المقالات

20 مايو 2021

شخصيات الكتاب المقدس إيزابل

وكأنه كان أمرًا زهيدًا سلوكه في خطايا يربعام بن نباط حتى اتخذ إيزابل ابنة اثبعل ملك الصيدونيين امرأة. مقدمة لست أظن أن أفلاطون كان يعلم شيئًا عن إيزابل، أو قرأ قصتها، ولو أنه جاء بعدها على الأغلب بما يقرب من خمسة قرون، لكن أفلاطون أعطانا في أحد كتبه العظيمة، صورة مثيرة خيالية تكاد تكون تشبه إيزابل الملك القديمة تمام المشابهة... إذ طلب إلينا أن نتصور وحشًا ضاريًا يجمع في جسد واحد جميع رؤوس الحيوانات المفترسة مجتمعة معاً ومضاف إليها رأس إنسان، والوحوش لا تعيش جميعًا داخل هذا الجسد الواحد فحسب، لكنها أكثر من ذلك تنمو على نحو أكثر ضراوة وتوحشًا ورعبًا... وهل كانت إيزابل إلا هذا الوحش، وقد أطل من عيني امرأة، فأضحت رمزًا عتيدًا رهيبًا لكل أنثى تفعل الشر على نحو معربد وحشي، يسير في قلب العصور والأجيال، ويدمر الأفراد والبيوت والجماعات والعشائر، والكنائس حتى نسمع القول الإلهي لملاك كنيسة ثياتيرا: «أنك تسيب المرأة إيزابل التي تقول إنها نبية حتى تعلم وتغوي عبيدي أن يزنوا ويأكلوا ما ذبح للأوثان، وأعطيتها زمانًا لكي تتوب عن زناها ولم تتب، ها أنا ألقيها في فراش والذين يزنون معها في ضيقة عظيمة إن كانوا لا يتوبون عن أعمالهم وأولادها أقتلهم بالسيف»... أجل وما إيزابل في الواقع إلا الشر مجسمًا، أو المرأة التي تلقت تدريباً خاصًا على يدي الشيطان، واذا كان كل شرير في العادة لا يقدم على الشر، إلا بإغراء وتحريض شيطاني، إلا أن هناك أفراداً وجماعات، وفرقًا يتجاوزون عادة هذا الحد إلى خط أكثر عمقًا ورهبة وهولا، فيفعلون ما لا يمكن أن يفعله إلا من عرف أعماق الشيطان، أو من دخله الشيطان بتعبير آخر كما قيل عن يهوذا الاسخريوطي «وبعد اللقمة دخله الشيطان» والآن هل لنا أن نتتبع كيف دخل الشيطان هذه المرأة، وتغلغل فيها، ففعلت من الشر ما تطن له الأذن - وفي الوقت عينه، نرى يد الله وعقابه وعدالته التي تؤكد أنه فوق العالي وأن الشرير لا يمكن أن يستفيد من الشر بتة، بل أن الشر هو الحية القديمة التي قد تنفث سمها هنا وهناك، ولكنها تتحول آخر الأمر على صاحبها فتلدغه اللدغة القاسية القاتلة المفزعة المميتة، على نحو الدمار والخراب الذي جاء مروعًا ورهيبًا إلى إيزابل وبنيها والذي ذهب في كل تاريخ مذهب الأمثال. المرأة وشخصيتها الشريرة هل يولد الشر ويستقر في حياة الإنسان بين يوم وليلة، أم أن بذرته كأية بذرة أخرى، تبدأ عندما تزرع في مطلع الأمر، عودًا رطبًا يمكن أن يقلع، أو ينمو على حسب ما ينال من صاحبه أو من الآخرين أو المجتمع من مقاومة أو تأييد، ولا أعتقد أن بي تلك الجرأة التي جعلت الكسندر هوايت، يقارن من هذا القبيل بين أشر امرأة في الوجود وأقدسها، بين إيزابل والعذراء المباركة: ويقول إن إيزابل كان شأنها شأن أي فتاة تدخل العالم، بدأت من نفس النقطة، التي بدأت منها العذراء أيضًا، مع هذا الفارق الضخم الرهيب أن كلتيهما وقفت على رأس الطريق الممتد الطويل، فذهبت العذراء في طريق القداسة والحق لتكون الأم العظيمة المطوبة للمسيح سيدنا مخلص العالم، وذهبت الأخرى في شوطها التعس المرهب لتقطعه إلى النهاية، وتكون رمزًا للشر في كل زمان ومكان، ولا شبهة في أن إيزابل كانت امرأة جميلة، فائقة الجمال تدرك ما في الجمال من قوة، وماله من سلطان، ولا شبهة أيضًا في أنها أحسنت استخدامه على ذلك النحو من الصغيان الذي جرف معه كل مقاومة، ربما حاول أخاب أن يبديها، في بعض اللحظات عندما هم ضميره أن يشتكي أو يحتج أو يثور، على ما تفعل من منكر أو تظهر من شر أو استبداد، ولاشك أن مفتاح المرأة يكمن أيضًا في عقيدتها الدينية فهي ابنة اثبعل ملك الصيدونيين، والكلمة «اثبعل» تعني «مع بعل» أو ذاك الذي يسير مع البعل، ينال رعايته ويتمتع بحمايته، ولم يكن الرجل ملكًا على أمته فحسب، بل كان كما يذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي كاهنًا للبعل وخادمًا له، وقد كان الملك في الأصل لأخيه، إلا أنه تمكن من اغتياله وأصبح ملكًا وكاهنًا معا واستمر يحكم بلاده اثنين وثلاثين عاماً متواصلة، وكان البعل أبا الألهة عند الفينيقيين ومصدر القوة والبهجة والسيطرة وكنت السواري أو عشتاروت آلهة الخصب والشباب والجمال ولم تكن العبادة في الواقع للاثنين إلا مزاجًا من الفساد والخرافة والقسوة والشهوة والدنس مجتمعة معاً، ولا حاجة إلى القول إن الكاهن وابنته، لابد أن الحياة التي يمكن أن يعيشاها ويسلكاها بين الناس،... قال الأب في ثورة غاضبة لولده الصغير: لا أعلم لماذا أنت ولد رديء،... أنا أذكر إني عندما كنت في سنك لم أكن أرتكب من الحماقات والشر مثل ما تفعل أنت نظيره اليوم!!... وأجابه الولد في هدوء وعمق وأناة ورصانة: ربما يا أبي لأنه كان لك أب أفضل وأجمل! ومهما كان في التعبير من سخرية وقسوة لاذعة، إلا أنه يصور إلى أبعد الحدود ماذا يمكن أن يفعل الآباء في أبنائهم في كل جيل وعصر، وإذا كانت القديسة تريزا قد ذكرت أنها تشكر الله أوفر الشكر، لأن واحداً من أبويها لم يصنع في حياتها إلا ما هو مجيد وعظيم ومقدس، فإنه على العكس تماماً، لا يمكن أن ننسى عندما نتأمل شخصية إيزابل أثبعل وأمها وأهلها وبيتها ومدى ما حملت معها من هذا البيت وهي تشق طريقها إلى أرض إسرائيل تحكم مع زوجها قرابة اثنين وعشرين عاماً ثم تسيطر بعد ذلك في نسلها سنوات أخرى قاسية رهيبة، ولعل هذا يفسر كيف ظهرت هذه المرأة على ما عرفت عليه من قسوة أو شر أو عنف!... بل يفسر كيف لعب الدور الوراثي والديني معًا، أبعد الآثار في طبعها الدموي الفتاك، فلا تستريح إلى منظر القتل أو السفك أو الدم فحسب، بل تسر به وتبتهج وترقص على طلب من مزيد! أليس هذا عينه ما قاله السيد: «تأتي ساعة فيها يظن من يقتلكم إنه يقدم خدمة الله...» أجل وبالحقيقة لا نعلم قط، قسوة أو طغيانًا يمكن أن يصل إليه الإنسان، كمثل هذا الذي يمعن خلف تفسير ديني أو فهم عقائدي، ومن العجيب أن المرأة رغم ما جبلت عليه من هذه القسوة أو البطش إلا أنها كانت واسعة الحيلة شديدة الدهاء، تستطيع أن تجد لكل عقدة حلا حتى هذه التي يقف أمامها نابوت اليزرعيلي وآخاب، دون الاهتداء إلى حل، فنابوت كان لا يملك أصلا أن يتصرف في كرمه إذ هو محرم عليه دينيا أن يفعل هذا بحسب الشريعة والدين، وآخاب لا يعرف كيف السبيل إلى حل مثل هذه العقدة مع شهوته العارمة إلى هذا الكرم، إلى الدرجة التي يدخل فيها إلى بيته، ويضطجع على سريره، ويحول وجهه إلى الحائط، ويمتنع عن الطعام والشراب، على أن المرأة الشريرة، وهي ترى زوجها على هذا الوضع، تأتي إليه وتسخر منه وتتعجب، كيف يعجز الملك، أمام عقدة سهلة ميسورة كهذه، فإذا كانت العقدة دينية، فالحل يمكن أن يكون أيضًا بكل بساطة أو يسر حلا دينيًا يستطيع معه الملك أن يأخذ الكرم كما يشتهي دون مبادلة أو حتى بغير ثمن على الإطلاق، ويتم هذا عن طريق حل واحد لا غير، باتهام نابوت بالتجديف على الله والملك، وليس أيسر من اثبات هذه التهمة، بإشاعة الجو المناسب لها، بالصوم والصلاة والحزن كأعظم جريمة يتصور وقوعها في ذلك الحين، فإذا وجد الشاهدان اللذان يمكن أن يعد للشهادة بذلك، فالعقوبة لا تلحق بنابوت وحده، بل لابد لفظاعتها ورهبتها أن تجرف بأسرته معاً، فيرجم الكل ويصبح الكرم بلا وارث، ويرثه الملك عندئذاك بحكم تقليد كان موضوعًا هناك، وتم الكل كما رسمت المرأة ونقذت، ولا بأس عندها أن يأتي الظلم سافرا في بعض الأحايين فإذا لم يكن بد من غطاء، فان الدهاء يمكن أن يجهز هذ الغطاء، خفيفًا أو كثيفًا على حد سواء، هذه هي المرآة التي يظهر من لغة الكتاب كم كانت على أوفر الحظوظ من الجمال والدهاء والتعصب والقسوة بل كم كانت على قدرة غير عادية في التخطيط لنشره ورسمه وتدبيره وتنفيذه معًا. المرأة وتأثيرها الرهيب قال أحد الكتاب وهو يصف هذه المرأة: «إن ظلها الأسود وقع لسنوات متعددة على شعب إسرائيل ويهوذا، إذ هي من ذلك الصنف من النساء اللواتي لا يتورعن عن عمل كل شيء وبكل عنف وبكل أسلوب، ومتى أتيحت لهن قدرة التخريب والتدمير فإنهن على أتم الاستعداد لفعل ذلك على أبشع الصور وأرهبها»، ولعله من الملاحظ أن آخاب زوجها كان من أول ضحاياها وأشدهم خضوعًا وخنوعًا وسقوطاً تحت تأثيرها المدمر وسلطانها الرهيب! وقد وضع أحدهم هذا السؤال قائلاً يا ترى أيهما أبعد أثرًا في حياة الأزواج والرجال الزوجة الفاضلة التي تجتهد على الدوام في دفع زوجها في طريق الحياة والحق والخير والجمال، أم الأخرى الشريرة التي تحركه تجاه الموت والباطل والشر والدمار، ومن المؤسف أنه أجاب أنه يخشى أن تكون هذه الأخيرة أقوى فعلاً وأبعد تأثيرًا!!.. ومع أن آخاب ورث الكثير من عمري أبيه، إلا أننا لا ينبغي أن ننسى، أنه كان يحمل في كثير من الأحايين القوة والقدرة والشجاعة والوطنية، ولو أنه وجد زوجة تغذي فيه وتقوى أفضل السجايا والمثل والمباديء، لتغير تاريخه على الاطلاق، ولما دخل السوق الرهيبة التي سمع فيها قول الله «بعت نفسك لعمل الشر في عيني الرب». ومن الموكد أن مكبث في قصة شكسبير المعروفة ذلك الرجل الذي بدأ حياته قائدًا انجليزيًا ممتازاً ومحبًا ومحبوبًا من الجميع، ما كان من الممكن أن يتردي في جريمته البشعة في قتل ملكه الكريم الطيب لولا تحريض زوجته بأطماعها الآثمة القاسية الشريرة!! كما أني وإن كنت لا أملك أن أجزم بصحة ذلك التقليد القديم الذي جاءنا عن يوسيفوس: أن إيزابل عندما جاءت تحمل إلى زوجها بشرى الخلاص من نابوت اليبزرعيلي وبيته، اهتز الرجل وفزع في مطلع الأمر، بل ومزق أيضًا ثيابه في هلع ورعب، لكني لا أستبعد أن تكون هذه بعض رعشات الضمير المترنح، والذي كان ينتظر قليلاً من ضربات أخرى حتى يمكن أن يقضي على ما بقي فيه من يقظة أو حركة.كما أن إيزابل تعد من أقدم النساء في التاريخ ممن كتبن على رأس قائمة المضطهدات اللواتي قتلن وذبحن وأرقن الدماء أنهارًا في كل مكان... وما أقسى ما فعلت من هذا القبيل في طول البلاد وعرضها. وقد وقف إيليا في فاجعة النفس يروي أمام الله ما تركت أو ما جعلت عبيدها يتركونه عندما قال: «لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف وهم يطلبون نفسي ليأخذوها» ومع أن الكثير من لغة التشاؤم قد سرت إلى حقيقة ما قال: إذ لم يكن هو وحده، بل كان هناك سبعة آلاف ركبة لم تجث للبعل، وكان من بينهم عوبديا ومن معه من الأنبياء الذين خبأهم وعالهم طوال فترة اضطهاد إيزابل الشنيع، إلا أن هذا العدد بعينه وما بلغت الأمة في خراب ودمار وركام وأنقاض تشهد جميعها بما فعلت هذه المرأة الباغية في حياة الناس!. المرأة والمقاومة الإلهية يتعرض المؤمنون على الدوام في عصور الآلام والاضطهاد إلى السؤال الذي يلح على أذهانهم ومشاعرهم وحياتهم، ويضغط عليهم ضغطًا قاسيًا شديدًا: ولكن أين الله من كل هذه الأحداث والمآسي والاضطهادات، وهل يمكن أن يترك الله الشر دون تحذير أو تنبيه أو مقاومة، وليس هذا من باب العدالة فحسب بل لعله من باب الرحمة أيضًا. وقد أسمع الله إيزابل والشعب أكثر من صوت من هذا القبيل، ولعل أول هذه الأصوات وأصرحها وأهمها كان صوت إيليا النبي الذي ظهر فجأة في طول البلاد وعرضها كالنور البارع في الليلة المظلمة، ومع أننا لا نعرف كم كان عمره عندما ظهر، وفي أي بيئة نشأ، وكيف قضى حياته الأولى، إلا أننا نعلم أنه كان الرجل الذي جبله الله على القوة والعنف والصلابة والخشونة، وأعده للحظة الحاسمة ليقف في وجه الوثنية والشر والطغيان والفساد، وكان حريًا بالمرأة أن تعلم، بأن مملكة الله لا يمكن أن تنقرض، وسيجد الله شهوده وسيبقى الركب التي لا تجثو لبعل، ويخرج في اللحظة الدقيقة قائده الشجاع وبطله المنتصر وفي كل عصور التاريخ هيهات أن يهمل الله أو يترك نفسه بلا شاهد، بل سيقف ولو مع واحد فقط ليصنع فيه ومعه المعجزات والأعاجيب، ألم يفعل هذا مع تليماخوس الراهب القديم الذي قدم نفسه للوحوش في روما، فأبطل هذه اللعب البربرية الوحشية التي درج عليها الرومان... ألم يفعل هذا الأمر نفسه مع لوثر عندما وقف في مجمع ورمس وصاح: هنا أقف ولا أتزحزح وليعني الله!... وألم يشجع في هذا السبيل ابراهام لنكولن الذي آثر أن يفشل عدة مرات، على نجاح باطل مزعوم عندما قال: لا لست ملتزمًا على الإطلاق أن أفوز، بقدر التزامي أن أكون على حق، ولست ملتزمًا أن أنجح، غير أني ملتزم أن أقف إلى جانب النور الذي يصل إلى ويوقفني إلى جانب الإنسان الذي يمسك بالحق، وسأبقى إلى جواره طالما هو على حق. وسأربحه على الفور إذا آثر في وقت ما أن يخضع للباطل» وقد جاءت المقاومة لإيزابل أيضًا من وجه آخر، من منع المطر ثلاث سنوات متواليات حتى تعلم إفلاس آلهتها، إذا كان البعل وعشتاروت عندها وعند أبيها وشعبها سر الغيث والخصب والدسم والحياة، فإذا لم تتحقق هذه، بل جاء على النقيض منها الجوع والحاجة والتعب والضيق، فإن لها أو لغيرها من الشعب أن يتجه إلى الله الحي الحقيقي الذي جهلوه وتركوه، كما أن اللقاء الحاسم على جبل الكرمل، بين نبي الله وأنبيائها، كان يمكن أن يعطيها الدرس الأخير لو آن لها أو للناس أن تنفتح عيونهم أو يتأملوا أو يتنبهوا ولكنهم للأسف هيهات هيهات!!.. المرأة والنهاية المدمرة وبعد هذا كله كان لابد أن تأتي النهاية، التي لم تستطع أن تراها، أو يراها الشعب، في وسط المظاهر المتعددة من غرور أو ضجيج ولكن الله رآها، وحدد أين ومتى وكيف ستكون؟ ومع أن الله أعلنها من البداءة على لسان إيليا، وبدأت بهلاك آخاب الذي لحست الكلاب دمه، وتلاها قتل السبعين من أولاده، بيد أقرب الناس إليهم، وارسال رؤوسهم في سلال متعددة إلى ياهو المتمرد على سيده ومولاه، إلا أنها إلى هذا الحد لم تستطع أن تتعلم أو تتعظ أو ترعوى، بل بالحري تمادت ووصلت في شرها إلى القرار وهي تركض سراعًا إلى الهاوية الأبدية، إذا كحلت بالأثمد عينيها وزينت رأسها، وتطلعت من الكوة، لعلها تستطيع أن تقترب بياهو إلى الغواية والإثم دون أن تعلم أنه أداة الله القاسية الرهيبة والتي ستضع الحد النهائي لما اقترفته من آثام وشرور ومفاسد... ومن العجيب أن الكلاب لم تبق من جسدها الجميل الفاتن «الا الجمجمة والرجلين وكفي اليدين» وذلك لا لكي يثبت صدق الله فحسب، بل لتتحول هذه البقايا معالم خالدة على الطريق لكل العابرين كل من يريد أن يرى ويتعلم كيف ينتهي الشرير وشره «وتكون جثة إيزابل على وجه الحقل في قسم يزرعيل حتى لا يقولوا هذه إيزابل»....
المزيد
13 مايو 2021

شخصيات الكتاب المقدس أمصيا

" فأرسل أمصيا كاهن بيت إيل إلى يربعام ملك إسرائيل قائلاً: قد فتن عليك عاموس فى وسط بيت إسرائيل " (عا 7: 10) مقدمة تعد قصة أمصيا من أقدم القصص الكتابية التى تتحدث عما يطلق عليه " سلطان " الخادم أو " حقه " فى ممارسة الخدمة، وقد جاءت صورة أمصيا، من سوء حظه، جنباً إلى جنب مع صورة عاموس... وحسب الظاهر كان أمصيا الكاهن المعترف به رسمياً من الدولة، فقد صدر به مرسوم من الملك يربعام الثانى ملك إسرائيل، فهو الكاهن " الشرعى " حسب قوانين البلاد!!.ولم يكن عاموس سوى رجل يلبس ثياب الرعاة الخشنة، ويحيا أبسط حياة، بلا ثياب رسمية أو مظاهر فخمة يمكن أن تعطيه الحق فى الخدمة الدينية،... بل لعله أكثر من ذلك أخطأ - بحسب مفهوم أمصيا - إذ وهو من المملكة الجنوبية اقتحم الخدمة فى المملكة الشمالية، وهذا لم يكن جائزا قانونياً!!.. والسؤال الذى تطرحه قضية أمصيا هو سؤال " الشرعية " فى الخدمة، ومن هو صاحب الحق فيها، أهو أمصيا الكاهن الرسمى بأمر الدولة ونفوذها وسلطانها، أم هو المقتحم الدخيل الآتى إليها من أرض يهوذا من الجنوب؟ من اللازم أن ندرس لهذا كله قصة أمصيا، إذ أنها القصة التى تكررت وماتزال تتكرر فى كل مراحل التاريخ حول " الشرعية " فى المفهوم البشرى، و"الشرعية" فى مفهوم اللّه والحق الكتابى!!.. ومن ثم يحسن أن نرى القصة من الجوانب التالية: أمصيا الكاهن بمرسوم ملكى تطرح قصة أمصيا - كما أشرنا آنفا - قصة الشرعية فى الخدمة، من حيث الخادم والخدمة ذاتها، ومع أننا لا نعلم بالضبط متى عين أمصيا كاهناً فى بيت إيل، إلا أنه من المرجح أن خدمته فى بيت إيل فى أيام يربعام الثانى حفيد ياهو بن نمشى كانت فى حوالى عام 722 ق. م عندما سقطت السامرة، وأخذ أمصيا مع المسبيين إلى السبى ليحرث هناك!!.. على أى حال لقد كان أمصيا آخر السلسلة العجيبة من الكهنة الذين بدأ يربعام الأول عام 932 ق.م فى تعيينهم، ليكونوا كهنة مرتفعات، وقد استمر هذا النظام حتى سقوط السامرة، أى أن هذا النظام استمر قرابة مائتين وعشرة أعوام، هى عمر المملكة الشمالية، فهل تكتسب الشرعية فى الخدمة الدينية، بمجرد مرور السنين أو القرون على ذلك؟. وهل يحسب الكاهن كاهناً، لمجرد أنه ينتمى إلى تقليد قديم ربما نسى الناس أصله وفصله؟؟،.. من الواضح من قصة أمصيا أنه كان ختاماً لمجموعة من الكهنة استمرت أكثر من قرنين من الزمان، ولا يمكنه أن يكتسب الشرعية لمرور هذا الزمن الطويل حتى ولو تلاحقت عليه آلاف السنين، إذ أن اللّه لم يعترف قط بهؤلاء الكهنة، ولم يقبلهم أو يرض عنهم، لأن الشرعية دعوة إلهية، لا تكتسب بالتقادم على وجه الإطلاق!!.. إن من أكبر الخطايا التى سقطت فيها الكنيسة فى أوقات الظلام والفساد، هو هذا الإدعاء، بأن الخادم هو خادم شرعتى لمجرد أنه تسلم الخدمة، ممن هو أقدم، وأن هذا السلطان متوارث بصرف النظر عن المسلم أو المتسلم، وسيتاح لنا عندما ندرس قصة عاموس فى شخصيتته الخاصة به، أن نتحدث عن هذا باسهاب، لندرك أن عاموس الذى لم يكن يستند إلى شرعية الوراثة المزعومة، كان هو الخادم الصحيح، وأن أمصيا (ولو أن وراءه أكثر من مائتى عام من الشرعية المعترف بها من الدولة) لم يكن إلا كاهناً كاذباً هو والذين قبله من أولهم إلى أخرهم!! كما أن الشرعية المزعومة يثبت فسادها من وجه آخر، من الأسلوب الذى كانت تلجأ إليه وتستخدمه فى الوصول إلى كرسى الكهنوت، فهى تستخدم كل الوسائل أو الوسائط البشرية، ولا تعف عن استخدام الأساليب الدنيوية لما للكرسى من امتيازات أرضية ومادية كبيرة، ومن هنا نشأ ما يعرف بالسيمونية " على مذهب سيمون الساحر: " ولما رأى سيمون أنه بوضع أيدى الرسل يعطى الروح القدس قدم لهما دراهم قائلاً: "أعطيانى أنا أيضاً هذا السلطان حتى أى من وضعت عليه يدى يقبل الروح القدس، فقال له بطرس لتكن فضتك معك للهلاك لأنك ظننت أن تقتنى موهبة اللّه بدارهم. ليس لك نصيب ولا قرعة فى هذا الأمر لأن قلبك ليس مستقيماً أمام اللّه، فتب عن شرك وأطلب إلى اللّه عسى أن يغفر لك فكر قلبك " " أع 8: 18 - 22 " وما أكثر ما لعبت الدراهم دورها الرهيب فى هذا الشأن، وقد تحول بيت اللّه إلى مغارة لصوص ويزداد الأمر سوءاً عندما تختلط السياسة بالدين، فلا تكتفى السياسة بادخال المال إلى الساحة من أوسع الأبواب، بل تدخل الأوضاع الأخرى التى هى أشد رهبة ونكراً، ويحرص الساسة على أن يجعلوا على كرسى موسى الصدوقيين، وليس الفريسيين، وكان الصدوقيون ممن لا يؤمنون بالقيامة واليوم الأخير، وهم لذلك أصلح الناس عند الرومان للقيادة الدينية، وكان منهم حنان وقيافا والعدد الكبير من أعضاء السنهدريم، وهم الواجهة التى تفسد الدين باسم الدين، وليس هناك من هو أقدر على تضليل الجماهير مثل رجل الدين الذى يخدم السياسة باسم الدين، وهو العدو الأول للحق الإلهى، ولو ظهر مندثراً فى ثياب كهنوتية، ويجلس على الكرسى الذى قال عنه السيد المسيح: " على كرسى موسى جلس الكتبة والفريسيون: فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعلموا لأنهم يقولون ولا يفعلون ". " مت 23: 2 و3 "وكانت الشرعية المزعومة كاذبة من حيث الخدمة نفسها، لقد تعاقب على المملكة الشمالية تسعة عشر ملكاً كانوا كلهم أشراراً، وقد بدأ يربعام بن نباط هذا الشر بتحويل المجرى الدينى للخدمة، إلى الوثنية البشعة، لقد خشى أن تحن الأسباط إلى الوحدة مع يهوذا عندما يصعدون كل عام لتقديم الذبائح فى أورشليم فعمل عجلى ذهب، أحدهما فى بيت إيل، والآخر فى دان، ليبعد بالإسرائيليين عن أورشليم وذكراها، وكان يقصد بالعجلين أن يتصور اللّه فيهما، لأن العجول فى البلاد الزراعية ترمز إلى الخير والبركة، وكان الذهب يلمع فى عينيه كلما دخل إلى البيت أو خرج منه، ومن المؤلم حقاً أن ذلك المكان الذى رأى فيه يعقوب سلم السماء، تحول إلى هذه الصورة البشعة من الوثنية ومهما قيل عن الشريعة، فإنها برهانها الأعظم هو فى حياة الخادم وأسلوب خدمته!!.. لقد ابتلعت عصا موسى عصى العرافين، وكانت برهاناً على الفرق البين بين الحق والكذب، وقال بولس للكورنثيين: " إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فى الذى ليس ضعيفاً لكم بل قوى فيكم " " 2 كو 13: 3 ".كانت الخدمة عند أمصيا نوعاً من أكل العيش " وقد أفصح عن ذلك عندما تحدث إلى عاموس قائلاً: " وكل هناك خبزاً، وهناك تنبأ ". " عا 7: 12 " وما أكثر الذين يحيون ليأكلوا خبزاً، ويشربوا خمراً، ويأخذوا مركزاً، فالخدمة عندهم لا تزيد عن المغنم الذى إليه يسعون ويتجهون.إن امتحان الشرعية يظهر فى وضعه الصحيح من اليد النظيفة: " من يصعد إلى جبل الرب، ومن يقوم فى موضع قدسه؟ الطاهر اليدين والنقى القلب الذى لم يحمل نفسه إلى الباطل ولا حلف كذباً " " مز 24: 3 و4 " وعندما تساءل قوم من الكورنثيين عن شرعية الرسول بولس، ومركزه من الخدمة أجاب: " أهم خدام المسيح أقوال مختل العقل. فأنا أفضل. فى الأتعاب أكثر فى الضربات. أوفر فى السجون أكثر فى الميتات مراراً كثيرة. من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلده إلا واحدة. ثلاث مرات ضربت بالعصى. مرة رجمت. ثلاث مرات انكسرت بى السفينة. ليلاً ونهاراً قضيت فى العمق. بأسفار مراراً كثيرة. بأخطار سيول. بأخطار لصوص. بأخطار من جنس. بأخطار من الأمم. بأخطار فى المدينة. بأخطار فى البرية. بأخطار فى البحر. بأخطار من أخوة كذبة. فى تعب وكد. فى أسهار مراراً كثيرة. فى جوع وعطش. فى أصوام مراراً كثيرة. فى برد وعرى. عدا ما هو دون ذلك. التراكم على كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس " " 2 كو 11: 23 - 28 " وهل هناك برهان على صحة الخدمة أو حقيقتها أقوى من هذا البرهان؟!!. كان الشئ الأخير فى الشرعية عند أمصيا متصلا بالمكان أو دائرة النفوذ، وهو لذلك لا يقبل أن يقتحم عليه عاموس مكانه،.. لقد أخذ هو بيت إيل بمقتضى المرسوم الملكى ليكون مركز نفوذه وسلطانه، وهو على استعداد أن يصارع أى إنسان آخر يدنو من كرميه أو يعمل بين رعيته،.. ومن المؤسف أنه ما تزال إلى اليوم هذه الصورة على وضعها البشع، فى كثير من الأماكن، وبين المذاهب المسيحية المختلفة.. فعندما يكرز خادم من خدام اللّه بالكلمة يسأل: من أى مذهب هو، وما سلطانه وحقه فى الكلام بين أبناء المذاهب الأخرى؟؟، وتصبح الأذن صماء بالنسبة لرسالته، لأنه يتكلم وهو ابن مذهب معين إلى آخرين ينتمون إلى مذهب مخالف لمذهبه!!.. ومن المؤسف أيضاً أن أبناء المذهب الواحد يتصارعون على الأعضاء، وكيف يتحدث راع من كنيسة أخرى إليهم أو يزورهم أو ينادى لهم برسالة الإنجيل أو يبشرهم بكلمة الخلاص؟، وبدلا من أن يشكر على هدايتهم ومعونتهم، يقال له ما قاله أمصيا لعاموس: " أن اذهب... إلى أرض يهوذا... وهناك تنبأ!!.. أمصيا الكاهن والادعاء الكاذب كان على أمصيا أن يسعى بكل جهده لإخراج عاموس من إرض إسرائيل وهو لا يعنيه، فى شئ ما يقول عاموس خارج هذه الدائرة، أن الحق والباطل عنده يتساويان خارج دائرة نفوذه وسلطانه،.. وفى الحقيقة إن الحق والباطل عنده يتساويان إذا ضمنت له لقمة العيش والبقاء فى المركز!!.. وكم من أناس يدعون الغيرة على بيت اللّه ومجد اللّه، والقضية الدينية عندهم لاتزيد عن هذين الأمرين: المال، والمركز..!!، أعطهم الإثنين وهم على استعداد أن يعبدوا عجل الذهب، لأنهم أصلا عبيد الذهب أينما ذهبوا يسعون وراء المال كيفما مال بهم واتجه!!.. أما إذا دخل أحد بينهم وبين الإثنين أو بينهم وبين واحد منهما فهنا الطامة الكبرى، والمصيبة التى لا تحتمل، وهنا يحل الكذب والاتهام والافتراء والنميمة وكل الصور التى تشوه الآخرين أو تنال من سمعتهم أو رزقهم أو مركزهم أو حياتهم أيضاً، ويصبح القضاء عليهم واجباً مقدساً، يسهرون من أجله، ويكافحون سبيله دون أدنى تراخ أو تراجع أو يأس أو سكون،... وقد سلك أمصيا فى ذلك أكثر من سبيل، فهو يشى إلى الملك، ولا يتكلم بالرواية الصحيحة، بل يشوها تشويها، فإذا كان عاموس يبين أن الخطية ستنتهى بالأمة إلى الخراب، وتذهب بالشعب إلى السبى، فهو يصور هذه الأقوال فى صورة فتنة يتعمدها عاموس، وهى ليست أقوالا من الرب، بل هى كلمات الثورة والفتنة التى يسببها الرجل الآتى من أرضى يهوذا،... ويبدو أن يربعام لم يهتم كثيراً بأقوال أمصيا، وإذاً فلابد من مواجهة عاموس نفسه، والعمل على تخويفه ليهرب إلى أرض يهوذا،... وهو يلوح له إلى جانب التهديد من طرف خفى - بأن أرض يهوذا أكثر مكسباً من أرض إسرائيل، فلماذا لا يذهب إلى هناك ويأكل خبزاً؟!!... كان أمصيا فى هذا كله ابناً للشيطان ورسولا منه، والشيطان فى العادة يحاول دائماً أن يسكت الحق الإلهى بالوعيد أو بالوعد، بالتهديد أو الإغراء، وسجلاته فى كل العصور خير شاهد علي ذلك!! وقف أحد الرهبان فى كنيسة من الكنائس الألمانية غداة حرمان مارتن لوثر، وكان قد ذهب إلى هذه الكنيسة ليعلن قرار الحرمان، وقف يقول: " أيها الآباء والأخوة والأبناء: إن الكنيسة عانت طويلا من سم حية نشأت بين أحضانها، هذه الحية هى " مارتن لوثر، والسم هو تعاليمه التى ينشرها!! ولا حاجة بى إلى أن أخبركم عن قصة ضلاله، فهو، أولاً، فى كبرياء قلبه يحتج على المحبة العظمى فى قلب أبينا البابا المقدس، الذى جعل من الميسور بيع صكوك غفران الخطايا عند أبوابنا، وهو فى هذا يؤذى الكنيسة إذ يعظ ضد الصكوك المقدسة، والغفرانات، ويمنع خلاص النفوس، قد كتب حججاً كاذبة وسمرها على باب الكنيسة فى وتنبرج، وانتشرت من هناك فى كل المانيا. وكثيرون يموتون فى خطاياهم ويذهبون إلى الجحيم بسبب هذه الحجج، وقد كانت الكنيسة مترفقة به إذ وعدته بالعفو إذا تراجع، وأعطته الفرصة ليظهر فى أوجسبرج أمام قداسة الكاردنيال كاجيتان الذى تعامل معه بلطف دون جدوى، وبعد هروبه الجبان من أوجسبرج، كان له الشرف أن يتقابل مع دكتور أيك العظيم الذى تغلب عليه تماماً، ومع ذلك فهو ما يزال ينشر أكاذيبه فى كل مكان وقد أضحى الآن أكثر غطرسة، وقسوة... إذ لم يكتف بمهاجمة الغفرانات، بل بدأ يهاجم البابا نفسه، وقد كتب كتباً عديدة ممتلئة بالباطل والأضاليل، ويزرع الشوك فى عقول الكثيرين من أبناء الكنيسة المؤمنين، وأبعد آلافاً عن الأم الحقيقية الوحيدة الكنيسة، ولهذا فإن البابا عزم على أن يضع حداً لهذا الهرطوقى الكبير وأبى الأكاذيب ".أغلب الظن أن أمصيا وعظ فى بيت إيل بمثل هذه العظة للشعب المضلل المنكوب!!.. أمصيا الكاهن والعقاب الرهيب تنبأ عاموس على أمصيا، وقد اتسمت نبوته بالوضوح القاطع، وهنا يفترق الصدق الإلهى عن همهمات وإدعاءات الرؤى الوثنية، أو - كما قال أحدهم - إن العرافين فى العادة لا يقطعون برأى، بل يضعون نبواتهم فى كلمات غامضة تحتل أكثر من معنى ليكون الأمر عند التفسير أقرب إلى ما قد يجئ به التنفيذ، وهم على استعداد أن يدعوا أن هذا هو ما كانوا يقصدونه من البدء، إذ تصادف أن اقتربت الحقيقة إلى ما يزعمون، لكن نبوة النبى الصادق تتحدى الأنبياء الكذبة حتى ولو كانوا أربعمائة نبى يتحدثون بلسان واحد وعلى رأسهم صدقيا بن كنعنة الذى عمل لنفسه قرنى حديد وقال لآخاب: " هكذا قال الرب بهذه تنطح الأراميين حتى يفنوا، وتنبأ جميع الأنبياء هكذا قائلين اصعد إلى راموت جلعاد وافلح فيدفعها الرب ليد الملك " " 1 مل 22: 11 و12 " أما ميخا بن يمله نبى اللّه الصادق فإنه لا يتردد فى أن يصف الأربعمائة من الأنبياء بأنهم كاذبون مضللون، وأن الشيطان قد وضع فى أفواههم جميع أقوالا كاذبة، وأن مصيره سينتهى فى المعركة، وإذ يصفعه صدقيا بن كنعنه على فكه قائلا: " من أين عبر روح الرب منى ليكلمك؟ فقال ميخا: إنك سترى فى ذلك اليوم الذى تدخل فيه من مخدع إلى مخدع لتختبئ " 1 مل 22: 24 و25 " وإذ يسجنه آخاب طالباً أن يضعوه فى السجن، وأن يطعموه خبز الضيق وماء الضيق حتى يعود بسلام: " فقال ميخا: إن رجعت بسلام فلم يتكلم الرب بى.وقال اسمعوا أيها الشعب أجمعون" " 1 مل 22: 28 " كان ميخا واضح الرؤيا، شديد الثقة، دون اهتزاز أو تذبذب أو تتردد، والأمر بعينه كما يذكره ذلك الأرامى فى شهادته أمام الملك عن أليشع " ولكن أليشع النبى الذى فى إسرائيل يخبر ملك إسرائيل بالأمور التى تكلم بها فى مخدع مضجعك " " 2 مل 6: 12 ".. بل لعل الأمر يبلغ قمته، عندما حلم نبوخذ ناصر حلمه، وأغلب الظن أنه نسيه، ومع ذلك فهو يطلب من حكماء بابل أن يبينوا له الحلم وتعبيره " وأجاب الكلدانيون قدام الملك وقالوا ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك. لذلك ليس ملك عظيم ذو سلطان سأل أمراً مثل هذا من مجوس أو سامر أو كلدانى. والأمر الذى يطلبه الملك عسر وليس آخر يبينه قدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر " " دا 2: 10 و11 " وإذ يسمع دانيال، ويتجه بالصلاة إلى اللّه، وهو زملاؤه الثلاثة فتية، يكشف له السر فيدخل إلى نبوخذ نصر مسرعاً ليقول: " السر الذى طلبه الملك لا تقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجمون على أن يبينوه للملك. لكن يوجد إله فى السموات كاشف الأسرار وقد عرف الملك نبوخذ نصر ما يكون فى الأيام الأخيرة " " دا 2: 27 و28 ".. ويذهل نبوخذ نصر من هذه المعرفة العجيبة إلى درجة أن يخر ساجداً على وجهه إلى الأرض أمام دانيال،... وعلى هذا المنوال كانت رؤيا عاموس واضحة أمام عينيه وهو يتنبأ عن أمصيا كاهن بيت إيل، ولم يتردد فى ذكرها للرجل بكل أمانة وشجاعة، رغم ما تمتلئ به من عنف وشدة وقسوة،.. لم يحاول عاموس أن يصقل كلامه أو يخفف من واقعه على أذنى الرجل، بل كانت كلماته كالمطارق القاسية التى تهوى على رأسه دون أدنى شفقة أو رحمة، وقد كانت النبوة فى الحقيقة مفزعة ومخيفة!!.. إذ كانت. 1- الفضيحة القاسية: وأى فضيحة أقسى وأشد من القول: " امرأتك تزنى فى المدينة " " عا 7: 17 " والكلمة يمكن أن تفسر من اتجاهين، إما أن الرجل يلصق به العار لخيانة زوجته له،.. فلقد خان هو اللّه وزنى عنه، أو أصبح رئيس الزناة بعبادته الوثنية وتكريس حياته لخدمة عجل الذهب،.. والبعد عن اللّه فى لغة الكتاب هو زنى: " لأنه هو ذا البعداء عنك يبيدون تهلك كل من يزنى عنك " " مز 73: 27 " والذهاب وراء كل إله غريب، مهما يكن لونه أو شأنه هو الفسق أمام اللّه، بدون أدنى حرج أو حياء أو خجل، ومن المؤلم أن اللّه أقام نبينا، وجعل قصته تجسيداً لهذه الحقيقة عندما: " قال الرب لهوشع إذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب. فذهب وأخذ جومر بنت ديلايم فحبلت وولدت له ابناً " " هو 1: 2 و3 "... وقد تحولت أمة إسرائيل كلها إلى أمة زانية بهذا المعنى، عندما انصرفت عن اللّه، وتحولت إلى الهوى والشهوة وراء الآلهة الغريبة، فكان لابد أن يكون الجزاء من جنس العمل،.. ومن المحتمل أن زوجة أمصيا انصرفت عنه وفسدت دون تورع، كانصرافه عن الحق الإلهى، وسيره وراء التيه والفساد والبطلان،.. أو أن الأمر يمكن أن يؤخذ من اتجاه آخر، إذ تغتصب زوجته فى المدينة من ورائه أو على مرأى عينيه، عندما يدخل الغزاة ويتم السبى،.. وما أقسى ما يحدث، فى مثل هذه الظروف والأحوال، من أوقات الحروب، كعقاب مخيف مفزع من اللّه! ألم يقل إشعياء: " وتحطم أطفالهم أمام عيونهم، وتنهب بيوتهم، وتفضح نساؤهم " " إش 13: 16 " وقال زكريا الشئ نفسه: " فتؤخذ المدينة وتنهب البيوت وتفضح النساء "... (زك 14: 2) وسواء أكانت الصورة بالمعنى الأول أو الثانى، فإنها أشبه الكل بعقدة " أوديب " العقدة التى حلت بالشاب اليونانى الذى قيل إنه قتل أباه، وتزوج أمه، وهو لا يعلم، وعندما أدرك ذلك فقأ عينيه، وخرج هارباً فى الأرض كقايين، تروعه عذابات الضمير، دون أن يستريح أو يهدأ أو يلوى على شئ!!.. إن الخروج على اللّه هو الفضيحة بعينها، ولا بد أن تكشف هذه الفضيحة فى هذه الصورة أو تلك، وما عمل فى الخفاء سيرى الناس عقابه علانية وتحت ضوء الشمس فى كل مكان!!.. 2- ضياع الأرض.. " وأرضك تقسم بالحبل " " عا 7: 17 " ونحن نعلم أن الأرض كانت مقدسة، وهى ملك لصاحبها بالوكالة، لأنها أساساً للّه، وكانت إذا بيعت أو اشتريت، فإن ذلك إلى يوم اليوبيل الخمسينى لتعود مرة أخرى إلى صاحبها، لكن الأشوريين لا يعرفون شيئاً عن هذا اليوبيل، وكما اغتصبت الزوجة، تغتصب الأرض أيضاً اغتصاباً،.. لقد عاش أمصيا للأرض دون أن يرفع عينيه إلى السماء، وبحث عن الذهب، وعبده، ومال وراءه،.. وها هى الأرض أيضاً تؤخذ بما فيها وما عليها، والحرام لا يذهب وحده كما يقولون، بل يأخذ الحلال والمقدس معه،.. وإذا كان الناس يقولون إن الجريمة لا تفيد، فإنه الأصح أن يقال دائماً، إن الخطية لا يمكن أن يكسب الإنسان من ورائها أدنى خير أو مكسب،.. لقد جند أمصيا نفسه ليجمع الثروة والمال من وراء خدمة عجل الذهب تعبد له، وأقيم كاهناً لخدمته، وها قد ذهب المال والعجل وكل شئ، وحل محلها الفقر والضياع والعدم والهلك!!.. 3- الموت البشع: " وبنوك وبناتك يسقطون بالسيف " " عا 7: 17 " وأى منظر أشد هولا أو رعباً، من منظر الأولاد والبنات، وهم يقتلون على مرأى عينيه،.. أليس هؤلاء الأولاد أو البنات هم الذين من أجلهم سعى لاقتناء الثروة، وجمع الكنوز، وتكديس المال، وكان أقصى ما يحلم به أن يوفر لهم الحياة الهانئة والعيش الرغد؟، وها هو المال يذهب، وفى إثره يقتل أحب الناس إليه فى الأرض!!.. 4- النهاية التعسة: " وأنت تحرث فى أرض نجسة " " عا 7: 17 " ولم يبق للرجل بعد هذا كله سوى جسده، ونفسه،.. وهما أيضاً معاً سوف يعذبان، إذ سيؤخذ إلى السبى، ويبقى هناك على أتعس الذكريات وأشرها فكراً، وسيموت محاطاً بالدنس من كل جانب، لأن الدنس ملأ نفسه من الداخل، وهل لنا أن نتصور أمصيا وقد قبض عليه وسار سير المسبيين فى الأرض، وجر كما يجر الحيوان بالسلاسل والأغلال، وسار فى الفيافى والقفار، حتى انتهى إلى الأرض القريبة، وعاش ميتاً، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وهوى وثوى فى الأرض النجسة الغريبة كأتعس ما تكون نهاية القصة والمأساة لأى إنسان أحسن ظنه بالأيام والليالى، ولم يدر أن الزمن قلب، ومفاجآت الحياة للأشرار دونها كل مفاجأة.. 5- سبى الأمة كلها: " وإسرائيل يسبى سبياً عن أرضه " " عا 7: 17 " ومن العجيب أن يقال هذا الكلام فى أيام يربعام الثانى ملك إسرائيل، إذ كانت البلاد، فى ألمع أيامها الذهبية، من الوجهة السياسية والاجتماعية، وكان الناس ينامون على أسرة من العاج، كما نرى فى نبوات عاموس، وكانوا يسترخون على نغم الموسيقى الراقصة أو الحالمة " انظر عا 6: 1- 7 " ولكن عاموس - شأنه شأن الأنبياء الصادقين - لم يخدع بالمظهر البراق أو الصورة الخلابة، إذ رأى الدنس والخطية والخراب والموت خلف الكل،.. وعندما جاءت هذه النهاية كانت مرعبة مرهبة فظيعة، إذ لم يسقط الأسباط العشرة تحت جحافل الأشوريين فقط، بل قضى على كيانهم السياسى والاجتماعى والقومى والدينى إلى الأبد. وإلى اليوم، لا يكاد يعرف أحد مصير هذه الأسباط. لقد كان عقابهم كخطيتهم قاسياً مفزعاً مروعاً رهيباً!! أجل: لأن أجرة الخطية هى موت، وأما هبة اللّه فهى حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا " " رو 6: 23 "..
المزيد
06 مايو 2021

شخصيات الكتاب المقدس إمرأة لوط

«ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح» مقدمة لست أظن أن هناك نصبًا تذكاريًا أعجب أو أغرب أو أصدق أو أقدم من جثمان امرأة انتصب في الطريق وتجمد على هيئة عمود ملح، وكانت المرأة كما نعلم امرأة لوط منذ قرابة أربعة آلاف عام ما بين سدوم وعمورة وصوغر على مشارف البحر الميت في فلسطين!! والنصب التذكارية تهز في العادة وجدان الإنسان، وتثير فيه أعمق المشاعر، وأصدق الأحاسيس وأقوى الانفعالات، وهل يمكن أن يقف الإنسان مثلاً من نصب الثلاثمائة اسبرطي الذين سقطوا في معركة ترمبولي ويقرأ المكتوب: أيها المسافرون أذهبوا وقولوا لاسبرطة إننا متنا هنا طوعًا لقوانينها المقدسة، دون أن يحيي بإعجاب الجنود الأبطال الذين وقفوا في وجه الغزاة على هذا النحو المثير الرهيب! وهل يمكن أن نرى مئات أو آلاف النصب الموزعة هنا وهناك في أرجاء الأرض على مر التاريخ، وهيو تحكي ما لا ينتهي من قصص المغامرات والبطولات والمآسي والأمجاد بين بني البشر دون أن تتعلم وتتحكم وتتعظ! على أنه وإن كانت بعض صور المسخ أو الغفلة أو التزييف أو ما أشبه تلحق بالكثير من هذه النصب فتكون أشبه بما تخيله الكاتب الساخر المعروف برنارد شو، عندما صور انجلترا، وقد اختارت جثة واحد من المشوهين تمامًا في الحرب ودفنته في تكريم لائق في قبر الجندي المجهول وشادت له النصب الخاص بذلك، ولدهشة الانجليز وجدوه يتكلم اللغة الألمانية، اذا كان واحداً من الجنود الألمان الذين سقطوا قتلى بين الإنجليز،... إلا أننا في قصة اليوم سنسمع الشهادة الحقة، من يسوع المسيح نفسه عندما قال: اذكروا امرأة لوط!!... ومن الغريب أن الانسان لا يحتاج للذهاب إلى البحر الميت ليرى هذا النصب التذكاري العجيب، اذا أنه ينتصب في العادة في كل مكان وزمان، في صورة أي إنسان تأتيه الظروف الطيبة في باديء الأمر، فيتعلق بها، ويسير معها ولكنه لا يلبث أن يتحول عنها منجذبًا وراء باطل هنا أو غرور هناك، وقد أحب المسيح الشاب الغني الذي سار أول الأمر على أروع ما يكون المثال، إلا أنه ودعه آخر الأمر بالنظرة الباكية الحزينة لأنه كان ذا أموال كثيرة وقفت كالعثرة الكأداء في مجده الأبدي!!...، وعاشت امرأة لوط لتكون الصورة عينها، لمن بدأ حسنًا ولم تقطع الشوط كله، فصارت عبرة، تروي، وستروي حتى تنتهي الأرض وما عليها، عندما يأتي المسيح في مجيئة الثاني العظيم العتيد!!.. وها نحن نتابع قصتها فيما يلي: المرأة والبداءات الحسنة لا يذكر الكتاب المقدس شيئًا عن حياة هذه المرأة قبل أن تتزوج لوطا، لكن الرأي الراجح أنها لم تكن من أهل سدوم وعمورة، وأنها جاءت مع لوط من أور الكلدانيين لأن لوطا قضى في سدوم وعمورة ما يقرب من عشرين عامًا، وهذه المدة لا يمكن أن تكون كافية ليتزوج فيها وينجب، ويصاهر، ويبقى معه في بيته أصغر ابنتين غير متزوجتين، وتصلحان للحياة الزوجية، اذن فهذه المرأة جاءت مع إبراهيم وسارة ولوط، فهي أحد أعضاء القافلة العظيمة المقدسة التي خرجت من أور الكلدانيين، تنشد غاية من أعظم الغايات التي وضعت أمام الإنسان في الأرض، ولم يكن خروج إبراهيم من أور الكلدانيين بدافع الظن أو الوهم أو الخيال، بل على العكس كان مدفوعًا برؤيا حقيقية مجيدة أو كما يقول استفانوس: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو فيما بين النهرين».. وما من شك بأن هذه الرؤيا، لم تسيطر على إبراهيم وحده، بل استولت على الذين كانوا معه، ومن بينهم امرأة لوط، فالمرأة بهذا المعنى، كانت تنتسب إلى عائلة، لا شبهة في أنه لم يكن هناك على ظهر الأرض في ذلك الوقت من هو أسمى منها وأعظم وأقدس، فاذا تصورناها نهرا مثل هذا المنبع الصافي الرقراق، كان لنا أن نتصور المجرى يندفع في جلال وفخامة وعظمة، قل أن يكون لها نظير ومثيل، ومن المتصور جدًا أن المرأة استمعت مع لوط زوجها إلى الكثير من التعاليم من أبينا إبراهيم، بل ومن المتصور أيضًا أنها أخذت الكثير من مباديء سارة في تقديم المحرقات وعواطفها، هذا إلى جانب شركتها، كواحدة من العائلة في تقديم المحرقات والذبائح التي كان يقدمها ابراهيم على المذبح أمام الله، كانت المرأة أذن ذات بداءات واضحة في الرؤيا والإيمان والتعليم والعبادة والخدمة والحق. المرأة والتجارب الزاحفة على أنه إلى جانب هذه كلها، كانت هناك سلسلة من التجارب تزحف على قلب المرأة، وتأخذ سبيلها إلى هناك، لتسكن وتبقى وتتأصل وتتزعزع، ولعل أول هذه التجارب، تجربة الحسد، اذ ترى إبراهيم ينمو في كل شيء، ويتضاءل لوط إلى جانبه، ولا يكاد يظهر أو يبين فثروة إبراهيم، ومركزه، ومجده، وعظمته لا تكاد في تصورها، تعطي لابن أخيه شيئًا من هذا القبيل، ومهما أخذ لوط فانه يقع على الدوام في الظل، أو الظلام، مما لا تستطيع تقبله أو تصوره على الإطلاق، وويل للإنسان اذا بدأ قصته بالحسد، اذ تختل فيه كل الموازين ويخشى أنه لا يستطيع أن يحكم على شيء واحد حكماً صادقًا سليمًا، فاذا قيل لها إن إبراهيم، هو الأب، وهو الأصل، وهو الذي جاء بلوط، ولم يأت لوط به، وانه صاحب الفضل على لوط في كل شيء! فانها ترفض هذا المنطق، ولا تعترف بأصل أو فضل، بل لعلها ترى العكس، على اعتبار أن إبراهيم شيخ مسن، وأن لوط هو الأصغر، وأن أمامه الحياة والدنيا والمستقبل، وهو الأجدر بأن يأخذ كل شيء دون منازع، والحسد اذا بدأ في النفس، لا يبقي هناك وحده بل يجر وراءه كثيرًا من الرذائل والمفاسد! وقد جر إلى نفس هذه المرأة وزوجها رذيلة الطمع التي أوجدت المخاصمة بين رعاة مواشي إبراهيم ورعاة مواشي لوط، ولم تكن عين لوط وحدها هي التي رأت كل دائرة الأردن أن جميعها سقي كجنة الرب كأرض مصر، بل لعل لوطا أطل على الأرض، من خلال عيني زوجته أو على الأقل وجد منها كل تشجيع ومساعدة لنقل خيامهما إلى سدوم، بهدف الوصول إلى الثروة التي ان لم تكن أعظم من ثروة إبراهيم، فلا يمكن أن تكون أقل بحال من الأحوال، وقد صدق الكتاب عندما ربط بين الطمع وعبادة الأوثان في قول الرسول بولس: «الطمع الذي هو عبادة الأوثان» وقد كان من الصعب أو المستحيل على هذه المرأة أن تعبد الله، عبادة قوية صادقة خالصة، وتعبد في الوقت نفسه المال، أو تخدم السيدين معًا، وهي في الواقع واحدة من ذلك الصف الطويل في ركب البشرية الذي تم فيه القول: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة!!»... ويوم أكثرت قطعانها السارحة في أرض سدوم، قلت رؤياها لله، أو كانت هذه القطعان بمثابة الغيمة الكبيرة في سماء الشركة بينها وبين الله، والطامعون في العادة لا يقفون عند حد ولا يقبلون أن يكون المال هو الشيء الوحيد، فقد كانت المرأة تطمع في شيء آخر، المجد والشهرة والمركز العالمي، وهي لهذا لا تقبل أن تقف على أبواب سدوم، بل لابد أن تدخل داخل أسوارها، وهي لا تقف في الطرف من سدوم، بل لابد أن يكون بيتها في أفضل مكان هناك، وقد تم للمرأة ما طلبت اذ ظلت وراء زوجها تدفعه خطوة فخطوة، حتى أصبح يجلس في باب سدوم، وهذا لا يمكن أن يفعله أحد الا اذا كان عمدة سدوم أو حاكمها كما يعتقد الكثيرون من الشراح، تفسيرًا للقول الذي ذكره أهلها عنه: «جاء هذا الإنسان ليتغرب وهو يحكم حكمًا» كانت المرأة تطرب غاية الطرب، لمن يناديها بزوجة العمدة أو زوجة الحاكم في سدوم، وعلى استعداد أن تدفع الثمن الذي يدفعه الباحثون عن الشهرة والمجد العالمي، ألا ويل للإنسان من هذه الضربة القاسية التي يدفعها من حق وحياة وكرامة وسلام على قرعات كاذبة من الطبل الأجوف بين الناس، ويوم فعل الحسد والطمع والبحث عن الثروة والشهرة عمله في قلب امرأة لوط، لم تعد تفكر في مبدأ، أو تهتز لخطأ، أو تفزع لرذيلة، فلا بأس على بناتها أن يتزوجن أشر الناس ولا بأس على زوجها أن يغلب من سيرة الأردياء، ويعذب نفسه كل يوم بأعمالهم الآثمة، ولا بأس عليها أن تأكل وتشرب وتعيش في مثل هذا المجتمع، ولا يمكن أن ترجع قط إلى خيام إبراهيم على مقربة منها، وما لها وهذه الخيام البدوية، وهي تعيش حياة أكثر رفاهية، وكيف تقبل الخيمة، وقد ألفت البيت المريح، وكيف تسكن إلى حياة البادية، وقد عرفت أبهاء القصور وعظمتها،... أليس هذا ما يفعله ملايين الناس، الذين يقيسون الحياة بمقاييس مادية بحتة، ويذهبون إلى سدوم، مادام يمكن أن يملكوا بيتًا عصريًا وسيارة ورصيدًا في بنك، ويأخذوا بكل وسائل الترف والترفية، التي تخطر على بال إنسان، أما الأخلاق أو المباديء أو المثل، فلا شأن لهم بها، اذ كانت لا تملك أن تعطيهم لقمة دسمة، وفراشًا ناعمًا، وحياة وثيرة، وعيشًا هنيئًا كما يحلمون، ويحلم إنسان العالم على الدوام على هذه الأرض!!. وهل رأيت بعد هذا كله كيف زحف الحسد، والطمع، وحب الشهرة، والمركز، وحياة الترف إلى قلب هذه المرأة، التي لم تدخل إلى سدوم لتسكن فيها فحسب، بل دخلت سدوم بأكملها في قلبها، وأصبحت هي وسدوم شيئًا واحداً في الطبيعة والمصير!! المرأة والخسارة الفادحة وما أكثر ما توالت على المرأة وزوجها وبيتها من خسائر فادحة في مدينة سدوم، ولعل أولى هذه الخسائر كانت الراحة المفقودة، لقد أخذت كل شيء، ولكنها مع ذلك لم تأخذ الراحة، ألم يقل الرسول بطرس عن لوط: «مغلوبًا من سيرة الأردياء، في الدعارة اذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة».. أو في لغة أخرى أن لوطا لم يعرف الراحة قط في يوم من الأيام في المدينة الشريرة التي انتقل إليها، وهو يظن أنه سيسعد ويستريح، وكيف يمكن أن يسعد من يستبدل أحلى الترانيم بأشر الأغاني، ولغة البركة بأقسى اللعنات، وصلاة الحمد بأنين التذمر!... أن سدوم وعمورة ومدن الدائرة، لم تكن تعرف في يوم من الأيام إلا الصراخ والآنين والألم والتعاسة والشقاء، في قلب ما تتصور أنه الضحك والترنم والبهجة، إذ لا سلام قال إلهي للأشرار، ولذا لا عجب أن يقول الله لإبراهيم «إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدا....» إن سلم الراحة على الدوام له ثلاث درجات متصاعدة، الدرجة الأولى، درجة الماديات، حيث يأخذ الإنسان حظه المادي في الأرض، وأعلى منها الدرجة الأدبية، حيث يرتفع الإنسان فوق المادة إلى عالم الأدبيات والمعنويات من كرامة وعزة واعتبار وفضيلة وشرف وما أشبه، والدرجة الأعلى والأسمى، الدرجة الروحية، حيث يسير في شركة أسمى وأعلى من كل ما تقدم الأرض، وحيث يأخذ أجنحة النسور، ليعلو على كل أجواء الدنيا الخانقة القاتلة، ويوم يفقد الإنسان ما هو أعلى من درجات، لن تسعفه الدرجة الدنيا بالراحة، مهما أخذ فيها واتسع وملك! كما أن امرأة لوط خسرت شيئاً آخر، إذ خسرت عظة الملائكة، ويبدو أن الله أرسل لها هذه العظة، بعد إن فقدت عظات زوجها كل أثر في حياتها، اذ يبدو أنها كانت تنظر إلى كلماته ونصائحه، كما نظر أصهاره إلى ما قال، وكان كمازح في أعينهم، وشاء الله أن يرسل لها ملاكين يعظانها، عن الخراب الوشيك الرهيب الذي سيقع على المدينة، ولكن تأثير العظة كان وقتيًا وإلى لحظات، فما أسرع ما فقدت الرسالة تأثيرها، وما فعله الملاكان عند بابها بضرب السدوميين بالعمى، وهي مثل كثيرين الذين يمكن أن يقال لهم عند ما تخلو حياتهم من زيت النعمة: لو أننا نتكلم بألسنة الناس والملائكة، فما أنتم بسامعين أو منصتين لأن حياتكم منزعة بالماديات، وآذانكم مشغولة، عن سماع رسالة الحياة، بضجيج هذا العالم وصراخه!! وجاء في أثر هذا ايضًا، خسارة أولادها الذين بقوا في سدوم، وبناتها وأصهارها، والعار الذي لحق بالخارجتين من المدينة أيضًا، وهي خسارة أقسى وأشر، من كل خسارة مادية، وقد يستطيع الإنسان أن يعوض في المدى البعيد أو القريب كل خسارة مادية، ولكنه يعجز أبدًا عن تعويض خسارة الأرواح الضائعة في الحياة الحاضرة أو العتيدة أيضًا، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وخسر نفسه، أو ماذا يعطي فداء عن نفسه! على أنه من المثير حقًا، أن المرأة فقدت إلى جانب هذا كله ما سعت وشقت وتعبت في الحصول عليه، إذ فقدت الثروة بأكملها، والشهرة بأكملها، والنفوذ بأكملها، لقد تحول كل شيء أطلالا وأنقاضًا، سعى إليها اليوم والغربان وبنات وآوي، ومن المؤكد أنها لم تجد شيئًا الا الدمار والخراب، وآخر الكل فقدت المرأة نفسها، وسواء كان هذا بسبب الشك الذي ربما تسرب إليها، آذ قطعت شوطًا طويلاً بعيداً عن المدينة، دون أن يحدث هذا الانقلاب الذي حدث عن شروق الشمس في الصباح، أو لأنها أمتلأت بالحزن والحنان والأسى، على ما تركته هناك في المدينة من أحياء وأموال، أو لأنها لم تستطع أن تدرك للحياة معنى بعد أن فقدت كل شيء، سواء كان الشك أو الحنان أو اليأس، أو جميعها مجتمعة معًا، فان المرأة لم تنتفع على الإطلاق بما سارته من شوط طال أو قصر في طريق الخلاص، وتساوت مع أهل سدوم، رغم البداءات الحسنة في سيرها، من أور الكلدانيين، وفي صحبة إبراهيم وفي خروجها مع زوجها، وبنتيها والملاكين، فيما يشبه الركض على الطريق! وكل هذا لأنها نسيت ما ينبغي أن يعلمه الكل من أن الشوط ينتهي بصوغر، وأن المتخلف الذي يتراجع في الدقائق الأخيرة عن الوصول إلى صوغر، ستلحقه الكارثة والضياع والخراب، ولا فرق بين الاثنين، ما دام كلاهما لم يخرج بعد من دائرة الأرض التي دمرتها الخطية وقلبها الله! هل لنا بعد ذلك كله، أن نذكر أن المرأة، وقد أفزعت ولاشك زوجها وبنتيها، وهي تتحول فيما يشبه الصاعقة أمام عيونهم، إلى عمود ملح، يرنو بعينين فقدتا النور والضياء، إلِى مدينة سدوم، هل لنا أن نذكر، بأنها قد جعلت بهذا المعنى عبرة لجميع الأجيال، كما أضحت سدوم وعمورة سواء بسواء، وأنها ستبقى هكذا حتى يأتي المسيح حسب قوله الصادق الأمين المبارك «هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء. اذكروا امرأة لوط...»!.
المزيد
22 أبريل 2021

شخصيات من الكتاب المقدس أمصيا

" فأرسل أمصيا كاهن بيت إيل إلى يربعام ملك إسرائيل قائلاً: قد فتن عليك عاموس فى وسط بيت إسرائيل " (عا 7: 10) مقدمة تعد قصة أمصيا من أقدم القصص الكتابية التى تتحدث عما يطلق عليه " سلطان " الخادم أو " حقه " فى ممارسة الخدمة، وقد جاءت صورة أمصيا، من سوء حظه، جنباً إلى جنب مع صورة عاموس... وحسب الظاهر كان أمصيا الكاهن المعترف به رسمياً من الدولة، فقد صدر به مرسوم من الملك يربعام الثانى ملك إسرائيل، فهو الكاهن " الشرعى " حسب قوانين البلاد!! ولم يكن عاموس سوى رجل يلبس ثياب الرعاة الخشنة، ويحيا أبسط حياة، بلا ثياب رسمية أو مظاهر فخمة يمكن أن تعطيه الحق فى الخدمة الدينية،... بل لعله أكثر من ذلك أخطأ - بحسب مفهوم أمصيا - إذ وهو من المملكة الجنوبية اقتحم الخدمة فى المملكة الشمالية، وهذا لم يكن جائزا قانونياً!! والسؤال الذى تطرحه قضية أمصيا هو سؤال " الشرعية " فى الخدمة، ومن هو صاحب الحق فيها، أهو أمصيا الكاهن الرسمى بأمر الدولة ونفوذها وسلطانها، أم هو المقتحم الدخيل الآتى إليها من أرض يهوذا من الجنوب؟ من اللازم أن ندرس لهذا كله قصة أمصيا، إذ أنها القصة التى تكررت وماتزال تتكرر فى كل مراحل التاريخ حول " الشرعية " فى المفهوم البشرى، و"الشرعية" فى مفهوم اللّه والحق الكتابى!!.. ومن ثم يحسن أن نرى القصة من الجوانب التالية: أمصيا الكاهن بمرسوم ملكى تطرح قصة أمصيا - كما أشرنا آنفا - قصة الشرعية فى الخدمة، من حيث الخادم والخدمة ذاتها، ومع أننا لا نعلم بالضبط متى عين أمصيا كاهناً فى بيت إيل، إلا أنه من المرجح أن خدمته فى بيت إيل فى أيام يربعام الثانى حفيد ياهو بن نمشى كانت فى حوالى عام 722 ق. م عندما سقطت السامرة، وأخذ أمصيا مع المسبيين إلى السبى ليحرث هناك!!.. على أى حال لقد كان أمصيا آخر السلسلة العجيبة من الكهنة الذين بدأ يربعام الأول عام 932 ق.م فى تعيينهم، ليكونوا كهنة مرتفعات، وقد استمر هذا النظام حتى سقوط السامرة، أى أن هذا النظام استمر قرابة مائتين وعشرة أعوام، هى عمر المملكة الشمالية، فهل تكتسب الشرعية فى الخدمة الدينية، بمجرد مرور السنين أو القرون على ذلك؟. وهل يحسب الكاهن كاهناً، لمجرد أنه ينتمى إلى تقليد قديم ربما نسى الناس أصله وفصله؟؟،.. من الواضح من قصة أمصيا أنه كان ختاماً لمجموعة من الكهنة استمرت أكثر من قرنين من الزمان، ولا يمكنه أن يكتسب الشرعية لمرور هذا الزمن الطويل حتى ولو تلاحقت عليه آلاف السنين، إذ أن اللّه لم يعترف قط بهؤلاء الكهنة، ولم يقبلهم أو يرض عنهم، لأن الشرعية دعوة إلهية، لا تكتسب بالتقادم على وجه الإطلاق!!.. إن من أكبر الخطايا التى سقطت فيها الكنيسة فى أوقات الظلام والفساد، هو هذا الإدعاء، بأن الخادم هو خادم شرعتى لمجرد أنه تسلم الخدمة، ممن هو أقدم، وأن هذا السلطان متوارث بصرف النظر عن المسلم أو المتسلم، وسيتاح لنا عندما ندرس قصة عاموس فى شخصيتته الخاصة به، أن نتحدث عن هذا باسهاب، لندرك أن عاموس الذى لم يكن يستند إلى شرعية الوراثة المزعومة، كان هو الخادم الصحيح، وأن أمصيا (ولو أن وراءه أكثر من مائتى عام من الشرعية المعترف بها من الدولة) لم يكن إلا كاهناً كاذباً هو والذين قبله من أولهم إلى أخرهم!! كما أن الشرعية المزعومة يثبت فسادها من وجه آخر، من الأسلوب الذى كانت تلجأ إليه وتستخدمه فى الوصول إلى كرسى الكهنوت، فهى تستخدم كل الوسائل أو الوسائط البشرية، ولا تعف عن استخدام الأساليب الدنيوية لما للكرسى من امتيازات أرضية ومادية كبيرة، ومن هنا نشأ ما يعرف بالسيمونية " على مذهب سيمون الساحر: " ولما رأى سيمون أنه بوضع أيدى الرسل يعطى الروح القدس قدم لهما دراهم قائلاً: "أعطيانى أنا أيضاً هذا السلطان حتى أى من وضعت عليه يدى يقبل الروح القدس، فقال له بطرس لتكن فضتك معك للهلاك لأنك ظننت أن تقتنى موهبة اللّه بدارهم. ليس لك نصيب ولا قرعة فى هذا الأمر لأن قلبك ليس مستقيماً أمام اللّه، فتب عن شرك وأطلب إلى اللّه عسى أن يغفر لك فكر قلبك " " أع 8: 18 - 22 " وما أكثر ما لعبت الدراهم دورها الرهيب فى هذا الشأن، وقد تحول بيت اللّه إلى مغارة لصوص ويزداد الأمر سوءاً عندما تختلط السياسة بالدين، فلا تكتفى السياسة بادخال المال إلى الساحة من أوسع الأبواب، بل تدخل الأوضاع الأخرى التى هى أشد رهبة ونكراً، ويحرص الساسة على أن يجعلوا على كرسى موسى الصدوقيين، وليس الفريسيين، وكان الصدوقيون ممن لا يؤمنون بالقيامة واليوم الأخير، وهم لذلك أصلح الناس عند الرومان للقيادة الدينية، وكان منهم حنان وقيافا والعدد الكبير من أعضاء السنهدريم، وهم الواجهة التى تفسد الدين باسم الدين، وليس هناك من هو أقدر على تضليل الجماهير مثل رجل الدين الذى يخدم السياسة باسم الدين، وهو العدو الأول للحق الإلهى، ولو ظهر مندثراً فى ثياب كهنوتية، ويجلس على الكرسى الذى قال عنه السيد المسيح: " على كرسى موسى جلس الكتبة والفريسيون: فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعلموا لأنهم يقولون ولا يفعلون ". " مت 23: 2 و3 ".وكانت الشرعية المزعومة كاذبة من حيث الخدمة نفسها، لقد تعاقب على المملكة الشمالية تسعة عشر ملكاً كانوا كلهم أشراراً، وقد بدأ يربعام بن نباط هذا الشر بتحويل المجرى الدينى للخدمة، إلى الوثنية البشعة، لقد خشى أن تحن الأسباط إلى الوحدة مع يهوذا عندما يصعدون كل عام لتقديم الذبائح فى أورشليم فعمل عجلى ذهب، أحدهما فى بيت إيل، والآخر فى دان، ليبعد بالإسرائيليين عن أورشليم وذكراها، وكان يقصد بالعجلين أن يتصور اللّه فيهما، لأن العجول فى البلاد الزراعية ترمز إلى الخير والبركة، وكان الذهب يلمع فى عينيه كلما دخل إلى البيت أو خرج منه، ومن المؤلم حقاً أن ذلك المكان الذى رأى فيه يعقوب سلم السماء، تحول إلى هذه الصورة البشعة من الوثنية ومهما قيل عن الشريعة، فإنها برهانها الأعظم هو فى حياة الخادم وأسلوب خدمته!!.. لقد ابتلعت عصا موسى عصى العرافين، وكانت برهاناً على الفرق البين بين الحق والكذب، وقال بولس للكورنثيين: " إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فى الذى ليس ضعيفاً لكم بل قوى فيكم " " 2 كو 13: 3 ".كانت الخدمة عند أمصيا نوعاً من أكل العيش " وقد أفصح عن ذلك عندما تحدث إلى عاموس قائلاً: " وكل هناك خبزاً، وهناك تنبأ ". " عا 7: 12 " وما أكثر الذين يحيون ليأكلوا خبزاً، ويشربوا خمراً، ويأخذوا مركزاً، فالخدمة عندهم لا تزيد عن المغنم الذى إليه يسعون ويتجهون. إن امتحان الشرعية يظهر فى وضعه الصحيح من اليد النظيفة: " من يصعد إلى جبل الرب، ومن يقوم فى موضع قدسه؟ الطاهر اليدين والنقى القلب الذى لم يحمل نفسه إلى الباطل ولا حلف كذباً " " مز 24: 3 و4 " وعندما تساءل قوم من الكورنثيين عن شرعية الرسول بولس، ومركزه من الخدمة أجاب: " أهم خدام المسيح أقوال مختل العقل. فأنا أفضل. فى الأتعاب أكثر فى الضربات. أوفر فى السجون أكثر فى الميتات مراراً كثيرة. من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلده إلا واحدة. ثلاث مرات ضربت بالعصى. مرة رجمت. ثلاث مرات انكسرت بى السفينة. ليلاً ونهاراً قضيت فى العمق. بأسفار مراراً كثيرة. بأخطار سيول. بأخطار لصوص. بأخطار من جنس. بأخطار من الأمم. بأخطار فى المدينة. بأخطار فى البرية. بأخطار فى البحر. بأخطار من أخوة كذبة. فى تعب وكد. فى أسهار مراراً كثيرة. فى جوع وعطش. فى أصوام مراراً كثيرة. فى برد وعرى. عدا ما هو دون ذلك. التراكم على كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس " " 2 كو 11: 23 - 28 " وهل هناك برهان على صحة الخدمة أو حقيقتها أقوى من هذا البرهان؟!!. كان الشئ الأخير فى الشرعية عند أمصيا متصلا بالمكان أو دائرة النفوذ، وهو لذلك لا يقبل أن يقتحم عليه عاموس مكانه،.. لقد أخذ هو بيت إيل بمقتضى المرسوم الملكى ليكون مركز نفوذه وسلطانه، وهو على استعداد أن يصارع أى إنسان آخر يدنو من كرميه أو يعمل بين رعيته،.. ومن المؤسف أنه ما تزال إلى اليوم هذه الصورة على وضعها البشع، فى كثير من الأماكن، وبين المذاهب المسيحية المختلفة.. فعندما يكرز خادم من خدام اللّه بالكلمة يسأل: من أى مذهب هو، وما سلطانه وحقه فى الكلام بين أبناء المذاهب الأخرى؟؟، وتصبح الأذن صماء بالنسبة لرسالته، لأنه يتكلم وهو ابن مذهب معين إلى آخرين ينتمون إلى مذهب مخالف لمذهبه!!.. ومن المؤسف أيضاً أن أبناء المذهب الواحد يتصارعون على الأعضاء، وكيف يتحدث راع من كنيسة أخرى إليهم أو يزورهم أو ينادى لهم برسالة الإنجيل أو يبشرهم بكلمة الخلاص؟، وبدلا من أن يشكر على هدايتهم ومعونتهم، يقال له ما قاله أمصيا لعاموس: " أن اذهب... إلى أرض يهوذا... وهناك تنبأ!!.. أمصيا الكاهن والادعاء الكاذب كان على أمصيا أن يسعى بكل جهده لإخراج عاموس من إرض إسرائيل وهو لا يعنيه، فى شئ ما يقول عاموس خارج هذه الدائرة، أن الحق والباطل عنده يتساويان خارج دائرة نفوذه وسلطانه،.. وفى الحقيقة إن الحق والباطل عنده يتساويان إذا ضمنت له لقمة العيش والبقاء فى المركز!!.. وكم من أناس يدعون الغيرة على بيت اللّه ومجد اللّه، والقضية الدينية عندهم لاتزيد عن هذين الأمرين: المال، والمركز..!!، أعطهم الإثنين وهم على استعداد أن يعبدوا عجل الذهب، لأنهم أصلا عبيد الذهب أينما ذهبوا يسعون وراء المال كيفما مال بهم واتجه!!.. أما إذا دخل أحد بينهم وبين الإثنين أو بينهم وبين واحد منهما فهنا الطامة الكبرى، والمصيبة التى لا تحتمل، وهنا يحل الكذب والاتهام والافتراء والنميمة وكل الصور التى تشوه الآخرين أو تنال من سمعتهم أو رزقهم أو مركزهم أو حياتهم أيضاً، ويصبح القضاء عليهم واجباً مقدساً، يسهرون من أجله، ويكافحون سبيله دون أدنى تراخ أو تراجع أو يأس أو سكون،... وقد سلك أمصيا فى ذلك أكثر من سبيل، فهو يشى إلى الملك، ولا يتكلم بالرواية الصحيحة، بل يشوها تشويها، فإذا كان عاموس يبين أن الخطية ستنتهى بالأمة إلى الخراب، وتذهب بالشعب إلى السبى، فهو يصور هذه الأقوال فى صورة فتنة يتعمدها عاموس، وهى ليست أقوالا من الرب، بل هى كلمات الثورة والفتنة التى يسببها الرجل الآتى من أرضى يهوذا،... ويبدو أن يربعام لم يهتم كثيراً بأقوال أمصيا، وإذاً فلابد من مواجهة عاموس نفسه، والعمل على تخويفه ليهرب إلى أرض يهوذا،... وهو يلوح له إلى جانب التهديد من طرف خفى - بأن أرض يهوذا أكثر مكسباً من أرض إسرائيل، فلماذا لا يذهب إلى هناك ويأكل خبزاً؟!!... كان أمصيا فى هذا كله ابناً للشيطان ورسولا منه، والشيطان فى العادة يحاول دائماً أن يسكت الحق الإلهى بالوعيد أو بالوعد، بالتهديد أو الإغراء، وسجلاته فى كل العصور خير شاهد علي ذلك!! وقف أحد الرهبان فى كنيسة من الكنائس الألمانية غداة حرمان مارتن لوثر، وكان قد ذهب إلى هذه الكنيسة ليعلن قرار الحرمان، وقف يقول: " أيها الآباء والأخوة والأبناء: إن الكنيسة عانت طويلا من سم حية نشأت بين أحضانها، هذه الحية هى " مارتن لوثر، والسم هو تعاليمه التى ينشرها!! ولا حاجة بى إلى أن أخبركم عن قصة ضلاله، فهو، أولاً، فى كبرياء قلبه يحتج على المحبة العظمى فى قلب أبينا البابا المقدس، الذى جعل من الميسور بيع صكوك غفران الخطايا عند أبوابنا، وهو فى هذا يؤذى الكنيسة إذ يعظ ضد الصكوك المقدسة، والغفرانات، ويمنع خلاص النفوس، قد كتب حججاً كاذبة وسمرها على باب الكنيسة فى وتنبرج، وانتشرت من هناك فى كل المانيا. وكثيرون يموتون فى خطاياهم ويذهبون إلى الجحيم بسبب هذه الحجج، وقد كانت الكنيسة مترفقة به إذ وعدته بالعفو إذا تراجع، وأعطته الفرصة ليظهر فى أوجسبرج أمام قداسة الكاردنيال كاجيتان الذى تعامل معه بلطف دون جدوى، وبعد هروبه الجبان من أوجسبرج، كان له الشرف أن يتقابل مع دكتور أيك العظيم الذى تغلب عليه تماماً، ومع ذلك فهو ما يزال ينشر أكاذيبه فى كل مكان وقد أضحى الآن أكثر غطرسة، وقسوة... إذ لم يكتف بمهاجمة الغفرانات، بل بدأ يهاجم البابا نفسه، وقد كتب كتباً عديدة ممتلئة بالباطل والأضاليل، ويزرع الشوك فى عقول الكثيرين من أبناء الكنيسة المؤمنين، وأبعد آلافاً عن الأم الحقيقية الوحيدة الكنيسة، ولهذا فإن البابا عزم على أن يضع حداً لهذا الهرطوقى الكبير وأبى الأكاذيب " أغلب الظن أن أمصيا وعظ فى بيت إيل بمثل هذه العظة للشعب المضلل المنكوب!!.. أمصيا الكاهن والعقاب الرهيب تنبأ عاموس على أمصيا، وقد اتسمت نبوته بالوضوح القاطع، وهنا يفترق الصدق الإلهى عن همهمات وإدعاءات الرؤى الوثنية، أو - كما قال أحدهم - إن العرافين فى العادة لا يقطعون برأى، بل يضعون نبواتهم فى كلمات غامضة تحتل أكثر من معنى ليكون الأمر عند التفسير أقرب إلى ما قد يجئ به التنفيذ، وهم على استعداد أن يدعوا أن هذا هو ما كانوا يقصدونه من البدء، إذ تصادف أن اقتربت الحقيقة إلى ما يزعمون، لكن نبوة النبى الصادق تتحدى الأنبياء الكذبة حتى ولو كانوا أربعمائة نبى يتحدثون بلسان واحد وعلى رأسهم صدقيا بن كنعنة الذى عمل لنفسه قرنى حديد وقال لآخاب: " هكذا قال الرب بهذه تنطح الأراميين حتى يفنوا، وتنبأ جميع الأنبياء هكذا قائلين اصعد إلى راموت جلعاد وافلح فيدفعها الرب ليد الملك " " 1 مل 22: 11 و12 " أما ميخا بن يمله نبى اللّه الصادق فإنه لا يتردد فى أن يصف الأربعمائة من الأنبياء بأنهم كاذبون مضللون، وأن الشيطان قد وضع فى أفواههم جميع أقوالا كاذبة، وأن مصيره سينتهى فى المعركة، وإذ يصفعه صدقيا بن كنعنه على فكه قائلا: " من أين عبر روح الرب منى ليكلمك؟ فقال ميخا: إنك سترى فى ذلك اليوم الذى تدخل فيه من مخدع إلى مخدع لتختبئ " 1 مل 22: 24 و25 " وإذ يسجنه آخاب طالباً أن يضعوه فى السجن، وأن يطعموه خبز الضيق وماء الضيق حتى يعود بسلام: " فقال ميخا: إن رجعت بسلام فلم يتكلم الرب بى.وقال اسمعوا أيها الشعب أجمعون" " 1 مل 22: 28 " كان ميخا واضح الرؤيا، شديد الثقة، دون اهتزاز أو تذبذب أو تتردد، والأمر بعينه كما يذكره ذلك الأرامى فى شهادته أمام الملك عن أليشع " ولكن أليشع النبى الذى فى إسرائيل يخبر ملك إسرائيل بالأمور التى تكلم بها فى مخدع مضجعك " " 2 مل 6: 12 ".. بل لعل الأمر يبلغ قمته، عندما حلم نبوخذ ناصر حلمه، وأغلب الظن أنه نسيه، ومع ذلك فهو يطلب من حكماء بابل أن يبينوا له الحلم وتعبيره " وأجاب الكلدانيون قدام الملك وقالوا ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك. لذلك ليس ملك عظيم ذو سلطان سأل أمراً مثل هذا من مجوس أو سامر أو كلدانى. والأمر الذى يطلبه الملك عسر وليس آخر يبينه قدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر " " دا 2: 10 و11 " وإذ يسمع دانيال، ويتجه بالصلاة إلى اللّه، وهو زملاؤه الثلاثة فتية، يكشف له السر فيدخل إلى نبوخذ نصر مسرعاً ليقول: " السر الذى طلبه الملك لا تقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجمون على أن يبينوه للملك. لكن يوجد إله فى السموات كاشف الأسرار وقد عرف الملك نبوخذ نصر ما يكون فى الأيام الأخيرة " " دا 2: 27 و28 ".. ويذهل نبوخذ نصر من هذه المعرفة العجيبة إلى درجة أن يخر ساجداً على وجهه إلى الأرض أمام دانيال،... وعلى هذا المنوال كانت رؤيا عاموس واضحة أمام عينيه وهو يتنبأ عن أمصيا كاهن بيت إيل، ولم يتردد فى ذكرها للرجل بكل أمانة وشجاعة، رغم ما تمتلئ به من عنف وشدة وقسوة،.. لم يحاول عاموس أن يصقل كلامه أو يخفف من واقعه على أذنى الرجل، بل كانت كلماته كالمطارق القاسية التى تهوى على رأسه دون أدنى شفقة أو رحمة، وقد كانت النبوة فى الحقيقة مفزعة ومخيفة!!.. إذ كانت. 1- الفضيحة القاسية: وأى فضيحة أقسى وأشد من القول: " امرأتك تزنى فى المدينة " " عا 7: 17 " والكلمة يمكن أن تفسر من اتجاهين، إما أن الرجل يلصق به العار لخيانة زوجته له،.. فلقد خان هو اللّه وزنى عنه، أو أصبح رئيس الزناة بعبادته الوثنية وتكريس حياته لخدمة عجل الذهب،.. والبعد عن اللّه فى لغة الكتاب هو زنى: " لأنه هو ذا البعداء عنك يبيدون تهلك كل من يزنى عنك " " مز 73: 27 " والذهاب وراء كل إله غريب، مهما يكن لونه أو شأنه هو الفسق أمام اللّه، بدون أدنى حرج أو حياء أو خجل، ومن المؤلم أن اللّه أقام نبينا، وجعل قصته تجسيداً لهذه الحقيقة عندما: " قال الرب لهوشع إذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب. فذهب وأخذ جومر بنت ديلايم فحبلت وولدت له ابناً " " هو 1: 2 و3 "... وقد تحولت أمة إسرائيل كلها إلى أمة زانية بهذا المعنى، عندما انصرفت عن اللّه، وتحولت إلى الهوى والشهوة وراء الآلهة الغريبة، فكان لابد أن يكون الجزاء من جنس العمل،.. ومن المحتمل أن زوجة أمصيا انصرفت عنه وفسدت دون تورع، كانصرافه عن الحق الإلهى، وسيره وراء التيه والفساد والبطلان،.. أو أن الأمر يمكن أن يؤخذ من اتجاه آخر، إذ تغتصب زوجته فى المدينة من ورائه أو على مرأى عينيه، عندما يدخل الغزاة ويتم السبى،.. وما أقسى ما يحدث، فى مثل هذه الظروف والأحوال، من أوقات الحروب، كعقاب مخيف مفزع من اللّه! ألم يقل إشعياء: " وتحطم أطفالهم أمام عيونهم، وتنهب بيوتهم، وتفضح نساؤهم " " إش 13: 16 " وقال زكريا الشئ نفسه: " فتؤخذ المدينة وتنهب البيوت وتفضح النساء "... (زك 14: 2) وسواء أكانت الصورة بالمعنى الأول أو الثانى، فإنها أشبه الكل بعقدة " أوديب " العقدة التى حلت بالشاب اليونانى الذى قيل إنه قتل أباه، وتزوج أمه، وهو لا يعلم، وعندما أدرك ذلك فقأ عينيه، وخرج هارباً فى الأرض كقايين، تروعه عذابات الضمير، دون أن يستريح أو يهدأ أو يلوى على شئ!!.. إن الخروج على اللّه هو الفضيحة بعينها، ولا بد أن تكشف هذه الفضيحة فى هذه الصورة أو تلك، وما عمل فى الخفاء سيرى الناس عقابه علانية وتحت ضوء الشمس فى كل مكان!!.. 2- ضياع الأرض.. " وأرضك تقسم بالحبل " " عا 7: 17 " ونحن نعلم أن الأرض كانت مقدسة، وهى ملك لصاحبها بالوكالة، لأنها أساساً للّه، وكانت إذا بيعت أو اشتريت، فإن ذلك إلى يوم اليوبيل الخمسينى لتعود مرة أخرى إلى صاحبها، لكن الأشوريين لا يعرفون شيئاً عن هذا اليوبيل، وكما اغتصبت الزوجة، تغتصب الأرض أيضاً اغتصاباً،.. لقد عاش أمصيا للأرض دون أن يرفع عينيه إلى السماء، وبحث عن الذهب، وعبده، ومال وراءه،.. وها هى الأرض أيضاً تؤخذ بما فيها وما عليها، والحرام لا يذهب وحده كما يقولون، بل يأخذ الحلال والمقدس معه،.. وإذا كان الناس يقولون إن الجريمة لا تفيد، فإنه الأصح أن يقال دائماً، إن الخطية لا يمكن أن يكسب الإنسان من ورائها أدنى خير أو مكسب،.. لقد جند أمصيا نفسه ليجمع الثروة والمال من وراء خدمة عجل الذهب تعبد له، وأقيم كاهناً لخدمته، وها قد ذهب المال والعجل وكل شئ، وحل محلها الفقر والضياع والعدم والهلك!!.. 3- الموت البشع: " وبنوك وبناتك يسقطون بالسيف " " عا 7: 17 " وأى منظر أشد هولا أو رعباً، من منظر الأولاد والبنات، وهم يقتلون على مرأى عينيه،.. أليس هؤلاء الأولاد أو البنات هم الذين من أجلهم سعى لاقتناء الثروة، وجمع الكنوز، وتكديس المال، وكان أقصى ما يحلم به أن يوفر لهم الحياة الهانئة والعيش الرغد؟، وها هو المال يذهب، وفى إثره يقتل أحب الناس إليه فى الأرض!!.. 4- النهاية التعسة: " وأنت تحرث فى أرض نجسة " " عا 7: 17 " ولم يبق للرجل بعد هذا كله سوى جسده، ونفسه،.. وهما أيضاً معاً سوف يعذبان، إذ سيؤخذ إلى السبى، ويبقى هناك على أتعس الذكريات وأشرها فكراً، وسيموت محاطاً بالدنس من كل جانب، لأن الدنس ملأ نفسه من الداخل، وهل لنا أن نتصور أمصيا وقد قبض عليه وسار سير المسبيين فى الأرض، وجر كما يجر الحيوان بالسلاسل والأغلال، وسار فى الفيافى والقفار، حتى انتهى إلى الأرض القريبة، وعاش ميتاً، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وهوى وثوى فى الأرض النجسة الغريبة كأتعس ما تكون نهاية القصة والمأساة لأى إنسان أحسن ظنه بالأيام والليالى، ولم يدر أن الزمن قلب، ومفاجآت الحياة للأشرار دونها كل مفاجأة.. 5- سبى الأمة كلها: " وإسرائيل يسبى سبياً عن أرضه " " عا 7: 17 " ومن العجيب أن يقال هذا الكلام فى أيام يربعام الثانى ملك إسرائيل، إذ كانت البلاد، فى ألمع أيامها الذهبية، من الوجهة السياسية والاجتماعية، وكان الناس ينامون على أسرة من العاج، كما نرى فى نبوات عاموس، وكانوا يسترخون على نغم الموسيقى الراقصة أو الحالمة " انظر عا 6: 1- 7 " ولكن عاموس - شأنه شأن الأنبياء الصادقين - لم يخدع بالمظهر البراق أو الصورة الخلابة، إذ رأى الدنس والخطية والخراب والموت خلف الكل،.. وعندما جاءت هذه النهاية كانت مرعبة مرهبة فظيعة، إذ لم يسقط الأسباط العشرة تحت جحافل الأشوريين فقط، بل قضى على كيانهم السياسى والاجتماعى والقومى والدينى إلى الأبد. وإلى اليوم، لا يكاد يعرف أحد مصير هذه الأسباط. لقد كان عقابهم كخطيتهم قاسياً مفزعاً مروعاً رهيباً!! أجل: لأن أجرة الخطية هى موت، وأما هبة اللّه فهى حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا " " رو 6: 23 "..
المزيد
15 أبريل 2021

شخصيات من الكتاب المقدس إمرأة لوط

«ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح» مقدمة لست أظن أن هناك نصبًا تذكاريًا أعجب أو أغرب أو أصدق أو أقدم من جثمان امرأة انتصب في الطريق وتجمد على هيئة عمود ملح، وكانت المرأة كما نعلم امرأة لوط منذ قرابة أربعة آلاف عام ما بين سدوم وعمورة وصوغر على مشارف البحر الميت في فلسطين!! والنصب التذكارية تهز في العادة وجدان الإنسان، وتثير فيه أعمق المشاعر، وأصدق الأحاسيس وأقوى الانفعالات، وهل يمكن أن يقف الإنسان مثلاً من نصب الثلاثمائة اسبرطي الذين سقطوا في معركة ترمبولي ويقرأ المكتوب: أيها المسافرون أذهبوا وقولوا لاسبرطة إننا متنا هنا طوعًا لقوانينها المقدسة، دون أن يحيي بإعجاب الجنود الأبطال الذين وقفوا في وجه الغزاة على هذا النحو المثير الرهيب! وهل يمكن أن نرى مئات أو آلاف النصب الموزعة هنا وهناك في أرجاء الأرض على مر التاريخ، وهيو تحكي ما لا ينتهي من قصص المغامرات والبطولات والمآسي والأمجاد بين بني البشر دون أن تتعلم وتتحكم وتتعظ! على أنه وإن كانت بعض صور المسخ أو الغفلة أو التزييف أو ما أشبه تلحق بالكثير من هذه النصب فتكون أشبه بما تخيله الكاتب الساخر المعروف برنارد شو، عندما صور انجلترا، وقد اختارت جثة واحد من المشوهين تمامًا في الحرب ودفنته في تكريم لائق في قبر الجندي المجهول وشادت له النصب الخاص بذلك، ولدهشة الانجليز وجدوه يتكلم اللغة الألمانية، اذا كان واحداً من الجنود الألمان الذين سقطوا قتلى بين الإنجليز،... إلا أننا في قصة اليوم سنسمع الشهادة الحقة، من يسوع المسيح نفسه عندما قال: اذكروا امرأة لوط!!... ومن الغريب أن الانسان لا يحتاج للذهاب إلى البحر الميت ليرى هذا النصب التذكاري العجيب، اذا أنه ينتصب في العادة في كل مكان وزمان، في صورة أي إنسان تأتيه الظروف الطيبة في باديء الأمر، فيتعلق بها، ويسير معها ولكنه لا يلبث أن يتحول عنها منجذبًا وراء باطل هنا أو غرور هناك، وقد أحب المسيح الشاب الغني الذي سار أول الأمر على أروع ما يكون المثال، إلا أنه ودعه آخر الأمر بالنظرة الباكية الحزينة لأنه كان ذا أموال كثيرة وقفت كالعثرة الكأداء في مجده الأبدي!!...، وعاشت امرأة لوط لتكون الصورة عينها، لمن بدأ حسنًا ولم تقطع الشوط كله، فصارت عبرة، تروي، وستروي حتى تنتهي الأرض وما عليها، عندما يأتي المسيح في مجيئة الثاني العظيم العتيد!!.. وها نحن نتابع قصتها فيما يلي: المرأة والبداءات الحسنة لا يذكر الكتاب المقدس شيئًا عن حياة هذه المرأة قبل أن تتزوج لوطا، لكن الرأي الراجح أنها لم تكن من أهل سدوم وعمورة، وأنها جاءت مع لوط من أور الكلدانيين لأن لوطا قضى في سدوم وعمورة ما يقرب من عشرين عامًا، وهذه المدة لا يمكن أن تكون كافية ليتزوج فيها وينجب، ويصاهر، ويبقى معه في بيته أصغر ابنتين غير متزوجتين، وتصلحان للحياة الزوجية، اذن فهذه المرأة جاءت مع إبراهيم وسارة ولوط، فهي أحد أعضاء القافلة العظيمة المقدسة التي خرجت من أور الكلدانيين، تنشد غاية من أعظم الغايات التي وضعت أمام الإنسان في الأرض، ولم يكن خروج إبراهيم من أور الكلدانيين بدافع الظن أو الوهم أو الخيال، بل على العكس كان مدفوعًا برؤيا حقيقية مجيدة أو كما يقول استفانوس: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو فيما بين النهرين».. وما من شك بأن هذه الرؤيا، لم تسيطر على إبراهيم وحده، بل استولت على الذين كانوا معه، ومن بينهم امرأة لوط، فالمرأة بهذا المعنى، كانت تنتسب إلى عائلة، لا شبهة في أنه لم يكن هناك على ظهر الأرض في ذلك الوقت من هو أسمى منها وأعظم وأقدس، فاذا تصورناها نهرا مثل هذا المنبع الصافي الرقراق، كان لنا أن نتصور المجرى يندفع في جلال وفخامة وعظمة، قل أن يكون لها نظير ومثيل، ومن المتصور جدًا أن المرأة استمعت مع لوط زوجها إلى الكثير من التعاليم من أبينا إبراهيم، بل ومن المتصور أيضًا أنها أخذت الكثير من مباديء سارة في تقديم المحرقات وعواطفها، هذا إلى جانب شركتها، كواحدة من العائلة في تقديم المحرقات والذبائح التي كان يقدمها ابراهيم على المذبح أمام الله، كانت المرأة أذن ذات بداءات واضحة في الرؤيا والإيمان والتعليم والعبادة والخدمة والحق. المرأة والتجارب الزاحفة على أنه إلى جانب هذه كلها، كانت هناك سلسلة من التجارب تزحف على قلب المرأة، وتأخذ سبيلها إلى هناك، لتسكن وتبقى وتتأصل وتتزعزع، ولعل أول هذه التجارب، تجربة الحسد، اذ ترى إبراهيم ينمو في كل شيء، ويتضاءل لوط إلى جانبه، ولا يكاد يظهر أو يبين فثروة إبراهيم، ومركزه، ومجده، وعظمته لا تكاد في تصورها، تعطي لابن أخيه شيئًا من هذا القبيل، ومهما أخذ لوط فانه يقع على الدوام في الظل، أو الظلام، مما لا تستطيع تقبله أو تصوره على الإطلاق، وويل للإنسان اذا بدأ قصته بالحسد، اذ تختل فيه كل الموازين ويخشى أنه لا يستطيع أن يحكم على شيء واحد حكماً صادقًا سليمًا، فاذا قيل لها إن إبراهيم، هو الأب، وهو الأصل، وهو الذي جاء بلوط، ولم يأت لوط به، وانه صاحب الفضل على لوط في كل شيء! فانها ترفض هذا المنطق، ولا تعترف بأصل أو فضل، بل لعلها ترى العكس، على اعتبار أن إبراهيم شيخ مسن، وأن لوط هو الأصغر، وأن أمامه الحياة والدنيا والمستقبل، وهو الأجدر بأن يأخذ كل شيء دون منازع، والحسد اذا بدأ في النفس، لا يبقي هناك وحده بل يجر وراءه كثيرًا من الرذائل والمفاسد! وقد جر إلى نفس هذه المرأة وزوجها رذيلة الطمع التي أوجدت المخاصمة بين رعاة مواشي إبراهيم ورعاة مواشي لوط، ولم تكن عين لوط وحدها هي التي رأت كل دائرة الأردن أن جميعها سقي كجنة الرب كأرض مصر، بل لعل لوطا أطل على الأرض، من خلال عيني زوجته أو على الأقل وجد منها كل تشجيع ومساعدة لنقل خيامهما إلى سدوم، بهدف الوصول إلى الثروة التي ان لم تكن أعظم من ثروة إبراهيم، فلا يمكن أن تكون أقل بحال من الأحوال، وقد صدق الكتاب عندما ربط بين الطمع وعبادة الأوثان في قول الرسول بولس: «الطمع الذي هو عبادة الأوثان» وقد كان من الصعب أو المستحيل على هذه المرأة أن تعبد الله، عبادة قوية صادقة خالصة، وتعبد في الوقت نفسه المال، أو تخدم السيدين معًا، وهي في الواقع واحدة من ذلك الصف الطويل في ركب البشرية الذي تم فيه القول: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة!!»... ويوم أكثرت قطعانها السارحة في أرض سدوم، قلت رؤياها لله، أو كانت هذه القطعان بمثابة الغيمة الكبيرة في سماء الشركة بينها وبين الله، والطامعون في العادة لا يقفون عند حد ولا يقبلون أن يكون المال هو الشيء الوحيد، فقد كانت المرأة تطمع في شيء آخر، المجد والشهرة والمركز العالمي، وهي لهذا لا تقبل أن تقف على أبواب سدوم، بل لابد أن تدخل داخل أسوارها، وهي لا تقف في الطرف من سدوم، بل لابد أن يكون بيتها في أفضل مكان هناك، وقد تم للمرأة ما طلبت اذ ظلت وراء زوجها تدفعه خطوة فخطوة، حتى أصبح يجلس في باب سدوم، وهذا لا يمكن أن يفعله أحد الا اذا كان عمدة سدوم أو حاكمها كما يعتقد الكثيرون من الشراح، تفسيرًا للقول الذي ذكره أهلها عنه: «جاء هذا الإنسان ليتغرب وهو يحكم حكمًا» كانت المرأة تطرب غاية الطرب، لمن يناديها بزوجة العمدة أو زوجة الحاكم في سدوم، وعلى استعداد أن تدفع الثمن الذي يدفعه الباحثون عن الشهرة والمجد العالمي، ألا ويل للإنسان من هذه الضربة القاسية التي يدفعها من حق وحياة وكرامة وسلام على قرعات كاذبة من الطبل الأجوف بين الناس، ويوم فعل الحسد والطمع والبحث عن الثروة والشهرة عمله في قلب امرأة لوط، لم تعد تفكر في مبدأ، أو تهتز لخطأ، أو تفزع لرذيلة، فلا بأس على بناتها أن يتزوجن أشر الناس ولا بأس على زوجها أن يغلب من سيرة الأردياء، ويعذب نفسه كل يوم بأعمالهم الآثمة، ولا بأس عليها أن تأكل وتشرب وتعيش في مثل هذا المجتمع، ولا يمكن أن ترجع قط إلى خيام إبراهيم على مقربة منها، وما لها وهذه الخيام البدوية، وهي تعيش حياة أكثر رفاهية، وكيف تقبل الخيمة، وقد ألفت البيت المريح، وكيف تسكن إلى حياة البادية، وقد عرفت أبهاء القصور وعظمتها،... أليس هذا ما يفعله ملايين الناس، الذين يقيسون الحياة بمقاييس مادية بحتة، ويذهبون إلى سدوم، مادام يمكن أن يملكوا بيتًا عصريًا وسيارة ورصيدًا في بنك، ويأخذوا بكل وسائل الترف والترفية، التي تخطر على بال إنسان، أما الأخلاق أو المباديء أو المثل، فلا شأن لهم بها، اذ كانت لا تملك أن تعطيهم لقمة دسمة، وفراشًا ناعمًا، وحياة وثيرة، وعيشًا هنيئًا كما يحلمون، ويحلم إنسان العالم على الدوام على هذه الأرض!!. وهل رأيت بعد هذا كله كيف زحف الحسد، والطمع، وحب الشهرة، والمركز، وحياة الترف إلى قلب هذه المرأة، التي لم تدخل إلى سدوم لتسكن فيها فحسب، بل دخلت سدوم بأكملها في قلبها، وأصبحت هي وسدوم شيئًا واحداً في الطبيعة والمصير!! المرأة والخسارة الفادحة وما أكثر ما توالت على المرأة وزوجها وبيتها من خسائر فادحة في مدينة سدوم، ولعل أولى هذه الخسائر كانت الراحة المفقودة، لقد أخذت كل شيء، ولكنها مع ذلك لم تأخذ الراحة، ألم يقل الرسول بطرس عن لوط: «مغلوبًا من سيرة الأردياء، في الدعارة اذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة».. أو في لغة أخرى أن لوطا لم يعرف الراحة قط في يوم من الأيام في المدينة الشريرة التي انتقل إليها، وهو يظن أنه سيسعد ويستريح، وكيف يمكن أن يسعد من يستبدل أحلى الترانيم بأشر الأغاني، ولغة البركة بأقسى اللعنات، وصلاة الحمد بأنين التذمر!... أن سدوم وعمورة ومدن الدائرة، لم تكن تعرف في يوم من الأيام إلا الصراخ والآنين والألم والتعاسة والشقاء، في قلب ما تتصور أنه الضحك والترنم والبهجة، إذ لا سلام قال إلهي للأشرار، ولذا لا عجب أن يقول الله لإبراهيم «إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدا....» إن سلم الراحة على الدوام له ثلاث درجات متصاعدة، الدرجة الأولى، درجة الماديات، حيث يأخذ الإنسان حظه المادي في الأرض، وأعلى منها الدرجة الأدبية، حيث يرتفع الإنسان فوق المادة إلى عالم الأدبيات والمعنويات من كرامة وعزة واعتبار وفضيلة وشرف وما أشبه، والدرجة الأعلى والأسمى، الدرجة الروحية، حيث يسير في شركة أسمى وأعلى من كل ما تقدم الأرض، وحيث يأخذ أجنحة النسور، ليعلو على كل أجواء الدنيا الخانقة القاتلة، ويوم يفقد الإنسان ما هو أعلى من درجات، لن تسعفه الدرجة الدنيا بالراحة، مهما أخذ فيها واتسع وملك! كما أن امرأة لوط خسرت شيئاً آخر، إذ خسرت عظة الملائكة، ويبدو أن الله أرسل لها هذه العظة، بعد إن فقدت عظات زوجها كل أثر في حياتها، اذ يبدو أنها كانت تنظر إلى كلماته ونصائحه، كما نظر أصهاره إلى ما قال، وكان كمازح في أعينهم، وشاء الله أن يرسل لها ملاكين يعظانها، عن الخراب الوشيك الرهيب الذي سيقع على المدينة، ولكن تأثير العظة كان وقتيًا وإلى لحظات، فما أسرع ما فقدت الرسالة تأثيرها، وما فعله الملاكان عند بابها بضرب السدوميين بالعمى، وهي مثل كثيرين الذين يمكن أن يقال لهم عند ما تخلو حياتهم من زيت النعمة: لو أننا نتكلم بألسنة الناس والملائكة، فما أنتم بسامعين أو منصتين لأن حياتكم منزعة بالماديات، وآذانكم مشغولة، عن سماع رسالة الحياة، بضجيج هذا العالم وصراخه!! وجاء في أثر هذا ايضًا، خسارة أولادها الذين بقوا في سدوم، وبناتها وأصهارها، والعار الذي لحق بالخارجتين من المدينة أيضًا، وهي خسارة أقسى وأشر، من كل خسارة مادية، وقد يستطيع الإنسان أن يعوض في المدى البعيد أو القريب كل خسارة مادية، ولكنه يعجز أبدًا عن تعويض خسارة الأرواح الضائعة في الحياة الحاضرة أو العتيدة أيضًا، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وخسر نفسه، أو ماذا يعطي فداء عن نفسه! على أنه من المثير حقًا، أن المرأة فقدت إلى جانب هذا كله ما سعت وشقت وتعبت في الحصول عليه، إذ فقدت الثروة بأكملها، والشهرة بأكملها، والنفوذ بأكملها، لقد تحول كل شيء أطلالا وأنقاضًا، سعى إليها اليوم والغربان وبنات وآوي، ومن المؤكد أنها لم تجد شيئًا الا الدمار والخراب، وآخر الكل فقدت المرأة نفسها، وسواء كان هذا بسبب الشك الذي ربما تسرب إليها، آذ قطعت شوطًا طويلاً بعيداً عن المدينة، دون أن يحدث هذا الانقلاب الذي حدث عن شروق الشمس في الصباح، أو لأنها أمتلأت بالحزن والحنان والأسى، على ما تركته هناك في المدينة من أحياء وأموال، أو لأنها لم تستطع أن تدرك للحياة معنى بعد أن فقدت كل شيء، سواء كان الشك أو الحنان أو اليأس، أو جميعها مجتمعة معًا، فان المرأة لم تنتفع على الإطلاق بما سارته من شوط طال أو قصر في طريق الخلاص، وتساوت مع أهل سدوم، رغم البداءات الحسنة في سيرها، من أور الكلدانيين، وفي صحبة إبراهيم وفي خروجها مع زوجها، وبنتيها والملاكين، فيما يشبه الركض على الطريق! وكل هذا لأنها نسيت ما ينبغي أن يعلمه الكل من أن الشوط ينتهي بصوغر، وأن المتخلف الذي يتراجع في الدقائق الأخيرة عن الوصول إلى صوغر، ستلحقه الكارثة والضياع والخراب، ولا فرق بين الاثنين، ما دام كلاهما لم يخرج بعد من دائرة الأرض التي دمرتها الخطية وقلبها الله! هل لنا بعد ذلك كله، أن نذكر أن المرأة، وقد أفزعت ولاشك زوجها وبنتيها، وهي تتحول فيما يشبه الصاعقة أمام عيونهم، إلى عمود ملح، يرنو بعينين فقدتا النور والضياء، إلِى مدينة سدوم، هل لنا أن نذكر، بأنها قد جعلت بهذا المعنى عبرة لجميع الأجيال، كما أضحت سدوم وعمورة سواء بسواء، وأنها ستبقى هكذا حتى يأتي المسيح حسب قوله الصادق الأمين المبارك «هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء. اذكروا امرأة لوط...»!.
المزيد
08 أبريل 2021

شخصيات من الكتاب المقدس المرأة الشونمية

وفي ذات يوم عبر اليشع إلى شونم، وكانت هناك امرأة عظيمة... مقدمة تختلف مقاييس الناس اختلافا بينا كبيراً حول تحديد من هو العظيم في هذه الأرض!! ولاشك أن الكثيرين جداً يحكمون على العظمة بالنظر إلى الظاهر في الإنسان، فالإنسان عظيم على قدر المظهر الذي يعيش به بين الناس، وهذه العظمة، ليست في الواقع إلا عظمة القشور، وقد رفضها المسيح وهو يتحدث عن عظمة المعمدان قائلاً: «لكن ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك.... الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان...»، ولو كانت القشور هي العظمة الحقيقية، لخرج لا الرسول بولس أو التلاميذ فحسب، بل لخرج المسيح نفسه الذي لم يكن له أين يسند رأسه.. وقد يقيس آخرون العظمة، على قدر ما يملك الإنسان من نفوذ أو سيطرة أو استبداد أو طغيان، ومن ثم جعلوا في القمة بين العظماء، جبابرة الحروب أمثال الاسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم، أو من وصفهم السيد بالقول: «إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم يتسلطون عليهم».. وقد يرى آخرون العظمة في المفكرين والفلاسفة ممن يرفعون مصابيح النور ومشاعل المعرفة هداية للحائرين في الطريق الإنساني المظلم، ومن ثم عدوا في مقدمة العظماء سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة القدامى والمحدثين، ووجد من قاس العظمة عند المخترعين والمكتشفين والعلماء من رواد الطريق إلى الحضارة والمدنية والرفاهية بين الناس، لكنني أعتقد أن العظمة الحقيقية تبدأ من عظمة الإنسان على نفسه، وانتصاره على ما في أغوارها من باطل، والعثور على معنى وجوده ورسالته في الأرض، والخدمة والتضحية والبذل، وقد كانت الشونمية بهذا المعنى واحدة من العظيمات اللواتي سطرت عظمتها في وحي الكتاب بأحرف بارزة جليلة، وقد يكون من الخير والحق أن نتأمل قصتها العظيمة فيما يلي من صور: من هي الشونمية لم يذكر الوحي لنا اسم المرأة، ولا نعلم سوى أنها من قرية شونم، والتي كانت تقع على بعد خمسين ميلا إلى الشمال من أورشليم، وإلى سبعة أميال إلى الجنوب من المدينة التي عرفت فيما بعد بالناصرة والتي عاش فيها المسيح مخلص العالم، ومع أننا لا نعرف الكثير عن حياة هذه المرأة، إلا أننا نعلم أنها كانت من الطبقة المتوسطة الغنية، وأن بيتها كان من البيوت الظاهرة في القرية، بل وربما أغناها وأيسرها، وأن لقمة العيش كانت سهلة وميسورة، وأنها كانت تملك أرضًَا، تدر عليها الوفير من العيش والحياة، وأنها يوم اضطرت إلى الهجرة لمجاعة طارئة رد الملك لها أرضها المغتصبة، والحياة كانت هادئة وطيبة للمرأة، حتى أن أليشع عندما سألها عما اذا كان يعوزها شيء، ردت بأنها ساكنة في وسط شعبها، لا تقلق أحدا، ولا أحد يتعرض لها بالإقلاق أو المضايقات أو الترفع على من حولها من القرويين أو الريفيين كما يفعل بعض الثراة أو الأغنياء من أهل الريف، بل يبدو أنها كانت امرأة وديعة مجبولة على روح الوداعة والتواضع، وكانت المرأة لها أكثر من ذلك الكرم القروي الطبيعي غير المتكلف، فهي لا تعطي فحسب، بل تسر بالعطاء والجود والكرم، وعلى وجه الخصوص الضيوف العابرين في الطريق، والغرباء الذين يحتاجون إلى معونة ومساعدة، على أن المرأة تميزت أيضًا بالتقوى العميقة الصادقة، فكل حركاتها وسكناتها، وكل مشاعرها وعواطفها، وكل ما صدر عنها من أفعال أو انفعالات كانت تكمن وراءه روح امرأة تقية عميقة التقوى، تخاف الله وتحبه، وتقبل منه الآلام والآمال، بوداعة وتسليم ورضا وخشوع وسكينة وحب!! ولعل هذه كلها هي التي أعطتها ذيوعًا وشهرة أكثر من زوجها، الذي أخذ مكانه في الظل إلى جوار شخصيتها القوية العظيمة الواضحة!!.. الشونمية ومظاهر عظمتها وإذا كانت الشونمية، توصف في المعنى العام بالمرأة العظيمة إلا أن مظاهر عظمتها قد ظهرت على وجه الخصوص في بعض المواقف الموثرة البطولية في عرض حياتها وسيرتها، ويمكن أن تراها بوضوح فيما يلي: عظمة التقوى رغم الحرمان من السهل على الإنسان أن يتصور التقوى تسير سيرها المطرد المستمر، مع نجاح الإنسان أو خيره، أو سلامته، أو مدى ما يتمتع به من دسم أو وفرة، ومع أن المرأة الشونمية كان لها الكثير، لتشكر الله عليه، وتغني بالحمد لجلاله، إلا أنها رغم ذلك كانت محرومة من أغلى ما كانت تحن إليه المرأة اليهودية في ذلك الوقت، بل أن هذا الحرمان كان يصور في كثير من الأوضاع والصور، كغضب الله أو قسوته أو شدته، عندما تكون المرأة عاقرًا لا تنجب أو تلد، ولعلنا نذكر المذلة التي كانت تفيض بها مشاعرها من هذا القبيل، ولا يمكن أن ننسى في هذا المجال سارة ورفقة وراحيل وحنة وغيرهن من النساء، ألم تؤثر راحيل الموت على حياة العقم وعدم الإنجاب، وألم تبك حنة في مرارتها القاسية في بيت الله لأنه لم يكن لها ولد!! ولعل الشونمية التي ظلت سنوات كثيرة بلا ابن، قد بكت مرات بلا عدد أو حصر وهي أمام الله في الصلاة، أو في عزلتها من الناس، أو ربما أمامهم، وهي تنشد الولد أو تحن إليه، ولكنها مع هذا كله لم يعرف منها أو عنها قط حياة التذمر أو التمرد أو الشكوى أمام الله والناس، لقد كانت في حرمانها المرأة التقية الزكية الإحساس المفعمة بالتسليم والسكينة والرضا لقضاء الله وأمره، كما كانت بعد مجيئة، ذات المرأة الممتلئة بكل عرفان وشكر وحمد لرحمته وإحسانه وجوده، بل لعلها كانت تقول مع أيوب، عندما تتعرض للإحساس بتجربة لتذمر «هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا فقط أزكي طريقي قدامه...» أجل كانت المرأة في كل عقهما، وبكل عمقها، مظهرًا عظيمًا لتقوى المحرومين من هذا أو ذاك أمام الله.. عظمة الخدمة دون انتظار الأجر ولعل المظهر الثاني لعظمة هذه المرأة كانت روح الخدمة التي تتملكها، دون أدنى تفكير في رد أو جزاء بشري، لقد خدمت أليشع وتعبت في خدمته، على النحو الذي أثار الرجل وحرك مشاعره، فناداها، يطلب إليها أن يرد بعض المعروف مقابل ما سبب لها من انزعاج واهتمام ومتاعب، ولكن المرأة تجيب بأنها لا حاجة لها إلى شيء وهي ساكنة آمنة في وسط شعبها، لقد أوغلت في خدمتها إلى أليشع حتى أنها بنت له في بيتها علية يأوى إليها كلما جاء أو عبر الطريق، دون أن تنتظر جزاء أو شكراً، سوى احساسها العظيم بلذة الخدمة نفسها اللذة التي لا يستطيع أن يدركها سوى أولئك الذين خرجوا من نفوسهم إلى الآخرين، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن محبة الذات إلى محبة الجميع، كل من يمد يده إلى المتعب والغريب والضائع والمشرد والبائس والباكي وما أكثرهم في كل زمان ومكان على ظهر هذه الأرض!!.. عظمة السلام رغم وقوع الكارثة على أن المرأة تبدو في أروع صور العظمة عندما يموت ولدها الوحيد، قرة عينها، وبهجة قلبها، والذي جاء بعد ما ذكرنا من الحرمان القاسي لسنوات متعددة طويلة، والذي عاش سنوات بلغ فيها مرتبة الصبي، التي تجعله يخرج من البيت ويذهب لأبيه في الحقل، أو يجري هنا وهناك كما يجري سائر الأولاد اللاعبين الضاحكين مثله وفي سنه، وقد جاءت الضربة مفاجئة وغير متوقعة إذ كانت ضربة شمس وهو عند أبيه في الحقل، وكانت مسرعة وقاسية ومذهلة، فما أسرع ما يصل الصبي إلى أمه، حتى يموت قرب الظهيرة في حجرها، وهنا يقف الإنسان أمام مشهد من أدق وأقسى المشاهد التي يمكن أن يراها المرء في حياة الناس، كيف تواجه المرأة الكارثة وتتصرف إزاءها! لقد تحولت في دقائق ولحظات إلى أعظم صورة يمكن أن تتصورها من العظمة في مواجهة الفاجعة والآلام، ومع أن المرأة في العادة لا تنصرف بمفردها في مثل هذه المواقف التي تهزم أصلب الأعواد وأشجع القلوب، إلا أنها مع ذلك حرصت على ألا يعلم زوجها شيئًا عن الأمر، إذ قصدت أن تلوذ برجل الله والذي لم يكن في بيتها بل كان في الكرمل على بعد عشرة أميال على الأقل، وإذ يستفسر الزوج عن سر ذهابها تجيب بكلمة واحدة: سلام... وعندما تقترب من النبي، ويفزع إذ يراها مسرعة إليه فيرسل جيجزي بسؤال واحد: أسلام لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد تجيب أيضًا بكلمة واحدة: سلام! وكيف يمكن أن يكون هناك السلام للنفس التعسة الحزينة المرة المفجوعة بل للنفس التي راضت حياتها على الصورة الأولى من غير ولد، وكان يمكن أن تستمر هكذا حتى استيقظ فيها الأمل بمجيء الغلام الذي أضحى هو الحياة بل أهم من الحياة عندها؟ كيف يمكن أن يكون السلام وقد كانت في قصتها الأولى كمن يسير قريبًا من الأرض لا يهتز إذا سقط عليها، ولكنه سرعان ما يصعد إلى أعلى الأدوار ليسقط، ولا يترضض فقط، بل ليتهشم تهشيمًا، ويضحي أشلاء تذروها الرياح، وكيف يمكن للإنسان أن يصل إلى السلام عندما يعصره الألم، وينضح بالتعاسة والدموع! هذا موقف من أندر المواقف وأقساها، ولو أن المرأة واجهته بما لم تواجهه امرأة أخرى إذ تغلق على ولدها ولا تذرف دمعة، ولا يعلو صوتها بتشنج أو نحيب، بل تذهب بصمت مليء بالمرارة إلى رجل الله، لكانت من أعظم النساء اللواتي عرفن في مواجهة الصدمات بشجاعة وصلابة وصبر في هذه الأرض، لكن المرأة ارتفعت فوق المرارة والآلام والتعاسة والأحزان التي لا توصف بشيء أسمى وأعلى وأمجد!!... لقد كانت أشبه بالطائر المرتفع الذي يشق طريقه إلى أعلى السموات مرتفعًا فوق الغيوم والسحب والأمطار ليواجه الشمس المشرقة الرائعة العظيمة، لقد واجهت المرأة المحنة بإيمان عجيب، قل أن يكون له نظير أو مثيل في حياة الناس، لقد آمنت أن الولد الذي جاء بمعجزة، سينهض من الموت ويقوم أيضًا بمعجزة، وقد حول هذا الإيمان نارها الملتهبة سلاماً وعذابها الذي لا يوصف هدوء وسكينة، لايمكن أن تكون من صنع الإنسان أو من قدرة ذاتية عنده، بل من روح الله وشخصه المبارك الذي لا يترك المؤمن، بل يجتاز معه الأتون المحمي سبعة أضعاف ويخرجه منه على نحو خارق من البهاء والجمال والعظمة على مشهد من الجميع ويصورة تذهب مضرب المثل كلما ذكرها الناس كواحدة من أقسى التجارب في حياة البشر على هذه الأرض!! وهل هناك عظمة يمكن أن تداني هذه العظمة في مواجهة المحن والآلام. الشونمية وجزاؤها المبارك كانت الشونمية، وهي تأخذ جزاءها من الله، أشبه بذلك القديس الذي تذكر القصة الخيالية أن الله طلب منه أن يختار أية عطية سيمنحها له المولى مهما كانت غالية وعظيمة وكريمة وأبي القديس وهو يقول الله: لقد أعطيتني ياسيدي فوق ما أطلب أو أحتاج، وأنا أسير إحسانك وجودك، ولا يعوزني قط شيء من الخير، وأجابه الله: ولكني أريد أن أعطيك أكثر فاطلب ما تشاء أو تريد!.. وقال الرجل: إذا كان ولابد يا مولاي!! فاني أرجو أن تعطيني أن أفعل الخير دون أن أحس إني فعلته أو قمت به!! وقال الله له: ليكن لك ذلك!.. وكان الرجل يسير فإذا وقع ظله على مريض شفي وبريء دون أن يشعر!! ولعله من الملاحظ أن المرأة لم تطلب الولد عندما سألها أليشع ولكن الولد جاء نتيجة ملاحظة جيحزي، إن البيت خال من ابن! لقد قدمت المرأة خدمتها وترحيبها وعطاياها تحت إحساسها العميق، بأن هذا ليس من واجبها فحسب بل هو امتيازها الأعظم أيضًا، ورأى الله أن المرأة أقرضته وأعطته وهو لا يقبل أن يكون مديونًا لأحد، وهو إذ يعطي إنما يعطي أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن توازن بما يقبل أو يأخذ، ألم يقل السيد: «من يقبل نبيًا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ومن يقبل بارا باسم بار فأجر بار يأخذ ومن سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره».. وهل ضاع أجر المرأة، ألم تأخذ الولد، ولم تأخذه مرة واحدة في الحياة. بل أخذته مرتين؟ وألم تأخذ خيرًا سابقًا ولاحقاً لما قدمت لرجل الله من ضيافة أو كرم، عندما فاض عليها الله بالخيرات الكثيرة في بيتها، وعندما حفظ الله لها أرضها طوال المجاعة التي استمرت سبع سنوات، واغتصب الغاصبون حقلها، فلم يرد لها الملك الحقل عندما صرخت إليه فحسب، بل رد لها أكثر من ذلك غلاته التي أخذت طوال فترة غيابها عن شعبها وبلادها، طوال السبع السنوات من المجاعة القاسية.أيتها الشونمية العظيمة! هل يتعلم الناس، وهم يبحثون عن العظمة كيف تكون أصلا في العادي من الحياة في السماحة والجمال والدعة والخدمة بينهم، قبل أن تكون في طلب الخوارق والعجائب والمعجزات، والله على استعداد أن يعطي هذه وتلك، لمن يعيش ويحيا كما عشت وحييت، وكنت بحق في الحالتين كما ذكر الوحي «وفي ذات يوم عبر أليشع إلى شونم وكانت هناك امرأة عظيمة».
المزيد
11 مارس 2021

(الصوم الكبير)

الفرحة بعودة صوم الاربعين المقدس كان بداخل تابوت العهد المقدس لوحا الناموس والوصايا المكتوبة بأصبع الله، وعصا هرون الحيية التي افرخت اوراقا وثمارا في ليلة واحدة بعد ان كانت قد قطعت، والوعاء الذهبي الذي كان يحتوي على المن النازل من السماء. وقد استولى الفلسطينيون على التابوت بعد ان هزموا الإسرائيليين في معركة قد خططوا لها. واذ اغضب الإسرائيليون الله عاقبهم بالقروح الذي يستعصي شفاؤها، فوضعوا التابوت على عربة واعادوه بكل احترام مع ذبائح كثيرة معترفين بخطاياهم.بيد انه مع عودة التابوت من عند الاعداء بهذه الطريقة العجيبة الالهية، دون ان يجد ذلك احد من الإسرائيليين ودون معركة، كانت اذهانهم بعيدة عن ذكر الله لدرجة ان العجائب العظيمة التي رأوها لم توقظ ضمائرهم النعسة، فلم يحمدوا الرب صانع هذه العجائب، في حين انه كان ينبغي ان يتهللو ويفرحوا فرحاً روحياً مثلما فعل داود النبي فقد تهلل ورقص امام تابوت العهد عندما اتوا به الى الهيكل في ظروف مماثلة. فماذا يقول الكتاب المقدس عن اولئك الذين رأوا التابوت في الظروف الاولى؟ وضرب اهل بيتشمس لانهم نظروا الى تابوت الرب. وضرب من الشعب خمسين الف رجل وسبعين رجلا، (1صم 6: 19). عندما اسمع ذلك فأني ارتعب وارتجف لان دورة هذه الاربعين المقدسة لم ترجع الينا من عند الفلسطنيين، بل من السموات عينها، اذ ان الامر بالصوم صدر الينا من هناك. اني انحني امامه: وليس ذلك فقط، بل استقبله بسرور واتهلل وافرح، وادعوكم ايضا ايضا ان تحذوا حذوى لانه يلزم ان يكون الفكر سليما حتى يصير العمل سليما، فالفكر مصدر عمل. لماذا صام المسيح؟ ان الصوم لا يجلب الواحا حجرية، بل ينقلنا الى محبة المسيح ذاته، الله، المشرع والملك، الذي صام هذا الصوم من اجلنا.متى كان الطبيب المداوي محتاجا الى الادوية؟ ان الادوية لا تنفع حقا للمرضى. فكيف يكون ذلك الذي لم يعرف خطية ممدودا ضمن المرضى؟ لكنه لأجلنا ولأجل خلاصنا تمجد، ولأجلنا صام، وليس عن ضرورة. ويشهد بذلك بولس الرسول اذ يقول: “فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح انه من اجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا انتم بفقره” (2كو 8: 9).ان الله ليس محتاجا الى إطلاقا. وبنعمته لنا قيل ان يصير فقيرا من اجلنا وهو الغني.قال بولس الرسول هذه الكلمة العظيمة لكي يبين امورا كثيرة. ويقول: انكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح، اننا في حاجة الى ابصار روحية حادة لكي نفهم ذلك. فإن الغني بطبعه قد جعل نفسه فقيراً لأجلنا، اذ اخضع ذاته فصار انساناً فقيراً مع انه الله في نفس الوقت.كيف يستطيع من لا يكون بطبعه ان يجعل نفسه فقيراً؟ وما هو الغني الذي يعطيه لنا من هو ليس سيدا لكل الاشياء بجوهره؟ ان كل من يقول ان المسيح ذو طبيعتين بعد الاتحاد غير المنطوق به يعزو صوم المسيح الى الطبيعة البشرية، وكذلك كل اعمال التدبير الالهي المتواضعة، ويقسم المسيح، ويجرد الرب الغني من افتقاره الاختياري. فيهدم سر التقوى العظيم. لان الله المتأنس لم يصم عن ضرورة، ولكنه صام لأجل تعليمنا. وعندما جاع بالحقيقة كان ذلك بإرادته وهو المسير لقوانين الطبيعة. تجربة المسيح كذلك ايضا عندما جاء ليربط القوي بعظمة قدرته الالهية ويأخذ اسلحته، “ولكن متى جاء من هو اقوى منه فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه” (لو 11: 22). فإن ذلك بالتأكيد كان من اجلنا نحن الذين كنا تحت سيطرة الشيطان، فقد اخذ المسيح التجربة على عاتقه وصدّ هجمات العدو وكان يرد بطريقة متواضعة بشرية على كلماته الماكرة. وبذلك اعطانا التعاليم التي يلزمنا السلوك بمقتضاها اثناء معاركنا، كما اعطانا التدريبات التي تسمو بنا نحو الكمال، وكذلك كسر العدو وشل قوته. ويقول بولس الرسول: “لأنه في ماهو قد تألم مجربا يقدر ان يعين المجربين” (عب 2: 18).ان ربنا يسوع المسيح برسمه لنا طريقة مواجهة التجربة يعطينا معونة قوية تكفي لصد المجرب. فتجربة المسيح لم تكن إذن عن ضعف. وكيف تكون عن ضعف تلك التجربة التي اعطت المجربين المعونة؟ لذلك ايضا فإن الملائكة قد تقدموا وكانوا يخدمونه، مع ان ملاكا واحدا يستطيع بأمر الله ان يقهر الشيطان. يقول: ” ثم تركه إبليس واذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه” ( مت4: 11).وهكذا يتبين لنا امران الهيان. اولهما وجهة نظر التعليم، وثانيهما وجهة نظر الارادة الحرة اذ افتقر لأجل خلاصنا وصام عنا. ضرورة صيامنا من اجل المسيح فمن ذا الذي يحتقر الصوم كأنه امر لا لزوم له ينما اظهر الله مخلصنا ضرورة الصوم لنا؟ ثم اذا كنا ملزمين بتنفيذ اوامر الملوك بمجرد اعلانها بواسطة اعوانهم، فعندما يصوم الله الكلمة المتجسد من اجلنا ويأمرنا ان نصوم مثله، افلا يكون كل من لا يطيع فوراً متطاولا مهيناً؟وكما سمعنا المسيح يقول في الاناجيل: ” من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة ابدية وانا اقيمه في اليوم الاخير” ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وانا فيه. كذلك بما فعله من اجلنا نتصوره بوضوح كأنه يقول لنا: “من يصم صومي ينل الحياة الابدية، ويثبت فيَّ وانا فيه. وايضا بنفس الطريقة من يحمل صليبي ومن يفتقر بفقري، ومن يتبشر بكلمتي، ومن يرتبط حقا بما هو لي”. لأنه انما علم لكي نعمل، وليس لنتعدى وصاياه بتوانينا عن العمل.لو افترضنا ليس ضرورياً ولا يطهر النفس، فهل هذا شرف قليل ان نصوم مع المسيح؟ من يشترك مع الملك في اعماله ينل شرفاً- فهلا يكون للاقتداء بالمسيح الهنا مكافأة الهية؟ الا يجب علينا ان نرغب في تلك الامتيازات الالهية اكثر من الاشياء الزائلة؟ فيما ان الصوم امر عظيم ضروري يقودنا الى الله ويرفعنا الى درجة الاقتداء به تعالى، فلنصم من اجل ربنا يسوع المسيح. اذ اننا نستطيع ان صوماً خاصا وليس من اجل المسيح، مثل العشر عذارى اللواتي بعد ان اشعلن المصابيح البتولية وزينها بعناية، وبعد ان ذهبن للقاء العريس، لم يفزن كلهن بالدخول الى العرس، فقد كان بينهن من اشعلن مصابيحهن من اجل انفسهن وليس من اجل المسيح، لأنهن تحولن عن الشفقة على المحتاجين. هكذا فإننا نستطيع الصوم ولكن صومنا لا يكون من اجل المسيح. ولو اعلن احد الملوك في إحدى مدن مملكته انه يريد ان يتزوج بإحدى فتيات المدينة التي يجدها في يوم معين اجمل من الاخريات شريفة طاهرة مهذبة. افلا يجتهد حقا كل من لديه فتاة في ان يجمع فيها كل زينة الروح والجسد حتى تصير اجمل فتاة، ابتغاء شرف مصاهرة الملك؟فليزين كل صائم صومه بكل زينة كأنه ابنته، خوفا من ان يحسب الملك المسيح صومه غير مقبول. الصوم المقبول فإذا امتنعت عن الاكل ثم اقترب منك احد هؤلاء الجالسين في الساحة يطلب منك صدقة او أي شيء اخر بما هو عندك بوفرة ويسهل عليك جداً ان تعطيه إياه، فطردته بعيداً بدون شفقة ولم تفعل شيء من اجله، بل اكثر من ذلك، كما يحدث كثيراً، ربما شتمته ايضاً، فمعنى هذه الحالة تكون صائماً من اجل نفسك وليس من اجل المسيح.وانك لتأتي عملا مماثلا لو حاسبت المدينين لك بالفضة او الذهب او الفوائد المركبة حسابا عسيرا. ولكن ان كنت على النقيض من ذلك عادلاً بشوشاً ومحباً. تترك جزءاً مما لك عند الناس، خفية وفقاً للإنجيل، ولا تهتم بهذا الجزء وتتناساه حتى لا تظهر عملك فلا يعرف شمالك ما يصنع يمينك، وتصنع رحمة لا يعلم بها الا الله من اجل زوجة وابناء ذلك الانسان الذين يعولهم بعمله، فحينئذ تكون قد زينت صومك بزينة ملكية.واذا كنت تصوم وتشغل في نفس الوقت بالقضايا، فتقدم هذا للمحاكمة وتحبس ذاك في السجن. وتترك اخر يتمزق بالضربات، فحينئذ يكون صومك شريراً مرفوضاً، ويحول الملك وجهه عنك.واذا كنت تطيل الصوم في حرمان شديد من الاطعمة وتتعدى الوقت المناسب، فتبتعد عن الطعام ولكنك تصير حزيناً عابساً، تغضب بمرارة نفس، وتهين وتشتم وتجرح، ترعى الغضب في روحك، واذا نطقت بكلمات الاستهزاء غير الشريفة ومتعت نظرك برؤية النساء والمسرحيات المبتذلة، ومتعت سمعك بالأغاني المائعة، فحينئذ تكون قد نسيت ان الوحل يملأ صومك. ايها الانسان: ان لسانك قد يبس من العطش والحرمان من الاطعمة وليس به رطوبة، ذلك حتى يصير غير مخصب ازاء الإهانة والمشاجرة، فلا تجد الوسيلة التي تخدم بها تلك الاعمال جاهزة فوراً، فلا يحمو غضبك بسبب الصوم.ان الصوم يعلم الحزن، ويدعو الى التواضع، ويطهر العين، فيضبط الانسان نظراته غير المرتبة حتى لا يدخل الاضطراب الى الروح وينتشر بسهولة في كل امور الانسان، فيؤخذ المرء في شباك الشهوة.فإذا كنت تصوم وتذهب بإرادتك الى المراقص والملاعب المليئة بكل الترف وتستمع الى الاغاني الهائجة، فإنك بذلك تعطي فرصة للذين لا يصومون ان يقولوا: “ماذا فعل الصائم اكثر منا؟ و فيم يكون اطهر منا؟ فيم هو اكثر محبة، او اكثر وداعة؟ الم يبدو اكثر قساوة؟ رؤيته مكروهة ومقابلته صعبة، وهو لا يحتمل حتى ليتحاشى الناس تحيته، و كاد ارتعب خوفاً وانا أتمثله يكاد بعض من يقترب منه. الافضل للإنسان ان يأكل لحماً ويشرب خمراً من ان يكون في سلوكه بهذه الكيفية كالحيوانات المفترسة، واخر يصوم ونجده جالسا مع المهرجين الذين يروون النكات في صالات الرقص، يتبيّح لنفسه ان يكون جاحظ العينين في كل الامور الفاضحة.ويتساءل البعض الاخر من الذين لا يصومون ولكنهم لا يندخلون عبثاً فيما لا يعنيهم: “هل انا اقل شأناً من الصائم؟ في رأيي ان قطري خبر من الصوم المقترن بالأعمال السيئة.ويقول ذلك وهو يعتقد انه بار، وربما يكون مريضاً بالبخل اصل كل الشرور وجذرها المر. ويبين لنا خلال هذا القول ان الذين يصومون وفي نفس الوقت يفعلون ما لا يتفق والصوم- وفيه ايضا يحاسبون ايضاً على التجديف الذي يصير بسببهم. ثمار الصوم فيما ان الصوم امر صالح وهو وصية الرح القدس، فهي ثمار صالحة ويتمجد الله بها. ماهي ثماره؟ ان بولس الرسول يعددها في رسالته الى اهل غلاطية: ” اما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول اناة، لطف، صلاح، ايمان، وداعة، تعفف” (غل5: 22-23).ان لم يعط صومنا هذه الثمار غير المنفقة مع اوعية الصوم المقبل، بالرغم من مدحنا لفضيلة الصوم، فإن الرب مخلصنا سوف يقول لنا: “اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدا او اجعلوا الشجرة ردية وثمرها رديا. لان من الثمرة تعرف الشجرة” (مت 12:33).يلزمنا ان نعلم يقيناً ان زيادة الاهتمام بالمظاهر هو رياء عن ثمار الصوم غريباً. فالصوم من اجل الافتخار والمجد الباطل يعد نكبة ولا فائدة منه، لانه مخالف لوصية ربنا له المجد بإخفاء الصوم الحقيقي اذ يقول“ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق اقول لكم انهم قد استوفوا اجرهم. واما انت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك. لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي يرى في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية” (مت 6: 16-18).ان المرائين لا يصومون، انما يريدون ان يظهروا كأنهم نسّاك اطهار وهم يغرقون في شهوات مخزية جداً، ان حالهم يدعوا الى الرثاء بسبب العذاب الذي ينتظرهم.اما نحن الضعفاء الخطاة، فلينجنا ربنا من قساوة الفريسين وتشددهم الكروه الذي يقول عنه الرب لرسله في الانجيل “اولا تحرزوا لانفسكم من ضمير الفريسيين الذي هو الرياء” (لو 12: 1).وأنتِ ايضا ايتها المرأة، عندما تصومين، اقولها لك كلمة خاصة بالاضافة الى الوصايا العامة، احذري الغضب لانه يستهوي النساء بسهولة، ولا تكوني شديدة نحو خدمك، ولا تطيلي الخدمة ولا تضيفي اليها شيئا جديداً، واطلي المعتاد فقط خوفاً من ان يهان الصوم بسببكِ. كوني محسنة لطيفة متواضعة مسالمة حليمة. فلنزين صومنا بالاعمال الصالحة لنجعل منه صوما من اجل المسيح الهنا حتى نحتفل بعيد القيامة ليس بخمير الخطايا العتيق بل بفطير الطهارة والحق والتجديد الكامل الالهي: اذا لنعبد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الاخلاص بالنعمة والرأفة ومحبة البشر اللواتي لذاك الذي دعانا. له المجد الى الابد امين
المزيد
07 مارس 2021

أحد رفاع الصوم

تعلمنا الكنيسة المقدسة في أحد الرفاع المنهج المسيحى في الحياة، ويقوم على الصدقة (1-4) - والصلاة (5-15) - والصوم (16-18) وكأنها تهمس في أذن الموعوظ "صديقى.. ستكون معنا - بالمعمودية - وستسلك كما يليق بهذه المعمودية: الصدقة هى الزهد في المال والقنية والصلاة هى جحد الذات وكسر المشيئة والصوم هو ضبط الجسد"فالكنيسة تضع أمام الموعوظ علامات الطريق، وسر النصرة.. وتميز له ما بين ممارسة المسيحية، والممارسة التي كان يعيش فيها قبل المعمودية سواء كان وثنياً أم يهودياً.فالمسيحية تعرف الخفاء في الممارسة والعلاقة الباطنية بين الآبن (بالمعمودية) والآب السماوى الذى يرى في الخفاء... الصوم الكبير عودة إلى الله "أول وصية" "من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت" (تك 16:2-17). إنها أول وصية بل الوصية الوحيدة في الفردوس... أن يصوم الإنسان عن نوع معين من الطعام... ولا يتناول طعاماً إلا من يد الله.أراد الله أن يقول لآدم: "ليست حياتك من الطعام، بل بى. إذا أكلت بدونى فستموت" وأراد الشيطان أن يثبت العكس لآدم: "إن الحياة، بل والألوهة تكمنان في الأكل فقط، حتى ولو كان مخالفاً لوصية الله الصالحة".وانطلت الخدعة على آدم... فعاش ليأكل... وكرّس الناس كل جهدهم وعمرهم من أجل "لقمة العيش"، وبات الناس لا يفكرون إلا في المال والأكل والمتع الحسية... حاسبين أنها وحدها سبيل السعادة والحياة.. بمعزل عن الله.مع أن الواقع نفسه يعلن فشل هذه الأفكار.. فليست سعادة الإنسان بالمادة بل "بالله الحى الذى يمنحنا كل شئ بغنى للتمتع" (1تى 17:6).أما المادة في حد ذاتها - وبعيداً عن الله؛ فتصير وثناً بغيضاً، وينبوع موت لكل من يتعلق بها... "لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذى إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1تى 10:6). وتمركز الحياة - هذا - حول الطعام، تتسرب دون أن ندرى حتى إلى الروحيين والمؤمنين؛ فصار الصوم في نظرهم هو امتناع عن الأكل. إنه أيضاً تمركز سلبى.ولكن الصوم كما تُعلّم الكنيسة وتشرحه هو العودة إلى الله. العودة إلى الله كمركز للحياة فليست الأموال بل الصدقة، وليست الإرادة بل الصلاة، وليست الأطعمة والشهوات بل الصوم والتعفف. وهذا أول درس تلقنه لنا الكنيسة... (في أحد الرفاع) قبل أن نجتاز معاً رحلة الصوم المقدسة. أ- ففي الصدقة: يعلن الإنسان أن ما لديه من أموال هي نعمة استأمنه الله عليها... أعطاها له كوكيل صالح ليخدم بها الآخرين بكل فرح "المعطى المسرور يحبه الرب" (2كو 7:9)... وإن سعادته ليست في تخزين الأموال بل في إنفاقها في الخير "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 35:20).كذلك في الصدقة يعلن الإنسان أن حياته وتأمينها في يدى الله، وليس في خزائن البنوك، إن القضية ليست في كثرة المال أو قلّته، بل في نظرة الإنسان له ومحبته واتكاله.هل على الله (حتى ولو كان غنياً) أم على الأموال (حتى ولو كان فقير)؟ فهناك غنّى لا يتعلق بالمال وآخر يعبده... وهناك فقير يشكر الله ويسعد وآخر ما زال يعبد المال..ليست حياتنا من أموالنا... بل من الله الذى يعطينا. ب- والصلاة: هي شركة حب يُسلم فيها الإنسان ذاته وإرادته وتدبير حياته ليدى ذاك الذى معه أمرنا. الصلاة هي عودة إلى الله كمركز للحياة ومحرك لها... قديماً قالوا: "الصلاة تحرك اليد التي تحرك العالم"، وربنا يسوع المسيح وعدنا أن "كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه" (مت 22:21). إن مأساة العالم اليوم أنه قد ترك الصلاة، وسعى وراء العقل والحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية بمعزل عن الله...ولا يوجد من ينكر قيمة التفكير بالعقل، والمناداة بالحرية، وتحقيق حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وغيرها من مبادئ سامية رفيعة... ولكن دعنا نعترف - باتضاع - أن هذه المبادئ لم تحل مشكلة الإنسان في كل مكان. آه لو اقترنت هذه، بروح التقوى والصلاة... آه لو اعتنقناها في نور الإنجيل وليس بمعزل عن الله... آه لو ارتقى الضمير وتنزه عن الأغراض... لصار العقل بالحقيقة خلاقاً للخير... وصارت الحرية سعادة بالمسيح "فإن حرركم الآبن فبالحقيقة تكونون أحراراً" (يو 36:8).وصارت حقوق الإنسان مُصانة بالحب وبالنعمة وبالعلاقات السليمة بين الناس.. وليس بالتحايل على القانون.. وبالغش وبالمحاباة ليست الحياة بإمكانيات الناس بل الله الذى نطلبه في الصلاة. جـ- والصوم: الصوم عن الطعام هو إعلان عملى عن أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله" (لو 4:4) لقد كانت هذه هي الخبرة التي تعلمها بنو إسرائيل في البرية وصاغها قائدهم العظيم موسى النبي في هذه العبارة بالروح القدس: "وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر، لكي يذلك ويجربك ليعرف ما في قلبك: أتحفظ وصاياه أم لا؟ فأذلك وأجاعك وأطعمك المَنَّ الذى لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك، لكي يعلِّمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" (تث 2:8،3).والسيد المسيح في تجسده كان يقصد أن يُطعم تابعيه بالبركة... في معجزتى إشباع الجموع، لكي يقول لهم: ليس السر في الخمسة أرغفة ولا السمكتين ولكن في اليد التي تقدم هذا القليل... سيشبع الناس ويفضل عنهم بالبركة.والسيد المسيح في تجسده كان يقصد أن يُطعم تابعيه بالبركة... في معجزتى إشباع الجموع، لكي يقول لهم: ليس السر في الخمسة أرغفة ولا السمكتين ولكن في اليد التي تقدم هذا القليل... سيشبع الناس ويفضل عنهم بالبركة.وكأننى حينما أصوم أتقدم لله بذبيحة جسدى مثلما فعل أبونا إبراهيم مع ابنه الحبيب الوحيد إسحق الذى بسببه قبل المواعيد. أتقدم رافعاً سكين الجوع على جسدى الضعيف المنهك مقدماً إياه ذبيحة حب وطاعة وإعلان إيمان.. إن الله أهم لدّي من جسدى ومن كل نفسى.حينئذ يتكلم معى ملاك الرب: "لا تمد يدك إلى الغلام (جسدى) ولا تفعل به شيئاً، لأنى الآن علمت أنك خائف الله، فلم تـُمسك ابنك وحيدك عنى" (تك 12:22).ويرفع الصائم عينيه - كما فعل أبونا إبراهيم - وينظر "وإذا كبش وراءه مُمسكاً في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه" (تك 13:22)... وكبشنا المذبوح عنا وعن جسدنا هو ربنا يسوع المسيح المذبوح على المذبح في سر الإفخارستيا... التي لابد أن ينتهى الصوم بها... ليحقق لنا هذا المعنى الجميل. لم تكن حياة أبونا إبراهيم مرهونة بحياة إسحق... بل بالله... وعندما قدم إبراهيم إسحق برهن على إيمانه هذا... ونحن حياتنا ليست مرهونة بالجسد... بل بالله... والصوم يبرهن على ذلك وكما أن الله افتدى إسحق بكبش... كذلك يفتدينا بدمه وجسده على المذبح وكما أن المذبح لم يميت اسحق بل عظمَّه وصار بالحقيقة بركة وجداً للسيد للمسيح بالجسد كذلك لا يميتنا الصوم بل يباركنا ويعظمنا ويجعلنا أهلاً لبيت الله ورعية مع القديسين
المزيد
25 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس يونان

" قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة "" يون 1: 2 " مقدمة نظر الصبى الزنجى الصغير، إلى المدرس الأبيض وسأله: هل كان المسيح أبيض اللون؟.. وقال المدرس: أعتقد ذلك.. ولكن لماذا تسأل هذا السؤال أيها الصبى!!؟ أجاب: إذاً فهو لم يأت لنا نحن السود!!؟.. ووقف المدرس هنيهة متأملا قبل أن يقول: أظن يابنى أن شمس فلسطين قد لوحته، إذ أنه جاء إلى العالم كله، للأسود والأبيض، ولجميع الأجناس لأنه يحب الجميع كان يونان النبى أول مرسل قديم أرسله اللّه إلى الأمم، وقال بروفسور كورنل عن سفره: « لقد قرأت كتاب يونان ما لا يقل عن مائة مرة، وينبغى أن أعترف جهاراً، دون أن أخجل من ضعفى، إننى ما تناولت هذا الكتاب العجيب أو تحدثت عنه دون أن تنهمر الدموع من عينى، ودون أن تسرع نبضات قلبى، فهذا السفر الصغير من أعمق وأعظم ما كتب على الإطلاق، وإنى أقول لكل إنسان يقترب منه: اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذى أنت واقف عليه أرض مقدسة.فمن هو يونان صاحب هذا السفر، وما هى الرسالة التى أوكلت إليه، وحاول التملص منها، ثم اضطر إلى قبولها وأتت بثمر لم يكن ينتظره أو يرجوه وكان هو والرسالة موضوع حنان اللّه وشفقته!!؟؟. دعنا نراه الآن فيما يلى: يونان ومن هو!!؟ لا نكاد نعرف عن يونان سوى بضع عبارات وردت عنه فى العهد القديم والجديد، وبعض التقاليد اليهودية غير الثابتة، وهذه وتلك قد تعطينا ضوءاً كافياً، لنعرف أنه يونان بن أمتاى، من جت حافر الواقعة فى سبط زبولون والتى تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من مدينة الناصرة، والكلمة يونان معناها حماقة « وأمتاى » تعنى حقيقة، وإن كان جيروم يعتقد أن الاسم يونان يعنى « حزين ». وهناك تقاليد متعددة عنه، فالبعض يقول إنه ابن أرملة صرفة صيدا الذى أقامه إيليا من الموت، والبعض الآخر يقول إنه النبى الذى أرسله أليشع ليمسح ياهو بن نمشى، بينما اعتقد آخرون أنه زوج الشونمية التى كانت تضيف أليشع، وأيا كان هو، فإن الثابت أنه تنبأ فى عصر يربعام الثانى، ومن المرجح أنه بدأ نبوته فى أوائل حكم هذا الملك أو عام 785 ق.م.، ويعتقد البعض أنه ذهب إلى نينوى حوالى 763 ق.م. وقد بدأ يونان رحلته وهو هارب من مدينته إلى يافا، الميناء الواقع على بعد اثنين وثلاثين ميلا جنوبى قيصرية، وإلى الشمال الغربى من أورشليم، والتى يقال إنها أقدم مدن فلسطين على الإطلاق، وقد اتجه بالسفينة غرباً إلى ترشيش القريبة من جبل طارق فى أسبانيا، ثم رجع إلى نينوى عاصمة الدولة الأشورية العظيمة، والتى كانت من أعظم وأجمل المدن التى عرفها التاريخ القديم والتى كان محيط دائراتها، عندما ذهب إليها يونان، ستين ميلا أو يزيد، وقد بنيت على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وعلى بعد ستمائه ميل من الخليج الفارسى، وقد كشفت الحفريات الحديثة عما كان لها من مجد ضائع، وعز دارس، ذهب فى بطن الأيام وأحشاء القرون. يونان والقصد الإلهى يكاد إجماع الشراح ينعقد على أنه ليس فى أسفار العهد القديم كله سفر استطاع أن يتجاوز التزمت اليهودى، ويعلن عن محبة اللّه، وأبوته لليهود والأمم، كهذا السفر الصغير الذى لا يتجاوز ثمانى وأربعين آية، ولذا لا عجب أن يرى فيه تشارلس ريد الروائى، أنه أجمل قصة كتبت على الإطلاق، ولا عجب أن تكون هذه القصة سبباً فى مجئ القديس كبريانوس إلى المسيح! والقصة تكشف عن قصد اللّه الثابت والمجيد فى إنقاذ نينوى، والتى كان يبلغ عدد سكانها فى أيام يونان ما يزيد على ستمائة ألف نسمة إذ كان بها من الأطفال الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم أكثر من مائة وعشرين ألفاً (اثنى عشرة ربوة) وكانت مطوقة بسور عظيم يسهل على أربع عربات أن تجرى متجاوره فوقه، أما داخلها فقد كان متسعاً يذخر بالترع والقنوات والميادين، والحدائق والقصور والتماثيل والسلع، والمجوهرات والذخائر والكنوز!!..ولعله مما يسترعى الملاحظة والانتباه، أن اللّه، لكى يثبت قصده، كشف عن هذا القصد: « فأرسل ريحاً شديدة » « فأعد حوتاً عظيماً » « فأعد الرب الإله يقطينة » « ثم أعد اللّه دودة ». (يونان 1: 2 و17، 4: 6 و7) وهل وقفنا لنتأمل الفعل « فأرسل » والفعل الذى كرر ثلاث مرات: « أعد » لقد استخدم اللّه الريح، والحوت، واليقطينة، والدودة، على النحو العجيب المثير لإثبات قصده، أو فى لغة أخرى، أن اللّه كان وراء الطبيعة، والحيوان الضخم، والنبتة الصغيرة، والدودة الحقيرة، لكى يؤكد استخدامه لكل شئ، وهو يثبت قصده عندما تمرد يونان على الرحلة، وبدأ فى الاتجاه العكسى لها، أرسل اللّه له الريح الشديدة العاتية، لتعيده إلى الرسالة التى يلزم أن يؤديها، ويونان كان كموسى، وإرميا، إذ لم يقبل على الرسالة بقلب راغب، واستعداد كامل، كما فعل إشعياء، وهو يقول: « ها أنذا إرسلنى »، (إش 6: 8) وكثيراً ما يرسل اللّه ريحه الشديدة على سفينة حياتنا، وقد تكون هذا الريح فشلا أو ضيقاً، أو اضطراباً أو إفلاساً، أو ما أشبه، حتى تعود هذه السفينة مرة أخرى من ترشيش التى نزمع الذهاب إليها، إلى نينوى التى نرفض أن نتجه إليها،... ومع أن اللّه غضب على يونان، إلا أنه فى الغضب يذكر الرحمة، وقد أعد اللّه لذلك حوتاً عظيماً،... ولم يكن هذا الحوت مصادفة أو خيالا أو رمزاً، كما يزعم النقاد الذين علت القصة فوق إدراكهم، فتصوروها شيئاً يصعب تصديقه، وكان يكفيهم تماماً أن يشير المسيح يسوع سيدنا إلى هذه القصة كواقعة وحقيقة تعتبر صورة أو مثالا لما سيحدث معه هو فى القبر بعد الصليب،.. ولا يستطيع أحد أن يتصور أن المسيح يجعل من قصة رمزية أو خيالية، شبهاً أو رمزاً لقصته هو فى القبر قبل القيامة،... ولو صح هذا، لتحولت قصة المسيح بدورها رمزاً أو خيالاً، وليس موتاً أو صليباً حقيقياً، ألم يقل: «هذا الجيل شرير. يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبى. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل » (لو 11: 92 و03)؟؟. فإذا كان اليهود قد قبلوا هذه القصة مرغمين وأوردها يوسيفوس المؤرخ اليهودى كواقعة تاريخية فى كتاب الآثار، وإذا كانت توبة نينوى لم تكن مجرد خيال أو تصور بل حقيقة واقعة، فإنه يحق لنا أن نورد ما قاله أحد الشراح اللاهوتيين: « إن ديان المستقبل، وهو يتحدث إلى أولئك الذين سيقفون يوما أمام كرسيه، محذراً، كان لابد أن يعطيهم صورة حقيقية مثالا لحقيقتهم، وهم ماثلون أمامه، ويستحيل أن يعطيهم صورة رمزية، لما سيكونون عليه عندما يمثلون أمام عرشه العظيم، فى يوم القضاء الأبدى، كواقعة حقيقية »... فإذا أضفنا أن مصدر الصعوبة القائمة عند من لا يقبلون القصة، ويعتبرونها حلماً حلم به يونان أو أسطورة ألحقت بالكتاب، وهو ما يستحيل على أهل نينوى قبوله كآية تردهم إلى اللّه، ما لم يكن حقيقة ماثلة أمام عيونهم، إن مصدر الصعوبة راجع إلى أنه لا يعقل أن هناك حوتاً يستطيع أن يبلغ يونان، فى بطنه ليستقر ثلاثة أيام ليال، وأنه شئ، يتجاوز تفكيرهم وخيالهم،... وقد أطلق النقد الأعلى هذا الاتهام المردود والذى تصدى له كثيرون من علماء علم الأحياء، والذين قالوا إن هناك نوعاً من الحيتان يمكنه أن يبتلع رجلاً مهما كان حجمه، والحوت كما نعلم يختلف عن غيره من الأسماك، وهو أشبه بالغواصة التى صنعها الإنسان ليبقى تحت الماء أسابيع وأياماً،... وإذا أمكن أن يصنع الإنسان شيئاً من هذا القبيل، فإنه يحسن بنا أن نذكر التعبير الكتابى كما أشار واحد من المفسرين: « فاعد اللّه حوتاً عظيماً »... واللّه لن يعجز على أسلوب عادى أو خارج أن يعد ذلك،... وقد كان أهل نينوى يؤمنون، على ما يعلق هنرى كلاى ترامبل، بخلائق تخرج من البحر نصفها إنسان والنصف الآخر سمكة،... ومع ما فى هذا الخيال من خرافة،... إلا أنه من السهل أن تأتيهم رسالة من إنسان قذف به الحوت إلى الشاطئ على النحو العجيب الذى صنعه اللّه آية لهم، ليرجعوا عن شرورهم، ويتوبوا عن خطاياهم،.. وقد أدرك يونان أنها رحمة اللّه وليس غضبه، أن يحفظه فى بطن الحوت ليصلى صلاته ويرجع هو، إلى رسالته العتيدة إلى نينوى وإلى جانب ذلك لا ننسى أن اللّه « أعد يقطينة » وهنا نتحول إلى منظر آخر، من الحوت الضخم إلى اليقطينة الصغيرة، ونتحول من رحمة اللّه تجاه الإنسان الغريق إلى ابتسامة اللّه تجاه النفس المغمومة، كان الحر اللافح خارج يونان وداخله، وهو يجلس على مشارف المدينة، وقد امتلأ غيظاً وغضباً وغماً، وأعد اللّه له اليقطينة ليخرجه من هذا الغم المستولى عليه،... وما أكثر ما يفعل اللّه معنا هكذا عندما تستولى علينا الوساوس والهموم، فيرسل اللّه ابتسامته التى تأتى إلينا مفاجأة، وعلى وجه لم تكن نتوقعه،.. قالت سيدة عجوز للرئيس ابراهام لنكولن فى أدق أوقات الحرب الأهلية: « لا تفزع اللّه معك، ونحن نصلى لأجلك، ولن تهزم »... وفرح الرئيس بهذه الكلمات البسيطة التى أخرجته من هوة اليأس العميق الذى وصل إليه!!.. كان الصبى على أعتاب اليأس، عندما رسب فى الامتحان، وكانت قريته كلها تتكلم عن رسوبه، غير أن الراعى التقى به ووضع يده على كتفه، وقال له: أنا أعلم أنك ستنجح!!... وكانت هذه الكلمات هى التى عبرت به الخط الفاصل بين الفشل والنجاح فى تاريخه كله!!.. حاول صموئيل جونسون - وهو شاب فقير - أن يلفت أنظار أحد اللوردات الإنجليز إليه دون جدوى، لكنه لما أصبح كاتباً إنجليزياً عظيماً، أرسل إليه هذا اللورد خطاب تهنئة،.. ورد جونسون يقول: لقد جاءت هذه التحيات ياسيدى متأخرة، لقد كنت فى حاجة إلى كلمة صغيرة واحدة منها فى أيام التعب والفشل والمأساة!!.. لم ينس اللّه أن يعد يقطينة ليونان!!.. على أن اللّه مع ذلك، أعد دودة لتقضى على هذا الفرح بسرعة غريبة،... وذلك لأن اللّه أبصر فى الفرح نوعاً من الأنانية، كانت اليقطينة شيئاً يشبه شجر اللبلاب الذى لا قيمة له، وكان يونان أنانياً بفرحه، فهو يفزع ليقطينة ضاعت دون أن يبالى بمدينة عظيمة تتعرض للضياع!!... كان قصد اللّه ثابتاً وأكيداً فى إنقاذ نينوى!!.. يونان والتمرد الشخصى كيف تكلم اللّه إلى يونان، وبأية صورة جاء هذا الكلام!!. نحن لا نعلم، غير أننا ندرك أن يونان تحول إلى بركان من الثورة، وتمرد على الرسالة، هل يرجع تمرده إلى شئ فيه، أم شئ فى المدينة نفسها، أم إلى شئ فى اللّه تعالى؟ … يعتقد البعض أن الرسالة فى حد ذاتها كانت لا تتجاوب مع طبيعة يونان، فيونان واسمه « حمامة » وهو أدنى إلى طباع الحمام ووداعته، ليس من السهل عليه أن يتحدث بلغة الزجر والشدة والانقلاب، … قد يكون من السهل على الإنسان أن يتحدث بالناعمات، ويردد ما هو مطلوب أو منسجم مع آذان سامعيه، لكن من أصعب الأشياء وأقساها وأشدها وقعاً على النفس أن يقف منهم – وهو وديع هادئ مسالم – متحدثاً بالعنف والإنذار والتهديد!! على أن البعض الآخر يعتقد أن يونان تمرد على الرسالة، لأنه بطبعه يكره هذه المدينة، وهى مدينة وثنية تتربص ببلاده وشعبه بالغزو والفتح، وهو كرجل إسرائيلى وطنى يهمه أن تزول نينوى من الوجود، لا أن تبقى …!! … ويرى غيرهم أن الأمر يرجع، أكثر من ذلك، إلى يقين يونان فى اللّه، إذ أبصر من وراء ندائه القاسى على المدينة بالانقلاب، نداء آخر بالرجوع والتوبة، وخاف هو أن تتوب المدينة وترجع، فيعفو اللّه ويسامح، إذ هو « إله رؤوف ورحيم بطئ الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر ».. " يونان 4: 2 " وهو لا يريد لنينوى هذا!!.. يونان والهروب العكسى إن قصة يونان لا تتحدث عن نينوى فحسب، لكنها - أكثر من ذلك - تكشف عن إحسان اللّه ومعاملته لخدامه حتى فى لحظات الضعف التمرد!!.. وقصة الرجل، فى هروبه، تكشف عن بعض الوقائع المثيرة،.. لعل أولها أن الأجرة الجاهزة، أو السفينة المقلعة، ليست بالضرورة دليل العناية أو الموافقة الإلهية،... إن عناية اللّه لا يجوز تفسيرها بالمظهر السطحى الساذج، لعمل يعلم الإنسان تماماً أنه فى الاتجاه العكسى لإرادة اللّه، ولا يجوز لإنسان أن يندفع فى رغبة ما تتمشى مع هواه، ويبصر بعض خطواتها سهلة أو هينة يسيرة، فيعتقد أن هذا هو الجواب المؤكد من اللّه بالموافقة على العمل بصرف النظر عن طبيعته وفحواه،... وما أكثر ما يرتبط الناس ببعض الصور الساذجة أو الخرافية، معتقدين أنها إرادة اللّه، واللّه منها براء،... يتصور بعض المؤمنين أنهم بمجرد أن يفتح الكتاب المقدس، ويضعوا يدهم على آية أو صفحة معينة، فإن هذه الآية أو الصفحة - ستكون - قطعاً - الصوت الإلهى الذى يلزم أن يأخذوا به وينفذوه، وبعض الناس قد يتوهمون هذا الصوت فى حلم جاءهم فى المنام، أو فى رسالة جاءت إليهم من آخر،.. فيأخذون السفينة إلى ترشيش، وهم مطلوبون فى نينوى!! على أن الأمر الثانى.. أن الهروب العكسى قد لا يضر بنا وحدنا، بل قد يضر أيضاً بالآخرين الذين قد تجمعنا معهم سفينة الحياة، وذلك لأن هروب يونان كاد أن يؤدى " لا بحياته هو " بل بحياة الملاحين الذين كانوا فى السفينة معه أيضاً!!... ومع أن اللّه، عادة، يحاسب كل إنسان على حدة، وبخطاياه، دون أن يمتد هذا إلى غيره، لكن السفينة التى تحملنا معا تتعرض للضياع، لأن فرداً فيها قد يكون فى الاتجاه العكسى لطريق اللّه، فالقائد فى الأمة والراعى فى الكنيسة، ورب البيت فى الأسرة، والصديق فى المجتمع، يرتبطون بلا فكاك مع من يجتمعون معهم فى سفينة واحدة،... ومصيرهم يدور وجوداً أو عدماً، مع الرابطة الواحدة فى السفينة الواحدة،... وإذا نظرنا إلى الأمر من الجانب المنير، فإننا نعلم أن وجود بولس فى السفينة التى أقلعت إلى روما، كان السبب فى إنقاذ جميع الركاب وعددهم مائتان وستة وسبعون، « لأنه وقف بى هذه الليلة ملاك الإله الذى أنا له والذى أعبده قائلا: لا تخف يابولس ينبغى لك أن تقف أمام قيصر، هوذا قد وهبك اللّه جميع المسافرين معك. لذلك سروا أيها الرجال لأنى أومن باللهّ أنه يكون هكذا كما قيل لى » " أع 27: 23 - 25 "... وثالثاً: إننا قد نصل فى الهروب إلى درجة التثقل بالنوم العميق حتى يأتينا التوبيخ من أهل العالم كما وبخ رئيس النوتية يونان!!.. وأنها لمأساة محزنة لكثيرين من أبناء اللّه فى سقطاتهم، عندما يفعلون مالا يفعله أبناء العالم أنفسهم، ويقف المرء متعجباً: كيف يمكن أن ينحدر المؤمن فى بعض لحظات الزمن، إلى مالا يسقط فيه العالمى، بدافع من الشهامة أو المروءة أو الرجولة أو ما أشبه من صفات أدبية تتملكه وتستولى عليه؟!!.. ألا تتعجب إذ يأخذ إبراهيم درسه من فرعون أولا، وأبيمالك ثانياً؟ ويأخذ اسحق نفس الدرس، لأن الأب أو الإبن لم يعط الصورة الصحيحة الكاملة عن سارة أو رفقة باعتبارها زوجته، ولولا حماية اللّه لحدث الضرر الذى كان لا يمكن تجنبه!!.. يونان والإعياء النفسى دفع اللّه يونان إلى بطن الحوت، وهناك صلى: « حين أعيت فى نفسى ذكرت الرب » " يونان 2: 7 " وهذه هى نقطة التحول أو الرجوع فى قصة الرجل،... لقد أدرك ضعفه الكامل أمام الريح الشديدة التى لم تفلح كل الجهود فى مواجهتها، وإعيائه الكامل فى بطن الحوت،... لقد كان حراً طليقاً كما يريد اللّه لأبنائه أن يكونوا، أحراراً يسيرون فى خدمة اللّه، دون إكراه أو ضغط، ولكننا ما أكثر ما نسئ استخدام هذه الحرية، فيظهر اللّه اضطراراً إلى أن يأخذها منا، حتى نثوب إلى رشدنا - وكان يونان محتاجاً إلى الإعياء النفسى الكامل حتى يتعلم كيف يعود إلى إلهه ويذكر! على أن هذا الإعياء لم يكن فى فقدان الحرية فحسب، بل، أكثر من ذلك فى ضياع الصحة أو القوة،... لست أعلم كم كانت كمية العشب التى التفت برأسه، وكيف حاول أن يكافحها حتى بدأ كما لو أنه أوشك أن يختنق، وإذ به يذكر الرب،... وما أكثر ما ذكر أبناء اللّه إلههم وهم فى العجز الصحى أو فى سرير المرض. أو فى شدة العلة، أو فى قسوة الداء!!.. وأكثر من ذلك، لقد أصاب يونان الإعياء عندما سقط فى الوحدة والعزلة القاسية، فلا يوجد من يتحدث معه أو يخاطبه فى بطن الحوت، سوى اللّه الذى بقى له، عندما انقطع من أرض الأحياء،... ولعلنا نسأل هنا: ما الداعى إلى ذكر الرب، وما الفائدة من ذلك!!؟ وقد أطبق عليه الحوت وغاص هو معه فى المياه العميقة،... لقد ذكره لأكثر من سبب.. أولا: لأن اللّه أرحم مما كان يصور أو يتخيل،... لو أن اللّه قضى عليه بالموت غرقاً، لما نسب إلى اللّه أدنى لوم، بل كان اللّه عادلا لو فعل ذلك،.. لكنه اكتشف أن اللّه العادل هو أيضاً أرحم الراحمين، لقد أدرك أن سجنه فى بطن الحوت هو الرحمة بعينها، والعناية التى تعلو على كل فهم أو خيال،... لقد تبين أن الحوت تحول بقدرة القادر على كل شئ، إلى فلك آخر كالذى أدخل اللّه فيه نوحاً وأغلق عليه، ليحميه من الهلاك والغرق!!.. وكم يغلق اللّه علينا، ولا يتركنا للحماقة والضياع، عندما يرانا نسعى إلى حتفنا بظلفنا!... ثانياً: لقد أدرك يونان ان اللّه ليس أرحم فحسب، بل هو أكرم وأطيب من أن يدخل معه فى نوع من المؤاخذه أو الحساب،... لقد كان مجئ الابن الضال إلى أبيه كافياً لأن يستبدل هوانه وجوعه وذله وحاجته بالترحيب والإكرام والعطاء السخى، دون مراجعة أو حساب عما فعل أو أساء،.. وظهر اللّه إلى جانب هذا كله، عندما أمر الحوت بأن يقذف يونان إلى البر،... لقد ظن يونان كما يبدو من صلاته أن انتهى إلى الأبد: « نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض على إلى الإبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتى أيها الرب إلهى »... " يونان 2: 6 ". ثالثاً: ولكن اللّه إلى جانب أنه أرحم، وأكرم، هو أيضاً أقدر فلا حدود لقوته وقدرته،أما كيف استطاع يونان وهو فى العمق فى قلب البحار أن يذكر الرب،... فإنه ذكره بأمرين عظيمين قريبين إليه أينما يذهب أو يجئ،... لقد ذكره بالإيمان، وما الإيمان إلا تحول النفس والمشاعر والإرادة تجاه اللّه،... وما أجمل أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة فى شتى الظروف المحيطة به « أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السموات فأنت هناك، وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر، فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك » " مز 137: 7 - 10 ". أما الصلاة فقد كانت من جوف الحوت، وصلاة المتضايق لا يشترط أن تكون فى هيكل أو معبد، أو مع جماعة من الناس يشاركون فى العبادة أو التضرع،... بل يمكن أن تكون فى أعماق البحار أو فى أعلى الجبال، يمكن أن تكون فى السجن أو الأتون، إنها فى المكان الذى يوجد فيه الإنسان إن كارها أو راضياً، لأن اللّه فى كل مكان: « اطلبوا الرب مادام يوجد ادعوه وهو قريب » " إش 55: 6 " ونحن لا نعلم هل استطاع يونان أن يصلى وقفاً أو راكعاً أو منبطحاً على ظهره أو بطنه،... لا يهم الصورة التى يظهر فيها المصلى، إنما المهم أن يكون راكع النفس، منحنى المشاعر، منبطح التسليم، واللّه سيسمعه طالما يتجه فى إعياء النفس بروح الصلاة،... هل كان يصرخ فى الصلاة، هل كان يصلى بصوت يسمع، أم كان يتمتم بشفتيه،... إن الصوت فى حد ذاته يتساوى أمام إذن اللّه، التى تسمع الصوت الصارخ، أو المتمتم، أو الهامس على حد سواء، طالما تخرج صرخة النفس من الأعماق أمام اللّه!!.. لقد صرخ يونان من بطن الحوت واستمع اللّه إلى صراخ نفسه!.. يونان والعودة إلى الرسالة عاد يونان إلى الرسالة التى هرب منها، وذهب إلى نينوى، لا ليعلن لها فحسب، بل للأجيال كلها - الحقائق العظيمة التالية:- أولا: إن أبوة اللّه ومحبته وإشفاقه، لا تقف عند حدود اليهود فقط، بل تمتد إلى جميع الناس، إذ الكل خليقته وأبناؤه وذريته،... كان يونان من الحماقة حتى كان يهرب من امتيازه الأعظم فى كل التاريخ، إذ أنه هو المرسل الأول إلى الأمم، أو فى لغة أخرى، أبو المرسلين القدامى والمحدثين فى كل التاريخ... كان وليم كيرى رائد المرسلين فى التاريخ الحديث، وكان شاباً إسكافياً فقيراً لا يملك مالا أو نقوداً أو علماً، ومع ذلك فقد امتلأ قلبه حباً وغيرة على تبشير العالم الوثنى، وقد تحدث فى ذلك الشأن إلى بعض رجال الدين، فلم يجد منها تأييداً أو معونة، بل وجد على العكس تعطيلا وتحقيراً ومقاومة، كان يضع فى دكانه خريطة العالم وقد كتب عليها: « لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية » " يو 3: 16 "... كان يحمل معه الكتاب المقدس وكتاب « الأجرومية » "علم النحو والصرف "، وقد تعلم عدة لغات وذهب إلى الهند. وعندما نذكر أنه فتح الباب أمام جيش المرسلين فى التاريخ الحديث، علينا أن نذكر يونان المرسل الأول فى كل التاريخ، إلى نينوى!! كان يونان وهو لا يدرى أول من تعلم الدرس أنه لا فرق عند اللّه بين اليونانى واليهودى والعبد والحر، والذكر والأنثى، والأسود والأبيض - أو كما قال الرسول بطرس فى بيت كرنيليوس: « بالحق أنا أجد أن اللّه لا يقبل الوجوه بل فى كل أمة الذى يتقيه ويصنع البر مقبول عنده » " أع 10: 34 و35 "أشرنا فى دراسة سابقة إلى دكتور أجرى الذى عاش يدافع عن الملونين ويهاجم التفرقة العنصرية، ولم يكن يضيق بلونه الأسود، بل قال: لو ذهبت إلى السماء وهناك سألنى اللّه عما إذا كنت أرغب فى العودة إلى الأرض كرجل أبيض فإنى أجيبه: إن عندى عملا كرجل أسود أكثر مما يستطيع رجل أبيض أن يؤديه، أرجوك أن ترسلنى ثانياً أسود حتى يمكنى أن أؤدى عملى ». ثانيا: تعلم يونان ما كان يجهل أو مالم يكن يعلم حق العلم، أن النفس البشرية غالية جداً عند اللّه،: « الذى يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون » " 1 تى 2: 4 ".. وأنه إذا كان يونان قد خرج بيقطينة ظللته، ولكنها إذ ذوت وهى بنت ليلة ولدت، وبنت ليلة ضاعت، فامتلأ غيظاً وهماً وقلقاً، فكيف يكون الأمر بالنسبة لقلب اللّه، كخالق، وهو يرى مدينة عظيمة تهوى إلى قاع الهاوية والجحيم؟... آه! لو نعلم كم يتألم قلب اللّه على النفوس الضائعة، لعشنا حياتنا كلها، ولا هم لنا إلا إنقاذ النفوس الهالكة،... لا لأنها خليقة اللّه فحسب، بل، أكثر من ذلك، لأن المسيح مات من أجلها على هضبة الجلجثة!!.. والأمر الثالث الذى أدركه يونان، هو بركة الألم فى الحياة، لقد أعاده الألم إلى اللّه والرسالة التى هم بأن يهرب منها،... وجاءت نينوى إلى التوبة عندما هددت بالانقلاب!!... ومع أنه شئ محزن وتعس أن يلجأ اللّه إلى أسلوب الشدة مع الإنسان، وكان من الممكن أن يستمع إلى نداءاته الكثيرة بالخير والبركة والجود والمراحم،... لكنها الصفة فى النفس البشرية، التى تجعل اللّه يرحم الإنسان بالتأديب والتهديد والآلام، وربما نعمة فى نعمة طويت.. الأمر الرابع: أن التوبة الشاملة الصادقة ميسورة لأى شعب أو فرد أو جنس، متى اتجه إلى اللّه من كل قلبه وفكره، حتى كانت توبته عملية بالرجوع عن الطرق الرديئة والظلم الذى فى يديه، وأنه ليس فى حاجة إلى كهانة أو وساطة أو شروط، ماخلا الاتجاه إلى اللّه الحى الحقيقى!!.. على أن القصة تعلمنا آخر الأمر غرابة النفس البشرية، وقد تكون من أفضل النفوس على الأرض، إذ هى النفس السريعة التذبذب، الغريبة الأطوار، تفرح وتكتئب، وتتسع وتضيق، دون فاصل زمنى، وتغتاظ مرات كثيرة بالصواب،... ومن الغريب أن نجاح يونان كان فشلا فى تصوره، وأن وقوفه فى وجه الكارثة، كان كارثته الشديدة،... والسر الحقيقى كما ذكر كلفن، أن يونان كان مهتماً بالذات أكثر من اهتمامه بخلاص المدينة أو مجد اللّه!!.كان يونان، كما دعاه الكسندر هويت، الأخ الأكبر الذى غضب لمجئ أخيه، ولم يرد أن يدخل البيت، فخرج أبوه يطلب إليه الدخول... فى الحقيقة أن رجاءنا دائماً فى خلاص النفوس لا يرجع إلينا، بل يرجع إلى قصد اللّه الأبدى ومحبته التى لا تتغير ولا تتبدل!!..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل