المقالات

28 سبتمبر 2019

تذكار الإحتفال بالصليب المجيد بكنيسة القيامة سنة 43 ش في عهد الملك قسطنطين البار

نعيد في هذا اليوم بتذكار ظهور الصليب المجيد الذي لمخلصنا يسوع المسيح . هذا الذي أظهرته الملكة المحبة للمسيح القديسة هيلانة أم قسطنطين من تحت كوم الجلجثة الذي أمرت بإزالته ، أما سبب وجود هذا الكوم فهو أنه لما رأى رؤساء اليهود كثرة العجائب التي تظهر من قبر المخلص من إقامة الموتى وإبراء المقعدين ، غضبوا ونادوا في جميع اليهودية وأورشليم " كل من كنس داره أو كان عنده تراب ، فلا يلقيه إلا على مقبرة يسوع الناصري" ، واستمر الحال على ذلك أكثر من مائتي سنة حتى صار كوما عظيما . ولما حضرت القديسة هيلانة وسألت اليهود عن موضع الصليب لم يفيدوها . وأخيرا أرشدها بعضهم عن رجل يهودي مسن يسمى يهوذا يعرف مكانه ، فاستدعته فأنكر أولا ، ولما شددت عليه اعلمها مكان الكوم . فأزالته وأخرجت منه الصليب المقدس وبنت كنيسة وكرست عيد له في السابع عشر من شهر توت . وصارت الشعوب المسيحية تحج إليها مثل عيد القيامة . واتفق ان كان إنسان مسافرا هو وجماعته مع الشعب إلى أورشليم يدعى إسحق السامري ، هذا كان يبكت الناس على تكبدهم المتاعب في الذهاب إلى أورشليم .ليسجدوا لخشبه . وكان مع الشعب قسا يسمى أوخيدس ، وفيما هم سائرون في الطريق عطشوا ، ولم يجدوا ماء فأتوا إلى بئر فوجدوا ماءها نتنا مرا ، فضاق صدر الشعب جدا . وابتدأ إسحق السامري يهزأ بهم ويقول ان أنا شاهدت قوة باسم الصليب! آمنت بالمسيح . فغار القس أوخيدس غيرة إلهية وصلى على الماء النتن ورشمه بعلامة الصليب فصار حلوا . وشرب منه كل الشعب ودوابهم . أما إسحق فانه لما تناول وعاءه ليشرب وجده نتنا مدودا . فندم وبكى وأتى إلى القديس القس أوخيدس وخر عند قدميه أمن بالسيد المسيح . وشرب من الماء فوجده حلوا . وصار في ماء هذه البئر قوة ان يكون حلوا للمؤمنين ، ومرا لغيرهم . كما ظهر فيه صليب من نور . وبنوا هناك كنيسة . ولما وصل إسحق السامري إلى مدينة القدس ذهب إلى أسقفها واعتمد منه هو وأهل بيته . أما ظهور الصليب المجيد على يد الملكة هيلانة فكان في اليوم ا العاشر من برمهات . ولأنه دائمًا يكون في الصوم الكبير فقد استبدله الآباء بيوم 17 توت الذي هو تكريس كنيسته . والمجد والسجود لربنا يسوع المسيح إلى أبد الآبدين . آمين . ملاحظة طقسية : + طقس عيد الصليب شعانيني 3 أيام + تقرأ فصول عيد الصليب في الثلاثة أيام العيد حتى أيام الآحاد + يقال تى شورى والهيتنيات وفاى إيتاف إنف الخاصة بعيد الصليب كما تقال القسمة السريانية + يعامل عيد الصليب معاملة الأعياد السيدية .
المزيد
08 ديسمبر 2020

أهم 10 معلومات عن شهر كيهك

تقوم الكنيسة في شهر كيهك بتكريم السيدة العذراء مريم أم الله . خلال هذا التقرير سنلقي الضوء على أهم 10 معلومات عن الشهر الكيهكي . شهر كيهك هو الشهر الرابع من السنة الطقسية العاطفة تجاه العذراء في هذا الشهر يقوم المؤمنين بإظهار عاطفتهم تجاه السيدة العذراء مريم ، حتى تقوم بإظهار عاطفة الأمومة لكل إنسان اتخذها شفيعة له . أصل تسميته يعود أصل تسميته إلى الإله "كاهاكا" اله الخير علاقة الشهر الوثيقة بالسيدة العذراء ينظر المؤمنين خلال شهر كيهك إلى إتمام سر التجسد ، حيث يتأملون الله الذي اخذ شكل إنسان وولد من العذراء ليخلص شعبه . الشهر المريمي يسمى شهر كيهك بالشهر المريمي نسبة للسيدة العذراء . اللحن الكيهكي للشهر الكيهكي لحن خاص داخل الكنيسة يسمى " اللحن الكيهكي" . مدائح كيهك قام المتنيح الأنبا "اثناسيوس ميخائيل الزيات" الأسقف الفخري على كرسي الفيوم ، بجمع مدائح الشهر الكيهكي في العالم الشرقي والغربي . تسبحة الشهر الكيهكي تسمى تسبحة كيهك " سبعة وأربعة" لان ترتيبها الأساسي عبارة عن أربعة هوسات وسبعة ثيئوطوكيات . شهر كيهك وميلاد الرب يسوع تكثر الكنائس من التسبيح في الشهر المريمي قبل أعياد الكريسماس ، استعدادا لعيد الميلاد المجيد . كيهك وتطويب العذراء قالت السيدة العذراء بعد أن بشرها الملاك جبرائيل بأنها ستكون أما للمسيح الذي يخلص شعبه من خطاياهم . " فهوذا منذ ألان جميع الأجيال تطوبني " ، لذلك تقوم الكنائس بتطويبها قبل أعياد الميلاد. روماني صبري
المزيد
24 يونيو 2021

شخصيات الكتاب المقدس أيوب

أيوب " بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عين "" أى 42: 5 " مقدمة عندما أفاقت الفتاة فرانسس من المخدر أثر عملية كبيرة، قالت لها الطبيبة التى كانت تقف إلى جوارها: تشددى يا فتاتى إن هى إلا بضع ساعات تتحررين بعدها من الآلام، وفى الغد لن تشعرى بآلام أقسى وأشد وأجابت الفتاة الجميلة، وعيناها تلتهبان بشواظ من الضيق والتمرد: إن الأمر لا يقتصر على وليس بى أدنى خوف من الغد، فإن فى أعماقى شيئاً يقهر الألم القاسى،... لكن المشكلة التى تفزعنى هى فى آلاف الناس فى العالم الذين يطحنهم الألم،.. والكثيرون منهم ليس لهم قدرة على النضال، والسؤال الذى ربما تضيقين به، ولكنه يراودنى: كيف أحب إلهاً يسمح بهذه الآلام؟ ولعلك تقولين، إنه ليس مسئولا عن الآلام، إذ هى خطية الناس التى تجلب عليهم آلامهم، ومع ذلك فأنا أعلم أنه قادر على كل شئ فلم يسمح لهم بالآلام؟!!... وقالت الطبيبة: أجل، أنا أعلم أن بعض الآلام تأتى من خطايا الناس،.. ولا أعلم لماذا يسمح اللّه بالكثير من الآلام التى قد لا تكون نتيجة مباشرة للخطية!!.. ومع ذلك أود أن أقول لك: إن هناك فتاة شابة فقيرة على مقربة منك، وقد تعرضت هذه الفتاة لمرض خطير، وكان من المستحيل أن تقاوم المرض، ما لم يكن لها الروح المعنوية العالية التى تتغلب بها عليه،.. وقد قصصت عليها شجاعتك فى تحمل الآلام، إلى درجة أنها تود رؤياك وتشتاق أن تسمع كل شئ عنك!!... وربما لا تعلمين أنه لولا قصتك لما اجتازت الفتاة محنة مرضها!!.. وإذ سمعت فرانسيس هذا امتلأت تأثراً وقالت للطبيبة: أنا لا أستحق أن أوصف بهذه الصورة التى رسمتيها لى، وأود أن أرسل إليها باقة من الزهور!!.. وإذا بنوبة من الألم تسكتها.. وأكملت الطبيبة الكلام قائلة: وسأقول لها: إنكما تقفان معاً على خط النار!!... وقصة أيوب فى كل التاريخ هى قصة الواقفين على خط النار فى أتون الآلام، إذ هو الرجل الذى تتطلع إليه الأجيال كنموذج عظيم للانتصار على التجارب والمآسى: أو كما يذكر الرسول يعقوب: " ها نحن نطوب الصابرين، قد سمعتم بصبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف " يع 5: 11 ". ولعلنا بعد هذا كله يمكن أن نرى القصة فيما يلى:- أيوب من هو:- يعتقد بعض المفسرين أن الاسم " أيوب " من الكلمة العبرية التى تناظر فى العربية " آب " أى رجع.. فهو " التائب " أو " الراجع ". ولعلهم قصدوا أن يصوروه فى قوله أمام اللّه: " لذلك أرفض وأندم فى التراب والرماد " " أيو 42: 6 ".. وهناك من يعتقد أن الاسم يعنى " المضطهد " أو " المتألم "... وأياً كان الاسم، فما من شك أن الرجل كان شخصية تاريخية، وليس مجرد شخصية خيالية أو رمزية،... وحجة المنادين بأنه شخصية رمزية، أن مقدمة السفر وخاتمته جاءت نثراً، وأما البقية فقد كانت شعراً رائعاً وعظيماً،.. ومثل هذا لا ينهض حجة ضد تاريخية الرجل، فإن الشعر فى كل أقطار الأرض تناول أناساً تاريخيين دون أن يقدح هذا فى شخصياتهم التاريخية،... فإذا قيل إن الأرقام الواردة به وردت ابتداء وتضاعفت انتهاء فى البهائم والسائمة والماشية وأن أرقامها الدائرية، لا تعطى حقيقة تاريخية، كان الرد أن هذه أيضاً حجة واهية، لأن كاتب السفر لم يقصد أن يسجل عددها، بقدر ما أراد أن يسجل مضاعفة بركة اللّه للرجل الذي احتمل التجربة،... وأن الأولاد فقط هم الذين كان عددهم مماثلا فى النهاية للذين ذهبوا إلى اللّه فى الكارثة التى أحدثها الشيطان، فهم لم يضيعوا، بل حفظوا فى المجد إلى أن لحق بهم أبوهم وأخوتهم!! وهناك حجة ثالثة تقول إن السفر قد ضم إلى الكتب التعليمية، كسفر المزامير والأمثال والجامعة والمراثى، ولم يضم إلى الكتب التاريخية،... غير أن هذه الكتب نفسها تعد حجة مع أيوب كشخصية تاريخية، وليست ضده، لأن الكتب التعليمية كانت هى ذاتها، والكثير مما تضمنته وقائع تاريخية، لأشخاص تاريخيين!!.. وفى الواقع أن كتاب سفر أيوب، هو كما وصفه فيكتور هوجو قائلا: ربما هو أعظم كتاب على الأرض واجه الذهن البشرى وكان أيوب شخصية تاريخية، ذكره حزقيال النبى كشخصية تاريخية يقول عنها اللّه له: " ياابن آدم إن أخطأت إلى الأرض وكان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة: نوح، ودانيال وأيوب... إن عبرت فى الأرض وحوشاً وفى وسطها هؤلاء الرجال الثلاثة، فحى أنا يقول السيد الرب إنهم لا يخلصون بنين ولا بنات هم وحدهم يخلصون " " حز 14: 13 - 20 " ويقول أيضاً يعقوب الرسول: وقد سمعتم بصبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف " " يع 5: 11" ويعتقد مارتن لوثر أن أيوب شخصية تاريخية، وأن كاتب السفر رجل تقى عميق الفهم والدراية الكتابية!!ومن الواضح أن أيوب كان أعظم رجل شرقى فى عصره، وأنه من " عوص " التى يعتقد أنها كانت فى الطرف الشمالى للجزيرة العربية، وتقع بين فلسطين ونهر الفرات، وربما كانت المدينة على اسم " عوص " من سلالة سام!! فإذا تحولنا إلى أخلاق الرجل وصفاته، نجد أنه وصف بأربعة أوصاف أساسية: " وكان هذا الرجل كاملا، ومستقيما، يتقى اللّه، ويحيد عن الشر " " أيو 1: 1 و8، 2: 3 " ولا يعنى الكمال أنه كان بلا خطية، فهو قد تحدث عن خطاياه، وأنه لا يمكن أن يظهر الإنسان كاملا أمام اللّه، ولكن الكمال بالمعنى النسبى، وهو التوازن الخلقى الذى يظهر فيه الإنسان " موزوناً " على حد التعبير الشائع، بدون ازدواج أو انفصام فى الشخصية، أو يعتبر ملوماً فى هذا أو ذاك من أوضاع الحياة، وقد أوضح الرسول بولس هذا الكمال النسبى فى رسالة فيلبى عندما قال: " ليس أنى نلت أو صرت كاملا ولكنى أسعى فليفتكر هذا جميع الكاملين منا " " فى 3: 12 - 15 " إن الولد الصغير الذى ينال الدرجة النهائية فى الحساب مثلا درجة الكمال، ليس معناه أنه أصبح عالماً فى الرياضيات لا يحتاج إلى نمو فى معرفته للحساب، لكنه الكمال الذى ينمو ويتحول كمالا آخر مع تزايد المعرفة والإدراك،ولعل هذا الكمال يتضح فى السلوك المستقيم الذى لا يعرف الالتواء، بل يتبع الخط المستقيم طوال الطريق كلها، والرجل لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا توفر له أمران: أحدهما داخلى، والآخر خارجى، أحدهما مع اللّه والآخر مع الناس، أحدهما فى السريرة، والآخر فى السيرة،فهو فى السريرة الداخلية " يتقى اللّه " أى يخاف اللّه ويخشاه ويجله ويحترمه، وهو فى السيرة أمام الناس " يحيد عن الشر " أى يتباعد عنه، ولا يرتبط به بأية صورة من الصور!!.. أيوب والحوار غير المنظور:- إن النقطة التى يبدأ بها سفر أيوب، وينتهى، هى الحوار غير المنظور، بين اللّه والشيطان ابتداء، وبين اللّه وأيوب انتهاء، ومن اللازم أن نشير إلى أن أهم ما فى الوجود، ومن فى الوجود، هو غير المنظور، وأن مصائر الحياة، تتعلق بغير المنظور دون أدنى شبهة أو شك،وإن أقل ما فى الوجود هو المنظور،وإن أقل ما يجرى بين الناس هو المنظور، وأنه كان من الطبيعى إذا أردنا لقصة أيوب أن تتصور على حقيقتها، أن نبدأ بغير المنظور، أو أن نبدأ بالمنظر العلوى غير المكشوف للعين البشرية، الذى يمثل فيه الشيطان فى حضرة اللّه،والسؤال: كيف يمثل، وهل يمثل برغبته، أم يمثل بأمر أو سماح من اللّه؟؟ إنها أسئلة عويصة، ليس من السهل الإجابة عليها، وإن كنا نعلم أنها حقيقة واقعة، وأن ما يحدث على الأرض فى حياة الناس أو البيوت أو المجتمعات أو الممالك، يحدث فى العادة لأن غير المنظور تحكم فى المنظور،وأن الناس لا تعرف فى العادة من الحقيقة: إلا أقلها وأبسطها،فهذا الشيطان الذى مثل أمام اللّه يطلب أيوب، هو نفسه الذى مثل أمام السيد لنفس الشئ تلاميذ المسيح. وكما ادعى الشيطان أن أيوب لا يعبد اللّه مجاناً، وأنه لو سلم فى يده لأثبت هذا، هو نفسه الذى أراد أن يفتك بتلاميذ المسيح، وهو يصورهم على استعداد أن يتركوا المسيح عند أقل بادرة: " هوذا الشيطان طلبكم لكى يغربلكم كالحنطة ".. (لو 22: 31).. وهو الذى يشتكى على المؤمنين ليلا ونهاراً أمام اللّه، " رؤ 12: 10 "ولو أننا تأملنا هذا الحوار المثير لأدركنا أنه تحد للّه، أكثر من تحد لأيوب، وكأنما الشيطان يريد أن يقول للّه إن نعمته ليست كافية قط لأن تحفظ الإنسان، فى شتى التجارب والآلام، وأن العلاقة بين الإنسان واللّه، ليست هى نوعاً من الحب بين الإنسان واللّه، الحب العميق المجرد الخالص، بل هى نوع من المتاجرة، يجزل اللّه العطاء ليكسب ولاء الإنسان وتعبده وصلاته،وهذا الاتهام التعس الرخيص، إذا كان يصيب الإنسان فى الصميم، فإنه يجرح مشاعر اللّه ولا شك، واللّه الآب السماوى لا يقبل أن تكون علاقته بابنه المؤمن، مجرد علاقة وصولية نفعية، يعطى فيه الابن مقابل ما يأخذ، أو يقدم على أساس الانتفاع والمصلحة،... وقد أخذت قصة أيوب قوتها أمام الأجيال والتاريخ، فى أن اللّه يريد أن يكشف الحقيقة الثابتة لديه، والغائبة عن العالم والشيطان والتاريخ: إن نعمة اللّه الحافظة قوية منتصرة على طول الخط، وأن علاقة المؤمن باللّه تضرب جذورها العميقة فى المحبة الإلهية - محبة المسيح لنا وليست محبتنا للمسيح - والتى جعلت بولس يتحدى الشيطان فى قوله العظيم: " من سيشتكى على مختارى اللّه؟ اللّه هو الذى يبرر. من هو الذى يدين. المسيح هو الذى مات بل بالحرى قام أيضاً الذى هو أيضاً عن يمين اللّه الذى أيضاً يشفع فينا. من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشده أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عرى أم خطر أم سيف؟ كما هو مكتوب اننا من أجلك نمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح. ولكننا فى هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذى أحبنا. فإنى متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة اللّه التى فى المسيح يسوع ربنا " " رو: 33 - 39"إن الحقيقة المثيرة التى ينبغى أن ننبه الناس إليها، فى قصة أيوب، والتى تقلبها رأساً على عقب، هى أن أيوب صمد فى المعركة لسبب واحد لا أكثر ولا أقل، وقد ذكره السيد المسيح فى قوله: " وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدى، أبى الذى أعطانى إياها هو أعظم من الكل ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبى ".. " يو 10: 28 و29 " عندما هدد الكاردينال " كاجيتان " لوثر وهو يقول له: " إن خنصر البابا أغلظ من ألمانيا التى أنت متكل عليها، وأين تكون أنت عند ئذاك؟!!... وأجاب لوثر: أكون حيث أنا الآن فى قبضة يمين القادر على كل شئ!!.. قال أحدهم: إن الشيطان رغم معرفته بحقائق كثيرة، لكن هناك حقيقة يجهلها أو لا يستطيع أن يصل إلى عمقها، وهى قدرة نعمة اللّه الفعالة فى حفظ الناس!!.. وهذه الحقيقة ليست مجرد خيال أو تصور، أو من باب التخمين أو الاستنتاج، بل إنها واضحة من القصة نفسها، لقد استنفد شيطان تجاربه بالقضاء على ثروة أيوب وأولاده، بسماح من اللّه، ثم عاد مرة أخرى يطلب مواصلة الامتحان فى جسده، وأعطى له كل شئ بحدود، فهو ليس مطلق التصرف، وعندما طلب التلاميذ ليغربلهم كالحنطة... كان هناك طلب آخر، مضاد ومعاكس لطلب الشيطان، وهو طلب المسيح " طلبت من أجلك لكى لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت فثبت إخوتك ". " لو 22: 32 ".. لقد ذهب يهوذا لأنه كان ابن الهلاك، وبقى بطرس لا لقوة فيه، بل للحارس الضامن بأعجوبة النعمة الإلهية الفعالة فى حياة المؤمنين!!... أما ما هى البواعث العميقة فى قلب اللّه للمنح أو للترك؟؟؟... فهذا سؤال أعمق من أن يصل إليه الإنسان فى العالم الحاضر، وربما يشاء اللّه فى جلاله الأبدى أن يبقيه، إلى أن يكشف حكمته العظيمة الكلية، فيما وراء عالمنا المنظور وفى مجده الفائق فى السماء،... ومن الثابت على أية حال أن صراعنا الأكبر فى الأرض، ليس الصراع مع المنظور، بل مع غير المنظور، أو كما يقول الرسول بولس: " البسوا سلاح اللّه الكامل لكى تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد ابليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية فى السماويات " " أف 6: 11 و12 " إن الناس، كبروا أو صغروا، ما هم إلا دمى فى يد الشيطان يلعب بهم ويستخدمهم فى حربه مع المؤمنين!!.. ومن أول التاريخ البشرى حتى نهايته، من اللحظة التى اختبأ فيها الشيطان فى الحية، والتى ظهر فيها فى الصليب من وراء قيافا وبيلاطس واليهود والرومان،... والتى فيها ارتكب يهوذا جريمته الكبرى بعد أن دخله الشيطان،... وإلى آخر القصة البشرية، لا ينبغى أن نحول النظر عنه، لأنه دائم الجولان والتمشى فى الأرض، " ولأن ابليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو "... " 1 بط 5: 8 " هل يستطيع البشر كتابة التاريخ من هذه الزاوية؟،.. إنهم إن عجزوا، فإن الأبدية سترويه وستقصه من هذه النقطة المثيرة التى لا يتعمق الناس فى دراستها، وهم يناقشون مسرحية الإنسان ولعبته الكبرى فى الأرض!!. أيوب والحوار المنظور مع أصحابه:- فإذا تركنا الخلفية غير المنظورة، وتحولنا إلى الحوار المنظور، وهو الحوار الذى قام بين أيوب وبين أصدقائه الأربعة،... ولكن قبل أن نتعرض لهذا الحوار، لابد أن نشير إلى أن لغز الألم أعمق من أن يكشف عنه البشر فى الأرض!!.. قال ج. ولا س هاملتون: " لا يمكن لأى إنسان إلا الأحمق أن يدعى معرفة الجواب عن كل آلام الإنسان فى العالم،... إن آلام الإنسان مغطاة بالرهبة وبالفزع المقدس، وهى التى تجعله يصرخ فى اتجاه السماء قائلا: لماذا!!؟... وأحكم الناس على الأرض، لا يستطيعون معرفة لماذا!!... ومع ذلك، فنحن لسنا فى ظلام مطبق!!... فالناس الذين يشتكون، كثيراً ما ينسون أن شكواهم ما هى إلا خلاصة الاختيار الذى اختاروه هم لأنفسهم!!.. ومع ذلك فليس الكل يشتكون دائماً، إذ نحن نعيش فى عالم واحد، والناس يدخلون الاختبار الواحد بدرجات مختلفة، وتقبل الإنسان الأمور بالشك أو الإيمان، إنما هو عملية داخلية بينه وبين نفسه!!.. ورد الفعل عند البعض بالمرارة والتذمر، وعند آخرين هو التدرب على اليقين بأن صمت السماء ليس مجرد صمت غليظ أو جاف، بل سيتعلمون بعض المعانى، وسيرون فى أعماق الليل، النجوم التى لم يستطيعوا أن يروها فى النهار، وسيدركون أن المعنى الأعمق فى الحياة هنا ليس السعادة بل القداسة، وأن ما هو أفضل لنا، هو القياس الصحيح للنضال المحتدم فى حياتنا!!.. فقد " هارولد رسل " يديه فى الحرب العالمية الأخيرة، لكنه أصبح واحداً من أشجع الناس فى تقبل صدمته بعد الحرب، وشق طريقه لتصبح حياته ذات فائدة ومغزى عندما كتب كتاباً فى عام 1949: " النصر فى يدى " قال فيه: إنه ليس هناك قاعدة سهلة للحياة السعيدة، والذى يقول غير ذلك إما أنه ساخر، أو كاذب ولست أقصد أن أعطى وصفة أو تذكرة طبية من عندى،... ولكنى أركز على حقيقة واحدة بسيطة، إذا كان لى أن أذكر، وهى ليست وصفة مؤكدة للسعادة، أو سبيلا يمكن أن يملأ حديقتك الخلفية بالطيور المغردة، بل هى فى الواقع، ما وجدت أنه يساعد على الانتصار على الأسف الذى لا يجدى، أو هزيمة النفس!!... إنه ليس ما تفقد بل ما تترك هو الذى يتبقى،... وما أكثر الذين يبذرون جهدهم ووقتهم وأحلامهم فى الأمور التى انطوت، والتى لا يمكن أن تعود، وكان الأحرى بهم أن يشغلوا حياتهم بالحقائق، والواجبات الثقيلة اليومية " لقد أفلس أيوب وأصحابه فى الوصول إلى الحل الأخير لمشكلة الألم، وبقيت المشكلة أعمق من أن نجد لها الجواب الصحيح فى العالم الحاضر، ويكفى أن نلخص الحوار العظيم حول هذه المشكلة فى سفر أيوب!!.. لقد بدأ أيوب الحوار، بعد أن عجز عن ضبط نفسه، فلعن اليوم الذى ولد فيه، والليل الذى تصور فيه فى بطن أمه، وتمنى لو أنه مات طفلا، ليتساوى مع الذين ماتوا بعد أن بنوا الأهرام،... ومن المتصور أن اليفاز التيمانى كان أكبر الصحاب، وخلاصة كلامه فى الأصحاح الرابع أنه لابد أن هذا عقاب من اللّه على خطايا ارتكبها أيوب، وطلب إليه فى الأصحاح الخامس أن يتوب عنها، وسارع أيوب فى الرد على أليفاز، فى الأصحاحين السادس والسابع، غير أن بلدد الشوحى وصوفر النعمانى ساندا أليفاز فى الأصحاحين الثامن والحادى عشر، وكان بلدد أقسى من أليفاز، وصوفر أقسى من بلدد،... ورد أيوب بضعف على الجميع فى الأصحاحات التاسع والعاشر والثانى عشر، والثالث عشر، والرابع عشر ووصفهم بالقول: " أما أنتم فملفقو كذب أطباء بطالون كلكم ". " أيو 13: 4 ".. ومع أن أيوب اعترف بخطايا صباه: " لأنك تثبت على أمور مرة وورثتنى آثام صباى ". " أيو 13: 26 ".. ومع أنه اعترف بنقصه شأن كل بشر: " أ أخطات؟ ماذا أفعل لك يارقيب الناس؟ لماذا جعلتنى عاثوراً لنفسك حتى أكون على نفسى حملا؟. وولماذا لا تغفر ذنبى ولا تزيل إثمى لأنى الآن اضطجع فى التراب تطلبنى فلا أكون؟ " " أيو 7: 20 و21 " إن اخطأت تلاحظنى ولا تبرئنى من إثمى. إن أذنبت فويل لى، وإن تبررت لا أرفع رأسى " " أيو 10: 14 و15 " " كم لى من الآثام والخطايا أعلمنى ذنبى وخطيتى " " أيو 13: 23 " " أما الآن فتحصى خطواتى، ألا تحافظ على خطيتى؟ معصيتى مختوم عليها فى صرة وتلفق على فوق إثمى " (أيو 14: 16/17) إلا أن أيوب مع هذا كله لا يعلم خطية معينة معروفة لديه قد ارتكبها، وهو لهذا يؤكد: " فى علمك إنى لستت مذنباً " " أيو 10: 7 " وهو إذا حوكم سيخرج بريئا!!.. وبينما يرى أصدقاؤه أن هذا الإصرار من جانبه على براءته يعتبر نوعاً من التجديف: " أما أنت فتنافى المخافة وتناقض التقوى لدى اللّه، لأن فمك يذيع إثمك وتختار لسان المحتالين " " أيو 15: 4 و5 " ومع أن أيوب، وهو فى سياق الدفاع عن نفسه، كاد يصور اللّه، وكأنه لا يبالى بالفرق بين الكامل والشرير: " لذلك قلت إن الكامل والشرير هو يغنيهما. إذا قتل السوط بغتة يستهزئ بتجربة الأبرياء. الأرض مسلمة ليد الشرير. يغشى وجوه قضائها، وإن لم يكن هو فإذاً من " " أيو 9: 22 - 24 " " خيام المخربين مستريحة والذين يغيظون اللّه مطمئنون الذين يأتون بإلههم فى يدهم " (أيو 21: 6).. وهو مع هذا كله، لا يتخفى عن اللّه مهما يفعل اللّه معه،... وهو يؤمن أنه سينصفه بصور ة ما، وفى يوم ما... ولذا يقول مهما بلغت قسوة أصدقائه عليه: " هوذا يقتلنى. لا انتظر شيئاً. فقط أزكى طريقى قدامه ". " أيو 13: 15 " فإذا انتهى الحوار الأول عند هذا الحد، فإن حواراً ثانياً يبدأ من الأصحاح الخامس عشر حتى نهاية الأصحاح الحادى والعشرين وقد بدأه أيضاً أليفاز التيمانى، وفيه يؤكد بشهادة الحكماء الأقدمين، العقاب الذى يلاحق الأشرار فى الأرض،... وقد عدد بعده بلدد فى الأصحاح الثامن عشر الألوان المختلفة لهذا العقاب،... ويبدو أن صوفر وهو يساند الاثنين، يكاد ينعت أيوب بالخطايا السرية التى ارتكبها، وجلبت عقاب اللّه عليه،... وقد رد أيوب فى الأصحاحات السادس عشر والسابع عشر والتاسع عشر والحادى والعشرين، ويبدو من الرد أنه لا يهتم باتهامهم له، فهو فى نظره لغو فارغ بغير دليل،... وأنه لهذا يشهد اللّه: " أيضاً الآن هو ذا فى السموات شهيدى وشاهدى فى الأعالى " " أيو 16: 19 " وهو لا يتحدث عن براءته فحسب، بل يؤكد أن اللّه لابد أن يكشف الحق يوماً ما ولو بعد حياته هنا على الأرض، أو كما يقول: " ليتك توارينى فى الهاوية وتخفينى إلى أن ينصرف غضبك عنى وتعين لى أجلا فتذكرنى. إن مات رجل أفيحيا؟ كل أيام جهادى أصبر إلى أن يأتى بدلى تدعو فأنا أجيبك تشتاق إلى عمل يديك " " أيو 14: 13- 15"" أما أنا فقد علمت أن وليى حى، والآخر على الأرض يقوم، وبعد أن يفنى جلدى هذا وبدون جسدى أرى اللّه ".. " أيو 19: 25 و26 " على أنه فى الوقت عينه، وفى الرد على صوفر يبدو أيوب أو بالحرى يقع فى التجربة التى وقع فيها آساف عندى يرى خير الأشرار وفيضهم وبهجتهم، وهو يفزع لهذا كله على النحو الذى يذكره فى الأصحاح الحادى والعشرين!! فإذا جئنا إلى الحوار الثالث وهو الذى يبدأ من الأصحاح الثانى والعشرين حتى نهاية الأصحاح الحادى والثلاثين، فنجد أنه فى هذا الحوار يتخلف صوفر عن الاشتراك فيه. ويتكلم أليفاز فى الأصحاح الثانى والعشرين وبلدد فى الخامس والعشرين، ويجيب أيوب فى الأصحاحات الثالث والعشرين والرابع والعشرين، ومن السادس والعشرين حتى الحادى والثلاثين - ويؤكد أليفاز بشاعة خطية أيوب، كما يتصورها فى الأصحاح الثانى والعشرين، وفى الوقت عينه رحمه اللّه الواسعة متى اتضع أمامه وتاب،... ويضيف بلدد إلى ذلك متحدثاً عن عظمة اللّه وسلطانه، وضعف الإنسان ونقصه: " السلطان والهيبة عنده. هو صانع السلام فى أعاليه، هل من عدد لجنوده وعلى من لا يشرق نوره فكيف يتبرر الإنسان عند اللّه وكيف يزكو مولود المرأة هو ذا نفس القمر لا يضئ والكواكب غير نقية فى عينيه فكم بالحرى الإنسان الرمة وابن آدم الدود " " أيو 25: 2 - 6 " ويرفض أيوب إتهام الرجلين، ويؤكد براءته ويدعمها باستعداده للمثول فى حضرة اللّه، وأنه إذا جربه سيخرج كالذهب، وهو يذكر كم يعانى الأبرار من متاعب، وكم يستمر الأشرار فى ظلمهم،... ومع ذلك فهو يؤكد عظمة اللّه وجلاله ومجده، فى الأصحاح السادس والعشرين، وأن نهاية الأشرار، مهما ارتفعوا وعلوا، قاسية وشنيعة كما يظهر فى الأصحاح السابع والعشرين - ومن الغريب أن الإنسان مهما علا فى الفهم والإدراك والمعرفة العالمية، فهو عاطل تماماً من كل حكمة سماوية كما يظهر فى الأصحاح الثامن والعشرين!!.. ويختم أيوب هذا الحوار بالحديث عن نفسه، فى مجده السابق، وفى حياته العظيمة، وفى مأساته اللاحقة،... دون أن يتخلى عن يقينه بصدق حياته وأمانته أمام اللّه والناس، وأنه ليس لأصدقائه أدنى حق، فيما حاولوا أن يتهموه، أو يلصقوه به!! فإذا أردنا أن نلخص كل مساجلات الحوار التى أشرنا إليه، فهو اتهام يبدأ بالتشكك، ثم تصاعد إلى مرتبة اليقين من أصدقاء أيوب، عن الخطايا المتعددة والجسيمة التى اقترفها صاحبهم سراً أو علنا، والتى لا يمكن أن يتركها اللّه دون عقاب، إذ هو شديد البأس والبطش بالخطاة والأشرار، وهيهات لمجرم أو آثم أن يفلت من بين يديه، وأنه يمكن أن يكون هناك رجاء، لو أن أيوب اتضع فى حضرة اللّه، وندم، ويدفع أيوب عن نفسه سائرالتهم. ويؤكد براءته، ويسجل أن الأبرار وليس الأشرار هم الذين يعانون مرات كثيرة من الظلم والمتاعب والآلام،... وعلى العكس، فما أكثر النعم والمتع والخيرات التى تمتلئ بها بيوت العتاة! وهو لا يعرف السبب الذى من أجله تلاحقت النكبات، والتى قلبت حياته رأساً على عقب،... وهو يتمسك باللّه، وبكماله، وهو يؤمن أن اللّه لابد أن يحقق العدل الذى ضاع فى الأرض ويؤمن بحياة بعد الموت، فصحح فيها كل الأوضاع، ويتم فيها الجزاء الصحيح للأبرار أو الأشرار على حد سواء!!... وإذ ينتهى الحوار عند هذا الحد، دون أن ترجح كفة أيوب أو كفة أصحابه، يدخل أليهو طرف فى الحوار، وقد ظل مستمعاً طوال الوقت وكان أحدث سنا، ولعل هذا هو الذى منعه من المساجلة أولا!!.. ولكنه لا يلبث وقد تمكن منه الغضب على أيوب وأصحابه، أن يدفع فى حديث طويل، يتجه شطره الأكبر إلى أيوب، ما بين الأصحاحات الثانى والثلاثين إلى السابع والثلاثين، والأقل إلى أصحابه،... وفيه يندفع قاسياً فهو لا يقبل تبرير أيوب لنفسه، ويشتد عليه فى الكلام،... وإن كان فى الوقت نفسه يدخل عنصراً جديداً لم يذكره أصحاب أيوب الثلاثة... وهو أن الآلام والمآسى، تأتى من اللّه أساساً فى أغلب الأحوال، وهى تأديبات المحبة، وليست عقوبة الغضب، وأنها مرسلة للتعليم والتقويم والتحذير، دون أن تكون رصداً لخطايا قديمة ينتقم منها!!.. أيوب والسبى المردود:- وفى الأصحاحات الأربعة الأخيرة، تأتى نهاية القصة العظيمة. ويظهر اللّه من خلال العاصفة، ليتحدث إلى أيوب، وإذا كان أصدقاء أيوب جميعاً، قد صمتوا، ولم يعد لهم كلام، ولم يكن لأيوب سوى كلمات قليلة، فإن اللّه يتكلم، وهو لم يأت ليتحاجج مع أيوب أو ليعطيه جواباً على أسئلته، بل أخرجه إلى الطبيعة الواسعة ليعرف منها كيف يكون الجواب!!.. وكان السؤال: هل يستطيع أيوب وهو يرى السماء والنجوم، والبحار والنور، والزوبعة والجليد، والضباب والوحوش، والحيوانات البرية وفرس البحر، والتمساح وغيرها، هل يستطيع أن يخلفها، ويقودها، ويوجهها!؟؟ وهل له القدرة والحكم والسلطان على تسييرها وضبطها وفق النظام الدقيق العظيم الذى تسير به كما يلمح ويشاهد!!؟... ومع أن أيوب سبق أن صاح: " من يعطينى أن أجده فأتى إلى كرسيه. أحسن الدعوى أمامه وأملأ فمى حججاً فأعرف الأقوال التى بها يجيبنى وأفهم ما يقوله لى " " أيو 23: 3 - 5 "... إلا أنه - وقد جاء أمام اللّه فى جلاله العظيم - لم تعد له كلمة أو حجة واحدة يجاوب بها، إذ أدرك حقارته ووضع يده على فمه إذ لا يجد الجواب!!.. وإذا كان اللّه يدير الكون بهذه القدرة الواسعة، والحكمة العظيمة، فهل يستطيع أيوب أمام أسرار اللّه الفائقة أن يبحث سراً واحداً، ويهتدى فيه إلى حل!!؟.. لقد أدرك أيوب، ما ينبغى أن يدركه الإنسان فى كل العصور والأجيال، إن الحياة مفعمة بالأسرار، وأن الإنسان مهما يبلغ من معرفة أو فهم ستأتى عليه اللحظات التى يقف فيها أمام الجلال الإلهى، عارى القدم، مغطى الوجه، لأن الأرض التى يقف عليها أرض مقدسة، وأن أسرار اللّه التى يطويها، (ومن بينها سر الألم) ستبقى مكنونة، ومحفوظة، ومهما قال الإنسان إزاءها: لماذا!!؟ لماذا!!؟ فإنه يجمل به على الدوام أن يقول: " لما كنت طفلا كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن... ولكن لما صرت رجلا أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن فى مرآة فى لغز لكن حينئذ وجهاً لوجه، الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت "!! " 1 كو 13: 11 و12 ".نسى أيوب كل حججه أمام اللّه، وإذ سمع صوت القدير انجابت عن نفسه الزوابع والأعاصير، وسكنت مشاعره وقرت نفسه،... إن سر عاصفته هو أنه كان يتكلم عن الرب ويبحث عنه دون أن يجده، ولكنه الآن قد رآه وسمعه، وهناك فرق شاسع بين أن يتكلم الإنسان عن الرب، وأن يكلم الرب،... وبين أن يسمع عن الرب، وأن يسمع الرب. إن سر الشقاء والتعاسة الدائمة للانسان، هو أنه لا يستطيع أن يتبين اللّه أو يسمعه من خلال تجاربه، ولكن أيوب تعلم بعد أن سمعه، أنه وإن كان لا يفهم شيئاً فمن واجبه أن يثق فيه ويؤمن به، وهو إذ يصل إلى هذه النتيجة، يندم على ما فرط منه دون فهم، بل يلتتصق بالتراب والرماد فى الخضوع والتسليم للّه!!.. ملك الشيطان الزمام مؤقتاً، ولكنه خسر المعركة، وسيخسرها على الدوام، لأن اللّه محبة، ولأن السبيل إليه، على الدوام، هو سبيل الإيمان..لم يؤخذ أيوب مع أملاكه إلى الأسر، ولم يذهب بعيداً عن المكان الذى عاش فيه. فلماذا يقال: " ورد الرب سبى أيوب؟ ".. إن الكلمة تعنى نهاية الألم والتعب، والضيق والمشقة، والعسر والمرض،.. أو فى - لغة أخرى - إن عودة الحياة والصحة والأصدقاء والظروف الطيبة، كمن أفلت من الأسر والغربة والبؤس والتشريد، ليعود إلى السلام والبهجة والهدوء والراحة بعد طول البلوى والمعاناة، وهو لم يعد إلى هذه جميعاً، إلا بعد أن جلس مستضعفاً على التراب فى حضرة اللّه،.. ولن يرد اللّه سبينا أو يعيد إلينا المجد والجلال والحياة، إلا ونحن فى وادى الوداعة والتصاغر والاتضاع أمام عظمته الكلية ومجده الأسنى، وهو لن يفعل ذلك قبل أن نغفر لإخوتنا، ونزيل كل مرارة من نفوسنا تجاههم،.. ولم يرض اللّه على أليفاز وصوفر وبلدد، رغم ما تكلموه أو ظنوا أنه يتكلمونه من أجل اللّه،.. ومع أنهم تكلموا جميعاً عن المبادئ السليمة عن اللّه وحقه ومجده العظيم، لكنهم أخطأوا، إذ تحدثوا عن أيوب، وظلموه بما لم يكن لهم به علم، واللّه لا يقبل دفاعاً يستند إلى ظلم، أو حقاً يتمشى إلى جانب القسوة فى الحكم على البائس المسكين. وعفا اللّه عنهم بالذبيحة التى قدمها أيوب من أجلهم!!.. وانتهت قصة أيوب بالبركة المضاعفة، والأولاد السبعة والبنات الثلاث البارعات الجمال،.. وبالحياة الصابرة التى عوضها اللّه كل شئ بسخاء عظيم!!.فى أحد معسكرات أسرى الحرب العالمية الأخيرة، وجدت هذه الكلمات التى كتبها أحدهم: إنى أؤمن بالشمس حتى لو لم تكن ساطعة، وأؤمن بالمحبة حتى ولو لم أحس بها، وأؤمن باللّه حتى ولو صمت ولم يتكلم!!... حقاً نحن لا نعلم ماذا سيأتى به الغد. ولكننا نعلم من يمسك بالغد!!..
المزيد
01 يناير 2021

شخصيات من الكتاب المقدس داود النبى

"..وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي" أع 13: 22 مقدمة يقول بروفسور بليكي: الناس دائماً واحد في واحد، وأما داود فمجموعة واحدة، إذ قد جمع في شخصيته العظيمة أشتاتاً متعددة من الشخصيات، فهو كأخنوخ في السير مع الله، وكإبراهيم في إيمانه القوي، وكإسحق في تأمله العميق، وكيعقوب في كفاحه ونضاله، وكموسى في التهاب وطنيته، وكيشوع في خياله وهمته، وكجدعون في شجاعته وقوته، وكصموئيل في عدالته وغيرته، كان نبياً، وكان شاعراً، وكان مرنماً، وكان ملكاً، وكان إنساناً، كان كل هذه على حدة، وكان كل هذه مجتمعة معاً!!.. يقول هيجل الفليسوف: إن الشخصيات العظيمة تلقى علينا المزيد من المتاعب في تحليلها، للصفات المختلفة المتباينة فيها، وقد دعا مكارتني داود: "الرجل المتناقض" الذي جمع ما يشبه المتناقضات في حياته،.. وإذا كان فوسدك قد ذكر أن المسيح هو الإنسان الوحيد الكامل الذي وازن بين الكمالات الإلهية في نفسه، كاللطف والصرامة، والفرح والحزن، والغيرة والمحبة والقداسة، فلا توجد فضيلة فيه على حساب الأخرى، فإن داود ربما كان أقرب الناس إلى ابنه الأعظم، مع فارق التناقض الواسع الذي سببته الخطية في حياة الملك الإسرائيلي القديم، ومع ذلك فإن هذا الرجل هو الذي قال عنه الله: "وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع مشيئتي!! لم يكن داود معصوماً كالمسيح، ولكنه أدى دوره في الحياة، ويكفيه فخراً أن يكون من أقرب الكواكب اللامعة، إلى شمس البر، إلى ابن الإنسان، إلى ابن الله!!.. وأرجو أن تعلمنا قصته في الصواب والخطأ، كيف نتمسك بالصواب وننتصر على الخطأ، ولذا أرجو أن نراه من النواحي التالية: داود وشخصيته العظيمة اسمه داود أو "المحبوب" يعتقد أنه ولد على الأغلب في عام 1085ق.م أو نحو ذلك، وأبوه يسى البيتلحمي، وكان له سبعة من الأخوة وأختان، ومسح على الأغلب في السابعة عشرة من عمره، وصرع جليات وهو في العشرين، وملك على بيت يهوذا في الثلاثين، وعلى كل إسرائيل في السابعة والثلاثين والنصف من العمر، ومات في السبعين أو حوالي 1015ق.م على حساب بعض الشراح،... ومع أنه كان أصغر أولاد يسى، إلا أنه كان أقرب إسرائيلي إلى قلب الله،... ولعلنا ندرك هذه الحقيقة من خلال ما تميز به من صفات. داود الحلو الجميل الروح وهذه أول صفة تقابلنا مع هذه الشخصية القديمة: "وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر"... ومن المؤكد أنه إذا قورن باليآب أو أبيناداب أو شمة أو واحد من إخوته الآخرين، لربما تفوق عليه واحد في الجمال الجسدي، ولكن قياس الله يمتد إلى الداخل، ولا يقف عند منظر العينين أو طول القامة، بل يتغور إلى القلب،.. لم يكن في إسرائيل من هو أطول من شاول،.. لكن قلبه مع ذلك كان أبعد القلوب عن انتظار الله،... لكننا نأتي الآن أمام قلب بشري، كان حلواً وجميل الروح أمام الله،.. إن مأساة الإنسان في العادة أنه يقيس الأشخاص بمقاييس تختلف عن مقياس الله، فقد يقيسهم بالسن، والأكبر هو الأفضل، ولو صح هذا من الوجهة العسكرية أو السياسية، لما سمح اليونانيون للإسكندر الأكبر أن يقود جيوشهم وهو في العشرين من عمره ليغزو العالم وهو في الثلاثين، ولما قادت جان دارك الجيش الفرنسي وهي في الثامنة عشر من عمرها، ولما ظهر وليم بت في انجلترا، وهو من ألمع السياسيين في كل تاريخها الطويل!!... ولو أن القياس بالجمال الجسدي لأخرجنا الكثيرين من عباقرة الدنيا وفلاسفتها العظام، ولما أتيح لسقراط أن يرسخ فلسفة اليونانيين، ولتوماس كارليل أن يبدع بين الانجليز، ولما استطاع ملتون الأعمى أن يرسل إلينا روائع الفردوس المفقود والمردود!!.. ولو حكمنا على الناس بثرواتهم. لأخرجنا من الدائرة الصيادين تلاميذ المسيح، بل أكثر من ذلك لأخرجنا من العالم سيد الكل: "الذي لم يكن له أين يسند رأسه".. إن القياس الأعظم في الإنسان يتمشى على ضربات قلبه ووجيب مشاعره وعمق أسراره،.. مع القلب المجدد النقي الطاهر أمام الله!! متى ولد داود الولادة الجديدة؟ لا نعلم، غير أنه من المؤكد أنه عرف الله وتمتع بالميلاد الثاني قبل مسحه ملكاً،…. وأنه من الصباح الباكر في الحياة عزف بقيثارته أمام الله، أحلى الأغاني وأروع الأناشيد!!… ما أسعد أن يأتي أولادنا في صبح الحياة أمام الله كداود، وما أجمل أن يغنوا له كالعصافير المبكرة في أعشاشها، قبل أن يسمعهم العالم أغانيه ومباذله!… وإذا كانوا قد قالوا إن الرئيس إدوارد تجدد في السابعة من عمره، وأن بوليكاربوس واسحق ووتس عرفا المسيح في التاسعة من العمر، وأن متى هنري وروبرت هول جاءا إلى السيد في الحادية عشرة من العمر. فكم أتمنى أن يأتي أولادنا مع صموئيل وداود، ودانيال وتيموثاوس، ليقولوا لإلههم: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع!!.. داود الرقيق القلب وقد كان داود من أرق القلوب التي ظهرت على هذه الأرض، ويكفي أن أمامك مثلين أو ثلاثة على هذه الرقة الدقيقة العجيبة، فهو في أول شبابه وربما في السادسة عشرة من العمر، إذ ظهر فجأة أمامه دب وأسد، واختطفا شاة صغيرة من بين القطيع، وصرخت الشاة،.. ورأت الصرخة في قلب الفتى البطل، ولم يستطع تحمل صرخة الاستنجاد، ودخل الغلام في معركة الحياة والموت من أجل صرخة حيوان أعجم صغير في الواقع أني لا أعرف في الأرض من هو أرق من هذا الشخص في كل التاريخ إلا واحداً فقط قال: "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف" والفرق بين داود وابن داود في هذا الشأن واضح، لقد عرض داود حياته من أجل شاة،... وعندما عد الشعب وجاء الغضب الإلهي بالوباء ومات من إسرائيل سبعون ألفاً: "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك عليَّ وعلى بيتي"... وكشف له الله عن الذبيحة والفدية!!... وأما الآخر فقد بكى على أورشليم، ولم يقف عند هذا الحد. بل أخذني وأخذك من أنياب الأسد، ومات على الصليب من أجلي ومن أجلك!!... ورقة القلب أيضاً تراها في معاملته لشاول الذي كان يطارده، ويريد القضاء على حياته، ومع ذلك فعندما وقع شاول في يده، وقطع طرف جبته يقول الكتاب: "وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول" وقد تتعجب وتستغرب لهذا، ولكنك لو عرفت المعركة الداخلية في قلب داود، لرأيت مدى الحساسية في قلب الرجل،.. لقد شجعه الذين معه على قتله، ويبدو أن الشيطان قال له: إنه بضربة واحدة ينتهي كل شيء،.. ورفض داود فكر الشيطان،... لكن قلبه ضربه مع ذلك، على مجرد التفكير الداخلي في قتل الرجل!!.. وأية رقة أبلغ من هذه الرقة، إلا في ذاك الذي رفض أن يترك أذن ملخس عبد رئيس الكهنة مقطوعة وهم يهاجمونه يوم الصليب، وأبرأها، ومن فوق الصليب صاح: اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!! وأما الثالثة فكانت يوم أن تأوه داود، وذكر البئر القديمة- بئر بيت لحم- التي كان يشرب منها وهو غلام صغير،... وكان في حرب مع الفلسطينيين، فقال: من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب فشق ثلاثة من الأبطال محلة الفلسطينيين واستقوا ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب، وحملوه وأتوا به إلى داود، فلم يشأ داود أن يشربه بل سكبه للرب وقال: حاشا لي من قبل إلهي أن أفعل ذلك!! أأشرب دم هؤلاء الرجال بأنفسهم لأنهم إنما أتوا به بأنفسهم، ولم يشأ أن يشربه"... لم يعد أمامه ماء بل دماً، قدمه الأبطال حباً فيه، مغامرين بحياتهم،.. ونظر إليهم وإلى الماء وقال: هذا شيء رهيب إنه أقدس من أن تلمسه شفتاي،.. وسكبه سكيباً للرب!! كان أحدهم يسير مع تولستوي في الطريق، وإذا به يرى الرجل يسرع إلى جواد مريض ويحتضنه ويقبل رأسه، وقال الرجل: لقد تصورت تولستوي لا يقبل حصاناً، بل كأنما يقبل أخاه ابن أمه وأبيه،... ولكنها هي الرقة التي يرتفع إليها عظماء الناس، وقد تمكنت من داود من هامة الرأس إلى أخمص القدم!!.. داود الصلب الإرادة إذا أردت أن تعرف تكوين داود النفسي من هذه الناحية يمكنك أن تراه خلال عبارته القائلة في المزمور الثامن عشر: "يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس".. ومع أن هذه العبارة تكشف في الأصل عن الفتى المفتول العضلات، لكنها تقودك أكثر إلى الإرادة الحديدية المتمكنة من هذا الشاب، ويكفي أن تلقي نظرة على ذلك التمثال المبدع الذي صنعه ميشيل أنجلو لداود، والذي فيه يبدو مفتوح العينين، وقد تصلبت عضلات وجهه وعنقه، ويده المرفوعة إلى عنقه وهي تحمل حجراً يقبض عليه،... إنك يوم تنظر إلى هذا التمثال، ستكتشف أقوى تصميم أو عزم يمكن أن يظهر في حياة الإنسان على الأرض!!.. ولعلنا نذكر هنا كلمات الكسندر هوايت: إن داود لم يعرف حياته قط، أنصاف الحلول أو يرضى بها، وسواء أمسك بالسهم أو الوتر أؤ العود أو المقلاع، فهو الإنسان الذي يشد عزمه وتصميمه إلى النهاية،.. وليست هنا قوة على الأرض تستطيع أن تجعله يتراجع عما يمكن أن يكون قد استقر عليه،... عندما صمم على مواجهة جليات لم يفلح فيه تقريع أخيه وقسوته في التعبير،... لقد عزم على مقاتلة الجبار، ولن يتزحزح قط، حتى ولو اختبأ الإسرائيليون جميعاً في شقوقهم ومغاراتهم،.. وعندما صمم على أن يعود بالتابوت من بيت عوبيد آدوم: "كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب" حتى ولو احتقرته ميكال زوجته وهي تنظر إليه راقصاً،.. إن داود راقصاً أو مغنياً أو مقاتلاً، أو خادماً،... كان يفعل هذا بإرادة من حديد، لا تعرف التخاذل أو التراخي دون تفرقة بين أسد يقتله، أو جبار يصرعه، أو بذل يقدمه لله بذات الإحساس والمشاعر والإرادة الصلبة الثابتة!!.. داود القوي الإيمان تعجب السيد المسيح من إيمان قائد المئة الذي لم ير في إسرائيل إيماناً يماثل إيمانه،.. ولعل شاول وهو يرى داود يواجه الفلسطيني الجبار، تملكه ذات العجب، وهو يراه يعود برأسه أمامه،.. مع أن داود سبق وذهب إلى القصر الملكي لكي يعزف للملك، ويبدو أنه لم يبق هنالك فترة طويلة، فقد كان الجنون يصيب الملك بين الحين والآخر، ويبدو أنه عاد إلى رعاية الأغنام، وانقضت ثلاث سنوات، وأضحى دواد في العشرين من عمره، ونبت شاربه وذقنه، على صورة تغيرت معالمه فيها أمام الملك، وبالإضافة إلى أن العمل الذي عمله كان مذهلاً إلى الدرجة التي لا يمكن أن تربطه بالغلام الذي رآه من ثلاث سنوات وبقى عنده في القصر فترة من الزمن، وعلى أي حال، لقد ظهر الشاب أعجوبة أمام الملك،.. أعجوبة لا نظير لها أو مثيل، ولم يسأل الملك عنه، بل سأل عن أبيه أيضاً، لعل خصائص الوراثة يمكن أن تكون السبب، ولعله ابن أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم كما يقولون!!.. غير أن الأمر لا يرتد إلى ميراث يحمل ابن عن أبيه، فقد يحذو الولد حذو أبيه، ويتمثل به، لكن الأمر هنا أبعد عمقاً وأشد أثراً!!... إن رصيد الولد لم يأته قط من أبيه، بل جاءه من مصدر آخر،.. عبر عنه هو أمام الملك،.. لقد كان رصيده محفوظاً في وجدانه عندما التقى بالدب والأسد،..: "قتل عبدك الدب والأسد جميعاً وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عير صفوف الله الحي وقال داود: الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب، ينقذني من يد هذا الفلسطيني، وقال شاول لداود: اذهب، وليكن الرب معك"... ولعله من الواجب أن نقف وقفة تأمل في مفهوم الإيمان بالنسبة لشاول، وبالنسبة لداود،.. فالإيمان عند شاول لا يزيد عن كلمة قالها: "اذهب وليكن الرب معك"وما أكثر الذين يؤمنون بالله إيمان شاول، فهم لا ينكرون وجوده، وهم يؤمنون أنه قوي وقادر على كل شيء، ومع ذلك فإن هذا الإيمان لا يزيد عن مجرد فكرة نظرية غير قابلة للاختبار مثلهم مثل رجل أقام فوق شلالات نياجرا سلكاً عالياً ومشى عليه وهو يحمل آخر، وصاح واحد من المعجبين: يا له من بطل عظيم... وقال البطل للصائح: هل تريد أن تجرب؟ فارتد فزعاً إلى الوراء وقال: كلا!!.. لكن الإيمان عند داود كان أكثر من ذلك، كان حياة!! وقد وصل داود إلى الحقيقة التي لا يعثر عليها سوى الأبطال!! إما أن إيمانه حقيقي وصادق يثق فيه بالله القادر على كل شيء!!.. أو أن الموت أفضل من الإيمان الذي لا يزيد عن فقاعة خيالية من الهواء في الحياة!!.. والفارق –ولا شك- مهول ورهيب،.. أيها الأخ: إنك ستجد على الدوام في قصة الحياة، أسداً أو دباً، أو جليات، أو مشكلة مستعصية بهذه الصورة أو تلك،.. وستبقى مصدر الرعب أو الفزع لك، إذا عشت تواجهها ولا يزيد لديك الله عن كلمة تؤمن بها، تقرؤها في كتاب أو تسمعها في عظة،.. حتى تدخل إلى المشكلة، وترى الله أكثر من كلمة، إذ تراه الله الحي القادر على كل شيء. وطوبى لجميع منتظريه!!.. داود الشجاع الجسور إن هذه الرؤيا الإلهية أعطت داود أن يكون واحداً من أشجع الناس الذين ظهروا على هذه الأرض،.. والسؤال الذي يبدو مذهلاً: لماذا خاف الإسرائيليون جميعاً ابتداء من شاول إلى أبنير إلى جميع أفراد الجيش؟؟: "ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطين هذا ارتاعوا وخافوا جداً".. ولماذا لم يخف داود؟!!.. وباديء ذي بدء أن داود لم يكن من طينة أخرى تختلف عن إخوته الثلاثة في المعركة ومن الإسرائيليين جميعاً، كما أنه لم يستخف على الإطلاق بالرجل العملاق الذي يواجهه، فهو يعلم أيضاً أنه مخيف ومرعب،.. ومع ذلك فإنك لا ترى ذرة واحدة من الخوف تستولى عليه) بل بالحري إن داود تعجل اللقاء، راكضاً إليه: "وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني".. ولكن الفارق الحاسم أن الفلسطيني لم ير أمامه سوى غلام صغير حقير، ورأى داود الفلسطيني ولكن رأى الله أيضاً، وإذا بالعملاق يصبح قزماً لا يرتفع إلا أقل القليل عن الأرض،... وهذه الرؤيا بعينها هي التي فرقت بين داود وبقية الإسرائيليين،.. إن سره العميق حوله أغنية في المزمور السابع والعشرين، ليتعلم منه من يريد أن يتعلم أعظم دروس الشجاعة في الأرض: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب عندما اقترب إليَّ الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا، إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي إن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن".. ترى هل عرفت السر؟!!. داود الغيور الملتهب كان داود أيضاً الرجل الغيور المتلهب في غيرته، وقد لاحقته هذه الغيرة من الصبا حتى آخر الشيخوخة، إذ كانت في حقيقتها تعبيراً إزاء إحساسه بشخص الله وكرامته ومجده،.. عندما ذهب إلى المعركة، كان كل ما ينتظر منه، أن يكون زائراً أو متفرجاً،.. لكن منظراً ظهر أمامه ألهب النار في قلبه، منظر جليات يجدف على الله الحي،.. وهو لا يستطيع أن يحتمل المنظر أو يسمع الكلمات!!... وقد غامر بحياته لأن الموت عنده أهون من إهانة اسم الله، والتجديف على شخصه الكريم... ولم يكن الأمر مجرد اندفاع الشباب يغلي الدم في عروقه إذا ما رأى مالا يطيق رؤياه، بل هي أكثر من ذلك، الغيرة التي جعلته حتى آخر العمر: "أذكر يا رب داود كل ذله كيف حلف للرب نذر لعزيز يعقوب لا أدخل خيمة بيتي لا أصعد على سرير فراشي لا أعطي وسناً لعيني ولا نوماً لأجفاني أو أجد مقاماً للرب مسكناً لعزيز يعقوب".. لقد كان ذله الكبير أنه: "لما سكن الملك في بيته وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه أن الملك قال لناثان النبي أنظر. إني ساكن في بيت من أرز وتابوت الله ساكن داخل الشقق" وهل يجمل به أن يعيش في بيت يبدو أجمل منظراً، وأعظم بهاء من بيت الله؟؟ وفي الحقيقة أن علاقة الإنسان ببيت الله هي واحد من أهم العلامات أو المؤشرات على حقيقة غيرته، والتهاب روحه كانت صرخة حجي النبي: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب"... عندما دخل المسيح الهيكل. ووجد الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً، فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة فتذكر تلاميذه غيرة بيتك أكلتني!!.. داود الواسع الصبر ومن الغريب أن داود -مع ذلك- كان واسع الصبر، ومن أعظم الناس إتقاناً للتوقيت الإلهي،... فإذا كان آساف هو الكاتب للمزمور الخامس والسبعين، والقائل عن الله: "لأني أعين ميعاداً أنا بالمستقيمات أقضي، ذابت الأرض وكل سكانها أنا وزنت أعمدتها" فإن داود عاش هذه الحقيقة بالتمام، لم يتعجل قط يوماً من أيام الله، مسحه صموئيل للعمل الإلهي،.. غير أنه عاد إلى أغنامه يرعاها حتى يدعوه الله إلى العمل،.. ثم طارده شاول، وعاش سنوات في البرية طريداً مشرداً يقود مئات من البؤساء المطرودين، وجاءه الوقت الذي كان يمكن أن يختزل الميعاد بضربة واحدة، ولكنه رفضها: "وقال داود حي هو الرب أن الرب سوف يضربه أو يأتي يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب".. كان فناً من أصعب الفنون فن الانتظار، لرجل خلقه الله بطبع ناري ملتهب، إلا أنه هو القائل: "لأني لك يا رب صبرت أنت تستجيب يا رب إلهي"وقد دخل هذا الصبر يوماً من الأيام في أدق امتحان، عندما خرج عليه شمعي بن جيرا يلعنه وهو هارب من أورشليم أمام ابنه أبشالوم، ولم يطق أبيشاي بن صرويه صبراً على هذا السب، فقال: لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك دعني أعبر فأقطع رأسه فقال الملك مالي ومالكم يا بني صرويه، دعوه يسب لأن الرب قال سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيراً عوض مسبته بهذا اليوم"... أجل، وليس هناك ما يكشف في القدرة على الصبر أكثر من التعرض للإيذاء والافتراء والاختلاق مما ليس له أساس من الصحة والحق!!. داود الوديع المتواضع وهنا نقف أمام فيضان من العظمة الحقيقية، عندما قتل جليات، وهتفت له الأمة بأكملها وكان في العشرين من عمره، وكان يمكن أن تأخذه نشوة الغرور، ويطالب بوعد الملك في الزواج من ابنته، خاصة وقد أمر شاول عبيده تكلموا مع داود سراً قائلين هوذا قد سر بك الملك وجميع عبيده قد أحبوك فالآن صاهر الملك فتكلم عبيد شاول في أذني داود بهذا الكلام فقال داود هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك وأنا رجل مسكين وحقير!!.. وعندما طارده شاول فيما بعد قال له: "وراء من خرج ملك إسرائيل وراء من أنت مطارد، وراء كلب ميت وراء برغوث واحد".. لقد وقفت أمام هذه الوداعة مذهولاً، ولم أعرف بين الناس من تفوق عليها سوى واحد جلس -وهو رب السموات والأرض- متعباً على التراب عند بئر سوخار يتحدث مع امرأة ساقطة، بأرق حديث يمكن أن تسمعه الأذن البشرية، وهو القائل: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.. كان يوحنا فم الذهب يقول: إن أساس الفلسفة الوداعة، وبهذا المعنى كان داود فيلسوفاً كبيراً، أدرك أنه مهما يعظم الإنسان فهو دودة حقيرة، هو تراب، هو لا شيء، أمام الله في الوجود!!... طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض!!.. داود المحب الكبير ومع أن هذه الصفة كان يمكن أن نضعها أول صفات داود، لكني آثرت أن أضعها الصفة الثامنة، التي نحزم بها صفاته، وهي كما يقول الرسول بولس "رباط الكمال"،.. وفي الحقيقة أن هذه الصفة تقف خلف صفاته جميعاً، وتعطيها الحياة والقوة والغذاء لقد أحب الله، وأحب الآخرين، وأحب الخدمة، وحول هذا الحب مزامير خالدة في مسمع الله والإنسان: "أحبك يا رب قوتي" "أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي" لقد أعطى الله كل حبه، وعندما رقص أمام التابوت بكل قوته، كان يرقص رقصة الحب الكامل لله، وعندما جلس في حضرة الله وهو يصرخ غارقاً في فيضان هذا الحب: "من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا"... وإذ خاف أن يتراجع إحساسه في يوم ما هتف هتافه العميق: "باركي يا نفسي الرب وكل ما في بطني ليبارك اسمه القدوس باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته"... وعندما أحب الناس، أحب الجميع. كان حبه ظاهراً في نشيده الذي رثى به يوناثان: "قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان كنت حلواً لي جداً محبتك لي أعجب من محبة النساء".. لم يكن داود "المحبوب، بل أكثر من ذلك "المحب"، وقد صدق من قال: إن تكن محبوباً ذاك لا شيء أما أن تحب فذاك كل شيء!!. داود ومدارسه الكبرى وقف واحد من شعراء الغرب -من ابن يسى الأصغر- يهتف للوجه الوديع، والدهن المهراق ينساب على رأسه وهو يواجه خدمته المليئة بالتعب والمجد، وتابعه في القصر الملكي، وفي ميدان المعركة، وهو يلمع بالرجاء، وهو محاط بالعزلة، والجروح التي أتته من الصديق، والعطايا التي أخذها من الأعداء،.. والحياة الممتلئة بالإيمان، والذنب، والدموع والدماء، والانتصار. ولعلنا مع هذا الشاعر وغيره نسأل: ما هي المدارس التي دخلها داود وصنعت منه الشخص العجيب الذي أشرنا إليه، وعرفه التاريخ؟!!.. لعلها: مدرسة الآباء والأجداد كان داود أكثر أولاد يسى التقاطاً لتاريخ آبائه وأجداده، ومع أننا لا نكاد نعرف الكثير عن يسى أبيه سوى أنه ابن عوبيد بن بوعز من راعوث، ومع أننا لا نعرف شيئاً عن أمه،.. إلا أنه يبدو بوضوح أن الصبي كان على أوفى علم بتاريخ آبائه وأجداده وأنه كان غنياً جداً بالذكريات التي جاءته عن هؤلاء الآباء، وعن معجزات الله معهم، وأنه إذا كان جدعون قد تساءل في حزن وألم عن العجائب التي حدثه آباؤه عنها، والتي صنعها معهم الرب،.. فإن داود كان أكثر تفهماً وشوقاً لهذا الإله، وكان ينتظر من بكور الحياة أن تأتي الكثير من صور العجائب والمعجزات على يديه!!.. كانت مدرسة الآباء والأجداد من أخصب مدارس الحياة في الابن الأصغر ليسي البيتلحمي، وعلى وجه الخصوص أنه كان من النوع الذي يحن إلى الذكريات القديمة، وقد حن ذات يوم إلى جرعة من البئر التي كان يشرب منها من أيام الصبا،.. ومن المؤكد أنه كان يشرب جرعات حلوة كثيرة، من بئر الذكريات العظيمة لآبائه وأجداده الأقدمين!!.. مدرسة الطبيعة وجهت "هيلين كيلر" سؤالاً عجيباً -وهي عمياء وصماء وبكماء- إلى عدد كبير من الأزواج: ما لون عين زوجتك؟!! ومن الغريب أن أكثرهم –وقد فوجيء بالسؤال لم يستطع أن يصف لون عين زوجته!!.. وما أكثر الذين لهم العيون التي تبصر ولا تتأمل، لكن عين داود لم تكن من هذا النوع، وهي تتأمل الطبيعة العظيمة، التي صنعها الله!!.. لقد أمسك الرجل قيثارته وغنى أحلى الأغاني، وهو يرى هذه الطبيعة الفاتنة: “أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض… حيث جعلت جلالك فوق السموات… إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده” “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يبدي علماً لا قول ولا كلام لا يسمع صوتهم في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم، جعل للشمس مسكناً فيها وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق، من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيهاولا شيء يختفي من حرها”.. كان “صموئيل كوكس” يضع زهرة بيضاء تذكره بجمال الله ونقاوته وقداسته، وهو يعمل بين العمال الذين امتلأت حياتهم من طين الخطية والدنس، واستنشق داود أجمل الزهور، وعلمه شذاها أن يغني أحلى الأغاني لله!!.. مدرسة الألم لم تكن الحياة عند داود سهلة هادئة رضية، بل هو الرجل الذي التقى بكافة ألوان الصعاب والمتاعب من مطلع حياته إلى نهايتها وكان أشبه بذلك الإنسان الذي صاح طالب أن يرفع الله عنه الحمل الثقيل، وأجاب الله على صلاته، ولكن بصورة أخرى إذا أعطاه الكتف القوية التي تستطيع حمل الحمل... ونحن نستطيع أن نصور لك الطريق التي سار فيها، والتي التقى فيها من الشباب الباكر بالدب والأسر، وجليات وشاول، وسار ليرى أبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا، ويوآب بن صرويه، وغيرهم ممن حولوا حياته تعباً وألماً وعذاباً متصلاً، فإذا تركنا التي جاءته خطيته البشعة، في قصة بثشبع وأوريا، وإذ تجاوزنا تلك التي جاءته من غفلته وحماقته، يوم ترك صقلغ دون حماية، فأحرقت عن آخرها، فإن السؤال ما يزال باقياً: لماذا يسمح الله بالعذاب من مطاردة شاول له سنوات متعددة، لا يصبح فيها بائساً فحسب، بل -أكثر من ذلك- زعيم البؤساء إذ لحق به كل متعب ومدين ومتضايق وجرب فيها أن يسلك سلوك الأفاقين الجائعين السالبين، حتى شاء الله أن يضع في طريقه أبيجامل لتمنعه من سفك الدماء وانتقام يده لنفسه؟!! إن الجواب على ذلك واضح في أن مدرسة الألم كانت مدرسة التدريب التي يبدو أنها ضرورية في حياة جميع أولاد الله، وهم يسيرون في الطريق الضيق في الأرض، كما أني كشفت في الوقت عينه الإحسان والرحمة والخير والجود التي لا يترك الله أولاده دون أن يرتوا منها، فإذا ظهر في الطريق شاول، فإن هناك يوناثان، وإذ ظهر أخيتوفل، فإن هناك برزلاي الجلعادي، وإذا ظهر نابال، فهناك أبيجايل، وهكذا،… وهي –إلى جانب هذا كله- المدرسة التي تكشف عن انتصار الله الأعظم،… وهي التي علمته أن أشد الظلمة ما كانت خلف الباب، فإذا قيل عنه أنه عندما دخل صقلغ، وكانت المدينة كتلة من الفحم الأسود، وكانت –إذا جاز التعبير “الهباب” الذي وصل إليه، فإنه بعد أيام لا يسترد فقط كل ما أخذ منه بل ينادي به ملكاً على بلاده!!… لقد رأى خلال الألم أغلى الدروس وأعمقها مما سار مطبوعاً في وجدانه مدى الحياة!!.. مدرسة الواجب وقد تكون هذه المدرسة أعلى مدارس داود وأعظمها، إذ أن الواجب علمه الأمانة إلى الموت وكم وقف هذا الرجل على أبواب الموت وهو يقدس الواجب ولو أنه عاد إلى أبيه يوم هاجمه الدب والأسد، واختطفا الشاة الصغيرة، دون أن ينقذها لما لامه أبوه أو لامه أحد، لكن واجبه المقدس هو الذي دعاه أن يغامر بحياته لإنقاذها،... ومع أنه كان أصغر جداً من أن يواجه جليات، لكن الواجب المقدس عاد مرة أخرى ليرتفع أمام عينيه، وهو يرى أن الحياة لا معنى لها، أمام عملاق يجدف على إلهه ويهين مجده!!..عندما طلب إلى "ليفنجستون" أن يعود إلى انجلترا، وقد داهته الأمراض والمتاعب،.. أجاب الرجل الذي قدس الواجب: أن أعود إلى انجلترا لتكرمني الملكة، هذا شيء عظيم،.. لكني لا أستطيع لأجل رسالتي العظميى التي يطلبها مني يسوع المسيح!!... ولقد أخذ جسده بعد أن مات ليدفن في مقابر العظماء بانجلترا،... لكنه كان جسداً بلا قلب، لأن وصيته أن ينزع قلبه ليدفن في أفريقيا، في البلاد التي أحبها وخدم سيده فيها!!.. لقد عاش ومات وقلبه للمسيح في خدمة أفريقيا!!.. كان الإحساس بالواجب هو رسالة داود العظيمة من مطلع العمر إلى نهاية الحياة!!.. داود وضعفاته المحزنة لست أدري لم حرص الكتاب المقدس على أن يبرز ضعفات داود، ومنها ما لا يسقط فيه أبسط المؤمنين وأضعفهم؟!! أغلب الظن أن الكتاب أراد أن يحذرنا جميعاً (أقوياء وضعفاء) بأن قتلى الخطية أقوياء، وأنه لم ينتصر عليها في الأرض سوى شخص واحد، قال: “من منكم يبكتني على خطية” وأننا ينبغي أن نجاهد حتى الدم ضد مكرها، وختلها، وكذبها، وغدرها، وسلطانها،.. على أنه في الوقت نفسه أعطانا أنشودة الرجاء، لأنه ليس المهم –كما قال أحدهم- أن يسقط المرء كما سقط داود سقطته الشنيعة، التي لم يعرف شاول بن قيس مثيلاً لها، لكن الأهم أن شاول بن قيس لم يعرف في حياته المزمور الحادي والخمسين مزمور التوبة أمام الله… وعندما نتحدث عن خطايا لنكن مشبعين بالحذر، وبالرجاء أيضاً!!.. ولنعلم أننا ضعفاء مثله، وأقوياء بالرب أيضاً عندما نلوذ برحمته وإحسانه وجوده!!.. ضعف الإيمان وهل رأيت العملاق، وهو يواجه الدب والأسد، وجليات، والقائل إن نزل على جيش لا أخاف؟؟ هذا العملاق، عندما يطارد شاول ويصيبه الإعياء، يضعف ويصبح واحداً منا، ويقول ليوناثان بن داود "كخطوة بيني وبين الموت"، وعندما يذهب إلى أخيش ملك جت، ويسمع الملك من عبيده: "أليس هذا داود ملك الأرض، أليس لهذا كن يغنين في الرقص قائلاً ضرب شاول ألوفه وداود ربواته، فوضع داود هذا الكلام في قلبه وخاف جداً من أخيش ملك جت فغير عقله في أعنيهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم وأخذ يخربش على مصاريع الباب ويسيل ريقه على لحيته فقال لعبيده هوذا ترون الرجل مجنوناً فلماذا تأتون به إلى العلي محتاج إلى مجانين حتى أتيتم بهذا ليتجنن علي، أهذا يدخل بيتي"وأكثر من هذا أن الرجل بعد فترة من الزمن عاد إلى أخيش، وأعطاه أخيش صقلغ، وكاد يحارب مع أخيش ضد شعبه وقومه،.. وهي فترات قاسية مظلمة ليس من السهل تصورها،.. ولكنها الصورة المحزنة عندما يضعف الإيمان في حياة الإنسان حتى ينقذه الله مرات أخرى ليعود إلى إيمانه الأول القديم!!.. ضعف التسامح ومع أن هذا الرجل كان صارم العدالة مع العماليقي الذي ادعى أنه قتل شاول وحمل إليه سلاحه، ومع الاثنين اللذين قتلا ابن شاول غدرا وغيلة تقرباً منه، إلا أن عواطفه تذبذبت مع ابنه أبشالوم صعوداً ونزولاً، فالولد إذ يقتل أخاه ويهرب، يعاوده الحنين من ناحيته، وإذ يعود بوساطة يوآب يسامحه داود بشرط ألا يرى وجهه، وإذ يثور عليه، ويعلن الفتنة ضده، لا يستطيع تنفيذ العدالة كاملة، كما فعلها يوآب، بل يبكي على ابنه ويتمنى لو ذهب هو مكانه في الموت،.. ومع أنه حلف لشمعي بين جيرة الذي لعنه قاسية ألا يموت، إلا أنه لم ينس إلى الموت هذه اللعنة، وطلب من سليمان أن يتعامل معه بالحكم التي تحدر شيبته إلى الهاوية، ومع أن يوآب خدمه خدمات لا يمكن أن تنسى، إلا أنه لم يستطع نسيان ما عاناه منه، وضم هذا إلى دم أبنير بن نير وعماسا بن يثر، وطلب من ابنه أن يتعامل معه بالصورة التي تحدر شيبته إلى الهاوية أيضاً!!.. ومع أن الكثيرين من الشراح يلفتون أنظارنا إلى أنه من الخطأ أن نحكم على داود وتصرفاته، بما علمنا إياه ابنه العظيم سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول...".. وأن داود في الكثير من هذه الأوضاع كان يتكلم بصفته الحاكم العادل الذي ينبغي أن يقتص عدالة الله من المذنب والمجرم، وأنه وإن كان قد سمح لشمعي بن جير أن يعود إلى بيته بقسم لا يستطيع تجاوزه، لكن شمعي كان ظالماً ينبغي أن ينال عقابه ولو بعد زمن لا لأنه أهان إنساناً، بل لأنه افترى على مسيح الرب بكل افتراء وتضليل، وأنه وإن كان قد أخذته الشفقة على ابنه فإنه كان يمثل صراع العدالة والحب في قلب ملك وأب في نفس الوقت!!.. أياً كان هذا كله، فإن الرجل كان أضعف من أن يصل إلى رحمة ذاك الذي قال عن صالبيه: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!!.. وأن المسيحية في شوطها الطويل نحو الغفران، كان لابد أن تصل إلى نور الظهيرة إذا قورنت بالشفق الجميل يظهر ساعة الشروق!!.. وأن داود مهما وصل في سمو نفسه، فهو واحد منا نحن الضعفاء الذين تتذبذب عواطفنا، بين السمو والانحدار،.. وأنه واجبنا الدائم أن ننتصر على الإنسان الضعيف فينا، لئلا نصل في ضعفنا إلى طلب القضاء على خصومنا ونحن على أبواب الموت والنهاية الأرضية.. السقطة الكبرى على أن هذه كلها، مهما كانت محزنة ومؤلمة، لا شيء على الإطلاق إلى جانب سقطته، بل وصمته الكبرى التي هوى فيها من القمة إلى القاع، في لحظة واحدة، وقد حرص الكتاب على تدوين القصة بكل بشاعتها ولوثتها وخستها، لكي تبقى مدى الأجيال عظة للأقوياء قبل الضعفاء، وللجبابرة قبل العاديين وللذين يأخذون المراكز في الصفوف قبل الذين هم في آخر الصفوف، أنه لا توجد في الإنسان مناعة ضد ميكروب الخطية،.. وأن جراثيمها يمكن أن تتكاثر وتسقط أعظم الأبطال، لولا رحمة الله ونعمته،.. ولقد عرف الشيطان كيف يأتي إلى الرجل، لقد جاءه في وقت الفراغ، وربما إهمال الواجب،.. كانت هناك معركة، ولو قاد داود الجيش، وقاتل في المعركة، لنجا،.. لكنه ترك غيره يؤدي الواجب، وصعد هو إلى أعلى السطح، ليرى امرأة تستحم، ومهما يكن جمال هذه المرأة، فإنها نعجة، لا يمكن أن تكون أجمل وأندر من النعاج الأخرى التي تملأ بيته،.. ولكنها الغريزة القبيحة في الإنسان التي تجعله يرى الممنوع -مرغوباً فيه، منذ ذلك اليوم الذي فيه أكل آدم من الشجرة الوحيدة المحرمة، دون أشجار الجنة العديدة الحلوة الشهية الثمر،... إلى أي حد كان بيت أوريا قريباً من بيت داود، لست أعلم!!؟.. لكنه يبدو أن التجربة كانت أقرب إليه بالكيفية التي خدرته، ولم يستطع معها محاولة الهروب،.. لكن لكن الأمر كان أفظع وأشد أو كما يقول توماس جودين في دراسته العميقة عن "تعدي الخطية": أنه أمر أوريا أكثر من "بثشبع" الذي أوقد غضب الله ضد داود،.. فإذا كانت الخطية قد فاجأته مع بثشبع، وأنه غلب منها بعنصر المباغتة والمفاجأة، فإن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لأوريا، ورفض الذهاب إلى بيته، فإذا لم يفلح التمويه، فلتكن القسوة الشديدة التي تترك البطل في مواجهة الحرب، مع التوصية بالتخلي عنه وتركه ليواجه الموت!!.. إن الخطية، تجر في ذيلها دائماً خطايا كثيرة متعددة، أشنع وأرهب وطريقها دائماً منزلق يسقط القديس الجالس على القمة إلى المنحدر الرهيب،.. والتستر على الخطية، يضيف إليها، خطايا أخرى متعددة، الكذب والغدر والنفاق والقسوة والكبرياء، والرياء،.. وأشر ما في الأمر أن داود استمر على هذا الحال ما يقرب من سنة حتى ولد الولد، وجاءه ناثان النبي،.. هل ذهب إلى بيت الله، هل رنم مع المرنمين؟؟ هل صلى مع المصلين؟؟ إننا نحمد الله كثيراً لأنه لم يترك مزموراً من مزاميره الخالدة في فترة الإثم،.. لقد تحطم تماماً، وعندما غنى مزمور التوبة العظيم كانت طلبته إلى الله "رد لي بهجة خلاصك" لأن الرجل لم تعد تحلو له القيثارة المغنية، ولم يعد له الصوت الطروب، ولم تعد له نقاوة القداسة، لقد أضحى صورة مخدوعة مخادعة للكثيرين والكثيرات!!.. كانت خطيته شنيعة هيهات أن تقتصر عليه، بل تجاوزت الظلام، لأنه ليس خفي لا يعرف ولا مكتوم لا يعلن أو يكشف، وكانت عثرة رهيبة للكثيرين من ذوي الإيمان النقي، وكانت شماتة وسخرية من أعداء الله والحق، وعلى قدر ما يأخذ الإنسان من امتياز ويتحمل من مسئولية على قدر ما تكون خطيته، لقد كانت خطية بيلاطس البنطي عظيمة جداً، لكن المسيح مع ذلك قال له: "لذلك أسلم إليه له خطية أعظم" لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر!!.. لماذا لم ينهض من تلقاء نفسه، ولما انتظر سنة بأكملها حتى جاءه ناثان النبي، أغلب الظن أنه كان أشبه بالوعل في الشبكة، أو العصفور في القفص، أو السمكة في السنارة،.. عندما ثار عليه الضمير، تصوره البعض يحاول مستميتاً أن يثبت أنه لم يفعل شيئاً،.. إنه ملك، وحقه على الرعايا لا ينازع فيه أحد، سواء كانت بثشبع أو أوريا، وله أن يتصرف فيهما كما يشاء أو يريد،.. ثم إنه لم يقتل أوريا، ولم تمتد عليه يد إسرائيل، بل قتل في الحرب، وحتى لو ذهب إلى أقسى مكان، فإن الله لو أراد له أن يحيا لأبقاه، والأرواح كلها بيد الله،.. وعندما مات لم يتنكر لزوجته فقد ضمها إليه، ورفعها إلى مركز الملكات، والوليد الذي جاء منها اعترف به، وأحبه، وتمنى أن يعيش!!... كل هذه وغيرها كانت بعض خياله حتى جاءه الحق أبلج كالنور ليقول: أنت هو الرجل!!.. إن السؤال الآخر الذي يمكن أن تلقيه علينا هذه القصة. كيف تاب داود، وما عناصر توبته الصحيحة؟!!.. من الغريب جداً أن داود يعتبر الشخص الثالث في هذه التوبة، وليس الأول أو الثاني،.. إن الأول هو الله الذي مد يده إلى الأسير في الخطية والله دائماً هو المحرك الأول لكل توبة في حياة الإنسان، ألم يقل إفرايم في لغة إرميا: "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" وألم يقل الرسول بولس: "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون".. والله دائماً هو الأعظم ألما، والأكثر رغبة، في أن ننهض من آثامنا، ونقوم من خطايانا،.. وكان الشخص الثاني ناثان النبي، ولم يتحرك ناثان من تلقاء نفسه بل حركة الله: "فأرسل الرب ناثان إلى داود".. وكان ناثان من أبرع الناس وأحكمهم وأشجعهم، والمثل الذي ينبغي أن يحتذى عندما يحمل المرء رسالة الله للناس، أن الشجاعة لابد أن تكون مقرونة بالحكمة والحكمة لابد أن تكون متسمة بالشجاعة، ونحن نعظهم أو نوبخهم، والله لا يطالبنا أن نكون مندفعين بدعوى الشجاعة أو الصراحة، ونحن نكلم الناس عن خطاياهم لأن رابح النفوس،.. وقد قال سقراط في بعض حكمه إذا وجدت ثوراً هائجاً، فليس من الشجاعة أن تقف في طريقه معرضاً صدرك لقرونه، بل إن الشجاعة أن تعرف كيف تقيده بالحرص والحكمة!!.. وكم يخطي بعض الوعاظ أو الخدام، أنه ما دامت هناك خطية ليقذفها الإنسان بكل حجر ممكن،.. لقد قتل داود جليات بحجر أملس، وقد جاءه هنا الحجر الأملس القاتل للخطية، من فم ناثان،.. لقد جهزه بالقصة المثيرة عن العدالة، وإذ رفع فيه روح العدالة، لم يفزع بعد ذلك، حتى ولو وضع رأسه على كفه أن يقول له: أنت هو الرجل!!.. كان دادو محظوظاً بإلهه، وكان داود محظوظاً بالواعظ الشجاع الحكيم الذي أيقظ إحساسه بالتوبة، ليكتب مزموره العظيم المزمور الحادي والخمسين، ولعلنا نلاحظ أن هذا المزمور قد سلم لإمام المغنيين، ليكون اعترافاً علنياً أمام الله والناس بالتوبة الصادقة!!.. ولعله من الغريب أن تلاحظ أن داود قال في المزمور: "إليك وحدك أخطأت" مع أنه أخطأ إلى بثشبع، وإلى أوريا، وإلى الأمة، ولكنه لم ير واحداً منها جميعاً، لأنها ابتلعت جميعها في الخطية أمام الله، وهو لم يعد يرى في الوجود كله، إلا الخطية، والخاطيء، والله، وخطيته أمام الله تجب كما يقولون رجال القانون كل خطية، وتحتويها، وتتضمنها،.. ومن الغريب أن هذا هو إحساس بولس عندما ركز النظر في خطيته بكيفية لم يعد يرى خاطئاً آخر أثقل منه وأرهب، وصاح: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا..".لم يكن داود في مزموره يبالي بما يصنعه الله به، أو أي عقوبة يوقعها عليه، إنما كان يعينه شيء واحد لا غير أن لا يطرح من أمام الله، أو يبعد عن وجهه: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"لم تكن الخطية منفردة، بل مست الأمة كلها، وحتى لا يتصور الناس أن الله لا يبالي بالخطية، حفظ الله روحه، وكشف في الوقت نفسه عن عدالته الصحيحة، فإذا كان قد قتل أوريا بسيف بني عمون، فسيلحق السيف بيته إلى الأبد، وإذا كان قد ارتكب الخطية في جنح الظلام، فسيأتي أقرب الناس إليه ليضطجع مع نسائه في وضح النهار، وتحت عين الشمس!!..كان الله صادقاً، وكان عادلاً، وكان محباً،.. ومات الولد، لكن من العجيب، أن أخاه سليمان سيكون هو المختار للملكة من بين أبناء داود، والذي من نسله يأتي المسيح مخلص العالم!!.. داود وخدماته ولعل آخر ما تنتهي به في قصة داود خدماته: "بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد".. ومع أنه ليس من السهل ذكر هذه الخدمات جميعاً، لكن يمكن أن نشير إلى أشهرها.. خدم مؤسساً وقد أسس هذا الرجل امبراطورية واسعة، ووحد الأمة بأكملها، حتى أنه يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الإسرائيلية، ويعتبر داود بحق من أقدم الملوك الذين يمكن أن يوصفوا بالقول: "بناة الملك" استولى على أورشليم التي كان يقطنها اليبوسيون المنحدرون من نسل كنعان، والتي كان يحكمها ملكي صادق أيام إبراهيم، وهي مدينة حصينة تقع على بعد ثلاثة وثلاثين ميلاً من البحر الأبيض، وأربعة عشر ميلاً من البحر الميت، وعندما أراد داود الاستيلاء عليها سخر منه أهلها، فقالوا هازئين ما معناه، إنهم سيجعلون من العميان والعرج حراساً لها، وعلى داود أن ينجح في مقاتلة هؤلاء إذا أراد أن يدخلها، ومن الجائز أنهم جاءوا بجماعة منهم على أسوار المدينة، وكانت هذه منتهى السخرية بداود وقوته، ومنتهى الاعتداد بقوتهم هم،.. وأخطأ اليبوسيون قوة خصمهم وبسالته وجرأته، وأكثر من ذلك نسوا قوة الله التي معه، وسقطت أورشليم في قبضة داود، وأكثر من ذلك نجح داود في تأسيس الدولة وتقويتها، لكي يقدمها لسليمان عزيزة من كافة الجوانب العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والروحية!!. خدم معطياً ولا شبهة في أنه قدم هبات كثيرة مادية للفقراء والمعوزين والمحتاجين، لكن أعظم عطاياه المادية كانت ما جهزه لبناء بيت الله، لقد أراد داود أن يبني بيتاً لله، إذ لم يرق في نظره أن يكون بيته أفضل من بيت الله، ومع أن الله رفض طلبه لأن يده تلوثت وتخضبت بالدماء، والله لا يريد لبيته -الذي يرمز إلى عظمته ومجده ونقاوته وسلطانه- أن تبنيه يد ملوثة بالدماء، ومع أن الله بيَّن أن البيت سيبنيه ابنه، إلا أن ذلك لم يمنع داود من أن يقدم هباته بسخاء إعداداً لهذا البيت، ولعل ما كتبه الكسندر هوايت بهذا الصدد أجمل ما كتب على الإطلاق إذ قال: "إن الله وحده هو السيد الذي يقدر نية عبيده كما يقدر خدمتهم، والله وحده هو الذي يعطي الأمر الكامل على هذه النية، كما يعطي على أفضل خدمة يقوم بها الإنسان، فواحدة من أعظم وأحسن خدمات داود لم تخرج عن حيز النية الطيبة، لكن الله كافأ داود على هذه النية وأجزل له العطاء كما لو أنه عاش ليرى قباب الهيكل تقع تحت ضوء الشمس".. ومع أن حرمان داود من القيام بهذا العمل العظيم كان له ولا شك وقع قاس على نفسه، إلا أنه جلس في حضرة الرب ليشكر إحسانات الله الغامرة التي أحس أنه صغير وقليل إزاءها، الإحسانات التي لم تكتف أن ترفعه هو، وتتمشى معه، وتحسن إلى الشعب الذي يملك عليه، بل أكثر من ذلك منحته عهداً أبدياً مباركاً في نسله الذي يثبت كرسيه إلى الأبد... في المسيح ابن الله المبارك إلى أبد الآبدين... خدم مرنماً لقد انتهت خدمات داود المادية، سواء في الامبراطورية التي أسسها أو الهيكل الذي أُعد له، ونقض، وامتدت إليه يد الخراب، ولكن داود مرنم إسرائيل سيبقى ما بقيت الأرض، وما بقيت هناك موسيقى تعزف بين الناس، هل قرأت أو غنيت معه مزاميره الخالدة العظيمة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن القيمة الروحية لهذه المزامير العظيمة، وسنأخذ على سبيل القياس لا الحصر واحداً منها، وهو المزمور الثالث والعشرين مزمور الراعي، هذا المزمور الذي يطلق عليه بلبل المزامير والذي وصفه هنري وردبيتشر بالقول: "إنه هدأ أحزاناً كثيرة أكثر من كل ما صنعته فلسفة هذا العالم، وأعاد إلى السجن أفكاراً رديئة، وشكوكاً سوداء، وأحزاناً مسرنة أكثر من الرمال التي على الشاطيء.. لقد عزى ذلك المجموع النبيل من الفقراء، وأعطى الشجاعة لجيش الفاشلين، وأرسل بلسان وسكينة إلى قلوب المرضى، وأسرى السجون، والأرامل في حزنهن القاسي، والأيتام في عزلتهم الشديدة، كما أن الجنود المتحضرين ماتوا بسكون وهم يستمعون إلى هذا المزمور، بعد، بل سيغني لأولادي وأولادهم كل الأجيال، ولن يضم جناحيه حتى يصبح السائح الأجير آمناً، عندما ينتهي الزمان، وعندما يطهر راجعاً إلى أحضان السماء، وتختلط موسيقاه بألحان وأنغام الفرح السماوي الأبدي"!!
المزيد
20 أغسطس 2020

ليتورجيا كنيسة المشرق الكلدانية ج2

العذراء مريم في طقس كنيسة المشرق ثانيا- مكانة العذراء مريم في رتب اسرار الكنيسة:- ان ذكر العذراء مريم بارز في رتب اسرار البيعة، الا انه يحتل مساحة أضغر من المساحة التي يشغلها في ساعات الصلاة الفرضية. نحاول اكتشاف هذه المكانة السامية في رتب العماد، والقداس، والرسامات الاكليريكية، والزيجة، ورتب تشييع الموتى المؤمنين. 1-رتبة العماد يتشفع المصلون بالعذراء مريم مراراً في رتبة العماد، نشير الى اهم الاماكن التي يرد ذكرها فيها: أ- تُخصّصُ المناداة التي تقال بعد تلاوة الانجيل الطاهر”طلبة” بمريم العذراء، مطلعها”لاجل تذكار الطوباوية مريم البتول القديسة…”، ورد ذكرها آنفاً، لان هذه المناداة تكرر يومياً خلال صلاة المساء. ب- تَكوّن “قانون الايمان” ضمن اطار مراسيم المعمودية، اذ كان على طالبي العماد ان يتعلموا بنود الايمان المسيحي خلال فترة الموعوظية، ويعلنوا اعتناقهم عقيدة الجماعة المسيحية التي يطلبون الانتماء اليها. يرد ذكر العذراء مريم في فقرة من فقرات “قانون الايمان” الذي يُتلى قبل رتبة تقديس الماء والزيت، حينما يؤكد بان”…ابن الله الوحيد… صار انساناً، وجبل به وولد من مريم العذراء…”. جـ -يرتل الشماس مدراشاً بعد منح سر العماد مباشرة. والمدراش لحن تعليمي، يتحدث هنا عن عماد يسوع وعن مفاهيم المعمودية المسيحية. يرد ذكر العذراء مريم في المقطع الاخير على النحو التالي: – “تصف السماء مجد الرجل ذي البهاء السني – (ظهر) في الغمام كصبي – فُتحت الاسفار امامه – انحدر ونزل بهاؤه الخفي – مالت مريم وقبلته – مادت مياه المعمودية – وانحدر الروح ورفرف عليه”(63). د- يتلو الكاهن في نهاية رتبة العماد صلوات ختامية، يلتجئ في احداها الى شفاعة العذراء مريم: “ايها الرب، لتكن صلاة البتول القديسة حمى لنا…”(64). 2- رتبة القداس الالهي يرد ذكر العذراء مريم في عناصر القداس المتغيرة، وفي الصلوات التالية: أ‌- العناصر المتغيرة: يطلب المصلون شفاعة امهم العذراء عبر التراتيل التي تتغير وفق المواسم الطقسية المختلفة وهي: 1- “ترتيلة قدس الاقداس” ، التي ينشدونها في مستهل القداس، داخل قدس الأقداس، اذ يكون ستار قدس الاقداس مسدلاً. 2- “ترتيلة الانجيل”، التي يؤديها الجوق في فناء الكنيسة خلال موسم الحر، أي خلال الفترة الممتدة ما بين عيد الصعود والاحد الاول من تقديس الكنيسة. 3- “ترتيلة الاسرار”، التي ترنم اثناء نقل التقادم، أي الخبز والخمر، من “بيت الكنز” الى المذبح(65). 4- “ترتيلة البيم”، التي يرتلها الجوق الجالس في البيم اثناء التناول. نقدم نموذجاً من هذه التراتيل، وهي “ترتيلة قدس الاقداس” التي يؤدونها في عيد تهنئة العذراء: “يا رب الكل، تشكرك القديسات اللواتي أحببن اسمك، لانك اخترت مريم من جنسهن، واحللت فيها سرك الخفي، اذ ظهر منها المسيح مخلص العالم بقوة الروح القدس. لذا تحتفل الكنيسة المقدسة بيوم عيد البتول”(66). ب- يتناوب جوقا المذبح والبيم في ترتيل اربعة ابيات شعرية، بعد “ترتيلة الاسرار” وقبل “قانون الايمان”، وذلك احياءً لذكر العذراء، والرسل، وشفيع الكنيسة والموتى المؤمنين. فيما يلي ترجمة البيت الاول المخصص بمريم العذراء “المجد للآب وللابن والروح القدس: لنذكر على المذبح المقدس العذراء مريم ام المسيح”(67). جـ- اضاف الكاثوليك ذكراً للعذراء مريم في النَّصَّين التاليين الواردين في انافورا الرسل للقديسين أدي وماري: 1-يشكر الكاهن المولى القدير من أجل النعم التي أغدقها على القديسين، وفي مقدمتهم العذراء مريم، على النحو التالي:”ايها الرب الاله القدير، اقبل هذا القربان الذي نقربه لك عن جميع النعم التي افضتها على الطوباوية مريم الدائمة البتولية، وعلى جميع الابرار الذين ارضوك…”(68). 2-يستمطر الكاهن بركات الله على المؤمنين بشفاعة العذراء عبر الصلاة الختامية التالية:“ليفض عليكم خيراته، وليمطر في بيوتكم وابل بركاته ومواهبه، وليُنجكم ربنا والهنا من الشرير وقواته بصلاة السيدة الطوباوية وجميع القديسين، وليصنكم من كل أذية خفية وظاهرة، الآن وكل أوان والى الأبد”(69). 3-كتاب الحبريات يحتوي كتاب “الحبريات” الكلداني، الذي طُبع بهمة مجمع الكنائس الشرقية في روما عام 1957 على الطقوس التالية: أ-رتبة تقديس المذبح، وتستخدم لتكريس الكنائس الجديدة، أعده البطريرك ايشوعياب الثالث الحديابي(649-659م). ب-رتبة تكريس الزيوت المقدسة، من أعداد البطريرك عبد يشوع الخامس خياط(1894-1899م). جـ- رتب رسامة الشمامسة والكهنة والأساقفة والبطاركة. نجد في كل من هذه الرتب صلوات وتراتيل عديدة مخصصة بمريم العذراء، نذكر بعضاً منها: أ-رتبة تقديس المذبح والكنائس الجديدة: “مدينة الملك العظيم(مزمور 48/2): أيتها البتول القديسة الطاهرة مريم، يا هيكل الروح القدس، تضرعي الى المسيح، لينجز الوعد الذي قطعه للكنيسة من خلال بطرس بكر إيماننا”(70). ب‌- رتبة تكريس الزيوت: “ايتها البتول القديسة مريم، ام يسوع مخلصنا، تضرعي واستمطري الرحمة على الخطأة الملتجئين إلى صلواتك، لئلا يهلكوا. لتكن صلاتك حمى لنا في هذا العالم وفي الدهر الآتي”(71). جـ-رتب الرسامات: 1-تدعو تراتيل الرسامات العذراء مريم، ام يسوع الكاهن والحبر الأعظم، لتسهر على الكنيسة وخَدَمِتها، ليتمكنوا من أداء مهامهم ومواصلة رسالة المسيح الخلاصية(72). 2-اقتبست رتب الرسامات العديد من التراتيل من كتاب الفرض، وخاصة من مجموعة “تراتيل طلب العون الإلهي” (73). نقدم فيما يلي ترجمة إحدى هذه التراتيل “لان ينبوع الحياة عندك(مز 36/9): أضحت مريم معين الخيرات ومصدر المعونات لجنس البشريين. فلتحرسنا صلواتها من الشرور، لنصبح معها من ورثة الملكوت”(74). 4-مراسيم الزواج يرد ذكر مريم العذراء مراراً في مراسيم رتبة الزواج، الا ان معظم هذه التراتيل المريمية مستقاة من كتاب الفرض الإلهي، سبق وان ذكرنا العديد منها، لذا نكتفي بالإشارة اليها وذكر مطلعها.تتكون رتبة الزيجة من المراسيم التالية: أ- مراسيم العقد انه عقد أولي لمراسيم الزواج، يطلب الكاهن في احدى الصلوات من الله ان ينزل غيث بركاته على المتعاقدين وان يضع الأُلفة والمحبة بينهما “بشفاعة العذراء البتول، والدة المسيح، مستودع النعم والبركات…(75). ت‌- رتبة البركة على ثياب العروسين ترتل الجوقة ترنيمة، ترجو فيها حماية العذراء مريم وشفاعتها لأبناء آدم كافة، مطلعها: “يا مريم يا من ولدت دواء الحياة لأبناء آدم…”(76). جـ- رتبة الخطوبة تستنجد تراتيل هذا القسم بالبتول القديسة مراراً في المقاطع التالية: 1″- ترتيلة مطلعها:”لتكن صلاة مريم ام يسوع مخلصنا سوراً لنا ليلاً ونهاراً…”(77). 2″-ترتيلة مطلعها أخرى تبدأ بالمجدلة ، مطلعها:”افرحي وابتهجي، أيتها المملؤة نعمة، مريم البتول الطاهرة، والدة المسيح…”(78). 3″- تبدأ ترتيلة أخرى بعبارة” يقول الشعب آمين: ايها الرب بارك النساء كما باركت السيدة مريم الطوباوية…”(79). 4″- ترجو الكنيسة العون الإلهي في ردة القانون أي (مز 37/23-28) “الرب يقدم خطوات الرجل…” على النحو التالي:”اللهم لتكن صلاة العذراء مريم وصلاة القديسين والشهداء حمى لساجديك…”(80). 5″-فيما يلي ترجمة لمقطع من مقاطع التسبيحة “لتكن صلاة البتول مريم سوراً لنا ليلاً ونهاراً ازاء الشرير وقواته…”(81). د- رتبة الاكليل نجد في رتبة الإكليل الترتيلة التالية المقتبسة من “الحان طلب المعونة”:“أرسل الله نعمته وحقه(مز57/4):أُرسل جبرائيل من بين صفوف الملائكة، فانحدر وزف لابنة المائتين بشرى أبهجت العالم كله، وسلم لها مرسوم الامان والسلام، وبشرها بحبل ملؤه العجب. القى عليها السلام، فقبلت حبلاً مدهشاً. قال لها “السلام عليك وطوباك، لأنك تلدين بلا زواج، اذ منك يشرق المسيح الملك، وبه يتجدد العالم العلوي والعالم السفلي، وكل ما فيهما، المجد له”(82). هـ- رتبة بركة الخدر نجد في الرتبة التراتيل المريمية التالية: 1″- “يقول الشعب آمين: ليسد السلام المسكونة بصلاة(العذراء) المباركة”(83). 2″-“التسبيحة: لتكن صلاة البتول سوراً لنا (يحمينا) من الشرير وقواته ليلاً ونهاراً(84). 3″- الصلاة الختامية: اللهم رب الكل، يا من قبلت قربان الآباء الصديقين القدامى…ليرض عنكم كما رضي بالقديسين. ليستجب صلواتكم… ليغنكم بالثروات الروحية والنعم المادية… بصلاة تابوت الخلاص، السيدة مريم الكلية الطهارة، ام المسيح ملكنا ومحيينا…”(85). 5- تشييع الموتى المؤمنين يحتوي كتاب “تشييع الموتى” على الطقوس والمراسيم التي تقام من أجل الموتى المؤمنين بكل فئاتهم: رجالاًونساءً، أطفالا وكباراً، اكليروساً وعلمانيين، وذلك خلال الايام الثلاثة التي تلي الوفاة، أي يوم التشييع واليوم الثاني والثالث.يتردد ذكر العذراء مريم في التراتيل التي تُرنم أثناء جلسات الصلاة في بيت الفقيد، وأثناء تشييعه الى المقبرة، وأثناء الصلاة المقامة عن روحه في الكنيسة خلال اليومين: الثاني والثالث للوفاة، وكلها مقتبسة من كتاب صلاة الفرض الإلهي، وخاصة من مجموع “تراتيل طلب العون”(86). أ-“ملأت الأرض منها(مز80/9): يا مريم، يا من ولدت دواء الحياة لأبناء آدم، اجعلينا نجد بصلاتك المراحم يوم الانبعاث…”(87). ب-“انه سيدك، فله اسجدي(مز 45/12): يا مريم، أيتها البتول القديسة، ام يسوع مخلصنا، لتكن صلاتك حمى لجمهور المؤمنين، ولتستجب صلواتنا بشفاعتك. ساعدي ضعفنا لنرى معك المسيح يوم ظهوره”(88) ج-أثناء الصلاة المقامة في الكنيسة بمناسبة اليوم الثاني لحدوث وفاة إحدى النسوة، يصعد احد الشمامسة الإنجيليين الى البيما الكائن وسط الهيكل، ويجلس بقية الحاضرين في أماكنهم. يقف الشماس متوجهاً صوب المشرق، ويتلو تعليماً مقتبساً من الكتب المقدسة، ليُلهِمَ ذوي الفقيدة الصبر والسلوان، مؤكداً بأنه لا مفر من الموت، لأن كل الأبرار والصديقين ذاقوا طعمه كسائر البشر، وذلك بدءاً بآدم وحواء، هابيل، ملكيصادق، إبراهيم، اسحق، يعقوب، داود، سليمان، ابن سيراخ، صموئيل وغيرهم، ويختم الشماس قائلاً:“… ان ربنا، الذي تشبه بنا واتخذ جسداً من بشريتنا، قد ذاق الموت كذلك، والسيدة مريم العذراء الطاهرة التي ولدته، وبها اكتملت كل المواعيد، ذاقت بدورها طعم الموت… فلا نتضايقن في العالم بسبب فراق اختنا… لان المسيح الملك يلبسها حلة المجد في العالم الجديد…”(89). الخاتمة لا تقتصر مظاهر التقوى والتكريم التي يبيديها أبناء كنيسة المشرق على الأدعية التي يرفعونها لمقامها السامي أثناء الرتب الطقسية الآنفة الذكر، بل تتجلى في أمور عديدة(90)، نذكر بعضاً منها: أ-الكنائس والمزارات أقيم العديد من الكنائس والمعابد على اسم العذراء مريم. يذكر الأب جان موريس فييه في كتابه”آشور المسيحية” ثلاثاً وعشرين كنيسة شيدت على اسم العذراء منتشرة في شمال العراق(91)، يرتقي بعضها إلى العهود القديمة. مثال ذلك كنيسة مريم العذراء “سيدة الانوار” في قرية حوردبني(92)، التي تذكرها مخطوطات قديمة منها مخطوطة الرهبنة الكلدانية 195، التي جددها وأصلحها الشماس هومو ابن القس دانيال ابن القس إيليا الالقوشي لأجل كنيسة السيدة في حوردبني(93). وكنيسة السيدة مريم في قرية خردس المذكورة في مخطوطة الرهبنة الكلدانية 224 التي كتبها القس كوركيس ابن القس إسرائيل الالقوشي الساكن انذاك في تلكيف، وفرغ من كتابتها في 4 حزيران سنة 2026 يونانية (=1715م)(94).نجد حالياً في بغداد وحدها نحو عشرين كنيسة او معبداً على اسم البتول الطاهرة موزعة على مختلف الطوائف المسيحية، وفي مقدمتها الكاتدرائية الكلدانية، التي تحمل اسم “كاتدرائية ام الأحزان”. وتحمل كاتدرائية البصرة الكلدانية اسم العذراء، وأشهر كنيسة في مدينة الموصل تدعى “كنيسة الطاهرة مريم” للكلدان، التي كانت كنيسة الدير الأعلى، الذي يرتقي عهد تأسيسه الى القرن الميلادي السابع. ت‌- الاحتفالات الشعبية يقيم المؤمنون احتفالات بمناسبة اعياد العذراء في الكنائس المقامة على اسمها. يبدأ الاحتفال بإقامة الذبيحة الإلهية،حيث يقترب المؤمنون من سري التوبة والقربان المقدس، ثم يقيمون ما يسمى بـ”شيرا” وهو نوع من المائدة الأخوية المشتركة. اذ يجلب المؤمنون أصنافاً من الأطعمة الى فناء الكنيسة، حيث يضعونها على الموائد او على الأرض. وبعدما يتلو الأسقف او الكاهن البركة على هذه الأطعمة، يتناول منها الحاضرون سويةً، ليعبروا عن اخوَّتهم، كأبناء ام واحدة هي العذراء. جـ-العبادات التقوية هذا بالإضافة الى مختلف العبادات التقوية المريمية المعروفة، التي استقاها الكلدان من أبناء الكنائس الأخرى كالمراسيم المقامة خلال الشهر المريمي وصلاة الوردية والتساعيات وغيرها
المزيد
12 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إرميا

" ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فابكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى "" إر 9: 1 " مقدمة لعلك تستطيع أن تفهم إرميا قليلا أو كثيراً، إذا ذكرت كيف بكى ونستون تشرشل، فى مطلع الحرب العالمية الثانية، وهو يقول للشعب الإنجليزى: « ليس عندى ما أقدمه لكم سوى العرق والدم والدموع»، ولعلك تستطيع أن تفهمه أيضاً، إذ تصورت قرب نهاية الحرب، يابانياً محباً لبلاده وشعبه، يتجول بين خرائب هيروشيما ونجازاكى بعد أن دمرتها القنبلة الذرية، على أفظع صورة وصل إليها الإنسان فى قوة التدمير فى القرن العشرين!!.. ومع ذلك فإنك لا تستطيع أن تفهمه البتة، قبل أن تقرأ قصته فى ضوء ذاك الذى قيل عنه: « وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلا: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى فى يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفى عن عينيك. فإنه ستأتى أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفى زمان افتقادك ».. " لو 19: 41 - 44 "كان إرميا نبى الدموع، شبيهاً بالمسيح، ومن أقسى ما عاناه أنه رأى بعينيه مدينته التعسة، والبابليون ينقضون عليها كالوحوش، ويسوونها وهيكلها ومجدها بالتراب، ورأى إرميا قتلى بنت شعبه، فصرخ: « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى »،... هل رأيت مدينة تتحول بأكملها إلى كتلة من نار، يجرى فى طرقاتها إنسان دون أن يعرف إلى أين يتجه، سوى أن يطلق لنفسه العنان فى البكاء والنحيب والمراثى؟! هكذا كان إرمياء وكانت مراثيه، وكان حزنه الذى لا يوصف، الحزن الذى أمسك بحياته من مطلعها وهو يجرى بين أورشليم وعناثوث، حتى مات فى مصر، ويقال إنه مات رجماً من مواطنيه، وهكذا عاش الرجل ومات، وقد تحول رأسه إلى ماء، وعيناه إلى ينبوع دموع، وصرخاته ما تزال تتردد عبر القرون والأجيال!!.. لم أعطي هذا الحظ، ولم سار فى الطريق المنكوب!!؟ هذا ما سنحاول التأمل فيه، ونحن ندرس قصته الحزينة فيما يلى: إرميا ومن هو!!؟ وقد تباينت أفكار الشراح حول معنى الاسم، فبينما يراه جيروم « مرفوع الرب » وجسينيس « معين الرب » يعتقد جنجستنبرج أن الاسم يعنى « اللّه يرمى »، أو الذى أخرجه إلى الممالك والشعوب، وقذف به ليقلع ويهدم ويهلك وينقض ويبنى ويغرس، ويوجد من اعتقد أن المعنى « اللّه يؤسس ».. وعلى أية حال، فإن هذا الأفكار جميعاً تحدثنا عن ذلك الإنسان الذى صوره اللّه من بطن أمه، وأخرجه من الرحم، وأقامه: « مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض. فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك » " إر 1: 17 - 19 " أو كما وصفه ماكرتنى: « إن الأمم تنجب أبطالها فى بداءة أو نهاية تاريخها، أى فى مخاض الولادة أو غصص الموت، وكان إرميا هو نبى إسرائيل، لما دنت شمس أورشليم للغروب. فنراه واقفاً كعمود من فولاذ، فى وسط الدخان والظلام، والحريق والدمار الذى ألم بها »... وكان إرميا بن حلقيا الكاهن، والذى يعتقد كثيرون أنه كان الكاهن العظيم فى أيام يوشيا الملك، والذى وجد سفر الشريعة فى بيت الرب، وإن كان آخرون يعتقدون بأن حلقيا أبا إرميا لم يكن رئيس الكهنة، بل كان واحداً منهم فقط، وأنه غير حلقيا رئيس الكهنة العظيم،... وعلى أية حال، فإن إرميا كان من الكهنة الذين ولدوا فى عناثوث الواقعة فى سبط بنيامين، والتى كانت تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من أورشليم!!.. وكان يتنقل بين المدينتين، وإن كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته فى أورشليم!!ولعلنا لا نستطيع أن نفهم الرجل حق الفهم، قبل أن نعرف العصر الذى عاش فيه... كان عصره من أقسى العصور، وأكثرها ازدحاماً بالصراع، إذ كانت هناك ثلاث ممالك تتنازع السلطة العالمية، ونعنى بها آشور، ومصر، وبابل. وقد ظلت لآشور السيادة قرابة قرنين من الزمان وكان لها القدح المعلى فى أيام إشعياء فى القرن الثامن قبل الميلاد، وكان آشور بنيبال بن أسرحدون وحفيد سنحاريب آخر الملوك العظماء فى تلك الدولة القديمة، وقد حكم أسرحدون - خلال حكم منسى - اثنى عشر عاماً بيد قوية، وقد غزا مصر فيها مرتين، كما استطاع أن يقضى على المقاومة الآتية من الشعوب الغربية، ولكنه عجز عن السيطرة على صخرة صيداء، وقد كانت حياة ابنه آشور بنيبال حافلة بالحروب، وهو الذى أخذ منسى إلى بابل وأطلق سراحه بعد ذلك،.. على أن مصر وبابل أخذتا بععد ذلك فى النهوض، وابتدأ الضعف يخيم على آشور، والأرجح أن أرميا أضحى نبياً للّه فى سنة وفاة آشور بنيبال، الذى أعقبه ملك ضعيف غير معروف، ومن ثم أخذت بابل الدولة الفتية طريقها لا إلى التخلص من آشور فحسب، بل إلى السيطرة والقوة،.. وقد تحالفت مصر مع آشور ضد بابل حتى سقطت نينوى فى عام 612 ق. م، وانتهت الدولة الأشورية تماماً فى عام 506 ق.م. بظهور نبوخذ ناصر فى الميدان، وقد أخطأ يوشيا كما علمنا فى تصديه لفرعون نخو ملك مصر عندما ذهب للحرب فى مجدو، وسقط يوشيا قتيلا فى المعركة، وتولى ابنه يهوحاز الملك، ولكن فرعون أسره وأخذه إلى مصر وملك أخاه يهوياقيم أحد عشر عاماً اتسمت بالأنانية والظلم والقسوة، وكانت النتيجة أن نبوخذ ناصر ملك بابل جاء واستعبد الشعب استعباداً مريراً، ودمر أورشليم والهيكل تدميراً رهيباً!!ومن المعتقد أن إرميا صار نبياً، وهو ما يزال غضاً صغيراً، وفى الغالب، فى العشرين من عمره وكان ذلك فى السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا أو عام 626 ق.م.، أو ما يقرب من خمس سنوات، قبل اكتشاف سفر الشريعة وقيام يوشيا بإصلاحه العظيم، وقد استمرت نبوته أكثر من أربعين عاماً، وشاهد بعينيه تحقيق الكثير من نبواته، إذ رأى خراب أورشليم، وقد كان بداخلها وهى محاصرة، وعندما دمرت عام 586 ق.م.، وكانت معاملة نبوخذ ناصر لأرميا طيبة، إذ سمح له بالبقاء فى المدينة المخربة، مع المندوب الملكى جدليا المعين من قبل بابل. لكن الأحداث تتابعت بعد ذلك إذ قتل جدليا،... ومن الغريب أن الهاربين من المدينة إلى مصر، رغم ارتدادهم عن اللّه، كانوا فى حاجة إلى من يرشدهم إلى الحقيقة والمصير، ولذا أمسكوا بإرميا وأجبروه على الذهاب معهم إلى مصر رغم عدم رغبته، وفى مصر كانت آخر نبواته فى تحفنحيس، ويقول التقليد إن اليهود هناك أيضاً لم يطيعوا صوت اللّه فيه، ورجموه، فمات فى مصر!! عاش إرميا طوال حياته، وهو أشبه الكل بالجندى الذى يعيش فى أتون المعركة وقعقعة السلاح فيها،... والجندى فى العادة ليست له الفرصة الهادئة المريحة، التى يسكن فيها إلى بيت وولد، ثم أمر الرب إرميا أن يعيش أعزب دون زوج أو ولد: « ثم صار إلى كلام الرب قائلا: لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات فى هذا الموضع، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين فى هذا الموضع وعن أمهاتهم اللواتى ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم فى هذه الأرض، ميتات أمراض يموتون. لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الأرض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض. لأنه هكذا قال الرب: لا تدخل بيت النوح ولا تمضى للندب ولا تعزهم لأنى نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الإحسان والمراحم. فيموت الكبار والصغار فى هذه الأرض. لا يدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم... ها أنذا مبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفى أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس » " إر 16: 1 - 9 "... وكان إرميا هنا أشبه بالرسول بولس الذى عاش حياته أعزب، ولم يكن له متسع، فى زمن الضيق والتعب والاضطهاد أن يتزوج.... بل إن الرسول أوصى: « فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر، أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا، أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال. أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة » "1 كو 7: 27: 28 " كان إرميا - فى حد ذاته - رمزاً ومثالا الكلام الذي ينادى به، وكان من أكثر الأنبياء الذين صوروا الحياة فى صور عملية رمزية، فالعلاقة بين اللّه وإسرائيل أشبه بالمنطقة التى يتمنطق بها الرجل، وستبقى المنطقة سليمة وجميلة، طالما هى على الحقوين،.. لكن يطلب إليه أن يذهب بهذه المنطقة إلى نهر الفرات ويطمرها هناك ثم يرجع ليأخذها. وإذا بها قد فسدت لا تصلح لشئ،... ولعلنا نلاحظ أن هذه المنطقة كما صورها فى الأصحاح الثالث عشر، كانت جديدة ولكنها لم تغسل،.. وكانت بهذا المعنى كإسرائيل الذى تميز على الشوب بالعلاقة التى تربطه باللّه،... ولكنه رفض أن يغتسل وفى عقاب اللّه له على خطاياه، لم يرعو أو يتعظ من هذا العقاب، ففسد، ولم تكن النتائج التى جاءت من السبى - وكان يمكن أن تقوده إلى حياة أفضل - إلا مخيبة للأمل،... وعلى الإنسان دائماً أن يلتصق بالرب ويبقى نظيفاً،... وقد أعطى إرميا صورة أخرى عندما ذهب إلى الفخارى فى الأصحاح الثامن عشر ليتخذ عظته مما يفعله الرجل وهو على الدولاب، فإذا فسد الطين، فإنه يمكن تشكيل الوعاء من جديد،... ولكن لا يمكن إصلاح الوعاء، إذا اجتاز فى النار، فإن الإبريق من الفخار لا مجال لإصلاحه إذا تحطم، بل لا مكان له إلا الطرح فى وادى ابن هنوم، أمام شيوخ الشعب، وشيوخ الكهنة، الأمر الذي يرمز إلى أمة إسرائيل، وقد ضاع الرجاء فيها، ولا يمكن إلا أن تكون بقايا من الخزف فى وادى ابن هنوم، والذى أضحى رمزاً لجهنم، مكان العذاب الأبدى، حيث كان ترمى النفايات جميعها خارج مدينة أورشليم، وكان مباءة للديان والجراثيم، يجمع بين الظلمة الدائمة، والنار التى لا تطفأ، ومن ثم قيل: « حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ » " مر 9: 44 ". ولا يمكن أن ننسى الخمر التى قدمها إرميا فى بيت الرب للركابيين، الذين رفضوا شربها بناء على وصية قديمة من أبيهم يوناداب بن ركاب، وجعلهم اللّه مثلا أمام الشعب، مما عرضنا له بافاضه عندما تحدثنا عن شخصية يازنيا بن إرميا كبير بيت الركابيين أيام إرميا... وما أكثر ما رؤى إرميا يتجول فى شوارع أورشليم يحمل نيراً على كتفه، نير الثور، الذى سيصل إليه إسرائيل فى بعده عن اللّه،... وفى مصر، فى أخريات حياته، أخذ حجارة كبيرة وطمرها فى الملاط فى الملبن الذى فى تحفنحيس رمزاً لاختفاء مصر فى مواجهة بابل القوة الصاعدة، والتى لا جدوى من مقاومتها ولا أمل فى الانتصار عليها!! ولعل العصر الذى عاش فيه، والظروف التى أحاطت به، يمكن أن تعطينا الصورة الصحيحة للرجل، الذي صوره كثيرون بأنه نبى الدموع، وآخرون نبى الفشل، وغيرهم نبى الأحزان،.. أو نبى التناقض، أو فى الصورة الأدق والأصح « النبى الممزق » إذ أن الصراع الذى أحاط به، وبعصره، إنعكس فى أعماق نفسه صرعاً رهيباً مهولا!!.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنسان كلما ازداد عظمة، ازداد اتساعاً، ويعتقد هيجل الفيلسوف الألمانى أن حياة العظماء تمتلئ فى العادة بالتناقضات، وقد كان إرميا من هذا النوع، فقد جمع، على أعظم صورة، بين: الرقة البالغة، والصلاة الفولاذية وإنت لا يمكن أن تراه فى استجابته لدعوة اللّه العليا، إلا بهذه الصورة العجيبة، لقد أصابه الهول والفزع والوجل عندما ناداه اللّه للخدمة وصاح: « آه ياسيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد » " إر 1: 6 " كان - على الأغلب - فى العشرين من عمره، وهو بطبعه حيى خجول متضع، يتلعثم أمام المشاكل والأحداث والحوادث، وهو الرقيق إلى حد الدموع، فكيف يمكن لهذه الطبيعة أن تواجه الدعوة بما تشتمل عليه من صعاب تبدو كالجبال الرواسى، والأمة تندفع بجنون نحو غروبها الرهيب، ومن الملاحظ أنه يمثل ذلك النوع من الخدام الذين يترددون قبل قبول الخدمة، أو يحاوولون الهروب منها ما وسعتهم المحاولة،... وهو يقف مع موسى الذى رفض، فى مطلع الأمر، الدعوة، وهو يقول للّه: « أرسل بيد من ترسل » " خر 4: 13 " وطبيعته أقرب إلى طبيعة يونان الذى كان أشبه بالحمامة الوادعة، وإذ يدعوه اللّه للذهاب إلى نينوى القاسية، يهرب إلى ترشيش، وعلى العكس تماماً من خطة اللّه لدعوته،... إن هذا النوع من الخدام، لا يستجيب لنداء الدعوة فى الحال كما استمع إليها إشعياء ليقول: « ها أنذا أرسلنى " إش 6: 8 " أو كما قال بولس » « يارب ماذا تريد أن أفعل، » " أع 9: 6 ".. ولكنه مع ذلك، عندما يقبل الدعوة إذا به « مدينة حصينة وعمود حديد وسور نحاس على كل الأرض ».. " إر 1: 18 " أو كما وصفه أحد الشراح بأنه أصح وأقوى وأشجع أنبياء العهد القديم!!... نحن لا نعلم كيف دعاه اللّه، وهل تكلم إليه بصوت مسموع، أو جاءه فى رؤيا أو ظهر له بصورة ما، إلا أن الشئ المؤكد عند إرميا أنه أيقن من هذه الدعوة، وصدورها من اللّه بكيفية لا تقبل إبهاماً أو تردداً أو شكاً على الإطلاق!!.. وملأه اللّه بروحه فتحولت الحمامة إلى أسد،... وأحس الرجل فى أعماقه بأن قوة خارقة سيطرت عليه، لم يكن يعرفها من قبل، هى قوة روح اللّه فيه، ولمس اللّه شفتيه، وجعل كلامه فى فمه!!.. فإذا قيل، وكيف يمكن أن يكون هذا وكيف نستطيع تصوره، أجبنا أنه عين ما حدث مع بطرس، قبل وبعد، يوم الخمسين - وكيف أن الجبان أمام امرأة، هو الشجاع أمام رؤساء الكهنة والكتبة، أو كما صوره أحدهم: نراه قبل يوم الخمسين أمام التجربة، كمن يهرب من أسد يطارده، وبعد يوم الخمسين نراه يركب الأسد ويسيطر عليه، ولعلك لو سألت الكثيرين من أعظم أبطال التاريخ، كيف يمكن أن يحدث هذا اللغز لأجابوك: إنهم أكثر الناس دهشة وتعجباً إذ أنهم عندما يخلون إلى نفوسهم، وإلى العواطف التى تملكهم، لأدركوا أنهم أرق وأضأل من أن يقفوا أبسط المواقف التى وقفوها، ولكنهم أمام الأحداث والحوادث، هم أقوى وأعظم من الأسود الكواسر!! وقد بدت هذه الظاهرة بوجهها الواضح فى حياة إرميا خلال السنوات الطويلة من حياته الحافلة بالتجربة، والضيق، والأضطهاد، ويكفى أن نراها عندما يخلو إلى نفسه، ويسرد اعترافاته، التى يشبه فيها بولس وأوغسطينوس، وقد حدثنا فى الأصحاح العشرين عن أعماقه عندما فكر أن يهجر الخدمة ومركزه النبوى: « قد اقنعتنى يارب فاقتنعت وألححت على فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بى... لأن كلمة الرب صارت لى للعار وللسخرة كل النهار. فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه. فكان فى قلبى كنار محرقة محصورة فى عظامى فملك من المساك ولم أستطع » " إر 20: 7 - 9 "... « ملعون اليوم الذى ولدت فيه. اليوم الذى ولدتنى فيه أمى لا يكن مباركاً. ملعون الإنسان الذى بشر أبى قائلا: قد ولد لك ابن مفرحاً إياه فرحاً. وليكن ذلك الإنسان كالمدن التى قلبها الرب ولم يندم فيسمع صياحاً فى الصباح وجلبة فى وقت الظهيرة لأنه لم يقتلنى من الرحم فكانت لى أمى قبرى ورحمها حبلى إلى الأبد. لماذا خرجت من الرحم لأرى تعباً وحزناً فتغنى بالخزى أيامى » " إر 20: 14 - 18 ".. ومن العجيب أن هذا الرقيق البالغ الرقة، والذى تنقل من اضطهاد إلى اضطهاد، ومن سجن إلى سجن، وغاص فى حمأة الجب، لم تزده هذه جميعاً إلا صلابة وجرأة وقوة شكيمة لا تقهر!!... إن الذين عاشروا مارتن لوثر كانوا يتعجبون أشد العجب، لأن هذا الرجل كان شاعراً رقيقاً، يطرب للنغم الموسيقى أشد الطرب، ويتألم أشد الألم للعصفور الصغير المهيض الجناح، ويبكى أمام آلام الآخرين بكاء الأطفال،... ولكن هذا الرجل هو الذي هز أوربا، وأرعد بصوته فزلزل الجبابرة والعتاة!!... لأن رب الجنود سيطر عليه وغير به وجه التاريخ!!... الحنان الذى لا يوصف، والقسوة الشديدة كانت عاطفة إرميا تجل عن الوصف، عندما جلس ذات مرة أمام نفسه، والمدينة على وشك الهلاك والضياع صرخ: « أحشائى أحشائى. توجعنى جدران قلبى... لا أستطيع السكوت. لأنك سمعت يانفسى صوت البوق وهتاف الحرب » " إر 4: 19 "... وعندما ضاق بالحياة وضاقت الحياة به إذ به يصيح « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى. ياليت لى فى البرية مبيت مسافرين فأترك شعبى وأنطلق من عندهم لأنهم جميعاً زناة جماعة خائنين » " إر 9: 1 و2 " فإذا تحولنا إلى مراثيه، وقفنا أمام حنان ربما لم يعرفه أحد سوى ذاك الذى أطل على المدينة من جبل الزيتون وبكى عليها، أو بولس عندما صاح: « أقول الصدق فى المسيح. لا أكذب وضميرى شاهد لى بالروح القدس، إن لى حزناً عظيما ووجعاً فى قلبى لا ينقطع، فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروما من المسيح لأجل إخواتى أنسبائى حسب الجسد » "رو 9: 1 - 3".. لقد أحب إرميا أورشليم وأحب بلاده وأحب عناثوث مدينة ومسقط رأسه، لكنه كان فى وسطهم: « وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم اعلم أنهم فكروا على أفكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلايذكر بعد اسمه. فيارب الجنود القاضى العادل فاحص الكلى والقلب، دعنى أرى انتقامك منهم لأنى لك كشفت دعواى. لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا. لذلك هكذا قال رب الجنود: ها أنذا أعاقبهم، يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع، ولا تكون لهم بقية لانى أجلب شراً على أهل عناثوث سنة عقابهم » " إر 11: 19 - 23 ".. كان إرميا هنا أقرب ما يكون من إيليا وروحه، ولم يكن بعد قد تعلم روح المسيح الغافر، والذى طلب إلى تلاميذه أن تبدأ كرازتهم من مدينة أورشليم التى حاربته وصلبته على هضبة الجلجثة!على أن أقسى موقف يمكن أن يتعرض له الإنسان فى الأرض، هو الموقف بين الوطنية والدين،... كان إرميا واحداً من أعظم المحبين لبلاده وشعبه، وكانت غيرته على المدينة التى أحبها أشد من غيرة أعظم الوطنيين فى الأرض،... لكنه مع ذلك وقف موقفاً شبيهاً بموقف أبيه إبراهيم فوق جبل المريا، وهو يمد يده ليذبح ابنه إسحق،.. مع هذا الفارق أن إسحق كان مطيعاً لأبيه، ولا عيب فيه البتة، لكن أورشليم كانت المدينة الخاطئة التى تنتحر انتحاراً أمامه،... وقد كان من المؤلم والعجيب أن ينادى بعدم مقاومة الغزاة، والاستسلام لنبوخذ ناصر،... ومن لى، فى تلك الساعة، ليرى نزيف قلبه وهو ينادى بهذه الأقوال!!.. كان يتمزق بين الحنان المرهف، والقسوة الشديدة على المدينة التى ينادى عليها بالخراب،... إن السؤال الذى طرحه إرميا هو: هل نضحى بالدين فى سبيل الوطن،... أم نضحى بالوطن فى سبيل الدين!!؟.. إنه السؤال الذي يعتبر من أقسى الأسئلة التى يمتحن بها الإنسان على هذه الأرض!!... ونحن نصلى لأنفسنا ولجميع الناس ألا يقعوا فى هذه التجربة التى وقع فيها إرميا يوماً من الأيام!!.. ولعل مما تحسن الإشارة إليه هنا هو الخلاف الفكرى العميق بين اثنين من الأمريكيين أما أولهما فكان اسمه ستيفون ديكاتور وهو ضابط من أقدر ضباط البحرية الأمريكية والذي كان شعاره: أنا مع وطنى فى الحق أو الباطل على حد سواء!!.. وقد رفض أمريكى آخر اسمه صموئيل بولند هذا الشعار وقال: أنا مع وطنى فى الحق،... وفى الباطل أصحح وطنى ليصل إلى الحق!!. ولعل هذا هو الوضع الصحيح لكل مؤمن مسيحى أن يحب إلهه ووطنه!!.. ولم يشذ إرميا عن هذه الحقيقة فى أعماقه وقرارة نفسه، إذ لم يقبل الذهاب إلى بابل، حيث أعلى له الحق فى ذلك،... وتنبأ فى الوقت نفسه عن بابل أقسى النبوات!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... وها نحن نرى اليوم الكثيرين من أمثال الواعظ المشهور بللى جراهام، وهم يشبهون أمريكا، فى الضياع الخلقى والاستباحة والشر والمجون التى استولت عليها، بسدوم وعمورة،... ويصرحون، وهم وطنيون مخلصون، بأنها على شفا الهلاك، ما لم ترجع إلى المسيح والإيمان المسيحى الذي قامت عليه كأعظم دولة فى الأرض!!.. إرميا ونموذج الخادم العظيم أما وقدأطلنا الحديث عن شخصية إرميا ومقوماته كإنسان متسع، يبدو ممزقاً أو موزعاً بين عواطفه الذاتية، والنداء الإلهى الموجه إليه، فإنه يجمل بنا أن نراه كخادم أمين للّه، وهو فى هذا المجال، من أروع خدام اللّه العظام فى كل التاريخ، وربما نستطيع التركيز فى الأصحاح الثانى والعشرين من سفره، عندما كلفه اللّه بأن يذهب إلى الملك ورجاله فى القصر الملكى ليتحدث إليهم برسالة الرب، وهنا نرى الخادم فى أجل أوصافه: الخادم والرسالة العلوية قال الرب لإرميا: « انزل إلى بيت ملك يهوذا » " إر 22: 1 " ويبدو إن إرميا كان فى الهيكل، والهيكل كان فى أعلى بقعة، فمن يترك الهيكل لابد سينزل نزولا جغرافياً، لكن المعنى أشمل وأعمق من مجرد النزول الجغرافى، إذ أن من يحمل رسالة اللّه عليه أن يدرك بأنه يحمل رسالة تعلو فى مركزها وسلطانها وأمرها على كل عظماء الأرض وسادتها، وملوكها،... ويبدو أن النبى قد أمر بالذهاب إلى العائلة المالكة لأنه يعلم مدى نفوذها فى الخير أو الشر على حد سواء، والناس على دين ملوكهم، وينسجون دائماً على منوالهم، إذ يرغبون فى تتبع اثارهم ومحاكاتهم وتقليدهم فى كافة الظروف والأوضاع، وليس أدل على ذلك من أنه فى أيام الرئيس ترومان رئيس الولايات المتحدة، بدأ هذا الرجل يلبس القمصان المشجرة، فإذا بها تنتشر فى كل الولايات المتحدة، بل فى العالم بأجمعه،... وإذا أدركنا ذلك كم يبدو لنا كقادة أو آباء أو أمهات، عمق تأثيرنا فيمن يتطلعون إلينا، ويسيرون فى أثرنا ويحاكوننا، عن دراية أو عن غير دراية!!ومن اللازم أن نلاحظ ههنا شجاعة النبى وبراعته وحكمته... فالشجاعة أن تذكر القادة بأن عليهم أن يتقبلوا كلمة اللّه وأمره لا تفضلا أو تجملا بل امتثالا وخضوعاً وانتظاراً، وعلى الخادم أن يتحرك فيذهب حاملا الرسالة، دون أن ينتظر أن يأتى إليه السامع، أو كما قال أحدهم، إن من واجب الخادم ألا ينتظر من سامعيه أن يجروا وراءه، بل من واجبه أن يخلق الاجتماع، وعليه أن يجعل رسالته رسالة علانية واضحة، لا أن يخفيها فى حيز ضيق صغير، وعليه ألا يخدم فقط بين جدران الكنيسة، حيث من السهل أن يتقبل السامعون الرسالة، بل عليه أن يخرج إلى الخارج ليتحدث بها بين أناس قد يعادونه ويؤذونه بسببها!!... إن الدين ليس لمن يقبلونه فقط، بل هو أيضاً للعشارين والخطاة، ومن يظنهم الناس أنهم أبعد الجميع منه!!.. الخادم والرسالة المشجعة ذهب إرميا إلى الملك والقادة يحمل رسالة إيجابية مشجعة: « أجروا حقاً وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دماً زكياً فى هذا الموضع » " إر 22: 3 " وهذا وعظ إيجابى عملى واضح، لم يحلق فيه الواعظ نحو النجوم، أو يتحدث بلغة الفلسفة، ولم يلجأ إلى المنحنيات والدروب فى التعبير، بل هو كلام مستقيم لا التواء فيه، كما أنه وعظ يبدأ بالتشجيع والترغيب قبل التوبيخ والانتهار، وهذا يعلمنا أن نضع الشجاعة فى موضعها، وأن نمتنع عن كل تهور واندفاع فى غير موضعهما، بل هذا فى الواقع حسن الاستهلال الذى ينبغى أن يبدأ به الواعظ رسالته، ليكتسب الأذان ويجتذب المشاعر، ولم يكتف النبى بهذا التشجيع بل لوح بالوعود المباركة إذ قال: « إن فعلتم هذا الأمر يدخل فى أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه راكبين فى مركبات وعلى خيل » (عدد 4) وكم كان من الواجب أ ن يشرح هذا قلب الملك لأنه سيجد حماية وحراسة رب الجنود ملك إسرائيل، فى الوقت الذى فيه تتهدده الجيوش الأجنبية، بل إن فى القول: « ملوك جالسون لداود على كرسيه »... إعلان عن إمكانية عودة المملكة إلى مجدها القديم أيام داود، وامتداد رفاهيتها وسلطانها أجيالا طويلة!!.. الخدام والرسالة المحذرة ومن الواضح أن إرميا، عندما اتجه إلى أعلى الطبقات فى البلاد وأكثرها سطوة وجاهاً ونفوذاً، لم يجعل من صفاتهم أو مناصبهم معطلاً له عن إتمام الرسالة على أكمل وجه، وقد كان عليه أن يوجهها إليهم كما توجه إلى أضعف الناس أو أقلهم نفوذاً... ومن الوعاظ من يتحدث بالسهل اللين اليسير من الكلام، دون التحذير الواضح، لكن إرميا لم يفعل هكذا،... لقد تحدث إلى الملك والقادة بأن سر عظمة المملكة يرجع أولاً وأخيراً، إلى ما عندها من أخلاق أكثر مما عندها من مادة، إذ لم يقل للملك أن سر النجاح والنجاة للملكة يرجع إلى ما عندها من جيوش، وما تملك من قوات، أو تنال يدها من ذهب،..إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا هذه هى الحقيقة الدائمة فى كل العصور، وقد كان على الملك أن يجرى أولا، الحق والعدل،... والحق أوسع وأشمل من العدل، إذ أن الحق يشمل كل ما هو ضد الباطل والكذب والاستبداد والاستعباد سواء فى علاقة الناس بعضهم ببعض أو فى تصرفاتهم الفردية، بينما يتحدث العدل عن موازنة الحقوق بين الأطراف المتنازعة ويبدو هنا أن الملك يهوياقيم كان قد داس الحق والعدل معاً، فى أعماله، إذ سخر الشعب فى بناء قصره، دون أجر أو رحمة،... وكان الأمر الثانى معونة الضعيف، ويبدو هذا فى الوقوف إلى جانب المغصوب ضد الظالم، وعدم اضطهاد اليتيم والأرملة والغريب، ويجمل بنا هنا أن نذكر أن مساعدة هؤلاء ليست مجرد عمل اجتماعى تمليه الديموقراطية أو الاشتراكية الحقة، بل هو العمل الذى يسر به قلب اللّه!! » وجدير بالذكر أن التحذير كان واضح التعبير، ظاهر الدلالة، وعدم الانتباه له، سيجلب نتيجته المؤكدة، النتيجة التى أقسم الرب بها فى خراب المملكة، والبيت المالك معاً،... وكانت المأساة الكبرى أيام إرميا هى التعلق بالشكليات، فمدينة أورشليم فى تصور شعبها مدينة محبوبة من اللّه، ومادام الهيكل موجوداً بها، فلا يمكن أن تمسها قوة فى الأرض،......... وكان حديثهم: « هيكل الرب هيكل الرب هو » " إر 7: 4 ".. وكأنما اللّه يسكت على الشر والفساد مادام الظاهر من الدين موجوداً،.. وإذا باللّه يقول: "حى أنا يقول الرب ولو كان كنياهو بن يهوياقيم ملك يهوذا خاتماً على يدى اليمنى فإنى من هناك أنزعك، وأسلمك ليد طالبى نفسك وليد الذين تخاف منهم وليد نبوخذ ناصر ملك بابل وليد الكلدانيين »... " إر 22: 24 و25 ". أجل إنه من الحماقة أن يظن إنسان أو شعب أنه لمجرد أن اسم اللّه قد وضع عليه، فإنه آمن من كل خطر أو ضرر أو شر، مهما يرتكب من إثم أو خطية أما عن يهوياقيم نفسه، الذى قسى قلبه وأحرق الدرج، وفعل الظلم والشر والفساد، فقد بين له الفرق بينه وبين أبيه يوشيا: « هل تملك لأنك أنت تحاذى الأرز أما أكل أبوك وشرب وأجرى حقاً وعدلا؟ حينئذ كان له خير. قضى قضاء الفقير والمسكين. حينئذ كان له خير. أليس ذلك معرفتى يقول الرب؟ لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الزكي لتسفكه وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما. لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: لا يندبونه قائلين آه يا أخى أو آه يا أخت، لا يندبونه قائلين آه يا سيد أو آه ياجلالة، يدفن دفن حمار مسحوباً ومطروحاً بعيداً عن أبواب أورشليم!! " إر 22: 15 - 19 ". إرميا والفكر اللاهوتى فى سفره سنلم ببعض الأفكار اللاهوتية التى جاءت فى سفر إرميا ولعل أهمها: كلمة اللّه وكلمة اللّه عند إرميا تبلغ مركزها الأعلى، إذ هى الكلمة التى ينبغى عليه أن يعلنها، وقد جاءته هو واضحة فى الدعوة إلى النبوة، وقد وضعت هذه الكلمة باللمسة الإلهية على شفتيه، لينادى بنتائجها البالغة للأمم والممالك، وكلمة اللّه ليست مجرد ألفاظ ينطق بها، بل هى الكلمة التى تحمل قصد اللّه وإرادته، والمصحوبة بفاعليته وسلطانه، وفى صراعه مع الأنبياء الذين إدعوا النبوة فى عصره، كشف إرميا لهم عن إعلانات اللّه له، وبين الفارق بينه وبينهم، إذ أن اللّه أعلن أنه لم يرسل هؤلاء الأنبياء قط: « لم أرسل الأنبياء بل هم جروا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا " إر 23: 21 ".. ولا يستطيع الإنسان أن يتكلم باسم اللّه، إلا بعد أن يجلس فى حضرة اللّه، وينصت بعمق وتأمل إلى اللّه: « لأنه من وقف فى مجلس الرب ورأى وسمع كلمته؟ من أصغى لكلمته وسمع؟... ولا وقفوا فى مجلسى لأخبروا شعبى بكلامى وردوهم عن طريقهم الردئ وعن شر أعمالهم » " إر 23: 18، 22 "... إن الأنبياء المضلين يحلمون أحلاماً من ذواتهم: « قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمى بالكذب قائلين حلمت حلمت. حتى متى يوجد فى قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب بل هم أنبياء خداع قلبهم، الذين يفكرون أن ينسوا شعبى اسمى بأحلامهم التى يقصونها الرجل على صاحبه كما نسى آباؤهم اسمى لأجل البعل. النبى الذى معه حلم فليقص حلماً والذى معه كلمتى فليتكلم بكلمتى بالحق ما للتبن مع الحنطة يقول الرب » " إر 23: 25 - 28 ".. « فقال الرب لى: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمى. لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم. برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم لذلك هكذا قال الرب عن الأنبياء الذين يتنبأون باسمى وأنا لم أرسلهم وهم يقولون لا يكون سيف ولا جوع فى هذه الأرض، بالسيف والجوع يفنى أولئك الأنبياء » " إر 14: 14، 15 " والسمة البارزة فى كلام هؤلاء الأنبياء هى تملق السامعين، والمناداة لهم بما يطيب لهم أن يسمعوه،... على العكس من كلمة اللّه التى تظهر كالحنطة، إذ قورنت بالتبن الذى تذروه الرياح،... وهى المطرقة التى تحطم قساوة القلوب الصلدة، والنار التى تلهب حياة الناس ومشاعرهم وتسيطر على إرادتهم!!.. وذلك لأنها مصحوبة بفاعلية روح اللّه!!.. معرفة اللّه والحقيقة الثانية التى تبدت أمام إرميا: المعرفة المتبادلة مع اللّه، معرفة اللّه له، ومعرفته هو للّه » وهو يصف اللّه بالقول: « وأنا العارف والشاهد يقول الرب»..... وقد عرف اللّه إرميا: « قبلما صورتك فى البطن عرفتك " إر 1: 5 " وحياته من البدء مكشوفة أمام اللّه، وهى مكشوفة فى الأزمات: « وأنت يارب عرفتنى » " إر 12: 3 "، « والرب عرفنى فعرفت. حينئذ أريتنى أفعالهم » " إر 11: 18 "، « أنت يارب عرفت. أذكرنى وتعهدنى وانتقم لى من مضطهدى. بطول أناتك لا تأخذنى. أعرف احتمالى العار لأجلك » " إر 15: 15 " « أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعياً وراءك ولا اشتهيت يوم البلية. أنت عرفت. ما خرج من شفتى كان مقابل وجهك » " إر 17: 16).. « وأنت يارب عرفت كل مشورتهم على للموت » " إر 18: 23 " كان إرميا يدرك أن اللّه يعرف حياته جملة وتفصيلاً، بل يعرف من قبل أن يولد إرميا هذه الحياة فى كافة أو ضاعها، وعلى وجه الخصوص، فى الضيقات والأزمات... ومن الجانب الآخر، كان إرميا يعرف اللّه، وهو يختلف هنا عن غيره من الكهنة: « الكهنة لم يقولوا أين هو الرب، وأهل الشريعة لم يعرفونى، والرعاة عصوا على، والأنبياء تنبأوا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع » " إر 2: 8 ".. « أما أنا فقلت إنهم مساكين. قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم » " إر 5: 4 ".. « لأن شعبى أحمق، إياى لم يعرفوا، هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين. هم حكماء فى عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون » " إر 4: 22 ".. « وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها » " إر 7: 9 ".. « بل اللقلق فى السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئها، أما شعبى فلم يعرف قضاء الرب » " إر 8: 7 "... لكن إرميا كان يؤمن باليوم الآتى الذى سيقطع اللّه فيه عهداً جديداً مع شعبه: « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً ليس كالعهد الذى قطعه مع ابائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذى اقطعه مع بيت إسرائيل، بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتى فى داخلهم، واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً، ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين أعرفوا الرب لأنهم كلهم سيعرفوننى من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب، لأنى أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد » " إر 31: 31 - 34 "... وقد تحقق هذا فى قول المسيح المبار ك: « وأعرف خاصتى وخاصتى تعرفنى » " يو 10: 14 ". نشاط اللّه فى حياة البشر لم تكن عقيدة إرميا أن اللّه خلق الناس ليتركهم دون أن يبالى بهم كما كان يتصور توماس كارليل، أو ليقف متفرجاً على آلامهم وأحلامهم وتعاساتهم كما كان يزعم لورد بيرون، بل أن نشاط اللّه له الدور الكامل فى حياة الناس، على أن هذا النشاط يختلف ولا شك عند إرميا بالنسبة للمؤمنين، ولشعب اللّه، وللأمم، وللوجود كله،... ففى حياة النبى مثلا، يدرك إرميا مدى تدخل اللّه فى حياته، من مجرد دعوته التى أشار إليها فى الأصحاح الأول من سفره، أو كما قال أحدهم: تكفى الإشارة إلى الأفعال الواردة من " عدد 5: 10 " " صورتك " " عرفتك " "قدستك " " جعلتك " " أرسلك " " آمرك " " لأنقذك " " جعلت كلامى فى فمك " " وكلتك "... وهذه الأفعال تغطى حياة النبى جملة وتفصيلا، مما لا يترك واردة أو شاردة، دون تدخل اللّه، ومن ثم نراه يقول: «عرفت يارب أنه ليس للإنسان طريقة، ليس لإنسان يمشى أن يهدى خطواته» " إر 10: 23 ".. وفى حياة الشعب، مهما تلونت ظروفه، وتغيرت، وسواء وقع تحت التأديب أو الحض أو الوعد، فهو الشعب المختار من اللّه: « إسرائيل قدس للرب أوائل غلته. كل آكليه يأثمون. شر يأتى عليهم يقول الرب » " إر 2: 3 ".. « وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها. فكيف تحولت لى سروغ جفنة غريبة » " إر 2: 21 ".. وهو المحبوب: "ما لحبيبتى فى بيتى. قد عملت فظائع كثيرة " " إر 11: 15 " « قد تركت بيتى رفضت ميراثى دفعت حبيبة نفسى ليد أعدائها ». " إر 12: 7 ".. وهو الميراث: « رعاة كثيرون أفسدوا كرمى، داسوا نصيبى، جعلوا نصيبى المشتهى برية خربة » " إر 21: 01 " وهو قطيع الرب: « وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسى تبكى فى أماكن مسترة من أجل الكبرياء، وتبكى عينى بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبى قطيع الرب » " إر 13: 17 " وهو البكر: « لأنى صرت لإسرائيل أباً وأفرايم هو بكرى » " إر 31: 9 ".. وهو المرتبط بالعهد مع اللّه: « لا ترفض لأجل اسمك، لاتهن كرسى مجدك. اذكر ألا تنقض عهدك معناً » "إر 14: 21 "... « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً. ليس كالعهد الذى قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب » " إر 31: 31، 32 "... ومن المعلوم أن إرميا جاء بعد هوشع بزمن،... وقد اتفق الإثنان على تصوير العلاقة بين اللّه وشعبه فى صورة الزوجة والبنين،... يقول إرميا: « قد ذكرت لك غيرة صباك محبة خطبتك ذهابك ورائى فى البرية فى أرض غير مزروعة » " إر 2: 2 " « ألست من الآن تدعيننى يا أبى أليف صباى أنت » " إر 3: 4 "... « وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيك أرضاً شهية ميراث مجد أمجاد الأمم. وقلت تدعيننى ياأبى ومن ورائى لا ترجعين » " إر 3: 19".. « إرجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » " إر 3: 22 "... هذه هى العلاقة الخاصة بين اللّه وشعبه، مع تفوق العهد الجديد الذى يعلن لنا اللّه فيه بالروح القدس تلك الرابطة التى لا يمكن أن تنفصم أو تنقطع بين المسيح وكنيسته إلى أن يأتى فى مجيئه الثانى العتيد!!..ومن الواضح أن تاريخ الأمم خاضع لسيطرة اللّه وسلطانه: « والآن قد دفعت كل هذه الأراضى ليد نبوخذ ناصر ملك بابل عبدى وأعطيته أيضاً حيوان الحقل ليخدمه. فتخدمه كل الشعوب، وابنه وابن ابنه حتى يأتى وقت أرضه فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام » " إر 27: 6، 7 "... بل إن الوجود كله يخضع للسلطان الإلهى: « أنى أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذى على وجه الأرض بقوتى العظيمة وبذراعى الممدودة وأعطيتها لمن حسن فى عينى » " إر 27: 5 ".. وهو الذى يعطى المطر: « ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذى يعطى المطر المبكر والمتأخر فى وقته يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة » " إر 5: 24 ".. « هل يوجد فى أباطيل الأمم من يمطر، أو هل تعطى السموات وابلا، أما أنت هو الرب إلهنا فنرجوك لأنك أنت صنعت كل هذه » " إر 8: 7 ".. كان إرميا يؤمن بالتدخل والنشاط الإلهى، فى كل شئ، فى حياة الجميع بصورة كاملة دائمة كل يوم!!. الخطية والدينونة والتوبة والخلاص أعلن اللّه لشعبه إرادته المقدسة، وقد أعلنها فى التوراة وعن طريق الكهنة والأنبياء، وكان المطلوب من إسرائيل أن يخضع لهذه الإرادة الإلهية ويتمسك بها: «هكذا قال الرب: لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار.. بجبروته، ولا يفتخر الغنى بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر: بأنه يفهم ويعرفنى أنى أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلا ً فى الأرض لأنى بهذه أسر يقول الرب » " إر 9: 23، 24 " وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه ليست مجرد قواعد أدبية أو خلقية، بل هى أوامر إلهية أعطاها اللّه إفصاحاً عن طبيعته وكمالاته الإلهية، وهو لهذا يسر بها، فخروج شعبه عنها، أو خروج الإنسان عنها، هو الضياع بعينه: « هل بدلت أمة آلهة وهى ليست آلهة. أما شعبى فقد بدل مجده بما لا ينفع » " إر 2: 11 "..، وهو السير وراء الباطل: « هكذا قال الرب ماذا وجد فى اباؤكم من جور حتى ابتعدوا عنى وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً " إر 2: 5 "، وهو الشرود والنسيان: « لماذا قال شعبى قد شردنا لانجئ إليك بعد. هل تنسى عذراء زينتها أو عروس مناطقها. أما شعبى فقد نسينى أياماً بلا عدد » " إر 2: 31، 32 " وهو الأعوجاج: « لأنهم عوجوا طريقهم» " إر 3: 21 ".. وهو الزنا: « لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية » " إر 2: 20 ".. « حقاً أنه كما تخون الامرأة قرينها هكذا خنتمونى يا بيت إسرائيل يقول الرب » " إر 3: 20 "، وهو المرض: « ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » "إر 3: 22 "، والدينونة الواقعة على الشعب، والعقوبة القاسية، لأن الخطية تمكنت منهم وتغلغلت فى حياتهم، وأصبحوا كأتان الفرا التى فى شهوتها تستنشق الريح " إر 2: 24 ".. أو فى الصورة الأخرى: « هل يغير الكوشى جلده أو النمر رقطه؟ فأنتم أيضاً تقدرون أن تصنعوا خيراً أيها المتعلمون الشر » " إر 13: 13 ". « سمعاً سمعت أفرايم ينتحب. أدبتنى فتأدبت كعجل غير مروض. توبنى فأتوب لأنك أنت الرب إلهى. لأنى بعد رجوعى ندمت، وبعد تعلمى صفقت على فخذى. خزيت وخجلت لأنى حملت عار صباى. هل إفرايم ابن عزيز لدى أو ولد مسر، لأنى كلما تكلمت به أذكره بعد ذكراً، من أجل ذلك حنت أحشائى إليه. رحمة أرحمه يقول الرب » " إر 31: 18 - 20 " كان إرميا نبى الدموع، ولن يعرف العالم مرة أخرى شيئاً أعظم أو أروع أو أنبل من مراثيه، ومع أن العالم عرف كثيراً من الأحزان والمآسى فى كل العصور،... لكنه لم يعرف واعظاً، وكاتباً، وراثيا مرة أخرى كإرميا، وإذا كانت القديسة تريزا قد قالت: إن الدموع تكسب كل شئ،... فإن دموع إرميا التى بدت كما لو أنها ضاعت على أطلال أورشليم الخربة، إلا أنها، - ويا للعجب - لم تنفد إلى الآن، فقد تحول رأسه فعلاً إلى ماء لا يكف عن العطاء، وعيناه إلى دموع، ما يزال ينهل الوعاظ منها عبرة ومثالا وهم يبكون على قتلى الخطية نهاراً وليلاً فى الطريق المنحدر إلى الضياع الأبدى، والعذاب والتعاسة، فى جهنم التى كتب على بابها دانتى فى الكوميديا الإلهية: « أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!.. »
المزيد
10 فبراير 2020

ماذا تعرف عن صوم "يونان النبي"؟

يبدأ اليوم، الإثنين، الأقباط في صوم يونان، والمعروف بصوم نينوي أيضا، والذي يستمر لمدة 3 أيام، لينتهي بفصح يونان يوم الخميس المقبل ويونان هو نبي عاش مع بني إسرائيل أرسله الله لأهل نينوي الذين أخطأوا أمام الله ليطلب منهم التوبة، إلا أن يونان خاف جدا من أهل نينوى فهرب إلى مدينة ترشيش، إلا أن الله أرسل ريحا عظيما وكادت أن تهلك المركب بمن فيها، وقام البحارة بعمل قرعة ليعلموا من هو سبب هذا الغضب العظيم بعد أن شكوا في الأمر فاستقرت القرعة على يونان 3 مرات.وفي النهاية اعترف يونان بأنه خالف قول الله، فما كان منهم إلا أنهم ألقوه في البحر، إلا أن الله كان أعد حوتا عظيما فابتلعه وظل في جوفه 3 أيام قدم فيها توبة حقيقية إلى أن لفظه على الشاطئ قرب نينوي، وقام يونان بمهمته وتابت بلده نينوي كلها على يديه. ويقع صوم نينوي قبل بدء الصوم الكبير بأسبوعين، ومدة هذا الصوم حسب طقس الكنيستين السريانية والقبطية هو ثلاثة أيام، أما الأرمن الأرثوذكس فيصومونه خمسة أيام، ولا تعرفه الكنيسة اليونانية. هذا الصوم إلى الكنيسة القبطية في أيام البابا إبرآم ابن زرعة السرياني (976- 979م) البطريرك الـ62 في القرن العاشر، حيث كان البابا ابرآم سرياني الأصل، وكان السريان يصومونه قبل القرن الرابع الميلادي.وكان عدد أيام هذا الصوم قديما ستة، أما الآن فهو ثلاثة أيام فقط، تبدأ صباح الاثنين الثالث قبل الصوم الكبير، وكان قد أهمل عبر الأجيال.ويذكر مار ديونيسيوس ابن الصليبي (1171+) أن مار ماروثا التكريتي (649+) هو الذي فرضه على كنيسة المشرق في منطقة نينوى أولا، ويقول ابن العبري نقلا عن الآخرين إن تثبيت هذا الصوم جرى بسبب شدة طرأت على الكنيسة في الحيرة (وباء خطير فتك بالأهالي) فصام أهلها ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ مواصلين الصلاة إتماما لوصية أسقفهم (مار سوريشو مطران)، الذي أراد تقليد أهل نينوي لعل الله يستجيب ويخلصهم من الوباء، فنجاهم اللّه من تلك التجربة.وظل هذا الصوم يتأرجح، حتى نجده صار صومًا مستقرًا في الكنيسة في قوانين ابن العسال في القرن الثالث عشر، كما ذكره ابن كبر +1324م كصوم مستقر في الكنيسة
المزيد
29 يوليو 2019

لماذا أنا مسيحى؟الجزء الثانى

(4) كمال الأعمال الربانية: صحيح إن الهدف الرئيسي لمجئ السيد المسيح للعالم ليس هو عمل المعجزات من شفاء مرضي أو إطعام الجموع من سمكتين وخمس خبزات وغير ذلك وإنما الموت عن الخطاة كما قلنا سابقا وأن أعماله الجليلة التي سجلت الأناجيل عدد محدوداً منها قد أكد لنا حبه وأنه هو نفسه الله الخالق (عيون للأعمي) وفي إقامة الموتي بالأمر وهوالشافي لجميع الأمراض حتي تلك التي يصعب علي الطب شفائها حتي الآن وهو المسيطر علي الطبيعة الحية والجامدة انظر كيف أسكت هيجان البحر بالأمر وسار علي الماء وصعد وحده إلي السماء (بعكس قانون الجاذبية)..الخ وأراح التعابي وبإختصار إن أعمال السيد المسيح كلها إعجاز ولم يأت أعظم الأنبياء بمثلها أو بعددها أو بطريقة عملها كما كانت للرب يسرع سيطرة (سلطان) علي الشياطين طرد الأرواح النجسة بكلمة منه) ومعرفته الغيب وأسرار وخفايا القلوب وأفكار ونيات الناس والتنبؤ بما سيحدث قبل نهاية العالم وأعلن بعض ما في السماء من أمور مخفية عن البشرية وهو ما إعترف بع الأعداء قبل الأصدقاء وقد قال المخلص للناس "إن الأعمال –التي أعطاني الآب لأكملها –هي الأعمال هي بعينها التي أنا أعملها وهو مستعد أن يعملها لكل من يطلبها إذا ما توقفت مع مشيئة الله الصالحة (أو لأجل شفاعة ملائكته وقديسيه وشهدائه أيضاً) ولهذا تم تطويب كل من رآه بالجسد وسمع منه بالأذن لأن أنبياء وأبراراً كثيرين –في العهد القديم –كانوا يشتهون ويتمنون رؤياه –له المجد –ولم تتح لهم الفرصة الذهبية لإتمام مثل هذا اللقاء العجيب (مت 16:13-17) ومع ذلك يسمح الرب بلقاء كل نفس مؤمنه به وتشتاق إليه الآن ويعمل الروح القدس في النفس فتستطيع أن تعمل أعمال عجيبة وتثمر عملاً صالحاً باراً وتحتمل الألم الشديد..الخ لأننا بدونه لا نستطيع كل شئ أن نفعل شيئاً (يو 5:15) "وأستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني " (في 13:4) فهو يسند الضعفاء ومعين لكل من ليس له معين وهو الوحيد الذي يقول لكل الأجيال "تعالوا إلي يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم " (مت 28:11) ويقول أيضا لكل ضال:"كل من يقبل إلي لا أخرجه خارجاً (يو 37:6) وهو ما لم يستطيع أن يقوله أي نبي أو رسول أرسله (5) أعطانا المسيح الفرح الكامل: في ليلة الصلب تحدث الرب –بصراحة عما سيجابهه تلاميذه وخدامه من الآم شديدة من من أجل الإيمان بعد رحيله عن العالم ولكنه وعدهم بإرسال الروح القدس المعزي لهم من اعند الآب لكي تمتلئ به النفوس المؤمنه وتتمتع بمواهبه الهامة لنجاح الخدمة ولتستفيد بثماره الكثيرة من محبة وفرح وسلام وطول أناة وصلاح ولطف وبر ووداعة وتعفف ومزيد من الإيمان (غل 22:6-23) وكان له المجد قد قال لهم من قبل أنه يرسلهم للخدمة أنهم كغنم وديعة وسط ذئاب مفترسة ولن يخافوا لأن الراعي الصالح سيكون معهم ويدافع عنهم فمتي أسلموكم للمحاكمة فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم (الروح القدس) الذي يتكلم فيكم " (مت10) وأعطي الرب يسوع أولاده الطمئنينة وقال:لا تضطرب قلوبكم..في بيت أبي منازل كثيرة (درجات) كثيرة أنا أمضي أعد لكم مكاناً وإن مضيت وأعددن لكم مكانا آتني وأخذكم حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً ولكنني سأراكم أيضا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم " (يو 17:14) وهكذا تمتع أولاد الله بفرح روحي داخلي دائم من عمل الروح القدس في النفس وهو يختلف عن فرح العالم المادي والمؤقت والذي يتذبذب حسب الظروف وخير دليل علي ذلك أنهم تعرضوا للتعذيب علي أيدي الرومان بنحو أربعين نوعاً من العذابات البدنية والنفسية التي لا يستطيع أن يتحملها البشر ولكن الرب اذي لم يمنع عنهم بركات الألم وقف بجوارهم وسندهم وعزاهم حتي أنهم كانوا يندفعون إلي أقصي الولاة لإعلان الإيمان والإلحاح عليهم أيضا بتعذيبهم حتي موتهم لأن الروح القدس عزاهم جداً وأعطاهم عربون الحياة الآبدية في الدنيا وهو ما لا يوجد في أي دين آخر علي الأرض وهو ما أوضحه السيد المسيح في صلاته الشفاعية وقال "أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك..ليكونا واحداً كما نحن..ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم..لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير..أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلي واحد" (يو 17) وقد تم وعد الله وانسكب الروح القدس علي كل المؤمنين من الجنسين يوم الخمسين وفرح الرسل بالآلام والسلام كما سجله القديس لوقا في سفر أعمال الرسل وقال "دعوا الرسل وجلدوهم وأما هم فذهبوا فرحين –من أمام المجمع –لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه وكانوا لا يزالون (رغم كل هذه الآلام) كل يوم في الهيكل وفي البيوت –معلمين ومبشرين بيسوع المسيح (أع40-42) والمؤمن الحكيم لا يتعقد من الظلم ولا من الاضطهاد ولا من المعاناة من أجل إيمانه وأمانته بل يفرح جداً بكل بركات الألم وسيسند الروح القدس كل نفس تتألم ونشكر الرب وتدعو للظالمين بالخلاص من ظلمهم (لا أن تدعي الرب للإنتقام منهم لأنهم مرضي بالروح وفي حاجة علاج لا عقاب (6) أعطانا الأسرار المقدسة الكاملة والمكملة: من أعظم نعم الله التي تتميز بها المسيحية عن غيرها تمتع المؤمنين بها "بأسرار الكنيسة السبعة "ونتائجها العظيمة للنفس والغير وعلي رأسها سر المعمودية حيث يولد المسيح ولادة جديدة من الماء والروح ويتخلص من الخطية "الجدية التي ورثتها ذرية أدم كمرض روحي وهي الديانة الوحيدة التي تقدم العلاج الحقيقي لهذه المشكلة الروحية وفي سر التوبة يجلس الخاطئ مع جلسة مصالحة طالباً رحمة الله ثم يتقدم بإيمان تام إلي المستشفي الروحي (الكنيسة) حيث يلتقي التائب مع الرب يسوع طبيب الروح والجسد فيسكب أمامه دموعه ويعلن توبته الحقيقية وندمه الشديد عما فعله وبصلوات الكاهن يرحمه الله من كل آثامه وذنوبه وشروره وخطاياه ثم يتقدم للتناول من السر الأقدس دواء وشفاء وعزاء للنفس ويشتعل الروح القدس فيه بالأكثر بممارسة باقي وسائط الخلاص من صوم وصلاة وعطاء وخدمة وقراءات روحية ومطانيات وتسبيح وترنيم وتأملات..الخ فيزداد فرح النفس وتتقدس وربما تتكرس لخدمة الرب والشعب في سر الكهنوت المقدس أو الوحدة بالبرية أو يقدس نصف الوقت للعبادة والخدمة مع العمل لطعام الجسد ويمكن للمريض الجسدي أن يدعو رجل الله لكي يعترف بخطاياه ويشفيه الله منها ومن مرض الجسد بصلاة مسحة المرضي إذ رأته عناية الرب أو علي الأقل يتمتع المريض بالإنعتاق من عبودية الخطية وهو الأهم من كل مرض للجسد الترابي وترتفع المسيحية بقمة الكمال والجمال في سر الزيجة المقدس الذي به تقام أسرة مسيحية مؤسسة علي صخرة المسيح ولا تتأثر بمتاعب الدنيا الكثيرة إذ يربط الروح القدس بين الشريكين برباط المحبة والإخلاص والوفاء والأمانة وغيرلاها من الفضائل المتميزة بها الأسرة المسيحية وتقوم الأسرة المسيحية علي أساس وجود المسيح في البيت المقدس والمكرس للعبة والحب للرب لأنه "حيثما اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم (مت 20:18) ولذلك يتم اختيار الشريك المبارك الممتلئ نعمة والذي له علاقة قوية بالله وبكنيسته والمرتبط باجتماعاته وخدمته (بالوزنة المعطاه له من الله) وتكون الشريكة "الأمينة "معينة لزوجها كما حدده الله للإنسان منذ بدء الخلق وتشاركه كل أفراحه وأحزانه ويتقاسمان معا متاعب الدنيا فتخف أثقلها (جا 9:4-12) ولا تتكون زيجة مسيحية سليمة علي أساس مادي جسدي أو جنسي فقط كما يفعل أهل العالم لأنها ستكون حتما مثل بيت مبني علي الرمل يسط بسرعة وبسهولة متوقعة من أول تجربة صعبة (مت 27:7) وبندم الشريك ولكن لا ينبغي له أن يلقي بالمسئولية علي الله فالزواج ليس قسمة ونصيب كما يزعم البعض بل هو إختيار بحكمة ويطلب النعمة وبمشورة القريب والغريب وسؤال الرب وخدامه والبحث والإستقصاء –لفترة طويلة قبل وبعد مشروع الخطبة ولا يلومن أحد سوي نفسه كما قال القديس يوحنا ذهبي الفم وتبلغ الأسرة كمالها وجمالها بتفيذ مفاهيم وتعاليم المسيح السليمة عن الحب الروحي والمضحي وعن مساندة الشريك للضعيف الآخر وعن عدم التخلي عن الشريك المريض بالروح أو بالجسد والصلاة من أجله إلي أن يسترد صحته الروحية والجسدية وأن تدنيس الرباط المقدس يكون بدخول طرف شرير ثالث بينهما وهو السبب الرئيسي (الخيانة)لفصم عري هذا الزواج المقدس علاوة الزنا الروحي بترك أحدهما الإيمان المسيحي عندما يغوي إبليس طرفا ً ضعيفا ً روحيا لبيع مخلصه بغباء من أجل لذة عابرة وغيرها من أمور العالم الفاني ويندم الغبي إلي الآبد ولا يمكن منطقياً لمن يغضب الرب ويترك أو يخالف شريعة الكمال أن يشعر براحة بال بسعادة حقيقة بأية حال من الأحوال وهو أمر مؤكد للكل وأسألوا المجربين البين عن الله ووصاياه الخاتمة: والخلاصة أن المسيحية الجميلة بما فيها من سمو في الروحيات وفي الإجتماعات والصداقات الروحية وفي التعاليم العظيمة هي حقاً ديانة الجمال والكمال ومن يشك في هذا المقال عليه أن يدرس كتابها وما يحتويه من أقوال وأفعال تدعو للسعادة الحقيقية والأستقرار والهدوء والسلام النفسي والاجتماعي أيضا وهو ما إخترته الملايين ووصل أتباع هذا الدين العظيم إلي نحو من ثلاثة مليارات من سكان عالمنا المعاصر ويزدادون كل يوم بعمل الروح القدس في كل نفس تؤمن وتعتمد وتخلص وختاماً تعلمنا الكنيسة القبطية في صلوات (ومزامير الساعة الأولي من النهار (صلاة باكر بالأجبية) كيف يومنا بكل آلامه وآماله وكيف نتعامل مع الناس ومختلف الأجناس بتلك الكلمات الجميلة التي نطق بها الروح القدس علي لسان القديس بولس وقال "أطلب إليكم أن الأسير في الرب (في سجن روما أجل الإيمان) أن تسلكوا كما يحق للدعوة " (المسيحية التي دعيتم بها بكل تواضع ووداعة وبطول أناة محتملين بعضكم بعضاً في المحبة مجتهدين (مسرعين تحفظوا وحدانية الروح برباط سلام " وليتنا نستمع بالأكثر ونستمع بتلك أيضا الوصايا الجميلة والكاملة:"لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم (الأشرار) ببطل ذهنهم إ هم مظلمو الفكر ومتجنبون (بعيدون) عن حياة الله (المقدسة) لسبب الجهل الروحي)الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم "لا يسرق السارق والعاطل فيما بعد بل بالحري يتعب (يكسب العيش) عاملاً الصالح بيديه (لتوفير المال) وليكون له أن يعطي من له احتياج " "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم بل كل ما كان صالحاً للبنيان (لا للعثرة) كي يعطي نعمة للسامعين ولا تحزنوا روح الله القدوس " لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ. (لؤم أو مكر) وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضاً فِي الْمَسِيحِ. فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاَللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ، 2وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً (لخلاصنا) وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً. " (أف 5-4)
المزيد
07 أكتوبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس حبقوق

حبقوق والبار بإيمانه يحيا "" حب 2: 4 " مقدمة كان دانيال وبستر، يتحدث فى أحد الأيام إلى عدد من الفنانين المشهورين حول بعض المناظر والرسوم المسرحية، قال لهم: إنه يدهشنى أن واحداً من الفنانين لم يحاول أن يرسم منظراً لقطعة لا نظير لها فى أجمل قطع الآداب الإنسانية، فسألوه: وما هى؟ فأجاب: صورة حبقوق النبى وهو جالس فى وسط الخراب يغنى رغم كل شئ أغنية الإيمان المبتهج الفرح.ومن الواضح أن حبقوق ارتفع إلى ذروة الإيمان، بعد المناقشة المحاجية والمجادلة والصلاة، والوقوف على المرصد، والانتصاب على الحصن،.. أو فى عبارة أخرى أن إيمانه لم يكن اعتباطاً، أو اندفاعاً بدون تأمل أو عقل، بل كان على العكس بعد التفكير العميق والتأمل النفاذ، فهو إيمان فيلسوف طرح القضية بعمق ليخرج بالنتيجة الرائعة، أن الإيمان ليس مضاداً للعقل أو رافضاً لنشاطه وقوته، بل هو الإيمان الذى يأخذ العقل معه، ويحلق به فى جو الحياة، وسماء الوجود، مرتفعاً على أجنحة الإيمان،... وهو الذى علم فى عبارة من أعظم عبارات الكتاب المقدس، كيف يمكن للإنسان أن يعيش أسمى حياة، وأروع حياة وأعظم حياة، وذلك بالإيمان وحده،... فالبار بإيمانه يحيا، من هو هذا الرجل الفيلسوف، والذى رفض أن يحكمه العقل وحده أو يتحكم فيه، فسار حاملاً عقله فى درب الإيمان العظيم!.. إن هذا ما نريد أن نضعه أمامنا،... نحن ندرس هذا الرجل بين الشخصيات المختلفة المتعددة فى الكتاب المقدس، ولعلنا نراه بعد ذلك فيما يلى: حبقوق ومن هو!!؟ لا نكاد نعرف عن حبقوق شيئاً خارج السفر الذى يحمل اسمه، كما لا نعلم - على وجه التحقيق - هل اسمه اسم علم غير مشتق أم مجرد كناية ورمز؟، يقول البعض إن اسمه مأخوذ من أصل أشورى: « حمبقاقى » وهى فصيلة من نبات الحدائق، ويعتقد آخرون أنه من « حبق » العبرية التى تعنى « يشبك اليدين » أو « يحتضن » وكاسم علم إما تدل على إنسان يحتضن آخر أو يحتضنه آخر، وقبل لوثر المعنى الأول فقال: « إن حبقوق يعنى المحتضن، أو الإنسان الذى يحتضن آخر، أو يضمه بين ذراعيه.. وقد سار فى تفسيره على هذا القياس فقال: « إن حبقوق يحتضن شعبه ويضمه بين ذراعيه... فهو يعزيهم وينهضهم كإنسان يحتضن شخصاً أو طفلا باكياً مؤكداً له أن الأمور، بإذن اللّه، ستصير إلى أحسن.. » أما عن مولده وتاريخه، فلا نكاد نعلم شيئاً، ظن البعض نسبة إلى ما جاء فى ختام الأصحاح لرئيس المغنين على آلاتى ذوات الأوتار،... أن عمله كان فى فرق المغنين فى الهيكل، وبذا يكون من سبط لاوى، وإذا فمثله مثل إرميا وحزقيال اللذين وصلا إلى مصاف الأنبياء من بين اللاويين، وقد وجد فى قصة قديمة فى إحدى المخطوطات تأييد لذلك، بينما ظن آخرون أنه من سبط يهوذا، وقال غيرهم إن هناك تقليداً يرجع بنسبه إلى سبط شمعون، وأنه ولد فى بيت زوخار، وهى قرية صغيرة شمال لدة، وأنه حين أتى نبوخذ نصر إلى أورشليم ترك بلاده إلى استراقين غرب العريش بستة وعشرين ميلاً، وأنه رجع إلى بلاده بعد السبى بعامين، وأنه دفن قرب جبعة،، وعرف قبره فى زمن يوسابيوس وجيروم، ولا يفوتنا أن نذكر أن هناك تقليداً غريباً ينسب إلى بعض الربيين أنه ابن المرأة الشونمية الذى أعطى لها بمعجزة وأقامه أليشع.. ولكن الحقائق الثابتة المعروفة ضد ذلك تماماً،... وقد كان حبقوق كاتباً أخاذ الأسلوب رائع التعبير، وقد قال عنه أحدهم: أنه يشابه إشعياء فى سموه، وإرميا فى عواطفه، وداود فى طاعته، وبولس فى ثقته، كما أن وصفه لعظمة اللّه فى الأصحاح الثالث من سفره ربما لا يوجد له مثيل فى الكتاب المقدس!! وأغلب الظن أنه كتب نبوته عام 603 ق. م. بعد قيام الكلدانيين بغزواتهم الواسعة وهزيمتهم لآشور عام 612 ق.م. ولفرعون نخو ملك مصر عام 605 ق.م. فى موقعة كركميش المشهورة!!.. حبقوق المشتكى وصف أحد الشراح حبقوق بالقول: « إنه المفكر الفيلسوف الذى يعد من أعظم أحرار الفكر فى التاريخ، ذو الحزم والسريرة الصافية الذى يملك قوة وابتداعاً خارقين، وهو العطوف بين الأنبياء وواعظ البشائر الإلهية!!.. ووصفه آخر أنه توما العهد القديم، إذ أنه الرجل الذى لا يؤمن قبل أن يضع كل شئ فى موضع البحث والنقاش والدراسة والاختبار... وهو أكثر الأنبياء استعمالا لعقله ومنطقة فى المحاججة والمناقشة مع اللّه،... وهذا واضح من مطلع سفره. « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص. لم ترينى إثماً وتبصر جوراً. وقدامى اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها؟! لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم بتة لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجاً »... "حب 1: 2 - 4 ".لقد طرح حبقوق سؤالا ما يزال يطرحه إلى اليوم ملايين الناس من أبناء اللّه، وهم يصرخون إلى اللّه ليلا ونهاراً: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع؟ أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص؟ »... كانت المشكلة أمام حبقوق، ذلك الفساد الذى استشرى فى داخل البلاد، والذى حاول بعض ملوك يهوذا، عبثاً، مقاومته، وكان آخرهم الملك الرقيق القلب يوشيا الذى مات فى معركة مجدو، والذى تنبأ حبقوق فى أيامه،... والسؤال مع ما فيه من شجاعة خارقة تبلغ بها الجرأة إلى حد أن تقول للّه: « لا تسمع » و« لا تخلص »... إلا أنه سيبقى سؤال العقل المشتكى أمام اللّه مما يحس به المؤمنون من الواقع الأليم،... واللّه لم يغضب من هذا السؤال، ولا يمكن أن يغضب من أى سؤال يمليه العقل المخلص لواحد من أبنائه!!.. كان السؤال فى الواقع هو الصراع الذهنى بين الواقع الذى يعيشه المؤمن فى العالم، وبين الانتظار للّه فى حل المشاكل والمتاعب!!.. ماذا حدث أمام حبقوق، وفى عصره؟؟ كانت هناك فى البلاد أغلبية شريرة فاسدة، تفعل كل ما يفعله الأشرار الفاسدون الفاسقون، وقد أحاطت هذه الأغلبية بالأقلية التقية، وسحقتها تحت أقدام الظلم والاغتصاب والتعسف، فشت الرشوة، حتى أصبح الالتجاء إلى القضاء عبثاً، إذ عوجت الأحكام برشوة القضاء،.. وعندما يفسد القضاء فى أمة، فقل على الأمة السلام، لأن القضاء هو الملاذ الأخير للبؤساء والمتضايقين والمنكوبين والمعتدى عليهم،.. ومقياس تقدم الأمم أو تأخرها يقاس فى العادة بمقياس نزاهة القضاة أو فسادهم.. وقد رأى حبقوق كيف جمدت الشريعة بأحكام القضاة الفاسدين المرتشين!!.صلى حبقوق اللّه وصرخ وهو يتألم لآلام التعساء المنكوبين، دون أن يجد نتيجة ظاهرة، فوضع السؤال الذى يتكرر فى كل الأجيال والعصور: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع. أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص »؟؟.. نحن لا ننكر أن هذا السؤال من أهم الأسئلة التى يطرحها العقل البشرى!! لماذا لا يسمع اللّه؟ أو بتعبير أدق: لماذا يبدو كما لو أن اللّه لا يخلص شعبه من الظلم الصارخ البين الملحوظ من الجميع؟ من الواضح أن حبقوق، وهو يشتكى لم يظهر فى شكواه أن اللّه لا يسمع أو لا يخلص، لأن الأقلية التى يشتكى باسمها، ارتكبت شراً أو خطأ،.. ومرات كثيرة ما لا يسمع اللّه، أو لا يخلص، لأن المصلى أو الصارخ لم يتخلص بعد من شره أو خطيته وهكذا يأخذ الجزاء نتيجة خطية معينة، أو إثم واضح لديه،.. لقد أخطأ شمشون فقلعت عيناه، وأخطأ داود فأخذت ثمرة الخطية من الأرض، رغم أنه صلى لبقاء الولد،... وصاح إرميا فى مراثيه: « لماذا يشتكى الإنسان الحى الرجل من قصاص خطاياه؟ لنفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع إلى الرب. لنرفع قلوبنا وأيدينا إلى اللّه فى السموات. نحن أذنبنا وعصينا. أنت لم تغفر إلتحقت بالغضب وطردتنا. قتلت ولم تشفق. إلتحفت بالسحاب حتى لا تنفذ الصلاة ».. " مراثى 3: 39 - 42 " لكن شكوى حبقوق لا يبدو فيها أن هناك خطية معينة عند الأقلية التقية، واللّه يريدهم أن يتحرروا منها قبل أن يمد لهم يد المعونة والمساعدة!!.وكانت الأيام التى عاشها حبقوق أشبه بأيامنا هذه التى يحيط فيها الفزع بالكثيرين من أبناء اللّه محلياً أو فى العالم كله، عندما يحاول الشرير أن يسحق المؤمن، ويرفع المؤمن صلاته إلى اللّه،... ولكن اللّه يأتى إليه فى الهزيع الرابع،... ولعل حزقيا وهو يدعو إشعياء للصلاة قائلا: « لأن الأجنة دنت إلى المولد ولا قوة على الولادة » " إش 37: 3 " كان فى خياله أو فى تفكيره، وهو يتعجب: لماذا يترك اللّه أبناءه حتى يصبح الواحد منهم كالمرأة الماخض التى تتلوى من الألم قبل أن تأتيها نجدة السماء ومعونتها!!.. إن هذه السياسة الإلهية مرات كثيرة ما تكون ضرورية لإنسان سريع النسيان يلزمه أن يصل إلى الاختبار: « حين أعيت فى نفسى ذكرت الرب »... " يونان 2: 7 " وهى التى تعلن مجد اللّه الواضح الكامل العظيم!!... قال أحدهم: جاءتنى برقية أن أختى التى تقيم على بعد 500 ميل ستجرى لها عملية جراحية خطيرة، وأن الأمل فى نجاح العملية واحد فى المائة، وصليت من أجلها ثلاث ساعات متوالية، وقمت وكلى يقين أنها ستحيا، وفى اليوم التالى دعيت إلى محادثة تليفونية،... وقال العامل: إنها إخطار بوفاة... ورفضت أن أصدق،... على أنها كانوا يطلبون منى أن أحضر فى القطار التالى فقد تحسنت الحالة، وأختى تطلب أن ترانى.... وكتبت أمى إلى كتاباً تقول: إنه فى الساعة الخامسة والنصف من مساء اليوم الذى صليت فيه فتحت أختى عينيها وقالت: أماه لقد صلى أخى من أجلى، واللّه أخبره أنى سأشفى!!..فى الحقيقة كثيراً ما تكون تأجيلات اللّه لإظهار مجده الأعظم!!... عندما سمع المسيح خبر مرض لعازر، لم يذهب بسرعة، وفعل عكس ما كان ينتظر، إذ بقى فى مكانه يومين، لا لأنه لا يسمع أو لا يجيب، بل لأنه يرغب أن يكون مجد اللّه أعلى وأعظم وأجل!!.على أية حال... عندما رفع حبقوق شكواه إلى اللّه بهذه الصورة، تركه لينفس عن نفسه وعن المظلومين والأبرار معه واللّه على استعداد أن يستمع إلى النفس المريرة التى تأتى إليه لتسكب عصارة أحزانها وسر شكواها وأنه سيقبل من يجاهد معه ويصارعه، ولو استعمل ألفاظاً جريئة كموسى عندما قال: « ياسيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب، لماذا أرسلتنى فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب وأنت لم تخلص »... " خر 5: 22 و23 " أو كإيليا عندما صرخ إلى الرب وقال: « أيها الرب إلهى أ أيضاً إلى الأرملة التى أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها » " امل 17: 20 "... إنه يعرف أن هذه الألفاظ لا تخرج إلا من قلوب معاتبة عامرة باليقين والاتكال عليه!! إطرح كل شكواك أمام الرب وتحدث بمخاوفك وآلامك وعبر عنها كما تشاء نفسك الإنسانية، مادمت قد اختبرت اليقين المبارك أنك بن اللّه!!.. حبقوق الحائر أجاب اللّه على شكوى حبقوق، فبين له أنه يجهز عقاباً رهيباً للاشرار والأثمة، وأن هذا العقاب لن يكون بعد زمن طويل، بل أنه قريب، وفى أيامهم، وهو رهيب إلى درجة لا تكاد تصدق، إذ أنه سيقيم « الكلدانيين، الأمة المرة القاحمة السالكة فى رحاب الأرض، والتى ستدمر الممالك، وتستولى على المساكن، وهى تندفع بصورة هائلة ومخيفة: « وخيلها أسرع من النمور وأحد من ذئاب المساء، وفرسانها ينتشرون، وفرسانها يأتون من بعيد ويطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل. يأتون كلهم للظلم. منظر وجوههم إلى قدام ويجمعون سبباً كالرمل. وهى تسخر من الملوك، والرؤساء ضحكة لها، وتضحك على كل حصن وتكوم التراب وتأخذه »،. "حب 1: 6 - 10 ".وإذا يسمع حبقوق هذا يرتعب ويصعق،... إنه كان ينتظر عقاباً وتأديباً، ولكنه لم يخطر بباله أن يتحول العقاب تدميراً رهيباً على هذه الصورة،.. ومما ضاعف الرعب عنده، أن الكلدانيين لن يتصوروا، (وقد نجحوا هذا النجاح وجمعوا المسبيين كما يصطاد السمك بالشص والشبكة) أن هذا من فضل اللّه عليها بل أنها ستراه من فضل آلهتها الوثنية التى تتعبد لها، الأمر الذى جسمه نبوخذ نصر فى تمثاله العظيم، وطلب إلى كل الشعوب أن تنحنى أمام هذا التمثال، إقراراً بفضل آلهته عليه فى انتصاراته وغزاوته الواسعة العظيمة!!.. وقارن حبقوق بين الشر الذى يرغب فى دفعه، والشر الذى سيسمح به اللّه على شعبه، فوجد أن الشر الحاضر أهون بما لا يقاس من الشر الآتى، وفزع، إذ كيف يعالج اللّه شراً بشر أقسى وأرهب وأشد!! وكيف يحدث هذا واللّه القدوس موجود، وهتا تغير سؤال حبقوق، فهو لم يعد يسأل سؤاله الأول عن اللّه، الذى تصور أنه لا يسمع ولا يخلص من الشر، بل وجد سؤالا أهم وهو يقول للّه: « عيناك أطهر من أن تنظر الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين وتصمت حين يبلع، الشرير من هو أبر منه » " حب 1: 13 ". لئن كانت الأغلبية حوله شريرة، إلا أنها فى قياس الشر هى أبر من الأمة الغازية،... فكيف يسمح اللّه، أن يبتلع شعبه مهما يكن فعلهم من الوثنية الطاغية التى لا تعرف اللّه، والتى تأثم وآخر الأمر تحمد آلهتها وتبخر لها؟!!.. حبقوق المنتظر ألقى النبى سؤاله وصعد على المرصد ووقف، وعلى الحصن انتصب ليرى ماذا يقول له الرب، وماذا يمكنه هو أن يجيب على ما يقوله اللّه،.. وطبعا ليس من الضرورى أن يكون هناك مرصدا أو حصن مادى، ولكن المقصود هو ارتفاع النفس، والتطلع برجاء وانتظار وثقه نحو الرب، لتسمع كلمته وتناجيه وتحاجه.. وهنا يمكن أن نستمع إلى كلمات « ألكسندر هوايت » وهو يقول: « أصعد كل يوم إلى حصن حبقوق العالى وخذ معك صلاته ورجاءه: « ألست أنت منذ الأزل يارب إلهى قدوسى، لا نموت » " حب 1: 12 " وهذا هو الإيمان الذى أمكن أن يعيش به البار فى كل أجيال كنيسة اللّه، فلم يمت إنسان تحت يد العدو متروكاً من قوة اللّه ونعمته!!.. وقد جاء اللّه إلى النبى بالجواب: « فأجابنى الرب وقال: اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكى يركض قارئها، لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد وفى النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها ستأتى إتياناً ولا تتأخر »!! " حب 2: 2 و3 ". عدد الرب مظالم الكدانيين، فويل، أول الأمر، للكسب الشرير، كسب أولئك الذين يغنمون بالظلم والفساد والإثم. ويبنون بيوتاً عالية يصرخ فيها الحجر والخشب ضد صاحبه، وضد المكسب الحرام الذى سيكون لخزى البيت ودماره وضياعه!!... وويل للقاسى العنيف، رجل الدماء الذى يطغى وهو يسحق تحت أقامه الضعفاء المساكين،... وويل للشهوانى الآثم الذى يسكر الضحية، ويكشف عورتها، ويفرق معها فى الدنس والإثم،... وويل لمن ينحنى للتمثال المنحوت، ويتعبد للوثن، وينسى أن الرب فى هيكل قدسه. ويلزم أن تسكت قدامه كل الأرض، فى روح الولاء والخشوع والتعبد!!.. حبقوق المنتصر أدرك حبقوق، آخر الأمر، أن الكلدانيين ليسوا إلا عصا استخدمها اللّه ثم كسرها بعد ذلك تكسيراً،... وأدرك حبقوق أن اللّه الذى أخرج شعبه من مصر بقوة وذراع عظيمة، هو الذى يتمشى فى موكب العصور بقوته القادرة، وسلطانه الرهيب،... وسبيل المؤمن على الدوام مركز فى العبارة العظيمة الخالدة: « البار بإيمانه يحيا » أن أن المؤمن سيحيا فى وسط الأخطار والمخاوف والحروب بثقته فى اللّه، ويقينه فى حراسته وخلاصه، هذا هو المعنى الأول والمستفاد من الآية،... على أن المعنى البعيد العميق يشير إلى أن خلاص النفس البشرية من خراب الخطية وشرها يرجع دائماً إلى اليقين باللّه والإيمان به،... وعلى هذا بنى بولس العقيدة العظيمة عن التبرير بالإيمان، وامتلأ لوثر سلاماً واطمئناناً وهو يضع دعائم إصلاحه المجيد.كان الأصحاح الثالث من سفر حبقوق أغنية رائعة منتصرة خرج بها حبقوق من وسط الخراب والدمار بالفرح والترنم وختمها بالكلمات التى قال « أسبرجن » عنها إنها ينبغى أن تكتب بماء الدهب: « فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل فى الكروم، يكذب عمل الزيتونة، والحقول لا تصنع طعاما، ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر فى المذاود، فإنى أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصى، الرب السيد قوتى ويجعل قدمى كالأيائل ويمشنى على مرتفعاتى »! "حب 3: 17- 19" هل يستطيع الإنسان أن يمسك قيثارته ويغنى، فى مثل الظروف التى يتحدث عنها حبقوق؟؟ هل يمكنه الغناء فى أرض الحاجة والمجاعة والتعب، يذهب إلى التينة فلا يجد حتى الزهور، وينتقل إلى الكرمة فلا يجد عنا قيد العنب، ويتحول إلى الزيتونة فيجدها وقد امتنعت عن الإثمار،.. يترك هذه إلى الحقول، فلا يجد حنطة أو طعاماً... يذهب إلى الحظيرة فلا يجد غنماً، وإلى المذاود فلا بقر هناك!!.. كان من المنتظر أن يبكى ويتذكر وينتحب،... ولكنه رغم كل هذا يغنى!!.. ما سر حبقوق؟؟،.. وما سر كل مؤمن مثيله ونظير للّه؟؟!!.. إن السر يرجع فى الحقيقة؟ إلى أن الخراب مهما حدث، ومهما أخذ، لا يمكن أن يأخذ منه ثروته وقوته الحقيقية التى هى شخص اللّه،... ترك بولس أرضه وبيت أبيه، ترك امتيازاته، وظروفه الحسنة، وسار فى أرض الخراب لا يملك شيئاً، ولكنه مع ذلك قال: « لكن ما كان لى ربحاً لهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إنى أحسب كل شئ أيضاً خسارة من من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربى الذى من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكى أربح المسيح »... " فى 3: 7 و8 " ولم يكن بولس وحده فى هذا، بل ما أكثر القديسين والأبطال الذين غنوا فى أرض الخراب،... فقد « يوحنا بنيان » أمنه وهدوءه وقضى فى السجن اثنى عشر عاماً، وهناك كتب كتابه العظيم " سياحة المسيحى "... عاشت فرانسس هفرجال « حياتها » الصحية العليلة، ولكنها ارتقت فوق علتها، وغنت أعظم الأغانى والترانيم!!.. إن الحقيقة التى لا مراء فيها هى أن وجود اللّه فى أرض الخراب، يحولها إلى جنة وارفة مكتملة الجمال والجلال والبهجة!!..على أن حبقوق كان يؤمن - إلى جانب هذا - بخلاص اللّه فى أرض الخراب، إذ أن معونة اللّه هناك أقوى وأظهر وألمع،... ألم يدخل يوسف السجن، ورأت نفسه أقسى ضروب الآلام والتعاسات؟ ولكن اللّه دخل معه هناك ليخرجه إلى الحرية والسيادة والمجد،... ألم يكن موسى ملقى فى السنط على حافة النيل فى أرض الخراب؟ ولكن اللّه مد له فى الحياة على الصورة العجيبة التى وصل إليها!!.. ألم يقف اللّه فى كل العصور والأجيال مع البؤساء والمعوزين والمتألمين، على النحو العجيب الذى جعلهم يتمشون على مرتفعات الحياة فى أقسى الأوقات وأدق الظروف!!.. بعد أن قامت الحرب العالمية بعامين، جاءت أوقات دقيقة على القديسة « لليان تراشر »، وقد انقطعت كل المعونات والمساعدات،... وبلغت الحالة أقصاها فى يوم من الأيام، فجمعت لليان أربعمائه وخمسين من البنات، وظللن يصلين يوماً بأكمله، وفى ثانى يوم دعيت هذه السيدة لمقابلة عاجلة مع السفير الأمريكى فى القاهرة، وقال لها السفير: إن سفينة للصليب الأحمر كانت معدة للذهاب إلى اليونان، وبها أطعمة وملابس، ولكن الأوامر صدرت لها وهى فى عرض البحر الأبيض أن تذهب إلى الإسكندرية، لأن اليونان قد اكتسحتها قوات المحور، وطلب السفير من « تراشر » أن تأخذ كل ما تحتاجه من السفينة المذكورة،... وغنت القديسة وفتياتها أغنية الفرح فى أرض الخراب!!. لست أظن أن هناك ما يمكن أن نختم به قصة حبقوق، أفضل من ذلك القول الذى قاله أحدهم وهو يسمع عن العذاب الأحمر فى الصين أو فى روسيا أو فى شتى ألوان المتاعب والاضطهادات بين الناس متسائلا: ألا يجوز أن نقول ما قاله حبقوق قديماً: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص!!؟.. وكان الجواب: « أكتب الرؤيا وانقشها على الألواح ليركض قارئها لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد وفى النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها تأتى إتياناً ولا تتأخر»..!!..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل