المقالات

22 أكتوبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس أخنوخ

"وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" تك 5: 24 مقدمة لا أعلم كيف فاتني أن أتعمق في دراسة شخصية أخنوخ، ولا أعلم كيف فاتني -لسنوات متعددة- أن أقترب أكثر من هذا الشعاع من النور الذي أضاء في فجر الحياة البشرية، ولا أعلم لماذا لم أصدق في هذه الهالة التي لفت وجه الرجل السابع من آدم، الذي يقول البعض: إنه اسمه يعني "المبتدئ" أو "الجديد" أو "المكرس" وعلى أي حال فإن العدد "سبعة" رمز الكمال في لغة الكتاب، ويبدو أن الرجل كان بمثابة بداية جديدة أو نقطة تحول في مفهوم التكريس وعمقه وجلاله ومجده أمام الله والناس،.. هل يرجع الأمر إلى أن الكلمات التي جاءت عنه كانت قليلة ويسيرة في أربع آيات في سفر التكوين وآية واحدة في الرسالة إلى العبرانيين، واثنتين أخريين في رسالة يهوذا؟!! أم لأننا مرات كثيرة لا تستلفت القصة أنظارنا إن لم تكن مصحوبة بوقائع معينة، تعين على الرؤيا أو تحديد الملامح؟!! أما لأننا في عجلة الحياة وسطحيتها وضجيجها وعدم تعمقها نغفل عن أن نطل على الجواهر المتلئلئة المضيئة، فلا نرى الرجل الذي كان أشبه بالفلته النادرة في عصره فعاش الحياة ولم ير الموت، لأنه عاش أجمل حياة على الأرض، وبرح الدنيا إلى حياة أبدية أسمى وأجمل، دون أن توضع على شفتيه كأس المنون ليجرعها، كما يجرعها كل إنسان على الأرض؟!!.. لقد أفلت أخنوخ وإيليا من الموت، ولن يوجد على شاكلتهما إلا أولئك الأحياء الذين يعيشون دون أن يروا الموت في المجيء الثاني السعيد!!.. من يكون هذا الرجل وما هي السمات التي يمكن أن تتميز بها شخصيته الرائدة العظيمة؟.. إنه في تصوري هو "المتصوف" الأول في الحب الإلهي إن جاز هذا التعبير؟!!.فإذا قرأنا عن قافلة المحبين لله، الذين يركضون في سباق الحب الإلهي، فسنجد هذا الرجل أول المتسابقين في فجر الحياة البشرية!!.. لقد فتحت عينيه على الله، وإذ رآه لم يعد يرى شيئاً في الوجود غيره، فتن بالله، واستغرقه الحب الإلهي، وكان أسعد إنسان في عصره يسير هائماً مع الله، وقد ازدادت سعادته بهذا اليقين الذي ملأ قلبه أنه أرضى الله،.. وإذا صح أن رجلاً إنجليزياً عطوفاً تحدث ذات يوم إلى غلام كان يمسح حذاءه، وكان البرد قارساً،.. وقال الإنجليزي للغلام بعطف عميق: يا غلام.. هل أنت مقرور؟، وأجاب الغلام بابتسامة عميقة: لقد كنت كذلك يا سيدي إلى أن ابتسمت في وجهي!!.. إذا صح أن وجهاً بشرياً يطل على آخر فيصنع الابتسامة ويشيعها فيه، فكم يكون الله الذي أطل على أخنوخ ورضى عنه وأحبه!!.. إنها قصة جميلة رائعة، تستدعي تأملنا وتفكيرنا، ولذا يمكن أن نرى أخنوخ من عدة نواح. أخنوخ من هو؟!! لا أستطيع أن أتصور أخنوخ دون أن أراه الإنسان ذا الهالة والوجه النوراني، وهل يمكن لإنسان أن يعيش مع الله، ويسير في صحبة الله، دون أن تطبع الصورة الإلهية، أو الجمال الإلهي عليه؟. لقد صعد موسى إلى الله أربعين يوماً وأربعين ليلة، وعاد وجهه يشع بالنور وهو لا يدري، ولم يعرف حقيقة حاله، إلا من فزع الإسرائيليين الذين لم يستطيعوا أن يبصروا هذا الإشعاع من النور دون رهبة أو إجلال أو فزع، ولقد تعود موسى أن يضع البرقع على وجهه، ليغطي هذا النور كلما اقترب من الناس أو التقى بهم، فكيف يمكن أن يكون أخنوخ الذي تعرف على الله وهو في الخامسة والستين من عمره، وسار مع الله ثلاثمائة عام بأكملها من ذلك التاريخ؟!! وإذا صح أن "دانتي" كان يرسم على وجهه -وهو يكتب الكوميديا الإلهية- كل التأثرات والانفعالات التي تجيش في نفسه، فإذا كتب عن السماء، فهو أرقى إلى الملاك وهو يكتب، مأخوذاً بالصور السماوية الرائعة،.. وإذا تحول إلى الجحيم يدير وجهه، وكأنما الشيطان ينعكس من خلال ملامحه ونظراته، فهو أدنى إله وأقرب،.. وإذا صح أن الحياة تطبع على وجه الإنسان في الأربعين من عمره -كما يقال- معالمها من ذات السلوك الذي يسلكه بين الناس، فإن الرجل الذي يسير ويستمر مع الله في سيرة ثلاثمائة عام متوالية، لابد أن ينال من الجمال الإلهي ما لم يعرفه معاصروه أو أجيال كثيرة تأتي بعده،.. وهو الرجل النافذ النظر، البعيد الرؤيا، الحالم الوجدان، الذي يمد بصره إلى ما وراء المنظور، فيرى من لا يرى، شخص الله الذي آمن به، واستولى على كيانه وسيطر على كل ذره من تفكيره وعواطفه وبنيانه،.. وإذا كانوا قد قالوا: أن المصور المشهور "هولمان هانت" عندما قيل له كيف يستطيع أن يصور المسيح ويرسمه دون أن يكون قد رآه،.. أجاب: إني سأراه وأعيش معه، سأراه طفلاً في مذود بيت لحم، وسأذهب وراءه إلى مصر، وأعود معه إلى الناصرة، وأصعد وإياه فوق جبل التجلي، وأجول معه في جولاته بين الناس، وأتمشى وراءه في أورشليم، ولن أترك مكاناً ذهب إليه دون أن أذهب، وسأرسمه مأخوذاَ بهذه كلها، فإذا صح أن هذا المصور يعيش بخياله مع المسيح على هذا النحو الجليل فإن أخنوخ -وهو يضرب بقدميه في كل مكان، وقد أخذ الله بلباب حياته- لابد أن يكون الإنسان السارح الفكر البعيد الخيال، الممتد الرؤيا، الكثير التأمل، بل لعله من أقدم الشخصيات التي صلت فأطالت الصلاة، وناجت فمدت المناجاة، وهل يمكن أن يسير مع الله وهو أصم أو أعمى أو أبكم، لقد استيقظت حواسه بأكملها، فهو سامع مع الله، متكلم معه، وهو الذي سيجد من الشركة مع الله، ما يعطيه أن يشدو ويترنم ويسبح ويغني!!.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا الرجل كان واحداً من أقدم المحبين الذين ملأ حب الله قلوبهم بل لعلنا نذهب أكثر فنراه المتصوف الذي بلغ أعلى درجات الحب الإلهي،.. فإذا كان اليونانيون قد جاءوا بعد آلاف السنين ليفصلوا أنوع الحب، وكانت هناك كلمات ثلاث مختلفة عندهم الأولى Evrn وتعني حب الشهوة ليس بين الرجل والمرأة، بل كل الأنواع التي تستحق أن تملك كمثل حب الجمال أو الخير، أو الحب الذي هو أساس الحياة الأدبية كحب الفضيلة، أو أساس الحياة الفنية كتذوق الجمال، أو أساس الحياة الفلسفية، وقد رأوها في حب الآلهة، أو الأبدية أو الخلود.. وكانت الكلمة الثانية Phibein وهي حب الخير غير الأناني الذي يعني بالإنسان والصديق والوطن وما أشبه، وكان اليونانيون يصفون به أعلى الناس، وقد وصفت به أنتيجون، الفتاة التي تابعت أخاها حتى القبر، وظلت إلى جوار جثته حتى ماتت، ووصفت به نبلوب التي ظلت عشرين عاماً تحدق في الفضاء البعيد تنتظر مجيء زوجها وسفنه الضائعة،.. والكلمة الثالثة Agapan وقد استخدمت في أكثر من معنى، وشاعت عباراتها بالمعنى السالف للكلمتين، وإن كانت تعبر عن الحب القوي العميق!!.. إذا كان أخنوخ في فجر الحياة البشرية لم يفصل أو يفرق بين هذه الأنواع، إلا أنه عاشها، فقد عاش يتذوق الحب الإلهي، ولعله صاح طوال حياته للناس: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، كما صاح المرنم الذي تغنى بذلك بعد آلاف السنين، أو لعله قال: "إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس بنفسي اشتهيتك في الليل أيضاً بروحي في داخلي إليك أتبكر لأنه حينما تكون أحكامك في الأرض يتعلم سكان المسكونة العدل. يرحم المنافق ولا يتعلم العدل. في أرض الاستقامة يصنع شراً ولا يرى جلال الرب" كما قال إشعياء فيما بعد!!. وعاش الحب الذي خرج به عن نفسه، واستغرق لا العشرين عاماً التي عرفتها بنلوب وهي تحدق في الفضاء البعيد، والتي لم تر بغير زوجها بديلاً،.. ولم ير زوجها بغيرها بديلاً –حتى في جنات الآلهة كما سرح الخيال الوثني- وظلا كلاهما على الوفاء بعد حروب تراوده حتى التقيت آخر الأمر،.. إن حب أخنوخ لله، كان هو التصوف الذي أشرنا إليه، والذي عاشه ثلاثمائة عام، وتجاوز به حاجز الموت حتى التقى بالله ليسبح في بحر الحب الإلهي إلى آباد الدهور!!.وكان أخنوخ –ولا شك كما وصفه الكسندر هوايت- أسعد إنسان في عصره، ورغم أن العصر الذي عاش فيه –كما سنرى- من أشر العصور وأفسدها،.. لكن الرجل مع ذلك وجد جنته الحقيقية في السير مع الله،.. إنه لم يفزع من الله كما فعل آدم عندما زاره الله في الجنة، وكان عرياناً يخجل من خطيته، ويتنافر بالخطية تلقائياً عن محضر الله أو السير معه،.. إلا أن أخنوخ كان على العكس، لقد أدرك ترياق الله من الخطية، وتعلم كيف يتقرب إلى الله بالذبيحة، بل يلتقي المحبان في نشوة الحب وعمقه وصدقه وجلاله وحلاوته،.. وأجل وتلك حقيقة أكيدة إذ أن حب الله استحوذ عليه فغطى على كل عاطفة أخرى، وجاء البديل لكل حاجة أخرى، وأسكره وهو يعلم أو لا يعلم عن كل خمر يمكن أن يقدمها الناس بعضهم لبعض في هذه الحياة!!.. لقد عرف أخنوخ لغة الشاعر المتصوف الذي أنشد قصيدته بعد ذلك وهو يقول لله: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا نلت منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب وكان أخنوخ أكثر من ذلك الرجل الغيور الملتهب، إن سيره مع الله لم يحوله إلى مجرد إنسان تأخذه النشوة، فيعيش في الأحلام دون أن يرى الواقع الذي يلمسه في العالم الحاضر الشرير، لقد زمجر كالأسد كما جاء في رسالة يهوذا قائلاً: "قد جاء الرب في ربوات قديسيه ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار"، وهنا نرى رجلاً ممتلئاً من الشجاعة، وقف إلى جانب الحق ومواكبه، ورفض أن يساير الباطل أو يرضى على الكذب أو يعيش في دنيا الخداع والنفاق والضلال،.. لقد أدرك أن الحق حق، وسيبقى ويسير هو إلى جانب الحق، حتى ولو امتلأت الدنيا بالباطل!!.. كان شجاعاً، وكان غيوراً، وكان الشاهد على عصره، لعصر يجري سريعاً ويستعد للطوفان المدمر المقبل الرهيب!! أخنوخ المجدد ولعله من الواجب أن نلاحظ هنا، أن ما أشرنا إليه عند تحليل شخصية أخنوخ، لا يعني بذلك أنه كان من طينة غير طينتنا، أو من طبيعة غير الطبيعة البشرية.. لقد ولد أخنوخ في عالمنا وجُبِّل كما جُبِّلنا،.. وهو يمكن أن يقول ما قاله آخر فيما بعد: "ها أنا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي".. لقد ولد أخنوخ بالخطية، وفي الخطية، ولكنه كأي مؤمن آخر، عرف الحياة الجديدة، والولادة الثانية.. ومن العجيب أن هذه الولادة.. جاءت نتيجة ولادة ابنه، إذ يقول الكتاب: "وسار أخنوخ مع الله بعدما ولد متوشالح".. لقد تطلع إلى وجه ابنه، ومن خلال هذا الوجه عرف الآب السماوي، لست أعلم مدى حبه لهذا الولد، ولكن هذا الولد كان بمثابة الفجر الجديد في حياته الروحية، أو في لغة أخرى: لقد أدرك أخنوخ أبوه الله عندما أصبح هو أباً، ومن خلال حنانه على ابنه أدرك حنان الله عليه.ما أكثر الوسائل والطرق التي يستخدمها الله حتى تفتح عيوننا على ذلك الطارق العظيم الذي يقف على الباب ويقرع، فإن سمع أحد وفتح الباب، يدخل إليه ويتعشى معه، وهو معه،.. ومن الناس من يجذبه الله بالعطية، فتأتي قرعته الحبيبة في صورة إحسان دافق، وخير عظيم. قد يعطينا ولداً يؤنس حياتنا، أو معونة تسد حاجتنا، أو رحمة تقابل تمردنا وعصياننا،.. قد يأتي إلينا كما جاء إلى يعقوب الهارب في دجى الليل، بعد أن خدع أباه وأخاه، وكان من الممكن أن يقسو الله عليه أو يعاقبه، ولكنه على العكس رأى سلم السماء والله فوقها يقول له: "أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله اسحق، الأرض التي أنت مضطجع عليها أُعطها لك ولنسلك ويكون نسلك كتراب الأرض وتمتد غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض، وها أنا معك وأُحِطَك حيثما تذهب وأردك إلى هذه الأرض ولا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به".. وقد كان الله أميناً ودقيقاً وصادقاً في وعده إلى الدرجة التي جعلت يعقوب في عودته يصرخ أمامه قائلاً: "صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك، فإني بعصاي عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين".. وقد يأتي الله بصور متعددة أخرى، قد يكون ظاهرها الغضب، وباطنها الرحمة، أو شكلها التأديب وقلبها المحبة،.. ولكنها على أي حال هي نداءات الله إلى النفس البشرية حتى تعود من الكورة البعيدة إلى بيت الآب حيث الفرح والبهجة والحرية والجمال والعزم. وقد جاء هذا النداء بقدوم متوشالح ومعه عندما كان أخنوخ في الخامسة والستين من عمره!!.. أخنوخ المؤمن فتح أخنوخ بالتجديد الصفحة العظيمة في العلاقة بالله، وهي ما أطلق عليها سفر التكوين: "وسار أخنوخ مع الله بعد ما ولد متوشالح ثلاثمائة سنة وولد بنين وبنات".. أو ما دعاه كاتب الرسالة إلى العبرانين حياة الإيمان، "بالإيمان نقل أخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لأن الله نقله إذ قبل نقله شهد له بأنه قد أرضى الله ولكن بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه".. أي أن السير مع الله، كان حياة الإيمان المرضية لله، والمبهجة لقلبه،.. ولم يكن هذا السير جدولاً رقراقاً بل نهراً متدفقاً، ولم يكن فتيلة مدخنة، بل ناراً متوهجة،.. أو في لغة أخرى كان إيماناً قوياً كاسحاً غلاباً لا يتذبذب، وهو بهذا يعد من أبطال الإيمان، وإذا شئنا أن نحلل إيمانه أو نصفه، يمكن أن نراه أولاً وقبل كل شيء المؤمن ذهناً، أو المؤمن الذي آمن عقلياً بالله، وكل خلية في ذهنه كتب عليها الله،.. لقد ابتدأ بما انتهى إليه الفيلسوف ديكارت،.. لقد أراد ديكارت أن يصل إلى الله، فبدأ من النقطة التي عزل فيها فكره عن كل مسبقات،.. وافترض أنه لا يوجد شيء يؤمن به، فهو لا يرى الطبيعة، وقد يكون الإيمان بها هو ختال النظر، وخداع الحس، وهو لا يؤمن بالله، فقد يكون الله موجوداً أو غير موجود، وظل ديكارت يشك في كل شيء إلى أن بلغ النقطة أنه لا يشك في أنه يوجد إنسان يشك، ومن سلم الشك آمن أنه موجود، إذاً فلابد أن له عقلاً، وأن هذا العقل يستطيع أن يفكر، وأخذ من سلم الشك طريقه إلى الإيمان، حتى توج هذا الإيمان بوجود الله، علة كل معلول، لا أعلم إن كان أخنوخ فكر في شيء من هذا، لكني أعلم أنه آمن بوجود الله وأدرك أن الله هو الحقيقة العظمى في الوجود، بل إن الله هو حقيقة كل حقيقة وصلت إلى ذهن الناس، وبلغت إدراكهم، فالله هو علة كل معلول، ومسبب كل سبب.. على أن إيمان أخنوخ لم يكن مجرد إيمان عقلي، بل كان أكثر من ذلك هو الإيمان الوجداني الذي تملك عاطفته، وسيطر على مشاعره وإحساساته،.. إن عواطفه كانت كلها إلى جانب الله، هل رأى الله في الطبيعة الساحرة؟!! هل رأى الله في الزنبقة الجميلة؟!! هل رأى الله خلف العصفور المغرد؟!! هل رأى الله في الخضرة المذهلة؟!! هل رأى الله في السموات البعيدة؟!! هل رآه في الشمس والقمر والنجوم؟، لقد رآه كاتب المزمور الثامن والتاسع عشر، ورآه وردثورت في الجبال العظيمة، ورآه يوناثان إدواردس في مظهر الطبيعة الخلاب، ورأته أعداد من الناس لا تنتهي، ممن يتحسسون الجمال، فلم يؤمنوا بجمال الطبيعة فحسب، بل قالوا مع الشاعر العظيم ملتون: بناء هذا الكون بناؤك وهو عجيب الجمال فكم أنت في ذاتك عجيب!!.. ورأى أخنوخ الله أكثر في أعماق نفسه فهو لا يرى الله حوله، بل أكثر من ذلك يرى الله داخله، أو كما وصفه أحدهم بالقول: إنه لم يره في الجمال الخارجي فحسب، بل رآه في جمال الداخل، في ذلك الشيء الحلو الدافق الذي يغمر قلبه، وفي السكرة اللذيذة التي تدغدغ حياته،.. إنه ذلك المحب الذي يسرح بعيداً بطرفه لا لأنه يرى شيئاً أمامه، بل لأنه الحب الرابض في أعماقه وقلبه، وهو الذي يتمتم بكلمات غير مسموعة، لأنه يناجي وجدانه الداخلي، وهو مرات كثيرة يمتليء بالبشاشة والسرور، لأن منظر المحبوب ومض أمام عينيه بصورة تبعث على النشوة، وتملأ الجوانح بسعادة لا توصف،.. وهكذا كان أخنوخ يسير مع الله وكأنما يشرب كأساسً منزعة مردية من الراح!!.على أن أخنوخ في سيره مع الله كان أكثر من ذلك المؤمن اختباراً وعملاً،.. كانت له جنته الحقيقية في قصة الحياة اليومية العملية مع الله، ونحن لا نعلم هل كان الله يظهر له بين الحين والآخر كما كان يظهر لأبينا إبراهيم؟ لكننا نعلم بكل تحقيق أن صلته لم تكن منقطعة بالسماء، وكل ما يفعله الإيمان في حياتنا اليومية، كان من المؤكد يفعله في حياة ذلك الرجل القديم،.. وهل هناك من شك في أن أشواقه كانت سماوية، ففي الوقت الذي كان فيه معاصروه يضجون بما تضج به الحياة الأرضية من أكل وشرب ولهو ولعب وتجارة وعمل وصراع وقتال، كان هو يسير بقدميه على الأرض، وأشواقه وأنظاره متطلعة إلى السماء.. كان متخفف الثقل من الجاذبية الأرضية، إنه لم يكن يعيش ليأكل "بل يأكل ليعيش.. وكان الناس يحيون في العالم ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وأفكارهم واهتماماتهم في الأرضيات، أما هو فعاش ثلاثمائة وخمسة وستين عاماً، وأفكاره بعد الحياة المجددة لمدة ثلاثمائة عام أفكاره سماوية، عاش الناس يزرعون حدائقهم، ويرون أشجارهم، ويأكلون ثمارها، أما هو فكان يعيش بطعام أبقى وأسمى، وهو يأكل من حديقة الله غير المنظورة في الشركة مع سيده، كان طعامه من المن المخفي في العلاقة بسيده،.. ولم تكن مجرد الأشواق هي التي تفصل بين أخنوخ ومعاصريه،.. بل الصلاة أيضاً، لقد عرف الصلاة بكل أنماطها وألوانها في العلاقة مع الله، كان من أوائل الذين تخاطبوا مع الله، وأكثروا الصلاة،.. فحياة الشكر كانت على لسانه في كل وقت،.. هل رأى عصفوراً يغرد على شجرة؟.. إنه يشكر الله الذي صنع الشجرة، وصنع العصفور، وصنع الصوت الجميل الذي يغرد به العصفور؟!! هل تمتع في الحياة بمتعة ما، إنه يشكر الله الذي هو مصدر كل متعة يحس بها بين الناس.. وهل احتاج إلى شيء، وانتظر أمراً؟ إنه قبل أن يتحدث به مع الناس، أو يتخاطب به مع البشر، يخاطب به الله الذي يستودعه كل انتظاراته واحتياجاته؟!!.. هل جاءت الغيمة، وغطت الشمس، وحل الظلام؟.. إنه يؤمن بأن الشمس خلف الغيمة، وأنه مهما تتلبد الغيوم، فإنها لابد أن تنقشع، ويعود النور مرة أخرى، وتتوارى التجارب والآلام والمتاعب!!.. إنه على أي حال يصلي بصلوات وابتهالات وتضرعات،.. لأن الصلاة عنده هي النداء الذي يتجه به إلى الله في السماء!!.. لم تكن الحياة عند أخنوخ مجرد التطلع إلى الغيبيات، بل كانت أكثر من ذلك، الحياة التي تواجه الواقع في مختلف ألوانه وظروفه، هل ناله الأذى من الناس؟ وهل أمعنوا في إيذائه؟ هل تحولت الحياة ضيقاً ما بعده من ضيق؟.. لقد عرف الرجل طريقة إلى النصر، في النظر إلى معنى الضيق في الأرض، لقد أدرك نفسه غريباً في الأرض، يطوي الزمن كما يطوي الجواب الصحراء القاسية، ولابد من الوطن، والضيق يهون، ما دام السبيل إلى الله يتدانى ويقترب، وخفة ضيقته الوقتية ستنشئ أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً!!وفي كل الأحوال واجه أخنوخ الحياة، وكافح الصعاب والمشقات والمتاعب، ولعله أدرك الحكمة التي غابت عن الصبي الصغير الذي وقف يرفع حجراً ثقيلاً –كما تقول القصة- وكان أبوه يرقب محاولته اليائسة دون جدوى،.. وقال الأب –وقد أدرك جهد ابنه البالغ. هل جربت يا بني كامل قوتك في رفع الحجر؟!!، وأجابه الصغير: نعم يا أبي، وليس عندي قوة أكثر من ذلك.. وقال الأب: لا أظن يا بني فمثلاً أنا قوتك، ولم تدعني لمساعدتك على رفع الحجر!!.. كان أخنوخ يعلم أن الله قوته التي يستعين بها في مواجهة كل صعوبة أو مشكلة أو معضلة أو تعب كان أخنوخ السابع من آدم نبياً، وكان من الأنبياء الشجعان الأقوياء، وعندما رأى الفساد يتزايد في الأرض ويستشري، زمجر كالأسد في مواجهة الخطاة، وكشف لهم عن دينونة الله الرهيبة العادلة، وغضب الله الذي سيلحق بفجور الناس وإثمهم، وربما كان أخنوخ أول من تحدث عن عقاب الله الأبدي الرهيب!!.. أخنوخ الخالد كان أخنوخ الأول في الجنس البشري الذي قفز فوق سور الموت، ودخل الحياة الأبدية دون أن يتذوق كأسه القاسية المريرة،.. وكان أول البشر في الإعلان عن الخلود في الصفحات الأولى من كتاب الله، بل كان أولهم الذي يمكنه أن يقول: وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً، لم يكن هناك موت بالنسبة لأخنوخ، بل كان هناك انتقال وتطور، كان هناك مجرد انتقال من رحلة الأرض إلى رحلة السماء،.. هل انتقل في مركبة من نار كما انتقل إيليا؟ أم انتقل إذ أخذته سحابة كما أخذت المسيح عن أعين التلاميذ؟.. وهل جاء الانتقال أمام الناس كما يعتقد الكثيرون، حتى يبدو الأمر شهادة على سيطرة الله على الموت؟ أم اختفى فجأة على وجه لم يستطع أحد معرفة مكانه، وعبثاً وجدوا مكانه كما فعل أبناء الأنبياء عندما حاولوا التفتيش على إيليا؟ على أي حال.. لقد امتلأ أخنوخ بالحياة مع الله، وتشبع بهذه الحياة، حتى لم يجد الموت مكاناً له عنده،.. إنه يذكرنا بأسطورة الرجل الذي قيل أن الموت جاءه مفاجأة ذات يوم، وطلب الرجل إمهاله بعض الوقت، وقيل أن الموت أمهله قائلاً: سأعود إليك بعد سنة وشهر ويوم وساعة،.. وفزع الرجل محاولاً أن يجد السبيل إلى الخلاص من الموت، فذهب إلى الشمس وسألها: هل يمكن الهروب من الموت؟.. وأجابته الشمس: إنها تشرق على الناس وصرخاتهم كل يوم وهم يدفنون من لهم، ولم يحدث في يوم واحد أن غاب الموت عن الناس في الأرض،.. ذهب إلى الرياح يسألها: هل يمكن الهروب من الموت؟ وأجابته الرياح: إنها تلف الكرة الأرضية، وتلف بالصارخين الذين يصرخون وراء موتاهم في الأرض، ذهب إلى البحر يسأل: هل يمكن الهروب من الموت؟ وقال له البحر: ما أكثر الذين ضمتهم الأمواج والمياه من الغرقى أو الذين ماتوا على ظهر السفن، وطوح بهم تأكلهم الأسماك.. وحار الرجل، وفي حيرته التقى بملاك فوجه إليه السؤال: هل يمكن الهروب من الموت؟.. وقال الملاك: إنك تستطيع إذا سرت في موكب الأرض، والتقيت بالطفل الصغير الباكي، وعليك ألا تتركه حتى يضحك، والبائس حتى ترسم السعادة على شفتيه، والمنكوب حتى يرتفع فوق مأساته ونكبته ويترنم،.. وصدق الرجل، ووقف أمام آلام الناس وأحزانهم ومآسيهم وتعاساتهم، وهو يحول الدموع إلى الضحك والابتهاج والترنم،.. وقيل إن كل ابتسامة أوجدها على فم صغير أو كبير، انتقلت إليه وحولته هو إلى ابتسامة كبرى، دهش الموت عندما جاء لأنه وجد الرجل طيفاً مبتسماً في الأرض،.. هذه خرافة ولا شك، ولكنها تحمل المعنى العميق بالنسبة لأخنوخ، لقد ظل أخنوخ يتخفف من ثقل الأرض، ويرتفع في اتجاه السماء، حتى أفلت من الجاذبية الأرضية، وأخذته السماء بكل ما فيها من جلال وعظمة وبهجة ومجد.. ولم يوجد لأن الله أخذه قد تسألني: ولكن كيف يمكن أن يكون هذا، وكيف يتحول الجسد المادي الحيواني إلى جسد روحاني؟ لست أعلم، وليس في قدرتي أن أصف كيف يتجمع التراب والرماد ليعود جسداً ممجداً في القيامة من الأموات،.. كل ذلك فوق علم الإنسان وفهمه وتصوره وخياله،.. لكني أعلم أن هناك فارقاً كبيراً بين الجسد الذي عاش به أخنوخ على الأرض، والجسد الممجد في السماء.. هذا الفارق هو ذات الفارق بين البذرة، والشجرة، وبين صغر الأولى وضآلة منظرها وحجمها، وكبر الثانية وعظمة صورتها وجلالها.. ومهما يعجز الخيال البشري عن توضيح الفرق بين الحياة هنا، والحياة هناك، إلا أن أخنوخ كان بانتقاله إلى حضرة الله، نبرة الخلود وتوضيحاً للكلمات العظيمة التي ستأتي بعد آلاف السنين على فم السيد المبارك: "من آمن بي ولو مات فسيحيا، ومن كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد".. أو ما قاله الرسول عن المسيح: "الذي أبطل الموت وأناد الحياة والخلود بواسطة الإنجيل" أجل.. سار أخنوخ مع الله، وعندما بلغ النهر ووقف على الشاطيء، حمله الله عبر المجرى إلى الشاطيء الآخر الأبدي، ليسير الأبدية كلها في صحبة الله وملكوته ومجده، مع جموع المفديين، وحق له كالبشرى الأول أن يوصف بالقول: "بالإيمان نقل أخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لأن الله نقله إذ قبل نقله شهد له أنه قد أرضى الله ولكن بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه، لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن أنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه"..
المزيد
17 أكتوبر 2020

المقالة الثالثة عشرة في الانتباه

أصغي إلى ذاتك أيتها الشبيبة المؤثرة النسك لئلا تعبر أيامك في التنزه، لا تقبلي الأفكار الخبيثة لئلا تضعف قوتك في حرب العدو، ليكن كل وقت في ذهنك السيد الحلو ليكلل سعي نسككِ.حاضري جرياً أيتها الحداثة في جهاد نسككِ، قد حان اليوم وأقترب الوقت الذي فيه العاملون يكللون والمتوانون يندمون، أقتني الفضيلة ما دام لك زمان ؛ أقتني ورعاً في ناظركِ وصدقاً في مسامعكِ وكلمات حياة في لسانكِ.تعهدي المرضى في قدميكِ ؛ وفي قلبكِ صورة ربكِ، في أعضائكِ تقويمات العفة ليفضل تكريمكِ بحضرة الملائكة والناس. خشبة لا نفس لها تكرم إذا كان فيها صورة ملك مائت، فكم أحرى تكرم النفس الحاوية فيها اللـه في هذا الدهر والمستأنف.أصغِ إلى ذاتك أيها الحبيب ؛ إن الشهوة مائتة فأما جسمك فهو حي ؛ وتأمل إذاً بمبالغة وأحذر ألا تمنح جسدك حياة المائت ؛ فإن أعطيته حياة يقتلك، فإن المائت إذا أحييته قتل من منحه الحياة.فأعرف بمبالغة ما هي الشهوة، فالشهوة خلواً من الجسم مائتة ؛ فإذا اقترنت الشهوة بالجسم تعيش الشهوة ؛ ويدرس الذهن في حلاوتِها، ويوجد الجسد الحي مائتاً بإماتتها إياه.فمن أجل هذا أحفظ ذاتك بتحرز من هذا المائت في توقد نار شهوته، أحضر إلى ذهنك النار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت ففي الحال يخمد التهاب الأعضاء، لئلا تسترخي فتغلب وتندم وتستدرك كل النار، نار الندامة وتعتاد أن تخطئ وتندم.أقتنِ صرامة منذ الابتداء مقابل كل شهوة ؛ ولا تنغلب لها ؛ ولا تعتاد على الهزيمة في الحرب ؛ لأن العادة طبيعة ثانية ؛ واعتياد الاسترخاء لا يقتني قط صرامة وشهامة لأنه كل حين يبني وينقض، كل وقت يخطئ ويندم.أيها الحبيب إذا اعتدت أن تتراخى إذا قوتلت فستكون تسطير كتابة ندامتك ثابتة إلى أبد الدهر.من قد أعتاد أن ينغلب لبعض الشهوات فضميره يصير له كل وقت موبخاً ؛ ويكون كل وقت حزيناً كئيباً، فيرى قدام الناظرين وجهه بورع وعافية ؛ وهو من داخل مقطب من أجل توبيخ ضميره إياه ؛ لأن الشهوة اعتادت أن تمنح الذين يعملونَها حزناً موجعاً.فتحرز بكل نفسك ؛ وأحذر حاوياً في ذاتك المسيح كل وقت، لأن المسيح هو للنفس ختن لا يموت، لا تترك ختنك المحق لئلا يتركك ؛ وإذا تركك تحب الغريب العدو الغاش الذي يغش ؛ يحب وقتاً يسيراً ويترك لأنه هو زانية نجسة ؛ فإذا أفنى الإنسان قوته فيها يمقتها.من لا يبكي لأن العدو إذا افنى قوتنا وزماننا في نجاساته وشهواته الدنسة ؛ يبتعد حينئذ عنا لأنه يمقتنا ولا يحبنا قط ؛ لكن يحبنا اللـه الآب والابن والروح القدس الذي له التمجيد إلى أبد الدهور.آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
15 أكتوبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس أحشويرش

" فى تلك الليلة طار نوم الملك "أس 6: 1 " مقدمة هل قرأت ما كتبه الشاعر الغربى عن المسمار الذى ضاع من حدوة الحصان؟، وإذ ضاعت الحدوة، ضاع الحصان، وإذ ضاع الحصان ضاع راكبه، وإذ ضاع الراكب ضاعت المعركة، وإذ ضاعت المعركة ضاعت المملكة، وكل ذلك بسبب الحاجة إلى المسمار الذى كانت تحتاج إليه حدوة الحصان!!.. وما أكثر ما تنجم أعظم النتائج من أصغر الحوادث وأتفهها فى الليلة التى أعد فيها هامان خشبة ارتفاعها خمسون ذراعاً ليصلب عليها مردخاى المسكين،.. فى تلك الليلة طار نوم الملك، وتغير كل شئ، وانقلبت الأوضاع، إذ أن الملك لم يطلب - والنوم بعيد عن عينيه - الموسيقى الرقيقة، أو النساء المحظيات..، أو الخمر أو غيرها مما يمكن أن يسليه عن النوم المستعصى على عينيه، ولكنه طلب سفر تذكار أخبار الأيام، ليتذكر ما فعل مردخاى، وكيف لم يكافئه عن عمله،.. وكيف أن هذا أنقذ الشعب الذى حكم عليه بالإعدام وهو لا يدرى، وغير وجه التاريخ بما رتب لإنقاذه كل هذا حدث لأنه فى تلك الليلة طار النوم من عينى الملك،.. ومن العجيب أن هذا الرجل الذى طار النوم من عينيه، كان فى واقع الحال وحشاً من أقسى الضوارى التى ظهرت على الأرض، ويصنع اللّه معه معجزة خارقة فلم تكن المعجزة سوى النوم الذى طار من عينيه،.. وهكذا يتدخل اللّه بعنايته العجيبة، ليصنع بأبسط الوسائل أضخم الأمور وأعظمها فى حياة الناس، ولعلنا بعد ذلك نستطيع أن نتابع القصة من نواح متعددة!!.. من هو أحشويرش: من المسلم به أن أحشويرش هو الملك الفارسى المسمى " أكزركسيس " أو زركسيس " وأن هذا الاسم الأخير فى الأصل اليونانى هو الاسم المختصر للاسم الأول، وقد حكم عشرين عاماً ما بين 485 - 465 ق. م، وقد كان مشهوراً بجماله الطبيعى مع الكبرياء والعناد والاندفاع والقسوة، على نحو يكاد يكون بلا مثيل بين طغاة الأرض، وجبابرتها العتاة، وقد بدأ حكمه بإتمام غزو مصر الذى بدأه أبوه داريوس، ثم عاد إلى بلاده ليعد لغزو اليونان التى كانت قد وصلت فى ذلك التاريخ إلى القمة فى العظمة والحضارة والمجد والمعرفة.. وذلك بعد أن خضعت له آسيا بأكملها من الهند إلى كوش، ليتحقق له إخضاع أوربا بأكملها، وليصل - على حد قوله - بالحدود الفارسية إلى آخر ما تصل إليه سماء اللّه!!.. وقد استمر ثلاث سنوات يجهز الجيش اللازم للمعركة، وقيل إنه أمكن أن يعد أكثر من خمسة ملايين مقاتل ومدنى للقتال، على رواية هيرودتس، وإن كان المؤرخون المحدثون يعتقدون أن هذا العدد مبالغ فيه، وأن الجيش كان حوالى مليون وخمسمائة ألف مقاتل،.. وأقام جسراً على الدردنيل ليربط آسيا بأوربا التى يزمع إخضاعها، وعندما هاجت الزوابع وكسرت الجسر أمر بقطع رؤوس المهندسين الذين عملوه، وجلد البحر ثلثمائه جلدة، وفى فريجيه توسل إليه بسياس العجوز (وقد قدم خمسة من أولاده للذهاب إلى الحرب) أن يعفى الأكبر ليبقى مع أبيه، فما كان منه إلا أن شطر الولد إلى شطرين، وأمر الجيش أن يمر بين شطرى الجثة!!.. وقد فعل شيئاً آخر يكاد يكون مماثلا لهذا الأمر، إذ أن صانع السهام، أراد أن يجرب سهماً، وكان ابنه ساقى للملك، (يقدم الكأس للملك)، فجربه فى ابنه بأن أنشبه فى قلبه، وسر الملك، وسمح له أن يقبل يديه مكافأة له على ما فعل!!.. هذا هو الرجل االذي يبدو وحشاً ضارياً، وهو صورة شاء اللّه أن يقدمها لنا، ويقدم الكثير من أمثالها فى كل العصور، لكى نعلم أن اللّه متسلط فى مملكة الناس،... ألم يقتل الإسكندر الأكبر أعظم قواده المحبوبين بارامنو؟، وألم يرسل هيرودس الكبير زوجته الجميلة المحبوبة ماريمينه إلى الموت؟ وألم ينه نيرون حياة أمه أغربيانا. والفيلسوف سينكا، وعشيقته بوبيا الجميلة التى ظل يركلها بقدميه حتى لفظت أنفاسها؟... وذهب هؤلاء جميعاً ليبقى الحاكم العادل الذى هو ديان الأرض كلها ويصنع عدلا!!.. أحشويرش وزوجاته: وكان الأحرى أن نقول " أحشويرش والمرأة "، إذ أن هذا الرجل كانت له زوجات عديدات، كل واحدة فى نوبتها، كما يشتهى الملك ويشاء، وكان قصر الحريم عنده صورة رهيبة عجيبة، يحكمها الأمر وقضيب الذهب فإذا ذهبت واحدة فى غير موعدها، أو دون أن تؤمر، فأمرها واحد، هو الموت البشع،.. ولقد ذكر عنه ذات مرة، كما تقول رواية تاريخية أو تقليدية، إنه سمح لواحدة من الزوجات بأن تشوه منافستها أمامه، فما كان منها إلا أن مزقت صدرها، وأنفها، وأذنيها وشفتيها وألقت بها للكلاب، واجتثت لسانها من الأساس، وأرسلت الجثة مشوهة المعالم إلى بيتها..!! قد يجرب المرء عندما يسمع أو يقرأ عن قصر تحول إلى ما يشبه الغابة، ممتلئاً بالحيات السامة، والإناث من الوحوش التى تكيد الواحدة للأخرى بالضرر والموت، إن العناية يمكن أن تبتعد أو ترفض الدخول إلى مثل هذه المجتمعات ولكن العكس صحيح، إذ أن اللّه يحكم كل شئ بسلطانه الأبدى العظيم، وهو يسيطر على الخطأ أو الصواب على حد سواء!!.. فإذا كان الملك يقيم حفلا تاريخياً باذخاً، يجمع إليه جميع الشعوب، ويقال إنه كان وقتئذ يعد لغزو اليونان، وهو لذلك يكثر من الخمر والشراب، وأذا هو يشرب ويشرب، ويشرب معه العظماء والسادة، وفى لحظة يفقد فيها ميزانه العقلى، يأمر أن تأتى الملكة فى جمالها البارع، لكي تظهر فيما يشبه العرض على الحاضرين، وأذا بالملكة الشجاعة النبيلة، ترفض أن تظهر أمام العيون المبتذلة المخمورة، وإذا هو يجرح فى كبريائه، وييستشير المخمورين معه، فيما يفعل تجاه الكبرياء الجريحة، ويأمر بخلع الملكة، ويصدر قراراً أن الرجل يحكم المرأة فى البيت،.. كأنما الحكم فى البيوت يحتاج إلى قانون ملكى ليسيطر الرجل على المرأة فيه!!.. وإذا بالملك يهدأ بعد الغضب ويحن إلى وشتى، وهو لا يستطيع أن يرجعها،... وهو فى حاجة إلى من يملأ الفراغ بمن تكون أجمل وأعظم، وإذا بمباراة تعقد بين ملكات الجمال، لتفوز فيها فتاة يتيمة من شعب مغمور، تستولى على مشاعر الملك، وتفرض عليه سلطان جمالها الطاغى، وتقف دون منازع بين مثيلاتها فى القصر الملكى،... فإذا كانت المؤامرة التى ستقع على الشعب، كما هو ثابت فى الكلمة الإلهية كانت فى الثانية عشرة من حكم الملك، فإن خلع وشتى، لتحل محلها أستير، كان قبل ذلك بسنوات تقترب من العشر، وتسبق العناية الخطأ والصواب معاً، وتجهز سبل النجاة قبل أن يقوم الخطر أو يعرفه أو يدركه إنسان على وجه الإطلاق!!... حقاً إن اللّه يحكم ويسود فى كل العصور والأجيال، يستوى فى ذلك عصور الديكتاتورية والطغيان، أو أرقى العصور حيث يسود القانون، وتأخذ العدالة مجراها بين الناس،... لقد حكم اللّه وساد أيام فرعون، حيث لا يجد الشعب البائس ملاذاً يلوذ به من التسخير والاستعباد، وحيث يصدر الأمر بأن يلقى كل ذكر عبرانى فى مياه النيل!!.. وقد حكم اللّه وساد فى أيام نبوخذ ناصر، حيث يأمر الملك أن يفسر له أحد حلمه الذى ربما نسيه هو، ويلزم أن يذكره السحرة والعرافون به، وحيث الأتون المحمى سبعة أضعاف ليلقى فيه من يخالف أمره، أو يعصى كلمته،.. ولقد حكم اللّه وساد عندما جعلت روما لعبتها المفضلة أن ترمى بالقديسين لتتسلى بمنظرهم والوحوش الضارية تمزق أجسادهم،... وقد حكم اللّه وساد عندما حول هتلر أوربا إلى بركة من الدم، وأطلق الحرب العالمية الثانية من عقالها!!.. وفى كل عصور تنطلق الوحوش الضارية، يمكن أن نسمع صوتاً يقول: " إلهى أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تضرنى " " دا 6: 22 ".. أحشويرش وهامان الأجاجى: من الغريب أن الشعوب تذهب - فى العادة - ضحايا تصرف الأفراد، وأن المشاكل والمؤامرات والحروب كثيراً ما ثارت، دون أن تكون هناك ضرورة لقيامها، فحروب تروادة قامت من أجل امرأة، وحرب البسوس من أجل ناقة، والحرب العالمية الأولى من أجل مصرع أمير من الأمراء!!.. وهكذا تأتى النار من مستصغر الشرر،.. وإبادة شعب بأكمله، جاء من وراء خلاف بين رجلين، فهامان الأجاجى وصل إلى مركز رئيس الوزراء، وقد أكرمه الملك، باعتباره ممثلاً له، فأمر بأن ينحنى أمامه الجميع ويسجدون، غير أن مردخاى اليهودى من حقه أن يحترم الرجل، ولكن لا يمكن أن يسجد لإنسان مثله، لأن عقيدته الدينية تمنعه من السجود إلا للّه وحده، وهو يقبل الموت دون أن يسجد للإنسان، حتى ولو كان أحشويرش نفسه وهنا نقف أمام نقطة هامة، بل هنا نقول مع مارتن لوثر: " هنا أقف ولا أفعل غير ذلك، وليعنى اللّه "!! فى مدينة أفسس طلب من فتاة مسيحية فى عصور الاضطهاد، ألا تفعل شيئاً سوى أن تقدم قليلا من البخور فى المبخرة للآلهة الوثنية.. ورفضت الفتاة، وهى تقبل أن تحترق، هى بنفسها، دون أن تتجاوز الخطر الإلهى فى الولاء للّه!!.. وإذا صح أن " تل " السويسرى رفض أن ينحنى بدافع الوطنية أمام قبعة الغاصب المحتل، وعندما أكره على أن يصوب سهماً إلى تفاحة وضعت على رأس ابنه، وأى انحراف للسهم قد يقتل الابن فى الحال، وقبل، وقد وطن نفسه على أن يجهز سهماً آخر للغاصب لو أن ابنه قتل من السهم الأول... وإذا صح أن الوطنية دفعت ملايين الناس على الأرض إلى أن يمحوا تراب وطنهم بالدم وأن يدفعوا الغاصب أو المستعمر أو العدو، ولو قدموا حياتهم رخيصة بلا تردد من أجل الوطن،... فكم يكون الأمر إذا تتعلق بعقيدة الإنسان وضميره، وهو يعيش تحت شعار الأمانة الدينية منصتاً إلى صوت السيد: " كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة "،... " رؤ 2: 10 " هذا هو السبب الذى دفع مردخاى لأن يقف على النقيض من عبيد الملك جميعاً، الذين كانوا يجثون ويسجدون لهامان، كأمر الملك،... وهذا هو السبب الذي أثار هامان، وطعن كبرياءه. فى الصميم، وملأه بالحقد والضغينة والانتقام،... وهو فى كل الحالات على النقيض من مردخاى، رجل وصولى نفعى لا يبحث إلا عن مجده وكرامته وعظمته وثروته، وهو يصل إليها جميعاً بمختلف الوسائل والأسلحة. والإنسان، فى الكبرياء، يعمى عن الحقيقة، إنه لا يختلف عن أى إنسان آخر، مهما كان حظه ومركزه ونصيبه من الحياة، وقد رأى أيوب نفسه لا يختلف عن عبده وأمته فقال: " إن كنت رفضت حق عبدى وأمتى فى دعواهما على، فماذا كنت أصنع حين يقوم اللّه، وإذا افتقد فبماذا أجيبه، أو ليس صانعى فى البطن صانعه، وقد صورنا واحد فى الرحم " " أيوب 31: 13 - 15 "وقد بلغت كبرياء هامان الحد الذى فيه رأى أن إساءة مردخاى لا يمحوها دمه وحده، بل لابد من أن يكون دم شعبه بأكمله فى كل البلاد هو التعويض عن الكبرياء المجروحة والمساء إليها!!... أية وحشية يمكن أن تكون كهذه الوحشية؟ وأية قسوة يمكن أن تصل إلى هذه القسوة؟... وفى الحقيقة أن أى وحش يلغ فى الدماء لابد أن يتوقف عن التعطش إلى الدم، مهما كانت وحشيته، ليعطى المكان الأول لهامان الأجاجى وأمثاله فى كل التاريخ، الذين لا يشبعون من أنهار الدماء التى تفيض أمامهم دون توقف!!.. وقد كان على هامان ليتمم رغبته الوحشية - أن يقدم رشوة للملك أحشويرش وهو لا يكتفى بأن يبرر أن الشعب اليهودى شعب منعزل بسنين مختلفة عن الشعوب، وهو لا يعمل سنة الملك، بل إنه سيعطى عشرة آلاف وزنه تقدم لخزانة الملك مقابل هذا القضاء الذى يلزم إتمامه،... وما من شك بأن هامان وضع عينيه على ثروة هذا الشعب، وهى أضعاف مضاعفة لما يقدم لخزانة الملك، وسيكون له النصيب الوافر من الثروة المحمولة إليه منهم!!.. ومثل هذا الإنسان ليس قاسياً أو راشياً مرتشياً فحسب، بل هو أكثر من ذلك، إنسان خرافى يؤمن بالوساوس والخرافات، ومن ثم فهو يلقى القرعة فى الشهر الأول - أي شهر نيسان - ليقع القضاء فى آخر السنة فى الثالث عشر من الشهر الثانى عشر شهر آزار لإهلاك وقتل وإبادة جميع اليهود من الغلام إلى الشيخ، والأطفال والنساء فى يوم واحد، وأن يسلبوا غنيمتهم!!... ومع أن الملك قد ختم الكتاب إلا أن غيظ هامان من مردخاى وبالمشورة مع زوجته ومشيريه، لم يستطع أن يصبر إلى الزمن المحدد للقضاء عليه، بل أسرع ليجعله عبرة منفردة للآخرين، فصنع خشبة طولها خمسون ذراعاً ليصلب عليها عدوه اللدود!!.. ولم يعلم هامان، وهو يصنع الخشبة الطويلة، أن يضعها لنهايته وللقضاء عليه هو، وفقاً لقول الحكيم: " من يحفر حفرة يسقط فيها ومن يدحرج حجراً يرجع عليه!!.. ". " أم 26: 27 " وأعتقد أننا فى حاجة إلى مصور بارع يصور لنا هامان الأجاجى، وهو يلبس مردخاى الذى سر الملك بأن يكرمه، اللباس الملكى، ويركبه فرس الملك، وينادى فى ساحة المدينة: هكذا يصنع للرجل الذى يسر الملك بأن يكرمه!!.. وأعتقد أننا فى حاجة إلى صورة أكبر لذلك الصليب، وقد أنتزع من فوقه مردخاى ليأخذ هامان مكانه!! إنه اللّه، صديق البائس والمنكوب والمظلوم، والبرئ، يفعل هذا وهو القادر على كل شئ فى كل عصور التاريخ!!.. أحشويرش وأستير: تذكرنى أستير بالسؤال الذى وجهته أم كرومويل إلى ابنها، إذ رأته يقوم بما يشبه الإقدام الجنونى على كثير من الأعمال، وعندما سألته عن السر فى ذلك، أجاب: توجد لحظات يا أمى لا يستطيع الإنسان فيها أن يفكر فيما يواجه، طالما كان أمامه واجب يلزمه بذلك!!.. وكان كرومويل نفسه فى تكريسه حياته للخدمة والواجب، هو الجواب على سؤال نهض أمامه فى مزرعته عندما أحس أن اللّه يدعوه، وأن اللّه فى حاجة إلى رجل، شجاع، أمين، بصرف النظر عما يواجه من مشقات ومتاعب وأعوال.. كان السؤال المطروح أمام عينيه، هو ذات السؤال القديم: " من أرسل ومن يذهب من أجلنا، " " إش 6: 8 ".. وكان الجواب بدون تردد: " ها أنذا ارسلنى!!. وإذا كانت هناك امرأة بين النساء قد أجابت بشجاعة على هذا السؤال، فقد كانت أستير واحدة من البطلات اللواتى أجبن، بعد عمق دراسة، غير عابئات بالنتيجة، سواء جاءت فى هذا الاتجاه أو ذاك: " فقالت أستير أن يجاوب مردخاى: اذهب اجمع جميع اليهود الموجودين فى شوشن وصوموا من جهتى ولا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام ليلا ونهاراً، وأنا أيضاً وجوارى نصوم كذلك، وهكذا أدخل إلى الملك خلاف السنة، فإذا هلكت هلكت " " إش 4: 51 و61 " ومن الواضح أن أستير وجدت من مردخاى تشجيعاً على ما يقال إنه مغامرة انتحارية، ولعل المبدأ الأساسى فى أية مغامرة أو فى أية رسالة هو موازنة النتيجة، وهل الفائدة أو الضرر أقوى وأكمل فى الإقدام عليها أو الامتناع عنها، فإذا كان مجد اللّه معلقاً فى الميزان، أو إذا كان مصير الكثيرين يمكن أن يرتبط بالمغامرة، فإن أى بذل لا يمكن إلا أن يكون مكسباً أعلى وأعظم، مهما كان الثمن الذى يدفع فيه،... هل سمعنا عن ذلك الرجل الذى كان يدعو نفسه: الثالث... وعندما سئل: ومن هو الأول والثانى... كان الجواب: اللّه أولا: الآخرون ثانيا: أنا ثالثاً!!.. وفى ضوء هذا الترتيب رأت أستير نفسها فى المركز الثالث!!.. بل إن مردخاى يؤكد لها هذا المركز من وجهة أخرى، فهو يؤكد لها أن صاحب المركز الأول له القدرة، بها أو بدونها، على أن يحقق النجاج للشعب!!... لكنه يريد أن ينبهها إلى أنه هو الذى وضعها فى المركز الذى لم يكن تحلم به على الإطلاق: " لأنك إن سكت سكوتاً فى هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر وأما أنت وبيت أبيك فتبيدون، ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك " " إس 4: 14 ".. إن السؤال الذى تطرحه هذه القضية علينا أجمعين، ليس حول الشعب اليهودى فى ذلك التاريخ.. بل فى أمرنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور: ما هى الحياة!!؟ ما هى الحياة لأستير!!.. وما هى لى أو لك، نحن الذين تفصلنا عن القصة القديمة: ما يقرب من ألفين وخمسمائة من الأعوام!!؟ هل الحياة أن يتحول الإنسان من فقير يتيم إلى مركز الملوك، وينتقل من كوخ إلى قصر؟.. ومن الجوع والمسغبة والمشقة إلى حياة المجد وأبهاء الملوك!!؟.. هل هذه هى الحياة؟ إن الجواب بكل تأكيد: كلا!! لأن الفقير والغنى فى رحلتها الأرضية سيسوى بينهما التراب الذى سيتحولان إليه، ولا يعود يفصل بينهما فاصل، أو كما قال ديوجين للاسكندر الأكبر عندما أبصره يمسك بمجموعة من العظام وسأله الإسكندر: أية عظام هذه التى معك ياديوجين!!؟.. وكان الجواب: لا أعلم، أهى عظام أبيك أو عظام عبيده!!؟... ولو صحت الرواية، فإن عظام العبيد تختلط بعظام سادتهم، عندما يعود الناس تراباً إلى الأرض!!؟.. ومن ثم فإنها ليست الثروة أو الجاه أو النفوذ أو الأكل أو الشرب الذي يفصل بين إنسان وإنسان!!؟... إن الحياة فى مفهوم مردخاى - لا تزيد أو تنقص عن أنها فرصة فى مملكة الإنسان، سواء اتسعت هذه المملكة لتصبح من الهند إلى كوش، أو ضاقت لتصبح مملكة الإنسان فى داخل كيانه الشخص.. وكل على أية حال هو ملك على مملكة،.. وهناك فى هذه المملكة، الفرصة التى إذا ضاعت فلن تعود، والمسئولية هى الحياة تجاه هذه الفرصة، وهى بحق ما ذكره " دانيال وبستر لما سأله أحدهم عن أهم شئ يواجهه فى الحياة، فكان جوابه: " هى مسئوليتى تجاه ابن اللّه فى الأرض "!!... وليس من واجبى تجاه هذه الفرصة أن أسأل فى وقت الموت أو الخطر ماذا ينبغى أن أفعل!!.. لكن واجبى الوحيد أن أسير فى الطريق دون تراجع عن الشهادة أو الاستشهاد... وهذا هو المعنى النبيل العظيم فى الحياة!!.. كان لأستير المجد العالمى إذ كان لها أعظم ما يمكن أن يصل إليه إنسان فى الأرض من إمتيازات وجوار وخدم وعبيد، لكن أستير أدركت أن هذه كلها تذهب وتبيد... وتبقى القصة خالدة بما يقدم الإنسان من عمل لمجد اللّه ولخير الآخرين!!... وكم من ملكات عشن فى التاريخ وذهبن، وذهب كل شئ فى حياتهن طعمة للدود الذى أتى على كل نعيم،... ولم يبق لهن إلا الخدمة إذا كن قد أدركن رسالتهن ومسئولياتهن فى الحياة!!... والفرصة كالشعرة الدقيقة إذا أفلتت على رأى شكسبير لا يمكن أن نرجعها مرة أخرى، ونحن نسير فى موكب لا يرجع فيه التاريخ إطلاقاً!! وسعيد ذلك الإنسان الذى يمسك بالفرصة، مهما كانت المتاعب أو فخاخ الموت المنصوبة عن جانبيه فى الطريق!!.. إن الشعار المسيحى الذي جاء بعد مئات السنين من أستير، يتركز فى عبارة واحدة خالدة: " لى الحياة هى المسيح والموت هو ربح "!!.. " فى 1: 21 " وكيفما كانت الحياة أو الموت فإن لغة المسئولية الدائمة: لأننا إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن!!.." رو 14: 8 " على أننا نلاحظ أنه إن أهملنا الفرصة - فى عرف مردخاى - فليس معنى ذلك أننا نهرب من الموت، بل لابد أن يلاحقنا الموت هناك.. فالهاربون من الفرصة مائتون بهذا المعنى أو ذاك: " وأما أنت وبيت أبيك فتبيدون ".. وهو موت الإبادة بالمعنى المادى أو الأدبى على حد سواء، و" من لم يمت بالسيف مات بغيره... تنوعت الأسباب والموت واحد "... فإذا نجا الإنسان من الموت المادى، فإنه قد يموت أضعافاً مضاعفة الموت الأدبى أو الروحى الذى يلحقه فى الدنيا وفى الآخرة معاً، ويل لمن يموت ويبيد أسمه أدبياً أو روحياً، حتى ولو رآه الناس إنساناً عظيماً جالساً على عرش فى الأرض!!... على أنه، بالإضافة إلى هذا كله، لا يجوز أن نمسك بالفرصة فى استقلال عن اللّه، أو بالإندفاع الطائش بأية صورة من الصور، لقد كانت أستير آية فى العظمة والحكمة، عندما استندت إلى اللّه فى فرصتها، إذ دعت أصدقاءها جميعاً للصوم والصلاة ثلاثة أيام ليلا ونهاراً، وذهبت إلى الملك، وبعد أن التقت بملك الملوك ورب الأرباب، وهذا واجبنا الدائم عندما نقف أمام أية مسئولية صغرت أو كبرت... وليكن اللّه القائد والصديق والسيد والمعين على تحمل المسئوليات، ومن المناسب أن نذكر أيضاً أنها استخدمت جمالها فى الخدمة المقدسة، ويحسن أن نشير إلى ما قاله أحد رجال اللّه بهذا الشأن يوم قال: " لقد بدأ هذا الجمال فى قمة بهائه، عندما توارى منه كل بحث عن الذات، واضحى نبيلا بنبل الغاية أو المقصد الذي اتجه إليه،... والجمال كوزنة أو هبة إلهية ينبغى أن يعطى ويقدم للخير، وسيبلغ الذروة، وهو يقدم على مذبح الخدمة والتكريس،... وهو هناك يصبح كوجه استفانوس عندما شخص إليه جميع الجالسين فى المجمع ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك!!... " أع 6: 15 " ترى هل يستطيع الجمال عند أبناء ووبنات اللّه أن يخدم السيد بهذا المعنى العظيم المرتفع الرائع؟!! أحشويرش ومردخاى: لم يكن مردخاى صاحب عمل عظيم، فى مطلع الأمر، وهو لم يكن يدرى وهو أسير منفى، أن اللّه سيستخدمه على النحو التاريخى العظيم الذى قام به، لقد بدت رسالته الأولى بسيطة غاية فى البساطة، لقد عهد إليه بابنة عمه أستير، وقد مات أبواها ليكلفها ويربيها، وقد أحسن تربيتها وإعدادها للدور العظيم الذى لعبته فى إنقاذ شعب بأكمله، من هاوية دبرت له وهو لا يدرى. وقد استخدم مردخاى بعد ذلك فى القصر الملكى فى وظيفة يسيرة محدودة، من أصغر الوظائف، وقد شغلها بنبل ووداعة، وأنقذ الملك من مؤامرة دبرت له، وقد شاء اللّه أن يبقى فى الوظيفة وتؤجل مكافأته، حتى يأخذ مكان هامان ويصبح رئيسا للوزراء، تماماً كما أجلت مكافأة يوسف إذ نسيه رئيس السقاة، حتى يصبح ثانى رجل فى مصر بعد فرعون،.. وهكذا نرى خيوط الرواية كلها، تتحول من نوم يطير من عينى الملك، إلى وقائع مثيرة خالدة تأخذ بالألباب فى كل العصور والأجيال، وتؤكد أن عناية اللّه هى التى تشكل قصص الحياة بكامل وقائعها، على النحو الذى جعل " يوناثان برا يرلى " يقول: " نحن فى عالم رتب لنا، ولم يرتب بنا، وقد أعد اللّه أعمالنا فيه قبل أن نصل إليه "..، قال " نورمان كاكليود "، وهو فتى صغير تضغط عليه أحداث الحياة: ليتنى لم أولد "... وإذ سمعته أمه قالت له: " يانورمان... ها أنت قد ولدت... ولو أنك كنت ولداً طيباً لسألت اللّه أن يشرح لك لماذا أنت هنا، ولسألته أن يساعدك لإتمام أغراضه ".. وقد كان هذا كافياً للفتى الذى وعلى كلمات أمه، وأصبح واحداً من أعظم الأبطال والرجال!!... عندما كان هنرى دراموند " يعظ فى إنجلترا فى نهضة من النهضات، قال أحد الطلاب الجامعيين لزميل له فى الجامعة: هل ستحضر هذا المساء اجتماعات دراموند؟.. وفى تلك الليلة وجد الشاب يسوع المسيح.. ليقول فيما بعد: إنه ليس سؤال صديقى هو الذى دعانى للذهاب، بل صوت اللّه،.. وهكذا تغير تاريخه بأكمله!!أليس من المثير والعجيب أن سفر أستير هو السفر الوحيد فى الكتاب المقدس الذى لم يذكر فيه لفظ " اللّه "، ولا نقرأ فيه عن معجزة واحدة خارقة للعادة!! ولكن كل سطر فيه خطته العناية الإلهية الخفية التى تسير أحداث الحياة، ولفظ " اللّه " مستتر وراء كل كلمة فيه، والمعجزة العظيمة، هى أن اللّه، الذى يزحزح الأرض وهى لا تدرى، زحزح كارثة عن شعب، كان لا يمكن أن يتبعثر فى الأرض أو يضيع قبل أن يأتى شيلون الذي هو المسيح مخلص العالم، والذى جاء فى ملء الزمان، " مولوداً من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدى الذين تحت الناموس لننال التبنى "!!!... " غل 4: 4 ".
المزيد
10 أكتوبر 2020

المقالة الثانية عشرة في الابتهال والتخشع

أنت وحدك الإله الصالح المتحنن ؛ الآتي بكافة الخيرات وعين الأشفية وكنز الرأفات ؛ المعطي دائما الخيرات للذين يسألونك.فإذ كنت أنا نفسي قد نلت الخبرة بأشفية لا تحصى ومواهب جليلة خولتها لي يوماً فيوماً ؛ فمن أجل ذلك بلا خجل أتضرع إليك أيها المسيح الإله المحتمل البشر أن توافيني بنعمتك كالعادة ؛ لكي ما تجمع ذهني وتشفي جراحاتي المخفية.لأن الانغلاب والتنزه قد عملا فيَّ جراحات مكتومة، فأنت أيها الطويل الأناة ؛ المتمهل الشافي كل وقت بنعمتك ورأفاتك ؛ شفيت بما أنك متحنن أمراضي أنا الخاطئ. وما أمكنني بالجملة أن أعطي أجرة عوض الأشفية، لأن أشفيتك من أين لها قيمة، إن السماء والأرض لا تستطيع أن تقضي مكافأتك بواجب الاستحقاق عوض أشفيتك ؛ إذ أشفية خيراتك هي رأفاتك الجزيلة.ولا يمكن أن تباع أشفية سماوية وقدسية لأنه لا ثمن لها، إنما بالدموع تَهبها ؛ وبالبكاء المر تَهبها للكل، ترى من لا يعجب، ترى من لا ينذهل، ومن لا يبارك كثرة تحنن خيراتك يا مخلص نفوسنا.لأنك ارتضيت أن تأخذ الدموع أجرة عوض أشفيتك. فيا لقوتك أيتها الدموع.إلى أين تبلغين ؟ تدخلين إلى السماء نفسها بمجاهرة كبيرة بلا مانع،يا لقدراتك فإن مواكب الملائكة مع كافة القوات يستبشرون كل وقت بدالتك. أيتها العبرات كيف تستطعين إذا شئتِ أن تمثلي بفرح أمام عرش السيد الطاهر، العرش الأقدس الشاهق ؛ كيف تصعدين إلى السماء في لحظة عين طائرة وتأخذين طلباتك من الإله القدوس ؛ فيلتقيكِ بطلاقة حاملاً صفحاً.فأعطيني أيها السيد أنا الغير مستحق دموعاً كل وقت ؛ واستنارة وقوة لتنبع فيَّ كل حين عيناي دموعاً بحلاوة ؛ فيضئ قلبي بالصلاة النقية وتمحى الكآبة العظمة، وتنطفئ هناك النار المحرقة بدموع يسيرة.لأنني إن بكيت هنا سأنجى هناك من النار التي لا تطفأ، لأنني كل يوم أغيظ أيها السيد أناتك الطويلة ؛ ومرارتي وتحننك هما قبالة عيني، فلتغلب خيراتك وطول إمهالك مرارتي ؛ لأن الطيور بتحنن عظيم تغذي فراخها ؛ وإذا نكرتَها هذه فلا تتوانى ولا تغفل عنها لأن تحننها يغلب عليها.فإذا كانت الطيور لها تحنن هكذا ؛ فكم بالحري تغلب نعمة رأفاتك فترحم كل المشتاقين إليك.وكذلك الأم التي تُشتم من ولدها لا يحتمل قلبها أن يعرض عنه لأنَها تُغلب من تحننها، فإن كانت الأم تُغلب من تحننها ؛ فكم أولى بذلك نعمة تعطفك أيها السيد المحب للنفس أن تغلب كل وقت من قبل رأفاتِها فتخلص وترحم النائحين دائماً.فإذ حدق بي العدو النجس الذي يحزنني دائماً ؛ فأغثني بالدموع في الليل والنهار لتنقذنى من قتالاته ؛ لأنني لا أستطيع أن أحتمل حيل الخبيث وصنائعه إن ابتعدت عني نعمتك لحظة.لأنه ساعة بعد ساعة يضغط نفسي بالأقوال والأفعال ؛ فلتزجره قوتك التي انتهرت الأمواج البحرية لكي يبطل عن عبدك ؛ لأنه كل وقت يجدد عليَّ حيله، ويحرص أن يتملك على ذهني فيبعده عن حلاوة تلاوة وصاياك الإلهية. أيها السيد أرسل بسرعة نعمتك لتطرد عن عبدك الثعبان العظيم مع كافة الأفكار القبيحة والخبيثة.فليقنعك مثلك يا سيدي لأنك قلت: انه كان في مدينة ما قاضي غير خائف من اللـه، ولا يستحي من إنسان ؛ وكانت في تلك المدينة أرملة فقيرة ؛ وكانت تجيئه كل وقت قائلة أنصفني من خصمي ؛ فلبث معرضاً عنها مدة طويلة بعدم تحنن متهاوناً بِها، لكن صبر الأرملة استطاع أن يقوم ذاك الفاقد التحنن والرحمة ؛ ويستميله إلى الانتصار.فالأرملة المظلومة تقدمت إلى قاضي لا تحنن له ولا شريعة لينتصر لها من خصمها، أما أنا أتقدم إلى سيدي المتحنن المتمهل الصالح ؛ المالك السلطان على الأرض وفي السماء أن يسمع مني. أيها الإله المبارك الحاوي الفم الإلهي القدوس الذي لا يكذب ؛ لقد قلت أيها المخلص إنك تصنع الانتقام لكافة المتوكلين عليك في الليل والنهار، يا سيدي لا تتباطأ عن الانتصار لي، أنقذني من العدو ؛ وسهل مسيري إليك لأغلب العدو بنعمتك.لك وحدك أبارك، لك وحدك أمجد ؛ أيها المتحنن الطويل الإمهال المريد أن كافة الناس يخلصون، فإذ قد نفذ زمان حياتي في الباطل ؛ وفي الأفكار القبيحة ؛ أعطيني دواءً لأبرأ بالكمال من جراحاتي المكتومة ؛ وأيدني لأعمل في كرمك بنشاط ولو ساعة واحدة.فقد بقى لي من زمان حياتي الساعة الحادية عشر، دبر مركب تجارتي بوصاياك ؛ وأعطي التاجر الحقير فهماً ؛ لكي ما أتجر بتجارتي ما دام لي وقت ؛ فإن سير المركب قد وصل إلى نَهايته ؛ والوقت يدعوني أنا المتنزه والمتعظم قائلاً: أيها الكسلان هلم ؛ فأين تجارة زمان حياتك ؟إن ساعة الموت تخيفني لأنني أبصر أعمالي فترتعد نفسي، وأنظر إلى ونية عجزي فتفرق عظامي، لأن ساعة الفراق قد تقدمت أمام عيني ؛ فإذا تأملتها خفت جداً، وعوض ما أفرح أغتم كثيراً لأن أعمالي غير مستحقة الفرح.لأن خوفاً عظيماً في أوان الموت لكافة الخطاة الذين يماثلوني ؛ وفرحاً جزيلاً في أوان الفراق لكافة القديسين والصديقين ولسائر الناسكين. وساعة الفراق حزن لكافة الذين ليسوا قديسين ولا نشطين ؛ وللمسترخين إذا ذكروا ونيهم وونية زمان حياتِهم الماضي. الندامة تعذب حينئذ قلب الإنسان تعذيباً كثيراً ؛ إذ توانى هنا عن خلاصه، والقديسون والصديقون والنساك يبتهجون في ساعة الموت والفراق ؛ إذ يشاهدون أمام أعينهم جسامة عمل نسكهم، عمل الأسهار والصلوات ؛ والأصوام والدموع ؛ وأضطجاعاتِهم على الأرض ؛ ولبسهم المسوح ؛ فتطفر نفوسهم فرحاً لأنَهم قد أُمروا أن يخرجوا من جسدهم إلى النياح. مرهوب ورود الموت على الخطاة المسترخين ؛ والذين لم يحرصوا أن يسيروا بطهارة في هذا العالم الباطل، وغم مؤلم جداً يشمل ساعة الفراق الإنسان الخاطئ ؛ لأنه لا يسمح له أن ينطق بشىء البتة. ويلكِ يا نفسِ ويلكِ من أجل ماذا تتوانين في خلاصك ؟لِمَ تصرفين في التنزه أيام حياتك كلها ؟ ألا تعلمين أن دعوتك ستصير بغتة ؛ فماذا تصنعين هناك قدام مجلس القاضي المرهوب ؟ إذا توانيتي هنا أي اعتذار لك تجاوبين به، كيف يسترقك العدو يا شقية ولا تفهمين.وكيف تُضيعين الغنى السمائي يوماً فيوماً متفرجة ولا تعلمين ؟ فوقي يا نفسِ فوقي في ساعة الحرب، اطلبى إلى اللـه بدموع، اصرخى إلى اللـه بتوجع قلب ؛ وفي الحين يرسل لمعونتك ملاكاً رؤوفاً ؛ ويعتقك من محاربة العدو ورجته.احرصى ألا تسقطي في ساعة الفراق في حزن وزفرات فتبكين بكاءً لا ينفع إلى أبد الدهر، وتتقاطر خواطر الأفعال كلها في تلك الساعة إلى ذهنك فتقولين حينئذ منتحبةً شديداً:أنا قد كنت أتذكر في كل ساعة هذه كلها ؛ وأناشد ذاتي وأقول: أعبر الأيام التي أنا فيها على الأرض متحرزة ألا أخطئ ؛ ولا أسقط من وصايا اللـه ؛ بل أعمل كل حين الأعمال التي ترضية بنشاط كثير، فقد وجدت الآن مصفرة ليس لي بالجملة تقويمة واحدة جيدة.أيتها النفس الشقية أصغي إلى ذاتك ؛ جاهدى بمداومة ؛ وأتقي اللـه كل وقت، أتقي اللـه إلهك وأرضيه بأعمال صالحة حتى إذا حان وقت الفراق وساعة الموت يصادفك حسنة النشاط تنتظرينه بفرح عظيم.أيتها النفس تفرسي في سيرتك وفي دعوة اللـه ؛ لأن ساعة الفراق لا تحزن حراً معتوقاً من كافة الأشياء الأرضية، لكن الموت يحزن الرجل المتنزه والخاطئ.المهمل يحزن بسيرته، والعاجز الذي عجز عن عمل الأفعال المرضية للـه يحزن.والكثير القنية والموسر الذي كثف نفسه بالأمور العالمية يحزن لأنَها تفصله من العالم بلا اختياره، يحزن الآباء لأنه يفرقهم من أبنائهم المحبوبين ومن غناهم والإخوة لأنه يميز بعضهم من بعض ببكاء. هؤلاء كلهم يحزنون في ساعة الموت لأنَهم قد تقيدوا بالأمور العالمية.فأنتِ أيتها النفس الحرة من أجل ما تنفسين وتتنهدين إذ تستريحين من العالم وجراحاته ؛ أثبتي كل وقت مدعوة حرة ؛ واسلكي في طريق اللـه بثناء جميل بنشاط الأفعال المرضية له.إن أحببتِ اللـه من كل نفسكِ فلا ترهبي قط ساعة الموت، لكن الموت وفراق الجسد يصيران لكِ بالحري فرحاً.سلمني أيها الطويل الأناة؛ وخلصني أيها المسيح ابن اللـه الفاقد الخطأ، أعطيني أيها المخلص دراسة الحياة حتى لا أملك في قلبي ؛ ولا أقتني سوى هذه الدراسة لأكمل كل حين مشيئتك، وبمؤازرة نعمتك إياى أنا الخاطئ أكون حسن النشاط سالكاً في أوامرك بصحة ؛ كي ما أتجر حسناً بالفضة التي أعطيتها لي.وإذا أتجرت التجارة الحسنة في حقلك ؛ أنال منك المديح وأقول بدالة واستبشار قلب: إذا أقبلت يارب لقد حصلت مغبوطاً لأنك جئت وألبستني لباساً لائقاً بعرس الختن الباقي.وأوقد المصباح الذي وهبته لي بنعمتك وإطالة أناتك ؛ وأخرج بفرح إلى استقبالك ممجداً ومبارك الختن الذي لا يموت، وأؤهل أن أصير مشاركاً للصديقين والقديسين الذين أرضوك إلى الأبد.آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
03 أكتوبر 2020

المقالة الحادية عشرة في التوبة والدينونة

الذي أنحضر من حضن الآب ؛ وصار لنا طريقاً للخلاص يعلمنا التوبة بصوته الإلهي قائلاً:” ما جئت لأدعو صديقين ؛ لكن خطاة إلى التوبة “.وأيضاً: ” الأصحاء لا يحتاجون طبيباً لكن المرضى “.فإن كنت أنا أقول هذه الأقوال ؛ فلا تسمعني أصلاً ؛ وإن كان الرب نفسه يقولها ؛ فلِمَ تتهاون بحياتك متوانياً عنها.إن عرفت أن لذاتك جراحات من الأفكار والأفعال غير مشفية ؛ فلماذا تتوانى في جراحاتك المكتومة ؟ ماذا تخاف ؟ أَمن الطبيب، ليس قاسياً ؛ ولا عادم التحنن ؛ ولا فاقد الرحمة. لا يستعمل بطراً ؛ ولا دواء مراً وكاوياً ؛ لأنه يداوي بالكلام فقط.إن شئت أن تتقدم إليه هو مملوء خيرية وموعوب تحنناً ؛ جاء من أجلك من حضن الآب، ومن أجلك تجسد لتتقدم إليه بلا خوف، من أجلك تأنس ليشفي جراحاتك الخفية. وبمحبة جزيلة وخيرية غزيرة يدعوك قائلاً: أيها الخاطئ تقدم وأبرأ بسهولة ؛ أطرح عنك ثقل الخطايا ؛ قدم تضرعاً ؛ ضع على قيح جراحاتك دموعاً، لأن هذا الطبيب السماوي الصالح يشفي الجراحات بالدموع والتنهد.تقدم أيها الخاطئ إلى الطبيب الصالح ؛ وقدم العبرات وهو الدواء البليغ الجودة، فإن الطبيب السماوي يشاء أن يبرأ كل أحد بعبراته ؛ فليس مستصعباً أن تشفي جراحاتك بالدموع، لأن هذا الدواء لا يبطئ بالشفاء ولا يضمد به مكرراً ولا يشنج الجرح بل في الحال يبرأ بلا وجع.فالطبيب متوقع أن يبصر دموعك. تقدم ولا تجزع، أره الجرح وائتى بالدواء ؛ ائتى بالدموع والتنهد فإنه بِها فتح باب التوبة، تبادر أيها الخاطئ قبل أن يغلق الباب ؛ ولا تنتظر وقتاً يوافق ونيتك ؛ لئلا يبصرك البواب مضجعاً ؛ أتروم أن تدوم في تَهاونك.يا شقي لِمَ تبغض حياتك، أيها الإنسان ماذا يكون أسمى علواً من نفسك، وأنت أيها الخاطئ قد تَهاونت بِها، هل تعلم أيها الحبيب في أي ساعة يأمر الطبيب السماوي فيغلق باب مداواته، أطلب إليك أن تتقدم وتحرص أن تبرأ ؛ فإنه يشاء أن يفرح بتوبتك الموكب السماوي.الشمس قد بلغت إلى الساعة المسائية ؛ ووقفت من أجلك إلى أن تبلغ إلى المنزل، فإلى متى تحتمل العدو النجس مكملاً بلا خجل مشيئته ؛ لأنه يتمنى أن يزجك في النار، هذا هو حرصه ؛ وهذه هي موهبته التي يمنحها للذين يحبونه. فهو يحارب دائماً بالشهوات الرديئة والنجسة الناس أجمعين، ويفضي بالذين يذعنون له إلى اليأس، يقسي القلب وينشف الدموع لئلا يتخشع الخاطئ.فأهرب منه أيها الإنسان ؛ أمقت وأرفض مأثوراته، أبغض الخبيث وفر من الغاش ؛ فإنه قتال للناس منذ الابتداء وإلى الانتهاء، أهرب منه أيها الإنسان لئلا يقتلك.أسمع أيها الحبيب الصوت القائل كل وقت: ” هلموا إليَّ يا جماعة المتعوبين والموقرين وأنا أريحكم، احملوا نيري وتعلموا مني فإنني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لأنفسكم “.يقول أنه يعطيك راحة وحياة فلِمَ تتوانى، ولِمَ تجوز يوماً فيوماً، تقدم ولا تجزع فإن السيد صالح ومتحنن غير محتاج وغني لا يطلب إحصاء كافة خطاياك، هو الملجأ الذي يلتجئ إليه سائر من به الآلام.يشفي الجراحات ويهب الحياة بلا حسد، لأنه صالح يقبل بسهولة كافة الذين يخرون ساجدين لأنه هو الإله الأعظم وسابق علمه، يعرف سائر رؤيتنا وأفكارنا ؛ يبرئ الإنسان إذا تقدم إليه، لأنه يعاين قلبه وكافة نشاطه إذا دنا إليه مؤمناً بفكر غير منتقل.فالإله الصالح بخيريته موجود للذين يبتغونه ؛ ومن قبل أن يرفع الإنسان نظره إليه يقول له: قد حضرت. وقبل أن يدنو منه يفتح له كنزه، وقبل أن يهمل دموعه يسكب كنوزه، وقبل أن يتضرع إليه يصالحه، وقبل أن يبتهل إليه ينال الرحمة لأن محبة اللـه بخلوص تشتاق هكذا.والذين يقبلون إليه لا يبطئ عن الاستماع لهم، لا يشكو من يقبل إليه قائلاً: لِمَ خدمت العدو مثل هذا الزمان وتَهاونت بي عمداً. لا يطلب كمية الزمان السالف، إنما يطلب السيد ممن يسكب أمامه تواضعاً ودموعاً وتنهداً.لأن إلهنا وجابلنا هو سابق العلم ؛ فيغفر في الحين كافة مآثمه ؛ وكل هفوات أفكاره وأفعاله ويأمر بإحضار الحلة الأولى، ويجعل خاتماً في يده اليمنى، ويأمر جماعة الملائكة أن يسروا معاً بوجود نفس الخاطئ فمغبوطون نحن الناس أجمع ؛ فإن لنا سيداً حلواً غير حقود صالحاً.رؤوفاً متحنناً طويل المهل، غافر كل حين نفاقنا عندما نشاء، فها هو يعزي ويتمهل، هوذا يمنحنا كل خيراته في هذا الدهر وهناك إن شئنا.هلموا فلنتضرع إليه ما دام لنا زمان ؛ فإننا ما دمنا في هذا العالم نستطيع كل وقت أن نستعطف السيد، ويسهل علينا أن نطلب غفراناً، ويتيسر لنا أن نقرع باب تحننه.فلنسكب العبرات مادام يوجد وقت تقبل فيه الدموع لئلا ننصرف إلى ذلك الدهر فنبكي بكاءً غير نافع ؛ لأنه هناك تحسب الدموع لا شئ، فبمقدار ما نشاء ؛ بقدر ذلك يغفر لنا الإله الصالح ؛ لأنه يستجيب لنا إذا استغثنا به ؛ ويغفر إذا تضرعنا إليه، يمحو آثامنا إذا أحسنا عزمنا لقريبنا.هنا التعزية وهناك المطالبة، هنا طول التمهل وهناك الصرامة، هنا الراحة وهناك الضيقة، هنا امتلاك السلطة على الذات وهناك مجلس القضاء، هنا التمتع وهناك العذاب، هنا التغطرس وهناك العقاب، هنا الضحك وهناك البكاء، هنا إهمال السيرة وهناك التعذيب.هنا التهاون وهناك النار الأبدية، هنا التزين وهناك الولولة، هنا التصلف وهناك التذلل، هنا الاختطاف وهناك قعقعة الأسنان، هنا الخدور المذهبة وهناك الظلمة المدلهمة، هنا التواني وهناك تبقى خطايا الكل غير مغفورة.فإذ قد عرفنا هذه يا إخوتي الأحباء فلِمَ نضجع في خلاصنا، لا يتسمر يا إخوتي عقلنا هنا، لا يحل لنا محبة الأشياء الأرضية لئلا يصير بكاؤنا هناك مراً.ولِمَ نتهاون غير مريدين أن نخلص ما دام الوقت موجوداً ؛ يغفر اللـه بالدموع وبالتوبة في هذا الوقت اليسير سائر الهفوات. أبكِ هنا قليلاً لئلا تبكِ هناك الدهر في الظلمة البرانية، أحذر جيداً هنا لئلا تلقى هناك في النار التي لا تخمد، من لا ينوح علينا ومن لا يبكي، قد أبغضنا الحياة وأحببنا الموت، تأمل يا أخي الشقيق ؛ وأختر الأفضل والموافق لنفسك ؛ وأنظر أية صعوبة تلحقك دائماً.أتبكي هنا على خطاياك وتتضرع لتصير بالتوبة خالص الود ؛ أو تبكي هناك في النار ولا ينفعك شيء، لأنك إذا بكيت هنا تنال راحة مع كل تعزية، وهناك إذا بكيت تذهب إلى العذاب.أعطِ قليلاً لكي ما يسمح لك بديون نفسك، فإن لم تريد أن تقضى هنا من الكثير قليلاً فهناك ستجازي عما عليك من الديون بعذاب كثير.فهذه الأقوال يا إخوتي المحبين للـه خاطبت بِها مودتكم المأثورة ليس لكوني مستحقاً وطاهراً في سيرتي ؛ وعائشاً بالطهارة ؛ بل لوجع وحزن وضغطة قلب مخطراً بذهني ما هو معد لنا ونحن متوانون مضجعون.أنا يا إخوتي نجس أنا منافق في سيري بأفكاري وأفعالي غير عارف من ذاتي بالكلية شيئاً صالحاً، أنا متراخي وخاطئ في نيتي وعزمي ؛ وهذه الأقوال إنما أقولها لألفتكم لأن الحزن مطيف بقلبي من أجل دينونة اللـه العتيدة الرهيبة ؛ لأننا كلنا متهاونون ونظن أننا نعيش في هذا العالم الباطل إلى أبد الدهر، والدهر يعبر والأشياء التي فيه كلها.ونحن يا أحبائي سنطالب بجواب عن هذه الأمور كلها ؛ لأننا عارفون المناقب النفيسة ؛ وعاملون الأفعال الرديئة ؛ ونتهاون بمحبة المسيح الإله وملكه ؛ ونكرم الأرض وجميع الأشياء التي فيها.إن الفضة والذهب لا تنقذنا من النار الرهيبة ؛ والثياب والتنعم يوجد هنا لدينونتنا.فالأخ لن يفتدي أخاه، والأب لا يفتدى ابنه، لكن كل واحد يقف في مقام رتبته في الحياة أو في النار.لقد تجرد القديسون والصديقون والأبرار من هذا العالم وأموره باختيارهم، وبرجاء وصايا اللـه الصالحة أيقنوا أنَهم يتمتعون بخيراته في فردوس النعيم.لأنـهم تاقوا إلى المسيح وأكرموه إكراماً كثيراً، وتعروا من الأشياء البالية ؛ فلذلك هم مبتهجون كل حين باللـه، ومستضيئون بالمسيح ؛ ومسرورون بالروح القدس دائماً، والثالوث الأقدس يبتهج بِهم، وتستبشر بـهم الملائكة ورؤساء الملائكة، ويتباهى بِهم فردوس النعيم.بالحقيقة هؤلاء هم الممدوحون المشرفون المغبوطون، كل وقت يطوبِهم الملائكة والناس لأنَهم أكرموا محبة اللـه إكراماً فوق العالم أجمع ؛ فوهب لهم الإله القدوس المحق ملكوته ؛ وأعطاهم مجداً أعظم أن يبصروه بسرور مع الملائكة القديسين كل حين. وكثيرون من الناس اشتاقوا إلى الأرض وإلى الأشياء البالية التي فيها، فتسمر عقلهم كل وقت فيها، وأغذوا أجسامهم بالأغذية كالبهائم كأن هذا العالم عندهم باقٍ لا يموت. ماذا تصنع أيها الإنسان إذ تسير كبهيمة لا نطق لها. قد خلقك اللـه فهيماً مميزاً فلا تماثل بعدم التمييز البهائم الفاقدة الفهم.فق أيها الإنسان قليلاً ؛ وعُد إلى ذاتك ؛ وأعرف بما أنك فهيم أنه من أجلك أقبل الإله الأعلى من السماء ليرفعك من الأرض إلى السماء وقد دعيت إلى عرس الختن السمائي فلِمَ تتهاون ؟ لِمَ تستصعب الأمر ؟ قل لي كيف يمكنك أن تذهب إلى العرس وليست لك حلة عرس فاخرة ؟وإن لم تمسك مصباحاً ؛ فكيف يمكنك الدخول ؟ وإن دخلت متهاوناً فتسمع في الحال صوت الختن: يا صاحب كيف دخلت متهاوناً إلى العرس وليس عليك لباس عرس ملكي.تَهاونت ودخلت لتصنع بعريتك استخفافاً بملكوتي ؛ ثم يقول الملك لغلمانه: شدوا يدي هذا الشقي ورجليه معاً ؛ وزجوه في أتون النار ليتعذب هناك إلى أبد الدهر. لأنني أنا منذ مدة كبيرة جئت ودعيت الكافة إلى العرس ؛ فهذا أستحقر دعوتي ولم يعد له لباس العرس ؛ فلهذا أمركم أن تعذبوا هذا الشقي لأنه تَهاون بمملكتي. أتراك أيها الإنسان لا ترهب هذه ؛ ولا ترتعد منها فزعاً ؛ من دنو إشراق الختن ؛ أما قد علمت أن كافة البرايا متوقعة للمثول أمامه ؛ والصور السماوي ينتظر صوته. فماذا تصنع هناك في تلك الساعة إن لم تكن مستعداً قبلها ؟ هيئ ذاتك لتلك الساعة للغبطة الإلهية؛لأنه يطوب اللـه المستحقين والصور السماوي يبوق من السماء ويقول: أيها المحبون للمسيح انْهضوا فها قد ورد الملك السماوي ليعطيكم نياحة وسروراً في الحياة الخالدة عوض تعب نسككم.انْهضوا وأبصروا المسيح الملك الختن الذي لا يموت الذي تقتم إليه، لأنكم حين تقتم إليه صرتم من أجله سكاناً على الأرض، أنْهضوا فعاينوا نضارة بَهائه، قوموا فشاهدوا مملكته التي أعدها لكم.أنْهضوا وانظروا إلى المسيح شوقكم، قوموا فأبصروا الرب الذي لا يشبع منه الذي أحببتموه وتألمتم من أجله.تعالوا فأبصروا الذي اشتهيتموه بدالة جزيلة ؛ وأفرحوا معه فرحاً لا ينعت ؛ ولن ينتزع أحد منكم فرحكم.هلموا فتمتعوا بالخيرات التي لم تبصرها عين ولم تسمعها أذن ولم تخطر على قلب الناس التي يهبها لنا هذا المحبوب. فيخطف القديسين في السحب لاستقباله ؛ ويطير الصديقون والمستحقون للـه في علو الهواء بمجد لا يقدر ليعاينوا الملك السمائي الباقي.فمن هو ترى المستحق أن يخطف في تلك الساعة إلى التقاء المسيح بفرح عظيم ؟ يخطف المستحقون كلهم بمجد ؛ والمنافقون يبقون أسفل بخزي عظيم.فالطوبى والسرور للحريصين هنا ؛ والعذاب والخزي لجماعة الخطاة، مغبوط ذلك الذي قد حرص هنا أن يوجد مستحقاً لتلك الساعة ؛ وشقي ذاك الذي جعل ذاته غير مستحق لتلك الساعة.فالسحب تخطف القديسين من الأرض إلى السماء ؛ والملائكة يخطفون أيضاً المنافقين ليلقوهم في أتون النار التي لا تطفأ.من يعطي لرأسي مياهاً لا تقدر، ولعيني عيناً نابعة دموعاً دائماً ما دام يوجد وقت تنفع فيه العبرات، فأبكي على نفسي النهار والليل متضرعاً إلى اللـه ألا أوجد في ساعة وروده غير مستحق ؛ ولا أسمع قضية السيد الرهيبة عني: ” أنصرف يا عامل الإثم لست أعرفك من أنت “. أيها الإله الأعلى الذي لا يموت وحده ؛ أعطيني أنا الخاطئ في تلك الساعة رأفاتك الجزيلة لكي لا يظهر نفاقي المكتوم أمام الناظرين الملائكة ورؤساء الملائكة، الأنبياء والرسل، الصديقون والقديسون. بل أحفظ المنافق بنعمتك ورأفاتك، وأدخله إلى فردوس النعيم مع الصديقين الكاملين، أقبل طلبة عبدك أيها السيد بشفاعة القديسين الذين أرضوك. والسبح لك يا ربنا يسوع المسيح. آمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
27 سبتمبر 2020

تذكار الإحتفال بالصليب المجيد بكنيسة القيامة سنة 43 ش في عهد الملك قسطنطين البار

نعيد في هذا اليوم بتذكار ظهور الصليب المجيد الذي لمخلصنا يسوع المسيح . هذا الذي أظهرته الملكة المحبة للمسيح القديسة هيلانة أم قسطنطين من تحت كوم الجلجثة الذي أمرت بإزالته ، أما سبب وجود هذا الكوم فهو أنه لما رأى رؤساء اليهود كثرة العجائب التي تظهر من قبر المخلص من إقامة الموتى وإبراء المقعدين ، غضبوا ونادوا في جميع اليهودية وأورشليم " كل من كنس داره أو كان عنده تراب ، فلا يلقيه إلا على مقبرة يسوع الناصري" ، واستمر الحال على ذلك أكثر من مائتي سنة حتى صار كوما عظيما . ولما حضرت القديسة هيلانة وسألت اليهود عن موضع الصليب لم يفيدوها . وأخيرا أرشدها بعضهم عن رجل يهودي مسن يسمى يهوذا يعرف مكانه ، فاستدعته فأنكر أولا ، ولما شددت عليه اعلمها مكان الكوم . فأزالته وأخرجت منه الصليب المقدس وبنت كنيسة وكرست عيد له في السابع عشر من شهر توت . وصارت الشعوب المسيحية تحج إليها مثل عيد القيامة . واتفق ان كان إنسان مسافرا هو وجماعته مع الشعب إلى أورشليم يدعى إسحق السامري ، هذا كان يبكت الناس على تكبدهم المتاعب في الذهاب إلى أورشليم .ليسجدوا لخشبه . وكان مع الشعب قسا يسمى أوخيدس ، وفيما هم سائرون في الطريق عطشوا ، ولم يجدوا ماء فأتوا إلى بئر فوجدوا ماءها نتنا مرا ، فضاق صدر الشعب جدا . وابتدأ إسحق السامري يهزأ بهم ويقول ان أنا شاهدت قوة باسم الصليب! آمنت بالمسيح . فغار القس أوخيدس غيرة إلهية وصلى على الماء النتن ورشمه بعلامة الصليب فصار حلوا . وشرب منه كل الشعب ودوابهم . أما إسحق فانه لما تناول وعاءه ليشرب وجده نتنا مدودا . فندم وبكى وأتى إلى القديس القس أوخيدس وخر عند قدميه أمن بالسيد المسيح . وشرب من الماء فوجده حلوا . وصار في ماء هذه البئر قوة ان يكون حلوا للمؤمنين ، ومرا لغيرهم . كما ظهر فيه صليب من نور . وبنوا هناك كنيسة . ولما وصل إسحق السامري إلى مدينة القدس ذهب إلى أسقفها واعتمد منه هو وأهل بيته . أما ظهور الصليب المجيد على يد الملكة هيلانة فكان في اليوم ا العاشر من برمهات . ولأنه دائمًا يكون في الصوم الكبير فقد استبدله الآباء بيوم 17 توت الذي هو تكريس كنيسته . والمجد والسجود لربنا يسوع المسيح إلى أبد الآبدين . آمين .
المزيد
26 سبتمبر 2020

المقالة العاشرة في تذكار الخطايا

أشاء أن أبث قدامك أيها المسيح المخلص ؛ وأصف بحضرة مجدك كافة المرارة التى تختص بي ؛ وبنيتي الخبيثة، وأذكر أيضاً كل الطرب والحلاوة التي صنعتها معي ؛ إذ منذ جوف أمي صرت مغيظاً جاحداً خيريتك ونعمتك، لا نشاط لي في الخير.فأنت أيها السيد أعرضت عن كافة شروري ؛ ومن أجل رأفاتك الجزيلة أرتفع بنعمتك يا ابن اللـه رأسي الذي كان ذليلاً كل حين من أجل خطاياي.تجذبني بنعمتك إلى الحياة ؛ وأنا أسعى بنشاط إلى الموت ؛ لأن عادة الآلام الرديئة المذمومة جذبتني حين أذعنت لها ؛ وقيدت الفكر بقيود لا تنفك ؛ والقيود مأثورة عندي دائماً. لأنني أشاء أن أتقيد.فالعادة تقيدني بإشراكها ؛ وأفرح إذا قيدت، تغيصني في العمق وأنا ألتذ بذلك، والعدو كل وقت يجدد قيودي لأنه قد رآني مسروراً برباطاتي الكثيرة ضفرها، وهو كثير الحيل في صناعته فلا يربطني بالرباطات التي لا أرغبها، لكنه يقدم لي دائماً الأغلال الفخاخ التي أقبلها بالتلذذ كثير.لأنه يعرف أن الهوى يقوى عليَّ فيحضر لي بطرفة عين القيد الذي أريده، يا له من بكاء ونوح من عار وخزي أنني أتقيد بمشيئتي فأنا لا أقدر أن أسحق القيود في لحظة واحدة وأصير حراً من كافة الفخاخ.لأنني بالاسترخاء والعادات متعبداً للهوى ؛ وأقتل بالآلام التي أستبشر أنا بِها. لو شئت لاستطعت أن أفك القيود وأسحقها، ولو أردت لقدرت أن أهرب من الفخاخ، فهل يكون أمر من هذا النوح والبكاء ؟ أم يكون خزي أصعب من هذا ؟ بلى لا يكون أشد مرارة من هذا الخزي، أن يعمل الإنسان مشيئات عدوه.فأنا أعرف قيودي ؛ وأخفيها في كل ساعة من كافة الذين يشاهدونني في زي الورع ؛ وضميري يوبخني إذا عملت هذا قائلاً لي كل وقت:” لِمَ لا تستفيق يا شقي، أو ما علمت أنه آتي وأقترب يوم الدينونة الرهيب الذي فيه تظهر الأشياء كلها، أنْهض ما دمت قادراً ومزق الرباطات التي لك، لأن فيك قوة العقد والحل “.هذا يقوله لي دائماً ضميري ويوبخني، وما أريد أن أستريح من القيود والإشراك، أنوح من أجلها كل يوم وأتنهد وأوجد مربوطاً بِهذه الآلام نفسها.أنا شقي ومتواني غير ناجح في صالح نفسي، كيف لا أخاف من فخاخ العدو، جسمي مشتمل بجمال زي التورع ونفسي مقيدة بأفكار غير لائقة، أتورع بحضرة الناظرين بحرص ؛ وأنا من داخل وحش لا يستأنس. أحلي كلامي للناس وأمنحهم إياه ؛ وأنا في نيتي مر وخبيث ؛ فماذا عسى أن أعمل في وقت الاختبار إذا أوضح اللـه كافة الأشياء في مقام الدينونة، أنا أعلم أنني سوف أعذب هناك إن لم أستعطف من هنا الديان بالدموع.فلذلك لا يسخط عليَّ بل ينتظر عودتي إذ لا يشاء أن يبصر أحداً متحرقاً بالنار بل يريد أن يدخل إلى الحياة كافة الناس.فإذ أنا واثق برأفاتك يا ابن اللـه ربي أخر لك طالباً أقبل بنظرك إليَّ، أخرج نفسي من سجن المآثم؛ وأشرق شعاع نورك في ذهني قبل أن أمضي إلى المدينة المرهبة التي تنتظرني حيث لا يمكنني أن أتوب عن المساوئ.وأنا مضبوط بفكرين يكتنفني كل واحد منها: هل أسافر من الجسد أولى من أن أخطئ ؛ لكن أخاف أنا الشقي أن أمضي وأنا غير مستعد مجرد من الفضائل، أو أبقى ؛ فالخوف العظيم يعذب قلبي من كوني لا أبقي في الجسد بل لا بد من أن أنتزع منه.ولست أعرف بأيهما أتعزى، لأنني أعاين ذاتي غير نشيط في الصلاح، وحياتي في الجسد ذات خوف وجزع، لأنني في كل وقت أتمشى بين الفخاخ وأماثل التاجر المتواني العاجز الذي يخسر في كل ساعة رأس المال مع الربح.هكذا أنا أخسر الخيرات السمائية بالأنغلاب الذي يجرني إلى المساوي وأحس بذاتي كيف أسرق في كل ساعة وأوجد بغير مشيئتي في الأمور التي أبغضها، أتحير في أمر البرية كيف هي بَهية دائماً، أنذهل في نيتي الرديئة متضايقاً مغموماً.من يخطئ دائماً أفضل ممن يتوب كل يوم لأن توبتي ما لها أساس، البناء وطيد إلا أنني كل حين أضع أساس بناء وأنقض العمل بيدي، وتوبتي الحسنة إلى الآن لم تبتدئ، وونيتي المذمومة لا انتهاء لها.تعبدت بالاسترخاء لمشيئة عدوي ؛ وأنا نشيط أن أكمل ذلك، فمن يعطي لرأسي ماءً لا يقدر ولعيني ينابيع دائمة لتنبع عبرات.فأبكي كل وقت لدى الإله الرؤوف ليرسل نعمته لينتشل خاطئاً من بحر هائج بأمواج الخطايا، فإن نفسي غرقت بتواتر الموج ؛ وجراحاتي لا تقبل البتة عصائب الشفاء.أنتظر التوبة ؛ وأنا مسروق بِهذا الوعد الباطل إلى أن يفنى ؛ أقول أنني أتوب ولا أتوب إلا بالكلمات ؛ وبالأفعال أنا مبتعد من التوبة، إن كنت في رفاهية وراحة أنسى طبيعتي، وإن حصلت أيضاً في غموم أوجد متذمراً. الآباء القديسون كانوا محبين للـه في الأحزان والمحن، كانوا مختبرين مهذبين ؛ وقبلوا بذاتِهم إكليلاً لا يضمحل من الإله السمائي بشرف ومدائح، اقتنوا من الحزن مديحاً وثناءً جميلاً ؛ وصاروا صورة حسنة للأجيال الواردة.ومع هؤلاء يوسف المهذب الجميل البهاء ؛ المتناهي في العفة ؛ المملوء جمالاً سمائياً مع محبة العلي، أقتنى بالتجارب صبراً نفيساً لأن حسد إخوته الردىء ما قدر أن يدر جمال نفسه، ولا استطاعة المراودة المخاتلة أن تذبل جمال الصبي الزاهر، كانت تنظر في كل ساعة إلى زهر العفيف لتسكب عليه سماً مراً، ولا الحبس والقيود ذبلت حسن بَهاء زهرة نفس الصبي المحب للـه.فإن كنت أنا الشقي أخطأت بغير محنة ما، وأخطئ وأغيظ وأمرمر سيدي، فقد اختبرت رأفاته الجزيلة.خلصني يارب وأعطي لعبدك كطلبته التي يبتغي من كنـز تحننك، أيها السيد لتنبع نعمتك في قلب وفم عبدك بمداومة مثل ينبوع ليكون قلبي وفمي هيكلاً طاهراً لامعاً بخيريتك ونعمتك ؛ قابلاً ملكاً سمائياً لا كعش للأفكار الخبيثة ومغارة لصوصي أردياء للروايات الشريرة.بل تحرك إصبع نعمتك لساني دائماً كأوتار المعزفة لتمجيدك أيها المتعطف على الناس، لكي ما أمجد بلا فتور وأبارك بشوق قلبي وفمي كل زمان حياتي.لأن من يعجز عن أن يسبحك ويمجدك هو غريب من الحياة العتيدة. أيها المسيح المخلص ؛ أعطيني سؤال قلبي ؛ ليصير مثل رباب النغمة لأستطيع أن أوفي ههنا ديوناً قليلة ؛ وأحظى هناك أيضاً بوفاء نعمتك حين تجزع كل نفس وترتعد من مجدك الرهيب.نعم يا سيدي يا ابن اللـه الوحيد ؛ أستجب لتضرع عبدك الخاطئ ؛ وأقبله مثل قربان ؛ فأخلص بنعمتك.والمجد يليق بمن يخلص الخاطئ برأفاته آمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
19 سبتمبر 2020

المقالة التاسعة في تقويم المستسيرين من العباد

بسيرة ذات ألم، ويبتغون الكرامات يا إخوتي أنا منذهل ومجروح بالحزن من أجل النبي القائل: ” انظروا أيها المتهاونون وأعجبوا “. فأولاً: أتحير من أجل ذاتي خاصة ؛ من قبل جهلي وعدم أدبي ؛ لأنني صرت طُرقاً لكل ألم ولكل خطيئة ؛ والعدو ربط فيَّ كل عضو، فينبغي لي أن أنتحب وأبكي على ذاتي من أجل الخزي الحاصل فيَّ. لأني أهتم بالأشياء التي للآخرين، وكان سبيلي أن أنتزع أولاً السارية التي في عيني ؛ ثم أعاين القذى الذي في عين أخي. إلا أن التهاون الصائر الآن في وقتنا يغيصني في الحزن جداً ؛ لأنني أبصر الونية المشتملة علينا الآن ؛ ولا يمكنني أن أحتمل بل أتوجع نظير القائل: ” رأيت الذين لا ذهن لهم فذبت “. لأن أية آلة لم ينصب لنا المعاند ؛ أو أية صناعة كثيرة أنواعها لم يمسكنا بِها، ويلي من لا يبكي على الأسواء المتشبثة بنا ؛ أصغوا إلى المقولات فإنني أتضرع إليكم أنتم الذين اخترتم هذه السيرة أن تصغوا وتفرقوا رعباً. لأننا قد لبسنا زي الملائكة ونحن نناجي المحال، إن الإسكيم ملائكي والسيرة عالمية، أَترى الملائكة في السماوات يسيرون بالمحك والغيرة كما نشاهد الآن فينا، لأنه قد تأصل فينا الحسد والغيرة والوقيعة. لأن المحال المكار قد نضح سمه بحال مختلفة في كل واحد منا ؛ وبصناعته يعرقلنا. فواحد قد قوم الصوم، وقد مُسِك بالغيرة والحسد، وآخر قد مسك ذاته من الشهوة الشنعاء ؛ وقُيد تقييداً بالسبح الباطل، آخر قد قوم السهر وقد أقتنص بالوقيعة. آخر قد أبعد الوقيعة ؛ وامتلأ من عدم الخضوع والمجاوبة، آخر قد مسك ذاته عن الأغذية ؛ وغرق بالصلف والتيه، آخر يواظب على الصلوات ؛ وينغلب من الغضب والغيظ. آخر قد قوم شيئاً يسيراً ؛ وهو مترفع على المتوانيين، وآخر قد قيدته الرذيلة ؛ وليس من يفهم. من أجل هذا يوجد في العبادة مماحكات وانشقاقات ؛ ويلي من لا يتنهد ؛ من لا ينوح على ضعف هذه السيرة الملائكية ؛ لأننا قد تركنا العالم ؛ ونحن نعقل معقولات العالم. طرحنا القنيان ؛ ولا نكف ولا نستقر من الخصومات. تركنا المنازل ؛ ونذوب بالاهتمام بِها كل يوم. ليس لنا غنى ؛ والكبرياء لا نتركها. أهملنا التزويج ؛ ولا ننتقل من الطغيان الباطل. من داخل نتواضع ؛ وبالنفس نلتمس الكرامات. عادمين القنية بالظن ؛ ومضبوطين باحتشاد المال. عادمين القنية بالكلام ؛ ومرتبطين بالذهن بمحبة الاقتناء. من لا ينوح على زهدنا وعلى ونيتنا، من يبصر ولا يعجب من صنائع العُباد ولا سيما المبتدئين والشباب، لأنَهم ما زهدوا بالقول ؛ ويتصلفون. وما خاطبوا أحداً بالإسكيم ؛ ويتعظمون. ما سمعوا التعليم ؛ ويعظون. لم يبصروا الدهاليز ؛ ويتصورون الأشياء التي داخل. لم يرتقوا الدرج ؛ ويطيرون نظير السحب. بالسواء لم يذوقوا النسك؛ ويتدرعون بالسبح الباطل. لم يسمعوا صوت الآذان ؛ ويربون. لم يجتمعوا بالرفقة الأخوية، ويتسيدون متمولين. لم يدخلوا أبواب الدير ؛ وقد صاروا يظنون ويذمون ويقطبون. فلا أفني الوقت لأن صنائعهم كثيرة ؛ وليس من يفهم ؛ ولا من يزهد من أجل اللـه ليبذل ذاته بالطاعة عبداً لأخوته ؛ لكن إن أنتهر ؛ يجاوب بمعاني من الخطابة. وإذا أطاع ؛ يشكك ذاته ولا يغاير العزم الصالح. ويرتب ذاته في الأشياء التى لا تنفع. ليس له ثلاثة أيام منذ زهده في العالم ؛ ويخاصم من شاخ في الإسكيم، إذ لا يريدون أن يطيعوا ؛ يخترعون لذاتَهم صنائع. إذ لا يحتملون حرارة الجسد ؛ ويتهم ويعادي بعضهم بعضاً، ما دخلوا تحت النير ؛ وينتهرون ويأمرون ويسخطون. أعمل هذا أيها الأخ ؛ فيقول: لا أعمله إن لم يجئ فلان. فلان متشاغل بدراسة الكتب ؛ فسبيلي أنا أن أثابر عليها. ولعله قبل زهده كان يعيش عيشة الفعلة، ولم يعرف في قديم أمره ما هي يمناه ويسراه، وفي حال مجيئه إلى الدير قد ظهر محباً للعلم ومترجماً. فلان الأخ مرتاح ؛ فينبغي لي أنا مثله أن أرتاح. يتفرج ؛ فسبيلي أنا أن أتنزه. يلبس حلة ؛ فيجب لي أن ألبس مثله. أخذ كرامة ؛ فينبغي لي أن أُكرم، قد مضى يحدث الآباء ؛ فسبيلي أن أفاوضهم. فوض إليه السلطان على الأمر الفلاني، أتراني لا أستحق أن أؤتمن أنا عليه. هذه الأمور التي يرضاها الشباب. هذا تواضع المبتدئين. هذه أتعاب وأثمار الزيتون الحديث نصبه. أبِهذا الجهاد يحرصون أن يرثوا الملكوت. من أجل هذا صاروا أعداء للـه. بِهذه الأشياء يظهر أننا لم نزهد بشىء يسير من سيرة العالم لأننا بالوهم زهدنا ؛ وبالحقيقة نعقل معقول العالم. وبالحقيقة ليس لنا اعتذار لأننا بالإسكيم عباد ؛ وبالخلق جفاه وعادمو الإنسانية. بالإسكيم متورعون ؛ وبالخلق قتّال. بالإسكيم والزي متواضعون ؛ وبالخلق مفسدون. بالإسكيم والزي محبون ؛ وبالسخاوة ماقتون. بالإسكيم صادقون ؛ وبالسمية معادون. بالشكل صائمون ؛ وبالقلب مجربون. بالإسكيم نساك ؛ وبالقلب متكبرون مجاهدون. بالزي أعفاء ؛ وبالقلب زناة. بالزي صامتون ؛ وبالقلب طامحون. بالزي ودعاء ؛ وبالخلق متعظمون. بالزي معزون ؛ وبالسجية شامتون. بالزي مشيرون ؛ وبالحال مراءون، بالزي هادئون ؛ وبالخلق ماكرون. بالزي غير حاسدين ؛ وبالخلق حسودين. بالزي ناصرون ؛ وبالشيمة دافعون. أترى من أين تعرض لنا مثل هذه الأمور ؟ سوى من كون ليس لنا محبة كاملة بعضنا لبعض، وليست لنا ألفة نقية ؛ وليس لنا تواضع حقيقي ؛ وليس لنا خوف اللـه أمام أعيننا. أننا نتهاون ونتغافل ونظن أن الوصية الخلاصية خرافة وهذيان، بكلمة اللـه تتشدد السماوات ؛ ونحن لا نقبله بصفة أخ. ذلك الفم المرهوب والغير مدرك والمرعب قال: ” من يشاء أن يكون فيكم عظيماً فليصر لكم خادماً “. ونحن قبل أن نعاين درجة الإسكيم نتكبر ويستعظم الواحد منا على الآخر ؛ ويطفر بعضنا على بعض، وكلنا عقلاء عند ذاتنا، كلنا مدبرون. كلنا متسلطون ؛ مرتبون ؛ منتهرون ؛ مفترضو الشريعة ؛ محبو الأمر والنهي ؛ مترجمون ؛ معلمون ؛ كلنا نأمر ؛ كلنا مهتمون ؛ قهارمة ؛ أولون. أترى لا يقنعكم قول الرسول بولس إذ يقول: ” إن كان الجسد كله سمعاً، فأين المشم ؟ “. إن كان الكل أولو الجماعة ؛ مدبرو ؛ الكافة مرتبون، فأين تفاضل ترتيب اللـه ؟ ومع هذا ألا يقنعكم أن تذعنوا للقائل: ” ليس أحد يأخذ الكرامة من ذاته إلا المدعو من اللـه “. أم كيف يقول أيضاً: ” أترى كلهم معلمون “. من أجل هذا رتب اللـه رئاسات وسلطات ؛ لأنه إن كان في السماوات كل أرواح الخدمة الغير بالين ولا مائتين لم يرضي اللـه أن يكونوا في رتبة واحدة ؛ بل رتب رؤساء وسلاطين وعظماء ؛ وكل واحد منهم لا يتجاوز رتبته ؛ وكافة الأشياء قد صارت بترتيب وثبات. فلِمَ نخاصم بعضنا بعضاً خصومات جائرة ؛ والملائكة ورؤساء الملائكة لا يتجاوزون الحدود المرتبة لهم. ونحن ندفع بعضنا بعضاً ؛ ويريد الواحد أن يكردس الآخر ؛ ويسابق بعضنا بعضاً قفزاً، ونزدري ونستصغر كأننا نستطيع أن نقوِّم شيئاً أكثر منهم. ترحماً لعماية الذهن. ألا تذعنون لقول القائل: كل أحد فليثبت في الأمر الذي دعي إليه. كيف تتقون القائل: ” إن من يعطى كثيراً يطالب بكثير “. لكي تقتنوا بِهذا تواضعاً. يا إخوتي لا نستكمل عمرنا بِهذه المناقص المذمومة، كمن ليس أمام أعينهم القضية المرهوبة. لا نسير كمن لا يزعمون أن يعطوا جواباً عن كل أمر، لا تصيروا عثرة وشكاً للذين هم من خارج، لا نضيفن خطيئة على خطايانا، لا يُفترَ على الإسكيم الجليل من أجل عدمنا الفهم، بل الأليق أن يُمدح بنا. فإنه ستوافي وتجئ تلك الساعة المرهوبة ولا تبطئ ؛ وفيها نكون بلا اعتذار، لأنه ماذا نستطيع أن نقول للـه ؟ وماذا احتجنا أن يصنعه بنا ولم يفعله ؟ هل ما رأينا الإله نفسه متواضعاً بصورة عبد لنتواضع نحن ونصير متواضعين، أما رأينا وجهه الأقدس الذي لا يصفه عقل مبصوقاً عليه لكي إذا شُتمنا وانتهرنا لا نتوحش ونتنمر، بل أما شهدنا ظهره مبذولاً للسياط لكي نخضع لمدبرينا، أو ما عاينا وجهه وقد لطم لكي إذا رفضنا لا نتنمر. هل ما سمعنا عنه أنه لم يناصب ولم يجاوب ؛ لكي لا نكون مستبدين برأينا ولا نجاوب. وأما سمعناه يقول: أنا لا أعمل من ذاتي شيئاً. حتى لا نصير نحن متعظمين مالكين مشيئتنا بذاتنا وحاوين السلطان على ذاتنا. بل ترى أما سمعناه قائلاً: تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب. لنصير نحن ودعاء ومتضعين القلب. لكننا نحن نحسد بعضنا بعضاً ؛ وننهش ونأكل بعضنا بعضاً. أي جواب نعطيه. أطلب إليكم لا من أجل الآلام البشرية نخرج من السعادة التي لا تنتهي؛ ولا من أجل الكرامة الوقتية نضيع المجد المؤبد، ولا من أجل المحك والغيرة والحسد نشجب في نار جهنم. قد التمست أن تخلص فلِمَ تفحص أمر قريبك، قد دخلت تحت النير فلِمَ توعز وترتب ليشتهر ثمر طاعتك. ثق فإنه لا مرتبة ؛ ولا كرامة ؛ ولا عظم شأن ؛ ولا بأن يقال لأحد أولاً وثانياً، ولا بأن يسمى مدبراً، ولا بأن يدعى أيها الشريف، ولا بأن يفوض إليه كرامة، ولا بأن يؤتمن على مرتبة يدخل بِهذه إلى ملكوت السماوات، أو يعطى صفحاً عن خطاياه، أو ينجى من التعذيب. بل هذه تُشجب وتُهلك. لكن التواضع ؛ والطاعة ؛ والمحبة ؛ والصبر ؛ وطول الروح ؛ تمنح ملكوت السماوات وتوابعه. لأنه لا يستطيع أحد أن ينجح ويوقر ويخلص إلا بالتشبه بالرب في الكل. أما قد سمعتموه قائلاً: ” ما جئت لأُخدَم بل لأَخدُم “. وأيضاً: ” ما جئت لأصنع مشيئتي بل مشيئة من أرسلني “. وأيضاً: ” من يعلي ذاته يوضع “. أو ما سمعتم كيف يطوب قائلاً: ” الطوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات “. أما سمعت أنك كنت إذا جلست تغتاب أخاك وكيف يوعد أنه سيوبخك تجاه وجهك، أما قد سمعتم أن من يبغض أخاه هو في الظلمة وأن المحال من أجل الجسد سقط من السموات. أو ما قد وعيتم أنه من أجل الكبرياء والمجاوبة هبط من أي مجد وشرف، وأن مريم أخت موسى من أجل كلمة تعيير أصيبت بالبرص. فلماذا ولنا مثل هذه الأنموذجات نسد آذاننا كما لأفعى، لا أعني الآذان الجسدانية بل آذان القلب، لأن هذه تتذكر لكن تلك لا تتذكر. لم لا تصدق القائل: ” أن من يثبت في المحبة يثبت في اللـه “. أتضرع إليكم يا معشر الرعية المنتخبة أن نستفيق ما دام لنا وقت، ولنتعفف ما دمنا في الإمهال. لئلا تفاجئنا تلك الساعة المرهبة المؤلمة ؛ فننوح بمرارة نادمين تندماً لا ينفع، لئلا نخزى بذلك الخزي العظيم أمام اللـه والملائكة والناس. ولنكف عن الخصومات ؛ ولا سيما نحن الحاويين الحواس الشبابية، تواضعوا بكل ما لكم من قوة لتستطيعوا أن تدركوا الكمال. قد علمتم كم كان لآبائنا من راحة وتحرز، وكم تواضع وتحفظ، وشقاء وازدراء بذاتَهم، فالآن الحرب عظيمة فلا نتهاون، ولا تظنوا أنكم قد وصلتم إلى الكمال ؛ إن الحاجة ماسة إلى تعب كثير وجهاد جزيل لننال الخلاص. لا تظنوا أن التزين الكثير أو سدل الثياب هو التعبد ؛ أو أن تكون يدا الإنسان بَهيتين ذلك يخلصه، أو حسن المنطق، أو ترجمة الكتب هو الكمال، أو كشف الرؤوس ؛ أو تسريح الشعور وتنظيفها بغير الفضائل الموافقة الملائمة التي لا تنحصر في لبس الإسكيم. لكن الإسكيم الذي يتبعه الخلق الجميل والأعمال ؛ لأن الإسكيم خلواً من الأعمال ليس شيئاً ؛ فلا تُهملوا الاهتمام ؛ ولا تتراخوا لأن الحاجة إلى تعب كثير كي نلجم الحداثة. فإن كنتم تستثقلون المقولات ؛ لكن ذلك لا يغمني لأنني أشاء أن تقبلوا مكاوِ لتزيلوا القبح وتنزعوا التماسي، ولا تظنوا إن كتمتم آلامكم ينساها اللـه ؛ فإنني أقول لكم إن الأفعال الخفية فيكم أستقبح أن أكتبها لأنني إن عملت ذلك لا تثبتون بل تَهربون. فلهذا أطلب إليكم أن تواضعوا ذاتكم بالطاعة بالمحبة بالحقارة بالإهانة، وبِهذه أطيعوا بعضكم بعضاً، وأخضعوا بالصوم بالصلاة بالسهر بالترتيب الممدوح، لا تكونوا في الخصومة أقوياء وفي الترنيم ضعفاء. لا تكونوا منتبهين إلى مناجات الأفكار وناظرين مثل وحوش، وفي الصلاة متناعسين وتغمضون عيونكم، لا تكونوا في الحديث الباطل أقوياء كالثيران وفي هذيذ تمجيد اللـه ضعفاء كالثعالب، لا تكونوا في حجج الخصومة غير مغلوبين وفي الأقوال الروحانية تتثآبون. لا تكونوا في اللعب أصحاء وإذا وعظتم تقطبون، لا تكونوا في النهار معافين بنهم البطن وفي الصلاة الليلية متمارضين، لا تكونوا في المحادثات جبابرة وفي الأعمال منحلين، لا تكونوا في أن تأمروا مكرمين وفي أن تؤمروا متنافرين. لا تكونوا ملتذين بأن تطاعوا وفي أن تطيعوا مقطبين، لا تكونوا في أن تأمروا صارمين وإذا أُمرتم تتذمرون، لا تكن الأيدي إلى الأصابع واللسان إلى الصدر، لا تكونوا إلى المائدة متسارعين وفي الأعمال متوانين. لا تكونوا في استدعاء النواظر إليكم متيقظين وفي أن تميزوا شيئاً صالحاً مظلمين، لا تكونوا بحضرة الإناث متأدبين ومع إخوتكم متنمرين، لا تكونوا في كثرة الغتذاء أقوياء وفي الصيام ضعفاء، لا تكونوا في شرب الخمر مسرورين وفي شرب الماء مقطبين ومكتئبين. لكنني أتضرع إليكم يا أولاد اللـه ؛ أن تتخذوا الغيرة النفيسة ؛ ومهما كان ممدوحاً صالحاً يختص بالمنفعة، اقتنوا أول كل المناقب التواضع ؛ المحبة؛ الخيرية ؛ الوداعة والدعة سامعين بعضكم لبعض. ولا تتخاصموا في شىء لا ينفع، وكونوا غير عاجزين في الصوم والصلاة لتستطيعوا أن تغلبوا الآمر الجسد ؛ لكي لا من أجل الآلام المنكرة نعدم مثل جسامة هذه الخيرات، لا نبتغِ الوقتيات فنضيع المجد الذي لا يفنى. أسرعوا وبادروا وما دمنا في الجسد فلنعمل المناقب التي ترضي اللـه، ولنحرص فقد حصلنا في شىء عظيم، فلا نُهمل الاهتمام فليس صراعنا بإزاء أناس مبصرين لكي ما إذا رأيناهم نتحرز منهم بل الذين يحاربوننا لا يرون. فلأجل هذا إن العطب عظيم للمتوانين ؛ وإذا غلبوا فلهم ثواب جزيل، فلنغلبهم بالحيل ولنصاففهم، فإذا حرضنا العدو على شره البطن فلنحاربه بالصوم، إن هيجنا إلى اشتهاء امرأة فلنستعمل الصبر ؛ ونمسك الحس ونَهرب من المكان. إذا أنْهضنا إلى الغيظ فلنتضرع بالسلامة، إن جعلنا أن نغضب فلنتخذ الوداعة، إن أنْهضنا إلى المقت فلنلاصق المحبة، إذا حصلنا إلى ابتغاء الإكرام فلنوضح رغبة الاستحقار. إذا حضنا إلى رغبة الشرف فلنتخذ الخفضة والدناءَة، إن خيل لنا أمور الاستعلاء فلنصور في ذهننا تواضع الرب، أن حرضنا إلى مغايرة أخينا فلنخطر ببالنا سقطة قايين. إن استنهضنا إلى الحسد فلنذكر هلاك عيسو ؛ إن حركنا إلى الاغتياب فلنسيج علينا الصمت، إن قاومناه هكذا يهرب ولا يثبت، وتوافي وقتئذ النعمة وتكللنا كما يليق بالظافرين. صدقوني يا إخوتي أنني مشجوب من جميع الأشياء التي وعظتكم أن تحفظوها فقد صرتم أتقياء وأنا متوحل بحمأة الخطايا. لكن بادروا أن تبتعوني بتوبتكم الجليلة، صدقوني أنني ما حفظت شيئاً مما قلته، زينوا أقوالي بأعمالكم وأنا متيقن أنكم ستوجدون بلا عيب وأنا سأُدان عن الأقوال التي أقولها ولا أعملها.لا نتوانى عن خلاصنا ؛ ولا نحسب المقولات مثل أمثال ؛ فإننا ما أوردنا شيئاً خارج المكتوبات والمقولات ليست كاذبة.فلنقبل زرع هذا القول ؛ ونثمر كالأرض الصالحة بعض ثلاثين وبعض ستين وبعض مائة، لكي ما إذا حملنا الأثمار وتسربلنا ببهاء الفضائل نفرح بربنا يسوع المسيح، وهو ينجينا في ملكوته.فإن له يليق المجدإلى أبد الدهورآمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
12 سبتمبر 2020

المقالة الثامنة نصائح

يا حبيبى أحمل الضعيف فإن القوي لا يحتاج إليك فقد كتب: ” إن الأقوياء لا حاجة بِهم إلى طبيب بل المرضى “. فأنتم المقتدرين احملوا ضعف الذين لا قوة لهم. إذا رأيت إنساناً قد نال رتبة جسيمة على الأرض فلا تعجب من هذا بل أعجب من الذى يبغض الشرف الأرضي. إذا ظهرت في أعين إخوتك كالذهب النقي فأحتسب ذاتك مثل إناء لا يُحتاج إليه فتفلت من الكبرياء الممقوتة من اللـه ومن الناس. شاب يدور لا يتعلم أن يكون بطالاً فقط بل مهذاراً ومتفحصاً ويتكلم بما لا ينبغي. من يسكت بتواضع يُحب. لا تشرب خمراً على انفراد مع أخ قد شاع عنه خبر ردىء. ولا تلاعب من لا أدب له، ولا تعير أحداً، وأحفظ ذاتك طاهراً، وأهرب من مجالس الشرب لئلا تتوجع في أواخرك. إن كنت عليلاً بأخلاقك لا تقترن بالسقيم بفكره، فهذا قلته لا لترفض أحداً كأنه خاطئ لكن لكي لا تضره ويضرك. إن كنت مقتدراً أن تعزي بالرب فتقدم فتجد ثواباً. إن أبصرت إنساناً قد أخطأ وشاهدته في الغد فلا تعتقد به في ذاتك كخاطئ ؛ فإنك لا تعرف إن كان بعد غيابك قد عمل شيئاً صالحاً بعد السقطة ؛ وتضرع إلى الرب بزفرات وعبرات مرة وأستعطفه. فلهذا نحتاج أن نبتعد من أن ندين أحداً، ويحتاج كل واحد منا أن يواضع ذاته كما أمر القائل: ” إن آثامي قد علت فوق رأسي وعملي مثل وقر ثقيل “. كافة حطب الغابة لا تُشبع النار ؛ والجسد لا يَشبع من النياحة. تقوى الرب فردوس النعيم، وعديم التقوى ترثه الثعالب. إن قوتل أخوك فهرب من الدير ؛ وخرجت لتطلبه ؛ فإذا وجدته فجاوبه مجاوبة سلامية ؛ لئلا تضيف وجعاً على وجع نفسه ؛ مراقباً ذاتك حذراً ألا تُمتحن أنت. إن كنت ذا خبرة بالصناعة الطبية وشفيت ؛ فكن متيقظاً فائقاً لئلا بمداواتك آخرين تضع ذاتك متألماً، إذ الرسول يقول: ” لا يفترى على عملكم الصالح “. إذا وضعت مبادئ حسنة فأجتهد أن تتممها حسناً لتأخذ ثواباً كاملاً. يا سيد الكل لا تعطيني قلباً مبغضاً للطاعة وتأديب الأب، وأبعد عني أفكار الكبرياء، لأنك أنت يارب مقت المتكبرين، إذ قد كتب ” أجعل ذاتك جزيل المحبة للجميع وذلل رأسك للمتعظم ولا تخجل من أجل نفسك “. فرب خجلاً يجتلب خطيئة ؛ وحياء يجتلب شرفاً ونعمة. لا تغر أخاً على أخيه ثالباً، فإن ليست هذه محبة أن تستنهض قريبك إلى هلاك نفسه، صر مصلحاً لتؤهل أن تدعى ابناً للـه. أتشاء أن تحب بمحبة مخلصنا يسوع المسيح أمقت المحبة البشرية التي تشمل على هذه الأنواع *نَهم البطن. *السكر. *النهم في القبائح. *الحسد. *الشر. *الفجور. *الألم. *الإنسحاق. *الحزن الجسدي. ونظائر هذه التي نَهايتها الموت. فأما المحبة التي بالمسيح فتشمل على هذه المناقب: *خيريه. *أدب. *علم. ونَهاية هذه حياة أبديةً. لاصق إنساناً يتقي اللـه ليعلمك أن تخاف الرب، لا تحب أن تماشي المتهاونين. أيها الحبيب أتبع الرب ليعليك ؛ لأن شرف هذا العالم لا يبقي، فليكن الرب نصب عينيك كل حين ؛ فإنه ينجي المتوكلين عليه. الرجل المتدرع مرهوب في الحرب ؛ والقوى في الإيمان مرهوب عند الأعداء الذين لا يرون. الرجل المائق يقول: ماذا يجزعني، والمتواضع القلب يوجد عاقلاً. هيولي النار الحطب ؛ وهيولي الغضب استعلاء الرأي. أتشاء أن تلطف الغضب وتسكنه ؛ أتخذ التواضع ؛ وأسلك في طريق الودعاء والمتواضعين. إذا عرضت خصومة بين الإخوة ؛ فالمصلح مغبوط، وأما من يشعلها فلا يكون غير معذب. الحجر الرملي والنفس غير المؤمنة بعد هنيهة ينحلان. في نفس المؤمن الفكر الذي لا يتحرك، وفي الرجل الوديع والمتواضع تستريح روح الحكمة، الرب يحب الذين يسلكون بحكمة. أيها الحبيب أنظر ألا تشتهي كرامة ذائدة فتجذب لذاتك هواناً، كرامة الإنسان بالحقيقة أن يعمل كل شيء كما يشاء اللـه ؛ وإهانة عظيمة مخالفة الوصايا. الراعي المستيقظ لا يسلم الغنم المؤتمن عليها، والنوام يصير للوحوش صيداً لأن في يد السكير ينبت الشوك والنفس الماسكة تمجد اللـه دائماً. الذهب لا يمنح صبراً ؛ والأمانة تؤسس من يقتنيها. ضلالة الرجل ألا يعرف الكتب ؛ ويضل ضلالاً مضاعفاً من يعرفها ويتهاون بِها. أيها الحبيب عز ذاتك وأصبر على كل غمٍ لكي لا فيما تعزى من آخرين بمداومة تصير متشامخ الرأي، لأن الرسول يقول: عزوا ذاتكم في كل يوم ما دام يسمى اليوم لئلا يقسي أحدكم طغيان الخطيئة لأننا صرنا شركاء المسيح أن مسكنا الابتداء فبدء كل فضيلة الأمانة. إذا أقتنى العابد سيرة ذات فضيلة يسمع عطآت أبيه، ويعود عارياً إذا أقتنى عدم الخضوع. والطريقة العريضة فكر شيطان يخامر العابد إذا اشتهى درجة غريبة. المشتبك بأمور العالم ؛ يصير سريع السقوط. الوديع الصامت ؛ يرث حياة دائمة. الشمس والقمر وسائر النجوم تفرح بالذين يخدمون السيد المسيح خدمة مستوية. كل من يحب السكوت بمحبة ؛ يكنز لنفسه في السماء. المتقي الرب بالحقيقة ؛ يصير طبيباً للآلام. الوديع هو: جسوس على الآلام ومترصد لها. الشعوب يسبحون الرب لأجل من لا يتوانى في خلاصه بل يهتم بانصرافه ووقوفه أمام عرش المسيح المرهوب. كل من يحب خلاص نفسه ؛ يصير منزلاً للروح القدس. كل من يحب الطهارة والعفة ؛ يكون هيكلاً للـه. ذكر الموت والعقوبات ؛ سيف على شيطان الضجر. العاقل لا يدين قريبة الغير عامل، والضجور يخرب أماكن كثيرة. المحب للمسيح ؛ يؤتمن على كلمات الحياة الأبدية. الرجل المحب للغرباء ؛ حنطة نقية. لوم الإنسان لذاته كل حين ؛ يهدم الخطايا. المسك ؛ عصب يشد الصبر. من يحد عن وصايا المسيح ؛ يخنق نفسه، ومن يحفظها بحق يرث فرحاً لا ينعت. رتل أيها الحبيب بالروح ورتل بالعقل: ” كلامك في حلقي أحلي من العسل والشهد في فمي “. بدء المؤمنين ونَهايتهم ؛ الإيمان والرجاء والمحبة. الضجر هو أصعب من الأشياء المستصعبة ؛ لا سيما لو أتخذ عدم الإيمان معضداً له، فإن أثماره مملوءة سم الموت. تذكر يا حبيبي عرش الإله المرهوب كل حين ؛ فيكون لك ثباتاً، ويعاقب عوضك المغتالون على نفسك. العاقل إذا بُعث في خدمة يبذل نفسه من أجل السلامة، والجاهل الفاقد الأدب ينشئ خصومات. يارب يا سيد حياتي لا تُسلط عليَّ روح البطالة والإستفحاص وأثرة الرئاسة، بل هب لعبدك روح العفة والتواضع والصبر. وسخ الرجلين بقلب نقي من أجل الفضيلة ؛ أفضل من الاهتمام بتنظيفهما وغسلهما بألم. من يحفظ أعضاء المسيح حفظاً باراً يتبرر، ومن يفسد هيكل اللـه يفسده اللـه. كما تطرد الكلب، جاوب بانتهار شيطان الزنا ؛ ولا تشاء بالجملة أن تنقاد مع هذا الفكر، فإن من شراره يتكاثر الجمر ؛ ومن الفكر الردىء تتزايد الشهوات الرديئة، أبغض ذكرها أكثر من أن تكنس نتانة الحمأة. كما أن البخور يلذذ المنخرين ؛ هكذا يُسر بالطهارة الروح القدس ويسكن في الإنسان. كما يطرب الخنزير برمغة الحمأة ؛ هكذا تطرب الشياطين بالزنا والنجاسة. النور العظيم والفرح والسلامة والصبر يسكن في الأطهار، والحزن والضجر والنوم الذي لا يشبع منه والظلمة المدلهمة تسكن في الزنا. حب الطهارة بمحبة المسيح لأنَها توافق سيرتك وتلائمها ؛ كما يليق القدوم بالنجار. قوتل أخ ما بالزنا فأنتهر الشيطان وقال: أذهب يا شيطان إلى الظلمة أترى كما تعلم أنني وإن كنت غير مستحق فأنا حامل عضو المسيح. فللوقت سكنت الحرارة عنه كمن ينفخ سراجاً ويطفئه ؛ فعجب في ذاته من هذا الأمر ومجد الرب. كرامة عظيمة الطهارة بمحبة المسيح ؛ وإهانة عظيمة الزنا والحسد. أيها الأخ أهكذا بلا خشية تنظف ذاتك وتزينها ؛ أسمع الرسول يقول: ” أهرب من الشهوات الشبابية لأنك لا تعرف أي عدو تصارع “. ألا تعلم أنه صعب أن يكون أحد فخاً لنفس آخر، أتعرف أي نتانة مهلكة وتقيح يزمع أن يرثها الذين يعملون هذه القبائح، وأريد أعرفك هذا، أنه إن كان الإنسان البراني رائقاً وخزانة النفس موسخة فلا يبطئ حسنه أن يتشوه. فإن اقتنيت جمال النفس فإن النفس تعطي من نورها للإنسان البراني وهذا الحسن يبقي لك. من يزين ثيابه ويملأ بطنه يقاتل كثيراً، ومن هو متيقظ يكون مرهوباً عند المضادين. النفس الخبيثة إذا تلاطفت تتعظم ؛ وإذا شتمت تغتاظ، والصالحة إذا تلاطفت لا تفرح ؛ وإذا شتمت لا تسخط. الصمت للشاب، كاللجام للفرس ؛ ومن هو غير مُلجم، يسقط في الأسواء. لتكن خشية اللـه في قلبك أيها الحبيب مثل السلاح بيد الجندي. أعتنق بتواضع في ذاتك المحن المجلوبة عليك من المحال لتنسحق مثل دقيق التراب أعدائك من قدام وجهك، وثق أنك لا تنهزم وأنت متقلد مثل هذا السلاح. من لا يحب الرب يجرب أقنومه ؛ ويحزن مدبريه ؛ ومن يحب الرب يحفظ وصاياه. البواب الحكيم يعرف أن يجاوب المسكين بوداعة، والصغير النفس والغير حكيم هو متكبر. نعم يا أخي ما لنا شيء نَهبه فلتكن منك كلمة طيبة متحرزاً من ذاتك ألا تسقط أنت في مثل هذه الأشياء لأنه قال: ” في كل أعمالك تذكر أواخرك فإنك إلى الأبد لا تخطئ “. البواب العاجز يخسر خسارة كبيرة ؛ وأما العالي بالروح يصنع لذاته إكليلاً. ها الإخوة في مجمع الصلاة واقفون يباركون اللـه وأنت تتنزه خارجاً. ألا تعلم أنك تخسر نفسك، قل لفكرك أترى لو كانت تحفة تعطى أما كنا نسارع قبل الجماعة لنتقبلها، فإن كان في الأمور البشرية حرص مثل هذا فكم أولي بنا أن نحرص في الفوائد الروحانية ؛ صر حاراً بالروح مثل القديسين لتساكنهم في ملكوت السماوات. من يتكلم كلاماً باطلاً وهو يعمل ممتداً في العمل ؛ يخسر ؛ ومن يدرس الأقوال البارة ؛ ينجح أكثر. إذا كنت تعمل وآذاك روح الزنا ؛ فلا تعجز أن تمد يدك للصلاة ؛ وإن ثقل عليك ؛ فإحنِ ركبتيك ؛ فإن صلاة الأمانة تحارب عنك. لا ترقد حاقداً على أحد ؛ لئلا تزعجك الخيالات القبيحة في الليل. لا يكن وجهك مطرقاً إلى أسفل فقط ؛ لكن وقلبك. لا تتعظم على قريبك ؛ نج أخاك من الخطيئة فينجيك الرب في يوم الرجز. من يتعب في الكنونيون لا يتوانى ولا عن موضع إبراز الفضلات ؛ لأنه ليس غير واجب أن يتعب فيه المتعبدون حسناً. لا تخف من المرض قائلاً: أخشى ألا أمرض. أخطر بذهنك أن القديسين كلهم بمكابدة الآلام أرضوا اللـه. العاجز لا ينفع ذاته ولا قريبه، والغير عاجز يستنهض المتوانين إلى الفضيلة. من يحتقر مدبره يخطئ، ومن يطع بالرب يرث مجداً. لا ترد مبتدئاً ونفساً ظامئةً إلى الرب؛ فإن الرب ينظر فلا يرضيه ذلك. الابن الخبيث يسيء خطابة والده ؛ والذين يسمعونه يذمونه. من يكافئ عوض شر بشر هو غير رحوم، أما من يجازي بشرور عوض صالحات فماذا يقنعه. لا تَهتم أن تسمع هفوات أجنبية ؛ لئلا تصير أخطائك مسموعة عند الكل. من يسكت عند المائدة ؛ يضاهي من يأكل خبزه بعسل، ومن يكثر كلامه ؛ يقلق الساكت. كل السمكة بترتيب ؛ وليكن شربك بلا جلب. العابد الملتوي ومن يطلب ما يشكك قريبه لا يرضيهما بواب أمين. ضيق على شهوتك أيها الحبيب ؛ قبل أن يضيق عليك من أجلها ؛ فإنِها تحدر إلى قعر الجحيم الذين يتبعونَها. ليس وزن يعادل الصبر إن مُزج بالمحبة. أيها الرب خولني أن أبصر هفواتي لئلا أدين أخي. إن سكن مبتدئان مع شيخ ؛ فمن منهما أعظم عند الرب ؟ من يواضع ذاته بمخافة اللـه. لأن صادقاً القائل: ” من يواضع ذاته يرفع شأنه “. من عنده مبتدئان يحتاج يقظة جزيلة لئلا يجد المنتصب بازائنا فسحة فيصنع بِهما شيئاً من الأشياء المختصة به. المبتدئ الذي يحب الضحك والدالة يصنع لنفسه تَهشماً وشقاءً. لا تتكلم بأقوال الخلاعة التي لا يجب التنعم بِها ؛ بل بالحري أتل شكراً وتسبيحاً. لا تكن عاصياً فظاً ومتهاوناً ؛ لكي لا تضر نفسك والسامعين. إن صرت متورعاً محقاً ومتواضعاً يسكب عليك الرب رأفاته. اسمع يا حبيبي ممن يعظك بالرب: اتقِ الرب ؛ فيكون لك سوراً ؛ وتجد في يوم وفاتك دالة. لا تزدرِ بعالمي أو تحتقره بذهنك؛ فإن الرب وحده يعرف خفايا القلب. أكرم الكل من أجل الرب ؛ ليكرمك رب الكل. من يشاء أن ينقل صخرة ؛ يضع المخلِ تحتها لا فوقها ؛ وحينئذ يدحرجها بسهولة ؛ فهذا نموذج التواضع. أيها العابد تركت قلايتك لتتمشى في العالم ؛ ألا تخشى من الإثم والمجاوبة التى في المدينة. من خلع عقل العالم بالكلية ؛ يلبث غير مجروح، ومن لم ينزعه، يقبل جراحات متواترة. إن عرض للدير الذي تسكنه ضيقة من حوائج الجسد ؛ فلا تترك الموضع ؛ فإنك لا تجد فيما بعد خيراً كثيراً. لا يرضى الفاقد البر مدبراً باراً، ولا الصديق يرضيه كل أمر ظالم. اغفر لأخيك إذا أخطأ إليك ؛ فيغفر لك الرب هفواتك. أسبق إلى قلاية الأخ الذي أحزنك ؛ وتب إليه بقلب نقي، من أجل القائل: اغفر للأخ لا سبع مرات فقط بل إلى سبعين مرة سبع مرات. أقبل أيها الحبيب توبة الأخ كمرسل من اللـه ؛ لئلا تخالف من أرسله؛ وتحركه إلى أن يسخط عليك. حب السلامة والطهارة ؛ لتؤهل لمعاينة وجه الرب الإله. لا تؤذي أخاك في يوم حزنه، ولا تضف إلى وجع نفسه وجعاً. المدبر الذي يتعب ؛ هو جمال ترتيب الإخوة، والشيوخ العقلاء سلوة الشباب. لا ينبغي أن نصدق الثلاب، فإنه ربما تصير نميمة من حسد ؛ بل نحتاج أكثر أن نلتمس شواهد الحق. ويجب أن يُبكم المتجاسرون والمبتدئون بالمقاومة، لتثبت الرفقة الأخوية بلا قلق. إن شاهدت إخوة متولعين في الشر ؛ فلا تشارك عدم ترتيبهم ؛ بل أجنح عنهم ؛ واذهب إلى قلايتك متذكراً القائل: ” عبد الرب ما سبيله أن يخاصم “. إذا أبصرت أخاً سائماً أو عليلاً ؛ فجيد هو أن تتوجع له، لأن العدل يسر قلب من يعمله ؛ والذين يحبون الرب يرثون العدل. يا أخي أمتنع من الخلاعة والمزاح لئلا يجعلك عادم الحياء، فإن عدم الحياء هو أم الفجور. لا تطف القلالي سكراناً لئلا تضيع بغتة غنى العفة. لا تكن حاقداً على أخيك لأنه قد كتب: ” إن طرق الحقودين مؤدية إلى الموت “. إن كان لا يمكنك أن تحتمل شيئاً ؛ أصمت فتستريح. إن كنت لا تستطيع أن يغض أحد نظرة عنك فلا تحول نظرك أنت عن أحد. الطوبى لمن وجد رفقة صالحين ؛ وأبغض مشيئته. أيها الأخ كمل عملك بلا غش ؛ لأنه هكذا يليق بالمؤمنين ؛ لتجد نعمة في أعمالك. لا تشرب خمراً للسكر ؛ فتحصل خزي الوجه ؛ لأنه يكون حينئذ خزي عظيم إذا وجدت مثل سكير. الوداعة للعابد مثل سلسله ذهب على عنق رجل، كما أن العسل حلو في فم الإنسان كذلك الأقوال الإلهية حلوة في النفس التي تخاف اللـه. الشيوخ الحكماء عصمة الإخوة ؛ والغير حكماء يكونون محاربين لهم. الكبرياء ممقوتة عند اللـه وعند الناس ؛ والرب يعطي المحبين التواضع. المكان المعتدل القانون هو ميناء حسن المرسى ؛ والذين ليس لهم تدبير يسقطون كالورق، لأنه يجب على من يخدم أن يخدم كمن يخدم اللـه لا كمن يخدم إنساناً يأخذ منه الأجرة ؛ والمخدوم سبيله أن يحتمل بتواضع كأنه مخدوم من الرب. إذا أكلت خبزاً وشبعت فأعطِ مجداً للإله الذي أشبعك، وإن شئت ولبست أقل من شبعك فأعطِ مجداً للإله الذي قواك، ولا تقل بحضرة الجماعة أنا ما أكلت مثل هذا الخبز، ماذا إذاً تمنحه لذاتك أو تدين الذين يأكلون ويشكرون. أصبر للرب في يوم الحزن ؛ ليسترك في يوم الرجز. لا تضحك على مغموم، ولا تفرح بمن عاد خائباً ؛ لئلا يسخط عليك الرب ؛ ولا تجد ناصراً في يوم الحزن، ولا تطرد إخوة على أثرة الرئاسة فإن هذا الرأي إن لم يكن من اللـه لا يثبت فإن كان من اللـه وأختفأت مثل شاول بين الأمتعة يأخذك اللـه من هناك وينصبك مديراً لشعبه. من لا يتنهد على هؤلاء أنَهم ما أوضحوا ولا فضيلة واحدة في سيرة العبادة ويطلبون الرئاسات فمن أين يعطوا، نحن على يبوسة من البر دائماً أليس من عدم الأختضاع ومن فقد التأديب ؛ لا نحسن أن نحرك المقذاف ونحاول أن ندبر. ماذا أشر ممن له ماء حلو ولا يسقي نفساً ظامئة ؟ أو من أغزر حسداً ممن له كتاباً نافعاً ولا يعطيه لأخيه متوخياً نفعه وبنائه، من أوفر عجزاً ممن هو عطشان جالس بقرب العين ولا يمد يده ليأخذ ما يسكن عطشه. أو من أكثر ونية ممن له كتاباً يملكه ؛ ويتوانى عن القراءة فيه. أتعب مع من يريد أن يتعلم الكتابة ؛ حتى إذا قرأ عجائب اللـه يمجد اسمه ويكون مانحاً لك ثواباً. الضجور إما يعانده صغر النفس على من له صبر ؛ وإما يقاومه استعلاء الرأي ؛ ومن يحب الرب بتحقيق ينج من الحالين جميعاً. العاجز يخسر فوائد كثيرة ؛ والمتيقظ لا يتهاون ولا بساعة واحدة. العاجز والمماحك لا يشرف لأنه مغيظ ممرمر. الغير مطيع يختبر مواضع كثيرة ؛ والمتواضع القلب يطيع بالرب. المبتدئ الفهيم يستمع لمن هو أعظم منه بالرب ؛ والغير مطيع يكون في الهوان. من يحفظ طهارة جسمه يتعجب منه كثيرون ؛ ومن يتهاون به يلام من قوم كثيرين ويذم. تأمل يا حبيبي مقادير كل واحد من المطيعين من أجل القائل: ” إذ واحد يثمر ويعمل مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين “. النهم البطن يدعو الصوم ضيقة وشدة ؛ والممسك لا يقطب. لا تصنع أمراً يحزن قريبك بل كن مؤدباً في كل أمورك. الرجل الغير مؤدب يترصد جاره والسالك في النور لا يتفكر في الشر. من يحب الرب لا يغظ قريبه بل يصون ذاته ويحفظها من أجل القائل: ” جميع الأشياء التي تريدون أن يعملها بكم الناس اصنعوها أنتم بِهم فهذا هو الناموس والأنبياء “. أعمل في الشتاء لتفرح إذا دخلت إلى ميناء الحياة، إن العدو يسلح الإخوة المتوانين كثيراً على الحرصين جداً. فالحريصون يجدون بالمتوانين صناعة مفيدة، إذا حملوا أمراضهم من أجل الرب. من يعمل بقريبه رحمة ؛ يجد رحمة عند اللـه ؛ والدينونة بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة. لا ترافق أخاك في الخطيئة بل الأولي بك أن تنجيه منها ؛ لتعيش أنفسكما بالرب. لتكن مخافة اللـه قدام عينيك في كل حين فلا تسود عليك خطيئة. لا تقل اليوم أخطئ وغداً أتوب ؛ فإنك لا تيقن علم ما في الغد ؛ لكن اليوم فلنتب ؛ والرب يهتم بأمور الغد. رُب من يستعجل في الصلاة ؛ وإذا سمع من يرفع صوته فيها يتناول العمل. لا تتوانى في الصلوات الجامعة ليستضىء ناظر ذهنك ؛ فإن المقتني فماً جسوراً يعاب ؛ والمتقي الرب يتورع. كن بكلية قلبك متوكلاً على الرب ؛ فتجد في كل حين نعمة. إن صبرت له فلا يضيع ثوابك. المياه تدفق في يوم الحريق ؛ والدموع في أوان المحنة. الماء يطفئ اللـهيب المضطرم في البيت ؛ والدموع في الصلوات تخمد الشهوات الخبيثة. كما تتباهى نضارة النخلة في الشواطئ ؛ هكذا تتباهى ألفة الإخوة بالرب. من يكرم من هو أعظم منه قدراً ؛ يُسِر من هم أصغر منه ؛ وفي يوم صلاته يُستجاب له. إن أعرت أخاك شيئاً ؛ وتباطأ في إعادته إليك ؛ وأردت أن تذكره ؛ فذكره مرة ؛ لأنه ربما يلحقه نسيان. وإن استعرت شيئاً من أخيك ؛ فأستعمل التورع ولم يذكرك ؛ فأنت كما يليق بالمتقي الرب لا تعدمه الشىء الذي له، لأنه قد كتب: ” لا تكونوا غرماء لأحد في شىء إلا في أن يحب بعضكم بعضاً “. سبيلنا أيها الإخوة أن نحتقر كافة الأشياء المفسدة ونصنع لنا عوضها الحياة الأبدية. إن فوض إليك أن تتوسط بشىء ؛ فلا تتوانى في خلاصك محتجاً بالخطايا، لأن يوسف قد توسط في مصر بأمر ؛ ولم يقبل الاهتمام بمنزل واحد فقط بل بكافة أرض مصر ؛ فلم يجنح عن سبيل الحق ؛ فلذلك شرفه اللـه. إذا كانت نفسك معافاة لدى الرب ؛ فستنتفع في كل شىء. إذا رأيت تاجراً ؛ فقل في ذاتك: يا نفسِ هذا يشتهي الأشياء الوقتية فيصبر على مثل هذه الأتعاب ليجمع الأمور التي لا تبقى، أفتتوانين أنتِ في الأشياء التي لا تزول. إذا أبصرت أناساً مخاصمين ؛ ويتحاكمون ؛ فقل في ذاتك: يا نفسِ هؤلاء قد أدخلوا ذاتـهم في مثل هذا الحرص والخصومة لأجل شىء لا منفعة فيه ؛ وأنت غريمة بربوات قناطير، أما تسجدين للـه كما يجب لتنالي الصفح. إذا شاهدت الذين يبنون البيوت الطينية ؛ قل في ذاتك: هؤلاء يا نفسِ إنما يبنون بيوتاً طينيةً فيستعملون الحرص ليتمموا العمل أفتتهاونين أنتِ بالمساكن السماوية. وإن عددنا الأمور واحداً فواحداً ؛ فلا نفرغ من القول، فأي أمر أبصرناه في العالم من الأفكار العالمية ؛ والمعقولات الدنيوية ؛ فلنستبدله بمعقولات روحانية فننال بلا مراء منفعة بموأزرة النعمة إيانا. العابد يضاهي رجلاً تدحرج منحدراً من موضع عالِ ؛ فوجد حبلاً معلقاً في جبل رفيع شامخ ؛ فقبض عليه ؛ وتعلق به وهو يستغيث بلا فتور بالرب أن يغيثه عالماً أنه إن أطلق قوته وأرخى تلك يديه يسقط ويموت. يا ابني أتخذ الحياة الخالدة التى دعيت إليها وأقررت بالإقرار النفيس أمام شهود كثيرين ؛ لأنه بعد حين يسير يجىء الوارد ولا يبطئ. ولكوننا لا نشاء أن نحتمل حزناً يسيراً من أجل الرب ؛ نلج بلا اختيارنا في غموم كثيرة وشرور جزيلة. ولكوننا لا نريد أن نترك مشيئتنا من أجل الرب ؛ نسبب لذاتنا خسارة النفس. ولكوننا لا نحتمل أن نكون من أجل الرب في الطاعة والهوان ؛ نُعدم ذاتنا عزاء الصديقين. ولكوننا لا نذعن لوعظ الذين يعظونا من أجل الرب ؛ نجعل ذاتنا شماتة للشياطين الخبثاء. ولكوننا لا نقبل الأدب الذي بالعصى ؛ نعاقب بأنواع العذاب حيث ليس من يعزي. من يعطي لرأسي ماءً ؛ ولعيني ينبوع دموع ؛ ووجهاً بَهياً لدى الذين من خارج ؛ لأبكي على خطاياي نَهاراً ليلاً ؛ وأقول للضحك: كن بعيداً مني ؛ وللدموع تعالي إليَّ ؛ لأن خطيئتى أمام الرب جزيلة جداً ؛ ولا لهفواتي عدد. وأعلموا يقيناً أن الدموع ثلاثة أنواع في الناس: (1) دموع من قِبل الأمور الظاهرة. وهذه هي مرة جداً وباطلة. (2) ودموع للتوبة إذا تاقت النفس للخيرات الدهرية ؛ وهذه هي حلوة ونافعة جداً. (3) ودموع من التندم حيث البكاء وتقعقع الأسنان، وهذه هي مرة وغير نافعة لأنَها لا تنفع حينئذ شيئاً حين لا يوجد أوان للتوبة. أستيقظ أيها الحبيب يقظة جزيلة في شبابك ؛ لتوجد في أواخرك مهذباً مختبراً. لا يقنعك الحبيب الذي يخطر لك أفكاراً خادعة، ويقول لك: أنت الآن شاب ويليق بك أن تعيش سنيناً أُخر كثيرة ؛ فلهذا أفرح الآن وتنعم ولا تغم نفسك، وعند شيخوختك يجب أن تتوب. أما تعرف أيها الأخ الغبي أن العدو يطغيك بِهذه، لأنه إذا كنت أنت بعد شاباً وفي عنفوان حداثتك حين تستطيع أن تصبر على كل تعب وتحتمل كل نسك لا تتوب ؛ فإن شخت ألا تتعلل بضعف الشيخوخة. إن أهملت التوبة في حداثتك ماذا تعمل ؟ فأطرح إذاً طريقة العدو وأسمع صوت السيد الحقيقي القائل: ” تيقظوا إذاً وصلوا فإنكم لا تعرفون الساعة ولا اليوم “. أيها الرب يسوع المسيح ملك الملوك ؛ الحاوي سلطان الحياة والموت ؛ العالم بالمكتومات والخفيات ؛ يا من لا يخفي عليك رؤية ولا فكر ؛ طهرني من مكتوماتي التي صنعتها ؛ فإني قد عملت العمل الخبيث أمامك لأن أيامي تفنى يوماً فيوماً وخطاياي تتكاثر، فأنت يارب يا إله الأرواح وكل جسد تعرف كثرت ضعف نفسي وجسدي. فأمنح يارب لعديم القوة قوة ؛ وعضدني أنا الشقي ؛ لأنك أنت تعلم أنني قد صرت مثل آية لكثيرين ؛ وأنت معيني العزيز. أعطيني يارب قلباً حسن العزم جميل الحفظ، أذكر أيها الصالح إحساناتك كل حين ؛ ولا تذكر كثرة خطاياي ؛ ولا تحقد على زلاتى، ولا تعرض يارب عن طلبتي أنا الخاطئ، لكن كما سترتني نعمتك حتى الآن وإلى الانقضاء ؛ لا تنزعها مني لأنَها هي حكمتي ؛ ومغبوطون هم الذين يحفظون طرقها فإنَها تكون لهم إكليل مجد. أشكرك وأسبحك أيها الموضح فيَّ وفور رأفتك أنا غير المستحق ؛ لأنك صرت لي معيناً وساتراً ؛ فليكن اسم عظمتك مباركاً إلى الأبد، لأن بك يليق العظمة أيها الرب الإله. أيها الحبيب علم أخاك طريقاً ؛ لا الطريق المؤدي إلى العالم ؛ بل المؤدي إلى ملكوت السماوات، أتقِ الرب بكل قوتك؛ ولا تعاين أعمال المنافقين؛ فإن نارهم لا تنطفئ ودودهم لا يموت.والمجد للآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل