المقالات

23 ديسمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس رحبعام

رحبعام "خنصري أغلظ من متني أبي" 1مل 12: 10 مقدمة اشتهر رحبعام بن سليمان بأنه الرجل الذي أضاع مملكة بلسانه،.. وسيقف رحبعام مثلاً في كل التاريخ، للقدرة المدمرة الهائلة للسان البشري، وإن كنت في شك من الأمر، فاقرأ ما كتب الرسول يعقوب عن اللسان: "هكذا اللسان أيضاً هو عضو صغير ويفتخر متعظماً هوذا نار قليلة أي وقود تحرق" فاللسان نار عالم الإثم هكذا جعل في أعضائنا، اللسان الذي يدنس الجسم كله ويضرم دائرة الكون ويضرم من جهنم لأن كل طبع للوحوش والطيور والزحافات والبحريات يذلل وقد تذلل للطبع البشري، وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يذلله. هو شر لا يضبط مملوء سماً مميتاً"...، وبمفهوم المخالفة أو على حد التعبير العكسي كما يقولون، أو بما قال الرسول يعقوب في استهلال الحديث عن اللسان: "إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذلك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً".. ولعل هذا يذكرنا بالمثل الفارسي القائل أن فيلسوفاً أرسل تلميذه إلى السوق طالباً منه أن يشتري أردأ ما في السوق، فعاد الغلام. وقد اشترى "لساناً" من السوق!!... وإذا أعاده الفليسوف ليشتري أفضل ما في السوق أيضاً، فعاد الشاب وقد اشترى "لساناً" من السوق!!.. وفي سوق الحياة ليس هناك ما هو أردأ من اللسان أو أفضل من اللسان،... لأنه في الواقع من فضلة القلب يتكلم اللسان،... ونحن لم نكشف في قصة رحبعام عن لسانه أو بالأحرى اتساخ لسانه، بل سنتعمق أكثر إلى ذهنه الفارغ، وحياته القبيحة التي لم يكن اللسان سوى تعبير صادق عن كليهما في شخصيته ومن ثم يصح أن نرى رحبعام من الجوانب التالية: رحبعام ونشأته:- عندما ولد رحبعام أطلق عليه سليمان هذا الاسم الذي يعني "مرحب الشعب" أو موسع الشعب، ولعله سليمان كان يحلم لابنه ما يحلمه في العادة الأباطرة بالنسبة لأولادهم،.. ولعله فردرك الأكبر الذي جاء بولده قبل أن يموت، وقال له: ها أنا يا ولدي أسلمك امبراطورية عظيمة، فلا تسمح أن يضيع منها شيء، وإلا ضحكت عليك في قبري!!... ولا أعلم إن كان شيء من هذا المعنى في ذهن سليمان، وهو يتوق أن يرى الامبراطورية العظيمة، التي أنشأها، وجعلها حلماً من الأحلام، لا في اتساع رقعتها فحسب، بل في الثروة الخيالية التي ملأ بها أورشليم، والمباني والقصور الشاهقة، والتجارة العظيمة، والفن، والمعمار، والموسيقى،.. وهو يتمنى أن ولده يتسلم هذه جميعاً، ليجعلها أضعافاً مضاعفة،.. على أي حال إن هذا حلم كل أب لابنه، وهو الحلم الذي يتمشى مع أعماق الطبيعة البشرية التي تتغلغل فينا جميعاً، وقد ذكره بناياهو بن يهوياداع لداود في قوله: "كما كان الرب مع سيدي الملك كذلك ليكن مع سليمان، ويجعل كرسيه أعظم من كرسي سيدي الملك داود"... وأغلب الظن أن عيني داود في تلك اللحظة ومضتا بنور لامع، وارتسمت الابتسامة على شفتيه، ولعله رفع صوته إلى الله، ليقول آمين يا رب ليكن هكذا!!... وجاء سليمان ووسع، وفعل، وعمل، الكثير، وولد له الولد الذي على الأغلب كان جميلاً كجمال أمه، وأبيه،.. وأطلق عليه الاسم "رحبعام"، وهو يحلم له بالرحب والسعة، من كل جانب من جوانب حياته ونفسه،.. وقد كان من الممكن أن يكون الشاب هكذا، وقد كانت معه الإمكانيات الكثيرة التي تساعده على ذلك، إذ كان له السهم الذهبي، الذي وضعوه شعار لأمير ياباني قيل أنه كان سيتغرب عن بلده فترة من الوقت، وكان هذا السهم يذكره أينما يتجه ويذهب بالأصل الذي ينتمي إليه، والأسرة التي ينحدر منها، وسواء صحت القصة بالنسبة للياباني أم لم تصح، فإن رحبعام بن سليمان كان يمكن أن يعود إلى آبائه وأجداده ليرفع رأسه، كأعلى ما يكون الارتفاع، وأسمى ما يكون العلو والمجد، ولعله سمع عن جده داود من القصص والأحاديث ما يمكن أن يصنع منه بطلاً لو ترسم خطى هذا الجد أو سار في سبيله، أو سلك سلوكه، وكان يمكنه أن يتوفر على الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد التي خرج بها سليمان إلى العالم، لينهل منها البشر أروع الحكم وأمجد الأمثال، وكان من المتصور أن النبع وقد بدأ من بيته ليجري في تيار الإنسانية كلها، أن يكون هو أول من يرتاده وينهل منه،.. وأعظم من هذا كله، كان هيكل الله على قيد خطوات منه،.. وكان يمكنه أن يجد سبيله إلى هذا الهيكل وهو يغنى: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله"... "ما أحلى مساكنك يارب الجنود تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي، العصفور أيضاً وجد بيتاً والسنونة عشاً لنفسها حيث تضع أفراخها مذابحك يا رب الجنود ملكي وإلهي، طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك... لأن يوماً واحداً في ديارك خير من ألف، اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار"على أن رحبعام -رغم هذه الامتيازات كلها- لم يحتج سليمان إلى أن يموت ويضحك عليه في قبره، إن صح أن الموتى يضحكون في قبورهم، فإن سليمان الحكيم بكى في حياته، وهو يرى ابنه يأخذ سبيله إلى الشباب والرجولة،.. لقد خضع الشاب لعوامل أعتى وأقسى وأقدر على الهدم والتحطيم، وكان لسليمان اليد الطولى في كل هذه العوامل،.. لقد تزوج سليمان نعمة العمونية، وهي أميرة عمونية يقطن أهلها الصحراء الواقعة شرقي الأردن، ويبدو أنها كانت ذات جاذبية وتأثير عميق على الملك، حتى أنه بنى مرتفعة لمولك رجس العمونيين من أجلها،...، وإذا كانوا قد قالوا أن خلف كل ولد عظيم أم عظيمة، وإذا كان الأمريكيون في تقديرهم لهذه الحقيقة قد أقاموا نصباً تذكار ية لأم واشنطون، وأم ابراهام لنوكلن... فمن الجانب الآخر يمكن أن نقيم تمثالاً بشعاً للخراب والدمار لرحبعام بن سليمان، هو في الحقيقة نعمة العمونية الآتية من وراء الأردن تحمل معها ملوك رجس العمونيين، وعجز الشاب رحبعام عن أن يعرف السبيل إلى إله إسرائيل، لأن أمه أرضعته الوثنية على مرتفعة ملكوم رجس العمونيين!! وقد ضاعف النكبة والمأساة سلوك الأب تجاه ابنه، ولو سئل رحبعام الأحمق: لماذا جاء في حماقته على العكس من أبيه الحكيم الذي كان مضرب الأمثال في الحكمة؟ لربما جاء الجواب، كما ذكره ذلك الشاب الذي اقتيد إلى المحاكمة لارتكابه جريمة مروعة، وكان أبوه من أشهر القضاة في البلد، وإذ قيل له: كيف يمكن أن يرتكب مثل هذا الجرم، وأبوه من أعظم رجال العدالة والقضاء،.. قال: وهذه هي المأساة... لقد كان أبي غارقاً في كتب القانون دون أن يكون له متسع من الوقت لكي يعلمني ويهذبني وينبهني ويرعاني،.. لقد ترك سليمان الغلام، دون أن يعني به، لأنه كان مشغولاً عنه بالمهام التي تواجهه كل يوم في امبراطوريته العظيمة الواسعة،.. أجل وهذه هي المأساة المحزنة، لقد ترك الأب المجال والميدان للأم العمونية، لتصنع من ابنها الإنسان الوثني القلب، والجالس على عرش يهوذا،.. وهي مأساة تتكرر بهذه الصورة أو تلك في قلب البيوت المسيحية، حتى أن الناس تتعجب. كيف يحدث أن أبناء القادة المسيحيين والرعاة والخدام والشيوخ يكونون على النقيض تماماً من قصة آبائهم أو حياتهم أو سيرتهم،.. وقد نسى بيته وأولاده بالتمام،.. أو أنه لا توجد الأم التي يمكن أن تصنع التعويض، أو تملأ الفراغ في هذا المجال... كان سليمان يحلم لابنه بالأحلام العظيمة الوردية، وكان يمكنه أن يحول هذه الأحلام إلى الواقع، حتى ولو كان مشغولاً، بأن يفعل ما فعله أبوه فيه، عندما سلمه للنبي ناثان، ليتولى إرشاده ورعايته وتهذيبه وتعليمه،.. كان من الممكن أن يجد له المعلم الأمين الصادق الذي يتولى الصغير، بما يمكن أن يجعل حياته متمكنه الشركة والارتباط العميق بالله،.. ولكننا لا نعرف أن سليمان فعل شيئاً من هذا القبيل فإذا أضيف إلى ذلك ما يقولونه: "لقد تزوج سليمان ألف امرأة، وكان له ابن، وكان هذا الابن للأسف أحمق"... ويكفي أن ينشأ أي غلام في قصر فيه ألف امرأة، وهو محاط بالترف، والتنعم، والحياة الشهوانية الصاخبة،... وهو يطلب فيجاب طلبه في الحال، وهو يتكلم فيمتدح كلامه، حتى ولو كان أسخف كلام، وهو يشير بإصبعه، فيجد عشرات أو مئات الخدم والحشم تلبي النداء، مثل هذا الشاب الترف المدلل، كان أحوج الكل إلى ما قاله سليمان في أمثاله: "من يمنع عصاه يمقت ابنه ومن أحبه يطلب له التأديب" "لا تمنع التأديب عن الولد لأنك إن ضربته بعصا لا يموت تضربه أنت بعصا فتنقذ نفسه من الهاوية"... ولو أن سليمان مد عصاه إلى ظهر رحبعام، لربما تغير تاريخه وتاريخ المملكة بأكملها لكنه لم يفعل، فمهد له بحياته وتصرفاته وتدليله الطريق الرهيب إلى الضياع الذي وصل إليه فيما بعد!!.. ولا يمكن أن ينسى أخيراً في هذا المجال نكبة المعاشرات الردية، في ذلك المجموع الكبير من الزمان والصحاب الذين خالطوه وداهنوه وتملقوه، ووصفوا بالقول: "الأحداث الذين نشأوا معه ووقفوا أمامه"... هذه هي العوامل المتعددة التي أثرت في رحبعام، لينشأ فتى متكبراً أنانياً ضعيفاً ضيق الأفق، أو كما وصفه ابن سيرا: "وافر الحماقة ويعوزه الفهم!!.. رحبعام وسياسته:- هل كان رحبعام في الحادية والعشرين من العمر أم في الحادية والأربعين؟؟ لقد أورث هذا ارتباكاً عند البعض، مع أن هذا الارتباك في حد ذاته يعطينا تمسكاً بالكتاب أكثر، إذ الأرقام في اللغة العبرية كانت تكتب عادة بالحروف، والحرف الذي يشير إلى الحادية، هو حرف واحد في الحالين الألف في الأبجدية العبرانية، أما الحرف الذي يشير إلى العشرين، وهو حرف الكاف، والآخر الذي يشير إلى الأربعين وهو حرف الميم فإنهما في الكتابة العبرانية قريبان جداً من بعضهما، حتى أنه ليصعب مرات كثيرة أمام المخطوطات التي عاشت آلاف السنين أن تتبين في المخطوطة الفرق بين الحرفين، وحتى يكون الكاتب أميناً فإنه يرسم الحرف الذي أمامه دون أدنى تغيير، ويبقى الاحتمال الثاني ويشار إليه في الهامش،.. ومن المرجح لهذا أن رحبعام كان في الحادية والعشرين من عمره في السن التي يقال عنها في أيامنا سن الرشد،.. ولكنها في الحقيقة هي السن التي تحتاج أمام المشاكل والمتاعب، إلى أمرين أساسيين يخطيء الإنسان إذا تجاوزهما، ولم يتمسك بهما، تمسكه بالحياة نفسها،... وهما: الإرشاد الإلهي، وخبرة الذين جازوا الصعاب والمتاعب المشابهة من قبلنا، أو الذين حنكتهم الأيام، وأورثتهم الفطنة والحذر والتأمل... وإذا عجز الإنسان عن أن يملك الأمرين، وإذا قدر له أن يتخلى عن واحد منهما،... فعليه أن يطلب بكل إلحاح وإصرار مشورة الله،... وعلى وجه الخصوص، عندما يقف على مفترق الطرق، وأمام أقسى المخاطر، وأشد الأزمات، وأصعب السبل،... ولو أن رحبعام بن سليمان طلب من الشعب مهلة الثلاثة الأيام ليرجع فيها إلى الرب، ليعطيه التصرف الناجح الحكيم- لكانت بكل تأكيد النتيجة تختلف تمام الاختلاف عما وصل إليه،.. عندما اعتلت الملكة إليزابيث الثانية ملكة انجلترا الحالية عرش بلادها، قالت في حفل التتويج لشعبها: إن تتويجي هذا ليس رمزاً للقوة والأبهة التي ستذهب وتنتهي في يوم من الأيام، ولكنه إعلان عن آمالنا في المستقبل وعن السنين التي يتيحها الله لي برحمته ونعمته أن أحكم بينكم، وأخدمكم كملكة!!. كان رحبعام الملك في حاجة إلى مثل هذا الروح وهذا الأسلوب، عندما اتجه الشعب جميعاً إلى تتويجه في شكيم،... وكان في حاجة قبل أن يتحدث مع أحد، أن يتحدث مع الله، وقبل أن يأخذ رأي إنسان أن يأخذ رأي الله،... لقد ضاعت مملكة الرجل، بضياع الصلة التي تربطه بالله،.. وفي الحقيقة إنه كان في حاجة لسؤال الله، لسبب أعمق من ذلك كثيراً، لأن مصير المملكة كان يتعلق أساساً بموقفها من الله، وهذا الشرخ الرهيب الذي حدث فيها، لم يكن مرده الشكوى من معاملة سليمان للشعب، مع أن هذا هو السبب الظاهر، لكن السبب الحقيقي مدون بكل وضوح وجلاء: "ولم يسمع الملك للشعب لأن السبب كان من قبل الرب ليقيم كلامه الذي تكلم به الرب عن يد أخيا الشيلوني إلى يربعام بن نباط"... إن مصير المملكة يرتبط بتوبتها وعودتها إلى الله،... ولو عاد رحبعام إلى الله، بعد أن يحطم المرتفعات ويبدأ بمرتفعة ملوكم التي بناها سليمان خصيصاً من أجل نعمة أمه، ولو عاد ليقول ما قاله جده فيما مضى: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني".. لو عاد ليقول هذا، أو شيئاً يشبه هذا لوجد حنان الله ورفقه ورحمته، وجوده وحبه، لكنه للأسف نسى الله أو تناساه، أو جهل الطريق إلى بيته فلم يعرفه إلا شكلاً أو طقساً أو لماماً، ولم يعرف الأساس الصحيح لأية سياسة ناجحة في حياة الإنسان على هذه الأرض!!.. أيها الشاب الذي تقف على أعقاب الحياة، وقد تشعبت أمامك الطرق، واستبدت بك الحيرة واستغلق عليك السبيل، لا تخط في أي مجال خطوة واحدة دون أن تسترشد بالله، وتقف الموقف الصحيح منه في عالم الحياة!!... ربما نقول: أنا لست رحبعام، ولم أرث مملكة، ولا أظن أني سأكون ملكاً في يوم من الأيام،.. إنك إن تصورت هذا تخطيء أفدح الخطأ، وتصبح رحبعام الأحمق بعينه،.. كل واحد منا له مملكته. وكل واحد منا ملك بمعنى من المعاني، أنت ملك في مملكة نفسك، وأنت ملك في مملكة بيتك، وأنت ملك في مملكة الرسالة التي أعطيت أن تقوم بها على هذه الأرض، وليس المهم أن تكون مملكتك صغيرة أو كبيرة، إنما المهم أن تعلم أنك -كأي ملك- ممسوح من الله على هذه المملكة، وأنه لا يجوز لك أن تتصرف في أي تصرف إلا بالعودة إلى الله، ليرشدك إرشاده الصالح، ويعلمك كيف تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع إلهك!!.. على أن الإرشاد الإلهي، قد يأتينا مباشرة من الله بصورة متعددة على قدر ما نعي أو نتعلم أو نسمع الصوت الإلهي، وقد يأتي إلينا في المشورة الصادقة الصحيحة التي تأتي من الآخرين، ومهما كان الإنسان حصيفاً كيساً فطناً، فإنه من الحماقة ألا يستعين بمشورة الآخرين من غيره من الناس، وذلك لأن الإنسان بمفرده مهما كانت قدرته، فهو محدود النظرة، وضيق الاختبار، وأنه لابد له من المختبرين أو في تعبير آخر "الخبراء" ومن هنا نشأت في كل ممالك الأرض فكرة المشيرين المتخصصين الأكفاء، والذين قد يتنبهون إلى الزوايا المختلفة من الموضوع أو المشكلة، والتي ربما لا يستطيع أبرع الناس وأقدرهم من الانتباه إليها، أو الإحاطة بأعماقها وخباياها!!... على أن المشكلة في العادة في اختيار المشيرين وتقدير أفكارهم ومشورتهم، وقد استعان رحبعام بنوعين من المشيرين، هم الشيوخ، والشباب، وكان الاثنان على طرفي نقيض!!.. ولا سبيل إلى اللقاء بينهما على وجه الإطلاق، وهنا نتبين أهمية المشورة، وصعوبتها، ودقتها، والحاجة الماسة إليها، وأن الإنسان لا يستطيع كقاعدة عامة إهمالها أو التخلي عنها!!... ومع أننا لا نستطيع أن نقول إن كل شيخ لابد أن يكون حكيماً، وأن كل شاب لابد أن يكون نزقاً طائشاً، فما أكثر ما يتبادل الاثنان المواقع، لكن القاعدة العامة مع ذلك، أن الشيخ أميل إلى تحكيم العقل والتجربة والاختبار، في الوقت الذي يندفع فيه وراء لهيب المشاعر والأحاسيس والعواطف، ومن هنا كان لابد أن تتباعد المشورتان تباعداً كاملاً أمام عيني رحبعام!!... كان العظمة عند الشيوخ تقوم على أساس الخدمة والرفق والحنان والكلمة الحلوة، وأن الإنسان في أي مكان ومجال لا يمكن أن يهزه قدر الموادعة والاتضاع من أي إنسان آخر مقابلة، فهو يمكن أن يستعبد الآخرين عندما يبدو أمامهم عبداً لهم خاضعاً مطيعاً لرجائهم وانتظارهم، وكان الشيوخ -ولا شك- يدركون مدى المعاناة القاسية التي عاناها الشعب أيام سليمان، وأنه قد سلم رحبعام المملكة بركاناً يوشك أن ينفجر، وأنه وإن لم يكن سليمان قد وسع رقعة الأمة، وملأها بالفضة والذهب، وحول خيامها إلى قصور، وأعطاها مجداً لم تعرفه من قبل،... لكن صرخة الإنسان الدائمة في كل العصور هي الحرية، وأنك يوم تحصره أو تضعه في قفص، ولو من ذهب، فإنه لا يلبث أن يتحول وحشاً يحطم كل شيء، ولا يبالي بعد ذلك حتى ولو حطم نفسه وهو يبحث عن الخلاص والحرية، ولعل الشيوخ وقد عاصروا داود وسليمان، وأدركوا الفرق بين الرجلين، إذ كان داود خادم الشعب والمكافح والمغامر بحياته من أجله، والذي ساسه بالصبر واللين والحكمة والوداعة، فأحبه وخدمه والتف من حوله،.. على العكس من سليمان الذي ملأ بطنه طعاماً، وألهب ظهره بالسياط، فبذر بذور العداوة والحقد والفرقة والانقسام بين يهوذا وإفرايم، وقد جهل بغباء أن سبط بنيامين لا يمكن أن ينسى أن العرش كان له وتحول إلى سبط آخر،... وإذا أدركنا إلى جانب هذا كله أن طلبات الشعب لم تكن مغالية، بل كانت على العكس وديعة متواضعة، فهم لا يطلبون الشطط، وهم استعداد لخدمة الملك الجديد، متى خفف النير القاسي الموضوع على أعناقهم!!... كانت العظمة عند الشباب شيئاً يختلف تماماً عن هذا التصور أو هذا التعبير، إذ أن العظمة في عرفهم تقوم على التسلط والاستبداد، وأنه كلما أمعن الملك في الأمرين، كلما دانت له العامة، وسارت القافلة دون توقف لا تلوي على شيء... نرى هل كان رحبعام يؤمن بنظرية الحق الإلهي في حكم الشعوب؟؟ الحق الذي عندما أسيء استغلاله، في عصر شاول جلب الخراب والدمار على الأمة،.. وعندما أساءت أوربا استعماله في الكثير من الأوضاع والظروف حولها إلى بركة مليئة بدماء الملوك والعامة معاً،... قال أحدهم: إذا كانت رغبتك أن تملك أكثر مما تعطي، وإذا كنت تطمع في القوة لتأمر أكثر مما تبارك، وإذا كان ما تصبو إليه السيادة أكثر من المحبة، ورغبتك أن تكون الأعظم من أن تكون الأقل، الأول بدلاً من الأخير... فإنك بذلك تخدم العدو الأعظم الذي هو الموت، وستنال إكليله بالدود الذي يرعى جسدك ويتقبل مصيرك".. لقد جاء سيدنا ليلقن العالم كله الطريق الأمجد للعظمة: من أراد فيكم أن يكون عظيماً فليكن لكم خادماً ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن عبداً" كان رحبعام كما أشرنا -إلى جانب هذا كله- الملك الذي أضاع مملكته بلسانه، ومن الملاحظة أن تهديده كان أجوف أخرق لا معنى له، وأنه لم يكن في حاجة إلى أن ينتظر ثلاثة أيام ليعد الجواب، فيما لو كانت نظرية الاستبداد هي النظرية التي ستحكم عمله، لأن المستبد الفطن، لا يترك الشعب يتجهز للتمرد والثورة ثلاثة أيام، ويعد نفسه في حالة التصادم والرفض، كما فعل ياهو بن نمشي عندما أراد الفتك بأنبياء البعل، إذ لم يكشف عن رغبته، بل بالحري غطاها بالدعوة إلى حفل كبير للطعام، وكان حريصاً ألا يكون بينهم واحداً من أنبياء الله،.. أو كما فعل محمد على عندما أراد الفتك بالمماليك. إذ دعاهم إلى حفل كبير تختلط فيه لحومهم باللحم الوافر الشهي الذي أعده لها!!.. كما أن رحبعام لم يكن في حاجة إلى أن يثير الشعب، حتى بعد ذلك بالقول القاسي الذي قاله لهم، قبل أن يرتب أمره ويدبر خطته، ويعد جيشه لقمع الثورة في حال نشوبها،... وليس أدل على ذلك من عجزه في التصرف ومواجهة الثورة عند قيامها، إذ يرسل أدورام القائم على التسخير، ليزيد من انفعال الشعب الذي قام برجمه، وكان موشكاً أن يفتك بالملك نفسه، لولا أنه أسرع في مركبته هارباً إلى أورشليم، كان الملك في الواقع غراً أحمق، أقدر على الكلام منه على التصرف والفعل!!.. ومن المؤسف أن رحبعام لم يكن له من العقارب إلا عقرباً واحدة أطلت من لسانه، وويل للإنسان الذي يتحول لسانه عقرباً،.. لقد صور لهم أنه يملك قدرة محزة تعسة، قدرة العنف والقسوة، ولا يمكن أن تقارن هنا قدرة أبيه بقدرته، إذ أن أباه يبدو من هذا القبيل أصغر وأضأل، إذ أن خنصره أغلظ من متني أبيه، وإذا كان أبوه قد أدبهم بالسياط، فسيؤدبهم هو بما هو أقسى وأشر، إذ سيستعمل آلة تسمى بالعقرب، وهي عبارة عن سوط بعدة أطراف، وفي كل طرف قطعة من الحديد أو الرصاص، وعندما يضرب بها شخص يناله من الأذى كما لو أن عقرباً قد لدغته!!.. ما أبعد الفرق بين الكلمة الآسرة، واللفظ القاسي، ومن أجمل ما يتمتع به الإنسان، ضبط النفس، وحلاوة اللفظ، ولقد قيل أن قيصر لم يكن قائداً مغواراً فقط، بل كان ذا لسان حلواً آسر رقيق، وفي ذلك قالوا عنه: لقد كسب قيصر صداقة الكثير من الناس في روما بفصاحته في الدفاع عن قضاياهم، وقد أحبه الناس للطريقة التي كان يتحدث بها إلى كل إنسان.. كما قالوا أنه ذهب مرة إلى ضيافة صديق من أصدقائه، وأخطأ الخدم فوضوعوا في طبق السلطة زيتاً من زيوت الشعر بدلاً من الزيت العادي الذي يستعمل في الطعام، فأكل قيصر دون تأفف، ودون أن يكشف الأمر أمام صديقه مراعاة لعواطفه وشعوره!!... رحبعام ونهايته:- كانت نهاية رحبعام معلومة من البداءة، ولكن الله مع ذلك أعطاه أكثر من فرصة... لقد أعانه الله في السنوات الثلاث الأولى من حكمه فبنى مدناً وحصنها، وجاءه الكثيرون من الكهنة واللاويين الذين هربوا من يربعام، وما من شك بأن مجيئهم كان يحمل بركات مضاعفة لمملكة يهوذا، وكان للملك أن يبارك الله لأجل تحسن الظروف التي أحاطت به، لكنه للأسف، حدث العكس، إذ يقول الكتاب: "ولما تثبتت مملكة رحبعام وتشددت ترك شريعة الرب هو وكل إسرائيل معه".. وهذا ما يحدث -للأسف- مع الكثيرين إذ يتمسكون بالله إلى أن تضحى ظروفهم أكثر توفيقاً ويسراً، وعندئذ يتركونه!!.. وقد توالت عليه الكوارث فيما بعد، على قول النبي إرميا "أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون.. الحائدون عني في التراب يكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية!!".. وهل لنا بعد ذلك أن يمتد بنا القول: "اشفني يا رب فأشفى، خلصني فأخلص لأنك أنت تسبيحتي؟
المزيد
11 يونيو 2021

شخصيات الكتاب المقدس جدعون

"الرب معك يا جبار البأس" قض 6: 12 مقدمة ما أوسع الفرق بين نابليون وجدعون، وبين تكتيك المدفعية الثقيلة وتكتيك الجرار الفارغة. كان نابليون في الحرب لا يؤمن بالله، ويقول ساخراً إن الله مع المدفعية الثقيلة، وكان يؤمن بثلاثة عناصر يقوم عليها النجاح في الحرب: عدد الجنود، والتسلح الجيد، وعبقرية القيادة. ومن العجيب أن الثلاثة توفرت له، ومع ذلك هزم هزيمة منكرة، فقد قاد حملته إلى روسيا، وكان تكتيك الروس الانسحاب أمامه وحرق المدن بكاملها حتى لا يجد ملجأ أو طعاماً، وذهب بنصف مليون جندي، وعاد ببضعة آلاف، قد لا تصل إلى الخمسين ألفاً، وعندما سئل عن سر الهزيمة قال: لقد هزمني الچنرال يناير، ويقصد بذلك الشتاء الروسي، وفي آخر معاركه ووترلو، وفي شهادة واحد من كبار العسكريين أنه وفقاً للحساب البشري والتخطيط العسكري، كان أوفر حظاً من ولنجنتون، وعندما سئل: ومن الذي هزمه إذاً؟.. أجاب! الله هزم نابليون رغم عبقريته العسكرية، أو مدفعيته الثقيلة،لم يعرف جدعون العدد الكثير فقد أمره الله ألا يبقى من جيش قوامه اثنان وثلاثون ألفاً وثلاثمائة من الجنود، وألا يحمل معه سيفاً واحداً، وأن يتسلح بثلاثمائة من الجرار الفارغة، وثلاثمائة من الأبواق، وثلاثمائة مصباح، وكان تكتيكه العسكري، أن يضرب الجنود بالأبواق، وأن يكسروا الجرار، وأن يرفعوا المصابيح في أيديهم، وذلك في أول الهزيع الأوسط، عندما كان جنود الأعداء غارقين في النوم العميق قبيل منتصف الليل بقليل،.. وعندما نسأل بعد ذلك، ومن الذي هزم المديانيين إذاً؟ لا نجد سوى الجواب الوحيد: الله هزم المديانيين، ويهزم في كل جيل وعصر الطغاة مهما كان عددهم ومهما كانت أسلحتهم. إن قصة جدعون من أمتع وأصدق القصص التي يجمل أن نضعها أمام أنظارنا، ونحن نخوض حرب الحياة، ومعارك الأيام!!.. جدعون والقوى الداخلية الكامنة فيه هل رأيت جدعون عندما باغته ملاك الرب، وقال له الرب معك يا جبار البأس؟، كان جدعون في ذلك في الحضيض نفسياً، في أسوأ حالة يمكن أن يكون عليها الإنسان، وجهه مملوء بالتراب، وعيناه لا تكادان تقويان على النظر، جلس الملاك أمامه تحت البطمة، وهو عاجز عن رؤياه، والأعجب أن الملاك مع هذا كله يناديه قائلاً: الرب معك يا جبار البأس، وهي في نظره سخرية ما بعدها سخرية، كيف يمكن أن يكون جباراً، وهو الخائف من المديانيين والذي يخبط الحنطة في المعصرة ليهربها من المديانيين، ويكاد يخاف من ظله هو؟.. ولكن الملاك مع ذلك يرى فيه رجلاً جبار بأس، وأن هناك قوى هاجعة في داخله توشك أن تستيقظ، وتوشك أن يكشفها الله له!!.. هل حقاً ما قاله أحدهم: إن الناس أربعة.. رجل يجهل، ويجهل أنه يجهل، ذلك مدع أتركه.. ورجل يجهل ويعلم أنه يجهل، ذلك بسيط علمه،.. ورجل يعلم، ويجهل أنه يعلم ذلك نائم أيقظه،.. ورجل يعلم، ويعلم أنه يعلم، ذلك معلم اتبعه!!.. كان جدعون الجبار النائم الذي جاء الله ليرفع عنه التراب الذي يعفر وجهه، ويخرجه من المعصرة التي اختبأ فيها، ومن الظلام الذي حاول أن يتدثر به!!.. ومن الندم الذي وصل إليه حتى عجز عن أن يدرك جبروته الصحيح! الجبار الصريح وكانت هذه سمة من أفضل سمات الرجل، إنه ذلك الإنسان الصريح الذي لا يخبئ في أعماقه شيئاً يداور به الواقع الذي يعيشه،.. قال له الغريب: الرب معك،.. وكان الجواب: لا يا سيدي، إنني لا أستطيع أن أصدق هذه الحقيقة، وذلك لأن الرب الذي تذكره لي، يختلف تماماً عن الذي حدثنا به آباؤنا: "وإذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا، قائلين: ألم يصعدنا الرب من مصر والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان".. هذا رجل صريح لا يداور الحقيقة التي يلمسها بيديه، وهو يطرحها أمام الغريب الذي يتحدث معه دون سابق معرفة،.. ساوره الشك، وهو من أخلص الناس في شكوكهم، وهو يطرح تجاربه الذهنية دون لف أو دوران أمام ملاك الرب وهو لا يعلم، وما أجمل أن يكون الإنسان صريحاً، شفافاً كالبلور، أمام الله، يعكس الظلال التي تقع عليها دون أن يغطيها أو يداريها، وهذا أعظم وأجدى أمام السيد، من التكلف والتصنع والمداورة،.. فمن الناس من يملأ قلبه التذمر، وهو يدعى الشكر، أو يمتليء بالغيظ وهو يدعي الرضا!!.. جيد عند الرب أن تتحدث بشكوكك ومتاعبك ومخاوفك وضيقك، ولن يضيق الرب بهذا الإحساس ما دمت صادقاً مخلصاً أميناً. إن صفحات الكتاب ممتلئة بهذه الحقيقة من أناس جابهوا الله بما يعتمد في صدرهم بدون مواراة،.. وهل رأيت أجرأ من يقول لله مع موسى محتجاً، وهو يرى أن مقابلته لفرعون، لم تخرج الشعب، بل زادت الطينة بلة، أو زاد الثقل عليهم: "فرجع موسى إلى الرب وقال يا سيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب لماذا أرسلتني لأنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب وأنت لم تخلص شعبك"؟؟ وهل وقفت مع إيليا وهو يصرخ لله ويقول: "أيها الرب إلهي أأيضاً إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها؟؟".وهل سمعت آساف وهو يكاد يترك الدين: "حقاً قد زكيت قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يدي وكنت مصاباً اليوم كله وتأدبت كل صباح؟؟" وهل ذكرت أرميا وقد ناله الجهد والتعب، إلى درجة التصميم أن لا يذكر اسم الرب بعد: "فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع؟؟" وهل أدركت حبقوق وهو يبدأ سفره: "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص؟؟" وهل تابعت المعمدان وهو يرسل تلميذيه إلى السيد قائلاً: "أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟؟".. هؤلاء جميعاً كانوا على لظى الشكوك، ولكنهم كشفوا أعمال نفوسهم لله، ولم يضق الله بشكهم، إذ كانوا أمناء صادقين دون خداع أو ختال أو رياء!! إن هناك فرقاً بين شك وشك،.. هناك من يشك كجدعون، دون أن تكون له الرغبة في التمسك بالشك أو الإبقاء عليه، على العكس ممن يشك وهو مصر على عدم التحول عن هذا الشك، مهما كانت البراهين واضحة أمامه،.. قيل عن الواعظ العظيم فردريك روبرتسن أنه عاش سنوات متعددة في صراع مع الشك، كان أميناً في بسط هذا الشك أمام الله، ولم تضعف الوساوس خدمته على الإطلاق، حتى انتصر في معركة الشك، وخرج إلى إيمانه العظيم بالله،.. قيل عن اثنين من اسكتلندا كان أحدهما شاباً والآخر عجوزاً: كان الشاب مهما تلونت الظروف معه، يؤمن بأنه يسير إلى جوار الله، وكان يتكلم على الطريق معه، كما يكلم الإنسان صاحبه الذي يتمشى معه، وكان الآخر عجوزاً، مرض وطال مرضه، وكان يضع إلى جواره كرسياً يطلق عليه كرسي الله، وقد رأوه في لحظة الموت، وقد مد يده إلى الكرسي، وعلق أحدهم بالقول هل كان الكرسي خالياً؟!!. كن صريحاً أبلغ الصراحة مع الله، ما دمت مؤمناً يملؤك الإخلاص الذي يعلم الله!!.. الجبار الوديع لم يكن وديعاً فحسب، بل كان رائعاً في وداعته،.. يقول له الملاك: "اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان ؛ أما أرسلتك؟! فقال له أسألك يا سيدي بماذا أخلص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي".. هل وقفت أمام الجبار الذي يقول: "أنا الأصغر؟؟، وهل وقفت أمام سر من أعظم الأسرار في حياة الأبطال الناجحين الذي يرون نفوسهم على حقيقتها ويقولون: "أنا الأصغر؟؟.. هل علمت لماذا ترك بولس اسمه القديم "شاول"، وعرفه العالم باسم بولس الذي يعني "صغير" لأنه أدرك هذه الحقيقة، إنه يبدأ ويعيش وينتهي تحت إحساس الإنسان الصغير، مهما فعل في هذه الدنيا،.. بل هل نعلم بأنه نافس جدعون منافسة قوية في التعبير "الأصغر" فعندما وازن بين نفسه والرسل قال: "وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله"؟؟ على أنه في الموازنة أكثر من ذلك مع القديسين قال: "لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى" لم يضع بولس مجرد الموازنة مع الرسل ليرى نفسه أصغرهم، بل مع جميع القديسين ليقول أنا الأصغر!! هل الإحساس بالأصغر هو المغالاة في التعبير عند جدعون أو بولس أو من على شاكلتهما من العظماء؟ أو هو الاكتشاف الصحيح الذي ينبغي أن يكتشفه جبابرة الأرض أمام السيد: "الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن الذي يجعل العظماء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل".. وهل يزيد الإنسان أمام الله مهما كانت عظمته عن الجندب أو الجراد؟؟ وما الفرق بين جرادة وجرادة؟؟ لو أنك رأيت نملاً يندفع في خط طويل أمامك، ما الفرق بين نملة وأخرى؟؟ إذا رأيت عشباً هنا أو عشباً هناك، ما الفرق بين هذا وذاك؟؟ والإنسان عشب: "كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل يبس العشب ذبل الزهر لأن نفخة الرب هبت عليه حقاً الشعب عشب يبس الشعب ذبل الزهر وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد".. عندما اعتلت الملكة ولهلمينا عرش هولندا، علمتها أمها دائماً أن تكون متواضعة صغيرة،.. ذات مرة طرقت غرفة أمها، وعندما صاحت الأم: من بالخارج؟؟ جاء الجواب: ملكة هولندا.. أريد الدخول،.. ولم يكن من مجيب!!.. وعادت الابنة تطرق.. وكان السؤال من بالخارج؟.. وجاء الجواب: ولهلمينا هولندا؟!!.. ولم يكن من مجيب، ثم طرقت الابنة مرة ثالثة: وإذا بالسؤال: من بالخارج؟.. وكان الجواب ابنتك الصغيرة وعندئذ قالت الأم: ادخلي!!.كان لورد كلفن من أعظم علماء علم الأحياء، وكانوا يسألونه عما فعل وأنجز.. فيأتي الجواب: لا شيء وحياتي فاشلة!!.. وعندما انتصر إبراهام لنكولن على منافسه، وأصبح رئيساً للولايات المتحدة.. قال: في الحقيقة أنا لا أصلح أن أكون رئيس الولايات المتحدة.. وطالما سمع الناس أينشتين العظيم يقول: إن سر ما وصل إليه يرجع إلى العديد من تلاميذه المجهولين غير المعروفين!!.. لقد بلغ جدعون السر الذي قال عنه المسيح لتلاميذه بعد قرون طويلة، وهو يقيم ولداً صغيراً في الوسط، إذ رآهم يتشاجرون عمن يكون الأعظم،.. وقال: "لأن الأصغر فيكم جميعاً هو يكون عظيماً".. الجبار المناضل عندما جاءه الملاك، لم يجده مسترخياً في مكانه، أو نائماً في سريره بل جاءه في الوقت الذي كان فيه يخبط الحنطة، ويبدو أنها كانت كمية قليلة لا تحتاج إلى نورج، أو أنه لا يجد النورج بسهولة، فهو يقوم بالعمل مهما كلفه من جهد وتعب، كان الرجل بطبيعته مناضلاً متحركاً، وهو لهذا من النوع المحبوب لدى الله،.. إن الله لا يهتم بنوع العمل الذي تقوم به، ومقدار ما فيه من عظمة وجلال ومجد، بل يهمه أولاً وأخيراً أن تقوم بالعمل بأمانة وجد وإخلاص، مهما بدا العمل صغيراً أو حقيراً.. عندما طلب الله موسى، طلبه وهو يرعى أغنام حميه في مديان، وعندما طلبه داود كان داود وراء الأغنام في بيت لحم، وعندما وجد جدعون وجده وهو يخبط الحنطة،.. قم بعملك مهما كان صغيراً، ولا تنتظر مؤجلاً العمل حتى تصل إلى ظروف أسمى وأفضل، إن الله يأتي إليك حتى ولو كنت وراء قليل من الحنطة، تعمل في معصرة دون أن ينتبه إليك أحد. قيل عن رجل حكم عليه بالسجن مدى الحياة، وكان الرجل يهوى الموسيقى ولم يقل الرجل أن لا أمل في الخروج، بل كان في السجن يلحن ويدرس الموسيقى حتى أصبح من أعظم رجال الموسيقى في عصره، وخرج من السجن بالعفو ليجد نفسه يسمع الدنيا بأكملها موسيقاه،.. قد تكون سجين ظروف قاسية في سجن الفقر، أو الاضطهاد، أو المرض، أو التعب، أو العزلة، اعمل دون أن تستهين يوماً بالأمور الصغيرة، فإن أعظم أعمال الدنيا جاءت من أناس بدئوا صغاراً وعملوا!!.. جدعون والخطية المانعة كان السؤال الذي وضعه جدعون أمام الملاك: هل تغير الله؟. ولماذا لا تظهر عجائبه التي سمعها من آبائه وأجداده؟؟ وكان عليه أن يعلم أن الله ليس عنده تغيير أو ظل دوران،.. وأن البشر هم الذين يتغيرون، ويكفي أن يلقى جدعون أقرب نظرة إليه، في بيته وعند أبيه ليرى كم كان التغيير مخيفاً ومؤلماً وبشعاً،.. لقد تفشت الوثنية في الشعب إلى درجة أن أباه أقام مذبحاً للبعل، ويعتقد البعض أن هذا المذبح كان لأبيه خاصة، ويرى آخرون بأنه كان لأبيه وللمدينة كلها، وما من شك بأن الله ضاق بهذا التحول عنه، وسلم الشعب للأعداء، وكان لا يمكن أن ينقذهم قبل أن يطهرهم من الفساد الذي وصلوا إليه، وهذا التطهير له الجانب السلبي في هدم مذبح البعل، والجانب الإيجابي في بناء مذبح الرب على رأس الحصن ليبقى مرتفعاً ومنظوراً من الجميع، وهناك تساؤل: هل قدم جدعون العجلين ذبيحة أو العجل الواحد؟؟ وأغلب الظن أنه قدم عن نفسه عجل أبيه، لكن الأهم كان العجل ابن السبع سنين، وهي سنو الفساد والاستعباد التي أدخلها المديانيون إلى حياتهم، وكانت الذبيحة هنا إشارة لهدم كل رابطة تربطهم بالوثنية السوداء التي عاشوا فيها!! عندما دخلت الخطية حياة الشعب دخل الخراب، فقد استولى المديانيون على كل شيء، وكانوا أشبه بالجراد الذي يأكل كل شيء ولا يترك وراءه إلا أرضاً جرداء بدون ثمر أو طعام. ودخل الحزن، وكثرت الضحايا، وسقط الشباب كالأعواد الزاهرة الذاوية، وقتل ذبح وصلمناع سبعين رجلاً هم إخوة جدعون الأشقاء، ودخل الفزع ليصنع فعله القاسي في حياة الناس، إذ لم يعد هناك أمان أو اطمئنان. وعندما جاء الملاك كان جدعون يخبط حنطته في خوف ورعب ليهرب بها من المديانيين.. وكان على جدعون قبل أن يحتج أو يصنع شيئاً أن يقول ما قاله إرميا في مراثيه فيما بعد: "لماذا يشتكي الإنسان الحي الرجل من قصاص خطاياه لنفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع إلى الرب"..!! جدعون والإيمان المسترد كان العنصر الأساسي في حياة جدعون أن يتخلص من كل شك، وبعد أن يطهر نفسه والشعب يسترد إيمانه العظيم بالله، الإيمان الذي صنع العجائب العظيمة مع آبائه، ويمكن أن يصنعها أيضاً معه،.. وقبل الله ذبيحته الأولى، وقبل أن يعطيه البرهان في الجزة مرتين، مرة تمتليء بالطل والأرض جافة، والثانية عندما تجف والأرض كلها ممتلئة بالطل،.. وزاد الله بأن أسمعه حلم المدياني الذي تحدث عن رغيف الخبز من الشعير الذي قلب خيمته، والذي فسره الآخر بأنه سيف جدعون بن يوآش رجل إسرائيل كان بسكال الفيلسوف معجباً إلى الحد الكبير بجدعون بن يوآش، وهو صاحب ذلك الخيال الطريف، والذي ذكر فيه أن أم جدعون أخذت جزة ابنها، وصنعت منها صديرياً يلبسه على صدره كل حين، ويذكره على الدوام بإيمانه بالله، كلما تعرض هذا الإيمان لهزة من الهزات، وسار جدعون بإيمانه ليدخل ركب التاريخ وصفوف الأبطال، ويكتب اسمه في الرسالة إلى العبرانيين قبل أن يعوز الوقت الكاتب الذي جعله يمر بالكثيرين دون أن يذكر أسماءهم وأفعالهم العظيمة!! كان الفرق بين إيمان جدعون الأول وإيمانه الثاني: إن الإيمان الأول كان إيماناً إخبارياً نقل إليه من الكثيرين عما فعل الرب مع آبائه وأجداده في القديم، أما الإيمان الثاني، فهو الإيمان الاختباري الذي فيه تلاقى مباشرة مع الله واختبره، وهناك فرق عظيم، بين مجرد السمع، وبين الاختبار الفعلي، وبين أثر هذا وذاك في حياة الناس، ويكفي أن نرى الفرق بين إيمان أهل سوخار بسبب ما قالت المرأة السامرية لهم، وإيمانهم المباشر بعد لقاء المسيح المبارك معهم: "فأمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة التي تشهد أنه قال لي كل ما فعلت، فلما جاء إليه السامريون سألوه أن يمكث عندهم فمكث هناك يومين فآمن به أكثر جداً بسبب كلامه وقالوا للمرأة إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم. جدعون والمعركة الناجحة ومع أن معركة جدعون كانت من أغرب المعارك التاريخية على وجه الأرض، إلا أنه يمكن أن نلاحظ عليها ما يلي:- استراتيچية القائد الأعلى كان على الجنود أن يصرخوا "سيف للرب ولجدعون".. ولئن كان جدعون هو الأداة البشرية فإن الله هو القائد الأعلى، وهذا القائد لا يسير بمنطق الناس أو حكمتهم أو فهمهم البشري، بل إنه على العكس يقلب كل شيء ويجعله مضاداً للفكر البشري، والسر في ذلك كما قال هو: "لئلا يفتخر على إسرائيل قائلاً يدي خلصتني". ومن ثم فقد تقدم للحرب اثنان وثلاثون ألفاً، فوصل بهم الله إلى ثلاثمائة جندي، وحتى يقطع الطريق تماماً على كل ادعاء بشري، جرد الثلاثمائة جندي من كل سلاح يستخدم في المعارك ومن العجيب أن هذه استراتيچيته الثابتة في كل معارك الحياة، كلما أراد أن يصنع المعجزات، ويغير التاريخ، ويكفي أن نرى في كل العصور: "فانظروا دعوتكم أيها الإخوة أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد ليس كثيرون أقوياء ليس كثيرون شرفاء بل اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء، وأختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه".. وهو إلى جانب هذا يرفض الأسلحة البشرية التقليدية،.. هل قرأت ذلك الخيال الطريف الذي تصوره أحدهم، إن المسيح في عودته إلى السماء، استقبلته الملائكة، وقال لقد أتممت الرسالة وتركتها وديعة في يد الذين سينشرونها في الأرض؟؟ وسأل الملائكة: هل هم فلاسفة الأرض، وقال المسيح: كلا.. هل هم أغنياء الأرض.. وأجاب: كلا.. هل هم مجموعة من الجيوش الزاحفة في الأرض.. وقال المسيح: إنهم جماعة من الصيادين الفقراء الذين لا يملكون شيئاً، وإنما يحملون اسمي معهم في كل مكان!!.. أن أنظار الأصدقاء والأعداء تتجه في معركة جدعون إلى الله وإلى الله وحده!!.. استراتيچية الجندي الناجح عندما صرخ الجنود، كانت صرختهم: "سيف للرب ولجدعون" ومع أن جدعون يستوي والعدم بالنسبة للمعركة، لكن وجوده ووجود جنوده أمر أساسي وجوهري في النصر، وبكل إجلال واحترام لله، نقول: إنه لا يصنع شيئاً في الأرض إلا إذا استخدم الأداة البشرية، لكن السؤال يأتي: من هم الذين يستخدمهم الله؟؟.. إن الله هنا يهتم بالنوع أكثر من العدد، لقد أعاد من المعركة الخائفين الذين ليس لهم قوة الإيمان وجسارته، وأدخل البقية الأخرى في الامتحان عند شرب الماء فالذي جثا على ركبتيه للشرب كان في جانب، والذي ولغ بيده كما يلغ الكلب كان في جانب آخر، وكان العدد الأخير ثلاثمائة، هم الذي دخلوا المعركة، أما الآخرون فسرحوا، ويعتقد كثيرون أنهم سرحوا لأن الانبطاح على الوجه، كان عادة الذين تعودوا الانبطاح أمام البعل في العادة، وهؤلاء مرفوضون أي لأنهم كانوا في السهل، وأعداؤهم كانوا في أعلى الجبل ويسهل أن يهاجموهم وهم على هذا الوضع، ولا يجوز لإنسان أن يدخل المعركة، ثم ينبطح على وجهه، أو لأنهم يريدون أن يشربوا ملء بطونهم، وليس لهم حركة الآخرين، وتأهبهم، الذين يرون فقط ظمأهم وهم مثل آبائهم الذين خرجوا من مصر وأحقاؤهم مشدودة، والأحذية في أرجلهم، لأنهم على استعداد للحركة السريعة!!.. أياً كان الفكر، فمما لا شك فيه أن "النوع" في الثلاثمائة هو الأفضل والأنشط والأكثر استعداداً وتأهباً للقتال!!من طريف ما يذكر أن أحد رجال الله قال لزميله الذي سأله عن الأحوال وأجاب الآخر: رائعة إذ أن الكنيسة في نهضة عظيمة، لقد شطبنا من عضويتها خمسين عضواً،.. وكانت هذه حقاً نهضة عظيمة، إذ أن الله يسر بالنوع أكثر من الكم، والثلاثمائة بغيرتهم وحركتهم وجسارتهم أفضل من ثلاثين ألفا أو يزيد من الخائفين أو الكسلة، أو المترددين أو المنبطحين على وجوههم!!.. استراتيچية الوسيلة البارعة باغت جدعون الأعداء عندما تثقل نومهم في أول الهزيع الأوسط الذي يبدأ حسب النظام اليهودي من الساعة العاشرة إلى الثانية صباحاً، وطوقهم من ثلاث جهات، وهم يستيقظون على فرقعة الجرار المكسورة والأنوار المرتفعة، والأبواق الضاربة، فلا يعتقدون أن المهاجمين هم ثلاثمائة جندي بغير سلاح، بل هم جيوش جرارة تطوقهم من ثلاث جهات، وفي الفزع والرعب لا يعرف العدو من الصديق، وإذا بهم كل واحد يقتل جاره، لم يقاتل جدعون أجساد أعدائه، بل قاتل أذهانهم، وساعد بعضهم على إهلاك بعض!! وفي المعارك الروحية، نحن لسنا إلا جراراً فارغة يستخدمها الله أفضل استخدام، رغم تصدعها وضعفها، ولا قدرة لنا إلا أن نرفع أمام العالم الغارق في الظلام مشاعل النور والحق والخير والسلام،.. وليس لنا من سلاح إلا كلمة الله نبوق بها للناس، فإذا بعالم الخطية والفساد والشر يسقط تحت أقدامنا أسرع من البرق!! ترى هل نستطيع أن نستعيد الوسيلة القديمة البارعة، فلا نرى نفوسنا في معارك الحياة، سوى جرار فارغة تحمل مشعل النور العظيم للعالم، وبوق الكلمة الإلهية كصوت صارخ في البرية؟!! جدعون والتجربة الزاحفة وهذا آخر ما تنتهي به في قصة الرجل، لقد واجهته التجربة في قمة انتصاره فرفضها عندما طلب منه أن يكون ملكاً على الشعب، زمجرت التجربة في وجهه، ولكنه أبى أن يأخذ مكان الله وقال: "لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني، الرب يتسلط عليكم".. وتركه الشيطان إلى حين، ليداوره مرة أخرى، ولكن بأسلوب آخر لا كملك بل ككاهن، فصنع أفوداً وابتعد عن شيلوه، وكان ذلك فخاً له ولبيته ولشعب الله،.. إن جدعون يذكرنا على الدوام، بأنه لا يوجد فينا إنسان محصن ضد التجربة وأنه في الصغر والصبا والشباب والشيخوخة، نحن في حاجة إلى أن نصرخ: "اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري وانظر إن كان في طريق باطل واهدني طريقاً أبدياً"هل صرخ جدعون هذه الصرخة أو مثلها؟؟.. وهل تاب عنها؟؟.. نحن نشكر الله الذي لم يحرمنا من الرجاء فيه أو في شمشون من بعده، عندما نقرأ الكلمات الإلهية ونراه من أبطال الإيمان في الرسالة إلى العبرانيين القائلة: "وماذا أقول أيضاً لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون وباراق وشمشمون ويفتاح وداود وصموئيل والأنبياء!!..".. شكراً لأجل النعمة التي أنقذت جدعون.. وأنقذت شمشون أيضاً!!..
المزيد
22 أغسطس 2019

صعود جسد القديسة مريم العذراء

في مثل هذا اليوم كان صعود جسد سيدتنا الطاهرة مريم والدة الإله فأنها بينما كانت ملازمة الصلاة في القبر المقدس ومنتظرة ذلك الوقت السعيد الذي فيه تنطلق من رباطات الجسد أعلمها الروح القدس بانتقالها سريعا من هذا العالم الزائل ولما دنا الوقت حضر التلاميذ وعذارى جبل الزيتون وكانت السيدة مضطجعة علي سريرها . وإذا بالسيد المسيح قد حضر إليها وحوله ألوف ألوف من الملائكة . فعزاها وأعلمها بسعادتها الدائمة المعدة لها فسرت بذلك ومدت يدها وباركت التلاميذ والعذارى ثم أسلمت روحها الطاهرة بيد ابنها وألهها يسوع المسيح فأصعدها إلى المساكن العلوية آما الجسد الطاهر فكفنوه وحملوه إلى الجسمانية وفيما هم ذاهبون به خرج بعض اليهود في وجه التلاميذ لمنع دفنه وأمسك أحدهم بالتابوت فانفصلت يداه من جسمه وبقيتا معلقتين حتى آمن وندم علي سوء فعله وبصلوات التلاميذ القديسين عادت يداه إلى جسمه كما كانتا . ولم يكن توما الرسول حاضرا وقت نياحتها ، واتفق حضوره عند دفنها فرأي جسدها الطاهر مع الملائكة صاعدين به فقال له أحدهم : " أسرع وقبل جسد الطاهرة القديسة مريم " فأسرع وقبله . وعند حضوره إلى التلاميذ أعلموه بنياحتها فقال : " أنا لا أصدق حتى أعاين جسدها فأنتم تعرفون كيف أني شككت في قيامة السيد المسيح " . فمضوا معه إلى القبر وكشفوا عن الجسد فلم يجدوه فدهش الكل وتعجبوا فعرفهم توما الرسول كيف أنه شاهد الجسد الطاهر مع الملائكة صاعدين به . وقال لهم الروح القدس : " ان الرب لم يشأ ان يبقي جسدها في الأرض " وكان الرب قد وعد رسله الأطهار ان يريها لهم في الجسد مرة أخري فكانوا منتظرين إتمام ذلك الوعد الصادق حتى اليوم السادس عشر من شهر مسرى حيث تم الوعد لهم برؤيتها وهي جالسة عن يمين ابنها وإلهها وحولها طغمات الملائكة وتمت بذلك نبوة داود القائلة : " قامت الملكة عن يمين الملك " وكانت سنو حياتها علي الأرض ستين سنة . جازت منها اثنتي عشرة سنة في الهيكل وثلاثين سنة في بيت القديس يوسف البار . وأربع عشرة سنة عند القديس يوحنا الإنجيلي ، كوصية الرب القائل له : " هذا ابنك " وليوحنا : " هذه أمك " شفاعتها تكون معنا . آمين
المزيد
29 يناير 2019

القديس الأنبا أنطونيوس كوكب البرية وأب الرهبان

نشأته: من أهل الصعيد من جنس الأقباط، وسيرته عجيبة طويلة اذا استوفيناها شرحاَ.. وإنما نذكر اليسير من فضائله: انه لما توفي والده دخل إليه وتأمل وبعد تفكير عميق قال: تبارك اسم الله: أليست هذه الجثة كاملة ولم يتغير منها شئ البتة سوي توقف هذا النفس الضعيف. فأين هي همتك وعزيمتك وأمرك وسطوتك العظيمة وجمعك للمال. أني آري الجميع قد بطل وتركته.. فيا لهذه الحسرة العظيمة والخسارة الجسيمة. ثم نظر إلي والده الميت وقال: أن كنت قد خرجت أنت بغير اختيارك فلا أعجبن من ذلك، بل أعجب أنا من نفسي أن عملت كعملك. اعتزاله العالم: ثم أنه بهذه الفكرة الواحدة الصغيرة ترك والده بغير دفن[1]. كما ترك كل ما خلفه له من مال وأملاك وحشم، وخرج هائما علي وجهه قائلاً: ها أنا أخرج من الدنيا طائعاً كيلا يخرجوني مثل أبي كارهاً. توغله في الصحراء: لم يزل سائراً حتى وصل إلي شاطئ النهر حيث وجد هناك جميزة كبيرة فسكن هناك، ولازم النسك العظيم والصوم الطويل. وكان بالقرب من هذا الموضع قوم من العرب، فاتفق يوم من الأيام أن أمرآة من العرب نزلت مع جواريها إلي النهر لتغسل رجليها ورفعت ثيابها وجواريها كذلك، فلما رأي القديس أنطونيوس ذلك حول نظره عنهن وقتاً ما ظناً منه أنهن يمضين. لكنهن بدأن في الاستحمام في النهر! فما كان من القديس إلا أن قال لها: يا أمرآة: أما تستحين مني وأنا رجل راهب؟ أما هي فأجابت قائلة له: أصمت يا إنسان. من أين لك أن تدعو نفسك راهباً؟ لو كنت راهباً لسكنت البرية الداخلية لأن هذا المكان لا يصلح لسكنى الرهبان[2]. فلما سمع أنطونيوس هذا الكلام لم يرد عليها جواباً. وكثر تعجبه لأنه لم يكن في ذلك الوقت قد شهد راهبا ولا عرف الاسم[3]. فقال في نفسه ليس هذا الكلام. من هذه المرأة، لكنه صوت ملاك الرب يوبخني. وللوقت ترك الموضع وهرب إلي البرية الداخلية وأقام بها متوحداً. لأنه ما كان في هذا الموضع أحد غيره في ذلك الوقت. وكان سكناه في قرية قديمة كائنة في جبل العربة، صلاته تكون معنا أمين. ملاك يسلمه الزى: وكان يوماً جالساً في قلايته، فأتت عليه بغتة روح صغر نفس وملل وحيرة عظيمة، وضاق صدره فبدأ يشكو إلي الله ويقول: يارب أني أحب أن أخلص، ولكن الأفكار لا تتركني فماذا أصنع؟ وقام من موضعه وإنتقل إلي مكان آخر وجلس. وإذا برجل جالس أمامه، عليه رداء طويل متوشح بزنار صليب مثال الأسكيم، وعلي رأسه (كوكلس) قلنسوة شبه الخوذه. وكان جالساً يضفر الخوص وإذ بذلك الرجل يتوقف عن عمله ويقف ليصلي، وبعد ذلك يجلس يضفر الخوص.ثم قام مرة ثانية ليصلي ثم جلس ليشتغل في ضفر الخوص وهكذا.. أما ذلك الرجل فقد كان ملاك الله الذي أرسل لعزاء القديس وتقويته إذ قال لأنطونيوس (أعمل هكذا وأنت تستريح). من ذلك الوقت اتخذ أنطونيوس لنفسه ذلك الزى الذي هو شكل الرهبنة وصار يصلي ثم يشتغل في ضفر الخوص: وبذلك لم يعد الملل يضايقه بشده. فاستراح بقوة الرب يسوع المسيح له المجد. صلاته: 1 – القديس بولا البسيط (تلميذ الأنبا أنطونيوس) أقام القديس أنطونيوس بالبرية الداخلية فوق مدينة أطفيح بديار مصر مدة ثلاثة أيام. وبني له قلاية صغيرة وهو قريب من وادي العربة. وكان في ذلك الوقت رجل علماني، شيخ كبير، يقال له بولا أعني بولس. وكان ساكناً في مدينة أطفيح. واتفق أن ماتت زوجته وتزوج امرأة صبية. وكان له خيرات وأموال كثيرة كان قد ورثها. فدخل يوماُ من الأيام إلي بيته، فوجد أحد خدامه علي السير مع زوجته فقال لزوجته مبارك لك فيه أيتها المرأة، ومبارك له فيك، إذ اخترتيه دوني. ثم أخذ بردته[4] عليه، ومضي هائماً علي وجهه في البرية الداخلية. وبقي محتاراً تائهاً زماناً طويلاً إلي أن اتفق أنه وقف علي قلاية القديس أنطونيوس، فقرع باب القلاية. فلما رآه القديس عجب منه غاية العجب، لأنه لم يكن بعد قد رأي إنساناً بهذه الصفة، فسلم علي القديس وسجد له علي الأرض بين يديه فأقامه القديس وعزاه وفرح به غاية الفرح. ثم جلس عند القديس أربعين يوماً ملازماً الزهد الكامل والوحدة الصعبة. فلما كمل له أربعون يوما ً، قال له القديس: يا بولس اذهب حافة الجبل وتوحد، وذق طعم الوحدة. فمضي بولس كما أمره وعمل له مثل مربط شاة. وفي غصون ذلك احضورا إلي القديس أنطونيوس رجلاً اعتراه روح من الجن. فلما نظره القديس عجب منه، ثم قال للذي أحضره: اذهب به إلي القديس بولس ليشفيه لأني عاجز عنه. وهذه هي أول تجاربه. فعملوا كما أمرهم القديس و أحضروه بين يدي القديس بولس. وقالوا له معلمك الأب أنطونيوس يأمرك أن تخرج هذا الشيطان من هذا الإنسان. وكان القديس بولس ساذجاً. فلوقته أخذ الرجل المريض وخرج إلي خارج الجبل وكان الحر شديداً، وكانت الشمس مثل وهج النار العظيم. فقال: يا شيطان استحلفك كما أمرني معلمي أنطونيوس أنت تخرج. واذ بدأ العدو الشيطان يتكلم علي لسان الإنسان المريض ويضحك ويشتم ويقول: من هو أنت ومن هو معلمك أنطونيوس المختال الكذاب. فقال له بولس: أنا أقول لك أيها الشيطان انك تخرج من هذا الإنسان وان لم تخرج أنا أعذب نفسي. ثم طلع القديس بولا علي حجر كان يتقد كأنه جمر نار وأخذ حجراً آخر علي رأسه[5] وقال: باسم الرب يسوع المسيح، وباسم صلوات معلمي مار أنطونيوس العظيم أني سأظل هكذا إلي أن أموت ولابد أن أعمل طاعة معلمي، وتخرج أيها الشيطان كما أمر معلمي. وبقي هكذا واقفاً والعرق يتصبب منه كأنه مطر ونبع (نزف) الدم من فمه وأنفه والناس حوله مندهشون. فلما رأي الشيطان ذلك صرخ بأعلى صوته وقال: العفو العفو! والهروب الهروب من شيخ يقسم علي الله بزكاوة قلبه. حقاً لقد أحرقتني بساطتك. ثم خرج من ذلك الانسان. وصرخ الشيطان أيضاً قائلاً: يا بولا لا تحسب أني خرجت من أجل دمك وخروجه (أي نزف دمه)، ولكن أحرقتني صلاة أنطونيوس وهو غائب. ولما سمع الحاضرون تعجبوا. بركة صلواتهم تحفظنا آمين. 2- قصة شفاء ابن ملك الإفرنج اخبروا عن القديس أنطونيوس أن ملك الافرنج كان له ولد، وكان وارثاً للملك بعده، فلحقه جنون وصرع، فجمع كل علماء بلاده فلم يقدر واحد أن يعينه أو يشفيه. ثم اتصل به خبر القديس أنطونيوس الصعيدي، فأرسل اليه رسله بهدايا جليلة، ولما وصلوا اليه لم يشأ أن يقبل شيئاً من الهدايا أو يفرح بالسمعة، وكان يكلمهم بترجمان. وقال لتلميذه: بماذا تشير علي يا ابني؟ هل أذهب أم أبقي؟ قال له: يا أبي ان جلست أنت أنطونيوس، وان ذهبت فأنت انطونه[6]. وكان التلميذ يحبه ولا يشتهي أن يفارقه. فقال له القديس: وأنا أريد أن أكون أنطونه. وفي تلك الليلة عمل صلاة في الدير وسار إلي بلاد الافرنج[7] وحملته سحابة بقوة الرب يسوع المسيح. ودخل إلي مدينة الملك وجلس علي باب دار الوزير كمثل راهب غريب. ولما عبر وزير الملك وكان الليل قد حل، أمره الوزير بالدخول إلي منزله. وبينما هم علي المائدة واذا بخنزيرة في بيت الوزير كان لها صغار عمياء وأحدها أعرج أحضرتهما وألقتهما بين يدي القديس الذي خاطب الوزير قائلاً: لئلا تظن أن الملك فقط يريد شفاء ابنه! ثم صلب علي أولاد الخنزيرة، وبصق علي أعين العمياء منها وأبراها، فدهش القوم جداً وصاروا كأنهم أموات، ووصل الخبر الي الملك فأحضروه للوقت وأبرأ ابنه وقال: أيها الملك بلغني أنك أرسلت الي أنطونه المصري وانفقت مالك وأتعبت رسلك ولأجل هذا أنفذني الله اليك. ثم ودعه وانصرف الي ديره. وفي اليوم الثاني تقابل معه رسل الملك وطلبوا منه الذهاب معهم لشفاء ابن الملك. فقال لهم اسبقوني وأنا أحضر خلفكم. فرجعوا واثقين بكلامه، وقاسوا في عودتهم شدائد كثيرة من تعب البحر وهول السفر وعند وصولهم سمعوا بشفاء ابن الملك وأن قديساً آخر قد أبراه. وهكذا قصد القديس أنطونيوس أن ينفي عن نفسه الفخر والعظمة. ولكن السيد المسيح لم يشأ أن يخفي فضائله وتحققت أخباره في بلاد الأفرنج. فتعجب الرسل جداً كيف حضر القديس من بلاده الي بلادهم في ليلة واحدة وتكلم بلسانهم. وفي اليوم الثاني كان عندهم. فمجدوا الله كثيرا.ً من سيرة حياته الرهبانية وقوانين نسكه (أ) شركته مع السمائيين: جاء بعض الأخوة يسألونه في سفر اللاويين فاتجه الشيخ علي الفور إلي الصحراء. أما أنبا آمون الذي كان يعرف عادته فتبعه سراً. وعندما وصل الشيخ الي مسافة بعيدة رفع صوته قائلاً (اللهم ارسل الي موسي يفسر لي معني هذه الآية). وفي الحال سمع صوت يتحدث اليه. قال أنبا آمون أنه سمع الصوت لكنه لم يفهم قوة الكلام. (ب) الكشف الروحي: + لما حضر أنبا ايلاريون من سورية الي جبل أنبا أنطونيوس قال له أنبا أنطونيوس: (هل حضرت أيها النجم المنير المشرق في الصباح؟). أجابه أنبا ايلاريون: (سلام لك يا عامود النور حامي الخليقة) + كانت طلعته مضيئة بنور الروح القدس تنم عن نعمة عظيمة وعجيبة. كان متميزاً في رصانة أخلاقه وطهارة نفسه وكان يستطيع أن يري ما يحدث علي مسافة بعيدة. فقد حدث مرة بينما كان القديس جالساً علي الجبل أنه تطلع الي فوق فرأي في الهواء روح المبارك آمون راهب نيتريا محمولة الي السماء بأيدي ملائكة وكان هنالك فرح عظيم. وكانت المسافة بين نيتريا الي الجبل الذي كان فيه أنطونيوس نحو سفر ثلاثة عشر يوما ً. ولما رأي رفقاء أنطونيوس أنه منذهل سألوه ليعرفوا السبب فأعلمهم أن آمون مات توا فسجلوا يوم الوفاة. ولما وصل الأخوة من نيتريا بعد ثلاثين يوماً سألوهم فعلموا أن آمون قد رقد في اليوم والساعة التي رأي فيها الشيخ روحه محمولة الي فوق. فتعجب هؤلاء وغيرهم من طهارة نفس أنطونيوس وكيف أنه علم في الحال ما حدث علي مسافة سفر ثلاثة عشر يوماً وأنه رأي الروح صاعدة. (جـ) افرازه: + قيل ان شيوخاً كانوا قاصدين الذهاب الي أنبا أنطونيوس، فضلوا الطريق، واذا انقطع رجاؤهم، جلسوا في الطريق من شدة التعب، واذا بشاب يخرج اليهم من صدر البرية، واتفق وقتئذ أن كانت هناك حمير وحش ترعي، فأشار اليهما الشاب بيده، فأقبلت نحوه، فأمرها قائلاً: (احملوا هؤلاء الي حيث يقيم أنطونيوس). فأطاعت حمير الوحش أمره، فلما وصلوا، أخبروا أنطونيوس بكل ما كان، أما هو فقال لهم: (هذا الراهب يشبه مركباً مملوءاً من خير، لكني لست أعلم، ان كان يصل إلي الميناء أم لا؟). وبعد زمان بينما كان القديس أنطونيوس جالساً في الصحراء مع الاخوة وقع فجـأة في دهشة، فرأوه يبكي وينتحب، يركع ويصلي وينتف شعره فقال له تلاميذه: (ماذا حدث أيها الأب) فقال لهم الشيخ: (عامود عظيم للكنيسة قد سقط في هذه الساعة، أعني ذلك الشاب الذي أطاعته حمير الوحش قد سقط من قانون حياته) وأرسل الشيخ اثنين من تلاميذه اليه. فلما رأي تلاميذ أنطونيوس بكي وناح وأهال تراباً علي رأسه وسقط أمامهم قائلاً: (اذهبوا قولوا لأنبا أنطونيوس أن يطلب الي الله، كي يمهلني عشرة أيام لعلي أتوب). لكنه قبل أن يتم خمسة أيام توفي ولم يمكث طويلاً ليقدم توبة عن خطيته[8]. + قال الأنبا أنطونيوس (إني أبصرت مصابيح من نار محيطة بالرهبان، وجماعة من الملائكة بأيديهم سيوف ملتهبة يحرسونهم، وسمعت صوت الله القدوس يقول: (لا تتركوهم ما داموا مستقيمي الطريقة)، فلما أبصرت هذا، تنهدت وقلت: (ويلك يا أنطونيوس، ان كان هذا العون محيطاً بالرهبان، والشياطين تقوي عليهم!) فجاءني صوت الرب قائلاً: (إن الشياطين لا تقوي علي أحد، لأني من حين تجسدت، سحقت قوتهم عن البشريين، ولكن كل إنسان يميل الي الشهوات ويتهاون بخلاصه، فشهوته هي التي تصرعه وتجعله يقع) فصحت قائلاً:(طوبي لجنس الناس وبخاصة الرهبان، لأن لنا سيداً هكذا رحيماً ومحباً للبشر). + ودفعة جاء شيخ كبير في زيارة للأنبا أنطونيوس في البرية وهو راكب حمار وحش، فلما رآه الشيخ قال (هذا سفر عظيم، ولكني لست أعلم أن كان يصل الي النهاية أم لا). (د) يوجد نظير له: أعلن الرب لأنبا أنطونيوس أنه في المدينة الفلانية يوجد رجل يماثله، وهو طبيب يعمل ويوزع كل ما يحصل عليه علي الفقراء والمحتاجين، ويقدم للرب تماجيد مع الملائكة ثلاث مرات يومياً. (هـ) يوجد من يفوقه أيضاً: بينما كان القديس يصلي في قلايته سمع صوتاً يقول: (يا أنطونيوس. انك لم تبلغ بعد ما بلغه خياط بمدينة الاسكندرية) فقام القديس عاجلاً وأخذ عصاه الجريد بيده ووصل الي الخياط. فلما نظر الخياط الشيخ ارتعد. سأله القديس: (ما هو عملك وتدبيرك؟) أجابه الخياط: (إنني لا أظن أنني أعمل شيئاً من الصلاح غير أني أنهض مبكراً وقبل أن أبداً عمل يدي أشكر الله وأباركه. وأجعل خطاياي امام عيني وأقول: (إن كل الناس الذين في المدينة سيذهبون الي ملكوت السموات لأعمالهم الصالحة أما أنا فسأرث العقوبة الأبدية لخطاياي). وأكرر هذا الكلام عينه في المساء قبل أن أنام. لما سمع منه القديس هذا الكلام قال له: حقاً كالرجل الذي يشتغل في الذهب ويصنع أشياء جميلة ونقية في هدوء وسلام هكذا أنت أيضاً فبواسطة أفكارك الطاهرة سترث ملكوت الله بينما أنا الذي قضيت حياتي بعيداً عن الناس منعزلاً في الصحراء لم أبلغ بعد ما بلغته أنت. (و): ترديد اسم يسوع: قال: ان جلست في خزانتك قم بعمل يديك.. ولا تخل اسم الرب يسوع، بل أمسكه بعقلك ورتل به بلسانك وفي قلبك وقل: ياربي يسوع المسيح ارحمني. ياربي يسوع المسيح أعني. وقل له أيضاً.. أنا أسبحك ياربي يسوع المسيح من هو أنطونيوس؟: + قال أحد الاخوة: أرانا أنبا صيصوي مغارة الأنبا أنطونيوس حيث كان يسكن: (هوذا في مغارة أسد يعيش ذئب)[9].
المزيد
20 أبريل 2020

تلميذيّ عمواس ظهور السيد المسيح للرسولين كليوباس ولوقا

ذكر القديس لوقا في إنجيله (إنجيل لوقا 24) حول هذين التلميذين (كليوباس ورفيقه)، حيث لم يكونا مجرد أشخاص عاديين، بل كانوا من ضمن الذين أخبرتهم المريمات بخبر قيامة الرب (إنجيل لوقا 24: 9)، كما قيل عنهم "وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، اسْمُهَا «عِمْوَاسُ»" (إنجيل لوقا 24: 13)، أي أنهما كانا "منهم"، أي من الجماعة الخاصة للرسل،ونلاحظ كيف كانا منشغلين بالأحداث "وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هذِهِ الْحَوَادِثِ" (إنجيل لوقا 24: 14) وكانا يتحاوران فيها وهما "مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ" (إنجيل لوقا 24: 17) يبدوا أنهما بدآ يخافا من إشاعة القيامة التي انتشرت، وربما كان خروجهم من أورشليم نوعًا من الهروب حيث كان واضحًا عدم تصديقهم التام لبشارة النسوة أنه حيًّا، ومن هنا جاء توبيخ السيد المسيح لهما في إطار تفتيح أعينهما على الحقيقة وفي أثناء حديثهما "اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا" (إنجيل لوقا 24: 15)،وأخذ في الحديث معهما حيث "أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ" (إنجيل لوقا 24: 16) وأخبراه كيف كان الجميع يرجو أن يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ كان هو المخلص المزمع أن يفدي إسرائيل (إنجيل لوقا 24: 21)،وكيف زادت دهشتهما بعد مجيء النسوة من القبر مبشرات بحياته (إنجيل لوقا 24: 22-24) وهنا بدأ السيد المسيح يكشف لهما أن هذا ما كان ينبغي أن يتحقَّق حسب أقول الأنبياء،وذلك بداية من موسى وحتى جميع الأنبياء في الكتب المقدسة والمزامير (إنجيل لوقا 24: 25-27، 44) وعندما عرضا عليه المبيت معهما "أَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا"(إنجيل لوقا 24: 30، 31) وهنا اكتشفا حقيقة زميل الطريق العجيب، وخاصة بعد "كَسْر الخبز" (التناول) ولم يبيتا في المكان بالرغم من كونه مساءً (إنجيل لوقا 24: 29) وأسرعا إلى أورشليم للتلاميذ الأحد عشر يؤكدان قيامته وظهوره لسمعان ويبشران الجميع "وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسْطِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ «سَلاَمٌ لَكُمْ!» فَجَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحًا فَقَالَ لَهُمْ «مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ إِنِّي أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي» وَحِينَ قَالَ هذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ" (إنجيل لوقا 24: 36-40) ثم أكل مع الجميع وهم "غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ الْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ" (إنجيل لوقا 24: 41)، وكان الطعام حينها سمكًا مشويًّا وشيئًا من شهد العسل ثم "فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ هكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّم وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذلِكَ" (إنجيل لوقا 24: 45-48) وأعطاهم موعِدًا بإلباسهم قوة من الأعالي، ثم باركهم وصعد إلى السماء "فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ، وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ" (إنجيل لوقا 24: 52ـ 53) وكان في هذا الكلام إرسال لهؤلاء الرسولين من ضمن السبعين رسولًا، وذلك في قوله "أَنْتُمْ شُهُودٌ لِذلِكَ" يا لهُ من لقاء رائع وممتع ويوم عجيب مع الرب شبيه بحديث السيد المسيح مع نيقوديموس في المساء وقد ذكره الشهيد مارمرقس سريعًا بقوله: "وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَهُمَا يَمْشِيَانِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. وَذَهَبَ هذَانِ وَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هذَيْنِ" (إنجيل مرقس 16: 12، 13) وفي التقليد الكنسي هذا التلميذان من السبعين رسولًا وقد استشهد الشهيد كليوباس الرسول على اسم السيد المسيح، ويُعَيَّد له في يوم 1 هاتور من كل عام والتلميذ الآخر هو القديس لوقا الإنجيلي، وقيل أنه لم يذكر اسمه في إنجيله تواضُعًا ومن الجدير بالذِّكر أنه في طقس صلاة القداس الإلهي في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هناك رموز لهذا اللقاء العجيب في صلاة الأنافورا، حيث يتم تغطيه الكأس بعد كشفها فيه إعلان أو إشارة لظهور الرب لتلميذي عمواس ثم اختفائه عنهما.
المزيد
07 أبريل 2019

تأملات في الأسبوع الخامس من الصوم الكبير - المخلع

تحذير من اليأس في الطريق . لا يأس ولا فشل بعد في المسيح... فالمخلع قام وحمل سريره بعد 38 سنة مرضًا، بعد 38 سنة شللًا، 38 سنة خطية، 38 سنة ضائعة. إن ربنا يسوع لا يحسب السنين بل عندما نعرفه يجدد مثل النسر شبابنًا. نحن نقول احسبنا مع أصحاب الساعة الحادية عشر. إن الحياة في المسيح هي جديدة كل يوم. والمشاكل الخطيرة والضيقات تسبب لنا في المسيح انطلاقة جبارة. إن الأنبا بولس البسيط ابتدأ بعد 60 سنة- بعد خناقة مع زوجته الشابة الخائنة. وذهب إلى القديس أنطونيوس الكبير، ووصل إلى درجته العالية في الصوم والصلاة... بعد 65 سنة! ليس في المسيحية شيخوخة ولا يأس، بل أمل متجدد... هذا هو دستور سيرنا في رحلة الصوم، أمل وحياة جديدة في المسيح، وفرح وشجاعة وعدم يأس... وانطلاقات روحية ونمو مستمر... إنها رحلة لا تعرف التوقف أبدًا. بيت حسدا والمعمودية إنجيل الأحد الخامس يتحدث عن بيت حسدا التي ترمز للمعمودية (يو 5). فنحن جمهور المسيحيين كنا بجوارها مرضى وعرج وعمى... مرضى بكل مرض روحي. والملاك الذي يحرك الماء هو إشارة للروح القدس الذي يحل على ماء المعمودية. هذا هو نصيبنا في المسيح إن الذين نالوا المعمودية لهم رجاء في الآب لا ينتهي حتى ولو كان لهم 38 سنة في المرض. إن تدريب هذا الأسبوع هو الرجاء وعدم اليأس، فالمعمودية أعطتنا نعمة البنوة – والبنين لا يخيب رجاهم في محبة الآب. يبدأ هذا الأسبوع بأحد السامرية (أحد النصف)، وينتهي هذا الأسبوع بأحد المخلع. ويقسم المفسرون سفر إشعياء إلى قسمين: الأول ينتهي بالإصحاح 39 بهزيمة سنحاريب ملك الآشوريين. والثاني من الإصحاح 40 إلى آخر السفر (إش 66) وهو قسم مملوء بالتعزيات للسائرين في الطريق مع لله، ومملوء بالنبوات عن السيد المسيح من ميلاده وصلبه وقيامته وعن يوم الخمسين وميلاد الكنيسة الجديدة. ولقد ألهم الروح القدس آباء الكنيسة أن تبدأ قراءات هذا الأسبوع من يوم الثلاثاء بعد أحد النصف من أول الإصحاح و ينتهي سفر إشعياء (الإصحاح 66) يوم جمعة ختام الصوم. قراءات يوم الاثنين: تقرأ الكنيسة عن حرب الآشوريين وهزيمتهم (إش 37: 32) وهي تشجيع للمجاهدين في طريق الصوم أن عدوهم الروحي مهما كان جبروته ومهما كانت تعييراته وحربه النفسية إلاَّ أن إشعياء يؤكد لحزقيا الملك أن لا يخف وأن الهزيمة أكيدة لجيش إبليس (سنحاريب) الذي قتل منه 185 ألف جندي مرة واحدة ونجا جيش الله. هذه هي تعزية الله لنا في منتصف رحلة الصوم مع إشعياء النبي. وتقرأ الكنيسة في نفس اليوم من إشعياء (38: 1- 6). عن شفاء حزقيا الملك وزيادة عمره 15 سنة. وهذا بلا شك إشارة إلى المخلع الذي سينتهي الأسبوع به، أن يسوع وهبه عمر ا جديدا ً وقال له لا تعد تخطئ لئلا يكون لك أشر. وما هي خطية حزقيا الملك ؟ إن حزقيا الملك بعد انتصاراته على سنحاريب، جاء إليه الملوك ليهنئوه... فجاء إليه ملك بابل فكشف حزقيا الملك أسراره الداخلية للعدو. إن جهادنا الروحي في الصوم الأربعيني ينبغي أن يكون في الخفاء ، كما أوصانا ربنا في الأسبوع الأول عن الصدقة والصلاة والصوم... كلها في الخفاء وكما علمنا إشعياء في الإصحاح الرابع أن لكل مجد غطاء (إش 4: 5). وأخيرا ً بكى حزقيا. فشفاه الله وكأنه يقول له لا تعد تخطئ لئلا يكون لك أش ر كما قال للمخلع. الله بذاته سائر معنا في الرحلة: (نبوات الثلاثاء- الجمعة) وهي تبدأ من إشعياء 40 إلى إشعياء 43. الثلاثاء : 40: 1- 8، الأربعاء : 41: 4- 14، الخميس : 42: 5- 16، والجمعة : 43: 1-9. وكلها تدور حول تعزيات الله وتأكيد ه لنا أنه بذاته سائر معنا في الطريق، وأنه يبارك جهادنا، وأنه الراعي الصالح لقطيع الصائمين في الرحلة، أنه سيجعلنا بركة للآخرين السالكين في الظلمة، وأنه سيسير معنا إلى نهاية الرحلة حتى في وسط النار لكي لا تؤذينا. وأترك لك أيها القارئ العزيز أن تتأمل بمهل في كل هذه الأمور فهي كلها مواعيد أكيدة أعطاها لك إلهك السائر معك في رحلة الكنيسة كلها في هذا الصوم. إنك لو تأملت في هذه التعزيات وثبتها في قلبك أو كما يقول الله لك في إشعياء "فمكنه بمسامير حتى لا يتقلقل"، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فبكل تأكيد ستصل إلى نهاية الرحلة مع الله الذي سيجتاز بك النار وغمر المياه. وإليك القليل من هذه الآيات: • " نادوها بأن جهادها قد كمل إن إثمها قد عفي عنه " (40: 1)، هذه أجمل تعزية للصائم في الرحلة وهي أن الرب يكمل جهاد. ويعفي عنه إثمه. • الله هو راعى الرحلة : "كراع يرعى قطيعه بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات" (40: 11)... هذا هو إلهنا الذي حمل الخروف الضال على منكبيه، وهو الذي حضن الابن الضال ، وهو الذي يقودنا في موكب معرفته ونصرته عالما بضعفنا أننا في مستوى الرضعان اللائي يعطلن المرضعات عن السير فيحمل الرضعان على كتفه ليعطى الفرصة للمرضعات للسير في الرحلة... إنها رحلة ما أجملها في رعاية الذي بذل نفسه عن الخراف. • الثبات في السير في الطريق : إشعياء يؤكد أن الله يثبت سيرنا. لا يكفيه اللحام على السندان بل يُمكنَّه بالمسامير حتى لا يتقلقل (41: 7). ربنا أوصانا أن نثبت فيه قائلًا: "أثبتوا فيَّ". هل رأيت تعبيرا أجمل من ذلك الذي ذكره إشعياء عن اللحام والتثبيت بالمسامير... ما أحوج السائر في الطريق أن لا ينظر للوراء ولا يهتم بأباطيل العالم المعطلة ولا يضطرب من تجربة العدو، ولا يخاف من الغد. بل يتأكد أنه ثابت بمسامير في الطريق ويقول مع المرتل: "توسع خطواتي فلم تتقلقل عقباي" (مز 18: 36). ما أجمل أن يثبت المخلع في المسيح ولا يعود يخطئ لئلا يكون له أشر. • الله بذاته سائر معنا طول الرحلة : هذا إيمان الكنيسة أن السيد المسيح صام عنا ومعنا أربعين يوما وأربعين ليلة، هو رئيس إيماننا ومكمله الذي يضيف صومه على صومنا فيجعله كاملًا مع أن صومنا ناقصا دائما. "لا تخف لأني معك لا تتلفت لأني إلهك". "قد أيدتك وأعنتك بيمين برى" (إش 41: 10). "لأني أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك لا تخف أنا أعينك" (41: 13)... لا تخف لأني فديتك. دعوتك باسمك أنت لي. إذا اجتزت في المياه فأنا معك وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تلذع واللهيب لا يحرقك لأني أنا الرب إلهك مخلصك" (43: 1- 3). • "وأجعلك... نور للأمم ... وتخرج من بيت السجن الجالسين في الظلمة" (42: 6، 7). "وأسير العمى في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم". "أجعل الظلمة أمامهم نورا ً والموجات مستقيمة" (42: 16). هذه النبوات تشير للسيد المسيح رب المجد، وهي تشير إلى حال الكنيسة أو النفس التائبة المجاهدة في طريق الصوم. إنها تصير ونورا للعالم في وسط الظلمة وتجذب الآخرين للسير في طريق النور.
المزيد
23 نوفمبر 2019

أبيجايل

واسم الرجل نابال واسم امرأته أبيجايل مقدمة لا أستطيع أن أفكر في المرأة القديمة أبيجايل، دون أن يخطر ببالي على الفور منظر طائر من أجمل الطيور، وأرخمها صوتًا، في قفص من ذهب، والسامع يكاد يلحظ في أغانيه نوعًا من الحزن، والأسى، والبكاء، يختفي وراء جهد من صبر وقناعة وأمل وتسليم، إن الكتاب لا يتحدث كيف زفت هذه المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة، إلى رجل أحمق رديء القول والتصرف والعمل، ولكنها أغلب الظن هي واحدة من ذلك الصف الطويل من الضحايا اللواتي يذهبن ضحية خداع المادة والثروة الطائلة، ولئن كان زواج ميكال نوعًا من الزواج السياسي أو المصلحي الذي تمليه غاية بعيدة تماماً عن الأصل في كل زواج، فإن زواج أبيجايل، هو ذلك النوع من الزواج المادي، الذي تباع فيه المرأة وتشترى كأية صفقة مادية من عقار أو منقول، وتحسب في أفضل الحالات، واحدة من الأثاث، وتحفة من التحف يتلهى بها الناظر دون أن يدرك أنها من قلب ولحم، وأن قناطير الذهب ليست بذات أهمية إلى نفسها ومشاعرها، كنغمة حب، ومناجاة وجدان، وتعانق مشاعر، وتكاتف شركة، هي المعاني الأولى والأخيرة لفكرة الزواج كما شرعه الله وأبدعه في حياة الناس في أي مكان يعيشون فيه على ظهر هذه الأرض!! على أن المرأة وقد وقعت الواقعة لم يكن لها خلاص، سوى أن تصبر على مأساتها، وتتطلع إلى الله، الذي له وحده على الدوام مخارج في الموت، وقد مد الله اليد على نحو قضائي يفعله، عندما تقفل كل السبل، وتعجز جميع المحاكم الأرضية أن توجد حلا مرضيًا عادلاً نهائياً... والآن لنتأمل المرأة وقصتها وما فعلت وما وصلت إليه، وكيف فتح الله الباب الموصد على نحو فجائي مثير: أبيجايل الزوجة الجميلة إن معنى الكلمة «أبيجايل» بهجة أبيها، ويبدو أنه من اللحظة التي ولدت فيها كانت أشبه الكل بالقمر الجميل الذي رآه الأعرابي ذات ليلة وهو يسير في قلب الصحراء وقد استوى بدرا، وقد ألقى نوره الفضي في كل مكان، فأخذ الأعرابي بسحر جماله، وهتف، وهو يتطلع إليه قائلاً: ماذا أقول لك؟ هل أقول لك رفعك الله؟ وها أنت مرتفع!! جملك الله؟ وها أنت جميل وما بعدك من جمال! إذا فكل ما أقول أبقاك الله على ما أنت عليه من رفعة وجمال! وربما قال أبو الصغيرة أبيجايل وهو يتطلع إليها بهذا الإحساس المفرط من البهجة والمسرة، وقد أشرقت العناية على نفسه، وعلى بيته بهذه الجميلة الرائعة البهية، إن جمال هذه المرأة كان على الأغلب من ذلك النوع النادر من الجمال الذي يقع أشد الوقع في نفوس جميع الذين يرونها من أول لحظة، ولهذا خلبت لب نابال عندما رآها، وعزم على أن يقتنيها، مهما بذل من مال أو تكلف من ثمن، ولعل هذا الجمال بعينه هو النسمة النقية الهادئة التي هبت على وجه داود، وهو بركان ثائر في طريقه إلى الانتقام المروع من زوجها الأحمق نابال، هذه النسمة الندية التي أوقفته بغته ليعود إلى وعيه ويستيقظ ويستمع إلى صوتها الساحر وندائها الرقيق، ليفيق ويتراجع عما هو مقدم عليه، مما كان من المتوقع أن يندم عليه طوال عمره لو أنه لم يتوقف عنه في اللحظة الأخيرة. على أنه من الواضح أن المرأة كانت متفوقة في شيء آخر، في ذكائها اللامع وذهنها المتوقد، وان الكتاب في عرض شخصيتها، وضع فهمها قبل جمالها أمام الأنظار، وذلك لأن هذا الفهم كان في الواقع بمثابة الهالة الرائعة العظيمة لجمالها النادر، فإذا كنت مثلاً توخذ بجمالها قبل أن تتكلم، فإنك ستذهل بما تنطق من در الحديث وجوهر الكلام، ويكفي أن نرى نموذجًا لهذا، في ذلك الحديث البليغ الساحر الذي تكلمت به إلى داود، وضربت على أدق وأرق الأوتار في قلبه، فلم تعترف بالذنب فحسب، بل ذكرته برسالته العظيمة التي وضعها الله على كتفيه، وأنه مهما يصبه من نفي وتشريد وآلام، فانه عزيز على قلب الله، وأنه محفوظ في حزمة الحياة مع الرب، وأما أعداؤه فسيرمون من كفة المقلاع، وكأنما كانت تذكره بقصته مع جليات، وكيف حفظه برعايته، وأسقط الجبار العملاق بضربة واحدة قاضية برمية حجر!! كما أنها بذلك رفعت قلبه ونفسه عن طلب الانتقام، وهي تؤكد له أن النصر قريب، إلى ذلك الحد الذي ترجو فيه معه ألا ينساها عند ما يبلغ مجده وملكه حسب وعد الله الأكيد الصادق، وهل ينسى الله من يخدمه بالأمانة، ويحارب حروبه ولم يوجد فيه شر قط كل الأيام!!. هذا الحديث أو بالحرى الدفاع لا يمكن أن يصدر إلا عن محام من أبرع وأقدر المحامين ممن يدركون نقط القوة والضعف في القضية التي يمسكون بها، ويعلمون كيف يبدأون، ويسيرون، وينتهون في خط الدفاع الذي رسموه من أول الأمر، ومثل هذه المرأة تصلح في أيامنا هذه أن تقف في أعظم المحافل الدولية وأعلى محاكم الدنيا ليجلجل صوتها بسحر وبلاغة تذهب مذهب المثل والفصاحة والحجة في كل مكان!! على أن حكمة المرأة وبلاغتها لا تقف عند الحدود النظرية أو فلسفة الكلام، لقد كانت كما هو ظاهر من لغة الكتاب سريعة التصرف أذ أدركت الأثر الوشيك الحدوث لتصرف زوجها الأحمق، ولو أنها لم تسرع وتبادر إلى إنقاذ الموقف، وتوانت ولو إلى ساعات قلائل، لقضى الأمر، وجاء عملها بعد فوات الأوان، أنها من ذلك النوع الذكي الذي ينتهز الفرصة ويحسن التوقيت، ويتصرف بعمق وتأمل ودون جلبة، دون أن تخبر زوجها، الذي لم يكن في وعيه، إذ كان مخمورًا مع صحبه في حفل ماجن كبير، وكان من العسير أن تخبره بشيء حتى يفيق من سكره ويثوب إلى رشده! ألا ما أجمل أن تتصرف المرأة في بيتها في وقت الكارثة أو الأزمة الطارئة في حنكة وصمت وهدوء، بتوازن مطلوب، وبديهة مجهزة، وعلى وجه الخصوص إذا جاء الأمر نتيجة حماقة زوج، أو شطط أو خطأ من واحد من أهل بيتها لا يحتمل معه تواكل أو جمود أو سكوت!. ولا يغرب عن البال أن هذه المرأة إلى جانب هذا كله كانت امرأة وديعة، لم يخرجها الجمال أو الفهم أو الثروة إلى نوع من الكبرياء أو الشموخ أو التعظم انظر إليها وهي تقترب من داود، إذ تنزل عن الحمار وتسقط على وجهها، وتسجد، وترى في نفسها أمة، وجارية مذنبة، تحتاج إلى صفح وغفران من سيد تجثو عند قدميه، وليس هذا لمجرد أن تدفع عن نفسها وبيتها شرا يوشك أن يحدث، بل لأنها كما وصفت فيما بعد نفسها لداود: «هوذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدي».. فإذا أضفنا إلى ذلك كرمها الذي ظهر فيما قدمته لداود، ولا يظهر هذا الكرم في تعداد الخبز والخمر والخراف والفريك والزبيب والتين، الذي قدمته بكثرة ووفرة، بل في ذلك الاستحياء الذي قدمته به، إذ هو لا يصلح قط لداود، فإنه أعلى وأسمى من هذا كله بل هو: «للغلمان السائرين وراء سيدي». وأجمل من كل هذه الصفات إن المرأة كانت تقية، فبينما يقامر زوجها على الفرس الخاسر، إذ يقف إلى جانب شاول المرفوض والمطرود من الله، تقف هي إلى جانب داود المختار من الله، أو في لغة أخرى إنها كامرأة مؤمنة تقف إلى جانب الحق الإلهي، في الجانب الأضعف ظاهريًا، والذي يعاني الكثير من الاضطهاد والآلام والضيقات والمتاعب والتشريد. أبيجايل والصفقة الخاسرة وما من شك في أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد أن عرفنا أبيجايل على هذه الصورة الرائعة الجميلة، كيف أمكن لهذه المرأة الفاضلة أن تتزوج هذا الجهول الأحمق، هنا نقف أمام صفقة قاسية خاسرة، تعد من أشر وأقسى الصفقات التي ما تزال إلى اليوم تتكرر عندما تتدخل المادة لتربط بين اثنين يختلفان في كل شيء، وقل أن يتفقا أو يلتقيا حتى حول المادة التي ظن كلاهما أو ظن أحدهما أو الآخرون أنها يمكن مع الأيام أن تجمع بين المتناقضين عقلاً وخلقًا وثقافة وروحًا!!.. أما نابال فأغلب الظن أن لبه طار، وهو يرى هذه المرأة الجميلة الصورة، ففعل ما يفعل الكثيرون من الأثرياء وهواة المتاحف، عندما يرون صورة جميلة لمصور مشهور، فيسرعون إلى اقتنائها، ولو كلفتهم عشرات الألوف من الجنيهات، ويعلقونها في مكان الصدارة من بيوتهم، مع هذا الفارق، أنه قد يكون لهم من الفهم والتذوق ما يجعلهم يدركون موضع العظمة والجمال والجلال والفن في كل بوصة مربعة فيها، وتكون لهم مصدر ثراء ذهني واسع كلما نظروا إليها أو أحدقوا فيها!! على العكس من ذلك الأحمق نابال الذي كان يواجهة الجمال الحسي الرائق في كل لحظة في البيت، وهو غافل عنه وأعمى في كأسه وطاسه التي يعب منها، ولا يكاد يفيق، ومع أنه اشترى المرأة بما دفع من مهر، فانه وقد أمتلكها، أضحت كأي ملك مخزون لا ينتبه إليه صاحبه أو به يستفيد!!.. أما من جانب أبيجايل أو أبيها فان الأمر محير، يظن البعض أن الفتاة لم تستشر في الأمر، وأن الثروة الهائلة التي كانت لنابال غطت حاله أو واقعه، فلم يفطن أبوها، أو ربما لم تفطن هي حتى وقعت الكارثة، ولم يعد هناك مكان لرجعة أو ندم، ويعتقد أيضًا أنه ربما كان انتساب الرجل إلى عائلة مشهورة، وإلى اسم قديم، مما شجع على التصور أن الخلف يمكن أن يكون مثل السلف، وأن نابال يمكن أن يأخذ شيئاً من جده الكبير العظيم كالب بن يفنة، والذي كان واحدًا من ألمع الأسماء أيام موسى، وكان قرينا صادقًا وعظيمًا ليشوع بن نون الذي جاء بعد موسى وكان تاليًا له، ولكن ما أكثر ما تخلف النار تراباً ورماداً، وما أكثر ما يأتي الأبناء على صورة لا تكاد تعرف شيئًا عن تاريخ الآباء أو تقاليدهم أو ما توارثوه من قيم ومثل ومباديء! أجل أنه حسن أن يفكر الراغبون في الزواج في الأسرة التي ينحدر منها من يرغبون في الارتباط بهم، غير أن هذا إذا حدث لا يمكن أن يكون قبل البحث عن الشخصية ذاتها، ومدى ما تملك من مقومات أو صلاحيات للزواج، فلا يكفي أن تتزوج الفتاة أحمق أو جاهلاً أو عليلا أو متخلف العقل، أو فاسد الأخلاق، لمجرد أنه ينتمي إلى أسرة شهيرة أو معروفة بين الناس،.. كانت العلاقة بين أبيجايل ونابال علاقة زوجين يختلفان في كل شيء، فهي دمثة الأخلاق وهو فظ كما يقول واحد من الغلمان لا يمكن الكلام معه، وهي كريمة وهو أناني لا يعطي من وليمته لآخر، إلا إذا رام منفعة أو بحث عن مقابل، وهو نزق، وهي ودودة، وهو جحود وهي متدينة، وهل يمكن لعلاقة كهذه أن تستقر وتهدأ، والزوج كما يصفه الوحي رجل قاس؟ وكل خيالي يتجه إلى المرأة وهي تبكي ليالي متواصلة على قساوته مع الإنسان أو الحيوان على حد سواء، ومع التصرفات القبيحة الرديئة التي تصدر منة في كل يوم، وكل خيالي يتجه إلى ما لا ينتهي من صور مماثلة، صور أولئك الذين لا يعرفون عن الزواج، سوى صفقة، أو صيد يعتقد شوبنهرر عدو المرأة أن الفريسة فيه على الدوام هي الرجل، ومع أننا لا نتفق مع أمام المتشائمين على ذلك، إلا أننا ننتهي ولاشك، أن كل زواج ينبني على المادة لابد أن يكون فيه ضحية، سواء كانت هذه الضحية هي الرجل أم المرأة مادام قد خرج عن الأساس الروحي الذي قصده الله من الزواج بين الناس في الأرض. أبيجايل والنجاة المفاجئة وهذا يأتي بنا إلى ختام قصة هذه المرأة مع زوجها نابال على نحو مثير فجائي لم تكن متوقعة بمثل هذه السرعة الإلهية المباغتة، لقد وقفت في طريق العاصفة الهوجاء التي كان من المستحيل أن تفرق بينها وبين زوجها وبيتها، يوم هبت عليها من داود الثائر الغاضب، ورجعت إلى بيتها وقد واتاها النجاح على نحو كامل، لتجد زوجها غارقًا في سكره حتى الطامة، ولم تستطع أن تخبره بشيء كبير أو صغير إلى ضوء الصباح حتى يفيق، واذا أخبرته، كما يقول الكتاب، مات قلبه فيه وصار كحجر، أو مات كما يفسره هوايت: بحجر في قلبه، لقد مات نابال من الكبرياء والغضب، مات من مرض غريب، وأعني به مديونيته لزوجته، وقد كان يؤثر أن يموت بسيف داود على أن ينجو بوساطة زوجته وشفاعتها وتوسلها، وهو لا يرضى أن يصور بأنه أحمق فيما فعله في ذلك اليوم مما جلب عليه كل ما حدث، ولو أن نابال فعل شيئًا آخر، لو أنه اعترف بما فعلته زوجته، وقبل يديها، وقدميها، لربما كان له تاريخ آخر، ومصير آخر، ولربما بقي، وعاش معها، حتى أصبح مسنًا، ينعاه شعبه وجماعته، ويموت كرفع الكدس في أوانه، ولكن نابال مات لما ضربه الرب، لشره، وجبنه، وحماقته، وكبريائه، وقسوته، وغيرته،... أما المرأة التي كانت شريكه له، والتي رجت له ولنفسها الحياة من سيف داود. ما كانت تتوقع وقد أوصد عليها باب الحياة الزوجية، أن يفتح سجنها، أو تخرج من باب القفص الذهبي بين عشية وضحاها، بعد مرور عشرة أيام فقط من تلك الواقعة،.. وهكذا مات نابال، لتعود المرأة بحياة الترمل الى استرداد ما كاد يضيع من طعم الحياة ومعناها، لو أنها بقيت في أسره وقصره،.. بل لتعود من جديد قبل أن يذهب الشباب وتدور الأيام زوجة لداود، تلد له، وتعيش معه، على معنى أصح وأقدس وأجمل وأكمل، من معاني الحياة المقدسة أمام الله والناس، وهكذا تذهب المرأة مثلاً لمن يستسلم ويسلم أمره لقضاء الله وعدله، وقد يأتيه القضاء على نحو أسرع مما كان يظن، وعلى وجه أفضل مما كان يتصور، وعلى وضع أحسم مما كان يتخيل أو يحلم كما فعل الله مع المرأة القديمة العظيمة أبيجايل زوجة نابال الكرملي!!..
المزيد
11 مايو 2019

من أقوال الآباء في القيامة

-1-لنقدِّم أنفسنا لمن قدَّمَ نفسه عنا إنه فصح الرب، إنه الفصح! لنردده لمجد الثالوث* الفصح، بالنظر إلينا، عيد الأعياد، احتفال الاحتفالات، كما تكسِفُ الشمسُ النجوم، كذلك يكسِفُ هذا العيد الأعياد، ليس فقط أعياد البشر، بل أعياد السيد المسيح نفسه* بالأمس ذُبِح الحمل، ونُضِحت الأبواب بدمه، وبكتْ مصر أبكارها، أمَّا نحن فنجونا بفضل الدم الزكي* بالأمس كنت مصلوبًا مع المسيح، واليوم مُمجَّدٌ معه* بالأمس كنت مائتًا معه، واليوم حيٌّ معه* بالأمس كنت مدفونًا معه، واليوم قائمٌ معه* فلنقدِّم لا الهدايا فحسب للذي تألم لأجلنا ثم قام، بل أنفسنا، فإنها أثمن الهدايا وأقربها إلى الله* صورة الله فينا: لنعكِسَنَّ الضياء اللائق بها اعتبارًا لقيمتِنا، وإكرامًا لمِثالنا* إذن لنفهمَن ذلك السر، ولماذا مات المسيح؟ لنتشبه بالمسيح لأنه تشبه بنا* لنصِرْ آلهة معه لأنه صار إنسانا لأجلنا* لقد اعتنق الشيء الأقل صَلاحًا ليُعطينا الأفضل* تسوَّل بشرتنا لنغتني بفقره* اتخذ شكل عبد ليُعِتقَنا من العبودية* تنازل ليرفعَنا* قبِلَ أن يُجرَّبَ ليُعينَنا على النصر. احتُقِر ليُمجِّدنَا ومات ليُخلِّصنا* صعد إلى السماء ليرفع إليه القابعين في الخطيئة* فليُقدِّم كل واحد منا كل ما يملك للذي قدَّمَ نفسه فداءً عنا* فإذا فهمنا سر الفصح فلا نستطيع أن نعمل أفضل من أن نقدِّم أنفسنا للمسيح، فنُضْحي على مثاله كما أضحى هو على مثالِنا*. القديس غريغوريوس النـزينـزي -2-فصح المسيح إن فصح المسيح جعلنا أُناساً جدداً. كنا نولد أبناء للبشر، واليوم نولد أبناء لله. بالأمس كان الموت سائدًا بسبب الخطيئة، واليوم يملك العدل بفضل الحياة. إنسانٌ واحدٌ فتح لنا قديما باب الموت، والمسيح اليوم أعاد لنا الحياة. بالأمس أخذنا الموت من الحياة، واليوم أبادت الحياةُ الموتَ. بالأمس طردنا العصيان من الفردوس، واليوم يُعيدنا إليه الإيمان بقيامة المسيح. قدَّم لنا المسيح ثمرة الحياة لكي نتلذذ بها كما نشاء، وجرى من جديد ينبوع الفردوس الموزعة مياهه بأربعة أنهار الأناجيل، لكي يُنعش وجه الكنيسة. القديس غريغوريوس النيصي -3-المسيحُ قام من بين الأموات، فقوموا أنتم معه. المسيح عاد واستوى في مكانه، فعودوا أنتم معه. المسيح تحرر من رُبُطِ القبر، فتحرروا أنتم من رُبُطِ الخطيئة. أبواب الجحيم قد فُتحت، والموت ينحل. آدم القديم يبتعد والجديد يعود إلينا. فإذا كانت خليقةٌ جديدةٌ بالمسيح، فتجددوا أنتم. الفصحُ فصحُ الرب. هذا عيد الأعياد وموسم المواسم، فهو فوق الأعياد والمحافل جميعا، وفضله على سائر الأعياد كفضل الشمس على سائر الكواكب. اليوم نعيِّد القيامة نفسها التي لم تعد أملاً ورجاءً، بل واقعاً حياً، وموضوع فرح دائم في غلبتنا الموت. فقد اشتملت العالم بأسره. ومتى صعد المسيح إلى السموات، فاصعدْ معه، وكُنْ مع الملائكة. ساعد في أن ترفع الأبواب لاستقبال الآتي من الآلام بحفاوة. وأَجِبْ السائلين: “من هو هذا ملك المجد؟” أجب إنه السيد الرب ملك المجد، و”إنه الرب القوي والقدير”. يا أيها الناهضُ، إذا وصلنا باستحقاق إلى الغاية المبتغاة، وصرنا مقبولين في الأخدار السماوية، سنقرب لك بصحة العزم ذبائح مقبولة على مذبحك المقدس. يا أيها الآب والابن والروح القدس، لأنه لك يتوجب كل مجد وإكرام وسلطان إلى دهر الداهرين، آمين القديس غريغوريوس اللاهوتي -4-جاء في إحدى عظات القديس بوليكاربوس أسقف أزمير (القرن الثاني) عن الإيمـان بقيامـة المسيح ونتيجتـه على حياة المؤمـن وسلوكـه: “.. شدّوا أحقاءكم واتقّـوا الله بالمخافة والحق طارحين جانباً كلام الثرثـرة الفارغ وضلال الأمم، موطِّدين الإيمان على من أقام ربنا من المـوت، وآتاه المجد، وأعطاه عرشاً عن يمينـه. “له يخضع كل ما في السماء وعلى الأرض” ويعطيه كل من فيه نسمة حياة. وعندما يأتي “ليدين الأحياء والأموات” سيُقاضي عن دمـه كل من رفض الإيمان به. “والذي أقامه من الموت” سيُقيمنا معه أيضاً إن امتثلنا لمشيئته، وسرنا على طريق وصاياه، وأحببنا ما يحب، وتركنا كل إساءة وطمع ونميمة وشهادة زور، وعن حب المال المفرط متجنبين مجابهة شر بشر، وشتيمة بشتيمة، وضربة بضربة، ولعنة بلعنة، ذاكرين تعليم من قال: “لا تدينوا لئلا تُدانوا، اغفروا يُغفر لكم، أرحموا تُرحموا، بالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم، طوبى للمساكين وللمضطَهدين من اجل البرّ فإن لهم ملكوت الله”. القديس بوليكاربوس أيقف أزمير عن رعيتي 4/مايو 1997 -5-هذه مقتطفات من العظة الأولى التي ألقاها القديس غريغوريوس بعد انتخابـه أسقفاً على نازيانز (آسيا الصغرى) سنة 362. كان القديس غريغوريوس قد اختار الحياة الرهبانية برفقـة صديقـه القديس باسيليوس الكبير، إلاَّ أن والده الذي كان أسقف نازيانز نفسها استدعاه ورسمه كاهنا ثم أسقفاً. لم يرغب في الأسقفية في زمن تفاقم الأريوسية وعاد إلى الدير لكنـه رجع بعد أشهر إلى مسؤوليته الأسقفية واستمر فيها حتى صار بطريرك القسطنطينية وانتصر على الأريوسية في المجمع المسكوني الثاني. نلاحظ من المقاطع التي ننشرها إن عددا من الصلوات التي نرتلها في العيد مأخوذة من عظات القديس غريغوريوس. الذين خدمونا وتألموا من اجلنا. لنصفح عن كل شيء في القيامة، أنا اغفر لكم فرض المسؤولية عليَّ وأنتم اغفروا لي تأخري … مُسحت سريا وتخلفت عن خدمة السر فترة تفحصت فيها نفسي، والآن أعود في هذا اليوم البهي الذي يساعدني لأتغلب على ترددي وضعفاتي. وأرجو أن يجددني القائم من بين الأموات بالروح ويلبسني الإنسان الجديد ويدفعني إلى خليقتـه الجديدة عاملاً جيداً وسيداً جيداً مستعداً للموت مع المسيح والقيام معـه. أمس كنت مصلوباً مع المسيح، اليوم أُمجَّّد معـه. أمس مت مع المسيح، اليوم أحيا معـه. أمس دُفنت مع المسيح، اليوم اخرج معـه من القبر. لنقـدّم بواكيرنا إلى الذي تألم وقام من اجلنا. أتظنون إني أتكلم عن الذهب والفضة والأقمشة والحجارة الكريمـة؟ كلها مقتنيات أرضية، لا تخرج من الأرض إلاَّ لتقع في أكثر الأحيان بين أيدي الغاشين عبيد المادة وأمير هذا العالم. لنقدم للمسيح ذواتنا: هذه هي أثمن تقدمة في عيني الله والأقرب إليه. لنردّ إلى صورته ما هو على شبهه. لنتعرف على عظمتنا ونمجّد مثالنا، لنفهم قوة هذا السر وسبب موت المسيح. لنصر مثل المسيح بما أن المسيح صار مثلنا. لنصر آلهة من أجلـه بما أنه صار إنساناً من أجلنا. أخذ الأسوأ ليعطينا الأفضل. أفقر ذاتـه ليغنينا بفقره. أخذ صورة عبد لنحصل على الحريـة. وضع نفسه ليرفعنا. تجرّب ليشهد انتصارنا. قَبِلَ الإهانـة ليظلـلنا بالمجد. مات ليخلصنا. صعد إلى السماء ليجذبنا إليه نحن الذين تمرَّغنا في الخطيئـة. لنقدّم كل شيء إلى من أعطى ذاته فديةً عنَّا. لن نعطي أبداً تقدمةً أعظم من أنفسنا إن فهمنا هذا السر وصرنا من اجله ما صاره من اجلنا” القديس غريغوريوس النـزينـزي عن رعيتي 23 ابريل 1995 -6-إنها لحكمةٌ ساميةٌ، تلك القاضية بأن تُنسي السيئات في أيام الفرح. فقد جلَبَ لنا هذا اليوم نسيان الحُكْم الأول الصادر بحقنا. وما قولي كذا؟ ليس النسيان، بل الإلغاء. لقد أُلغي تماما كل ذكرٍ للقضاء علينا. كنَّا قبلاً نُولَدُ بالألم، أمَّا الآن فنولدُ بدون ألم؛ لأننا كنّا جسديين ونولدُ بالجسد، أمَّا مَن يولدُ الآن، فهو روحٌ مولودٌ من الروح. بالأمس كنا نولد أبناء للبشر، واليوم نولد أبناء لله. بالأمس كنا منبوذين من السماء إلى الأرض، واليوم جعلَنا الرسول السماوي مواطنين في السماء. بالأمس كان الموتُ سائداً بسبب الخطيئة، واليوم يملك العدل بفضل الحياة. إنسانٌ واحدٌ فتح لنا قديماً باب الموت، وواحدٌ اليوم أعاد لنا الحياة. بالأمس نبذَنا الموتُ من الحياة، واليوم أبادت الحياةُ الموتَ. بالأمس خبّأَنا الخجلُ تحت التينة، واليوم يجذبنا الموت نحو شجرة الحياة. بالأمس طردَنا العصيان من الفردوس، واليوم يُعيدنا إليه الإيمان. وقُدمَ لنا ثمر من الحياة جديداً لكي نتلذذ به كما نشاء، وجرى من جديد ينبوع الفردوس الموزَّعة مياهه بأربعة أنهار الأناجيل، لكي يُنعَش وجهُ الكنيسة. هكذا تستطيع أن ترتوي الآلام التي شقَّها زارع الكلمة في نفوسنا، فتتأثر بذور الفضيلة… الآن تتمُّ راحة السبت الحقيقية، تلك التي باركَها الله وفيها استراح من محَنِه، بعد أن احتفل بانتصاره على الموت، لأجل خلاص العالم. لقد ظهرت نعمةُ هذا النهار لعيوننا وآذاننا وقلبنا. احتفلْنا بالعيد بكل ما رأينا وسمعنا وملأَنا فرحاً. ماذا رأينا؟ ضياء المشاعل التي كانت تُنقل في الليل كغمامة من نار. وسمعنا طوال الليل رنين المزامير والأناشيد والترانيم الروحية. فكان هذا سلسالا من الفرح يجري بآذاننا إلى نفسنا فيُفعمنا آمالا سعيدة. وكان أخيرا قلبنا المأخوذ بما نسمع ونرى مفعماً فرحاً وغبطةً، يقوده المنظور إلى اللامنظور: “هذه الخيرات التي لم تَرها عين، ولم تسمع بها أُذن، ولم تَخطر على قلب بشرٍ” (1كورنثوس 2: 9). إن أفراح يوم الراحة هذا تُقدِّم لنا عنها مثالا؛ لقد كانت عربون رجائنا الفائق الوصف في المصير المرتقَب. بما أن هذه الليلة المتلألئة بالنور، التي جمعت بين بريق المشاعل وأشعة الشمس الأولى، ألّفت معها يوماً واحداً، دون أن تفسح مجالا للظلام، فلنتأمل، يا إخوتي، النبوءة القائلة: “هوذا اليوم الذي صَنَعَه الرب” (مزمور 117: 24). إنها لا تَعرُض أي أمر شاقّ أو صعب، بل الفرح والسعادة والبهجة، لأنها تضيف: “فلنفرح ونبتهج به!”. يا له من شاغل شيّق! ما ألطفه أمرا! من يتردد في الطاعة لمثل هذه الأوامر؟ من لا يشعر بضيم إذا تباطأ في تنفيذها؟ المقصود أن نفرح، فنحن مأمورون بأن نبتهج، وبهذا مُحي العقاب القاضي على الخطيئة، وتحوَّل حزننا إلى فرح. القديس غريغوريوس النيصصي
المزيد
30 نوفمبر 2019

شخصية اتاي

إنه حيثما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً" (2صم 15: 21) مقدمة قصة اتاي من أروع القصص الكتابية التي تحدثنا عن الغريب الذي يتبادل الموقع، لم يكن أتاي إسرائيلياً، بل فلسطينياً من جت بلد جليات الفلسطيني،.. وعندما التقى بداود لم يكن اللقاء بينهما لقاء جليات بداود، أو لقاء عدوين متقاتلين، أو خصمين يطلب أحدهما حياة الآخر، أو رجلين يتعبد كل منهما لإله يختلف عن الآخر،.. لقد التقيا على العكس من ذلك، لقاء صديقين محبين مسالمين، إذ جاء أتاي غريباً منفياً من وطنه، ومن المؤكد أنه آمن بإله إسرائيل، ولفظ عبادة داجون، واستظل بجناحي الإله الوحيد الحي الذي يتعبد له داود، وقد جاء إلى داود مع ستمائة من الفلسطينيين، لعلهم أهله وعشيرته وبيته، وكان قائداً عليهم!!.. ومن العجيب أن هذا الرجل الغريب تبادل الموقع، ففي الوقت الذي خرج فيه أبشالوم وأخيتوفل وشمعي على الملك،.. جاء هذا الرجل ليأخذ المكان الخالي، وليدافع عن الملك دفاع الحياة أو الموت،.. من حق هذا الرجل أن ننظر إليه وهو يقود ثلث الجيش المدافع عن داود مع يوآب وأبيشاي اللذين قادا الثلثين الآخرين، نفس النظرة التي نظر بها المسيح إلى قائد المئة: "فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعون الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان"... ومن حقنا نحن الذين كنا أصلاً بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لنا، وبلا إله في اعالم، أن نفخر بالرجل القديم الغريب الذي أخذ المكان المتقدم الذي ضاع من ابن البيت وصاحبه!!.. دعونا إذا نرى الرجل في الصورة التالية: أتاي المنفي ليس من السهل أن تعرف لماذا نفى أتاي من بلده ووطنه،.. وهل يرجع الأمر كما يتصور البعض إلى الطغيان في الحكم هناك، مما دعاه إلى الهروب والالتجاء إلى إسرائيل، كما فعل داود في صدر شبابه، وهو هارب من مطاردة شاول الملك؟.. أو أن الأمر يرجع إلى تصرف ما، لم يرق في عيني القادة الحاكمين، مما اضطره أن يلجأ لداود بحثاً عن أمنه وسلامته؟.. أياً كان السبب فإنه من الواضح أن الرجل دخل إسرائيل منفياً متعباً، هو والذين تبعوه، وأنه لجأ إلى داود وإسرائيل بحثاً عن الهدوء والأمن والسلامة ومن الواضح أن النفي كان جزءاً من عناية الله وهو يدري أو لا يدري -للإيمان بإله إسرائيل، والتعرف عليه والاستظلال بجناحيه، وأنه على اختلاف الزمان والمكان أشبه براعوث الموآبية التي حياها بوعز بقوله: "قد أخبرت بكل ما فعلت بحماتك بعد موت رجلك حتى تركت أباك وأمك وأرض مولدك وسرت إلى شعب لم تعرفيه من قبل من قبل ليكافيء الرب عملك وليكن أجرك كاملاً من عند الرب إله إسرائيل الذي جئت لكي تحتمي تحت جناحيه".. ومن الواضح على أي حال أن قصته تطالعنا بملامح رجل ألف حياة الجندية، وارتسمت على قسمات وجهه غضون الآلام والمتاعب والكفاح، ومثل هذه الحياة، يمكن أن تكون التربة الخصبة الصالحة لعمل نعمة الله، وكسبه إلى الحياة الأبدية!!.. ومن المعتقد لذلك أن النفي كان وسيلة الله للبعد عن داجون والاقتراب إلى تابوت العهد في إسرائيل!!... إن المنفى بالنسبة لأي إنسان هو الكارثة بعينها، التي لا يرحب بها، ولكنها مرات كثيرة تكون طريق الله العظمى لكل ما يتمتع به من خير أو بركة،.. وقد لا يكون المنفى بالضرورة البعد عن الوطن أو الحرمان منه، ولكنه على أي حال هو ذلك الإحساس بالأسر المادي أو المعنوي، الذي يجرح الجسد أو النفس، ويترك بصماته العميقة على الروح في الإنسان الباطن،.. في قصة لشاب أمريكي أنه في ثورة من ثورات غضبه لعن بلده أمريكا، وإذ قيل له أنه ليس من الكريم واللائق أن يلعن الإنسان وطنه، وإذ به يجيب ممعناً في التمرد، أنه لا يعتبر أمريكا وطناً له،... وكان جزاؤه القاسي الذي حكم عليه به حرمانه من أن تطأ قدمه أرض أمريكا طوال حياته،.. وضعوه في سفينة تجوب به البحار، دون أن يسمح له أن تطأ قدماه الأرض الأمريكية عندما ترسو في أي ميناء، وحن الشاب إلى أن تطأ قدماه الأرض الأمريكية عندما ترسو في أي ميناء، وحن الشاب إلى بلده، وكان الحنين يمزق قلبه، وهو يرى من على بعد الأرض والمدن والبلاد التي لا يجوز له أن يدخلها، وضاق الطريد بالمنفى، ولما لم يجد رجاء في الأرض، اتجه إلى الله في السماء، وكان الإنجيل صديقه وملاذه في الكربة والضيق، وعندما مات كان هو الشيء الوحيد القريب منه، وتحت وسادته، وكأنما يريد أن يذكر قومه، أنه وإن حرم من وطنه الأرضي، فإنه لا يمكن أن يحرمه أحد من الوطن السماوي، الذي يتجه إليه كل مؤمن غريب نفته الأرض بالموت ليستوطن عند الله،.. قد يكون المنفى بعداً عن وطنه، أو قد يكون أسراً صحياً لجسد فقد البصر، أو أقعدته العلة عن الحركة والنشاط، أو ربما يبدو خسارة في مال، أو هزيمة لمركز، وضياعاً لحب أو ألفة أو صداقة،.. وقد عرفه الشاب الاسكتلندي العظيم چورچ ماتيسون عندما كان في آخر مرحلة في دراسته الجامعية، وكان قد خطب لنفسه فتاة، وأصيب بمرض في عينيه، قرر الأطباء معه أنه لابد أن يفقد البصر، وإذ تركته خطيبته لعلمها بذلك، جرح في الأعماق، وفي منفى النفس، والقلب المكسور، عرف المسيح، وأصبح خادماً من أشهر الخدام الاسكتلنديين، وهو مكفوف، وخلد ما حدث معه بترنيمته العظيمة التي مطلعها: أيتها المحبة التي لا تدعني أذهب!!، لقد أوشك في منفى النفس أن يهيم على وجهه، ويضرب على غير هدى، ولكنه وقد فقد البصر، ضاءت بصيرته، وعرف الحياة الجديدة مع المسيح،.. لم يأت أتاي الجتي إلى المنفى في إسرائيل، بل جاء قبل وبعد كل شيء إلى الله، إله إسرائيل هنا!!... أتاي الغريب كان أتاي الجتي واحداً من أشهر الغرباء الذين سجل الوحي قصة حياتهم العظيمة ين الناس، وهو واحد من ذلك الموكب الجليل النبيل الحافل بأعاظم الرجال أو النساء على حد سواء، موكب ملكي صادق، وأيوب، وراحاب، وراعوث، وأوريا الحثي، وملكة سبأ، ونعمان السرياني، وقائد المئة الذي لم يجد المسيح في كل إسرائيل كإيمانه، وغيرهم من الغرباء الذين بزوا الجميع وتقدموا الصفوف، وصاروا نجوماً لامعة عجيبة في كل التاريخ، وأتاي الجتي بهذا المعنى ليس إلا الصورة أو الرمز لكل أعمى غريب أفقدته النعمة، وجاءت به من المنفى، أو الكورة البعيدة، التي وصل إليها،.. وفي الحقيقة إنها ظاهرة عجيبة تستدعي الدرس والتفكير والتأمل، كيف يمكن أن يأخذ "الأعمى" مكان "الإسرائيلي" و"الغريب" مكان ابن "البيت" على هذا النحو العظيم العجيب،.. وهي ظاهرة يمكن أن نأخذها بصورة أخرى، عندما نرى عمل النعمة الإلهية، في الكثيرين من الأشرار الذين أوغلوا في الخطية والفساد، وهم "غريبون" عن كل كنيسة، أو أكثر من ذلك من مضطهدي الكنائس، والذين لا شيء أبهج على قلوبهم ونفوسهم، من مقاومة العمل الإلهي في كل مجال ومكان،.. في مدينة روزرهام بانجلترا هناك كنيسة أسسها رجل اسمه "يوحنا ثورب"،.. وقصة هذا الرجل عجيبة،.. إذ أن يوحنا ويسلي ذهب إلى المدينة ليعظ فيها، وينادي برسالة الخلاص التي جاء بها المسيح إلى العالم،.. وتصدى يوحنا ثورب ليوحنا ويسلي، وهو يقود جماعة آلت على نفسها أن تفسد كل أثر لرسالة الواعظ الإنجليزي العظيم،.. وابتكر ثورب كل وسيلة شيطانية لإفساد الرسالة الإلهية، فلم يضطهد رجل الله فحسب، بل أراد أن يجعله سخرية للمدينة كلها،.. وذات مرة وهو يقلد ساخراً الواعظ الكبير أمام جمع من المعربدين والسكيرين في أحد البارات، وبينما هو يفعل ذلك، إذ بروح الله يسيطر عليه، وهو في ذات الفعل يسخر ويجدف،.. وإذا بالساخر، لا يتحول قديساً فحسب، بل يصبح أكثر من ذلك واحداً من أعظم مساعدي يوحنا ويسلي في خدمة الله،... وما تزال الكنيسة التي أسسها يوحنا ثورب قائمة إلى اليوم في مدينة روزرهام لتشهد بعمل نعمة الله في المجدف والسكير والشرير والأحمق، والذي تحول ليبشر بالإنجيل الذي كان يتلفه من قبل!!.. أتاي المحب ولا يمكن أن نقرأ قصة هذا الرجل العظيم والجندي الشجاع، دون أن نتبين عاطفة المحبة القوية التي ربطت بينه وبين داود، ومن المعتقد أن كليهما كان صاحب الفضل في أن تصبح واحدة من أندر صور المحبة بين الناس، ولعل السر في ذلك يرجع إلى طبيعة الرجلين واستعدادهما الكامل للتقابل والتجاوب، فداود أصلاً من الشخصيات التي تثير التقدير والإعجاب والحب،.. ولعله وهو الملك النبيل الشجاع، ورجل الله العظيم المقدام، وقد لاذ به أتاي، قد أفسح له المكان، ومن معه، وأعطاه ما لم يكن يحلم به من مساعدة ومعاونة، بل قربه إليه ليجعله من خاصته الملكية، وقائداً لمجموعة الفلسطينيين الذين جعلهم كحرس ملكي له،... وما من شك بأن أتاي وقد خرج من الجو الوثني إلى الجو الفياض بمعرفة الله والإشراق الإلهي، رأى النور مكان الظلمة، ورأى الحق مكان الباطل، ورأى الله مكان داجون،.. وكان لابد أن يؤخذ بهذا كله، ليحوله عصارة حب لله، وللرجل الذي جعله الله على رأس الأمة ملكاً وقائداً لها،.. وما من شك بأن داود رأي في أتاي الرجل الصريح الشجاع الأمين، الجدير بكل تقدير وإكرام ومحبة،... ووقع كلاهما من الآخر الموقع النفسي الحسن،.. على أن الأمر -فيما أعتقد- كان أكثر من ذلك، إذ أن داود التقى بأتاي وهو منكوب عاثر، والنفس العاثرة شديدة الانفعال والإحساس، وهي تذوب حباً فيمن يقف منها موقف الحنان والرفق والعطف والمساعدة والإحسان، والأمر عينه، عندما تعثر داود، ووقف موقف الشريد الطريد، وفاض قلب أتاي، بأعمق المشاعر، ولعله تذكر في ذلك الوقت ما فعل معه داود عندما جاءه هارباً منفياً مطروداً مشرداً،... على أي حال لقد كانت محبة الرجلين بعضهما للبعض مزيجاً من الإعجاب والآلام، والآمال والتعاسات،.. وكانت أصدق صورة للمحبة في صحو النهار أو حلوكة الليل، في رقة النسيم أو أمام الزوبعة القاسية والعاصفة الهوجاء!!... أتاي الوفى كان أتاي الجتي صورة من أروع صور الوفاء التي كتبت في حياة الناس على هذه الأرض،.. وقد كان وفاؤه أولاً وقبل كل شيء لله، أو في لغة أخرى، إن وفاءه لداود كان نابعاً في الأصل من الوفاء لله،.. كان هذا الرجل كما عرفنا رجلاً جندياً بطبعه وحياته، وكان لهذا السبب صادق النظر، مستقيم المبدأ، لا يعرف الازدواج أو الرياء أو التصنع أو الانحراف، وهو يعرف عندما يدخل المعركة، لماذا دخلها، وما واجبه في أوراها واشتداداها،.. ولا شك أنه سأل نفسه هذا السؤال الواحد: ها هي الثورة تقوم، وها هو الابن ينقلب على أبيه، فأيهما على حق وأيهما على ضلال؟!! وكان الجواب على السؤال هو الذي يحدد موقفه القاطع الحاسم النهائي، وقد أدركه بدون أدنى ريب أو تردد، إذ لم يكن هناك شك في أن الموقف الحق الصحيح إلى جانب داود، وضد ابنه المتمرد الثائر الآثم الشرير!!... ومهما تكن النتيجة فإن واجبه يقتضيه أن يقف في موقع الله، حيث الحق والصدق، والشرف والأمانة،... ومن الملاحظ أن أتاي لم يسأل الأسئلة التي قد تراود الذهن البشري قبل أن يقرر مكانه وموقعه، كمثل من يا ترى سيفوز في الثورة، ومن سينهزم؟!! من سيحيا ومن سيموت؟!! من سينجح ومن يصاب بالهزيمة؟!!.. كل هذه أسئلة لا مكان لها عنده، إذ أن مكانه الوحيد: "حي هو الرب وحي سيدي الملك إنه حينما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً"... أليس هذا عين ما قالته راعوث لنعمى من قبل: "فقالت راعوث لا تلحي علي أن أتركك وأرجع عنك لأنه حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت شعبك شعبي وإلهك إلهي، حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد إنما الموت يفصل بيني وبينك"... (را 1: 16 و17). فإذا أضفنا إلى ذلك أن جمال التصميم عند راعوث من قبل، أو عند أتاي فيما بعد، نشأ بعد العرض السخي الكريم من نعمى أو داود أن يعود المصاحب إلى موقعه ومكانه، دون أن يجهد نفسه أو يكلفها بما لا قبل لها من تعب ومشقة وجهد ومعاناة،... وكما رفضت راعوث من قبل، رفض أتاي من بعد في تصميم من وضع يده على المحراث دون أن يفكر لثانية واحدة في النظر إلى الوراء،.. لقد جاء هذا التصميم من نبع الاختيار الحر المطلق الكريم!!.. على أن الجمال الأعظم في هذا الولاء أو الوفاء، أنه جاء في وقت المحنة، والمستقبل الغامض المجهول،... وإذا كانت المحنة قد كشفت الأعماق عند شمعي وأخيتوفل وأبشالوم، وسائر الشعب الذي سار وراءهم، فإنها هي التي أعطت المثل الأعلى في ذلك الذي سار وراء داود وهو مغطى الرأس حافي القدم أعزل من القوة والرجاء بحسب المفهوم البشري ونظرة الناس،.. ومن الغريب أو العجيب أن كلا منا يلزم أن يكون بمعنى ما "أتاي" في التبعية، لابن داود، ابن الله في الأرض،... إذ لا يمكن أن نرى مجده، قبل أن نخرج إليه خارج المحلة حاملين عاره،... وكما وقف أتاي الجتي مع داود ضد من يحاول أن يغتصب عرشه، فإن واجبنا أن نقف مع ابن داود ابن الله، ضد كل المحاولات التي تحاول أن تغتصب مجده وعرشه وجلاله، وتجرده من سلطانه العظيم كملك الملوك ورب الأرباب، ومهما يكن نصيبنا من الاضطهاد والمحن والتشريد والآلام، إلا أن موقعنا الصحيح من المعركة معروف دون أدنى تردد أو تراجع أو إبهام... مع المسيح في الحياة أو الموت على حد سواء!!.. عندما وقف مارتن لوثر في مجمع ورمس، أما تشارلس الخامس الامبراطور، ووجه إليه السؤال: "هل تتراجع أو لا تتراجع عن معتقداتك"؟.. جاء الجواب: "إذا كان "جلالتك" يطلب مني جواباً واضحاً، وبسيطاً، ومضبوطاً، فسأعطي هذا الجواب، وهو أني لا أستطيع أن أخضع إيماني للبابا أو للمجامع، لأنه واضح وضوح النهار أنها تتعرض للخطأ والتناقض بعضها مع بعض، وما لم أقنع بشهادة الكتاب المقدس، وبالمنطق الواضح، ما لم أقتنع بما ذكرت من أجزاء كتابية، وما لم يربط ضميري بكلمة الله، فإني لا أقدر أن أتراجع، ولا يمكن أن أتراجع، إذ أنه ضار بأي مسيحي أن يتكلم ضد ضميره".. وحتم دفاعه بالعبارة التي دوت في كل الأجيال: "هنا أقف ولا أفعل غير ذلك، وليعني الله"... ليس من حق المسيحي أن يسأل أين توجد الأغلبية، أو من يتصور أن يعيش أو يفوز في المعركة إذ أن مكانه دائماً إلى جانب "الملك" في الحياة أو الموت على حد سواء، لأنه إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، لأنه إن عشنا وإن متنا فللرب نحن،... وإذا كان الاسبرطيون القدامى في معركة ترمبولي قد كتب على نصبهم: "أيها المسافرون اذهبوا وقولوا لاسبرطة إننا متنا هنا طوعاً لقوانينها المقدسة"... وإذا كانت آخر كلمات الشاب الفرنسي بايارد، وهو يصعد إلى المقصلة قائلاً لجلاديه: "أيها السادة لست أنا ممن يرثى له، فأنا أموت إتماماً لواجبي، إنما أنتم أولى بالرثاء، يا من رفعتم سلاحكم ضد مليككم وبلادكم وعهودكم"... لقد تصرف أتاي الجتي بالروح التي يلزم أن يتصرف بها المسيحي إزاء سيده وملكه وفاديه ومخلصه،.. وإذا كان داود قد أحس في هذا الولاء روح الحب العميق، الذي على استعداد أن يبذل الحياة نفسها دون تحفظ، فإن ابن داود، أو بالحري ابن الله يستحق أضعافاً مضاعفة كل ولاء ووفاء، مهما تعرض هذا الولاء أو الوفاء للامتحان القاسي أو المحنة الجارفة!!... أتاي المنتصر لقد أعطى هذا الغريب شرف القيادة في المعركة، إذ قسم الجيش إلى فرق ثلاث واحدة بيد يوآب، والأخرى بيد أبيشاي، والثالثة بيد أتاي الجتي، ولعل هذا كان فخر الرجل ومجده، وهو فخر كل من يدعي للقتال في معركة المسيح، وهو الفخر الذي طالب بولس ابنه تيموثاوس بأن لا ينساه أويتخلى عنه عندما قال له: "فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح"... وإذا كان أيوب يذكرنا بالحقيقة التي تتابع كل إنسان على الأرض: "أليس جهاد للإنسان على الأرض وكأيام الأجير أيامه؟!!" فإن السؤال لم يعد بعد: هل نجاهد أم لا؟!!. إذ لابد أن هناك جهاداً محتوماً يواجهنا لكن السؤال: ما هو نوع هذا الجهاد؟!!.. هناك معركة طرفاها داود وأبشالوم، المسيح والشيطان، الخير والشر!! فأي جانب تأخذ في المعركة؟ وأي مصير نرتبط به في قصة جهادنا الأرضي؟!! هل نأخذ المكان إلى جانب أبشالوم، نجاهد الجهاد الآثم الشرير المحرم، الذي لابد أن يلحقه الضياع والموت والهلاك الأبدي؟.. أم نأخذ جانب داود؟ أو بتعبير أصح، جانب ابن داود لنغني في النهاية مع من قال: "جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً!!".. كان البادي حسب الظاهر أن الغلبة ستكون إلى جانب أبشالوم، إذ أن الذين مع داود لا يزيدون عن حفنة لا يمكن أن تقارن بالسيل المخيف من المتمردين الثائرين، ومع هذا، فإن أتاي واجه المستقبل المجهول بالنفس المطمئنة الراضية في الموت أو الحياة، وهذا في حد ذاته هو النصر الذي ما بعده نصر فالمؤمن -شاهداً أو شهيداً- منتصر في كل الحالات مع المسيح، لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح!!.. إن الهزيمة في حياة المؤمن، لا ترتبط إلا بشيء واحد، هو وقوعه في السقوط والخطية،.. أما ما عدا ذلك، فهو النصر، بل هو أكثر من النصر إذ: "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا"... طلب داود أن يدخل في المعركة، فرفض أتباعه، وطلبوا أن يبقى في المدينة ليكون نجدة لهم إذا ما حزب الأمر واشتد القتال،.. على أننا وإن كنا نقاتل في معركة المسيح، وإن هذا هو حظنا وقدرنا، فإن المسيح لا يبقى كداود بعيداً عنا، بل سيرقبنا لينجدنا، حتى يستطيع الواحد منا أن يقول بكل فخر ويقين: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" وسنجد أنه مهما كانت المقتلة العظيمة بين القلة مع داود، والكثرة مع أبشالوم، فإن المعركة ستنتهي على نحو مثير مفاجيء، بسقوط العدو وسحقه، مما سيفعله السيد في المعركة الأقسى والأعظم: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً!!".. عاد أتاي الجتي مع داود إلى أورشليم في موكب المنتصرين، ولا أعلم ماذا كان إحساسه في ذلك، أو ماذا كان مذاق النصر عنده، وقد سقط التمرد والبغي، والشر والفساد أمام الصدق والحق، والأمانة والرحمة،.. لكني أعتقد أن أتاي عاش طوال عمره يذكر تلك اللحظة الحاسمة من حياته! حيث واجه الاختيار الأقسى والأصعب والأشد،.. ولعله علم أولاده وأحفاده -في الصراع بين الحق والباطل- أن يقولوا كما قال هو ذلك اليوم القديم: "حي هو الرب وحي سيدي الملك إنه حيثما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً"...
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل