المقالات

20 فبراير 2021

المقالة السادسة والعشرون في من سقط بسبب الغفلة ويحتج بالخطأ

أيها الأخ إذا اشتهيت سيرة العبادة فقد آثرة عملاً حسناً إن حفظته إلي النهاية، فق إذاً وأصغِ إلي ذاتك مثل حكيم مثل عابد لا كغيره فليس صراعنا بإزاء لحم ودم بل بإزاء الرؤساء والرئاسات نحو السلطات، بإزاء ضابطي عالم ظلمة الدهر، بإزاء جنود الخبث المصارعين في السماء فُقْ إذاً إلي النهاية لكي لا تنغلب من قبل رقادك وعدم الإصغاء لذاتك فتقول بجهالة قد أفضيت إلي رتبة عابد وما وجدت هناك طريق خلاص فلماذا أيها الأخ تنكر نعمة الرب، لِمَ تستهجن سيرة العبادة لعلك تشاء أن تنتفع بغير أن تتوجع من أجل نفسك بل تنخدع لشهواتك وللذات الأفكار وتحتج بسيرة العبادة لأنك لو حفظت وصايا الرب وأحببت تقواه لكان حفظ نفسك، فأولاً إنك لم تحفظ قانون سيرة العبادة ورقدت في صلواتك الجامعة، أحببت أن تسلك مجانياً واحتقرت من هم أعظم منك قدراً، أحببت استعلاء الرأي أكثر، أبعدت الحمية، ولازمت كثرة الأكل، السهر لم تحبه، أحببت كثرة النوم الذي لا يشبع منه، الطهارة لم تحبها وأحببت الدنس، الطاعة لم تؤثرها وأحببت عدم الطاعة، الغضب والسخط لم تبغضهما وأحببت المحك والحقد، السكوت والصلاة ما أحببتهما وأحببت الصراخ واللعن والحلف، الظلافة والورع لم تحفظهما وأحببت المزاح مع الضاحكين، الصمت والتقويم ما أحببتهما وأحببت اكثار الكلام والاغتياب، عدم القنية ما آثرتها وأحببت احتشاد الفضة، النسك والتعب لم تحبهما وأحببت التنعم والبطر، العمل بيديك لم تؤثره وآثرت البطالة، أكثر السلامة ما أثرتها وأحببت الشرور بالإنقلاب الردئ، التوجع للمحزونين لم تملكه وأحببت أن تكون فظاً وغير متوجع لأحد، لم تؤثر أن تحتمل حزناً وتعييراً من أجل الرب وتقت إلي الجلوس الأول والمدائح الباطلة، محبة اللـه وخشيته لم تحفظهما أما الإزدراء به ومقت الأخوة فأحببتهما أكثر، وماذا أقول أيضاً: أبغضت المناقب السمائية وأحببت الأشياء الأرضية وتحتج بسيرة العبادة. أما عرفت أنه مكتوب أن الرب يبيد كافة المتكلمين بالكذب، وأيضاً لا تتكلموا علي اللـه ظلماً فإن اللـه هو القاضي. أرايت أيها الأخ ان مناهي العلة ليست من آخرين، عد إلي ذاتك وأرجع إلي الرب بكل قلبك فإنه لا يريد موت الخاطئ مثل ما يشاء أن يرجع فيحيى لأن الرب يشاء أن الكل يخلصون لأنه صالح، أجُرحت ! تقدر أن تبرأ. أَسقطت ! قم. لا تبذل ذاتك إلي الهلاك فإن المخلص نفسه قال إن الأصحاء لا يحتاجون طبيباً بل أسواء الحال، وما جئت لأخلص الصديقين لكن الخطاة، فلهذا أيها الأخ تفهم فأشير عليك: أجلس في السكوت وأحضر بين عينيك خشية الرب وأجمع أفكارك، أجلس كقاضٍ وتأمل عبور الزمان الماضي منذ أقبلت إلي العبادة لكي ما تعرف الأمر الذي صار لك سبباً لمثل هذا العزم وأوسم في قلبك المضرة والسبب ومن أين أتتك هذه الخسارة وأصنع بإزائها الجهاد لأن التاجر إن وقع بين اللصوص أو إن غرق مركبه أو ضاع وسقه فلا ينسى الموضع الذي ضاع فيه الوسق وإن عرض بعد مدة طويلة أن يجتاز بذلك الموضع يتحرز كثيراً ليعبر فيه فلنشابه التجار بل نتحكم أكثر منهم. أولئك إنما أضاعوا غنى بالياً فلا ينسوا الموضع، وأما نحن فقد أضعنا غنى لا يبلى ونضجع، فمنذ الآن أجلس في خلوة وأجمع أفكارك وأفحص روحك نهاراً وليلاً لتعرف مثل هذه الخسارة، هذا الإنعكاس لئلا تكون منذ الإبتداء قد أقتنيت دالة والدالة عكست فكرك المتدين حسناً وأفسدت عاداتك وجعلتك غير مستحي ولا خجلان لئلا يكون الضرر قد أتاك من قبل أكثارك الكلام لئلا تكون العلة صارت من هيام البطن، من عدم الطاعة، من اشتهاء أحوال مختلفة، من حجة الخدمة والضجر، فإذا عرفت السبب فأقطع الدالة والوقاحة بالتورع لا تخجل أن تدعى مرائياً من المخالفين لوصايا الرب لأن من البين أنهم ما أحضروا ذكر المراياه لتتمجد بل لتخجل من ذلك وتصير وقحاً عادم الخجل وغريباً من العزم المقسط، لأن الذين يدعون بالمتورعين مرائين، فيقول السيد: أيها المرائي أنتزع أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تبصر أن تخرج القذاء من عين أخيك لا تخجل من التعيير فتعتاد عدم الأدب فإن الذين لا أدب لهم يلتقيهم الموت لأنه إن كان قلبنا لا يلومنا فلنا دالة قدام اللـه، وأيضاً إن عيرتم باسم الرب فأنتم مغبوطون فإن روح المجد وروح اللـه يستريح عليكم فلا يتألم أحدكم مثل قاتل أو كلص أو كرقيب غريب فإن تألمت كمسيحي فلا تخجل فإن اللـه يتمجد بهذا الاسم. فمنذ الآن أهرب من الدالة والضحك فإنهما لا يوافقان نفسك، وكذلك شره البطن أقمعه بالحمية، ومحبة الفضة بالنسك والزهد في القنية، وكثرة الكلام بالصمت، والضجر بالصبر، وصغر النفس بذكر الخيرات المنتظرة، وعدم الطاعة بالتواضع. وإن كان العدو الماقت الخير قد أنشأ لك الشر فأحفظ نفسك فيما بعد نقياً ولا تشارك خطايا أجنبية وعلي حسب رأيي أعتقد أن مبدأ الشرور صار لك من الدالة وهذه جعلتك لا تخجل، فلذلك يقول: الطوبى للرجل الذي يتقي كل شئ من أجل التورع، أي ربح في العالم أيها الأخ وأي صلاح يمنح الذين يحبونه إذا أخذ إنسان امرأة فذلك بدء الهم، أو ولد أبناً فذلك اهتمام آخر، أو ولد آخر فذلك اهتمام آخر أكثر، وإذا مات أحدهما فيخلف لوالديه نوحاً، وإن لحقت الحي صعوبة يتوجعان من أجله أكثر من المائت، إذا وافت إلي الرجل ساعة الوفاة فشر عليه من موته ان يحسب حزن قرينته ويتركها أرملة وأولاده يتامى، وهذا كله أيها العابد عتقك منها نير الرب الصالح فكيف تؤثر أن تميل إلي الأشياء القديمة، فلا تيأس من نفسك ولا تقل لا أستطيع أن أخلص، حب خشية اللـه من كل نفسك وهي تشفيك وتبرئ جراحاتك، وتحفظك في المستقبل غير مجروح لأنها بقدر ما أحبت نفسك تقوى اللـه لا تقع في فخ المحال بل تكون كالنسر الطائر إلي العلو وإن هجعت بعد هذا فإن النفس بمخافة اللـه تهدم الفضائل الشامخ علوها ويلعب بها الذين أسفل ويغطون عينيها ويستاقونها كداً إلي آلام الهوان مثل ثور معلق بنير، فلذلك أيها الأخوة لنهتم بخلاصنا، لنهتم بساعة الوفاه، ولنمقت الأمور الأرضية لأن هذه كلها تبقي هنا، هذه لا تنفعنا في ساعة شدتنا حين نتضرع أن نترك وليس من يستجيب. ويلي ويلي ما هي ساعة الموت حين لا يسافر الأب مع ولده، ولا الأم ترافق أبنتها، ولا المرأة رجلها، ولا الأخ يرافق أخاه، سوى عمل كل واحد مهما عمل إن صالحاً وإن خبيثاً، فمنذ الآن فلنتقدم فنرسل أعمالاً صالحة حتى إذا انصرفنا يستقبلنا في مدينة القديسين، إن شئت أن تنجح فأقتنِ الملك صديقاً لك هنا لأنه بمقدار ما تخدمه هنا يمنحك المرتبة وبقدر ما تكرمه هنا يكرمك هناك لأنه كتب: إني أشرف الذين يمدحونني ومن يتهاون بي يهان، أكرمه بكل نفسك ليؤهلك لإكرام القديسين. في أي شئ يجب أن تقتنيه، قدم له ذهباً فضة، إذا رأيت عرياناً فألبسه، غريباً فآوه، فإن لم يكن لك شئ من هذه فقدم له ما هو أكرم نوعاً من الذهب والفضة أمانة، محبة، حمية، صبراً، تواضعاً، طول روح، إتقاء الاغتياب، أحفظ عينيك لئلا تبصر ضلالاً، ويديك ألا يعملا ظلماً، وأعطف رجليك من الطريق الردئ، عزِ صغيري الأنفس، توجع للمرضى، أعطي العطشان قدح ماء بارد، أعطي الجائع كسرة خبز مما لك، مما وهبها لك قدم له، لأن مخلصنا لم يطرح فلسي الأرملة، وماذا طلب إيليا النبي من الأرملة أليس ماء قليل في إناء وكسرة خبز، وقيل قام إيليا ومضى إلي صارفة صيدا ودنا من باب المدينة فإذا بامرأة أرملة تجمع حطباً فهتف إيليا وراءها وقال: ائتي لي بيديك كسرة خبز، أتعرف أيها الحبيب بماذا كان الأنبياء يغتذون بقليل من ماء ويسير من خبز وهذا بعد ضيقة من الجوع لأنه كان لهم كافة الحرص في الخيرات المعدة لهم في السموات. يا أخوتي لنحب طريق القديسين وما دام لنا وقت فلنجعله ثمراً حسناً للتوبة، لا تضيع وقتاً موافقاً للتوبة ولا تتنزه في خيالات هذا العالم ولا ترتبط مع الناس السائرين بعدم خشية اللـه ولا تنافس أعمال المتهاونين بخلاصهم كما يأمرنا الرسول القائل: إن الأحاديث الرديئة تفسد العادات الصالحة. وفي فصل آخر يقول: يا بني أتخذ مشورتي ولا تتركها بل أحفظها لك في حياتك، لا تذهب في طرق المنافقين ولا تغاير طرق الأثمة، في أي موضع نزلوا معسكرين لا تمضي هناك، حد عنهم فإنهم لا يرقدون قبل أن يعملوا الشر قد سلب نومهم فلا يرقدون، الذين يأكلون خبز النفاق ويسكرون بخمر تجارة الشريعة، أما طريق الصديقين فتتلألأ بالنور هم يسلكونها ويضيئون إلي أن يلمع النهار. ويقول أيضاً: لا تصر رفيق إنسان غضوب، ولا تساكن صديقاً سخوطاً لئلا تتعلم شيئاً من طريقه فتأخذ لنفسك وهقاً. وفي فصل آخر يقول: أطلب إليكم يا أخوتي أن تترقبوا الذين يصنعون الشقاقات والشكوك بخلاف التعليم الذي تعلمتموه وأجنحوا عنهم فإن مثل هؤلاء لا يعبدون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم وبالألفاظ الصالحة وبالتبريكات يخدعون قلوب ذوي الدعة. فلنهرب إذاً من الطريقة العريضة المؤدية إلي الهلاك ولنتوقن إلي الطريقة الضيقة المؤدية إلي الحياة الخالدة، فلنتوجع هنا بالاختيار قبل أن نتوجع هناك كارهين، ولنبغض العالم والسيرة العائلية، ولنصنعن لنا طرقاً مستقيمة، فلنحب الحرص ولنكن ملتهبين وغالين بالروح لدى اللـه، فلنبكين ههنا باختيارنا لنستعطف اللـه فينجينا من البكاءِ وقعقعة الأسنانِ، ولنحب النوح فإنه وصية الرب لأنه هو قال: الطوبى للنائحين الآن فإنهم يعزون، ولنخطر ببالنا يا أخوتي الأحباء أمر النواتية الذين يسيرون في البحر أية معاطب يحتملونها محاربين البحر ويجوزون معظم الأمواج فمتي ما أكمل أحدهم الوقت الذي أئتجر فيه لا يحفل بالمعاطب التي أحتملها محارباً للبحر من أجل الفرح لأنه أخذ كمال أجرته بل ويصير أوفر نشاطاً في سير البحر، فأولئك إذا أكملوا طريقهم يضطرون أن يعودوا إليها. أما نحو يا أخوتي الأحباء إن بلغنا حسناً إلي كمال الجهاد المنصوب لنا فليس لنا أمر يضطرنا أن نستعمل هذا السعي نفسه لأن هذا غير ممكن فالجهاد يا أخوتي قليل وعطية الثواب لا توصف، فلنستفق في عمل الرب بكل قلبنا وقوتنا ما دام لنا وقت وكما أن مواهبه لا ندم يخامرها والدعوة التي للقديسين هي هكذا وعكسها ما أعد للمضادين منذ القديم فلذلك الطوبى للإنسان المتقي الرب فإنه سيأخذ منه الإكليل المعد للذين أحبوه.وله كل مجد إلي أبد الدهور آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
18 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس أليشع

" وأمسح أليشع بن شافاط من آبل محولة نبياً عوضاً عنك "2مل 19: 16 مقدمة كان السؤال الذى طرحه جورج ماتيسون فى حديثه عن أليشع، هو: ماهو الفرق بينه وبين إيليا وهو يكاد يكون نسخة منه!!؟ لقد كانت حياة الاثنين نغمة موسيقية واحدة، ربما كان الأخير فيها هو القرار الأضعف صوتاً والأبطأ قياساً،... ألم يضرب إيليا نهر الأردن، وهكذا فعل أليشع!!؟ ألم يصعد إيليا إلى جبل الكرمل، وهكذا صعد الآخر!!؟... ألم تسبب كلمات إيليا مأساة دموية، وهكذا كانت كلمات أليشع!!؟ ألم تتجه الأنظار إلى إيليا فى المجاعة، وكذلك اتجهت أيضاً إلى أليشع!!؟ ألم يفض إيليا بالخير على أرملة، وكذلك فعل أليشع!!؟ ألم يقم إيليا ابن الأرملة، وألم يفعل أليشع الشئ نفسه مع ابن الشونمية!!؟ … ألم ينقل إيليا الخير إلى ما وراء اليهودية، فيما فعله مع أرملة صرفة صيدا، وكذلك فعل أليشع عندما شفى نعمان السريانى!!؟... وألم يحدث حتى فى اللحظات الأخيرة أن كانت الصيحة واحدة إذ صاح أليشع، وهو يرى إيليا صاعداً فى مركبته السماوية: " يا أبى يا أبى مركبة إسرائيل وفرسانها "؟؟... وألم يبك يوآش ملك إسرائيل على وجه أليشع فى مرضه الذى مات به وهو يقول: " يا أبى يا أبى مركبة إسرائيل وفرسانها "؟؟... " 2مل 13: 14 " وعند صعود إيليا إلى السماء، طرح الرداء وتركه لأليشع، ولبس التلميذ رداء معلمه، فهل لم يكن هناك فرق بين الاثنين!!... نعم، كان هناك الفرق الكبير، لقد كان أليشع أهدأ وأرق وألطف!!؟ أو فى لغة أخرى كما يراه ما تيسون، كان أليشع هو إيليا، ولكن بعد أن عاد من جبل حوريب مستمعاً إلى الصوت المنخفض الخفيف، وحلت هبات النسيم مكان الزوبعة العاتية، وجاءت خضرة المروج أثر الجبال المسنمة، وحل أليشع برسالته المتحدة فى الروح، والمختلفة فى الأسلوب، محل رسالة إيليا، ومن هنا كان الفارق بين الرجلين. فكانت الرسالة اللاحقة متممة للسابقة ومتكاملة معها ومن هنا يحق لنا أن نرى أليشع من النواحى التالية: أليشع ودعوته عندما ذهب إيليا إلى جبل اللّه حوريب، لم يكن يعلم أن اللّه سيتحدث إليه هناك عن ثلاثة أسماء سيدعوها لخدمته، وتنفيذ إرادته، فهو سيدعو أليشع بن شافاط ليحل محل إيليا، وسيدعو حزائيل ملكاً على آرام، وسيدعو ياهو بن نمشى ملكاً على إسرائيل،... وأدرك إيليا أن اللّه متسلط فى مملكة الناس، وأنه يدعو الأنبياء والملوك وكل ذى سلطان وفقاً لمشيئته العليا وإراداته الكاملة، وأنه يسيطر على الخير والشر فى كل مكان وزمان،... وبينما كان إيليا نائماً تحت الرتمة، وقد استبد به اليأس، وطوحت به الضيقات والآلام، كان هناك شاب عظيم يعده اللّه فى آبل محولة (مروج الرقص) ويجهزه للخدمة المقدسة...، وهكذا يتغير الناس، ويبقى اللّه، ومع أن أليشع حمل رداء إيليا وحل محله، إلا أنه ثمة فروق بين الاثنين،... كان إيليا - كما ذكرنا فى الحديث عنه - من بلاد جبلية، وكان أليشع من أرض زراعية كان إيليا أشبه بالمعمدان، يحيا حياة الخشونة والصلابة والشدة والعنف والرعد القاصف، وكان أليشع أدنى إلى حياة المسيح فى الرقة والعطف والجود والإحسان، كان إيليا لا يأكل ولا يشرب، وكان أليشع يأكل ويشرب، كان الأول يعيش فى الجبال أو العزلة، وكان الثانى يعيش فى المجتمعات، وبين الناس،... ومع ذلك فقد كان الاثنان من روح واحدة فى السمو والرفعة وعزة النفس، كان الرداء الذى يحتويهما واحداً، وعندما يطرح هذا الرداء على أليشع، فهو يترك ثروته الواسعة، ويذبح فدان البقر، ويضع يده على المحراث الخالد، ولم يعد للمال سلطان على نفسه وهو يأبى أن يقبل من نعمان السريانى هدية تقدر بما يعادل خمسين ألفاً من الجنيهات، ولا يخرج لمقابلته إذا هو أعلى من المال ومن نعمان ومن العالم كله،... لقد ذهب إيليا وطرح الرداء عليه، ومد الشاب بصره، فرأى كل شئ يتغير، وهو يستبدل محراث أبيه، بمحراث أخلد وأعظم،... ويستبدل حقل أبيه بحقل أوسع وأكبر، حقل الخدمة العظيم والأكمل والأجل،... ومنذ ذلك التاريخ ولمدة خمسين عاماً عاشها فى الخدمة، لم يتراجع قط عن محراثه العظيم، ولم ينظر إلى الوراء، حتى بكاه يوآش ملك إسرائيل: " يا أبى يا أبى يا مركبة إسرائيل وفرسانها "... ومن الملاحظ أن هناك فرقاً كبيراً بين قول أليشع: " دعنى أقبل أبى وأمى وأسير وراءك " " 1 مل 19: 20 "... وقول الشاب الذى دعاه المسيح: " إئذن لى أن أمضى أولا وأدفن أبى " " مت 8: 21 "... كان أليشع يريد أن يلقى على أبيه قبلة الوداع، فهو مع وفائه لأبيه يريد أن يرسل إليه تحيته الأخيرة، ولكل ما يمكن أن يرث عن هذا الأب،... أما الآخر فلم يكن أبوه قد مات حتى يدفنه، ولكنه أراد أن يؤجل الخدمة، حتى يموت أبوه، ويدفنه، ثم يذهب بعد ذلك لعمل اللّه، كما أن هناك فرقاً عظيماً بينه وبين القائل: " أتبعك ياسيد، ولكن ائذن لى أن أودع الذين فى بيتى " " لو 9: 61 "... وهذا الفرق واضح فى أن أليشع حرق المحراث الذى كان يحرث عليه دون أدنى تردد، كأنما ينسف جميع الكبارى التى تربطه بالعالم، وهو يضع يده على محراث اللّه العظيم الذي دعى إليه!!... ولم يمنعه إيليا عن أن يودع أبويه، وقد تركه ليقبل أو يرفض،.. وما أسرع ما عاد إلى أبيه الروحى، بعد الوداع والقبلة لأبيه فى الجسد!!... أليشع وبرهان دعوته وقف بنو الأنبياء على الجانب الآخر من الأردن، وينظرون إلى أليشع ممزق الثياب يحمل رداء إيليا، وأذا بهم يرونه يفعل مثل ما فعله معلمه، فيلف الرداء ويضرب به الماء، وإذا بالنهر ينفلق، ويعبر أليشع، ويأتى بنو الأنبياء ليسجدوا له إلى الأرض فى انحناء الاعتراف واليقين بأنه أخذ مكان إيليا، ومع أنه كان شاباً نظيرهم أو أكثر منهم قليلا، لكنهم مع ذلك رأوا برهان النبوة، فى الرداء، وفيما فعل، وفيما أخذ من سلطان مماثل لسلطان معلمه العظيم، والنبوة ليست ادعاء يضيفه الإنسان على نفسه، فما أكثر الأنبياء الكذبة، الذين يحاولون أن يلبسوا رداء السابقين، دون أن تكون لهم قوتهم وسلطانهم، وسيكشفهم رداء النبوة، ويظهرهم على الملأ، ويظهر مدى ما فى ادعائهم من زيف أمام الأردن الممتلئ بالماء، والذى لا يستطيعون أن يشقوا طريقهم فيه، وإذا كان من الملاحظ أن أليشع يختلف فى شخصيته عن إيليا، لكن الرداء واحد للاثنين،... لأن اللّه الواحد سيد الاثنين، ومحركهما، ودافعهما فى الحياة والخدمة، ومن ثم فإن أليشع يضرب الماء صائحاً: " أين هو الرب إله إيليا؟ "... " 2 مل 2: 14 " أو فى لغة أخرى - أنه يشق الطريق مستنداً إلى ذات الإله الذى عاش فى ظله إيليا وصنع قواته ومعجزاته، وهو يسير على نفس الدرب مهما اختلفت الظروف، وتلونت الحياة، وتغيرت الأوضاع، لكن اللّه هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، ليس عنده تغيير أو ظل دوران،... وما أجملها من ثقة وما أروعه من يقين!!، أن نستند إلى إله آبائنا، وأن نأخذ من اختباراتهم عظة وعبرة وفى الوقت عينه تتجدد وتتكرر اختباراتنا نحن، دون أن تقف عند ماضى السابقين،.رأى أليشع المركبة النارية التى حملت معلمه إلى السماء، وأيقن أنه ذهب إلى المكان العظيم العتيد أن يبلغه المتوجون المنتصرون من المؤمنين، ولكن بنى الأنبياء ألحوا عليه أن يفتشوا فى الجبال أو الأودية، لعل روح اللّه يكون قد طرحه فى واحد منها، ومع أن أليشع لم يقتنع بمنطقهم، إلا أنه كما يقول جورج ماثيسون لم يجبرهم على الاقتناع برأيه، أو يلزمهم بهذا الرأى حتى يصلوا إليه بأنفسهم. ومن اللازم أن نتعلم ألا نلوى أيدى الآخرين، أو نكرههم على قبول رأينا. قد يطول بحثهم عن الحقيقة، التى وصلنا إليها، ولكن من الأفضل أن ندعهم يكتشفون لأنفسهم ما وصلنا إليه، حتى نستطيع أن نقول لهم ما قاله اليشع بعد تفتيشهم ثلاثة أيام دون أن يصلوا إلى النتيجة التى تصوروها: " أما قلت لكم لا تذهبوا!؟ "... " 2 مل 2: 18 "وقد ظهر برهان الدعوة من واقعتين أخريين مختلفتين تماماً، الأولى من تحويل النبع الردئ إلى نبع عذب، عند مدينة أريحا، وأريحا مدينة النخل والرياض والزهور، ومع جمال المدينة وخصب الأرض حولها، إلا أن مشكلتها الكبرى كانت فى الينبوع الردئ المر الذى كان يمدها بالماء، وإذا جاء بنوا الأنبياء وأهلها إلى أليشع، طلب صحناً جديداً، لم يكن قد وضع فيه شئ، حتى يمكن أن يقال إنه سر التغير فى ماء الينبوع، ووضع فيه ملحاً، والملح أساساً، فى المفهوم الدينى، للتنقية والتطهير، وإن كانت إضافته إلى الماء، ليتحول الماء العذب، هى أشبه الأشياء بوضع الطين على عينى الأعمى ليبصر، الأمر الذى فعله المسيح،... لكى تظهر يد اللّه فى الحالين، وهى تغير الأمور إلى العكس بالقدرة العلوية العجيبة، وما أن وضع أليشع الملح فى الماء، ودعا باسم الرب، حتى تحول النبع الردئ إلى واحد من أعذب الينابيع التى يقول الكثيرون إنه باق إلى الآن باسم " نبع السلطان " على مقربة من أريحا!!... كانت هذه من أولى معجزات أليشع، وهى - بالأحرى - رمز لرسالته، الرسالة التى تبدأ بالينبوع، قبل أن يغترف الإنسان من المجرى، ورسالة اللّه تحول أولا وقبل كل شئ النبع الردئ إلى نبع حلو صاف عذب جميل، والقلب الذى كان يخرج فى الأصل فساداً وشراً، عندما تستولى عليه النعمة الإلهية،... هذا القلب يتدفق بثمر الروح القدس: " محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف " " غل 5: 22 " كانت معجزات أليشع، التى سنتأمل فيها فيما بعد، رمزاً لإحسان اللّه وجوده من الجوانب المتعددة للحياة البشرية،... ولكن على رأس المعجزات وأولها، بدأ أليشع بالنبع الذى أضحى حلواً جميلا صافياً رقراقاً!!.على أنه من الجهة الأخرى وعلى العكس من ذلك، إذا كانت الرسالة الإلهية رائحة حياة لحياة، فهى فى الوقت نفسه رائحة موت لموت، وهنا نتحول من البركة إلى اللعنة، ومن النبع الصافى إلى المأساة القاسية، ومن الملاحظ أن أليشع تحرك فمه باللعنة مرتين شهريرتين: المرة الأولى للصبية الذين سخروا منه فى بيت إيل، والمرة الثانية عندما لعن جيحزى بعدما أخذ - كذباً - بعض عطايا نعمان السريانى، ومع ذلك فالفرق بين اللعنتين واضح، أما بالنسبة للصبية، فإن اللعنة كانت إعلاناً عن غضب اللّه على هؤلاء الساخرين العابثين، أما بالنسبة لجيحزى فقد كانت طلباً محدداً أن يلصق به وبنسله برص نعمان السريانى، للأسلوب الشرير المتعمد الذى يعطى صورة خاطئة عن مفهوم الخلاص المجانى لإنسان وثنى، دعاه أليشع إلى الخلاص من برص الخطية وإثمها وفسادها وشرها!!.. على أنه فى الوقت نفسه، من واجبنا ألا نحكم على عمل أليشع فى نور العهد الجديد كما يقول بعض المفسرين، لئلا نستمع إلى قول السيد وهو يتحدث إلى تلميذيه اللذين أرادا محاكاة أسلوب إيليا....... فقال لهما على الفور: " من أى روح أنتما؟!! " لو 9: 55 " لقد لعن أليشع الأولاد، الذين أطلق عليهم الكتاب " صبيان صغار " والكلمة فى الأصل العبرى هى التى استخدمها سليمان وهو يصلى إلى اللّه فى جبعون، بعد أن أصبح ملكاً " فتى صغير " كان هؤلاء الصبيان فى سن الشباب، وهم من بيت إيل المكان الذي حلم فيه يعقوب حلمه العظيم، وبنى مذبحه، ومع ذلك فإن يربعام أقام فيه العجل الذهبى، وعبد الناس الآلهة الوثنية، ولعل هؤلاء الشباب، رأوا أليشع، وهو يلبس رداء إيليا، مع الفارق بين شعر إيليا الطويل، وشعر أليشع القصير ولربما كان الأخير أصلع الرأس فعلاً وإذ رأوه، وسمعوا قصة صعود إيليا التى لم يصدقوها، وأرادوا أن يسخروا من إيليا، وأليشع، ومن اللّه نفسه، فقالوا له: اصعد يا أقرع؟؟!!.. " 2مل 2: 23 " اصعد كما صعد إيليا إلى السماء فى مركبة من نار!!.. وإذا كان الأثينيون قد حكموا - كما يقول جورج ماثيسون - على غلام أثينى بالإعدام لأنه فقأ عينى طائر السمان، ورأى القضاة فيه قسوة غير مألوفة، ربما تتحول لو عاش بين الناس، إلى قسوة يفقأ معها عيون البشر، فإن أليشع، وهو يلعن هؤلاء الصبيان كان يرى فيهم وفى تجديفهم ما رآه الأثينيون فى ذلك الغلام، ومن ثم لعنهم على ما وصلوا إليه من إثم وفجور وارتداد وشر!!.. وقد صادق اللّه على اللعنة، فخرجت دبتان من الوعر لتفتك باثنين وأربعين منهم!!... فإذا كان الينبوع العذب يمثل جانب اللطف الإلهى، لمن يريد أن يتمتع بالمراحم السماوية، فإن مصرع الأولاد يمثل الصرامة لمن لا يريد أن يعتبر، وحقاً: " مخيف هو الوقوع فى يدى اللّه الحى!!.." "عب 10: 31"0 أليشع ومعجزات الإحسان كانت حياة أليشع حافلة بمعجزات المساعدة والإحسان، إذ كان - كما صوره دكتور ماكرتنى - صورة للراعى الأمين الذى ينتقل بين الرعية، ليمد يد العون لأرملة تعسة، أو صديق منكوب، أو محتاج معوز، وسنترك الحديث عن مساعدته لنعمان السريانى، عندما نفرد لذلك حديثاً خاصاً تالياً، ونمر الآن مروراً سريعاً بألوان المساعدات الأخرى، والتى تبدأ بمساعدة الأرملة التى مات زوجها، وجاء المرابى ليأخذ ولديها وفاء لدين لا تملك دفعه،... ومع أننا لا نعرف من هو زوج هذه الأرملة، إلا أن بعض التقاليد تقول إنه عوبدياً، والذى عال مائة من بنى الأنبياء فى أيام إيليا، ولو صح هذا التقليد فإننا أمام كارثة مضاعفة، كارثة بيت هوى من مجده وعزه إلى الفقر المدقع والحاجة القاسية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الدائن المرابى أراد أن يأخذ الولدين وفاء وسداداً للدين المطلوب، ومن صرخة المرأة إلى أليشع، يقفز أمامنا السؤال: هل حدث هذا لرجل كان عبداً للّه ويخاف اللّه، لأنه استدان، وأغرق نفسه فى الدين من أجل عمل اللّه!؟؟.. وهل يكون هذا هو الجزاء!!؟ وهل يتخلى اللّه عن مثل هذا الإنسان أو بيته!!؟... والاختبار الصادق: "كنت فتى وقد شخت ولم أر صديقاً تخلى عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزاً!!؟ " مز 37: 25 " على أية حال كان هذا هو المأزق الذى وقعت فيه الأرملة!!؟ وكان من الطبيعى أن تلجأ إلى رجل اللّه، إذ هو أول من يخطر على البال أو بتعبير أدق، أول إنسان يفترض أنه يواجه المشكلة أو يشارك فيها!!؟... ترى هل يعرف خدام اللّه، هذه الحقيقة؟ أو بالأحرى هل يمارسون خدمتهم بهذا الإحساس العميق بالواجب والتبعة، دون أدنى تردد أو تراجع؟،... على أية حال لقد قاد رجل اللّه الجميع لحل المشكلة، فلم ينفرد بحلها، إذ أعطى كل واحد نصيبه فيها، فالمرأة لا ينبغى أن تقف متفرجة على الحل، بل لابد أن تساهم فيه بجهدها، وجهد ولديها معها، ولابد أن تستخدم دهنة زيتها فى مواجهة المشكلة،.. وإنه لمن أعظم الأساليب وأجملها، أن نعلم الذين يواجهون المشاكل، كيف يشتركون هم بأنفسهم فى حلها، مهما يكن مجهودهم يسيراً أو محدوداً،.. كما لابد من مساندة الآخرين من أصدقاء أو جيران أو مساعدين، واستخدام أوعيتهم وأوانيهم، وكلما اشترك الآخرون فى الجهد أو عانوا فيه، كلما كان الحل أكثر سهولة وأعظم يسراً،... على أن لب حل المشكلة، هو الاتجاه إلى اللّه، ووضعها بين يديه، وذلك بالإيمان به صديقاً وشريكاً فى الوصول إلى الحل العظيم،... ومن العجيب أن اللّه على استعداد أن يضيق أو يوسع فى الحل، على قدر ما لنا من إيمان ضيق أو واسع، لقد طلب أليشع من المرأة أن تكثر من الأوعية، ولا تقلل منها، واستمر الزيت يسيل، حتى لم يعد هناك وعاء بعد، ولم يتوقف حتى قال لها ابنها: " لا يوجد بعد وعاء " 2 مل 4: 6 "... وسددت المرأة الدين، وبقى لها ما عاشت به مع ولديها زمناً طويلا،... وهكذا يتدخل اللّه، على قدر ما نعطيه فرصة التدخل فى حل مشاكلنا وسد احتياجاتنا!!.وإذ نتحول من قصة الأرملة الفقيرة، إلى الشونمية العظيمة، نتحول إلى مشكلة أخرى أعمق أثراً وأبعد امتداداً،.. لم يكن للشونمية ابن يتعرض للضياع بسبب الدين أو الضيق أو الحاجة، بل لم يكن لها ابن أصلا، إذ كانت المرأة عاقراً،... كانت تملك مالا ولم تكن تملك ولداً، وهذه - قصة الدنيا على الدوام، تسخو من جانب، وتحرم من الجانب الآخر، فالفقير يمتلئ بيته من الأولاد، وقد يحسد الغنى على ما يملك من مال،... فى الوقت الذى يتمنى فيه كثيرون من الأغنياء أن يحرموا من وافر أحوالهم ليجدوا خلفاً يعقبهم، أو ابناً يمد فى ذكرهم، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه: تأتى الرياح بمالا تشتهى السفن.على أن الشونمية - مع ذلك - لم تكن المرأة المتمردة، أو المتذمرة على حظها من الحياة، أو نصيبها من الدنيا، إذ كانت قانعة بما قسم اللّه لها، راضية بمشيئته، مستسلمة لإرادته، وكانت تشرب، فى عمق، من نهر الشركة مع اللّه،... وكان بيتها هو البيت المفضل لأليشع، كلما جاء إلى شونم أو مر بها، وقد وجد إكراماً من المرأة، حتى أنها أقامت له عليه خاصة به، حتى إذا جاء يميل إليها!!... وإذا كان إبراهيم قد أضاف الملائكة، وهو لا يدرى، وكان ثمرة الضيافة الوعد بإسحق، فإن هذه المرأة أخذت بركات الضيافة الموعود بها من اللّه،.. لقد أراد أليشع أن يرد بعض الدين الذى فى عنقه تجاه هذه المرأة، وهو رجل معروف للملك ولرئيس الجيش، ولعله يستطيع أن يخدمها إذا كان لها من حاجة عند أحدهما،.. والمؤمن ينبغى أن يبذل جهده وساطته من أجل أخيه المؤمن، إذا كان ثمة حاجة يستطيع أن يعينه عليها، ولا ضير البتة من هذه الوساطة، بل إنه فى الواقع يكون مقصراً، إذا رأى أحداً من اخوته المؤمنين فى ضيق أو حاجة دون أن يقدم على مساعدته ومعونته،... ولكن المرأة كانت من النوع المحبوب والمسالم، فليس ثمة مشكلة من هذا القبيل،... كانت مشكلة المرأة، وعلى وجه الخصوص فى تقاليدنا الشرقية، أنها بلا ولد، والأمر الذى يصل - كما ذكرت أيضاً إليصابات - إلى حد العار!!.. " لو 1: 25 " وكان وعد أليشع أن العاقر ستحتضن إبناً بمرور العام، وجاء الابن،... وأصبح كالمشعل المضئ فى جنبات البيت، وكان يجرى بين البيت والحقل، قرة عين لأبويه،... حتى أصيب بضربة شمس قضت عليه فى الحال،... وكان السؤال الذى قفز أمام ذهن المرأة، وطرحته فيما بعد أمام أليشع فيما معناه: ألم يكن من الأفضل أن لا يوجد الولد أصلا، من أن يأتى ثم يرحل على هذه السرعة المفاجئة!!؟ وهل الأفضل أن لا يوجد الأمل فى الحياة، مهما يكن حلواً أو عزيزاً أو مطلوباً!!؟ أم أن يأتى ويلوح للإنسان كشعاع عظيم رائع من الضوء، ثم لا يلبث أن يذهب ويتبدد ليترك وراءه الدنيا غارقة فى الظلام!!؟.. كانت تلك هى المشكلة وكان هذا هو المأزق... ولم يكن هناك إلا الحل الواحد، الذى أدركته الشونمية، وأدركه أليشع، وكانا ولا شك يعرفان ما فعل إيليا مع ابن أرملة صيدا عندما مات، وأعاده مرة أخرى إلى الحياة،... قالت المرأة لزوجها الذى تساءل: لماذا تذهب إلى رجل اللّه فى غير ميعاد، فلا رأس شهر أو سبت؟ وقالت لجيحزى المسرع بأمر من أليشع الذى رآها من فوق جبل الكرمل، ليسألها عن سر مجيئها المفاجئ؟!... قالت كلمة واحدة فى الحالين: سلام!!.. وكان من المستحيل أن يصل إليها السلام دون أن تواجه مشكلتها بدون الإيمان بقدرة اللّه وإحسانه وجوده وحبه وحنانه!!... لم ترض المرأة أن يذهب جيحزى وهو يحمل عكاز أليشع، إذ أن هناك - كما قال أحدهم - فرقاً بالغاً فيمن هو الرجل الممسك بالعكاز، أهو النبى أم جيحزى؟ إذ أن الشئ الأعظم فى العظة هو الواعظ الذى يعظ بها، وإذا كان الملك الفرنسى قد قال: " أنا الدولة "، وكان جباراً طاغية، فإنه فى المعنى الأصح والأدق، يمكن للواعظ أن يقول: " أنا العظة "، والمعلم " أنا الدرس"،.... وما كان للمرأة أن تأتمن جيحزى، حتى ولو حمل عكاز أليشع،.. والمعجزات العظيمة تحتاج إلى مؤمنين عظماء!!... لقد أعطى أليشع - بالإيمان باللّه - الولد مرتين إلى أمه، المرة الأولى بالميلاد والمرة الثانية بالإقامة من الأموات!!.فإذا تحولنا إلى المعجزة التى واجه بها أليشع الطعام المسموم، عندما كان يعلم فى الجلجال بنى الأنبياء، وذهب واحد منهم ليلتقط بقولا فوجد يقطيناً برياً وضعوه فى القدر مع الطعام، ولم يلبثوا أن صرخوا: " فى القدر موت يا رجل اللّه، " " 2 مل: 40 "، وإذا بأليشع يضع الدقيق فى القدر، فكأنه لم يكن شئ ردئ فى القدر،... وما أكثر ما تتكرر هذه الواقعة بالمعنى الروحى فى التعاليم الفاسدة التى يتناولها الإنسان كطعام الحياة، وهو يظن أنه يأكل الدسم، ثم لا يلبث أن ترتفع صرخته: " فى القدر موت يا رجل اللّه "!!... حتى يأخذ خبز المسيح فى دقيق الإنجيل النقى، وكأنه لم يكن شئ ردئ فى القدر،... فإذا أضفنا إلى هذه المعجزة بركة الرب فى خبز الباكورة الذى حمله رجل إلى أليشع، وكان عشرين رغيفاً من شعير وسويقاً فى جرابه، وإذ فزع خادم أليشع من أن يضع هذا أمام مائة رجل، وقال: " هل أجعل هذا أمام مائة رجل؟ فقال: أعط الشعب فيأكلوا لأنه هكذا قال الرب، يأكلون ويفضل عنهم، فجعل أمامهم فأكلوا وفضل عنهم حسب قول الرب " " 2 مل 4: 43 "... وهل نذكر الفارق البعيد بين عشرين رغيفاً وسويقاً من الفريك أمام مائة رجل،... وبين خمسة أرغفة وسمكتين أمام خمسة الاف ماعدا النساء والأولاد، بين أليشع والمسيح له المجد؟؟!!.فإذا تركنا هذه المعجزات جميعاً، إلى الفأس العارية التى كان يستخدمها واحد من بنى الأنبياء، وهم يجهزون مكاناً ليقيموا فيه على مقربة من الأردن، وسقط الحديد فى الماء، وخرج الشاب إلى أليشع، إذ أنه كان قد استعار الفأس، ولابد أن يردها، ورمى أليشع قطعة من الخشب، فطفا الحديد على الماء،... ومع أنه يعنينا هنا أن نتحدث عن رقة أليشع البالغة التى تهتم بأن تساعد المستعير على رد العارية، مع أنه كان من الممكن الاعتذار بما حدث،. غير أن أليشع يشجعنا على رد المستعار مهما كانت قيمته صغيرة أو كبيرة وفاء للأمانة، التى يجب أن تكون من أوضح صفاتنا وسلوكنا كمؤمنين،... على أن الأمر الأعظم هو فى الحديد الطافى على الماء، والذى يشير فى المغزى الروحى إلى انتصار النعمة الإلهية على من أغرقتهم آثام الخطية، وشرورها وفجورها، أو همومها ومتاعبها وآلامها، وأنه مهما تكن الظروف، فإن رسالتنا الدائمة أن ننفذ الغرقى، وأن نرفعهم فوق خطاياهم أو متاعبهم إذا ما وجهنا أنظارهم إلى الخشبة العظمى التى علق عليها يسوع المسيح على هضبة الجلجثة!!.. أليشع والقوى الحارسة وكم نحتاج أن نتأمل أليشع مع غلامه فى دوثان، لنرى الفارق بين البصيرة، والبصر، وبين المؤمن المدرب على الشركة المتعمقة مع اللّه، والحديث الإيمان الذى لم يدخل إلى العمق فى الحياة الروحية!!... نام أليشع وغلامه فى تلك الليلة فى دوثان، ولا نعلم ما الذى أيقظ الغلام فى الصباح الباكر ليرى المدينة الصغيرة محاصرة بجيش ثقيل للأراميين،.. كان أليشع كرجل وطنى يحب بلاده، قد دأب على تنبيه ملك إسرائيل فى حربه مع الأراميين إلى مواقعهم ومواطن الخطر التى يمكن أن يهاجموا منها، إلى درجة أن ملك آرام ظن أن هناك خيانة ضده بين قواده وأتباعه، ولكن واحد منهم بين له السر الكامن فى أليشع، وفى قدرته على الكشف عن سرائر الملك وأعماله،... وسمع الملك أن أليشع فى دوثان، فأرسل مركباته وفرسانه وجيشاً ثقيلا وحاصر المدينة ليلا،.. ولعل النظرة الدقيقة إلى الخطر الذى أحاط بأليشع، يمكن أن تعطى صورة لفداحته، وأكثر من ذلك، إلى صورته النمطية المشابهة فى حياة الناس، فالخطر شئ قد يفاجئ الإنسان الهادئ الوادع الذى يستيقظ بين عشية وضحاها، ليرى كل شئ قد انقلب رأساً على عقب،... لقد نام أليشع فى الليلة السابقة دون أن يخشى شيئاً أو يفزع من خطر، وها هو الآن يرى الخطر حقيقة ماثلة أمام عينيه، إن الزمن قلب، والحياة متغيرة، ولا أمان لإنسان فى أى زمان أو مكان من أن تأتيه الأخطار من هذا الجانب أو ذاك، دون أدنى توقع أو استعداد،... وكان الخطر - أكثر من ذلك - هو خطر الإنسان الذى لا يدرى مؤامرات الآخرين ضده، فهو ينام هادئاً ساكناً، لا يعلم أن المؤامرات تحاك ضده فى الظلام،... وما أكثر ما يقع المؤمنون فى فخاخ لا يلبثون أن يجدوا أنفسهم مطوقين بها من كل جانب، يدرون أو لا يدرون، وتذهب كل حيطة فى خبر كان كما يقولون،... على أن الأمر الأقسى والأشد، هو أن الخطر حدث بكيفية لا يمكن الإفلات منها أو دفعها،.. لقد طوقت المدينة بجيش ثقيل جداً ولا سبيل حسب النظرة البشرية إلى الدفاع أو الخلاص من القوة المحاصرة!!.. ولأجل هذا فزع الغلام جداً، ووصاح: " آه يا سيدى، كيف نعمل!!؟ " 2 مل 6: 15 "... ولم يفزع أليشع مثل الغلام، وصلى إلى اللّه ليفتح عينى الغلام، ويرى الجيش الحارس المرسل من اللّه للنجدة!!... وهذا الجيش يتميز بسمات أساسية، إذ هو أولا وقبل كل شئ الجيش الحقيقى. فى قصة الإلياذة والأوديسة - لمن قرأها - وفى سائر كتابات الإغريق والرومان والمصريين نرى الخيال الوثنى وهو يتحدث عن تلك الآلهة التى كانت ترف على الناس وتمنحهم المعونة والقوة والمساعدة، فتأتى مثلا مينرفا إلى تليماك بن أودسيوس وتثير فيه حماسة البحث عن أبيه، وتضفى عليه المهابة والجلال إزاء أعدائه، بل تسخر له الريح والهواء والناس، وتحفظه من الأعادى. هذا هو الخيال الوثنى، أما كتاب اللّه الصادق فيرينا أن اللّه يرسل جيشاً حقيقياً من الملائكة المرسلين لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص،.فالجيش الذى رآه أليشع وغلامه لم يكن صورة خيالية أملاها الوهم، بل حقيقة لم يرها الغلام إلا بعد أن فتحت عيناه،.. ولعله من اللازم أن ننبه ههنا، إلى الحقيقة - التى كثيراً ما ينساها الإنسان - وهى أن المنظور فى الحياة، هو أقل الأشياء، وأن الإنسان عن طريق العدسات المكبرة أو المخترعات المختلفة، أمكنه أن ينفذ ببصره إلى ما لم يكن يراه من قبل،... فإذا وضعنا هذه القاعدة، فإننا نعلم - فى المعنى الروحى - أن هناك عالماً خفياً أعظم وأوسع وأرهب وأقدر من كل عالم مرئى منظور ومعروف بين الناس،... وأن البصر لا يستطيع أن يصل إلى هذا العالم أو ينفذ إليه، وأن البصيرة الروحية، هى التى يمكن أن تراه، وهذه البصيرة هى التى فتحت عينا الغلام عليها ليرى الجبل مملوءاً خيلا ومركبات اللّه حول أليشع،... من الواضح أن هذا الجيش غير المنظور أقوى من كل جيش أرضى منظورة، بل هو أقوى من جيوش الأرض مجتمعة معاً، ويكفى أن قبضة ملاك واحد قضت فى ليلة واحدة على مائة وخمسة وثمانين ألفاً من جنود سنحاريب،.. " 2 مل 19: 35 " وقد كان هذا الجيش هو الجيش الحارث، فإذا كان جيش آرام قد أحاط بدوثان، ودوثان هذه مدينة فوق تل، وقد أحاط بها معسكر ملك آرام فى السهل، ووجد الغلام عندما فتحت عيناه، أية قوة تقف بينه وبين الجيش الأرامى،... جيش آخر من نار ولا يستطيع جيش آرام أن يبلغه أو يبلغ أليشع ما لم يقتحم هذا السور من نار!!.. حقاً إن " ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم... " مز 34: 7 " وهذا الجيش جاء إلى أليشع وظهر له، وهو يؤدى واجبه الموضوع عليه إزاء بلاده وشعبه،... وعندما نؤدى الواجب المطلوب منا، سنجد ملائكة الله تساعدنا وتساندنا... كان أبتلتيتوس الرواقى يقول: ضع غرضاً نبيلا أمامك واذكر اللّه وسر إلى الأمام ولا تخف. وعندما أحاط الخطر بأليشع أحاطت به القوى الإلهية الحارسة، ويالها من قوى مباركة تسهر علينا سواء ندرى أو لاندرى!! كان استونول جاكسون من أعظم القواد الذين أنجبتهم أمريكا، وقد قيل عنه أنه لم يكن يخاف على الإطلاق أى إنسان أو أى عدو، وقد حارب جاكسون مرات متعددة فى ظروف من أقسى الظروف التى تمر بقائد، وقد حدث عندما كان قائداً لجيوش الشمال فى الحرب الأهلية الأمريكية - وكانت الحرب فى أدق مرحلة من مراحلها - أن أرسل إلى راعى كنيسته رسالة ظنها أهل المدينة متعلقة بأنباء القتال، ولذا قرأها الراعى بصوت عال ليجد القائد يقول له: " ياراعى العزيز لقد تذكرت اليوم أن المطلوب للعمل المرسلى فى الخارج قد جاء ميعاده، وها أنا أرسله لكم، وآمل أن يأتى اليوم عندما تنتهى هذه الحرب، ويفوز الجانب الواقف إلى جانب الحق، أن نذهب جميعاً إلى العمل الرئيسى فى الحياة الذى هو خلاص نفوس الناس " وصف أليشع فى الكتاب تسعة وعشرين مرة بأنه رجل اللّه، وقد كان حقاً الرجل الذى عاش ببصيرته الروحية يحمل رداء إيليا، وهو الوحيد بين جميع الأنبياء والقديسين الذين امتدت معجزاتهم إلى ما وراء حياتهم، إذ مس ميت عظامه فى قبره عندما طرحه حاملوه على عجلة خوفاً من غزاة موآب، فقام وركض وراءهم " 2 مل 13: 21 ". وكان هو مثل إيليا يحق له أن يوصف بالقول: مركبة إسرائيل وفرسانها، أو ذلك الجيش العظيم العرمرم الذى يصنعه اللّه من فرد، لمجده العظيم فى الحياة وبين الناس!!.
المزيد
13 فبراير 2021

المقالة الخامسة والعشرون في الورع

أيها الأخ أحذر جداً ألا تضيع الطريق الممهدة المستقيمة وتسلك في الظلمة لكي لا عند أواخرك توجد لدى اللـه والناس قاسياً لأن الويل للذين تركوا المناهج المستقيمة ليسلكوا في سبل الظلمة، الويل للمسرورين بالأسواء والمستبشرين بالإنعكاس الردئ الذين سبلهم وعرة ومناهجهم معوجة ليجعلوك بعيداً من الطريق المستقيمة وغريباً من العزم المقسط فلذلك أتبع ما قيل، أنهم لا يدركون الحياة لأنهم لو سلكوا طرقاً صالحة لكانوا قد وجدوا سبيل الصديقين الممهدة، الصالحون هم الذين يسكنون الأرض وذوو الوداعة يعمرون فيها، طرق المنافقين تباد من الأرض أما أعداء الشريعة فيرفضون منها، فيلزم ضرورة أن تسلك الطريق المستقيمة كما يأمر القائل لا تجنح يميناً ولا يساراً ورد رجلك من الطريق الرديئة لأن الرب قد عاين الطريق اليميني والطريق اليساري معوج، أتقِ الرب فتحفظك خشيته، أحفظ وصاياه فهي ترشدك إلي الحق والتعظم، أما الفساد والحسد والكبرياء ونظائر هذه لا توطنها في حصنك ومثلها تلوين الأغذية والأقوال السفيهة والمزاح والخلاعة في الأشياء الغير لائقة فكل من يسلك في هذه قد ضل عن طريق الحق معتسفاً علي غير هدى، فأما السالك في الطريق المستقيمة يبلغ إلي منزل الحياة، فلا تضيع أيها الحبيب الورع الفاقد الرياء، التورع هو الابتعاد من كل نوع خبيث، إن سمح اللـه أن تُعَير من أجل عمل صالح فلا تخجل من التعيير الآتي من الناس ظلماً وتعمل ما لا يجب لأنه قال في إشعياء ” يا شعبي الذي أسمي في قلوبكم لا ترهبوا تعيير الناس ولا تنغلبوا لاستحقارهم لأنه كالثوب الذي يعتق من الزمان وكالصوف المأكول من السوس تبلى المساوئ العارضة لك ويبقى عدلك إلي الأبد وخلاصك إلي جيل الأجيال ” ويقول أيضاً أنا لست أقاوم ولا أجاوب قد بذلت ظهري للسياط وفكي للطم أما وجهي فلست أرده عن خزي البصاق والرب صار معيني لهذا لست أخجل بل جعلت وجهي كصخرة صلبة وقد علمت أنني لست أخزى فلذلك لو مسك شرف الاغترار وترأس علية فلا تجزع ولا تترك الطريق المستقيم كما يعلمنا القائل: إن أصطف عليَّ عسكر لا يرهب قلبي. ويقول أيضاً: تقووا ترجلوا وليعتز قلبكم يا جماعة المتوكلين علي الرب. لا تعير الخاطئ لأنك لا تدري كيف يكون منقلبه فالأفضل أن تعمل كل شئ كما يشاء اللـه أحسن من أن تمدح رديئاً وتحوى خبراً قبيحاً إذ الرب يقول هكذا فليشرق نوركم أمام الناس لكي ما يبصروا أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذي في السموات. فلا تجنح الآن عن غير مسلك الطريق المستقيمة لكي لا تسقط في خسفات وأماكن مقفرة ويحدق بك كافة الوحوش البرية وتطوف بك مياه كثيرة فتندم حينئذ متوجعاً لأنه لا يتوجع إلا من تحدق به الأسواء لأن اللـه متعطف علي البشر وصالح ولا يشاء لجبلته سوء، كما يذكر القائل: أنه لا يفرح بهلاك الأحياء لأن العذاب غير فانٍ. وفي موضع آخر يقول: لا يقولنَّ أحد إذا أمتحنَّ أن اللـه أمتحنني فإن اللـه لا يمتحن بالشرور وكل أحد إنما يمتحن من قبل شهوته يجتذب وينخدع ثم أن الشهوة إذا حملت تلد خطيئة والخطيئة إذا كملت تنتج الموت، إن الشهوة أم الخطيئة التي أخرجت حواء من الفردوس، وجعلت قايين قاتل أخاه، جعلت المصرية تراود يوسف العفيف وإذ كان الشاب يخاف اللـه طرحها، هذه أسقطت الشعب في القفر وأبادت سبع أمم في أرض كنعان إذ أغاظوا بها الذي خلقهم فلذلك أضمحلوا، هذه أمالت قلوب بني إسرائيل عن شريعة العلي كما كتب ” أنهم صاروا خيلاً هائمة علي الإناث وكل واحد منهم صهل علي امرأة قريبه، هذه أطغت قاضي الشعب ببابل لأن الشهوة الرديئة هي أم الخطيئة، هذه أنهضت الحروب والهياج علي الأرض، هذه جعلت هروديا تطلب رأس الصابغ، هذه لما أحبها يوداس أسلم رب المجد إلي الأثمة لأنه لما اشتهى الذهب أضاع الحياة. فلذلك يا أخوتي الأحباء فلنهرب من كل شهوة رديئة ولننفضها من قلبنا ونبعدها ولا نشفق عليها فإنها ليست مثمرة لكنها فرع المحال، ليست مرضاً للجسم لكن جرح للنفس وضربة للقلب، هذه تقطعنها من مساكنة القديسين، هذه تجذبنا من السموات وتقيدنا بالأرضيات هي شجرة غير مثمرة حاملة ورقاً متكاثفاً وفي أوراقها يسكن أولاد الأفاعي، أقطع شجرة الرذيلة وأغرس عوضها في نفسك شجرة الحياة، الصليب المكرم، آلام المخلص، آلام موته ومحبته فلتكن في قلبك كصخرة شامخة منصوبة في البحر تستدعي السفن المنبثة في اللجة إلي ميناء الحياة، جاهد كجندي نجيب لتنال الأكاليل، أسمع القائل: أجعل بني إسرائيل متورعين. إذا جاهدة بفرط الجهاد فستعرف حينئذ مواهب الملك وتعلم موقناً وقتئذ أن حسنة ونافعة وصالحة وصايا الرب والصبر له وحفظ وصاياه حينئذ تحس بالأوجاع كمنام صائرة لك كتاج الملك علي رأسه جالساً علي منبره حينئذ يصير لك سرور وابتهاج، وسرورك لا ينتزعه أحد منك.ليعطينا الرب أن نجد رحمة قدام صلاحه في هذا الدهر العاجل وفي المستأنف فإن له المجد إلي أبد الدهور.آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
11 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس النبي المرسل إلى يربعام

"فصادفه أسد في الطريق وقتله" 1مل 13: 34 مقدمة لست أعلم ما هي المشاعر التي تجتاحك إذا وقفت أمام قبر، أو نصب تذكاري، أو تمثال أو صورة لإنسان انتهت قصته الأرضية، وسمعت عن هذه القصة، أو قرأت كلمات قليلة عنها، أو ما يمكن أن تحيكه بين الناس، أغلب الظن أنك ستمتليء بالانفعالات، وستسمع الصمت نفسه يتكلم بلغة أبلغ من كل كلام. في الأصحاح الثالث عشر من سفر الملوك الأول، يظهر أمامنا النبي المرسل إلى يربعام بن نباط، كما يظهر البرق الخاطف، في يوم واحد، فهو النبي الذي ينادي يربعام وهو أمام المذبح المبتدع، بالرسالة الرهيبة، وهو الخارج من المدينة التي أمره الله ألا يبقى فيها، وهو الجالس تحت البلوطة، وهو المخدوع بكلمات النبي الشيخ، وهو الصريع وجثته إلى جوار الأسد والحمار، وهو المدفون في قبر النبي الشيخ في بيت إيل... حدث كل هذا في تعاقب سريع متتابع في يوم واحد، ولم تنته مع ذلك قصة الرجل، إذ بعد ثلاثمائة عام، في الأصحاح الثالث والعشرين من سفر الملوك الثاني، يقف يوشيا الملك أمام قبر فوقه كومة من الأحجار، قبر يختلف عن غيره من القبور الأخرى، ويسترعى الانتباه: "وقال ما هذه الصورة التي أرى، فقال رجال المدينة هي قبر رجل الله الذي جاء من يهوذا ونادى بهذه الأمور التي عملت على مذبح بيت إيل، فقال دعوه، لا يحركن أحد عظامه، فتركوا عظامه وعظام النبي الذي جاء من السامرة"... أجل وإلى الأبد أجل، وسيبقى الله صادقاً، وسيكذب كل إنسان، وسيتم الله صدقه في الحال وبعد ثلاثمائة عام، وبعد ثلاثمائة ألف مليون عام... وحاشا لله أن يكذب أو يتراخى أو يرجع، إذ هو الصادق الأمين في حياتنا أجمعين، وسترى صدقه وأمانته في كل شيء، ونحن نطالع قصة هذا النبي الذي تلاحقت الأحداث العجيبة في قصته في يوم واحد، ولعلنا نتعلم: النبي ويربعام لسنا نعلم ما اسم هذا النبي الذي أرسله الله من يهوذا إلى يربعام، وإن كان يوسيفوس المؤرخ اليهودي يطلق عليه اسم، "يعدون" والبعض يعتقد أن يعدو الرائي الذي جاء ذكره في سفر أخبار الأيام الثاني، متنبأ على يربعام بن نباط، وأياً كان الاسم، وأياً كان الشخص، فإن الصورة الأولى له تبدو من أروع الصور وأجملها وأبهجها،.. فهو النبي المرسل بكلمة الله أولاً وقبل كل شيء، وهو الواعظ المجيد الذي لا يتكلم من نفسه، بل بسلطان الكلمة الإلهية، لقد ذهب إلى الملك، بعد أن تلقن الدعوة بوضوح من الله في أدق دقائقها، وهو لا يلفت النظر إلى نفسه، فهو مجهول، وسيبقى اسمه مجهولاً، ولكنه يلفت النظر إلى الرب، وكلام الرب،.. وهو يتحدث إلى المذبح لأنه إذا لم يسمع الأحياء، وإن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ -وعندما يعيش الواعظ في يقين الدعوة، فإن منبره -كما قال سبرجن وهويتفلد من قبل- يتحول عرشاً، ويسبح هو في مياه الفردوس،.. وهو النبي الشجاع الذي لا يرى أمامه أحداً، عندما يتكلم إلى المذبح أو أحجار المذبح، معتقداً بأن الأحجار أقل صلابة من قلب يربعام، وهي تسمع عندما لا يسمع الملك نفسه، وهو لا يرى أمامه ملكاً، أو جمعاً من الناس، أو عيداً من الأعياد ابتدعه يربعام،.. لأنه إذا كان سليمان قد دشن الهيكل، فيربعام ليس أقل من سليمان، وهو أكثر منه يستطيع أن يكون ملكاً وكاهناً في الوقت عينه،.. والنبي لذلك يمثل كل صوت شجاع يتحدث دون خوف أو وجل أو تردد، فهو موسى أمام فرعون، وهو إيليا أمام آخاب، وهو يوحنا المعمدان أمام هيرودس، وهو بطرس ويوحنا أمام السنهدريم، وهو بولس أمام فيلكس، وهو أمبروز، وفم الذهب، ويوحنا نوكس، ممن كانوا أعظم صور للشجاعة في الأرض!!... وهو النبي الواثق من الحق الذي ينادي به، وسيصبح هذا الحق في الحال مؤيداً بالبرهان الإلهي، الذي لن يكون خفياً، بل سيشهده الجميع في المذبح المنهدم، والرماد الذي سيصيب وجه الملك، وجميع المعيدين معه، وسيعفر وجوههم وحياتهم، وسيدمر تاريخهم، ويحرق عظام كهنتهم، وعظام الناس معهم، فإذا امتد التنفيذ إلى أكثر من ثلثمائة عام، فإن برهانه السريع سيأتي في ومضة عين، على نحو واضح لا تجدي معه المكابرة،.. فإذا كابر يربعام، ومد يده ليأمر بالقبض على النبي، فإن يده لا تستطيع أن ترجع إذ تيبس عن الحركة، ويتحول الملك الآمر، إلى الملك المتضرع، ويصبح الوحيد الأعزل، أقوى من صاحب السلطان الطاغية المتجبر،.. فماذا نقول لهذا إنه إن كان الله معنا فمن علينا،.. وهو النبي العف، الذي لم يخضعه تهديد الملك، وبالأحرى إغراء الملك، بالاحترام والتحية والعطية، حتى ولو أعطاه نصف بيته،.. إن هذا النبي المرفوع الرأس وضع الشيطان أمامه الأمرين اللذين كثيراً ما يضعهما أمام خدام الله لعله يستطيع القضاء عليه بواحد منهما، التهديد، فإذا لم يجد أو يفلح، فليجرب العكس تماماً وهو الإغراء، وكم من أناس صمدوا أمام التهديد، ولم يصمدوا أمام الإغراء،.. لكن النبي المجهول الاسم، كانت عنده حتى تلك اللحظة الشجاعة والمثالية معاً، فلم يزجره وعيد، ولم يخضعه إغراء، وكان صورة مثلى للخادم العف الذي يستطيع أن يرفض ما يسيل له لعاب الآخرين، حتى يمكنه أن يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون،.. عندما عجز التهديد عن أن يضعف لوثر أو يلين قناته، عرضوا عليه ألواناً متعددة من الإغراءات والمنح والوظائف!!... ومع ذلك فقد كان شجاعاً أمام التهديد، وكان أشجع أمام سيل الإغراءات غير المنتهية!!... وهو النبي الرحيم الذي إذا جاء في الظاهر، يعلن غضب الله وشدته وبأسه وانتقامه، فإنه في الباطن ينادي بالرحمة الكاملة الإلهية العظيمة لو أحسن يربعام اقتناسها، وقد ظهرت هذه الرحمة واضحة في استجابته لرجاء الملك أن يضرع إلى الله من أجل يده، ولم يتركه النبي متصلب اليد كالخشبة سواء بسواء، بل ترفق به أمام الجميع، وطلب رحمة الله له،.. وكانت هذه إشارة لرحمة أكبر يمكن أن يصل إليها يربعام لو أنه فعل ما فعل ملك نينوى، عندما علم أن الله سيقلب المدينة بعد أربعين يوماً... كان يمكن أن يعلم بأن الله بطيء الغضب، وكثير الرحمة والإحسان والوفاء، لو أنه حطم البقية الباقية من المذبح المنهدم، وأمسك بعجلي الذهب، وكسرهما وطحنهما ورمى بهما على وجه المياه كما فعل موسى سواء بسواء،.. كان النبي المرسل ينادي يربعام بالاستعداد الإلهي للرحمة من فوق غبار المذبح الذي ملأ المكان!! ومن وابجنا على أي حال، مهما حدث فيما بعد، ألا ننسى له هذه الخلال العظيمة التي تحلى بها في موقفه الشجاع من يربعام!!.. النبي والبلوطة ونحن ننتقل هنا إلى المنظر الثاني في مسرحية الرجل، إذ نتحول من النظر إليه مع يربعام إلى جلسته تحت البلوطة، ونحن نسأل: لماذا جلس تحت البلوطة وقد أمره الله أن يفر من المكان، ويتباعد عنه، بأسرع وأقوى ما يمكن أن يكون التباعد؟، وما هي العواطف التي أحاطت أو سيطرت عليه أو اجتاحته، أو قادته إلى التجربة هناك؟؟ لعل أول عاطفة، كانت تجربة الإعجاب بالنفس، لعلنا نذكر ذلك الواعظ العظيم -وأغلب الظن أنه يوحنا ويسلي- الذي جاءه واحد من المستمعين ذات مرة ليقول له: ما أعظمك واعظاً، وما أروع عظتك وأعظمها تلك التي سمعتها في هذا اليوم،.. وأجاب الرجل الناضج الكبير: لقد سمعت كلمتك من آخر سبقك، فقال له الرجل متلهفاً: ومن هو؟ فأجاب: الشيطان!!،.. لقد جلس النبي تحت البلوطة، ودغدغ الشيطان إحساسه، وهنأه بالشجاعة التي لا مثيل لها، المثالية العظيمة التي من حقه أن يفاخر بها، وربما حدثه عن شخصيته العظيمة المنفردة، التي لا تعرف الأمة بأكملها نظيرها، وكيف يكون الحال، لو أنه لم يكن موجوداً،.. وكم تكون الخسارة البشعة، لو لم يوجد نظيره أو مثيله أمام الأزمات العظيمة، والصعوبات الهائلة المروعة... إن هذا الرجل كان أبعد من أن يدرك أن واحداً من أعظم الرجال في العصور كلها، رأى الله أن يحفظه من مثل هذا الخطر الداهم بشوكة قاسية: "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع".. أيها المصلح: أيها النبي: أيها الواعظ: احذر وصل ليلاً ونهاراً حتى لا تجلس تحت بلوطة النجاح، وأنت تنظر إلى شخصك بالكبرياء والخيلة والإعجاب بالنفس،.. فإن هذه تجربة الشيطان تدري أو لا تدري، وليحفظك الله من تجربة النجاح، كتجربة الفشل سواء بسواء!!.. على أن التجربة الثانية كانت: تجربة الجوع وهي تجربة أخرى تختلف تماماً عن التجربة الأولى،.. فإذا كانت التجربة الأولى أشبه بتجربة الشيطان للمسيح عندما أخذه على جناح الهيكل في المدينة المقدسة، وطلب إليه أن يطرح نفسه إلى أسفل ليراه الكل محمولاً على أيدي الملائكة دون أن يصيبه أذى، فيتملكهم الإعجاب، ويرون فيه المسيا المنتظر،.. فإن التجربة الثانية أشبه بالتجربة في البرية وهو جائع، الذي وإن كان ابن الله فليقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً، والله الطيب لابد أن يهتم بجوع ابنه، ورفض المسيح التجربة بقوله المعروف العظيم: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله"!!... جلس النبي تحت البطمة، وربما قسا عليه الجوع واشتد في تلك اللحظة ليسأل: كيف يمكن أن يتركه الله جائعاً، وهو النبي الذي يقدم خدمة ناجحة أمينة لسيده؟!.. هذه هي التجربة التي تتشكل بآلاف الصور تحت أية شجرة بلوط، عندما يجلس الخادم في وحدته القاسية ليسأل: أليس من حقه أن يأكل ويشرب كما يأكل ويشرب غيره من جميع الناس؟!... أليس من حقه أن يجد ضروريات الحياة، قبل الكماليات، كما ينبغي لأي ابن لله يرعاه الآب السماوي القادر على كل شيء!!.. فلماذا يجوع؟!! ولماذا يشقى؟!! ولماذا يتألم؟!! ولماذا يحتاج أولاده إلى الطعام والكساء وقد يجدهما أو لا يجدهما مع الصعوبة البالغة القاسية، وأين حنان الله، وحبه ورحمته وجوده؟!! آه أيتها البلوطة كم يحدث تحتك في السريرة من التجارب وأنت لا تدرين؟!!.. وكانت التجربة الثالثة: تجربة المجد العالمي، وكما أخذ السيد إلى جبل عال ليرى ممالك العالم ومجدها، والشيطان على استعداد أن يعطيه إياها جميعاً بشرط أن يخر ويسجد أمامه،.. جاء المجرب إلى النبي ليقول له: ترى هل كان من الضروري أن يرفض دعوة الملك يربعام؟، وألم يكن من الأفضل أن يتريث قليلاً قبل رفضها، حتى يقدم الخدمة الناجحة لإلهه؟!! أليس يربعام بن نباط في حاجة إلى من يرشده ويهديه إلى التصرف الصحيح؟.. وأليس هو في حاجة إلى نبي يعلن له الحق، ويصحح له السبيل؟!!، وأليس إذا ترك يربعام إلى شأنه، هل يضمن أحد أن يستجيب لدعوة الله، وينتفع بالرسالة الواضحة التي تبينها؟!!... هذه أسئلة كثيرة ربما تكون قد أتت له،.. لأنها تأتي إلى خدام الله الكثيرين، الذين يسألون مرات متعددة: هل من الضررة أن يفصل الإنسان بين الدنيا والدين؟، بين الحكمة البشرية وكلمة الله؟!!. وألا يصبح الأمر هنا نوعاً من العزلة التي لا ينتفع بها العالم، أو تغير المؤمنين أنفسهم،... ولماذا لا يدخل الخدام في قصور الملوك حتى تكون لهم الفرصة للخدمة والوعظ، والتعليم والإرشاد؟!!... ما أكثر الخدام الذين يجلسون مع النبي القديم تحت البلوطة تملأهم مثل هذه الأفكار والعواطف، وتهز عقيدتهم ووجدانهم ومفهومهم الديني هزا عنيفاً عميقاً من الأساس!!.. النبي والشيخ الزميل والآن نأتي إلى الفصل الثالث من المسرحية، وتتحول من البلوطة إلى الشيخ النبي الذي سار وراء رجل الله حتى وجده هناك، لتقسو التجربة وتكمل وتفعل فعلها الآثم الرهيب، ولعل القسوة تأتي هنا، من هذا القناع الديني الذي لبسته التجربة وتدثرت به، وجاء الشيطان في شبه ملاك نور، وجاء فحيح الأفعوان على لسان نبي شيخ قديم كان يسكن في بيت إيل ويعيش فيها،... وقد صاح المسيح في وجه بطرس، إذ لم يره التلميذ الحبيب العزيز، بل رأى الشيطان الذي يطل من خلال عينه، ويتكلم على لسانه، ومن ثم قال له: "اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" وإذا صح أن الشيطان يأتي إلى المسيح في بطرس، فمن السهل جداً أن نتصور، أنه جاء إلى النبي المرسل إلى يربعام، في زميله الشيخ الأسبق في النبوة، والذي يسكن في بيت إيل،.. ولعل من أصعب الأمور أن تأتي العثرة إلينا ممن هم أكبر منا سناً أو أكثر دراية في حياة المعرفة أو الفهم المسيحي،... ونحن لا نعلم لماذا ذهب الشيخ يبحث عن الشاب ليلتقي به، ويدعوه إلى الطعام، ويكذب عليه،... هل دعاه بدافع الإعجاب، فهو شاب قد بز الشيوخ، وهو صغير قد فعل ما لم يفعله الكبار، وهو المتكلم فيما أغلق غيره الفم وخاف من الكلام فيه،.. وهو الابد أن يجيبه، لأنه جرؤ على ما لم يجرؤ عليه هو،... لقد أرسل الشيخ أولاده إلى الحقل الكبير، ولم يذهب هو، ربما إبقاء على شيء من الإحساس الديني، بأنه لا يجوز له أن يذهب إلى منكر يفعله الملك، وهو لا يريد في الوقت عينه أن يسيء الملك التفكير فيه، أو يتصور إذا امتنع هو وأولاده معاً، أن هذا الامتناع هو نوع من العصيان الذي قد يعاقب عليه وإذا فلا مانع عنده من أن يداور الأمر، فلا يذهب هو، على أن يذهب أولاده، ولن يجد الملك غضاضة من قبول الوضع في التصور أن الشيخ قد يكون مريضاً أو عاجزاً عن المجيء، ما دام يوجد من يمثله ويحل محله،.. وعندما عاد أولاده ليقصوا عليه الأخبار المثيرة في ذلك الشاب الذي شق الصفوف بشجاعة، ووقف أمام الملك ليرعد في وجهه برسالة الله،... استولى على الشيخ الإعجاب وقاده هذا الإحساس بالإعجاب، إلى أن يدعو الشاب إلى بيته، حتى ولو اختلق الأمر وصور له أنه مرسل إليه بالرسالة من الله ليسهل عليه قبول الأمر والاستجابة له!!.. على أن البعض يصور الوضع تصويراً آخر، إذ يعتقدون أن الشيخ قد ذهب إلى الشاب مدفوعاً بالحسد منه، أليس هو الأكبر سناً؟ وها هو قد جلس في بيت إيل أخرس الفم واللسان، دون أن ينطق بكلمة لأن الملك أغلق الأفواه، وهوذا شاب جديد أفضل وأحسن وأعظم منه يتكلم بما عجز هو عن أن يفعله،... وهو إذا لم يكن له مثل هذه البطولة العظيمة فلا أقل من أن يصور لنفسه أنه يمكن أن يكون شريكاً صاحب الفضل في جانب من هذه الخدمة، عندما يرى الناس الشاب داخل بيته، وعلى مائدته، وإذ لم يقبل النبي مائدة الملك إطاعة لأمر الله، فإنه يقبل مائدة الشيخ النبي لأن الأخير شريك في الرسالة العظيمة التي قام بها الأصغر!!... نحن لا نملك أن نعرف تماماً وعلى وجه التحقيق الدوافع التي دفعت الكبير إلى الكذب على الشاب،.. ولكننا نعلم بكل يقين أن الشاب أخطأ خطأ فادحاً قاتلاً!!... وذلك لأنه أبهم الرسالة الواضحة المرسلة له من الله،.. نحن نعلم أن الله كلم الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة،... وليس من السهل أن نعلم الطريقة التي تكلم بها إلى هذا النبي وحدد له بكل وضوح رسالته إلى يربعام... فهو مرسل من الله ليتحدث عن نبوة ستبدأ به وتنتهي بملك في بطن المستقبل البعيد اسمه "يوشيا" وسيأتي هذا الملك على بعد ثلاثة قرون من يربعام، ولكنه سيأتي ليقود حركة واسعة من الإصلاح، ويحرق عظام الكهنة الكاذبين، ويطهر الأمة كلها،... ومثل هذا الكلام الواضح لا يحتمل الشبهة والتردد، فإذا جاءه شيخ أو ملاك من السماء ليقول له ما يبهم هذه النبوة في جانب منها أو ما يلاحقها من أمر إلهي واضح صريح، فإن واجبه الكامل أن يرفض رفضاً قاطعاً، أية أفكار أو مزاعم تدعى أنها منسوبة إلى الله، والسر واضح بين لا يحتمل الإبهام والتردد، لأن الله لا يكذب أو يناقض نفسه وأقواله،... لكن النبي الشاب، وقد اختمرت التجربة تحت البلوطة في ذهنه، كان أشبه ببلعام بن بعور الذي عاد يسأل الله، ما يعلم يقيناً أن الله كشفه له بكل وضوح.. كان الشيطان قد وجه إلى الشاب ضرباته الشديدة التي جعلته يترنح، وجاءت كلمات الشيخ الكاذبة، لتكون الضربة القاضية الأخيرة عليه!!... على أن الأمر الأكثر إثارة وعجباً، أن الشيخ وهو على المائدة أجبره الله على أن ينطق بمصير الشاب التعس ومصرعه الوشيك على الحدوث، ومن حقنا أن نقف هنا على حقيقة بالغة، إن المجرب في العادة لا يشفق على الضحية، وسيكون هو أول من يخبرها بالقضاء الإلهي الذي يقع عليها،.. ومن المحزن المؤلم أن النبي الشيخ بعد أن سمع بمصرع النبي الشاب أخذ يصيح عليه قائلاً: "آه يا أخي".. ونحن نسأل عن هذه الصيحة أو هذا النوح أو البكاء، وما معناه أو مغزاه،.. أهو نوع من الإحساس بالذنب أدرك الرجل إذ علم أنه السبب في هذا المصرع البشع؟!!.. أم هو نوع من الألم عندما نرى أنفسنا تجاه مقتل رجل عظيم، ولا كل الرجال!!.. أم أن الرجل مد بصره بعيداً فرأى في المصرع رمزاً لمصرع أمة بأكملها؟!!... قد يكون الأمر واحداً من هذه، أو قد تكون هذه جميعاً مختلطة معاً!!... النبي والأسد كان مصرع النبي قاسياً بشعاً: "فصادفه أسد في الطريق فقتله" ولابد لنا أولاً وقبل كل شيء أن ندرك هذه الحقيقة أن ما يأتي في فهم الناس على أنه "مصادفة" سيئة، لا يمكن أن تكون في واقعها إلا أمراً إلهياً معيناً،... ومهما كانت المصادفة رهيبة، فإنه لا توجد بلية في الأرض إلا والرب صانعها،... والمصادفة عند الناس مردها في الواقع صعوبة التحليل، ومعرفة الخط الإلهي، في الأحداث والحوادث، ويكفي أن تقرأ مثلاً ما جاء في المزمور المائة والرابع: "الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها"... والشطر الأول يتحدث عن الظاهرة في الحيوان الأعجم الذي يحركه الجوع إلى الزمجرة والخطف،... والشطر الثاني يتغور إلى الأعماق، إذ تتحول الزمجرة إلى ما يشبه الصلاة والالتماس من الله أن يعطيها الطعام،.. وفي مصرع النبي جاء الجواب هنا بالدليل العكسي، إذ أن الأسد لم يأكل الجثة أو يفترس الحمار، ووقف إلى جوارهما حتى جاء الشيخ وأخذ الجثة ليدفنها!!... ولعلنا نستطيع أن ندرك هنا، أن المادة الصماء، والغريزة المنفعلة، والعقل المفكر، والقلب الواعي: تخضع جميعها، وتتحرك تحت سلطان الله وأمره وسيطرته، وأن كل ما في الوجود، يتمم مشيئته، ويعمل لمجده، وينتهي إلى إثبات مقصده العلوي العظيم!!... والسؤال بعد هذا كله لماذا قضى الله على نبيه بهذه الصورة القاسية الشديدة البشعة؟ هناك أكثر من تفسير لذلك،... والتفسير الأول: أنه ابتداء القضاء من بيت الله، وأن الله يحكم كل شيء، لا بحسب مفهوم الترتيب البشري، بل بحسب الحكمة العلوية الخفية، التي تختلف أفكارها عن أفكار الناس، وطرقها عن طرقهم،... ولو وضع الأمر بحسب الترتيب البشري، لكان المتصور أن الضربة الأولى لابد تقع على يربعام بن نباط، ولكن الله أرجأ هذه الضربة اثنين وعشرين عاماً ليقضي عليه بعد أن تمادى في شره، ولم يرع، أو يتنبه أو يقبل أصوات الله المتلاحقة،... وكان التصور الآخر أن الضربة الثانية تقع على عاتق الشيخ الذي كذب عليه، وكان السر والمشجع على ضياعه ولكن الشاب مات قبل الشيخ، ودفنه الشيخ في قبره، وتصورناه أنه يمكن أن تقع عليه الضربة الثالثة جاء ترتيبه أولاً لكي يتأكد الناس أن الله لا يمكن أن يتحيز أو يحابي الوجوه أو كما يقول الرسول بطرس: "لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله، فإن كان أولاً منا فما هي نهاية الذين لا يطيعون إنجيل الله، وإن كان البار بالجهد يخلص فالفاجر والخاطيء أين يظهران... وسندع الله يضرب ضرباته الرهيبة التي ستأتي فيما بعد، لكن على المؤمن أن يتحذر لأن الله قد يجعله أولاً عبرة للآخرين، وإذا كانت خطية النبي قد عوملت هذه المعاملة، فستكون معاملة يربعام أقسى وأشد وأشنع، وستبقِى عظام النبي ثلاثمائة عام في قبرها، أما يربعام فسيلحقه الدمار الرهيب: "لذلك ها أنذا جالب شراً على بيت يربعام، وأقطع ليربعام كل بائل بحائط محجوزاً ومطلقاً في إسرائيل وأنزع آخر بيت يربعام كما ينزع البحر حتى يفنى من مات ليربعام في المدينة تأكله الكلاب ومن مات في الحقل تأكله طيور السماء لأن الرب تكلم".. لقد قضى الله على نبيه أولاً، لأن انتظاراته من هذا النبي كانت أكثر وأعظم، ولأنه بدأ حسناً، وانتهى سيئاً، أو لأنه -في عرف تفسير آخر- كان في انحداره النفسي يخشى أن تكون حياته لو عاش أسوأ بما لا يقاس منه عند مماته،.. ووجد من قال آخر الأمر: إن أحكام الموت في حد ذاتها تعلو على كل فهم بشري، وتنتظر يوماً لم يأت بعد عندما يقف الجميع أمام العرش العظيم الأبيض: "ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات كما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم".. ولعله من الواجب أن نتريث فلا نتعجل الحكم قبل هذا اليوم الرهيب العظيم!!... على أن بعض المفسرين -مع تسليمهم بهذا كله- رأوا النبي في موته رمزاً لإسرائيل بأكملها، لقد قتله الأسد، ولم يفترس الحمار، لأنه وصل إلى مركز أسوأ من الحمار نفسه، لأن الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف وشعبي لا يفهم، والذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر، وعندما سقطت المملكة وتبادعت عن الله، أرسل إليها السباع لتفتك بالناس، وكانت جثة النبي وقد قتلها الأسد رمزاً لجثة إسرائيل بأكملها، بعد أن قضى عليها الله قضاءه العظيم العادل!!... مهما تكن الصورة،.. فإن قصة الرجل ظلت محفوظة عند الناس حتى جاء يوشيا الملك بعد ثلاثمائة عام ليراها معروفة للجميع، وغير مجهولة من أحد!!... وعلى أي حال فإن مصرع النبي سواء في المفهوم الشخصي أو الرمزي كان عميق الدلالة، ممتد المغزى بعيد الأثر!!... النبي والصورة مات النبي ودفن في بيت إيل، ودفن الشيخ إلى جواره، وكانت تعلو المقبرة صوة عالية مميزة رآها يوشيا الملك، ولفتت نظره، ولم تلفت نظره وحده، بل إنها لفتت أنظار التاريخ إلى أن تنتهي الأرض وما عليها،... والصوة تؤكد صدق الله الساهر على كلمته ليجريها، والذي يحكم التاريخ إلى ألف جيل، ولا يمكن أن يسقط حرف واحد من كلمته الصادقة الصالحة الكاملة الأبدية!!... وإذا كان يوشيا قد أخرج عظام الكهنة الأشرار والناس، وأحرقها ليطهر الأرض منها. فإنه أبقى على عظام النبي دون أن تمس، وهي التفرقة التي لابد أن تكون عندما يفرق الله في الأبدية، بين الأبرار والأشرار: "فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية" وإذا كانت القبور تختلط في القصة الأرضية، ولا تستطيع أن تفرق أو تفصل بينها بعضها والبعض، أو بين من فيها، فسيأتي ذلك اليوم الذي تصنع فيه التفرقة الحاسمة الأبدية!!... وإذا كانت القرون تمضي قبل أن يحدث مثل هذا الفصل الذي صنعه يوشيا بعد ثلاثة قرون ليتمم مشيئة الله، فإن ثلاثمائة عام أو آلاف الآلاف من الأعوام، لا يمكن أن تسقط حرفاً واحداً من صدق الله حتى يفصل إلى الأبد بين الأشرار والأبرار!!... وثمة كلمة أخيرة نذكرها ههنا، فإذا كان القبر الواحد قد جمع بين النبييين، فهل هذا يعني أنهما قد ذهبا إلى مكان واحد أبدي؟! وهل كانت عقوبة النبي الشاب تأديباً له، ليخلص كما بنار؟؟ وهل كان موته عظة للشيخ الآخر، ليتعلم من حياة الشاب وموته، ما كان ينقصه من تعليم وتذكير، وهو يعيش في بيت إيل على مقربة من يربعام الذي أخطأ وجعل إسرائيل يخطيء؟!!... لندع كليهما في الحياة أو الموت، حتى يظهر أمام عرش المسيح، وليكن لهما من الجزاء أو المكافأة أو المكان لا بحسب ما يفكر الناس أو يتصورون أو يتخيلون، بل بترتيب الله الحكيم الذي بيده وحده الحياة والموت والجزاء والمكافأة والدينونة ولنقف في كل الأحوال أمام جلاله السرمدي الأبدي صائحين بتضرع واحد "في الغضب أذكر الرحمة".. آمين فآمين فآمين..
المزيد
06 فبراير 2021

المقالة الرابعة والعشرون في من يخطئون متواتراً ويتوبون مراراً قليلة

حتى متى أيها الخليل تحتمل العدو وتكمل كل حين ما يسره ويؤثره، حتى متى أيها الصديق تخدم الجسديات الحاملة الموت وتتعبد لها، تمسك بمشورتي فتحييك وتطهر نفسك مع جسدك، تقدم إلي المخلص كافة الذين يجثون لدية بتوبة حارة، قد استيقظت فلا تغرق بالسكر وتخطئ كل يوم وتبني وتنقض مضاهياً للصبيان الذين يبنون بيوتاً وينقضونها، حد عن العقرب الذي عرفت قرصته، أهرب بحرص من الحية التي اختبرت سمها لأن من يصدم الحجر نفسه دفعتين أعمى وأحمق لا يبصر ما يجب أن يهرب منه، إذا كان لك مثل هذا الحرص فتزداد في التوبة، وإذا حويت مثل هذا العزم فأسترحم الخالق وأستعطفه متواضعاً ومكتئباً مطرقاً ومبتهلاً متوجعاً علي ما لحقك متوقعاً الأواخر هكذا خلص زكا العشار، هكذا ظهر متى عبداً للمسيح، كذلك المرأة الزانية الفاسقة الفاجرة المتنعمة المستكلبة التي كانت عثرة من يعاينها لما مسحت رجلي المخلص بشعرها أنتشلت من جباب المآثم العميقة هكذا واضع أنت حاجبيك فتظهر مرحوماً وتخلص ذاتك لأن اللـه يقوم الذين يحتقرون ذاتهم والمتواضعين ويقتلع ويرذل الذين يعلون ذاتهم، أبصر مدينة أهل سدوم وعمورة الجنس الجافي القاسي الجنس الجسور والدنس المختبط في الهواجس كل وقت السقيم بهيام الفجور والمجامعات المنافية للشريعة، فأمطر عليهم الكبريت والنار وأباد الجنس كله، أبصر أيضاً نينوى البهية والجميلة المزهرة بالخطايا النابعة الرذائل فتوعد أن يقبلها وأمر بسرعة بدمارها وسقوطها، فلما عاين المتنعمين لابسين مسوحاً وفي الرماد والجوع والصوم والنوح والبكاء والدموع متقشفين مصفرين مرعوبين مرتعدين متغيرين متساوين الأحرار والعبيد، التجار والفقراء، الرؤساء والمرؤسين، المقتدرين والمطيعين، الذكور والإناث، الشيوخ والأطفال منذ اللبن، وكلهم أعفاء ترأف رحم خلص شفق تعطف، وحل بصلاحه النقمة التي تواعدهم بها، وأحتمل أن يكون نادماً أفضل من أن يظهر قاسياً هكذا يعذب الخطاة الذين لا ينعطفون إلى التندم، ولا يسمح أن يهلك السريع إذعانهم بل يشفق عليهم، فلهذا أسرعوا تضرعوا أخلصوا تحفظوا، فالرب مستعد بالإحسان وبالشفاء سريع إلي الإغاثة، نشيط إلي الأقتداء، فياض علي المستمعين، فاتح للقارعين، واهب للطالبين، مفضل علي المحتاجين، لا يحسد الذين يطلبون، ولا يدفع الواقعين بل يعطيهم يده، يفتح إذا طلبوا حلاً، يتوعد الذين لا يخضعوا لسيادته، إن كنت غلطت فُقْ، أو سقطت أرجع أبتهل تضرع أسجد أسأل أطلب خد ايقن انك تعطي، أسأل أن تخلص توسل إلي القادر أن يعطي إذا وقعت أنهض، إذا تقومت تقدم، إذا برئت أثبت، إذا عوفيت بالجملة وخلصت فحد عن المرض الذي طرحته، لا تضرم اللهيب الذي طفأته، لا تعبر بالحمأة التي بالجهد غسلت منها لئلا تماثل الخنازير التي تفرح بالحمأة، لا تغاير الكلاب التي تلحس فيها فمن يضع يده علي سيف الفدان مرة ويلتفت إلي الوراء لا يجد الملك، ومن أغتسل دفعة لا يحاضر إلي الوسخ. إن المسيح واحد، الأمانة واحدة، الصليب واحد، الموت واحد، النعمة واحدة، الألم واحد، القيامة واحدة، لا يجب أن يذبح من قد ذبح ولا يدفع ذاته فداء عنك، قد فديت فلا تصر عبداً مختاراً للعبودية، مرتين غسلت أستحميت فلا تتوسخ فإن ليست حمام أخرى منصوبة مستعدة للغسل. صلاة: أشفيني يارب فأبرأ أيها الطبيب الحكيم والمتحنن أتوسل إلي صلاحك أشفِ جراحات نفسي وأضئ عيني ذهني لأتأمل تتابيرك الصائرة إليَّ كل حين فإذ قد تفه قلبي وذهني فلتطيبهما وتملحهما نعمتك بملح الحياة، فماذا أقول لك يا ذا العلم السابق الفاحص القلوب والكلى أنت وحدك قد عرفت أني مثل أرض لا ماء لها قد عطشت إليك نفسي وصبا إليك قلبي لأن من يحبك تشبعه نعمتك كل حين، فكما أستمعتني كل حين لا تعرض الآن عن وسيلتي، فإن ذهني كالمسبي طالباً إياك وحدك، فمنذ الآن أرسل نعمتك سريعاً لتوافي لإغاثتي وتشبع جوعي وتروي عطشي، إليك أشتاق أيها السيد الذي لا يشبع منه لأن من يستطيع أن يشبع منك إذا أحبك بحق وظمأ إلي نورك يا معطي النور أعطيني وسائلي وامنحني طلبتي وأقر في قلبي نقطة واحدة من نعمتك وليتوقد فيه لهيب محبتك كالنار في الغابة وليأكل الشوك والقرطب أي الأفكار الخبيثة أعطيني بسماحة وبلا عدد كما يليق بالإله المعطي الإنسان، وامنحني بما أنك ملك الملوك أكثر منحتك كما يليق بك أيها الإله الصالح، وإن كنت قد غدرت وخالفت وأخالف بما أنني ترابي لكن يا من ملأت الجرار من بركتك أملأ عقلي من نعمتك، يا من أشبعت خمسة آلاف أشبع فقري من خلاصك، أيها المتعطف علي الناس أعطي عبدك الطالب إليك طلبته لأن ها الهواء يتباهم والطيور تبذل نغماتها من قبل مجد حكمتك الجزيلة، والأرض كلها لابسة حلة الأزهار المتلونة التي نسجت بغير أيدي بشرية تبتهج معيدة عيدين العيد الواحد من أجل أبنها البكر آدم لأنه عاش، والآخر من أجل سيدها، والبحر ها هو ينمو ويزداد من نعمتك ويغني من يسيرون فيه، نعمتك منحتني دالة أن أتكلم أمامك والشوق الذي شملني يضطرني أن أتقدم إليك، إن كان الثعبان الذي قتل الإنسان منذ القديم يتقدم في هذا الزمان فيفتح فمه، فكم أولي بعبدك التائق إليك أن يفتح فمه لتشريف ومديح نعمتك، أيها القائل والمادح فلسي تلك الأرملة أقبل طلبة عبدك، وأنمي ابتهالي، وامنحني سؤالي لأصير هيكلاً لنعمتك وتسكن فيَّ لتعلمني كيف أرضيها لكي ما تقرع معزفتي بلحن تخشع وتملأني سروراً أو تجبح ذهني كبحاً كأنه بلجام لئلا يضل فيخطئ إليك وأخرج من ذلك النور. أستمع يارب أستجب يارب طلبتي وامنحني أنا الضائع أن أدعى في ملكك، فقد كنت نجساً فطهرت، وغبياً فتحكمت، وجاهلاً فصرت نجيباً، وأحصيت في رعية منتخبيك. إن جماعة القديسين المبتهجين في الفردوس الذين أرضوك يشفعون فيَّ ويتضرعون إليك فأسمع طلبتهم وخلصني بوسائلهم لكي ما أقرب لك مجداً. أنت يارب قلت بنبيك ” أفتح فمك فأملأه ” فها قد فتح فم عبدك مع قلبه فأوعبه من نعمتك لكي ما أثني عليك بالتبريك كل حين، أيها المسيح الإله مخلصنا، أيها المتعطف الصالح أمطر في قلبي مطر نعمتك، وكما أن الأرض المزروعة لا تستطيع أن تربي من ذاتها الغلات بغير أفتقاد خيريتك، هكذا قلبي لا يستطيع أن ينطق بالمرضيات إلا بنعمتك، أو يثمر ثمر العدل إلا بها، ها أوان الحصاد يربي الغلات والشجر يتكلل بالأزهار الملونة، فليضئ ذهني ندى نعمتك وليوشه بأزهار الخضوع والتواضع والمحبة والصبر، وماذا أقول الآن ها صلاتي ضعيفة ومآثمي قوية وعظيمة وخطاياي تضغطني وأمراضي تتمرض عليَّ. فيا من فتحت عيني الأعمى أفتح عيني ذهني لكي ما أتأمل في كل حين جمالك، يا من فتحت فم الحمار أفتح فمي إلي مديحك وتشريف نعمتك، يامن وضعت لجماً للبحر بكلمة أمرك أضع علي قلبي لجماً بنعمتك لكي لا يجنح يميناً أو يساراً من جمالك، يا من أعطيت ماءً في القفر للشعب الذي لا يذعن المجاوب أعطي نفسي تخشعاً وعيني دموعاً فأبكي بها ليلاً ونهاراً علي أيام حياتي بتواضع عزم ومحبة وقلب نقي، فلتدنِ طلبتي إلي حضرتك يارب وأعطيني من زرع قداستك لكي ما اقدم لك أغماراً مملوءة خشوعاً، وأشكر صارخاً المجد لك أيها المعطي، أسمع يارب صلاة عبدك بشفاعة كافة قديسيك.يا من لم يزل مباركاً إلي الدهور. آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
04 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس المرأة الشونمية

وفي ذات يوم عبر اليشع إلى شونم، وكانت هناك امرأة عظيمة... مقدمة تختلف مقاييس الناس اختلافا بينا كبيراً حول تحديد من هو العظيم في هذه الأرض!! ولاشك أن الكثيرين جداً يحكمون على العظمة بالنظر إلى الظاهر في الإنسان، فالإنسان عظيم على قدر المظهر الذي يعيش به بين الناس، وهذه العظمة، ليست في الواقع إلا عظمة القشور، وقد رفضها المسيح وهو يتحدث عن عظمة المعمدان قائلاً: «لكن ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك.... الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان...»، ولو كانت القشور هي العظمة الحقيقية، لخرج لا الرسول بولس أو التلاميذ فحسب، بل لخرج المسيح نفسه الذي لم يكن له أين يسند رأسه.. وقد يقيس آخرون العظمة، على قدر ما يملك الإنسان من نفوذ أو سيطرة أو استبداد أو طغيان، ومن ثم جعلوا في القمة بين العظماء، جبابرة الحروب أمثال الاسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم، أو من وصفهم السيد بالقول: «إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم يتسلطون عليهم».. وقد يرى آخرون العظمة في المفكرين والفلاسفة ممن يرفعون مصابيح النور ومشاعل المعرفة هداية للحائرين في الطريق الإنساني المظلم، ومن ثم عدوا في مقدمة العظماء سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة القدامى والمحدثين، ووجد من قاس العظمة عند المخترعين والمكتشفين والعلماء من رواد الطريق إلى الحضارة والمدنية والرفاهية بين الناس، لكنني أعتقد أن العظمة الحقيقية تبدأ من عظمة الإنسان على نفسه، وانتصاره على ما في أغوارها من باطل، والعثور على معنى وجوده ورسالته في الأرض، والخدمة والتضحية والبذل، وقد كانت الشونمية بهذا المعنى واحدة من العظيمات اللواتي سطرت عظمتها في وحي الكتاب بأحرف بارزة جليلة، وقد يكون من الخير والحق أن نتأمل قصتها العظيمة فيما يلي من صور: من هي الشونمية لم يذكر الوحي لنا اسم المرأة، ولا نعلم سوى أنها من قرية شونم، والتي كانت تقع على بعد خمسين ميلا إلى الشمال من أورشليم، وإلى سبعة أميال إلى الجنوب من المدينة التي عرفت فيما بعد بالناصرة والتي عاش فيها المسيح مخلص العالم، ومع أننا لا نعرف الكثير عن حياة هذه المرأة، إلا أننا نعلم أنها كانت من الطبقة المتوسطة الغنية، وأن بيتها كان من البيوت الظاهرة في القرية، بل وربما أغناها وأيسرها، وأن لقمة العيش كانت سهلة وميسورة، وأنها كانت تملك أرضًَا، تدر عليها الوفير من العيش والحياة، وأنها يوم اضطرت إلى الهجرة لمجاعة طارئة رد الملك لها أرضها المغتصبة، والحياة كانت هادئة وطيبة للمرأة، حتى أن أليشع عندما سألها عما اذا كان يعوزها شيء، ردت بأنها ساكنة في وسط شعبها، لا تقلق أحدا، ولا أحد يتعرض لها بالإقلاق أو المضايقات أو الترفع على من حولها من القرويين أو الريفيين كما يفعل بعض الثراة أو الأغنياء من أهل الريف، بل يبدو أنها كانت امرأة وديعة مجبولة على روح الوداعة والتواضع، وكانت المرأة لها أكثر من ذلك الكرم القروي الطبيعي غير المتكلف، فهي لا تعطي فحسب، بل تسر بالعطاء والجود والكرم، وعلى وجه الخصوص الضيوف العابرين في الطريق، والغرباء الذين يحتاجون إلى معونة ومساعدة، على أن المرأة تميزت أيضًا بالتقوى العميقة الصادقة، فكل حركاتها وسكناتها، وكل مشاعرها وعواطفها، وكل ما صدر عنها من أفعال أو انفعالات كانت تكمن وراءه روح امرأة تقية عميقة التقوى، تخاف الله وتحبه، وتقبل منه الآلام والآمال، بوداعة وتسليم ورضا وخشوع وسكينة وحب!! ولعل هذه كلها هي التي أعطتها ذيوعًا وشهرة أكثر من زوجها، الذي أخذ مكانه في الظل إلى جوار شخصيتها القوية العظيمة الواضحة!!.. الشونمية ومظاهر عظمتها وإذا كانت الشونمية، توصف في المعنى العام بالمرأة العظيمة إلا أن مظاهر عظمتها قد ظهرت على وجه الخصوص في بعض المواقف الموثرة البطولية في عرض حياتها وسيرتها، ويمكن أن تراها بوضوح فيما يلي: عظمة التقوى رغم الحرمان من السهل على الإنسان أن يتصور التقوى تسير سيرها المطرد المستمر، مع نجاح الإنسان أو خيره، أو سلامته، أو مدى ما يتمتع به من دسم أو وفرة، ومع أن المرأة الشونمية كان لها الكثير، لتشكر الله عليه، وتغني بالحمد لجلاله، إلا أنها رغم ذلك كانت محرومة من أغلى ما كانت تحن إليه المرأة اليهودية في ذلك الوقت، بل أن هذا الحرمان كان يصور في كثير من الأوضاع والصور، كغضب الله أو قسوته أو شدته، عندما تكون المرأة عاقرًا لا تنجب أو تلد، ولعلنا نذكر المذلة التي كانت تفيض بها مشاعرها من هذا القبيل، ولا يمكن أن ننسى في هذا المجال سارة ورفقة وراحيل وحنة وغيرهن من النساء، ألم تؤثر راحيل الموت على حياة العقم وعدم الإنجاب، وألم تبك حنة في مرارتها القاسية في بيت الله لأنه لم يكن لها ولد!! ولعل الشونمية التي ظلت سنوات كثيرة بلا ابن، قد بكت مرات بلا عدد أو حصر وهي أمام الله في الصلاة، أو في عزلتها من الناس، أو ربما أمامهم، وهي تنشد الولد أو تحن إليه، ولكنها مع هذا كله لم يعرف منها أو عنها قط حياة التذمر أو التمرد أو الشكوى أمام الله والناس، لقد كانت في حرمانها المرأة التقية الزكية الإحساس المفعمة بالتسليم والسكينة والرضا لقضاء الله وأمره، كما كانت بعد مجيئة، ذات المرأة الممتلئة بكل عرفان وشكر وحمد لرحمته وإحسانه وجوده، بل لعلها كانت تقول مع أيوب، عندما تتعرض للإحساس بتجربة لتذمر «هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا فقط أزكي طريقي قدامه...» أجل كانت المرأة في كل عقهما، وبكل عمقها، مظهرًا عظيمًا لتقوى المحرومين من هذا أو ذاك أمام الله.. عظمة الخدمة دون انتظار الأجر ولعل المظهر الثاني لعظمة هذه المرأة كانت روح الخدمة التي تتملكها، دون أدنى تفكير في رد أو جزاء بشري، لقد خدمت أليشع وتعبت في خدمته، على النحو الذي أثار الرجل وحرك مشاعره، فناداها، يطلب إليها أن يرد بعض المعروف مقابل ما سبب لها من انزعاج واهتمام ومتاعب، ولكن المرأة تجيب بأنها لا حاجة لها إلى شيء وهي ساكنة آمنة في وسط شعبها، لقد أوغلت في خدمتها إلى أليشع حتى أنها بنت له في بيتها علية يأوى إليها كلما جاء أو عبر الطريق، دون أن تنتظر جزاء أو شكراً، سوى احساسها العظيم بلذة الخدمة نفسها اللذة التي لا يستطيع أن يدركها سوى أولئك الذين خرجوا من نفوسهم إلى الآخرين، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن محبة الذات إلى محبة الجميع، كل من يمد يده إلى المتعب والغريب والضائع والمشرد والبائس والباكي وما أكثرهم في كل زمان ومكان على ظهر هذه الأرض!!.. عظمة السلام رغم وقوع الكارثة على أن المرأة تبدو في أروع صور العظمة عندما يموت ولدها الوحيد، قرة عينها، وبهجة قلبها، والذي جاء بعد ما ذكرنا من الحرمان القاسي لسنوات متعددة طويلة، والذي عاش سنوات بلغ فيها مرتبة الصبي، التي تجعله يخرج من البيت ويذهب لأبيه في الحقل، أو يجري هنا وهناك كما يجري سائر الأولاد اللاعبين الضاحكين مثله وفي سنه، وقد جاءت الضربة مفاجئة وغير متوقعة إذ كانت ضربة شمس وهو عند أبيه في الحقل، وكانت مسرعة وقاسية ومذهلة، فما أسرع ما يصل الصبي إلى أمه، حتى يموت قرب الظهيرة في حجرها، وهنا يقف الإنسان أمام مشهد من أدق وأقسى المشاهد التي يمكن أن يراها المرء في حياة الناس، كيف تواجه المرأة الكارثة وتتصرف إزاءها! لقد تحولت في دقائق ولحظات إلى أعظم صورة يمكن أن تتصورها من العظمة في مواجهة الفاجعة والآلام، ومع أن المرأة في العادة لا تنصرف بمفردها في مثل هذه المواقف التي تهزم أصلب الأعواد وأشجع القلوب، إلا أنها مع ذلك حرصت على ألا يعلم زوجها شيئًا عن الأمر، إذ قصدت أن تلوذ برجل الله والذي لم يكن في بيتها بل كان في الكرمل على بعد عشرة أميال على الأقل، وإذ يستفسر الزوج عن سر ذهابها تجيب بكلمة واحدة: سلام... وعندما تقترب من النبي، ويفزع إذ يراها مسرعة إليه فيرسل جيجزي بسؤال واحد: أسلام لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد تجيب أيضًا بكلمة واحدة: سلام! وكيف يمكن أن يكون هناك السلام للنفس التعسة الحزينة المرة المفجوعة بل للنفس التي راضت حياتها على الصورة الأولى من غير ولد، وكان يمكن أن تستمر هكذا حتى استيقظ فيها الأمل بمجيء الغلام الذي أضحى هو الحياة بل أهم من الحياة عندها؟ كيف يمكن أن يكون السلام وقد كانت في قصتها الأولى كمن يسير قريبًا من الأرض لا يهتز إذا سقط عليها، ولكنه سرعان ما يصعد إلى أعلى الأدوار ليسقط، ولا يترضض فقط، بل ليتهشم تهشيمًا، ويضحي أشلاء تذروها الرياح، وكيف يمكن للإنسان أن يصل إلى السلام عندما يعصره الألم، وينضح بالتعاسة والدموع! هذا موقف من أندر المواقف وأقساها، ولو أن المرأة واجهته بما لم تواجهه امرأة أخرى إذ تغلق على ولدها ولا تذرف دمعة، ولا يعلو صوتها بتشنج أو نحيب، بل تذهب بصمت مليء بالمرارة إلى رجل الله، لكانت من أعظم النساء اللواتي عرفن في مواجهة الصدمات بشجاعة وصلابة وصبر في هذه الأرض، لكن المرأة ارتفعت فوق المرارة والآلام والتعاسة والأحزان التي لا توصف بشيء أسمى وأعلى وأمجد!!... لقد كانت أشبه بالطائر المرتفع الذي يشق طريقه إلى أعلى السموات مرتفعًا فوق الغيوم والسحب والأمطار ليواجه الشمس المشرقة الرائعة العظيمة، لقد واجهت المرأة المحنة بإيمان عجيب، قل أن يكون له نظير أو مثيل في حياة الناس، لقد آمنت أن الولد الذي جاء بمعجزة، سينهض من الموت ويقوم أيضًا بمعجزة، وقد حول هذا الإيمان نارها الملتهبة سلاماً وعذابها الذي لا يوصف هدوء وسكينة، لايمكن أن تكون من صنع الإنسان أو من قدرة ذاتية عنده، بل من روح الله وشخصه المبارك الذي لا يترك المؤمن، بل يجتاز معه الأتون المحمي سبعة أضعاف ويخرجه منه على نحو خارق من البهاء والجمال والعظمة على مشهد من الجميع ويصورة تذهب مضرب المثل كلما ذكرها الناس كواحدة من أقسى التجارب في حياة البشر على هذه الأرض!! وهل هناك عظمة يمكن أن تداني هذه العظمة في مواجهة المحن والآلام. الشونمية وجزاؤها المبارك كانت الشونمية، وهي تأخذ جزاءها من الله، أشبه بذلك القديس الذي تذكر القصة الخيالية أن الله طلب منه أن يختار أية عطية سيمنحها له المولى مهما كانت غالية وعظيمة وكريمة وأبي القديس وهو يقول الله: لقد أعطيتني ياسيدي فوق ما أطلب أو أحتاج، وأنا أسير إحسانك وجودك، ولا يعوزني قط شيء من الخير، وأجابه الله: ولكني أريد أن أعطيك أكثر فاطلب ما تشاء أو تريد!.. وقال الرجل: إذا كان ولابد يا مولاي!! فاني أرجو أن تعطيني أن أفعل الخير دون أن أحس إني فعلته أو قمت به!! وقال الله له: ليكن لك ذلك!.. وكان الرجل يسير فإذا وقع ظله على مريض شفي وبريء دون أن يشعر!! ولعله من الملاحظ أن المرأة لم تطلب الولد عندما سألها أليشع ولكن الولد جاء نتيجة ملاحظة جيحزي، إن البيت خال من ابن! لقد قدمت المرأة خدمتها وترحيبها وعطاياها تحت إحساسها العميق، بأن هذا ليس من واجبها فحسب بل هو امتيازها الأعظم أيضًا، ورأى الله أن المرأة أقرضته وأعطته وهو لا يقبل أن يكون مديونًا لأحد، وهو إذ يعطي إنما يعطي أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن توازن بما يقبل أو يأخذ، ألم يقل السيد: «من يقبل نبيًا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ومن يقبل بارا باسم بار فأجر بار يأخذ ومن سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره».. وهل ضاع أجر المرأة، ألم تأخذ الولد، ولم تأخذه مرة واحدة في الحياة. بل أخذته مرتين؟ وألم تأخذ خيرًا سابقًا ولاحقاً لما قدمت لرجل الله من ضيافة أو كرم، عندما فاض عليها الله بالخيرات الكثيرة في بيتها، وعندما حفظ الله لها أرضها طوال المجاعة التي استمرت سبع سنوات، واغتصب الغاصبون حقلها، فلم يرد لها الملك الحقل عندما صرخت إليه فحسب، بل رد لها أكثر من ذلك غلاته التي أخذت طوال فترة غيابها عن شعبها وبلادها، طوال السبع السنوات من المجاعة القاسية. أيتها الشونمية العظيمة! هل يتعلم الناس، وهم يبحثون عن العظمة كيف تكون أصلا في العادي من الحياة في السماحة والجمال والدعة والخدمة بينهم، قبل أن تكون في طلب الخوارق والعجائب والمعجزات، والله على استعداد أن يعطي هذه وتلك، لمن يعيش ويحيا كما عشت وحييت، وكنت بحق في الحالتين كما ذكر الوحي «وفي ذات يوم عبر أليشع إلى شونم وكانت هناك امرأة عظيمة».
المزيد
20 يناير 2021

الميمر 167 على تلك الآية التي صنعها ربنا في قانا الجليل

ايها الابن الذي كان قد كثّر الخمر الجيد في الوليمة، اعطني لاشرب السيول الحلوة الموجودة في تعليمك، ايها المدعو الذي اثرى من موهبته من دعوه، صبّ هنا ايضا خمر محبتك ليسعدنا، لا تتاخر عن المجيء عند نقصي، ها قد دعوتُكَ ليس الى قانا لكن الى فكري، ربي هلّم وضع فيّ سيول تراتيلك الحلوة، بيعتك هي اعظم من الوليمة التي دعوتُك اليها كثّر عليّ المادة التي تسكرها وتشبعها، هوذا لساني يمزج في عرس البيعة المقدسة، اثلم واجرِ فيّ الشراب الروحي الذي يسعده، ساعدني لاتكلم عن هذه الآية العجيبة لكي اسقي بيعتَك خمر تعليمك الجديد، جعلتني ساقيا في عرس الشريفة، فلا تنقص بسببي اجانة المواضيع من امتلائك. ضرورة حضور المسيح في قانا:- انحدرت ارادته وحثت الذين يدعون ليدعوه ايضا مثل البقية الى الوليمة، نخسهم امرُه وايقظهم لياتوا عنده، وبعدما يدعونه لا يتاخر من الذهاب، كان سيذهب حتى ولو لم يدعوه، لكي يصنع آية ويحس العالم بلاهوته. طريق الزواج طاهرة:- كان يليق ان يبدأ بالقوات في العرس، وفي بيت الزواج يمدّ اليد للقداسة، ركض ووقف على الباب الذي يُدخِل الجنسَ لكي ينشر التعليم لكل من ياتي الى العالم، اتى ليخطب عروس النور بصلبه، فتوجه اولا حيث كانت توجد العروس الزمنية، المسيح ايضا كان ختنا قديم الاجيال، وقد اتى ليخطب بيعة الشعوب بذبيحته، ابان هناك بان طريق الزيجة طاهرة، والزواج مُتقن جيدا من قبل الله. المسيح ليس غريبا عن ابيه الذي اتقن الزواج:- لو كان الزواج ذاته والشركة مدنسَين، لما كان يدخل ويختلط في وليمته، لو لم تكن طريق الختن جميلة، لما كان يحل في مريم بقداسة، لقد اتكأ في الوليمة ليبارك سرير الشركة، راى بان الزواج متقن جيدا بواسطة ابيه، وعقد خدرا للعروس الزمنية بالطهر. وليمة قانا ترمز الى كل البرية:- كل البرية كانت مصوّرة بتلك الوليمة لان خمر كل واحد كان قد نقص من الاتقان، كان الختن يشبه آدم بالعوز، لان خمره نفذ كما كان قد نقص صِدق آدم، تلك العروس كانت تشبه بيعة الشعوب التي نفذ خمرها كما نفذ التعليم قبل المجيء. قالت مريم ليس لهم خمر:- رأت مريم الطوباوية بان الخمر قد نفذ، وكانت قد عرفت بانه صار مجال للتعليم، حينئذ وشوشت النعجة البتول الى شبل الاسد: ربي، لا يوجد الخمر لآل الختن، قالت الذكية فقط: لا يوجد الخمر، غير انه في فكرها كانت تُقال مثل هذه الامور: بيّن قوتَك بالمعجزات لانك ابن الله، هوذا الوقت قد حان ليحسّ العالم بقدرتك العاملة، بيّن قليلا سلطة قدرتك البارية، لماذا تسير بالبساطة وبالسذاجة.؟ جواب يسوع لمريم:- واذ اسرعت على فعل ليس خاصتها، اجاب الحكيم وكأنه تركها ووضعها في البعد، كان يقول لها: ما لي ولكِ يا امرأة، بينما هي امه كما لو قال احد بجسارة: لا تخصكِ القدرة الآمرة، انا مستعد لاصنع العجب هذه المرة حتى وإن سكتتِ، وبدون كلمتكِ هانذا اشرق قوة جوهري، لم تأت الساعة لاصمم تنفيذ الفعل، لما اريد سيصنع الرمز فقط القوات، ارادتي لا تحتاج الى الاستعداد قبل الوقت، بنفخة صغيرة يسهل علي ان افعل بسرعة، ولما يُرسل امري لا يوجد فيه تاخير، طرفة العين ليست سريعة كقدرتي الفاعلة. المسيح يبدل الماء الى الخمر:- اخذ ليبرهن بانه ابن العامل بالحقيقة، لئلا يتشككوا من مجيئه ويقولوا: ليس ربا، اراد ان يعرّف بانه ليس غريبا عن القدرة البارية، فامر الجمعَ ان يسكبوا الماء في الاجاجين، وصنع الخدام كما قال وملأوها، حينئذ انحدرت خفيةً قوة لاهوته، احنى ارادةَ قدرته العاملة على الاجاجين، وسكب فيها المادة السليمة ليس من العنب، الرمز كان قد كمّل المياه التي سقطت هناك وبدّلها الى الخمر الجيد. ابي يعمل وانا ايضا اعمل مثل الآب:- يبدل الآب ايضا المياه، وبمهارته منها وبها يصنع الخمر، يجريها في الجذور حسب معرفته، ويسيّرها في الاغصان حسب ارادته، ويحبسها في حضن الجفنات كما لو كان في القنوات وبواسطة الشمس ينضجها ويسجرها ويسخنها، ويصوغ العنبات ويُخرجها ويعلّقها في الاغصان، ويفرش الاوراق على البهيات ويبرّدها، تجري المياه في احضانها وهي غير مفتوحة، وينزل الفيض الى افواهها وهي غير مثلومة، المياه الممجدة متجمعة وقائمة في الاثمار المختومة، وتسجرها الريح والشمس لتنضجها، الآب يبدّل المياه في الجفنات خلال مدة طويلة، وتبدّلها الى مادة الخمر قدرته العاملة. الابن يعمل دون ان يحتاج الى الوقت:- الابن الحقيقي كمّل ارادتَه برمز صغير، الابن الذي اراد ان يبدلها بدون مدة زمنية، لم يجعلها تحتاج الى نظام الايام والشهور. مناهضة المجادل:- اين الذي ظلم الابنَ (قائلا): ليس الها،؟ ليأتِ ويرَ بان قوته لا تنقص عن والده، يا من يتشكك من الوحيد (ويقول) ليس الها، انظر فان القدرة البارية ظهرت في العرس. مَن هو الذي يصغّر الابنَ عن مرسله ليأتِ ويرَ بان القوة هي واحدة ولا تتجزأ،؟ الى الآن ابي يعمل مثل الباري، وهانذا اعمل كما هو (يعمل) ايضا، قوة واحدة، وامر واحد، وفعل واحد، ورمز واحد، وارادة واحدة، وسلطة واحدة، ذاك الامر الذي صاغ الاثمار في الاشجار كان جالسا في هذه المياه التي صارت خمرا.
المزيد
19 يناير 2021

عيد الظهور الإلهي للقدّيس يوحنا الذهبي الفم

الإنجيل: متى 3: 13 – 17 حينئذ أقبل يسوع من جديد إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه. فكان يوحنا يمانعه قائلا أنا محتاج أن أعتمد منك، أوأنت تأتي إلي! فأجابه يسوع قائلا: دع الآن، فهكذا ينبغي لنا أن نتم كل بر. حينئذ تركه. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وحالا عليه. وإذا صوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (متى 3: 13 – 17)."حينئذ أقبل يسوع من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 13:3). جاء السيد مع العبيد، القاضي مع المحكوم عليهم، لكي يعتمد. مع ذلك، أقول لك لا تضطرب: فيما بين هؤلاء الوضعاء يسطع سموه. اقتبل أن يحبل به في أحشاء العذراء لزمن طويل، وأن يولد منها بجسد طبيعتنا البشرية، وأن يضرب، وأن يصلب، وأن يكابد الآلام كلها. إذا، لماذا تتعجب إذ تراه يقتبل المعمودية ويأتي مع الاخرين متجها نحو عبده؟ المذهل في الأمر هو الآتي: يريد أن يصير إنسانا بينما هو الله. كل شيء آخر يتبع بصورة منطقية. لذلك بالضبط كان يوحنا يقول مسبقا: "إني لست أهلا أن أحل سير حذائه"، وغيرها، مثلا: إنه القاضي وسوف يجازي كل واحد حسب استحقاقه، وسوف يمنح الروح القدس للجميع بغزارة. لذلك، عندما تراه آتيا إلى المعمودية، لا يقربن فكرك شك البساطة. لذلك، عندما اقترب السيد من العبد، مانعه هذا الأخير قائلا:أنا محتاج أن أعتمد منك، أوأنت تأتي إلي!" (مت 14:3).معمودية يوحنا كانت للتوبة، وللحث على الاعتراف بالخطايا. حتى لا يظن الواحد أن السيد يأتي من أجل كل ذلك، يستدرك السابق الأمر ويدعوه أولا "حمل الله" ومخلص العالم من الخطيئة كلها. طبعا الذي بإمكانه أن يرفع خطيئة العالم كلها، ينبغي له أن يكون بلا خطيئة. لم يقل: "هوذا الذي بلا خطيئة"، بل قال بالحري: "هوذا حمل الله الرافع خطيئة العالم" (يو 1: 29). هذا لكي تتقبل كل ما يجري أمامك. وإضافة إلى ذلك، أن تتحقق أنه يأتي إلى المعمودية لكي يتمم تدبيرا آخر وأبعد. لذلك عند اقتراب السيد من يوحنا، قال له هذا الأخير: أوأنت تطلب المعمودية؟ خشي أن يقول له ذلك. ماذا قال؟ "أوأنت تأتي إلي!".ماذا فعل يسوع؟ عمل كما سوف يعمل مع بطرس. كان هذا الأخير يمانعه أن يغسل رجليه، لكن عندما سمع الكلمات التالية: "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد" (يو 7:13)، وأيضا: "إن كنت لا أغسلك فليس لك نصيب معي" (يو 8:138). عندما سمع بطرس كل ذلك استسلم وبدل موقفه. كذلك يوحنا المعمدان عندما سمع قول السيّد: "دع الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نتمم كل بر" 15:3).عند ذلك أطاع للحال، لأنه مع بطرس لم يكونا معترضين للنهاية، بل أظهرا محبة وطاعة لكل ما كان يصدر عن السيد. لاحظ كيف يتوجه السيد ليوحنا: لم يقل له "هكذا يقتضي العدل أو البر" بل قال: "هكذا يليق بنا". كان يوحنا يعتبر نفسه غير مستحق لمثل هذا العمل، أي لاعتماد السيد من العبد، لذلك توجه إليه الرب، وكأنه يريد أن يقول له: لن تهرب من ذلك ولن تمانع كون الأمر غير لائق. دع الآن الأمور تجري كما أريد، وإضافة إلى ذلك أقول: هكذا يليق بنا أن نفعل.لم يقل "دع الأمر" وحسب، بل أضاف "الآن" لأن الحدث لن يطول. سوف تراني بالشكل الذي تود. لكن الآن تقبل هذا التنازل.وبعد ذلك يشرح لماذا يجرب الأمر كذلك، لكي يتمم الناموس بكامله. يظهر ذلك من خلال عبارته "كل بر". البر هنا تتميم الوصايا. لقد أتم الوصايا الأخرى كلها. وبقيت هذه النقطة الأخيرة. لذلك لابد من تتميمها. لأني جئت لكي أرفع عنكم اللعنة التي تلاحقكم بعد عصيان الناموس. لابد لي أولا من أن أتمم الناموس بكامله، وبعد تحريركم من القضاء، ترتفع عنكم اللعنة المكتوبة عليكم بعد العصيان. ها إني قد أخذت جسدكم وأتيت."حينئذ تركه. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله مثل حمامة وحالا عليه" (مت 16:3).كان كثيرون يعتبرون يوحنا أهم من المسيح، لأنه عاش مدة طويلة في البرية، وكان ابن رئيس كهنة، ويرتدي لباسا تقشفيا خاصا، ويدعو الكل إلى المعمودية، وقد ولد من عاقر. بينما المسيح أتى من فتاة غير معروفة، ولم يكن مولده البتولي معروفا بعد، وقد نشأ في بيت بسيط، وكان يعاشر الجميع، ويلبس اللباس العام، لذلك كان يعتبر أقل من يوحنا. لم يكن الشعب بعد يعرف شيئا عن ميزاته الفائقة الوصف. وجاء اعتماده على يد يوحنا داعما لهذا الاعتقاد غير الصحيح. رأوه واحدا من كثيرين أتوا إلى المعمودية، وهو أكبر من يوحنا بكثير، وأعجب منه بكثير.لذا لكي لا يسود هذا الاعتقاد عند الشعب، انفتحت السموات عند معموديته، ونزل الروح، وسمع الصوت مع نزول الروح."وإذا صوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 17:3) الصوت وحده لم يكن كافيا، إذ كان السامعون يظنون قوله "هذا هو" إشارة إلى المعمد لا المعمد، لذلك نزل الروح بشكل حمامة، فلفت الأنظار إلى يسوع، وبين بوضوح إشارة "هذا هو" إلى يسوع المعتمد، لا إلى يوحنا المعمد. عدم إيمان اليهود:- أيعقل أن كثيرين لم يؤمنوا به بعد ذلك كله؟ نعم، ففي أيام موسى كانت تجري عجائب كثيرة، ولئن اختلفت نوعا عن هذه الأخيرة، ورغم تلك العجائب، تلك الأصوات والأبواق والبروق، جلسوا وذبحوا لبعل فاغور. وهو أنفسهم كانوا حاضرين عند إقامة لعازر من الموت، ورأوا الميت قائما، ومع ذلك لم يؤمنوا به، لا بل كانوا يسعون جاهدين لقتله. لقد رأوا بأم أعينهم أمواتا ينهضون، ومع ذلك لم يؤمنوا وبقوا خبثاء. إذا، لماذا تتعجب الآن من كونهم لم يؤمنوا بالصوت الآتي من السماء؟ عندما تكون النفس ناكرة للنعمة، ملتوية، مأخوذة بمرض الحسد والغيرة، لا ترتدع عن أي عمل شرير، وأيضا عندما تكون النفس شاكرة تقبل كل شيء بإيمان، ولا تحتاج إلى أية أعجوبة. لا تقل: لم لم يؤمنوا، بل أنظر إلى كل ما قيل وعمل لكي يؤمن الجميع. لقد ورد الله الدفاع على لسان النبي. كل ذلك جعل اليهود يهلكون بسبب منهم، ويسلمون أنفسهم إلى العقاب الأخير. لذا أراد الله أن يميز بين تدبيره الحسن وخبثهم، بقوله: "أي شيء يصنع للكرم لم أصنعه لكرمي؟" (إش 5: 4). كذلك، أي شيء يصنع هنا لم يصنعه؟ وإن دخل أحد في مناقشة حول موضوع عناية الله، يمكننا أن نلجأ إلى الطريقة الدفاعية السابقة ضد الذين كانوا يتهمونه ظلما بدافع شرهم. أنظروا إذا إلى العجائب الحاصلة الآن، التي تنذر بالحوادث المستقبلة. لم ينفتح الفردوس، بل انفتحت السموات. لندع هذا الموضوع جانبا، ونتابع شرح النص."فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له" (مت 3: 16). لماذا انفتحت السماوات؟ لكي تعلم أنت أيضا أنه عندما تعتمد أنت يحصل الأمر نفسه: يدعوك الله إلى الوطن السماوي، ويريد أن يقنعك بعدم ارتباطك بأي شيء على الأرض. آمن ولو لم تر. فالظهورات الحسية والعلامات السابقة للحوادث الروحية العجيبة تكون من أجل الضعيفي الإيمان، الذين هم بحاجة إلى مثل هذه الظهورات المحسوسة، الذين لا يعطون أي معنى للطبيعة اللامادية، بل يفتشون دوما عن الأمور المنظورة فقط. لذلك، عليك، ولو لم تر بعد ذلك مثل تلك العلامات، أن تقبل بإيمان كل ما جرى حتى الآن من البداية. لقد جرى مع الرسل صوت ريح عاصفة، وظهرت ألسنة نارية. هذا لم يحصل من أجل الرسل، بل من أجل اليهود الحاضرين. ولكن، حتى وإن لم تجر بعد ذلك مثل هذه العلامات الحسية أمامنا، علينا أن نقبل أنها جرت مرة هكذا بالفعل. لأنه من أجل ذلك أيضا ظهرت الحمامة، ودلت الحاضرين مع يوحنا، كما بإصبع اليد، إلى ابن الله، لكي تعلم أنت أيضا أن الروح القدس ينزل عليك في وقت المعمودية.لسنا بحاجة إلى علامات منظورة، بل يكفي أن يتوفر الإيمان عوضا عنها. العلامات ترد لا من أجل المؤمنين بل من أجل غير المؤمنين.لماذا ظهر الروح القدس بشكل حمامة؟ الحمامة حيوان أليف طاهر. وبما أن الروح القدس هو روح وداعة، لذلك تراءى بشكل حمامة. ومن ناحية أخرى، هذا يذكرنا بقصة تاريخية قديمة، عندما غمر الطوفان كل المسكونة، وكاد الجنس البشري أن يفنى، كانت الحمامة الطائر الذي بين بوضوح نهاية الغضب الإلهي، حاملة في منقارها غصن زيتون، كخبر مفرح يعلن السلام العام. كل ذلك كان رسما لما سيحدث لاحقا. كانت حالة الناس أبشع بكثير من حالتهم الحاضرة، وكانوا يستحقون عقابا أكبر. فلكي لا تيأس أنت الآن، يذكرك هنا بتلك الحادثة القديمة: حين كان الرجاء مفقودا، وجد حل وإصلاح. كان الطوفان في ذلك الوقت تأديبا، وأما الآن فقد جاء الحل عن طريق النعمة والعطية الجزيلة. لذلك ظهرت الحمامة، لا تحمل غصن زيتون، ولكنها تشير إلى الذي سيخلص من كل الشدائد، وتبسط أمامنا رجوات صالحة، لأنها لا تخرج إنسانا من الفلك، بل تقود ظهوره المسكونة كلها إلى السماء. لا تحمل غصن زيتون، بل البنوة للبشر كلهم.الآن، وقد أدركت قيمة العطية، لا تحسب أن قيمة الروح ناقصة، بسبب ظهوره بشكل حمامة. أسمع البعض يقول إنه كما يختلف الإنسان عن الحمامة كذلك يختلف المسيح عن الروح، إذ ظهر المسيح بصورة طبيعتنا الإنسانية، بينما ظهر الروح القدس بصورة حمامة. فبم نجيب عن كل ذلك؟ إن ابن الله اتخذ طبيعة الإنسان، بينما الروح القدس لم يأخذ طبيعة الحمامة. لذلك لم يقل الإنجيلي أن الروح ظهر "بطبيعة حمامة"، بل قال "بشكل حمامة". ولم يظهر الروح بعد ذلك بهذا الشكل، بل هنا فقط. فإن اعتمدت على هذه المقارنة، وحسبت أن كأن الروح قد صغر لهذا السبب، فسوف تجد الشاروبيم أسمى من الروح بكثير، كسمو، النسر على الحمامة، لأن الشاروبيم ظهرت بشكل نسر. كذلك تجد الملائكة أعلى بكثير، لأنهم يظهرون بشكل بشر. لكن، طبعا، كل ذلك غير صحيح. الحقيقة شيء والتدبير شيء. التنازل شيء، والظهور العابر شيء آخر.لا تكن إذن ناكر الجميل نحو المحسن، ولا تنسب عكس ما يجب أن تؤديه إلى الذي وهبك ينبوع الغبطة. حيث تكرم البنوة، يضمحل الشر، وتمنح الصالحات كلها. لذلك بالضبط ينتهي دور المعمودية اليهودية وتبتدىء معموديتنا. ويجري في المعمودية ما يجري في الفصح. ينتهي دور الواحد ويبتدىء دور الآخر. هنا أيضا، بعد إتمام المعمودية اليهودية تنفتح أبواب معمودية الكنيسة. ما يجري على المائدة يجري الآن على النهر. يؤكد على الظل، ولكنه يضيف الحقيقة، لأن نعمة الروح القدس كائنة في معمودية يسوع المسيح فقط، ، بينما معمودية يوحنا لا تتضمن مثل هذه العطية. ولذلك لم يحصل للمعمدين الآخرين ما حصل للرب يسوع المسيح، لأنه هو من سيعطي هذه الموهبة.وإلى جانب كل ما ذكرناه حتى الآن، اعلم ما يلي: ليست طهارة المعمودية هي التي حققت مثل هذه العطية، بل قوة ذاك الذي يعتمد. إذ ذاك فتحت السموات، ونزل الروح عليه. إنه يخرجنا من حياتنا القديمة إلى حياة جديدة، فاتحا من أجلنا أبواب السماء، ومرسلا من هناك الروح الذي يدعونا إلى موطننا هناك. لا يدعونا فقط بل يكرمنا إكراما فائقا. لأنه لم يجعلنا ملائكة ورؤساء ملائكة، بل أظهرنا أبناء الله وأحباءه، وهكذا جذبنا إلى الميراث الذي هناك ... من كتاب أناجيل ورسائل الأعياد
المزيد
17 يناير 2021

المعمودية عبور من الموت إلى الحياة

المعمودية بالتغطيس كاشتراك في موت المسيح ودفنه: التغطيس الكامل حتى الرأس، أو انغمار الجسم كله تحت الماء، كتعبير عن الدفن في الماء، هو بمثابة وقوع الإنسان الإرادي بالموت تحت عقوبة الله برسم الطوفان (1بط 3: 20 - 22)، بسبب الخطايا التي صنعها الإنسان والتي ورث دوافعها وآثارها ونتائجها في طبيعته الترابية. ولكن لأن هذا الدفن هو في اسم المسيح وعلى أساس موته ودفنه وكاشتراك فيه، فالموت يصبح للتبرير عن الخطايا السالفة، وبالتالي يُنشئ شركة في القيامة للحياة بلا خطية؛ أي يُنشئ ميلاداً جديداً للإنسان لخليقة جديدة. ثم بإعطاء الروح القدس (بوضع اليد أو بالميرون) تصير الخليقة الجديدة روحانية ومتحدة بالمسيح. فالمعمودية في اسم المسيح والآب، وبمنحها الروح القدس، تكون هي المعجزة العُظمى للإنسان الممنوحة له من الله رأساً كآية العهد الجديد، التي فيها يرتبط الله بالإنسان لإعادة خلقته بروحه القدوس على صورة مسيحه، ليرفعه من خلقة إلى خلقة، من خلقة أرضية من التراب إلى خلقة سمائية «من الروح»، «من فوق»، «من السماء»، ليتغيَّر الإنسان من شكل آدم إلى شكل المسيح، وليقبل الإنسان عوض بنويَّته التي من آدم بالفساد والخاضعة للزمن والموت، إلى بنويَّة الله والحياة معه بالبر والقداسة والحق للحياة الأبدية. مفاعيل المعمودية: القديس بطرس الرسول يطالب كل مَنْ اعتمد بالهروب من الفساد الذي في العالم بالشهوة، وبممارسة الفضائل باجتهاد، وإلاَّ فإنه يُعتبر أنه «قد نسي تطهير خطاياه السالفة» (2بط 1: 9). وهنا تتضح فعَّالية المعمودية بالتحديد: «تطهير خطاياه السالفة»؛ فالمعمودية إما توضع نُصب أعيننا كمنبع طهارة ومصدر قوَّة للتطهير من جميع الخطايا (السالفة) - سواء التي ورثنا آثارها باللعنة الأُولى أو التي عملناها بإرادتنا - وإما ننساها فنفقد المصدر الذي نستمد منه طهارتنا وقدرتنا على الجهاد لاستمرار التطهير. كما يرى بطرس الرسول في المعمودية أنها «لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله» (1بط 3: 21). أي أن المعمودية تُنشئ فينا إحساس الضمير المطهَّر الذي يجعلنا قادرين أو مستحقين للوقوف أمام الله لنصلِّي ونطلب من الله بلا لوم داخلي. أما القديس بولس الرسول فيضع مفاعيل المعمودية واضحة في قوله: + «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) فالمعمودية هي اغتسال من الخطية = تقديس، والوقوف أمام الله بلا لوم = تبرير. فهي تُعتبر الغاية العُظمى للخلاص الذي جاء الرب يسوع لتكميله بالموت على الصليب: + «... أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدِّسها مطهِّراً إياها بغسل الماء بالكلمة (المعمودية) لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضْن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدَّسة وبلا عيب.» (أف 5: 25 - 27) ثم يعود بولس الرسول في رسالته للعبرانيين ليؤكِّد ذلك قائلاً: + «لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان، إذ قد صارت قلوبنا مرشوشة من ضمير شرير (أثر المعمودية بالروح داخل الضمير) وأجسادنا مغتسلة بماء طاهر، متمسِّكين ”باعتراف“ الرجاء بدون تردُّد لأن الذي وعد هو أمين.» (عب 10: 22 و23 ترجمة أكثر وضوحاً) هنا يتضح أثر المعمودية في الضمير، وفي أعضاء الجسد، مشيراً إلى قوة التطهير بالروح في الضمير وبالماء بالنسبة للجسد. وإن أثر المعمودية في النهاية يعطي تقدُّماً إلى الأقداس العليا بقلب صادق ويقين الإيمان، على أن نظل متمسِّكين بالاعتراف الذي نتلوه في المعمودية برجاء لا يتزعزع وبلا تردُّد، اعتماداً على وعد الله وأمانته. الروح القدس يدعو إلى المعمودية: الدعوة إلى المعمودية كانت معروفة ومؤكَّدة منذ أول لحظة حلَّ فيها الروح القدس: + «فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم (فعل الروح القدس المُسْبَق) وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة، فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس (عمل الروح القدس اللاحق).» (أع 2: 37 و38) واضح هنا أن الروح القدس هو الذي يُعد القلب بنخس خفي لقبول الإيمان والمعمودية. واضح أيضاً أن الفعل الأول للروح القدس في المعمودية هو لمغفرة الخطايا، لذلك فإن قبول «عطية» الروح القدس تأتي بعد المعمودية، أي بعد مغفرة الخطايا، وهذا أمر في غاية الأهمية العملية. فالخطية تمنع قبول عطية الروح القدس. ومن المهم أن نلاحظ أن المعمودية مرتبطة أساساً بالمسيح = «على اسم المسيح»، وذلك مبني على فعالية الخلاص والفداء الذي أكمله المسيح عن البشرية لسؤال مغفرة الخطايا، وعلى هذا الأساس يتم الميلاد الجديد بكل متطلباته كخليقة جديدة في المسيح. ولكن، لأن المسيح أكمل الفداء ليس من ذاته بل بمشورة الآب ومسرَّة الروح القدس، لذا أصبح يتحتَّم أن تكون المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس، حيث ينال الإنسان بواسطة المسيح علاقته الجديدة بالآب والروح القدس، وهي حالة التبني بالروح للآب. وينال الإنسان تقديس الحياة الجديدة بواسطة الروح القدس ليليق بحالة التبني لله: «أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، باعتبار أن ميلادهم الجديد هو شركة موت وحياة في المسيح ابن الله. وهذا التعليم الإلهي المنسجم لدى كل الرسل واضح جدًّا أنه مسلَّم من واحد هو المسيح: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت 28: 19) ونسمع أيضاً من حنانيا، أحد السبعين رسولاً، وهو يقول لشاول (بولس): «إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته، وتبصر البار، وتسمع صوتاً من فمه، لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت، والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد، واغسل خطاياك داعياً باسم الرب.» (أع 22: 14 - 16) وهنا أيضاً مفاعيل العماد المسبقة والمرافقة والتابعة: انتخبك، لتبصر، لتسمع، لتشهد، ثم الأمر الإلهي «قُمْ»، «اغسل خطاياك». هنا فعل الغسل بالماء يشمل بكل وضوح معنًى روحيًّا عميقاً موازياً لغسل الجسد، ولكن أشد فعلاً وأبقى أثراً، إذ يتغلغل ليشمل كل أعمال الخطية في الماضي بكل آثارها على الروح والنفس والجسد والضمير!!«اغسل خطاياك»، ما أروع وما أسهل وما أعمق هذا التعبير!! وهذا ظل يعلِّم به بولس الرسول نفسه كل أيام حياته، بعد أن ذاقه وعاشه فعلاً. اسمعه يقول: «قداغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) تعليم الآباء الرسوليين عن المعمودية وقد سلَّم الرسل هذا الإيمان نفسه بتحديده الواضح إلى الآباء الرسوليين، فنسمع الأسقف هرماس (142 - 174م.) يقول: [عندما نزلنا إلى الماء تقبَّلنا غفران خطايانا السالفة.] (Mand. iv. 3.1) وفي رسالة برنابا (80 - 130م.)، يرى أن المعمودية تعطي نفس طفل: [لقد تجدَّدنا بغفران خطايانا وصُنعنا شكلاً آخر حتى يكون لنا نفس طفل، كأنما قد خُلقنا من جديد، كما يقول الكتاب بخصوصنا حيث الآب يخاطب الابن: لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا.] (Quasten, Patrology, vol. I, 87) أي أن الآية: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 18: 3)، إنما تشير إلى المعمودية. أما يوستين الشهيد (110 - 165م.) فيعتبر أن المعمودية هي تكريس النفس لله، وغفران الخطايا، وميلاد جديد بالاختيار والمعرفة، واستنارة: [وسأقص عليك كيف نكرِّس أنفسنا لله ... ونحضرهم إلى مكان الماء ونعيد ميلادهم بنفس الطريقة التي وُلِدنا نحن بها ثانية، لأن باسم الله الآب سيد الخليقة ومخلِّصنا يسوع المسيح والروح القدس يقبلون اغتسال الماء. وقد تعلَّمنا من الرسل معنى هذا، لأنه بميلادنا الأول وُلِدنا بدون اختيارنا وبدون معرفتنا بواسطة والدينا عندما اجتمعا معاً، ونشأنا بعادات رديئة وخبرات شريرة. فلكي لا نبقى أبناء الضرورة والجهل بل أبناءً بالاختيار والمعرفة، ولكي نحصل في الماء على مغفرة خطايانا التي اقترفناها سابقاً، يُنادى فوق مَنْ اختار أن يولد ثانية، الذي يكون قد تاب عن خطاياه، باسم الله الآب وباسم المسيح يسوع الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي وباسم الروح القدس الذي ينير المُغتَسِل، وهذا الاغتسال يُدعى «استنارة» لأن الذين يعرفون هذه الأمور يستنيرون روحيًّا.] (Apol. 1-16: 10) الدعاء باسم الرب هو ختم المعمودية: والدعاء باسم الرب على المعمَّد أو بفمه هو أثناء النزول في الماء: «قُمْ واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب» (أع 22: 16). هنا قوَّة عمل الدعاء باسم الرب هو مكافئ لعمل حميم المياه، وهذا يعطي المعمَّد «قوَّة الاسم»، أي قوة المسيح التي ظهرت في الموت الكفَّاري والقيامة للحياة: «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) واضح هنا أن عمل قوَّة اسم المسيح عنصر هام قائم بذاته لقوَّة عمل الروح القدس في إتمام سر العماد. هذا الدعاء باسم المسيح أثناء العماد هو الختم sfr£gij الإلهي الذي يناله المعمَّد لينطبع على كل كيانه الروحي باعتباره قد صار تابعاً للمسيح ومن خاصته. هذا الختم هو بمثابة شهادة وسلطان من الله أن المعمَّد صار ابناً لله: «كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، وقد عبَّر بولس الرسول عن فاعلية المعمودية بتعابير غاية في العمق: «ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله، الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا» (2كو 1: 21 و22)، «الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس.» (أف 1: 13) والمعمودية كختم، حيث يتركَّز الختم في إجراء الدعاء باسم المسيح، هي تقليد انتقل أيضاً إلى الآباء الرسوليين، فيقول هرماس عن المعمودية إنها ختم الموت والحياة: [قبل أن يحمل الإنسان اسم ابن الله يكون ميتاً، ولكن حينما يقبل الختم فإنه يخلع الموت ويلبس الحياة، والختم هو الماء، فهم ينزلون إلى الماء أمواتاً ويخرجون أحياءً.] (Quasten, Patrology, vol. I, 101) وجاء أيضاً في الرسالة الثانية المنسوبة لكليمندس الروماني (92 - 101م.): [احفظوا الجسد طاهراً واحفظوا الختم (المعمودية) بلا عيب حتى تنالوا الحياة الأبدية.] (Quasten, Patrology vol. I, 56) مسئولية الإنسان المعتمد: نوال هبة المعمودية كميلاد جديد من الله يُنشئ في الحال مسئولية عُظمى على الإنسان المعتمد. فالمعمودية وزنة وهبة عُظمى تحمل صورة الله واسمه وختمه، ولذلك سيعطي الإنسان جواباً عن مدى احترامه وحفظه واستخدامه لها. ولكي نتحقَّق من خطورة التحذير الوارد في رسالة العبرانيين عن الذين سقطوا بعيداً عن المستوى اللائق بالمعمَّدين: «لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة (أي لا يمكن تعميدهم مرَّة أخرى) إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه» (عب 6: 6)، «فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف وغيرة عتيدة أن تأكل المضادين» (عب 10: 26 و27)، نقول إنه إذا أردنا أن ندرك خطورة ذلك علينا أن نعود إلى وضع بني إسرائيل الذين اعتمدوا في البحر الأحمر - بالإيمان بالله - الذي هو مثال المعمودية الحاضرة - كمعجزة عُظمى للخروج من عبودية مصر، إذ عبر بهم الله على يد موسى من الموت المحقَّق إلى الحياة عبر البحر. ولكن، وبالرغم من هذا، تمرَّد الشعب على الله فاعتبر الله تمرُّده أنه إهانة واحتقار لمعجزة إخراجه من مصر وعبوره البحر الأحمر الذي هو مثال المعمودية، فدفع الشعب ثمن هذا العصيان و«عدم الإيمان» وحلَّ عليه غضب الله، فطُرحت جثثهم في القفر وهلك الجيل بأكمله، غير أن الرب أبقى لنفسه شاهدين! كذلك نلاحظ هنا أن معمودية البحر الأحمر لم تسعف فرعون وجنوده بل كانت لهم موتاً وهلاكاً، في الوقت الذي أعطت النجاة والحياة لشعب الله. كذلك فإنها لم تنفع شعب الله الذي لم يقدِّم أثماراً تليق بالتوبة. ويوحنا المعمدان يؤكِّد أن المعمودية بدون أعمال تليق بالتوبة هي معمودية للموت: «والآن قد وُضِعَت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار» (لو 3: 9)، «يا أولاد الأفاعي (الذين يأتون إلى المعمودية هروباً من غضب الله ولكن لا يعملون أعمال التوبة) من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة» (لو 3: 7 و8). فالمعمودية فعل حياة أبدية مربوط بالإيمان، إذا استهان به الإنسان وسقط عنه - بالارتداد أو جحد الإيمان بالمسيح - لا يعود الروح القدس يعمل فيه كفعل حياة وتجديد بل ويدخل تحت الدينونة. فبعد أن يكون الإنسان شريكاً في موت المسيح على الصليب للقيامة والحياة يصير بجحوده للمعمودية والإيمان صالباً للمسيح!! والقديس بولس الرسول، في رسالته إلى أهل رومية الأصحاح السادس، يعالج الحياة بعد المعمودية ليس على مستوى الارتداد الكامل أو جحد الإيمان، ولكن على أساس مجرَّد الرجوع لحياة الخطية وتمكين الخطية في الأعضاء وفقدان الرجاء بضعف الإيمان، فإن فعل الحياة الذي كان يسري فينا بقوَّة الإيمان بمقتضى سر المعمودية يتوقَّف وتبدأ الخطية تفعل فعل الموت مرَّة أخرى!! «لا تملكنَّ الخطية في جسدكم المائت (بالمعمودية).» (رو 6: 12) وعلى هذا الأساس تتضح لنا الأمور الآتية: 1 - إن فعل الله في العماد يعتمد على إيماننا بقداسة الله وندائنا باسم يسوع المسيح ليعبر بنا من الموت إلى الحياة، وهذا يوضِّحه دخول شعب إسرائيل في البحر وراء موسى بدون خوف. أما حالة الأطفال الذين عبروا مع آبائهم وأمهاتهم، فعبورهم لم يعتمد على إيمانهم بالله وبالعبور، بل على وجودهم وسط شعب الله. فهنا تبعية الطفل للكنيسة العابرة وسط البحر هي التي أعطته فعل العبور والحياة ليستخدمه في كل حياته المستقبلة؛ أي أن إيماني بالمسيح الآن أو عدم إيماني لا يغيِّر من الحقيقة أنني اعتمدت للمسيح ونلت كل حقوق الإنسان الجديد والشركة في ملكوت الله وفي جسد المسيح، أي العضوية في جسده عندما كنت طفلاً، وهذا من واقع الامتياز أنني وُلِدْت من أسرة مسيحية أي داخل الكنيسة. 2 - الفعل الأول للعماد، إذاً، يتم فينا بمجرَّد أن نكون قد اعتمدنا، وهذا يوضِّحه عبور شعب إسرائيل بالفعل معتمدين على قوة الله وإيمانهم باسم الله في عبورهم. هنا مجرَّد عبور الطفل أعطاه كل حقوق الخلاص من عبودية فرعون، وكل قوة وبركة ومعونة الله للسير في البرية أربعين سنة. فهو بعد العبور لا يُطالَب بإيمان ما قبل العبور ولكن يُطالَب بإيمان ما بعد العبور. 3 - الفعل الثاني للعماد له قوَّة وقدرة مستقبلية لحياتنا، يعمل فينا بقدر حفظنا واعتمادنا على الفعل الأول. وهو الذي أخفق فيه شعب إسرائيل فأنكروا قوة الله التي عبرت بهم وجحدوا اسم الله الذي عبروا وراءه وقالوا للعجل: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.» (خر 32: 4) هنا الأطفال الذين عبروا قد نالوا قوَّة الفعل الأول - العبور - ولا يُطالَبون بعد بمستلزماته ولكن يُطالَبون بوصايا المسير، وهذا هو الفعل الثاني للعبور. أو بمعنًى آخر، إن عظمة وقوَّة الفعل الحادث في هذا السر تُظهرها استجابة الإنسان على مدى الأيام بطول حياة الإنسان كلها، في سلوك وأعمال لها قوَّة الاسم الذي اعتمدنا له، وبإيمان يساوي نفس الإيمان الذي اعترفنا به. فالمعمودية فعل حياة جديدة مربوط بالإيمان بقوَّة اسم المسيح يتجدَّد كل صباح، بأعمال وأفعال تزكيها النعمة على نفس مستوى الإيمان بقوَّة اسم المسيح على مدى العمر كله.
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل