجد شخصه متضمن في اسمه الكريم "يسوع" ومعناه "الله المخلص". وثانياً فإن كل ألقابه ترتبط بالأرض وبتمجيده على الأرض فهو "ابن العلى" و "ابن داود" الذي سيسود إلى الأبد على بيت يعقوب – هذا باعتباره وارث لحقوق داود الملكية، فهو رب داود كما أنه ابن داود كما يستحضر أمامنا في هذه النصوص. ولعل القارئ لا ينسى أن هذه المواعيد جميعها تنتظر تحقيقها عن قريب، ولابد أن تتم، وستتحقق بشكل غير قابل للخطأ بقوة اله بحسب مقاصده الأزلية. ربما يقيم الملوك أنفسهم ويتآمر الرؤساء معاً ضد الرب وضد مسيحه، ولكن كيفما كان تمرد الشعوب ورؤسائهم فإن الله في مقصده الذي لا يتزعزع أقام ملكه على صهيون جبل قدسه. وسيحكم إلى أن يضع جميع أعدائه تحت قدميه.وعندما وعد الله إبراهيم بابن فان سارة ضحكت في نفسها متشككة ولم تعرف قوة الله القادر على كل شيء صاحب الوعد. كما أن زكريا وقع في مشكلة الشك عندما قبل إعلاناً من جبرائيل بأن امرأته أليصابات ستحبل وتلد ابناً. ومريم أجابت الملاك "كيف يكون هذا؟" وعلى الرغم من أن ما وعد به كان خارج النظام الطبيعي، إلا أنه في حالة مريم لم يكن مثل الحالات السابقة مرتبطاً بعدم التصديق في التساؤل الذي طرحته. وهذا نجده من الحقيقة التي كان على جبرائيل أن يجيب عليها إجابة كاملة معلناً شيئين أولهما الحبل المعجزي لربنا المبارك وثانيهما أن الطفل المولود به يدعى ابن الله، وبحسب المزمور الثاني فهو ابن الله المولود في هذا العالم. ولكن لكي يقوي الإيمان المعطى لها من الله والذي نراه فيها فإن جبرائيل يعلنها أيضاً بنعمة الله المعطاة لإليصابات نسيبتها، وإذ يعطيها الأساس الذي لا يتغير لكل إيمان فإنه يقول لها "لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله". فالله لا يمكن أن يكون هو الله ما لم يكن هكذا، وأيضاً كما علم الرب نفسه "كل شيء مستطاع لدى المؤمن". وهذا هو الدرس الذي تتعلمه مريم الآن داخل أعماقها، وكما تظهر من إجابتها "ها أنا أمة الرب" (أي عبدته) "ليكن لي كقولك".وليس فقط أن مريم تعلمت أنه بدون الله ليس شيء مستحيلاً، ولكنها أيضاً بنعمة الله قدمت نفسها طوعاً وبدون تحفظ، بالتأكيد فقد تم ذلك بقوة الروح القدس لأجل تتميم إرادته المباركة. وفي كل الكتاب لا نجد إيماناً له تقديره دون ارتباطه بالخضوع التام. إنها لا تستطيع أن تتجاهل النتائج الممكن حدوثها في هذا العالم. ونتعلم من متى أنها صارت موضوعاً للشك والامتحان حتى من يوسف لكن الإيمان لا يجادل ولا تتملكه الحيرة ولكنه يستند ببساطة على الله، في يقين أنه إذا دعانا لأي خدمة أو حرضنا للسير في أي اتجاه فإنه يقودنا ويؤازرنا كيفما كانت التجربة أو الاضطهاد. إن سكون النفس التي استقرت على إرادة الله لهو شيء يفوق التعبير، وهذا هو الميراث التي تمتعت به مريم في ذلك الوقت. إن النعمة الممنوحة لها كانت بلا حدود ولم تكن أقل من النعمة التي مكنتها أن تقبل بروح هادئة ووديعة. وفي هذا الصدد أيضاً كما في اختبارها إناء لولادة يسوع فإن جميع الأجيال يطوبونها. زيارة مريم لأليصابات:- وحينما يكون هناك عمل لنعمة في النفوس فإنها تتجمع معاً بروابط الحب الإلهي – وهذا ما حدث مع مريم وأليصابات. فقد أعلن جبرائيل لمريم أن الله افتقد نسيبتها أليصابات، لكي تقوم بما كان يجب عليها أن تؤديه، سواء فهمت معنى الرسالة كاملة أم لا. وأصبح لديها الشعور أن لها صديقة واحدة يمكنها تسكب معها نفسها ولذلك "قامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلمت على أليصابات".وإذا كانت محملة بهذه الأخبار – التي قيلت لها. وهي تحكي عن أمانة الله لكلمته وعن تلك المحبة التي لا تنطفئ من نحو شعبه، فلم يكن أمامها غير أن تذهب مسرعة. ترى أي أفكار كانت تملأ قلبها المتعبد الساجد وهي تسرع في إرساليتها! وهي كواحدة من النساء القديسات من يهوذا والتي عرفت الكتب المقدسة جيداً التي تتحدث عن الملك الآتي ومجد تلك المملكة. إنها أقوال مثل: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك. صوت مراقبيك. يرفعون صوتهم يترنمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون. أشيدي ترنمي معاً يا خرب أورشليم لأن الرب قد عزى شعبه فدى أورشليم" (أشعياء 52: 7 - 9) أو أيضاً "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" (زكريا 9: 9). إن كلمات الملاك عينها التي تكلم بها نجحت في أن تذكرها بهذه النبوات المجيدة ليفيض قلبها بالتسبيح فهي كعذراء متواضعة ارتبط بها تتميم تلك النبوات.وزيارتها لأليصابات كانت من الرب، وهذا رأيناه من التحية التي استقبلت بها – هذه التحية كانت دافعاً لتثبيت إيمانها بشكل ملحوظ. وحالما سمعت أليصابات سلام نسيبتها تذكرت حالتها الخاصة، وفي الحال امتلأت بالروح القدس وأوحى لها أن تعلن البركة لتلك التي ميزها الرب بنعمته "وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟. فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني. ارتكض الجنين بابتهاج في بطني: فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من قبل الرب".وقبل أن نتناول إجابة مريم لأليصابات، هناك ملاحظات قليلة في هذه الكلمة. أليصابات إذ "امتلأت من الروح لقدس" صارت في شركة تامة مع أفكار الله تجاه مريم. كان جبرائيل قد قال لها: "مباركة أنت في النساء"، والآن أليصابات تقول لها: "مباركة أنت في النساء" وتضيف أيضاً "ومباركة هي ثمرة بطنك". وإذا انفتحت عيناها بقوة الله، رأت كما رأى الله فنطقت بذات تقدير الله لتلك التي اختارها لهذه الميزة المتفردة. وإذ امتلأت بالروح في تواضع ووداعة اعترفت بمجد مريم بنعمة الله. وأكملت قائلة "فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟". وهي نفسها إذ كانت غرض رحمة الله فإنها اتخذت المكان المتداني أمام تلك التي ستصبح أماً للرب.ليت هذا التعليم يتغلغل بعمق في قلوبنا. فمتى كان روح الله عاملاً في نفوسنا فإن كل حسد وخصام وغيرة ستختفي. وستنساب المحبة بلا عائق وكذلك التواضع الذي هو ثمرة المحبة. ثم أنها بعدما وصفت تأثير سلام مريم عليها، فهي تعلن الصفة الثالثة لتلك البركة. فقد بوركت مريم لأنها غرض رحمة الله، وبوركت أيضاً باعتبارها إناء لتجسد ربنا، كذلك بوركت بسبب إيمانها – الإيمان الذي يتخطى المصاعب ويستريح على قوة الله الفائقة. وهي كإبراهيم، لم تتزعزع بالشك في وعد الله ولكنها تقوت بالإيمان معطية مجداً لله. وهي إذ تمسكت بكلمة الله لم تتردد متحققة أن الذي وعد هو قادر أن يتمم. وبهذه الطريقة أكرمت الله، كما تلقت تأكيداً إلهياً على شفتي أليصابات بأنه سيتم لها عن هذه الأمور من قبل الرب. أنشودة مريم The Magnificat:- هذه هي كلمات مريم وقد وضعناها هنا أما القارئ لكي يدقق بعمق أكثر من معانيها الإلهية وجمالها الصحيح: "تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى اتضاع أمته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن القدير صنع لي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. صنع قوة بذراعه شتت المستكبرين بفكر قلوبهم أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة كما كلم آباءنا لإبراهيم نسله إلى الأبد" قال كاتب معروف: "من الملاحظ أنه لم يقال أن مريم كانت مملوءة من الروح القدس". ويكمل الكاتب قائلاً: "ويبدو لي أن هذا كان تمييزاً مكرماً لها. فقد افتقد الروح القدس أليصايات وزكريا بصورة استثنائية. ومع أننا لا نشك أن مريم كانت تحت تأثير روح الله، فقد كان تأثيراً داخلياً أكثر ويرتبط بإيمانها وتقواها وكذلك بعلاقات قلبها مع الله (والتي تكونت بسبب إيمانها وتقواها) واستطاعت أن تعبر عن نفسها أكثر من يجيش في حاسياتها ففاض من تلك الفتاة المتواضعة الشكر لأجل النعمة المقدمة لها، ولكن يرتبط تسبيحها وشكرها رجاء وبركة إسرائيل". هذه الملاحظات ستساعدنا في التأمل في ترنيمة الحمد وهذه والتي يمكن أن نصفها بحق "أفراح إسرائيل بالمسيح المعطى لهم". فبينما كانت أقوالها هذه نابعة من المشاعر التي تغمر قلبها بواسطة الروح القدس، فإن مشاعرها أيضاً كانت تتفق وتتجاوب ع النعمة الممنوحة لها والتي ميزتها، فمع كونها خاطئة إلا أنها صورة لإسرائيل (انظر عدد 54).وبنظرة سريعة على هذه التسبحة نجدها ذات طابع يهودي، فهي لا تتجاوز إبراهيم ونسله. وفي هذا الصدد يمكن مقارنتها بتسبحة حنة التي هي أيضاً لم تصل إلى ما وصلت إليه مريم من جهة مواعيد الله لإبراهيم ولكنها تتكلم عن معاملات الله في شعبه وتوقع الانتصار والخلاص الكامل عندما يتدخل الرب "مخاصموا الرب ينكسرون. من السماء يرعد عليهم. الرب يدين أقاصي الأرض، ويعطي عزا (أو قوة) لملكه ويرفع قرن مسيحه". أما مريم فمن الجهة الأخرى تنظر إلى الخلاص إذ يتحقق في شخص ذاك الذي سيولد – ولذلك تقول "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأب".هناك شيئان يدفعاننا إلى ملاحظتهما في ترنيمة مريم: أولاً أنها تنسب كل شيء إلى الله، وثانياً أنها تتخذ مكاناً باعتبارها لاشيء على الإطلاق، ولذلك ترنمت بنعمته. وبخصوص هاتين النقطتين فإننا لا نتغاضى عن تقرير هذه الكلمات: "لقد اعترفت بالله مخلصها بالنعمة التي ملأتها بالفرح، في الوقت الذي فيه اعترفت بصغرها وأنها لاشيء أبداً. ولذلك فمهما كان يتطلب من قداسة للإناء الذي يستخدمه الله فقد وجدناه حقاً في مريم – كانت عظيمة فقط بالقدر الذي أخفت فيه نفسها إذ كان الله كل شيء لها. ومتى حاولت أن تجعل شيئاً فهذا معناه أنها تفقد مكانها، وهذا ما لم تفعله. وقد حفظها الله لكي تستعلن نعمته استعلاناً كاملاً. ليتنا جميعاً نعطي الانتباه لهذا التعليم المبارك ومن المستحيل أن النعمة يكون لها السيطرة التامة على نفوسنا ما لم نأخذ مكاننا الحقيقي أي لا شيئيتنا أمام الله."ويستطيع القارئ أن يفهم لغة ترنيمة الحمد هذه إذ استوعب تلك الأفكار. وعندما يكون هناك عمل حقيقي لروح الله في نفوس شعبه فإن قلوبهم ترتفع إلى المصدر الذي تأتي منها بركتهم. وهكذا مع مريم فقد كان أول ما انطبع في فكرها عندما افتقدها الرب بنعمته التي لا توصف "تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي باله مخلصي". لقد اندمجت فرديتها في الحال بعمل روح الله العظيم في إسرائيل، ولذلك ابتهجت بإله إسرائيل ومخلصه. صحيح أنها تكلمت عن نفسها في العدد التالي وقالت أن الله نظر إلى اتضاع أمته (أو جاريته) وأن جمع الأجيال ستدعوها الطوبة، ولكن هذا باعتبارها فقط الإناء المختار للبركة الآتية لإسرائيل. إنها فكرة خلاص إسرائيل من حالتهم المتدنية التي ملأت نفسها عندما قالت "لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس". وتضيف للتو "ورجمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه". وترينا فضلاً عن ذلك أن إسرائيل كمختار الله هو الذي كان يملأ ذهنها – إسرائيل الذي كان يتكلم عنه بلعام بانحصار عندما قال أن الله لم يبصر إثماً في يعقوب. ولا رأى انحرافاً في إسرائيل – إسرائيل بحسب قصد الله وأفكاره.وتقدم لنا الثلاثة أعداد التالية مبادئ أعمال الله بالنعمة وما يجب أن تكون عليه النفس أساساً لتتجاوب مع النعمة وما يجب أن تكون عليه النفس أساساً لتتجاوب مع النعمة. فالمستكبرون بفكر قلوبهم والأعزاء وهم على الكراسي والأغنياء والشباعى ولا يمكنهم أن يقفوا أمام الله القدوس في دينونته. ولكن لهؤلاء الفقراء يكرز بالإنجيل دائماً وللمتواضعين والأدنياء يرفعهم الله وللجياع يملأهم بالخيرات. والرب نفسه يعلن ذات الدرس عندما قال "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون..." ثم يتحول إلى الجانب الآخر ويقول: "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون. ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون" (لوقا 6: 20 - 26). ليت هذه الكلمات الجادة تعمل بأقصى قدر وبصورة متسعة على تشجيع وتعزية الفقراء والمتألمين والمذلين من شعب الله، كما تكون أيضاً تحذيراً عالياً ومتوالياً للذين يطلبون الشبع والغنى والمجد في هذا العالم.وتختتم مريم تسبحتها بلغة أشرنا إليها قبلاً "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة. كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأبد". إن الإيمان هو البرهان أو الإيقان بالأمور التي ترجى، ومريم في تلك اللحظة عاينت تتميم كل مقاصد الله بالنعمة لشعبه الأرضي. حقاً فقد كان كل شيء آمناً ومستقراً في شخص ذاك الذي سيولد في هذا العالم. كما هتفت الملائكة بتسبحتها في الإصحاح التالي "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام للذين سر الله بهم".واستمرت مريم ثلاثة أشهر مع نسيبتها العجوز ثم عادت إلى بيتها. ويزيح الكاتب الستار عن تلك العلاقة الروحية والشركة بين هاتين القديستين ولا شك أنهما كانتا مشجعتين لبعضهما في الإيمان والفرح بالرب. وانتهت الزيارة وعادت مريم إلى بيتها "لتتبع طريقها بكل تواضع لتميم مقاصد الله". كان هذا المنزل هو البقعة التي على الأرض تجتذب اهتمام السماء وتتركز فيها. وللحديث بقية
المزيد
29 يوليو 2021

شخصيات الكتاب المقدس تارح

تارح ومات تارح في حاران" تك 11: 32 مقدمة قصة تارح قصة الرجل الذي توقف في منتصف الطريق قبل أن يصل إلى كنعان، قصة الرجل الذي سجل عنه الوحي: "ومات تارح في حاران".. وقد يسأل البعض: وأي شيء في هذا التعبير يمكن أن يثير أو يشير؟!! لقد مات الرجل شيخاً عن مائتين وخمس من السنين، فهو لم يذهب في قوة الصبا أو أوج الشباب حتى يمكن أن يتوقف الناس ليبكوا عوده الزاوي وشبابه الضائع في صبح الحياة؟!! وهو الرجل الذي خلف وراءه الأولاد إذ لم يمت عقيماً، بل ترك أولاداً على رأسهم إبراهيم الابن العظيم الخالد،.. قد يكون هذا صحيحاً وحقاً،.. ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن الرجل مات في رحلة من أعظم رحلات الإنسان على الأرض،.. وقد خرجت القافلة الصغيرة من أور الكلدانيين، وعلى رأسها شيخ ورجل وشاب، وكان الشيخ تارح، والرجل إبراهيم، والشاب لوط، وسقط الشيخ في الطريق، وجرد الشاب من كل ما يملك، ولم يبق سوى الرجل الذي كان النموذج الأعظم الثاني في الرحلة الخالدة ومن المؤسف أن الشيخ الذي قطع أكثر من خمسمائة ميل في الرحلة حتى وصل إلى حاران، أو في لغة أخرى قطع أكثر من نصف الطريق، هذا الشيخ لم يلبث أن أصابه الملل والتعب والكلل والإعياء، فرفض أن يتقدم خطوة أخرى واحدة بعد هذا،.. ومات في حاران دون أن يدخل أرض الموعد،.. هذه مأساة الرجل القديم الذي خرج يبحث عن الله، أو بتعبير أصح، خرج مع ابنه الذي استجاب الدعوة السماوية وقطع شوطاً طويلاً في الطريق دون أن يتمم أو يبلغ نهايته،.. إنه يمثل الكثيرين من المسيحيين الذين أطلق عليهم مودي: "المسيحيين الحارانيين" الذين يبدءون الرحلة بالغيرة والحماس والقوة والنشاط، ولكنهم هم أبناء "تارح" الذي سقط في الأرض، وليس أبناء إبراهيم الذين وصلوا إلى نهاية المطاف إلى كنعان السماوية، إن قصة تارح تعطي تحذيراً أكيداً للسالكين في رحلة الحياة الأبدية إلى الله في المجد، ولذا يحسن أن نراها من النواحي التالية: تارح وتجاربه وما أكثر ما واجه تارح من تجارب،.. وربما كانت تجربته الأولى تجربة الإعجاب الوقتي،.. ولعلك تلاحظ عند المقارنة الدقيقة بين إبراهيم وتارح، أن الكتاب يقول: "ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو ما بين النهرين قبلما سكن في حاران".. وليس في لغة الكتاب ما يدل على أنه ظهر لتارح، وقد صنع هذا الفارق القصة المختلفة بين الأب وابنه،.. وسيتاح لنا عندما نقرأ في الشخصيات الكتابية شخصية إبراهيم، أن مفتاح حياته كان هذه الرؤية المجيدة، التي كانت بمثابة الجاذب المغناطيسي الذي حركه حيثما حل وذهب، وهل يستطيع الحديد المقترب من القطب المغناطيسي إلا أن يسير أسراً لهذه القوة المغناطيسية وفي نطاق دائرتها؟!!.. وهكذا كان إبراهيم في صداقته وعلاقته بالله، ولقد ضرب في الأرض، وهو لا يعلم إلى أين يأتي، لأنه سبى بشخص الله الذي ظهر وهو ما بين النهرين قبلما سكن ولسنا نعلم كيف واجه تارح الوثني هذا التغيير العجيب الذي طرأ على ابنه!!.. هل قاومه الأمر، عندما أدار إبراهيم ظهره لعبادة القمر، وغيرها من ديانات الوثنية؟!! قد يكون إذ ليس من السهل التصور أن أبينا يخرج على دين آبائه، ثم يستقبل الآباء هذا الخروج بالهدوء أو التصفيق والاستحسان!! وإذا كانت التقاليد تقول إن نمرود اضطهد إبراهيم اضطهاداً مريراً عندما تحول عن العبادة الوثنية، فليس من المستبعد أن تارح فعل الشيء نفسه تخوفاً أو مصانعه لأهله وعشيرته!!.. على أن إبراهيم وقد تمكنت الرؤية من نفسه ومشاعره –تحمل كل شيء كما يتحمل المؤمن الحديث الإيمان بفرح كل ما يمكن أن يفعله الأشرار في نفسه؟!!.. ولعله –وقد أضاءت حياته بهذا النور اللامع الجديد- قد استطاع أن يؤثر في أبيه ويثير إعجابه إلى أبعد الحدود!!.. ولعل أباه إعجاباً أو خوفاً على ابنه من الاضطهاد أبى أن يتركه وحده في رحلته، بل سار معه في ارض المجهول حتى جاءت القافلة إلى مدينة حاران. وهكذا ذهب تارح وإبراهيم ولوط في الطريق إلى الأرض الجديدة، والأب معجب كل الإعجاب بابنه العظيم.. والإعجاب في العادة يصلح أن يكون ابتداءً، لكنه لا يمكن أن يصمد في السير إلى النهاية، ما لم يكن مصحوباً بعوامل أخرى فعالة وعظيمة،.. وهو أشبه الكل بالزرع الساقط على الأرض الذي وصفه السيد المسيح بالقول: "والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فحالاً يعثر".. ولعل الرؤيا التي أبصرها إبراهيم –ولم يرها تارح- هي التي صنعت الفرق العظيم بين القلبين أو التربتين، فكان الأصل العميق في قلب إبراهيم، والسطحية المحجرة في قلب تارح،.. وكان الفارق بين من قطع الطريق إلى آخر الشوط، ومن تخلف في منتصفه دون أن يتم الرحلة إلى أرض الموعد!!.. كما أن التجربة الثانية أمام الرجل كانت ولا شك الإعياء، فهو شيخ يضرب في الفيافي والقفار، مئات الأميال، بعد أن ترك أهله وصحبه وبيته، والحياة التي درج عليها وعاشها سنوات متعددة طويلة، وهو إذا كان قد بدأ متحمساً غيوراً نشطاً، فمما لا شك فيه أن خمسمائة ميل خلفها وراءه أصابته بالإعياء البالغ الجسدي أو النفسي على حد سواء، ولم نعد نراه على الحماس القديم أو الغيرة السابقة،.. وهو صورة للكثيرين من المسيحيين الذين يدلفون صوب كنعان السماوية، وقد يقطعون أشواطاً متعددة من الرحلة، والهتاف يملأ قلوبهم، ونفوسهم، على أنهم شيئاً فشيئاً –والرحلة طويلة ممتدة قاسية فوق حصباء الحياة ورمال الزمن- نجد الكلال والتعب والتبرم والضيق يستولي عليهم، وعلى وجه الخصوص إذا أحاطت بهم التجارب، أو حفت بهم الآلام، أو ضاقوا بالحياة أو ضاقت الحياة بهم، وإذ بحاران أول مدينة يلقون فيها عصا الترحال دون رغبة في مواصلة السير، حتى ولو كانت هناك نهاية الحياة، وآخر المطاف،.. إنهم أحوج الكل إلى القول الإلهي: "بصبركم اقتنوا أنفسكم".. أو: "سمعتم صبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف".. أو: "الرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح".. صور دانتي في الكوميديا الإلهية الذئب أشد ضراوة من النمر أو الأسد وذلك للفارق البعيد بين هجوم الاثنين على الفريسة المطاردة، إذ أن النمر أو الأسد ينقض على الفريسة من أول الحركة، وهو لا يسلم من صراعها، إذ تبدو في كامل قوتها، وتحاول أن ترد العدوان بكل ما تملك من جهد أو قوة!!، وعلى العكس من الذئب الذي يطارد فريسته أولاً، ثم ينقض عليها عندما يتملكها التعب والإعياء، وتكون أعجز عن أي مقاومة، وتصبح بذلك لقمة سهلة سائغة ميسورة!!.. وقد بدا هذا واضحاً وصحيحاً في الكثير من الصور الروحية التي جاءت في كلمة الله.. ألم يأتي عيسو ذات يوم من الحقل وهو قد أعيا وقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت، لذلك دعي اسمه أدوم فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك، فقال عيسو، ها أنا ماض إلى الموت فماذا في بكورية!!.. وباع عيسو أثمن ما يملك وهو معيي بطبق من عدس!!.. كان عماليق أخطر الأعداء على شعب الله، وذلك لأنه ترك الشعب حتى الإعياء، ثم انقض عليه، ومن ثم جاء الأمر الإلهي بمحو ذكره من تحت السماء، لأنه لم يرحم المتعب المجهد المعيي،ألم يسر إيليا في البرية مسيرة يوم، وإذ أخضه التعب الجسدي والروحي جلس تحت الرتمة، وطلب الموت لنفسه وقال كفى الآن يا رب، خذ نفسي لأنني لست خيراً من آبائي،.. ورأى الله حاجة إيليا القصوى إلى الراحة فأنامه وأطعمه حتى تهدأ نفسه وتستريح، قبل أن يلتقي به أو يتحدث معه في جبل الله حوريب وكانت التجربة الثالثة أمام تارح تجربة الإغراء والعودة إلى الماضي القديم، إذ كانت حاران أقرب المدن جميعاً إلى أور الكلدانيين، فالمدينتان كانتا مركزين متماثلين لعبادة القمر، وكلتاهما كانت على درجة عالية من الحضارة والثروة والتجارة والصناعة، فإذا سكن تارح في حاران، فإنما يستعيد بذلك ما فاته أو ما ضاع منه في أور الكلدانيين، ولعل السؤال الملح الذي كان يطوف بذهنه، ويطارده ليلاً ونهاراً.. ألم يكن متعجلاً في الخروج من أور الكلدانيين؟!!.. وهل رأى ابنه حقاً الرؤيا الإلهية أم هي بعض الخيالات أو الأوهام أو الوساوس التي ألمت به، فظنها رؤيا الله البعيد الساكن السموات؟ مسكين الإنسان عندما يقع بين شقي الرحى، التعب من جانب، والإغراء من الجانب الآخر إنه مثل هرقل كما تصوره أساطير الإغريق، والذي كان عبداً لملكه، وأراد الملك أن يتخلص من قوته الخارقة، فكان يرسله إلى أخطر الرحلات، ويطلب منه أشق الأعمال، لعله يهلك، أو تأتيه الكارثة بأية صورة من الصور،.. وقد جلس هرقل ذات يوم يلتقط أنفاسه المتعبة، وإذا به يبصر فتاتين تقبلان عليه في الطريق، وتقول أولاهما: أي أيها البطل العظيم، لقد جئتك أدعوك إلى المسامرة، وأمد لك أسباب الحياة الحلوة الجميلة الفياضة المترعة بالملاهي والمتعة والملذات، إن سرت معي وصاحبتني الرحلة طول الطريق، ويسألها هرقل: من هي ومن تكون وما اسمها؟ فتقول: أنا اللذة، وإن كان أعدائي يطلقون عليَّ اسماً آخر هو الرذيلة".. وتتقدم الثانية لتقول: لا تصدقها يا هرقل، فهي مدعية وكاذبة، ولن أعدك أنا بما أدعت أو صورت، لكني أعدك بأن أسير معك الطريق المضني المتعب القاسي، وأن أزودك بالقوة والشجاعة الأمانة والصبر، فتحيا، وتصبح قصتك قصة عظيمة تتوارثها الأجيال، ويتحدث بها عابرو الطريق في كل جيل وعصر!!.. وسألها هرقل: من هي ومن تكون وما اسمها؟ فقالت: اسمي "الفضيلة"!! قد تكون هذه أسطورة من أساطير الإغريق، ولكنها تنطق بما يواجه الإنسان في كل زمان ومكان،.. ورأى تارح وإبراهيم القصة بكاملها في أرض حاران، وسقط الأب، ونجا الابن،.. وعاد الأب على الأغلب لعبادة القمر، أو كان على أية صورة من الصور الإنسان الذي تقاعس في الطريق دون أن يتم رحلته إلى آخر الشوط،.. ولم يكن له من نصيب في موعد الله ما كان لابنه أبي المؤمنين في الأرض!!.. وقد أضاف بعضهم إلى القصة تجربة رابعة، هي تجربة الشيخوخة الطاعنة في السن، ومع أن رحمة الله يمكن أن تنتقد الإنسان مهما طال عمره حتى إلى أخريات حياته لكن هناك فارقاً واضحاً بين إنسان كبلته الشيخوخة بالكثير من التقاليد والعادات والسير والماضي، وبين آخر لم تحكم حوله السنون شراكها بما يمكن أن يتركه أسيراً لا يفلت من شرها وخداعها!!.. ولعل هذا ما قصد الرسول يوحنا بعد آلاف من السنين أن يذكر به الأحداث في القول: "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير. لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما في العالم شهوة الجسد شهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد".. وقف تارح في حاران شيخاً طاعناً في السن، ووقف معه إبراهيم إلى أن دفنه هناك!!.. تارح وخطاياه أما وقد أدركنا هذه التجارب التي ألمت بتارح، فمن حقنا أن نعرف الخطايا التي أودت به إلى أسوأ مصير،.. ولعل أول خطية كانت البقاء في مكان التجربة،.. هل سمعت عن القديس الذي تاب عن الخمر، وصلحت حاله، وأصبح من أروع الأمثلة عن التعبد والشركة مع الله؟، لكنهم رأوه ذات يوم مخموراً ساقطاً في الطريق، وتعجبوا كيف يمكن للرجل الذي أصبح عيافاً أن يصل إلى هذه الحال،.. وتبينوا شيئاً عجيباً غريباً، أن الرجل وهو في سبيله إلى العبادة في الكنيسة تعود أن يربط حصانه على مقربة من الحانة القديمة التي كان يشرب فيها الخمر، فكان المكان القريب من الماضي الآثم مصيدته التعسة وهو لا يدري،.. من المؤكد أن يوسف لم يكن في قوة شمشمون الخارقة، ونجا يوسف من السقوط في الخطية لأنه ترك ثوبه وهرب، ونام شمشمون على حجر دليلة ليسقط الجبار كما يسقط الوعل في شبكة!!.. إن النصيحة التي سمعها لوط من الملاك كانت "اهرب لحياتك" وكان تارح في حاجة إلى هذه النصيحة أكثر من إبراهيم، ولكنه توقف في حاران لينتهي هناك!!.. وكانت خطية تارح الثانية خطية التأجيل، لست أعلم هل استحثه إبراهيم على السير قدماً إلى الأمام؟ وهل راوغه الأب يوماً وراء يوم حتى جاءت النهاية؟.. الذي أعلمه أنه لم يجعل حاران نقطة انتقال، بل مكان سكن، هل اقتنى بيتاً هناك، ورفض السكن في خيام؟، هل تلكأ لهذا السبب أو ذاك، ومنع ابنه سنة بعد أخرى عن الرحلة الخالدة؟!!.. إنه على أي حال التأجيل، وما يصاحب هذا التأجيل من أخطاء وبلية!!.. "اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر" لقد أوشك لوط أن يضيع في سدوم رغم إنذار الملاكين بسبب التأجيل في مواجهة الخطر الداهم وقيل: "ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: "اهرب لحياتك، لا تنظر ورائك ولا تقف في كل الدائرة اهرب إلى الجبل لئلا تهلك".. وهل تعلم أن شاول الطرسوسي كان في حاجة أيضاً غداة لقاء المسيح إلى نصيحة حنانيا الذي قال له: "والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب".. والخطية الثالثة كانت خطية الارتداد أو العودة إلى الدين القديم، كانت البلاد المحيطة بحاران تعبد آلهة مختلفة فبعضها كان يعبد الشمس أو غيرها من الكواكب، لكن حاران بالذات كانت تعبد القمر، مما شجع على التصور أنها طابت مكاناً ومقاماً لتارح، حيث عاد إلى العبادة الوثنية التي رفضها إبراهيم،.. هل نشأ النزاع بين الأب وابنه، وكانت سنوات حاران انقساماً فكرياً أو روحياً بين الاثنين؟!! أو هل جاهد إبراهيم طوال هذه الفترة أن يقنع أباه ببطلان القمر والشمس والنجوم كآلهة معبودة، لسنا ندري سوى أن الموت حسم النزاع، وذهب تارح بعيداً عن إله إبراهيم ومواعيده وأمجاده، وتجددت الدعوة لإبراهيم بعد موت أبيه أن يحمل عصا الترحال إلى أرض كنعان!! مهما يكن الذي حدث، فمما لا شك فيه أن إبراهيم كان يمثل الإيمان بكل شجاعته وقوته وصلابته، وكان أباً للمؤمنين وما يزال في كل العصور أو الأجيال. وكان تارح رمزاً للهزيمة والضياع والتراجع، وأبا للمرتدين الذين تذوقوا الحلاوة الأولى، ثم عافوا عنها، أو أضحت مراً لهم، إذ أفقدتهم الخطية الطعام والشهوة والمذاق الصحيح!!. تارح ومأساته وأية مأساة أقسى من هذه المأساة؟ وأي ضياع أرهب وأشد من هذا الضياع؟، أليس هو ذلك الرجل الذي كان من أقدم من وصفهم الرسول بطرس يوم قال: "لأنه كان خيراً لهم لو لم يعرفوا طريق البر من أنهم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة"؟! أجل لقد ضاعت الخمسمائة ميل في طريق دون خير أو جدوى، فلا هو بالإنسان الذي استقر مع قومه دون أن يرحل عنهم وعن صحبتهم وعن الليالي السامرة التي لم يعد يجد مثيلها في الأرض الغريبة النائية،.. ولا هو الذي سار مع ابنه إلى الأرض العظيمة أرض الموعد، ليرى بركات الله وإحسانه ورحمته وجوده!!.. كان تارح من أقدم رجال التاريخ الذي عرجوا بين الفرقتين، وأدرك أنه لا يمكن الاستفادة من القديم أو الجديد على حد سواء!!.. وكان مثلاً بشعاً من أقدم الأمثلة التي تحكي مأساة الارتداد الديني المحزن عن شخص الله،.. وما من شك بأن إبراهيم ابنه –وقد دفنه هناك- وقف على قبره في آلم حالة وأقسى حزن، إذ لم يكن يود له هذا المصير، وودع هذا القبر بالعين الباكية وكأنما يردد بعد ألفي عام ما قاله المسيح لبنات أورشليم اللواتي خرجن وراءه في يوم الصليب نائحات باكيات: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن".. أو ما قاله الرسول بولس، عندما كتب رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، ويعتقد أنه كتبها من كورنثوس وكان يرى من بعض النوافذ هناك مقابر الوثنيين وقد حفر فوقها لغة اليأس والحزن في عبرات تعتبر ضياع الأمل، وانقضاء الرجاء!!.. ومن ثم كتب: "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الأخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم".. أجل إنه شيء محزن أن نخسر الضياع أو المركز أو الشهرة أو الجاه أو أي متاع أرضي، لكن هذا كله لا يمكن أن يقارن بالخسارة الأبدية!!.. وحق للشاعر "دانتي" أن يكتب على باب الجحيم هذه العبارة: "أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!".. كان تارح مأساة لنفسه، ومأساة قاسية لابنه الذي كانت ينتظر ولا شك أن يأخذ أباه معه إلى كنعان السماوية،.. ولكن الرجل تخلف وراءه في الطريق، وأضحى مأساة تحذر الآخرين أيضاً في كل جيل وعصر!!.. كان من أشد ما روع الكابتن سكوت في رحلته في القطب الجنوبي. وهو يسير أميالاً متعددة فوق الجليد المتكسر، أن أبصر ورفقاؤه المتعبون معه، شيئاً يلوح من بعيد،.. كان علماً أسود رفع على بقايا ضحايا من الرحالة الذين سقطوا في الطريق، وقد فقدوا الحياة دون أن يبلغوا الغرض المنشود!!... ومنذ آلاف السنين ارتفع علم أسود فوق قبر قديم في أرض حاران لرجل تعثر في الطريق، ومات هناك، وتركه ابنه بعيون دامعة وهو يضع رخامة محزنة فوق القبر ما تزال كلماتها باقية إلى اليوم: "ومات تارح في حاران"..
المزيد
22 يوليو 2021

شخصيات الكتاب المقدس بيلشاصر

بيلشاصر " فى تلك الليلة قتل بيلشاصر ملك الكلدانيين "" دا 5: 30 " مقدمة لعله ليس هناك وصف أروع أو أجل من وصف متى هنرى، لليد التى ظهرت أمام النبراس على مكلس الحائط أمام بيلشاصر عندما قال: " يقول الربيون: إنه الملاك جبرائيل الذي استخدم هذه الأصابع فى الكتابة، ويقول دكتور لا يتفوت، وهو واحد منا، إنها ذات اليد الإلهية التى كتبت لوحى الشريعة للشعب، وهى تكتب الآن نهاية بابل وبيلشاصر معاً على الحائط "!! ومن العجيب أنه لا يوجد هنا ما يمكن أن يخيف من صوت، أو تهديد للحياة، أو رعد قاصف، أو برق خاطف، أو ملاك مهلك يحمل فى يده سيفاً مسلولا، بل قلم تحمله يد تكتب على الحائط أمام النبراس أو الشمعدان، حتى تظهر للجميع،.. وكتابة الكلمة الإلهية تفزع أعتى الخطاة عندما يقصد اللّه ذلك. ومن الملاحظ أن الملك لم ير سوى طرف اليد التى تكتب، وبالتالى لم ير الشخص الذى له هذه اليد التى تكتب ما يفزع،... ونحن لا نرى من اللّه، عندما يريد أن يكتب فى كتاب الخليقة أو الكتاب المقدس، إلا طرف اليد التى تكتب أو على حد قول أيوب: " ها هذه أطراف طرقه وما أخفض الكلام الذى نسمعه منه، وأما رعد جبروته فمن يفهم " " أيوب 26: 14 "... فإذا كانت هذه إصبع اللّه فكم تكون ذراعه!!؟.. هل نستطيع أن ندرك أنها ليست قصة بيلشاصر وحده، بل قصة كل واحد على ظهر الأرض؟ لأنه لابد أننا جميعاً نظهر أمام كرسى المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً!! " 2 كو 5: 10 ".. ومن ثم فنحن فى أمس الحاجة إلى أن نتعلم ونتعظ من الملك القديم،.. ولعلنا لذلك يمكن أن نتابع قصته فيما يلى: الملك والميزان الإلهى: كان بيلشاصر ملكاً على بابل، وشريكاً لأبيه نابونيداس، الذى كان يهتم أكثر من ابنه بالنواحى العلمية والثقافية، وكان الابن هو الحاكم الفعلى لبابل، وعلى وجه الخصوص عندما غاب الأب لمدة عشر سنوات فى حملة خارج البلاد فى أواسط الجزيرة العربية، وقد كشف الحفريات الحديثة عن اسمه مع أبيه، مما لم يكن معروفاً من قبل، حتى أن بعض النقاد ادعوا بأنه لا يوجد اسم ملك يحمل هذا الاسم، ولكن الكتاب يثبت صدقه دائماً، وتتهاوى كل الأراجيف التى تحاول النيل منه،.. ومن المعتقد أنه إبن ابنة نبوخذ نصر، إذ أن أباه تزوج بابنه نبوخذ نصر وأنجب منها هذا الأبن،... وبهذا المعنى قالت أمه الملكة، عندما أرشدته إلى دانيال ليفسر الكتابة، إن أباه نبوخذ نصر كان يستخدمه فى تفسير الأحلام والعوائص التى تواجهه!.. ومن المعتقد أنه كان فى أوج الشباب عندما حاصره كورش الفارسى، وقد كان شاباً أيضاً يصحب جيوشه الجرارة، بالمشاركة مع حميه داريوس المادى، وكان الشاب يعطى توقيراً كاملا لحميه، ويقدمه، ولذا أشير إلى أن حماه استولى على المملكة وهو فى الثانية والستين من عمره،... على أية حال كانت جيوش مادى وفارس تحاصر بابل، عندما أقام بيلشاصر حفلة لعظمائه الألف، والاسم. بيلشاصر " معناه " بيل يحمى الملك " وبيل هو إله بابل، ونحن لا نعلم لماذا أقام هذا الحفل العظيم،... هل أقام لمناسبة عيد ميلاده، أو عيد تتويجه؟، أو لأنه عيد إلهه،؟ أو لأنه - كما يعتقد البعض - أراد أن يقوى من عزيمة أبطاله فجمع ألفاً منهم، وهو يعتد بحصونه ضد القوات المهاجمة، وقد أراد أن يظهر كبرياءه وشجاعته، وقدرته التى لم يصل إليها نبوخذ نصر نفسه، فأمر بإحضار الآنية المقدسة ليشرب فيها الخمر ويسبح آلهته!!.. على أية حال، لقد ظهرت الكتابة أمامه تقول: " وزنت فى الموازين فوجدت ناقصاً"!!.. " دا 5: 27 " وهل لنا أن نقف قليلا من الميزان الإلهى؟!!.. إن هذا الميزان يختلف - ولا شك - من كل الموازين الاخرى!!.. إنه يختلف عن ميزان الإنسان لنفسه، أو الميزان كما يتخيله الإنسان، ويزن به نفسه!!.. وإذا صح ما يتفكهون به أنك إذا سألت اليهودى عن قيمة شئ، وثمنه، فإنه سيسألك أولا: هل سيشترى هذا الشئ أم يبيعه، فإذا كان هذا هو المشترى فإن الثمن أقل، وإذا كان هو البائع فإن الثمن أكثر - ولعله بهذا يفسر ما قاله الحكيم سليمان: " ردئ ردئ يقول المشترى وإذا ذهب فحينئذ يفتخر " " أم 20: 14 ".. وهى النفس البشرية التى حذرها المسيح فى الموعظ على الجبل: " لا تدينوا لكى لا تدانوا لأنكم بالدينونة التى بها تدينون تدانون، وبالكيل الذى به تكيلون يكال لكم، ولماذا تنظر القذى الذى فى عين أخيك وأما الخشبة التى فى عينك فلا تفطن لها أم كيف تقول لأخيك دعنى أخرج القذى من عينك وها الخشبة فى عينك. يا مرائى أخرج أولا الخشبة التى من عينك وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى من عين أخيك.. " " مت 7: 1 - 5 ".. أو ما قاله بولس: " لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك لأنك أنت الذى تدين تفعل تلك الأمور بعينها. ونحن نعلم أن دينونة اللّه هى حسب الحق على الدين يفعلون مثل هذه " " رو 2: 1 - 2 ".يقول ما كارتنى فى عظته المشهورة عن حزائيل، عندما قال لأليشع: " ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا الأمر العظيم " " 2 مل 8: 13 ".. إن أعظم فاعلى الشر فى الأرض كانوا رجالا لم يخطر ببالهم أن يفعلوه من أول الأمر، فنابليون فى مطلع حياته كتب رسالة لأكاديمية ليون بعنوان: " أخطار الطموح "... وقال نيرون: " ليت هذه اليد ما تعلمت الكتابة " وهو يوقع على أول قرار بالإعدام،.. وروبسبيير والذى أرسل الآلاف إلى المقصلة فى الثورة الفرنسية، كان قد قدم استقالته قبل ذلك كقاض فى محكمة إقليمية لأنه لا يستطيع أن يوقع عقوبة الإعدام على مجرم ثبتت إدانته!!... ولو أنك جئت إلى الملك داود وقلت له إنك ستكون زانياً وقاتلاً فى يوم من الأيام لصرخ فى وجهك: ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا!!.. ولو أنك جئت إلى سليمان فى جبعون وهو جاث يقدم على المرتفعة ألف ذبيحة، ويطلب القلب الفهيم ليميز بين الخير والشر!!.. وقلت له إنك ستبعد عن اللّه وتتبع النساء الأجنبيات اللواتى انحرفن إلى عبادة الأوثان، لصاح: هذا مستحيل!!.. سل بطرس الذى سيخرج فى تلك الليلة، وقبل أن يضيع طعم الطعام من فمه،.. وقل له إنه سينكر السيد، وهو يصيح: هذا لا يمكن أن يكون.. تصور نفسك نبياً، واعرف ماذا سيفعل الناس، وانظر أعمالهم، وحدثهم بها، وهم سيرمونك بالكذب لأنك تجرؤ على أن تصورهم بهذه الصورة ولكن نبوتك ستتحقق، وكما بكى أليشع قد تبكى عندما تثبت عينيك فى إنسان لتحدثه بما لا يخطر بباله أن يفعل لأن " القلب أخدع من كل شئ وهو نجيس من يعرفه!!.. " إرميا 17: 9 " حقاً إن الميزان البشرى الذى يصنعه الإنسان لنفسه لا يمكن أمام كبريائه أو ضعفه أو فساده أو نجاسته أن يكون صحيحاً أو دقيقاً،.. ومن الواضح أن بيلشاصر لم ير أى خطأ فيما فعل أو عيب أو نقص أو قصور،... بل لعله وهو يفعل ما لم يجرؤ عليه نبوخذ نصر نفسه، كان يرى فى نفسه أشجع وأعظم وأصدق وأدق من سلفه العظيم!!.. فإذا نظرنا إلى ميزان آخر - وهو ميزان الناس لغيرهم من الناس - لوجدنا أنه ليس أقل خطأ أو قصوراً أو تضليلا،.. كان بيلشاصر قد أقام حفله العظيم لألف من عظمائه، الذين هم أبطال الأمة وقادتها،.. وقد نظر إليه هؤلاء نظرة الإعجاب كالقائد الشاب الشجاع الذى هو سيد الأمة وبطلها العظيم،.. وشتان بين حكم الأرض، وحكم السماء... وشتان بين تفسير العظماء، وتفسير دانيال، وقد شاء المسيح أن يعطينا صورة كاملة عن الفارق بين الحكمين والتفسيرين، فى منظر الغنى ولعازر، والصورة الأرضية والصورة السماوية المتتابعتين لهذا المنظر العتيد،... ففى ركن زاوية على الطريق جلس لعازر فى مواجهة قصر الغنى الذى يرفل فى البز والأرجوان،.. ولو طلب إلى الناس أن يضعوا مقارنة بين الرجلين، لما وجدوا أى مجال للمقارنة، فهل يمكن أن يقارن المترف بالمجروح والشبعان بمن لا يجد الفتات؟ والذى يمتلئ بيته بالإشراف من الزوار، بمن لا يجد إلا الأصدقاء من الكلاب التى تلحس القروح؟!!.. ولعلهم يقولون: وأين الثرى من الثريا؟ وهم - ولاشك - سيرون الثرى فى المسكين الذى يجلس على التراب، والثريا فى ذاك الذى يتألق بيته بالأنوار اللامعة المنيرة العظيمة!!.. هذا هو حكم الأرض،.. ولكن ميزان السماء صنع الهوة التى لا تعبر، وفى قمتها بائس الأمر، وفى قاعها المترف الذى هبط إلى الهاوية التى لا قرار لها!!. إن القصة ترينا أن هذا الميزان سجل حكمة إزاء النبراس أو الشمعدان حتى يراها الكل،. وميزان اللّه هو ميزان النور،.. إن عدالة اللّه ليست عمياء، كما ألف الناس أن يروا العدالة فى صورة امرأة معصوبة العينين تمسك ميزاناً بيدها، وفى اليد الأخرى سيفها المجرد!!.. إن عدالة اللّه، بالأحرى، فاحصة نيرة بالغة الدقة، فى وزنها، أو على ما تقول حنة فى صلاتها: " لأن الرب إله عليم وبه توزن الأعمال " " 1 صم 2: 3 ".. مررت يوماً بميزان من تلك الموازين التى توضع فى الأماكن أو المؤسسات العامة أو الخاصة، والتى تضع فيها العملة حتى تخرج لك تذكرة مكتوب عليها وزنك...، وهل رأيت من باب التسلية أوحب الاستطلاع، أو الخوف من زيادة الوزن أو نقصه من يزنون أنفسهم؟، أو هل رأيت الطبيب يزن الطفل أو الرجل قبل أن يفحصه طبياً؟،.. هذه موازين بشرية لغايات تتصل بالجسد أو سلامته، أو الاطمئنان على الصحة أو ما أشبه، وأين هذه من ميزان النفس عند اللّه؟، وعلى وجه الخصوص، إن الرب إله عليم، وبه توزن الأعمال، وهو فى وزنه للأعمال يتغور إلى الداخل العميق، لأنه يعرف السرائر ولا تخفى عليه خافية،.. وهو يصل إلى أعماق النبضات والنأمات، والنوايا والبواعث المتشابكة التى لا تستطيع العين أن تدركها!!.. فإذا أصدر اللّه أمراً إلى يا هو بن نمشى أن يبيد بيت أخاب ليحل محله فى الملك، وإذا صادف الأمر الهوى العميق فى قلب ياهو، فهو يبيد، وبغير اعتدال، وهو لا يرى فى عمله هذا إلا إتماماً لأمر اللّه، إلى الدرجة التى يقابل فيها يهو ناداب بن ركاب فيباركه ويقول له: " هل قلبك مستقيم نظير قلبى؟ فقال يهوناداب: نعم ونعم... هات يدك، فأعطاه يده، فأصعده إليه إلى المركبة وقال: هلم معى وانظر غيرتى للرب، وأركبه معى فى مركبته وجاء إلى السامرة وقتل جميع الذين بقوا لآخاب فى السامرة، حتى أفناه حسب كلام الرب الذى كلم به إيليا " " 2 مل 10: 15 - 17).. وإذا كان اللّه قد بارك ياهو وأجلس أبناءه إلى الجيل الرابع، لأنه تمم الإرادة الإلهية،... لكن هناك تياراً رفيعاً أسود كان فى قلب ياهو، استطاع أن يخفيه عن يهوناداب بن ركاب، وعن كل إنسان آخر، لكنه لم يكن خافياً على اللّه، وجرى فى القلب التيار الأسود مع الأبيض، ووزن اللّه وفصل بين التيارين، وقال على لسان هوشع: " بعد قليل أعاقب بيت ياهو على دم يزرعيل " " هو 1: 4 "... هل تستطيع مهما بلغت من الإدراك والحكمة أن تكتشف التيارين الممتزجين؟؟، وإذا أمكن أن تكتشف، فهل تستطيع الفصل بينهما فتبارك التيار الأبيض، وتعاقب الأسود؟،... ليس هناك إلا ميزان واحد يستطيع ذلك، هو ميزان اللّه، الذى فصل من البداءة بين النور والظلمة، " فالظلمة أيضاً لا تظلم لديه، والليل مثل النهار يضئ كالظلمة هكذا النور، " " مر 139: 12 " هل أساء إليك زميل أو رفيق، فحفظت فى قلبك شيئاً عميقاً غائراً لا يدركه أحد، وانتهزت خطأ ارتكبه هذا الزميل، أو خطية ما، فإذا بك تثور ناهضاً ضد هذا الخطأ أو الخطية، باسم الغيرة للّه؟ ويحمدك الناس لأنك لا تعرف المجاملة على حساب الحق،... ولكن رقيب الناس يتعقب شيئاً دفيناً أسود لا يراه أحد، ويزنه بميزان العدالة البالغة الدقة، ويفصله على حده، ويتعامل معك إزاءه، سواء فى السريرة أو فى العلانية، حتى تعلم أنك تستطيع أن تخدع نفسك أو تخدع الآخرين، لكنك لا تستطيع أن تخدع اللّه البتة!! كان بيلشاصر عظيماً فى ميزان النفس، وميزان الناس،.. ولكنه أبصر على مكلس الحائط تجاه النبراس القول: " وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً ".. بيلشاصر والأوانى المقدسة: - يقولون إن بيلشاصر كان متعبداً لبيل إله الكدانيين، وقد أراد أن يثبت لعظمائه شيئاً يختلف عما وصل إليه نبوخذ نصر، فإذا كان نبوخذ نصر قد انتهى إلى سيادة اللّه على كافة الآلهة، عندما قال لدانيال الذى فسر له الحلم الذى عجز حكماء بابل عن معرفته وتفسيره: " حقاً إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار " " دا 2: 47 "... كما قال للثلاثة فتية بعد خروجهم من الأتون: " إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجى هكذا " " دا 3: 29 ".. فإن بيلشاصر يمكن أن يثبت شيئاً يختلف عما ذكره الملك العظيم، إذاً فليرفع بيل على حساب اللّه، ولا مانع من التسبيح لآلهة الفضة والذهب، والنحاس، والحديد، والخشب، والحجر - التى لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف - متجاهلا، اللّه الذى بيده نسمته وله كل طرقه!!.. كما قال له دانيال " دا 5: 23 " وغنى بليشاصر وعظماؤه لبيل على أمل أن يساعدهم فى اليوم الأسود ضد الجيوش المهاجمة التى تحاصر المدينة، وما هو البرهان، فى عرفه، تزلفاً وتملقاً لبيل، وتحدياً لإله إسرائيل، وذلك بإحضار الآنية المقدسة، واستخدامها لشرب الخمر والسكر والعربدة!!.. أو أنه - فى عبارة أخرى التمرد والنجاسة معاً،.. وما فعله بيلشاصر قديما ما يزال يفعله الإنسان فى كل جيل وعصر عندما يتمرد على اللّه، وينجس الأوانى المقدسة التى أعطاه اللّه إياها لتستخدم لجلاله ومجده: " ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية بل قدموا ذواتكم كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر للّه... ألستم تعلمون أن الذى تقدمون ذواتكم له عبيداً للطاعة، أنتم عبيد للذى تطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر ". " رو 6: 13 و16 " " أما تعلمون أنكم هيكل اللّه وروح اللّه يسكن فيكم، إن كان أحد يفسد هيكل اللّه فيفسده اللّه لأن هيكل اللّه مقدس الذي أنتم هو " "1 كو 3: 16 و17 ".. " ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء المسيح، أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية، حاشا، أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد لأنه يقول يكون الاثنان جسداً واحداً، وأما من التصق بالرب فهو روح واحد لأنه يقول يكون الاثنان جسداً واحداً، وأما من التصق بالرب فهو روح واحد. اهربوا من الزنا، كل خطية يفعلها الإنسان هى خارجة عن الجسد لكن الذي يزنى يخطئ إلى جسده، أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذى فيكم الذى لكم من اللّه وأنكم لستم لأنفسكم " " 1 كو 6: 16 - 19 "أيها الشاب الذى تذهب إلى الفجور والدنس، إنك بيلشاصر، على مائدة النجاسة تقدم الأوانى المقدسة التى صنعها اللّه لمجده وجلاله!!. بيلشاصر والضمير:- والضمير كما وصفه ا. ج. جوردون هو: " سلم يعقوب الحقيقى فى داخل قلب الإنسان والذى يصل إلى السماء، وفوقه ملائكة الاستحسان والتوبيخ تصعد وتنزل ".. وقد جاء إلى الملك فى لحظة الموسيقى الضاحكة والكأس الممتلئة، فلماذا يفزع ويرتعب، وألا يجوز أن بيل آلهته أرسلت إليه كلمات مشددة مشجعة ضد الجيش المهاجم؟ فلماذا تفزعه أفكاره وتنحل خرز حقوبه، وتصطك ركبتاه؟،.. إنه الضمير الذى ينهض اللّه فى أعماق الإنسان ليفزعه ويروعه، وهو العين المرهبة التى صورها " فيكتور هوجو " تلاحق قايين ليلا ونهاراً، وهو يصرخ على الدوام: " ذنبى أعظم من أن يحتمل " " تك 4: 13 "... وهو الضمير الذى جعل هيردوس الملك،.. مع أنه كان من الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة إلا أنه عندما يسمع عن المسيح يقول: إنه يوحنا المعمدان الذي قطعت أنا رأسه... وهو الضمير الذى أرعب فيلكس لما كان بولس يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون!!.. وهو الضمير الذى كانت تتمنى، معه، أن تقابل " مارى الدموية " جيشاً من عشرة آلاف مقاتل، دون أن تواجه يوحنا نوكس بصوته المفزع المرهب الشديد "!!ومن الغريب أن بيلشاصر شرب الكأس فى مواجهة الجيوش الغازية دون أن يفزع منها، وارتعب من طرف يد تكتب على مكلس الحائط أمام النبراس: " وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً ".. إنه الضمير الذى ينهض فى اليوم الأخير فى الأشرار وهم يقولون للجبال اسقطى علينا وللآكام غطينا من وجه الجالس على العرش ومن غضب الحمل؟؟!!.. والسؤال: أيها الشاب ماذا أنت فاعل تجاه الضمير وهو يكتب علي مكلس الحائط تجاه عينيك: " وزنت فى الموازين فوجدت ناقصاً "..؟؟ بيلشاصر والنهاية المخيفة:- والنهاية فى مرات كثيرة، تكون أسرع جداً مما يظن أو يتصور أصحابها. لست أعلم إلى أى مدى أخذ بيلشاصر تفسير دانيال، فمع أن دانيال تحدث معه بكل قسوة وعنف، فهو يرفض عطاياه، أو إذا أراد أن يعطيها فلتكن لغيره: " لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيرى " " دا 5: 17 ".. على أية حال إن بيلشاصر صدق كلمات دانيال، ومع ذلك فهو يظن أنها لن تكون بهذه السرعة، ومن ثم فهو يصدر قراراً: " أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب فى عنقه وينادوا عليه أن يكون متسلطاً ثالثاً فى المملكة " " دانيال 5: 29 ".. ومع أن هذا القرار لن يتسع وقت بيلشاصر لتنفيذه، إلا أن دانيال سيأخذ مركزه العظيم بقرار آخر، ولكن من داريوس، وليس من بيلشاصر!!.. وسيبقى دانيال أميناً يعلم أن القرار الصحيح لا يصدره ملك أرضى، بل يصدره اللّه ملك الملوك ورب الأرباب، الإله المتسلط فى مملكة الناس، وهو الذى يمنع ويمنح. وسعيد ذلك الذى يتسلم مركزه وسلطته ومجده من اللّه وليس من الناس!! سقطت بابل بدون قتال، بخدعة عملها كورش والماديون والعيلاميون الذين كانوا معه بتحويل مجرى نهر الفرات وسقطت فى ذات الليلة التى كان يعربد فيها بيلشاصر ويسكر، ولعله مما تجدر الإشارة إليه أن مصوراً أمريكياً اسمه " واشنطون ألستون " قضى اثنى عشر عاماً وهو يرسم منظر حفل بيلشاصر دون أن يتمكن من إتمام الصورة، وكانت العقبة الرئيسية أمام المصور العبقرى الفنان هى عجزه عن إبراز الفزع الكامل، واليأس الرهيب الذى استولى على الملك، وظهر على قسمات وجهه،... ومع ذلك، فالصورة في متحف الفنون فى بوسطن، وهى تكشف، بالعمل الناقص، عن عجز الإنسان مهما كانت قوته وقدرته وعبقريته عن تصوير فزع الضمير الذى يلاحق الخاطئ ملاحقة أبدية!!..
المزيد
15 يوليو 2021

شخصيات الكتاب المقدس بلعام بن بعور

بلعام بن بعور "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم" عدد 23: 10 مقدمة لست أعلم من أي غدير أو نبع استقى روبرت لويس استفنسون فكرته، وهو يكتب كتابه العظيم: "دكتور چيكل ومستر هايد" الرجل المزدوج الشخصية، فهو تارة چيكل الطيب، وأخرى هايد الشرير، وهو يملك دواء يغير شخصيته كلما رام التنقل بين الشخصيتين،.. ومفعول الدواء يستمر معه لحظات من الزمن، غير أنه تأتي الساعة التي يفقد فيها هذا الدواء فاعليته، ويتوقف الرجل -للأسف- عند هايد الشرير، دون أن يبلغ چيكل الطيب،.. هناك من يؤكد أن استفنسون استوحى فكرته من الأصحاح السابع من رسالة رومية من قول الرسول بولس: "فإننا نعلم أن الناموس روحي أما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل فإن كنت أفعل ما لست أريده فإني أصادق الناموس أنه حسن فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة في.. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت!!.." ولعل روبرت لويس استفنسون لو بحث عن نموذج بشري يصلح لهذه الفكرة، لما وجد أفضل من بلعام بن بعور، الرجل الذي ارتقى إلى مصاف الملائكة، ثم هبط إلى القاع مع الشياطين!!.. وربما نستطيع أن نتابع الرجل وقصته الغريبة لو وقفنا منه من الجوانب التالية: بلعام وامتيازه لا شبهة في أن بلعام كان من أعظم الشخصيات المعروفة في عصرها،.. وكان يتسم بصفات متعددة واضحة إذ هو: الرجل ذو العقل الجبار كان من فتور ما بين النهرين، والبلدة كانت مشهورة بالحكمة، ومليئة بالحكماء، وكان بلعام بن بعور مقصد الكثيرين الذين يأتونه من كل البلاد، يبحثون عن الحلول لمشاكلهم، وما يواجهون من متاعب وصعاب،.. وقد حلت مشكلة أمام بالاق، وهو يفتش هنا وهناك عن ناصح وحكيم، يستطيع أن يعطيه حلاً لها، فلا يجد إلا الرجل القابع ما بين النهرين، اللامع التفكير الجبار الذهن، المقتدر الفهم، وهو لا يكاد يجد في الأرض كلها شبيهاً له، ونظيراً،.. وهو واحد من المجوس حكماء المشرق القدامى، والذي ظهر قبل أن يأتي المجوس إلى السيد بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان.على أن المعرفة الأكبر عند الرجل كانت معرفة الله، وقد كان من أعظم العارفين بالله، فالله ليس شخصاً غامضاً أمام عينيه أو صورة يحف بها الإبهام والظلام، كلا.. بل هو رجل غزير المعرفة بالله، عندما يتحدث عنه تعالى، لا يتحدث عن ألوهيم" إله الكون والخليقة، بل عن "يهوه" إله العهد -وقد حار الشراح والمؤلفون، من أين للرجل هذه المعرفة، المعرفة التي تصف الله في ثباته وجلاله وقوته وانتصاره؟!.. إن الجواب على ذلك يكمن في أنه كان واحداً من الذين أودعهم الله النور الذي ينير كل إنسان، وقد أتى إلى العلم، وعرفه الكثيرون من غير شعب الله، لأنه لا يترك نفسه بلا شاهد،.. فكان هناك ملكي صادق، وكان هناك أيوب، وكان هناك صوفر النعماني، وبلدد الشوحي، وأليفاز التيماني، وأليهو بن برخئيل البوزي، وغيرهم. الرجل ذو اللسان الساحر لم يكن بلعام جبار العقل فحسب، بل كان ساحر اللسان أيضاً،.. من الناس من يكونون على أعظم قدرة ومعرفة ذهنية، لكنهم لا يملكون اللسان الزرب البارع المنطق،.. ولكن بلعام كان يملك ناصية الاثنين، إذ كان ذهبي اللسان رائع المنطق، سديد التعبير، وكان خطيباً مفوهاً، وصل ببيانه إلى أسمى الذرى، وكان ندا لأروع ما نطق به الأنبياء، وفي ألفاظه الرائعة، كان أقرب إلى شعر إشعياء، وبلاغة حبقوق!!.. كان أميراً من أمراء البيان، ولو اعتلى المنبر، لكان واحداً من خطباء العصور، وسيداً من سادة المتكلمين بين الوعاظ في كل زمان!!.. الرجل الممتليء الأشواق لم يكن بلعام ذهناً يفكر، أو لساناً زربا يتكلم، بل كان هناك شيء أكثر عند الرجل وفيه، إذ كانت له أشواق ملتهبة قوية، تزداد عنفاً وقوة ولمعاناً في وقت الصفاء، وساعات التأمل والهدوء،.. وأمام المذابح التي أقامها، والذبائح التي قدمها، التهب الرجل التهاباً، وهو يرى المخلص الآتي من بعيد: "أراه ولكن ليس الآن أبصره، ولكن ليس قريباً يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغى".. وهو إذ يرى عالماً أفضل، ومجداً أروع وأعظم يهتف: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم!!.. ومن المؤكد أن الشعب الذي رآه، والصور التي أثارها هذا الشعب أمام عينيه وفي خياله، هي التي رفعته إلى هذا المستوى الرفيع الممتلئ من الأشواق السماوية!!.. وكم من الناس دخلوا في وسط حفل مقدس، وأنصتوا إلى ترنم أعظم من كل أغاني الأرض، وأسمى من كل ما يعرف الإنسان،.. وسمعوا لغة إلهية أعلى من البيان البشري، فصاح كيانهم: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم"!!.. الرجل الباحث عن مشورة الله كان هناك شيء في الرجل يؤكد أن الحكمة البشرية -مهما بلغت أو عظمت، واللسان الزرب، مهما تكلم وأفصح، والشوق العميق مهما امتد والتهب- فإن الإنسان في حاجة إلى شيء أعظم من هذه كلها، وإلى جانبها، ألا وهو المشورة الإلهية التي لا يمكن أن يسير بدونها،.. وأبى بلعام أن يتخطى الطريق دون معرفة رأي الله وإرادته،.. ونحن نسأل هنا: هل أدرك الرجل أن ذكاء المرء محسوب عليه؟ وأن خطأ الحكمة البشرية بين وواضح في شتى المواقع الأرضية؟ وأن الإنسان مهما بلغ من الإدراك تائه في الظلام، لا يمكن أن يعرف ما يأتي به الغد، أو ما يتمخض عنه الزمن، أو ما تأتي به الأيام؟ وهو لا يتحرك إلا إذا أدرك ماذا يريد الله، وما هي مشيئته، وهو لذلك يطلب من رجال بالاق بن صفور أن ينظروا حتى يضيء له الله الظلمة الضاربة في الطريق؟!!. الرجل المستخدم من الله وبلعام بن بعور عنده الرغبة قبل وبعد هذه كلها أن يكون: "الرجل المفتوح العينين.. الذي يسمع أقوال الله ويعرف معرفة القدير، الذي يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينيين" وهو يصمم وقد جاء من بين النهرين- على شيء واحد "ألعلي الآن أستطيع أن أتكلم بشيء من الكلام الذي يضعه الله في فمي به أتكلم" ومن العجيب أن هذا الرجل فتحت عيناه حقاً، ومد بصره إلى ما وراء القرون والأجيال البعيدة، وتكلم بأروع النبوات وأعظم الرؤى، وارتفعت نبواته إلى مصاف أعلى النبوات وهي تتحدث عن المسيح سيدنا مخلص العالم!!.. بلعام وسقوطه ولكن كيف يمكن لهذا الرجل العظيم أن يسقط من الجبل الشاهق الذي وصل إليه، وكيف يمكن أن يكون سقوطه عظيماً على الصورة التي جعلته عبرة لكل الأجيال والتاريخ!!.. وما هي عوامل سقوطه الشنيع هذا؟!!. أسقطته الكبرياء ولعل هذه أول تجربة واجهها الرجل إذ أن القارئ المدقق في كلمة الله يعلم أن بلعام رفض أن يذهب إلى بالاق من المرة الأولى، وأن بالاق داهن الرجل وتملقه، بأن أرسل إليه وفدا أعظم وأعلى من الوفد الأول، حتى يحس تقديره الكبير له، وسقط الرجل في الفخ المنصوب، وذهب مع الوفد الثاني،.. ولعل هذه تجربة العظماء والموهوبين في كل جيل وعصر، إذ يجربهم الشيطان بالتعالي والكبرياء والغرور، وعندما يتملقهم الناس تنزلق الطريق أمامهم، وما أسرع ما يسقطون!!.. ألم تكن هذه تجربة الشيطان نفسه، الذي وضعه الله في المكان العظيم المحدد له، ولكنه ترك رياسته، محاولاً أن يأخذ مكاناً أعظم وأعلى، وحبسه الله في القيود الأبدية تحت الظلام؟.. أليس هذه تجربة الجبابرة والملوك الذين قهروا الممالك ودوخوا الشعب، ولكن مأساتهم العظيمة، أنهم سقطوا من عل، لأنهم كانوا يتصورون أنهم من طينة غير طينة الناس، إلى الدرجة التي جعلت الإسكندر عندما انهمر الدم من جرح حدث له، أن يتعجب كيف يسقط دمه مثلما يسقط دم الآخرين من الناس، وكانت عقيدته أنه ابن الآلهة كما صوروا له أو خدعوه؟ أليست هذه تجربة نبوخذنصر الذي قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال ملكي.. والكلمة بعد بفم الملك وقع صوت من السماء قائلاً: لك يقولون يا نبوخذنصر الملك إن الملك زال عنك.. "في تلك الساعة تم الأمر على نبوخذنصر فطرد من بين الناس وأكل العشب كالثيران وابتل جسمه بندي السماء، حتى طال شعره مثل النسور وأظفاره مثل الطيور، وعند انتهاء الأيام أنا نبوخذنصر رفعتُ عينيَّ إلى السماء فرجع إلىَّ عقلي وباركت العلي وسبحت وحمدت الحي إلى الأبد الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلي دور فدور، وحسبت جميع سكان الأرض كلا شيء وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل؟؟"، أليست هذه هي تجربة هيرودس الذي تملقه الصوريون والصيداويون، وهو لابس حلته الملوكية وعلى عرش الملك وهو يخطابهم، وإذا بهم يصرخون: هذا صوت إله لا صوت إنسان، ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعط المجد لله فصار يأكله الدود ومات؟؟.. أليست هذه تجربة الكثيرين من أشهر الوعاظ، ولعله يوحنا ويسلي الذي جاءه واحد بعد عظة رائعة، وقال له -وهو نازل من المنبر-: ما أعظم ما وعظتنا به في هذه العظة، وأجاب الرجل العظيم: لقد قالها واحد غيرك من قبلك الآن، وتعجب الرجل وقال: من؟ وكان الجواب: إنه الشيطان؟؟ ولئن كان ويسلي نجح في مكافحة الشيطان، فإن بلعام بن بعور لم ينجح وهو ينزل من فوق منبر بالاق بن صفور، ومع أنه من هناك ألقى عظاته التي تلقفتها الأجيال، لكنه كان الواعظ الذي بعدما كرز للآخرين صار هو بنفسه مرفوضاً!!.. هذه الحقيقة العظيمة تؤكد أن الله لا يعطي مجده أو كرامته لآخر، وتكشف عن السياسة الإلهية الثابتة: "إن الله يقاوم المستكبرين أما المتواضعون فيعطيهم نعمة".. كانت الكبرياء المسمار الأول في نعش بلعام بن بعور. أسقطه الطمع كان يزعم أنه لا يتجاوز قول الرب ولو أعطاه بالاق ملء بيته فضة وذهباً، وعينه على كل درهم أو دانق يلقي به الملك إليه، كان محباً للمال بكل ما في الكلمة من معنى، كان واحداً من ذلك الموكب الرهيب الذي يتمشى في كل العصور: "الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة وأما أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا..".. ولم يهرب بلعام، بل -على العكس- سعى إلى الذهب، الذي ذهب به إلى الدمار، ومال إلى المال الذي مال به عن الطريق المستقيم، إلى طريق الأفك والضلال، أو كما وصفه الرسول بطرس مع محبي المال: "قد تركوا الطريق المستقيم فضلوا تابعين طريق بلعام بن بعور الذي أحب أجرة الإثم".. هل رأيت الطريق من فتور إلى موآب؟ كان طريقاً طويلاً متعباً لكن بلعام بن بعور الطريق المرصوف بالذهب، وأحب بلعام أجرة الإثم، وسال لعابه طوال الطرق، وعبارة رهيبة تدوي في أذنيه في كل خطوة منه: الفضة.. الذهب!!.. الفضة.. الذهب!!.. الفضة.. الذهب!!.. وويل لمن يقتحم المحرم من أجل الفضة أو الذهب،.. اقتحمه عخان بن كرمي من أجل الرداء الشنعاري النفيس، والمائتي شاقل من الفضة، واللسان من الذهب، ودفن المال عخان- بن كرمي ملفوفاً بردائه الشنعاري!!.. واقتحمه جيحزي غلام أليشع بعد أن رفض سيده أن يأخذ من يد نعمان السرياني ما أحضره هدية من أجل شفائه، وأخذ وزنتي فضة وحلتي ثياب، وعندما مثل أمام أليشع كان الجواب: "أهو وقت لأخذ الفضة ولأخذ ثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجوار فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد فخرج من أمامه أبرص كالثلج". واقتحمه يهوذا الاسخريوطي الذي ذهب إلى رؤساء الكهنة وقال: "ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم، فجعلوا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه".. وارتكب أكبر جريمة في التاريخ مقابل ما يقرب من ثلاثة جنيهات!!..كل واحد يباع بثمن إذا تجرد من نعمة الله، وكان أشبه بذلك الرجل الذي عرض عليه الأعداء أن يخون وطنه، وعرضوا ثمناً ورفض، ورفعوا الثمن، وظلوا يرفعونه إلى أن وصلوا إلى النقطة التي جعلته يصرخ: لقد اقتربتم من الثمن الذي يمكن أن تشتروني به،.. ولا أعلم إن كانوا قد نجحوا أم لا، لكني أعلم أن بلعام بن بعور أخذ الأجرة الآثمة التي أسقطته!! هل أدرك بلعام بن بعور ما قاله أحد الشعراء، وهو يرى الناس تباع بأثمان مختلفة ومتنوعة!!.. ليس بالفضة، وليس بالذهب، بل توجد آلاف الطرق التي بها يشتري الإنسان،.. فالصداقة الآثمة، أو الرغبة الشريرة، أو الاسم الفارغ كثيراً ما تكون الثمن الذي به يباع الناس ويشترون!!.. وقد اشترى بالاق بن صفور بلعام بثمنين رهيبين: "فعاد بالاق وأرسل أيضاً رؤساء أكثر وأعظم من أولئك.. فأتوا إلى بلعام وقالوا هكذا قال بالاق بن صفور لا تمتنع عن الإتيان إليَّ لأني أكرمك إكراماً عظيماً وكل ما تقول لي أفعله" "فقال بالاق لبلعام ألم أرسل إليك لأدعوك لماذا لم تأت إليَّ أحقاً لا أقدر أن أكرمك".. كان الثمن الأول ما يمكن أن نطلق عليه إكرام الشهرة والحفاوة والإجلال في الوفود المرسلة، والاستقبال الفخم العظيم،.. وفي حلوان العرافة المتزايدة في المقدم أو المؤخر من الرشوة الكبيرة!!..كان بلعام بن بعور قائداً عظيماً من أقدم القادة، الذين جمعوا وراءهم كل خطيب، وواعظ، ورجل دين، استخدم منبره بحثاً عن الصيت الذائع، أو عن المادة المتكاثرة!!.. ولم يعلم هؤلاء جميعاً أن مصيرهم لابد أن يكون مصير الرجل التعس الذي ذهب على أبشع صورة وأقسى منظر!!.. بلعام وطريقه لم يتبع بلعام نهجاً وسلوكاً خاصاً به، بل أصبح أكثر من ذلك مدرسة مشهورة من مدارس الضلال والكذب، ويكفي أن يصف الرسول بطرس أتباعه: "لهم عيون مملوءة فسقاً لا تكف عن الخطية خادعون النفوس غير الثابتة لهم قلب متدرب في الطمع أولاد اللعنة. قد تركوا الطريق المستقيم فضلوا تابعين طريق بلعام بن بعور الذي أحب أجرة الإثم"، أو ما قاله السيد لملاك كنيسة برغامس: "إن عندك هناك قوماً متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا".. ولعل المشاهد لطريق بلعام يلاحظ أنها: طريق الخداع النفسي وهذه هي الحقيقة الأولى، إن المخادع قبل أن يخدع الآخرين لابد أن يخدعه نفسه أولاً، وهذا ميسور ويستوي فيه الجميع لأن "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه".. وقد منع الله بلعام من الليلة التي ذهب فيها رؤساء موآب إليه، وكان المنع واضحاً وصريحاً، وعندما عاد بالاق وأرسل له رؤساء أعظم وأكثر، كان من واجبه ألا يكون عنده جواب إلا الجواب الأول، لأنه هو يعلم جيداً أن مشيئة الرب لا تتقلقل أو تتذبذب، وهو ليس في حاجة إلى أن يعود مرة أخرى إلى سؤال الله،.. وعاد بلعام يسأل الله مرة أخرى، وأدرك الله أن الرجل يريد أن يخادع نفسه، وهو يطلب أذناً من الله، ليفعل ما لا يريده الله أن يفعل، ولم يكن هنا يخدع الله، بل كان يخدع نفسه، لعل الله -قد مثل أمامه إكرام البشر وذهبهم وفضتهم- يعطيه رخصة للذهاب، وأسلم الله إلى ذهنه المرفوض وهكذا يفعل الله على الدوام لمن يريد أن يحجز الحق بالإثم، ويغطي المشورة الإلهية بالرغبة البشرية،.. مرات كثيرة ما يطلب الناس الله بذات الصورة التي طلبها بلعام بن بعور، لعل ضميرهم الثائر يستريح، أو يعطي تبريراً لما ينتوون من رغبات شريرة أو آثمة،.. ويجيبهم الله بذات الإجابة القديمة، وعندما تتنكب بهم الطريق يصرخون ويجأرون!! ألم نطلب الله.. ألم ننتظره فلماذا أصابنا هذا كله؟، وهم يعلمون أن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً..” ولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً”.. طريق الورطة إن طريق الخداع النفسي على الدوام طريق موروط، وكان لابد لبلعام أن يفهم موقف الرب بكل وضوح، فالله لم يتغير أبداً في موقفه، إنما الذي تغير هو بلعام، ويبدو أنه كان في صراع مع نفسه، وفي تساؤل هل يتبع الطريق الصحيح أم لا، وهو يركب الأتان التي تميل به في الطريق يميناً ويساراً مع الذبذبة النفسية، التي كانت تموج بها نفسه،.. وجاء إلى خندق، وكان هو قد وصل إلى خندق نفسي عظيم، حيث لا مجال للنكوب هنا أو هناك، وربضت الأتان تحته، ولم تفعل ما فعلته قبل ذلك مرة ومرتين، إذ كانت تغير طريقها من موقف الملاك الواقف قبالتها!!.. وضربها بلعام، ونطقت الأتان، وتكلمت بلغة البشر،.. لقد وقف بلعام في الطريق بين الملاك والأتان، لأن حياته كانت بين الوثنيين، ومن المؤسف أن النفس البشرية تبدأ في الطريق بالملاك لتنتهي إلى الحمار، أو في الواقع لتصل إلى حماقة لا يصل إليها الحمار نفسه!!.. وأي ورطة أعظم من هذه الورطة؟ وأي قسوة أشنع منها وأبلغ؟.. أهكذا تقع النفس البشرية بين الملاك والحمار؟ بين أعلى حكمة وأدنى غباوة؟.. ولكنها حقيقة الإنسان في طريق الورطة بعيداً عن الله!!.. لأن "الثور يعرف قانيه والحمار يعرف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف وشعبي لا يفهم"!!.. على أن السؤال الأعمق والأبعد: لماذا يسمح الله بطريق الورطة التي لا يرغبها، والتي أعلن رفضها من الأول؟!!.. إن الله يسمح لا لأنه يريد ألا يقهر الحرية البشرية فحسب بل أكثر من ذلك لأنه يريد أن يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة، ولأنه يريد أن ينتصر على القصد الشرير، ويصنع منه قصداً رائعاً جميلاً خيراً، وما كان من الممكن أن نسمع عن هذه النبوات الرائعة والعظيمة، أو نعرف إجادة الرب إلا كما يقول ميخا: "يا شعبي اذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور من شكيم إلى الجلجال" (مي 6: 5).. بلعام وخطورته كان بلعام خطراً داهماً على نفسه، وعلى شعب الله أيضاً، وكانت خطورته: خطورة الإسفاف وأي إسفاف أبلغ من هذا الإسفاف الذي نزل به النسر المحلق في الأعالي بأعلى الرؤى وأقدس النبوات، إلى الجثث الميتة والجيف النتنة؟! خطورة الرائي الذي يرى رؤى القدير بعين مكشوفة.. إلى العراف الذي تحول إلى الخرافات والتنجيم؟.. خطورة الذي بدأ أعظم بداية لينتهي أسوأ نهاية؟!. إنه يذكرنا بالتعبير العظيم: لماذا سقطت يا زهرة بنت الصبح، ولماذا يهوى الجمال إلى حضيض الطين؟!! إنه شيء يروع النفس، ويدمي القلب، ويغمد النصل الحاد في القلب المحزون، عندما ينتهي تلميذ المسيح إلى قبلة الغدر، ويسمع للصيحة الأليمة الباكية: يا صحب لماذا جئت!!.. وهكذا كان إسفاف يهوذا الاسخريوطي، ومن قبله بلعام بن بعور الذي قتل نفسه قبل أن يقتل الآخرين!! خطورة الرأي الملتوي وأي التواء أكثر مما وصفه به "فردريك وليم روبرتسن" عندما قال: "إنه الرجل الذي أراد أن يرضي نفسه دون أن يغضب الله"؟ وكان في ذلك واحداً من أبرع أئمة الدبلوماسيين والمرائين!!.. إنه ذلك النوع من الثعالب الفضية اللون، التي يروق لك منظرها، ولا تعلم في أي جحر تبيت، ولا من أي باب تخرج، إنه الإنسان الذي يلقى عبارته التي تحتمل الكثير من التفسير والإيماء والتساؤل، وهو من أدهى الدهاة الذين يمكن أن تفسر بمائة تفسير، قد يذمك في قالب مدح، وقد يمدحك في قالب ذم، وهو قد يحتفل بك برقصة الثعلب في وسط الدجاج، أو احتفال ياهو بمن أراد أن يذبحهم من أنبياء البعل،.. أو بالحفلة التي أجهز بها محمد علي على المماليك في مصر!!.لقد وقعت أمامه مشكلة، الله يريده أن يبارك، وبالاق يريده أن يلعن، وهو يريد أن يرضي الله ويرضي بالاق أيضاً، ويبارك ويلعن في الوقت عينه، فماذا يفعل الداهية؟!!.. لقد بارك كما أراد الله،.. ومن خلال البركة فتح الطريق أمام بالاق للعنة –خذ مثلاً هذا التعبير- وهو صحيح مائة في المائة- وهو خطير أيضاً إلى أبلغ حد: لقد جاء في بركته: “ لم يبصر إثماً في يعقوب ولا رأى تعباً في إسرائيل الرب إلهه معه ”(عد23: 21).. وهذه بركة حقيقية ودائمة،.. ولكنها بمفهوم المخالفة (كما يقول رجال القانون).. إنك يا بالاق إذا أردت أن تقضي على هذا الشعب، فليس هناك إلا سبيل واحد،.. وهو أن تسقطه في الإثم، فتأتي به إلى خيانة الله، والبعد عنه.. وتلقف بالاق بن صفور الإشارة البارعة، وأخرج بنات موآب يرقصن ويلعبن أمام شعب الله، ويقتدنه إلى ما ذبح للأوثان، وللزنا،.. وغبط بلعام بهذه البراعة، فهو لم يقل شيئاً إلا الذي قاله الله له،.. وهو لم يخرج عن وصيته أو يتجاوز قوله،.. وفي الوقت عينه قال كل شيء يرضي بالاق بن صفور، ويعطيه أقرب طريق إلى قتل الشعب والقضاء عليه!!.. كان واعظاً بارعاً ألقى عظته باسم الله، وأخذ الثمن من الشيطان!!.. خطورة العدو الخبيث هذا هو الرجل الذي كان بهذه المشورة القاتلة، أخطر أعداء شعب الله، والتاريخ ينظر إليه كواحد من أخبث القتلة وأشدهم ضراوة.وهكذا عرفه الفكر اليهودي، إذ قال موسى في سفر التثنية وهو يتحدث عن الموآبيين: "ولأنهم استأجروا عليك بلعام بن بعور من فتور آرام النهرين لكي يلعنك ولكن لم يشأ الرب إلهك أن يسمع لبلعام فحول لأجلك الرب إلهك اللعنة إلى بركة لأن الرب إلهك قد أحبك" (تث 23: 4 5). وقال يشوع: "وقام بالاق بن صفور ملك موآب وحارب إسرائيل وأرسل ودعا بلعام بن بعور لكي يلعنكم ولم أشأ أن أسمع لبلعام فبارككم بركة وأنقذتكم من يده"(يش 24: 9 10).. وكان المسيحيون في مطلع التاريخ المسيحي يرونه في كل تعليم خبيث يمزج الحق بالباطل، والسم بالدسم، كما جاء في سفر الرؤيا عن الذين يتمسكون: "بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا"(رؤ2: 14).. وهو الرجل الذي حار فيه أوغسطينوس وچيروم، فالأول كان يعرفه الإنسان الذي يستخدم الدين طمعاً في الكسب، والثاني الذي كان يراه أشبه بسقطة النبي القديم في بيت إيل، الذي قتله الأسد بجوار حماره!! ورغم أن الرجل أعطى أعظم النبوات وأبرعها، لكن التاريخ الكنسي لم يذكره قط صديقاً للكنيسة، بل عدواً قاسياً خطراً، كما ذكر النبوة التي جاءت على لسان قيافا، وكانت من أعظم النبوات عن المسيح: "فقال لهم واحد منهم وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة أنتم لستم تعرفون شيئاً ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد"(يو11/ 4951).. ومع ذلك فإن التاريخ لم ير في قيافا صديقاً للكنيسة، بل عدواً من أقسى أعدائها. بلعام ومصرعه ومصرع بلعام عظة بالغة لمن يريد أن يتعظ ويتعلم، لقد جائته نهايته بأسرع مما كان يتصور أو يحلم، إذ لم يمت في بيته وأرضه، بل مات في أرض غريبة، أرض المديانيين، ولا يعلم أحد على وجه التحقيق لماذا كان هناك.. يظن البعض أن المديانيين دعوه كما دعاه بالاق ملك موآب، وأنه وقد استمرأ الدعوة الأولى وحلوانها، فقد ذهب إلى الثانية ليضاعف الحلوان ويكثر الثروة ولم يدر أن هناك نهايته ومصرعه، إذ قتله الإسرائيليون مع ملوك مديان،.. كانت الطريق الأولى ورطة أمامه، وبقيت له الحياة مع ورطة الطريق،.. لكنه عند تكرار الأمر لم يجد في الغالب ملاكاً يقف في طريقه، أو حماراً يزحم قدمه،.. لقد رأى الطريق رحب إلى الهلاك، والنهاية أسرع مما كان يظن،.. وإنها حكمة الله العجيبة، إذ أنه قبل أن يقضي على الحياة، يضيق الطريق ويزحم القدم، لعل الإنسان يثوب إلى رشده ويرجع، أيها الخاطئ، قد يزحم الله قدمك بالخسارة، أو الضيق، أو الشدة، أو المعاناة أو التعب من كل جانب، فإذا لم تنتبه، فقد يفسح أمامك، ويوسع الطريق، ولكن إلى الهاوية والهلاك وأنت لا تدري!!..ومن المؤسف أن الرجل الذي وعظ بسحر البلاغة وروعة البيان، كان في حاجة إلى العظة القاسية من الحمار الأعجم الذي نطق بصوت إنسان،.. وهكذا كان الرجل الحكيم في عصره غبياً إلى الدرجة التي يحتاج فيها إلى عظة حمار: "إذ منع حماقة النبي حمار أعجم".. وإذا كانوا قد قالوا إن الإنسان قد يأخذ الحكمة من أفواه المجانين، فليس بعيداً عن الله، أن يعلم الحكيم الذي هوى بشره إلى الحماقة، على لسان حمار!!..وفي الحقيقة أن بلعام بن بعور الذي لم تفده عظة الحمار، والذي بلغ من الحماقة ما لا يبلغه الحيوان نفسه، كان لابد أن يموت موت أحمق، ولقد مات أشنع ميتة وأقساها، إذ لم يعش ليستفيد من إكرام بالاق بن صفور الموآبي، أو من ملوك مديان أوى وراقم وصور وحور ورابع الخمسة الذين قتلوا فوق قتلاهم، وقتل معهم بلعام بن بعور (عد 31: 8)، وذهب الرجل إلى مصيره التعس دون أن يأخذ شيئاً من ذهب بالاق أو فضته معه،.. وهو يذكرنا بالحقيقة القاسية إن ثوب الكفن لا جيوب له، وأن الكرامة المزعومة ستذهب أدراج الرياح، وأنه ليس ذهب بالاق أو المديانيين أو الأرض، يمكن أن يساوي خسارة نفس عرفت الحق الإلهي يوماً ما وغنت به، ولكنها لم تلبث أن لفظته وخرجت عليه: "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه!!".كان على بلعام أن يعلم أن الرجل الذي يتمنى: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم.. لا يمكن أن يتحقق له ذلك ما لم يقل أيضاً: "لتحيا نفسي حياة الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم". وإذ لم يحيي الرجل هذه الحياة، لم يحقق الأمنية التي طافت بذهنه في لحظة سمو واتضاع" وذهب الرجل ليحقق قولاً آخر: ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!!
المزيد
10 يوليو 2021

حياة بولس الرسول المبكرة :-

ولد بولس فى مدينة طرسوس فى كليكية الواقعة فى أسيا الصغري ( تركيا الان ) ، وفى فتره محتملة غير مؤكده ( ما بين السنة الخامسة والعاشرة للميلاد ) . كان اسمه عند الولادة ” شاول ” وترعرع فى كتف أسرة يهودية منتمية لسبط بنيامين (بحسب شهاده فى رسالته الى اهل رومية ) – كما انه ايضا كان مواطناً رومانياً – عمل كصانع للخيام ، وكان مهتماً بدراسة الشريعة اليهودية – حيث انتقل الى أورشليم لكى يتلمذ على يد الفريسى ( غمالائيل ) وهو احد اشهر المعلمين اليهود فى ذلك الزمان ويبدوا انه لم يلتقى فى هذه الفترة بيسوع الناصرى . التحول :- كان شاول ذا ميول متطرفه ، عمل على محاربة المسيحية الناشئة وأعتبرها فرقة يهودية ضالة تجدد الديانة اليهودية الرسمية ، وكان يراقب الشماس أستفانوس وهو يُرجم حتى الموت ، بينما كان هو يحرس ثياب الراجمين ، وهو راضى بما يقومون به . على طريق دمشق :- فى طريقه الى دمشق وبحسب رواية العهد الجديد ، قد حدثت رؤيا لشاول كانت سبباً فى تغير حياته .. حيث أعلن الله عن أبنه بحسب ما قاله بولس الرسول فى رسالته إلى أهل غلاطية – وبشكل اكثر تحديداً قال بولس ” أنه رأى الرب يسوع” وحدث ذلك وهو فى طريقه الى دمشق ، وبعدها أقتيد بولس ( شاول ) وهو بعد أعمى الى دمشق حيث أعتمد علي يد حنانيا ورد اليه بصره ، وعرف شاول بعد ذلك بأسم بولس … بعد أعتناق بولس المسيحية قضى فترة من الزمن فى الدول العربية ( ربما يكون بلدية الشام ) – ثم عاد الى دمشق ، وهناك تأمر عليه اليهود لكى يقتلوه وابلغوا عنه الحاكم ، فقام رفاقه بتسهيل هروبه من المدينة ، بأن دلوه فى سل من فوق السور وهو مكانه الأن ” كنسية ماربولس فى باب كيسان اليوم ” . عمله الرسولي ….: بعد ثلاث سنوات ، عاد بولس الى أورشليم ( 40 م) وهو راغب بلقاء رسل المسيح ، فمكث عند بطرس خمسه عشر يوماً قابل خلالها يعقوب البار . بعد ذلك بدأ رحلاته التبشيرية الشهيرة فى الغرب ولكنه قام أولاً بالتبشير فى سوريا وكليكية – وفى العشرين سنة اللاحقة قام بولس بتأسيس العديد من الكنائس فى أسيا الصغرى وثلاث كنائس على الاقل فى أوروبا .. الرحلات التبشـــيرية لبولــس الرســـول :- أولاً : الرحلة التبشـــيرية الاولـــى :- مكث بولس الرسول لفتره من الزمن فى مدينته طرسوس – ومن ثم أنضم الى برنابا وذهبا معاً الى انطاكية حيث وعظاً فيها سنة كاملة ومن هناك انحدروا الى منطقة اليهودية حاملين معهم مساعدات من كنيسة انطاكية ، وبعد ان أكملا مهمتهما غادرا أورشليم برفقتهما مرقس ، من أنطاكية بدأ بولس رحلته التبشيرية الاولى رافقه فيها برنابا ، وفى قسم منها أبن أخت برنابا ( مرقس ) – فعبروا البحر الى قبرص ، وبعد ذلك الى جنوب تركيا ( بيرجه بيسيديه ، أيقونيه ، لستره ، ودربه ) كان بولس ورفاقه يتبعون أسلوباً فى الدعوة ، فقد كانوا ينتقلون من مدينة الى أخرى ينادون باخلاص بيسوع المسيح فى مجامع اليهود وفى الأسواق والساحات العامة حيث اوجدوا جماعات مسيحية جديدة واقاموا لها رعاة وقساوسة ، أنقسم اليهود من مسامتعهم بين مؤيد ومعارض ، واما بولس فقد حول وجهه صوب الوثنيين لتلمذتهم هم ايضاً على ما يؤمن به . مجمع اورشليم :- حوالى سنة 48 م ، وقعت أزمة بين مسيحى أنطاكية حول مسألة الختان عندما وصل الى المدينة مسيحيين ذو خلفية يهودية يطالبون بضرورة تطبيق شريعة الختان على المسيحيين القادمين من الديانات الوثنية لكى ينالوا الخلاص . أما بولس وبرنابا فقد خالفا ذلك بشكل كبير ، ولما لم يتمكنا من حل المسألة – أرسلت كنيسة أنطاكية بهما مع أناس أخرون الى الرسل ومشايخ أورشليم للنظر فى الأمر – وتم عقد ( ما يعتبروه مؤرخو الكنيسة ) أول أجتماع او مجمع كنيسى وهو ” مجمع أورشليم ” . الذى وافقت فيه الكنيسة على مقترحات بولس وبرنابا وهو مؤاده ” لايلزم بالختان كل الأمميون المؤمنون بالمسيح ، – وأنما يكتفى بمنعهم عن ” نجاسات الأصنام ، والزنى ، والمختون ، والدم .” بحسب وصف سفر أعمال الرسـل . بعد هذا الأجتماع ( المجمع )– تم تحديد المهام التبشيرية فى الكنيسة حيث أصبح :- 1 – بطرس ويعقوب البار ويوحنا أبن زبدي رسولاً للختان ( أى لليهود ) . 2 – وأعتبار بولس وبرنابا رسولاً للأمم ( أى غير اليهود ) وفى هذا المجمع تحدد وجه المسيحية كديانة مستقلة وليس كفرع من فروع اليهودية … الرحله التبشيرية الثانية :- أراد برنابا أن يصطحب مرقس معهما .. لكن لم يوافق بولس على ذلك فوقع خلاف وشجار بينهما وأفترقا على إثره ، ومضى بولس فى طريقه مع سيلا وهو أحد الوعاظ المسيحيين – كان هدف بولس الرئيسى من تلك الرحله هو المرور على الجماعات المسيحية التى أقامها فى جنوب الاناضول خلال رحتله الاولى لتفقد أحوالها . فى لستره التقى تيموثاوس الذى أنضم اليه هو الأخر ، ثم تابع طريقه باتجاه الشمال حتى وصل الى (الدردينيل )- ومن هناك عبر الى اليومنان – وفى تلك البلاد أسس بولس كنائس جديدة فى فيلبى وتسالونيكى وبيريه وأثينا وكورنثوس . وخلال أقامة بولس الرسول الطويلة نوعاً ما فى كورنثوس أقام بولس بكتابة رسالتيه الأولى والثانية الى أهل تسالونيكى ( حوالى عام 52 م ) – ومن المحتمل أنه كتب فى تلك الفتره أيضا رسالته الى الغلاطيون – مع أن الباحثيين يرجحون أن تكون هذه الرسالة المكتوبة فى أنطاكيه – هى باكورة إعماله – بينما يذهب أخرون الى أنها كتبت فى فترة لاحقة فى مدينة أفسس – ثم أبحر بولس بعد ذلك إلى قيصرية فى فلسطين ، ومنها قام بزيارة لاورشليم ومن ثم عاد إلى انطاكيه . الحركة التبشيرية الثالثة : ( وهى ما بين سنة 54 – 58 ) . من غلاطية ثم إلى فريجيه ومنها إلى أفسس ( لمده عامين ونصف ) قضاها بولس الرسول فى أفسس وهى أكثر فترات حياته أثماراً حيث كتب فيها رسالتين الأولى والثانية إلى أهل كورنثوس ( حوالى عام 56 م ) بعدها ذهب إلى كورنثوس بنفسه حيث يعد أنه كتب فيها رسالته الى أهل روما – ثم عاد إلى أفسس ، وبعدها إلى اورشليم حيث اعتقل هناك وكانت تلك هى الزيارة الأخيرة للمدينة المقدسة ( بين عاملى 57 ، 58 م ) ….
المزيد
08 يوليو 2021

8- شخصيات الكتاب المقدس برزلاي الجلعادي

برزلاي الجلعادي "وهو عال الملك عند إقامته في محنايم لأنه كان رجلاً عظيماً جداً" 2صم 19: 32 مقدمة في قصيدة رائعة لواحد من شعراء الغرب، قال: إنه كان يسير ذات يوم في الصحراء، في يوم اشتدت فيه الحرارة كاللظي الملتهب، وإذا به يبصر على بعد خميلة ظليلة سعي إليها، ليجد تحتها مقعداً وكلمة مكتوبة فوق المقعد.. اجلس أيها المسافر واسترح قليلاً!!.. فجلس ولفت نظره سلة ممتلئة بالتفاح، فاقترب منها ليجد عبارة فوقها تقول: خذ تفاحة من السلة وكل!!.. فأخذ تفاحة،.. ورأى ورقة أخرى على بعد تقول: هناك غدير ماء، فاذهب إليه واشرب، فأسرع ليجد ماء حلواً سلسبيلاً، فانحنى على الغدير، وشرب الماء،.. وفي كل هذا كان يأخذه العجب، وتاق أن يعرف سر المكان،.. وإذا به يبصر على مقربة من المكان كوخاً يقف على بابه رجل عجوز،.. ذهب إليه مستفسراً وعلم منه القصة كلها، أن الرجل هو صاحب الخميلة، وصاحب التفاح، والمرشد إلى الماء، وقد أدرك الرجل أن المسافر في الصحراء يحتاج إلى خميلة يستظل بها، وربما هو جائع ويحتاج إلى تفاحة يأكلها، والسلة من التفاح فائضة عن حاجة الرجل، فلماذا لا يعطي الغريب الجائع؟!! ولماذا لا يرشده –وهو ظاميء- إلى النبع من الغدير الذي قد لا يتنبه إليه، وهو في أمس الحاجة إليه،.. رأى الشاعر كل هذا، فكتب قصيدته، متمنياً أن يفعل هو ما يفعل هذا العجوز، إذ يقف على الطريق البشري ليمد يده إلى المتعب السائر في برية الحياة، لعله يظلله في خميلة الحب والحنان، ويمد له الطعام، ويرويه بالماء، وقد استبد به الجوع والعطش، وهذا من أعظم ما يفعله الإنسان للإنسان في هذه الحياة،.. كان بزرلاي الجلعادي هو العجوز القديم الذي آوى داود في المحنة والتعب والجوع والعطش، وأضحى على مر العصور مثلاً يحتذى وقدوة صالحة، حتى جاء المعلم الأعظم يحدثنا عن السامري الصالح الذي لم يتخلف عن إسعاف المنكوب الحظ، الذي تركه اللصوص بين حي وميت في الطريق من أورشليم إلى أريحا!!.. هل لنا أن نتأمل برزلاي وقد أمسك بالفرصة، التي لم تضع منه، وقدم شيئاً مهما كانت عظمته فإنه لا يساوي ما أخذ من مجد وخلود، وقصة تتلقفها الأجيال من جيل إلى جيل على مر التاريخ!!… برزلاي الوفي كان برزلاي الجلعادي -كما يصفه الكتاب- "رجلاً عظيماً جداً" ولعل الوصف هنا يعطينا صورة عن الشيخ الجليل المهيب المحترم، الواسع الثروة، الذائع الصيت، المكرم المقام،.. ومهما تكن أوصافه، فإن أعلى ما يظهر به الرجل هو ذلك الوفاء العظيم النادر الذي اتسم به في موقفه من داود غداة الثورة التي قام بها أبشالوم ضد أبيه،.. فهو أولاً وقبل كل شيء الوفاء الصادق الخالص، الذي لا يبحث عن غرض أو يرجو مصلحة، بل يقف إلى جانب الحق والأمانة والصدق والشرف، لقد كان طرفا الثروة داود وابنه أبشالوم، الملك الشرعي والابن المتمرد، الرجل الذي يقود الأمة بإرادة الله، والابن الذي استمال الشعب بالخداع والكذب والنفاق والتملق،.. ولم يستطع الرجل أن يغمض عينيه، أو يتجاهل الموقف، أو يقف على الحياد،.. وهو الصورة المشرقة الواضحة للمؤمن الأمين الوفي، الذي يعرف أن الخط المستقيم لا يمكن أن يكون معوجاً، ولا يحتمل الالتواء أو التردد أو التراجع أو الانقلاب،.. ولقد سار برزلاي على الطريق دون أن يلوي على شيء، وهو سيبقى مع داود حياً أو ميتاً على حد سواء!!.. ولم يستخدم ما يستخدمه الناس عادة من حيطة أو حرص أو ذكاء في مثل هذه المواقف، وهو لم يقف ليراقب الريح، ويعلم أين تتجه المعركة ليأخذ المكان الذي يتصور أن إلى جانبه الفوز،.. ومع أو الوضع الظاهري كان أدنى إلى أبشالوم منه إلى داود، إذ أن الشعب كله كان من المتمرد، ولم يكن مع الهارب الذي كان يقود مجموعاً قليلاً يسيراً محدوداً من الناس،.. وكانت أملاك الرجل وأسرته وحياته جميعآً في أدق المواقف لو نجح أبشالوم في ثورته، لكن هذا كله لم يمنع الرجل من أن يؤكد أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن على الإنسان أن يقف إلى جانب الحق، حتى ولو وقف فريداً وحيداً منعزلاً دون الجميع،.. ووقف العالم كله على الجانب الآخر!!... ولعله من الواجب أن نلاحظ أن وفاء برزلاي امتحن أقسى امتحان، بمحنة داود، ولكن الوفاء الصحيح لا يغيره الملك فوق عرشه، أو ساقطاً تحت حمله وعاره وصليبه،.. وداود هنا رمز لذاك الذي ترك عرشه، وخرج خارج المحلة، فلنخرج إليه خارج المحلة حاملين عاره!!... هل رأيت الفتاة القديمة "مريم" تقف في وسط البستان، وهي تبكي، وتتحدث إلى من تظنه البستاني، وتقول في لغة الوفاء: أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه": "يا سيد إن كنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه"؟.. وهي لا تتبع السيد في مجده وجلاله وعظمته، بل وهي تظن أنه لا يزيد عن جثة في قبر!!.. وهل رأيت ذلك الصف الطويل الذي لا أول له ولا آخر، وهو يقبل عار المسيح غني أعظم من خزائن!!؟ وهو يسير معه في وادي الاتضاع قبل أن يراه في مجده الأبدي العظيم؟! إنها صورة برزلاي تعود مرة أخرى لتكرم اسم المسيح وترفعه فوق كل اسم، مهما تعرض للهوان والتمرد والثورة، من أمثال أبشالوم في كل الأجيال والعصور. برزلاي المعطي وإذا كان الوفاء الصادق العميق هو الحقيقة الداخلية التي تملأ الرجل،.. فإن العطاء على وجه الخصوص كان المظهر العظيم للحقيقة الخفية، وها نحن نقف الآن لنتأمل سمات هذا العطاء السخي الكريم الذي جاء في أدق الأوقات في حياة داود، ولعله كان أولاً: العطاء التلقائي، فلم يأت هذا العطاء لأن داود سأل، أو لأن هناك ضغطاً وقع على برزلاي، أو إكراهاً بأية صورة من الصور،.. لقد جاء العطاء نابعاً من النفس الكريمة المضيافة،.. لقد وقف برزلاي الجلعادي مع شوبي بن ناحاش وماكير بن عميئيل أمام شعب: "جوعان ومتعب وعطشان في البرية".. وكانت حالة الشعب أبلغ من كل كلام!!.. إنه أشبه بذلك الرجل اليائس الذي وقف على قارعة الطريق ينتظر إحسان الناس دون أن يتكلم!!.. وإذ سأله أحدهم لماذا لا يرفع صوته، ويتحدث عن حاجته،.. وقال الرجل إنه ليس في حاجة إلى رفع صوته، إذ أن بؤسه المرسوم على وجهه يتكلم بمالا يستطيع أن يتكلم به أفصح لسان!!... إن بعض الناس قد يعطون عطاء الأسفنجة والتي لابد من عصرها حتى يخرج ما فيها من ماء،.. فإذا لم يعصر هؤلاء، فهم لا يعطون أو يقدمون على الإطلاق،.. وآخرون مثل البقر الحلوب التي سئل صاحبها عما إذا كانت تدر اللبن الكثير، وقال الرجل إنها تعطي اللبن الوفير على شرط أن أحصرها في ركن المكان، وأكون حريصاً من نطحها ورفصها،.. ومن الناس من قد يعطي، ولكن بعد أن ينطح أو يرفص.. لكن برزلاي الجلعادي لم يكن من هذا الضعف،.. إنه يدر اللبن، ويكثر العطاء، لأن شيئاً في أعماقه يدفعه إلى ذلك، لأن روحه الكريمة السخية تجزل العطاء، لأن عطاؤه نابع من قلبه،.. وهو ثانياً: العطاء العملي، إذ قدم برزلاي وأصدقاؤه لداود ومن معه: "فرشا وطسوسا وآنية خزف وحنطة وشعيراً ودقيقاً وفيركاً وفولاً وعدساً وحمصاً مشوياً وعسلاً وزبدة وضاناً وجبن بقر"... وألغب الظن أن من يسخو في العطاء، لا يتكلم كثيراً،... سقطت الآنية من الغلام الصغير وقد تحطمت وما بها من لبن، وهو يبكي لأنه يخشى عقاب سيده إذا ذهب إليه فارغاً من غير إناء، ومر الناس بالغلام الصغير، بعواطف متعددة مختلفة، فمنهم من لامه لأنه لم يحرص على الإناء، ومنهم من هز رأسه ومضى، ومنهم من رثى له بكلمات عابرة، لكن واحداً وقف وجمع له أكثر مما ضاع منه، وكان ولا شك أفضل الجميع،.. أليس هذا ما ردده الرسول يعقوب في قوله: "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي فقال لهما أحدكم امضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد في المنفعة".. وثالثاً: كان عطاء برزلاي العطاء السخي، لقد وصف بالقول: "وهو عال الملك عند إقامته في محنايم"... أي أن العطاء لم يكن ليوم أو لأيام قليلة بل امتد إلى زمن غير قصير، ولم يتبرم الرجل أو يتراجع عن المساعدة والمعونة، بل بالحري أدرك رسالته، لقد أعطاه الله الكثير، وهو لا يمكن أن يعطي بالشح أو البخل،.. إنه ذلك النوع من الرجال الذي يؤمن بأنه ليس بئراً يخزن الماء حتى يصبح آسناً، بل أنه النهر المتدفق الذي لا يكف عن العطاء أو الإرواء،.. جاء في أساطير القدماء أن شيخاً من شيوخ القبائل حفر بئراً، وأصدر أمراً بأنه لا يجوز لأحد أن يشرب من البئر غيره وغير أسرته، وإذ به يجد أن البئر جفت ولم تعد تعطي الماء، فأتى بالعرفاء ليسألهم كيف يأتي الماء إلى البئر،.. فقالوا له: إن البئر لن تفيض حتى يشترك الناس مع الشيخ في الانتفاع بها، فأصدر أمراً بأن يشرب هو وبيته من البئر نهاراً، ويشرب الناس منها في الليل، وتعجب أن الماء جف في النهار، وغزر في الليل، فعكس الوضع إذ أصدر أمره بأن يشرب الناس في النهار وهو في الليل،.. وإذا بالماء يأتي في النهار، لينتهي في الليل،.. وتعلم من ذلك أن المشاركة الدائمة هي التي تعطي النبع فيضه الكريم.. كان مال برزلاي أصلاً مثل مال أيوب عندما قال"إن كنت منعت المساكين عن مرادهم أو أفنيت عيني الأرملة أو أكلت لقمتي وحدي فما أكل منها اليتيم بل منذ صباي كبر عندي كأب ومن بطن أمي هديتها إن كنت رأيت هالكاً لعدم اللبس أو فقيراً بلا كسوة إن لم تباركني حقواه وقد استدفأ بجزه غنمي إن كنت قد هززت يدي على اليتيم لما رأيت عوني في الباب فلتسقط عضدي من كتفي ولتكسر ذراعي من قصبتها".. وقد تعلم برزلاي من صغره أن تكون يده كريمة فياضة مبسوطة لا يقبضها عن بائس أو مسكين، وعندما جاء الملك ومن معه، سخا برزلاي إلى آخر حدود السخاء والعطاء والكرم!!... في ساحة كنيسته كتبت هذه العبارة: ما أعطيه أملكه. وما أحتفظ به أفقده!!... وكان عطاء برزلاي رابعاً: من غير مقابل، فالرجل لم يعط كما يعطي بعض التجار إذ يقدمون عطاياهم أو هداياهم على أمل التعويض المتكاثر من الصفعة أو الصفعات التي تلحق ما يقدمون أو يعطون، إنه على العكس من ذلك يعطي عطاء الآباء أو المحبين،.. والأب الذي يكد ويجتهد ويأخذ أجره أو عائده، لا شيء عنده أبهج أو أسعد من أن يعود إلى البيت محملاً بالخيرات والعطايا لزوجته وأولاده، ولا شيء يعمق الفرح في قلبه أكثر من رؤيتهم سعداً مبتهجين، بما يأخذون أو ينتظرون،.. والمحب كم يسعده أن يتمتع الحبيب بما يقدم له يجزل من هدايا وعطاء!!... وكان عطاء الرجل القديم آخر الأمر عطاء المسعد للآخرين!!... لقد جاءت عطيته في وقتها. والناس ملوكاً أو صعاليك يحتاجون بعضهم للبعض، والزمان دوار، والملك الآن في مركز الشريد الطريد الصعلوك، المحتاج إلى أقل مساندة أو مساعدة، وعندما هزمت الثورة، وعاد الملك إلى مجده.. تغير الوضع، وعرض على برزلاي أن يجزل له العطاء،.. على أن داود لم يسعد بالعطاء المادي، وهو في ذله وهوانه فحسب، بل سعد أكثر بالعطاء المعنوي الذي يرمز إليه العطاء المادي،.. لقد كانت نفس داود منحنية أشد الانحناء، وكان السؤال الذي ربما سأله لنفسه عشرات المرات!!.. هل تخلى الله عنه في الثورة؟!!.. وهل أقام ابنه ضده لكي يعاقبه دون رقة أو رحمة أو شفقة؟!! وجاءته عطايا برزلاي ومن معه، كالنسمة الحلوة الهادئة الرقيقة لنفسه المتعبة!!... لقد أدرك بأن الله لم يتخل عنه قط وقد أرسل له في هذه العطايا كأس الماء البارد الذي تحتاجه شفتاه الظامئتان الملتهبتان من الضيق والظمأ، وأدرك أن الله في الغضب يذكر الرحمة... ومن المؤكد أنه شكر الله، لا على ما قدم برزلاي من مادة، بل على ما أظهر من مودة وحنان ورقة ولطف وشركة،.. وكانت هذه جميعاً عنده أعظم وأكرم،.. وهل من شك في هذا؟ لقد استنشق المسيح طيباً أعبق وأسمى، ومريم أخت لعازر تسكب على رأسه قارورة الطيب التي ملأت رائحتها المكان،… لقد استنشق طيب الحب والحنان والولاء والتكريس، والذي لا يمكن أن يباع بذهب الدنيا كلها!!.. وغنى بولس على هذا الأساس وهو يلمس بيديه عطايا الفلبيين وهو يقول: “قد امتلأت إذ قبلت من ابفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند الله”… ودع داود برزلاي بالقبلة والبركة وهما يفترقان على ضفاف الأردن، ولست أعلم مدى الانفعالات التي كانت تملأ نفسه في ذلك الوقت، لكني أعلم أنه انفعل ذات مرة وهو يمسك بين يديه جرعة الماء التي جاءته من بئر بيت لحم، البئر التي تعود أن يشرب منها وهو صبي صغير، ورأى في تلك اللحظة، أن الماء أقدس من أن تتناوله شفتاه، فسكبه سكيباً وهو يغادر محنايم، وقد وقف برزلاي ومن معه يودعونه، رأى فيها جيشاً من الملائكة –وكانوا هذه المرة من بشر- يختلف عن ذلك الجيش الذي رآه جده يعقوب مرسلاً من الله لمعونته، ولكنه في كلا الحالين كان بسمة الله للنفس المتضايقة المكنوبة المتعبة في الحياة!!… برزلاي الشيخ العجوز والآن نأتي إلى حديث الوداع بين الشيخ العجوز وداود، لنرى فيه صورة رائعة لهذا الشيخ، وهو يتحدث بمنطق الشيخوخة التي وصل إليها،.. ولعلنا نستطيع أن نرى هذا أولاً إذا ذكرنا: الشيخ والبقية الباقية من العمر إذ يقول لداود وقد طلب إليه أن يذهب معه إلى أورشليم: "كم أيام سني حياتي حتى أصعد مع الملك إلى أورشليم"... كان هذا الشيخ يمد بصره إلى الغروب البهيج الذي تدنو شمسه منه، بلمعان ذهبي،.. وهو يذكر الأيام القليلة الباقية قبل مجيء الغسق بنفس راضية،.. وهو ليس من ذلك الصنف من الشيوخ الذي كلما اقترب من النهاية، كلما حاول تجاهل هذه الحقيقة، وظل على بحثه في تزايد المركز أو الجاه أو الثروة، لقد أدرك برزلاي أنه "غريب ونزيل في الأرض" وهو ينبغي أن يتصرف به الغريب النزيل في قصة طريفة أن أحد الدراويش طرق قصر الملك، وإذ خرج الحراس طلب منهم أن يبيت في المكان، إذ هو فندق، فقالوا له: ليس هذا فندقاً، بل هو قصر الملك، ولكنه أصر على أن المكان فندق، وبينما هم يتجادلون ويتنازعون، جاء الملك ليؤكد للرجل أن هذا قصر وليس فندقاً، ويؤكد الرجل العكس، وأخيراً قال الدرويش للملك.. من الذي سكن هذا المكان قبلك؟!! فقال الملك: أبي.. فقال الدرويش: وأين أبوك؟!! وأجاب الملك: لقد رحل من العالم!! فقال الدرويش: ومن كان قبل أبيك.. فقال: جدي!!.. وأين هو الآن؟!! وكان الجواب: لقد رحل من قبل أبي!!.. وقال الدرويش: ألم أقل لك أنه فندق.. وليس قصراً؟!!.. في قصيدة: "لست أدري" للشاعر إيليا أبو ماضي، والتي فيها صور نفسه يناجي البحر قال: كم ملوك ضربوا حولك في الليل القباب طلع الصبح عليهم لم يجد إلا الضباب... ألهم يا بحر يوماً رجعة أم لا مآب؟.. فأجاب البحر: إني لست أدري!!.. وفي عرف الشاعر أنه لا فرق بين القباب والضباب، وكان هذا ما يعنيه برزلاي الجلعادي، وهو يتحدث إلى داود عن الأيام القليلة الباقية له من العمر!!.. وكان برزلاي ثانياً: الشيخ الشبعان من الأيام، الذي لا يأسف على ما أخذت الأيام معها -كما يفعل الكثيرون من الشيوخ- لما ضاع من أجسادهم من قوى بدنية، أو عقلية، أو عدم قدرتهم على التذوق الحسي أو العاطفي، فهو وإن كان لا يستطيع التذوق إلى حد الاستطعام بما يأكل أو يشرب، أما سماع أصوات المغنين والمغنيات، فهو لا يأسف على هذا، أو يتشبث به، فلكل وقت وقته، وهو يستبدل بهذه أشياء أخرى أسمى وأعلى وأكمل، لأنه على حد قول الرسول: إن كان إنساننا الخارج يفنى فإن الداخل يتجدد يوماً فيوماً،.. وعند برزلاي من الرؤى الداخلية، والشركة الحية التي تربطه بالله، والمتع العميقة للمعنى الروحي الأعلى للحياة، ما يتفوق على أعظم الرؤى الأرضية، وأشهى الأطعمة، وأرق الموسيقى، وأرخم الأصوات بين المغنين والمغنيات،.. وأي جمال يمكن أن يداني جمال الشيخوخة التي لا تعيش متذمرة على ما فاتها من صحة أو قوة أو أرضيات، لتعيش الغروب في صحبة الله، حتى تأتي اللحظة الرائعة المجيدة، لحظة الانطلاق!!.. عندما كتب أفلاطون جمهوريته، ذكرنا بالشيخ العجوز ثأوفيلس، الذي أقام فلسفته على أن ما أضاعه من قوى الشباب لم يكن ضربة أصابته، بل بالحري كان تحريراً لنفسه لما هو أعلى وأسمى،.. فإذا صح أن الخيال الوثني يمكن أن يبلغ هذا المبلغ، فكم بالأحرى الشيخ العجوز الجليل الذي يعيش حياته مع الله، ولو طعنت به الأيام وامتد به العمر على الأرض!!.. وكان برزلاي ثالثاً: الشيخ الرافض الرقيق الاعتذار في رفضه،.. وهو يقدر ولا شك عرض داود، وهو يذكر المعاني الرقيقة العميقة الممتليء بها، إلا أنه يرفض برقة وولاء وأدب، ويعطي نموذجاً للأدب الرقيق الرافض، وهو يريد أن يذكر داود بجلال الرفض الذي ينبغي أن يتمسك به الشيخ، وهو يرفض المسرات والملذات والمباهج والمراكز والثروات المتزايدة وما أشبه، لا لأنها في حد ذاتها شر أو خطأ، ولكن لأن التربة القديمة لم تعد تصلح لزرع جديد،.. إن برزلاي سيبقى إلى جوار أرضه القديمة، يرعاها على قدر ما يتمكن من جهد أو تعب، دون أن يرهق نفسه بتوسعات انتهى أمرها، ولم تعد تصلح إلا أن تكون عبئاً عليه أو على الآخرين: "فلماذا يكون عبدك أيضاً ثقلاً على سيدي الملك".. ولقد كان الرجل موفقاً ودقيقاً إزاء إلحاح الملك إلى أن يبين أن ما يصلح مع كمهام ابنه الشاب لا يمكن أن يصلح معه وهو شيخ.. وما أعظمه من شيخ ذلك الذي يحسن التفرقة الذهنية والعلمية بين الشيوخ والشباب،.. ولعله أكبر خطأ يمكن أن يتردى فيه إنسان أن لا يجيد التفرقة بين الأجيال والأعمار المختلفة في حياة الناس، وما أكثر ما يفشل الشيوخ الذين لا يدركون هذه الحقيقة، ويستولى عليهم الحزن واليأس وانكسار القلب، لأنهم يطلبون لأنفسهم مطلب الشباب دون جدوى، أو لأن الشباب من أبنائهم وذويهم، على العكس، لا يعيشون كما يتخيلون هم أو يتصورون كشيوخ!!.. وهم أعجز من أن يعبروا البرزخ الذي يفصل بينهم وبين الشباب،.. وعلى أي حال إن برزلاي يعطي أبدع نموذج وأروع مثال للقدرة في التوفيق بين التحية الرقيقة والرفض المهذب،.. وهو يذكرنا بهذا بالأعظم الذي قيل عنه: "أعطوه خلا ممزوجاً بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرد أن يشرب"... لقد كان الخل الممزوج بمرارة، نوعاً من المخدر تقدمه جميعة من بنات أورشليم لكل محكوم عليه بالموت، وقيل إن الأصل التاريخي لذلك ما ورد في سفر الأمثال: "أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمري النفس يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد" أو هو يشبه ما يقدم في العصور الحديثة للمحكوم عليه بالإعدام مما يطلبه قبل أن يموت،.. وقد رأى المسيح في هذا رقة يجمل أن يقدرها بالتذوق، للمعنى الإنسان الرقيق العميق، الذي يرغب في تخفيف آلام المحكوم عليهم بالإعدام،.. وفي الوقت عينه يرفض أن يتناول ما يخدر به آلام الصليب، التي لابد أن يحتملها بكاملها دون أدنى تخفيف أو تخدير!!.. وهو مثل يعملنا الأدب عندما نقصد أو نرفض ونقول كلمة: لا.. وعندما نقدر الدافع الذي يدفع من يقدم شيئاً لنا، يمكن أن يكون خاطئاً أو غير مقبول!!... وكان برزلاي رابعاً: الإنسان الذي يحسن الرجوع إلى الماضي بذكرياته الحلوة الجميلة: "دع عبدك يرجع فأموت في مدينتي عند قبر أبي وأمي".. لقد عاد الرجل بذكرياته إلى الأيام الهانئة الطويلة التي قضاها، وهو يعبر قصته الأرضية، عاد إلى أبيه وأمه اللذين فارقهما منذ زمن بعيد،.. وهو يذكر قبرهما الذي سيضمه بعد زمن لن يكون على الأغلب طويلاً،.. عاد الرجل إلى دفء الذكريات، وما أحلاها من ذكريات، ونحن نسير في ثقل الحياة، ومتاعبها وآلامها ومعاركها،.. قال واحد من عظماء الناس: من يعود بي مرة أخرى إلى أحضان أمي؟! ولعله كان يذكر أحلى الأيام الخالية من الهموم والقلق والمتاعب والأحمال، عندما كان صبياً صغيراً، تضمه أحضان أمه بكل ما فيها من حنان وحب وبساطة وهدوء، كأجمل مكان يستعذبه الإنسان في الأرض!!.. ولكن إن عز علينا أن نجد المكان، فإنه لا يعز علينا أن نعود بالذكريات الحلوة الجميلة المبهجة للأيام القديمة!!.. إن الشيخ يستطيع أن يغالب قسوة الحاضر، بالعودة بالخيال الحلو الجميل للماضي البهيج،.. وهذا الخيال لا يمكن أن يعوقه معوق، حتى ولو دخل المرء إلى الزنزانة القاسية،.. وقد استطاع بولس في سجنه أن يعود إلى دموع تيموثاوس يوم الوداع، وأن يذكر الصحاب الأوفياء، الذين أحبوه، ووجد فيهم من قدم عنقه من أجله،.. وكانت هذه الذكريات هي أحلى ما ذكره الرجل، وهو على قيد خطوات قصيرة من الرحلة القاسية الأرضية!!.. على أن برزلاي لم يتجه بفكره إلى الماضي البعيد القديم،.. لقد حول عينيه أيضاً إلى المستقبل الأكثر لمعاناً من كل قصور داود وأبهائه ومجده،.. إنه يتطلع إلى بيته الأبدي، إلى المدينة التي لها الأساسات، وهو لا يمكن أن يتحدث عن المستقبل كمجرد عظام ينضم فيها في قبر إلى عظام أبيه وأمه في أرض جلعاد... إن هناك شيئاً أغلى وأسمى عند الرجل القديم،.. إنه الطائر الذي يحلق، وقد اقترب المساء، فهو يسرع إلى عشه، حيث هناك الراحة، والأمن والهدوء والاستقرار، إن لبرزلاي قصراً أمجد من كل قصر أرضي في جلعاد أو في أورشليم الأرضية، ولعله يقول ما قاله آخر وهو شيخ كان يودع العالم: "إني أدنو من الخطى الأخيرة، في غربتي على الأرض، وها هي شمسي تسرع إلى المغيب، وتغطي الفضاء بمجد لامع،.. وها بيت أبي يشع بنوره أمام عيني، وبابه المفتوح يدعوني إلى الدخول إلى الوطن بنفسي راغبة، وكل كنوزي الغالية، وكل أشواقي العميقة قد شحنت قبلي، وها أنا على الجناح الطائر لألحقها هناك".. فإذا كان هناك من شيء أخير يهتم به برزلاي، فهو أن تمتد قصته بكل ما فيها من نبل وجمال وأمانة ومكافأة إلى ابنه كمهام!!... فإذا راق لداود أن يفعل شيئاً له، فهل يقبله ممتناً شاكراً إذ يفعله مع ابنه كمهام، وغريزة الشيخ تنفعل هنا، مع أجمل وأرق وأعمق العواطف البشرية، إنك تحسن إليَّ بما تقدمه لابني، وتسعدني بما يسعد به أولادي من بعد!!.. وتدفع نفسي لترضى حياً أو ميتاً بما يمكن أن تصنعه مع من يخلفوني على هذه الأرض!!... وهكذا يدرك الرجل أن الله لا يرجيء المكافأة كلها لما بعد الوفاة، بل إن الخير لابد أن يكافأ هنا في هذه الأرض... قبل أن نحصل على المكافأة الكاملة في السماء: "فأجاب بطرس حينئذ وقال لها ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا فقال لهم يسوع الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثنى عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر وكل من ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية"..!!
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل