المقالات

22 مارس 2021

العين البسيطة(1)

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الثالث من الصوم المقدس (لو 11: 33-36) بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القداس: إنجيل هذا الصباح يتكلَّم عن موضوع هام جداً، ويُعتَبَر من أخطر المواضيع التي تُقابِل الإنسان الروحي في جهاده الروحي، وهو موضوع: ”العين البسيطة“. هذا الموضوع هو معيارٌ مسيحيٌّ من الدرجة الأولى، وهو يُعتَبَر امتيازاً عالياً للإنسان الروحي، ولذلك فهو يهمُّنا للغاية. في إنجيل القديس متى يُزيد الموضوع توضيحاً، إذ يقول قبل آية العين البسيطة: «لأنه حيث يكون كن‍زُك هناك يكون قلبُكَ أيضاً» (مت 6: 21)، ثم يُكمِل ويقول: «سراجُ الجسد هو العين، فإنْ كانت عينُك بسيطة فجسدُك كلُّه يكون نَيِّراً. وإن كانت عينُك شريرة فجسدك كلُّه يكون مُظْلِماً» (مت 6: 23،22). وفي الحقيقة، إذا أخذنا هذا التشبيه الذي ذَكَرَه الرب يسوع عن العين، كما أَخَذَه كثيرٌ جداً من الشُّرَّاح على أنه يعني ”العين الجسدية“، يكون الموضوع خارج السياق الذي قصده الرب يسوع. ولكن سوف نرى في شرحنا ما الذي يقصده الرب من كلمة: ”عينك“. عمل العين وليس شكلها أو صفاتها: الاتجاه الأول: أوضحه الرب يسوع، عندما لم يذكر ”عينَيْن“، بل قال: ”عين“ واحدة، بالمفرد. معنى هذا أنَّ الرب يقصد الاتجاه ناحية عمل ”العين“، وليس شكلها أو صفاتها. الاتجاه الثاني: لقد ذَكَر الرب كلمة ”بسيطة“. وفي اللغة اليونـانية كلمة ”بسيطة“ ?????? تعني معاني قوية جداً، ولكن ولا معنى منها ينطبق على الجسد. + فعلى سبيل المثال، أحـد أهم هذه المعاني، أنها ”مُفردة“ ??????، ولكي نُزيدها إيضاحـاً فهي بـاللغة الإنجليزية single ”مُفرد“. ومعنى ذلك أنَّ العين هنا لا تحتمل معنى التركيب أو التعقيد أو الثنائية؛ بمعنى أنها لا يمكن أن تنقسم بين رؤيتَيْن. + المعنى الثاني لكلمة ”بسيطة“ ??????، أنهـا تعني ”مستقيمة“ باتجاهٍ إلى الأمام، وبالتالي فهي لا تحتمل معنى التعريج ما بين اليمين واليسار. وهذا المعنى نقرأه كثيراً في آيات الإنجيل. + المعنى الثالث أنَّ كلمة ”بسيطة“ ??????، تعني ”الصحة“ أي بـاللغة الإنجليزية healthy. وهذه الكلمة تعني أنها ليست ”مريضة“، وليس بها أية معوِّقات للرؤية. + المعنى الرابع لكلمة ”بسيطة“ أنها ”مكشوفة“ plain، أي ليس بهـا شيءٌ مختبئ أو متواري عن الأنظار. والآن، إذا أخذنا كل هذه المعاني لكلمة ”بسيطة“، فهي: single: ”مُفردة“، ”مستقيمة“. clear: ”واضحة“، ”صافية“. healthy: ”صحيحة“، ”سليمة“. Plain: ”مكشوفة“، ”غير متوارية“. إذا تمعنَّا في كل هذه الصفات، نجد أنها لا تنطبق عل العين الجسدية. وإذا انتبهنا للتعبيرات اللاهوتية عن طبيعة الله، نجد أنها ”بسيطة“ غير مُركَّبة. فهي تُعبِّر عن الطبيعة الروحية وليست الطبيعة الجسدية. إذن، كلمة ”بسيطة“ وكلمة ”عين“ (بالمفرد) تُعطينا المفتاح للشرح. فإذا لم نعثر على هذا المفتاح، فسنحاول أن نُطبِّق الكلام على العين الجسدية، وهنا ننحرف عن السياق الذي قصده الرب يسوع ونتوه. فإذا انحصرنا في نطاق الجسد، فما هو القصد من العين الجسدية البسيطة؟ وما هو معنى العين الجسدية الشريرة؟ فإنَّ الشر، ليس هو من الخارج، وإنما يصدر من الداخل! ومن هذا المنطلق يتضح أنَّ المسيح كان يقصد ”العين الروحية“. ومن هنا نبتدئ نفهم بداية شرح الآية. ما هو القصد من العين الروحية البسيطة؟ فالقصد من العين الروحية، وبالمواصفات التي ذكرناها آنفاً، أنَّ الرب يقصد ”البصيرة“ وليس ”الإبصار“. ”البصيرة“ هي الإدراك الروحي للحق. فالإنسان الذي عنده ”بصيرة“، هو ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يُدرك الحقَّ ويُميِّز بينه وبين الباطل؛ أما كلمة ”يُبصر“، فإنها تعني أن يرى الإنسان ظواهر الأشياء. فالعين التي يقصدها المسيح هنا هي مركز البصيرة وليس الإبصار. والحق الذي يُدركه مَن لديه البصيرة، بالمفهوم الإلهي، وكذلك بالمفهوم الإنجيلي، هـو ”النور“، والباطل هو ”الظلمة“. فمركز البصيرة هنا يُدرِك الحق على أساس النور الإلهي. عندما يُذكَر ”النور“، فهنا يستقرُّ على شخص الرب يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» (يو 8: 12). فللوقت تبتدئ العين تظهر أنها مركز لإدراك كل هذه الحقائق التي تستقرُّ في الرب يسوع المسيح. فالعين البسيطة، هي العين الروحية التي انفتحت على المسيح وعلى الحياة الأبدية. أما العين الشريرة، فهي عين روحية أيضاً، ولكنها انفتحت على الشرِّ. لأن العين الروحية عموماً هي من مُسلَّمات وهبات الله، وبها تُدرِك الطبيعةُ البشرية الحقَّ؛ وهي إما تنفتح على المسيح أو تنفتح على الخطيـة، وعلى ضوء ذلك تـأتي مُحاسبة الرب للإنسان. فـإذا انفتحت العين الروحيـة على الخطيـة والشر، أَظْلَمَتْ؛ وإذا انفتحت على المسيح، استنارتْ. وهذا الكلام واضحٌ جداً. نعود مرة أخرى لشرح أوضح لكلمة ”بسيطة“ ??????: + single ”مُفردة“: أي لا تقبل غير رؤية واحدة، أي لا تقبل غير شخص المسيح، ولا تقبل أبداً أي بديل له. + straight ”مستقيمة“: أي تتَّجه نحو المسيح، ولا تميل ناحية اليمين أو ناحية اليسار. لا تحتمل التعريج أو الانثناء، بمعنى لا يُعطِّل اتجاهها إلى الأمام أي مُعوِّق أو عاكس. + healthy ”صحيحة“: أي ليست مريضة بأهواء وغوايات جسدية، وهي تستطيع بكل قوَّتها أن ترى المسيح. + clear ”صافية“: أي لا يشوبها شائبة، بمعنى قدرتها على صحة الرؤية بجلاء. وبالتالي فهي قادرة على الرؤية بدون تشويش، فلا تدخلها أو تتداخَل معها شوائب عالمية. + plain ”مكشوفة“، ”صريحة“: أي لا تُخفي شيئاً، ولا يختفي شيءٌ عنها. فهي عينٌ واضحة. فهذه العين الروحية التي منحنا إيَّاها الله، هي العين التي تنفتح على المسيح. معنى أنَّ المسيح ”فَتَحَ ذهن التلاميذ ليفهموا الكُتُب“؟ المسيح يريـد أن يضع العين في وضعها الصحيح. ولذلك فالمعيار الذي وضعه الرب يسوع معيارٌ عالٍ جداً: «ليس أحدٌ يُوقِدُ سراجاً ويضعه في خِفْيةٍ، ولا تحت المكيال، بل على المنارة» (لو 11: 33)، أي يضعه في أعلى مكان بالبيت، معنى ذلك أن الرب يتكلَّم عن العين الروحية. فموقع العين الروحية، عند المسيح، هو في أعلى مرتبة بالنسبة للإنسان، وهي أهم عضو من أعضاء الإنسان. وهنا يأتي تركيز المسيح عليها في فَهم كل الإنجيل: «حينئذٍ فَتَحَ ذهنهم ليفهموا الكُتُب» (لو 24: 45). ما معنى: ”فَتَحَ ذهنهم“؟ أي أنَّ العين الروحية انفتحت على الحق، ودخلها نور المسيح، أي الحق، فانكشف لها كل شيء عن المسيح. ولذلك كَشَفَ المسيح مقدار أهمية العين الروحية، ولذلك وضعها في أعلى مرتبة للإنسان، تماماً مثل السراج الذي يوضَع على المنارة في أعلى مكان في البيت. فإذا كانت هذه العين مستقيمة أو صحيحة، فإن نور المسيح، النور الإلهي، يدخل من خلالها إلى داخل أعماق الإنسان. فالعين الصافية، غير المريضة، المستقيمة؛ لا تقبل شيئاً غير المسيح، وهي ذات اتِّجاهٍ مستقيم نحو المسيح. ولذلك فإنَّ الشعاع الإلهي، شعاع الحق، النور الحقيقي، يدخلها بدون عائقٍ، فتُنير كل ما في البيت، تُنير كل ما في الإنسان. معنى: «يُضيء لجميع الذين في البيت»؟ «ولا يُوقِدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة، فيُضيء لجميع الذين في البيت» (مت 5: 15). فما معنى: «يُضيء لجميع الذين في البيت»؟ معناه: إنه يُضيء كل ما في الإنسان! عندما تكون العين الروحية بسيطة، حينئذٍ تُنير الفكر، القلب، الضمير، العواطف، المشاعر؛ وهي الأعضاء الداخلية غير المنظورة للإنسان. فيبتدئ نور المسيح بالحق، يُنير ما بداخل الإنسان، وذلك بدخول كلمة الإنجيل إلى القلب، بالقراءة الواعية، بالفهم الروحي. وحينئذٍ يستنير كل البيت، بمفهوم أنَّ «جسدك كلُّه يكون نَيِّراً». وهنا نبتدئ بشرح معنى العين الجسدية. العين الجسدية أي من الجسد؛ ولكن العين الروحية ليست من الجسد. فإذا كانت العين الروحية سليمة؛ فـإنَّ نور الله، أو نور المسيح، أو المسيح، سيدخل؛ فيُضيء كل أعضاء الإنسان المنظورة (الجسدية) وغير المنظورة (الروحية). أولاً فإنَّ نـور المسيح يُنير الفكر والضمير والعواطف والمشاعر والقلب، ثم بعد ذلك بالضرورة يُنير الجسد كله، كما قال بولس الرسول: «ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخُذُ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاءَ زانيةٍ؟ حاشا!» (1كو 6: 15)، وأيضاً: «ولا تُقدِّموا أعضاءكم آلاتِ إثمٍ للخطية... بل قدِّموا... أعضاءكم آلاتِ برٍّ لله» (رو 6: 13). لـذلك إذا دخـل النور الإلهي إلى داخـل الإنسان، فإنـه ليس فقط يُنير أعماق الإنسان، بـل وتَستنير بـه أعضاء الجسد أيضاً. فهذا النور الروحي، نور المسيح الفائق الفعالية، إذا دخل الإنسان، عـن صحةٍ؛ يستقرُّ في الجسد أيضاً، ويُنيره، ويُميت الخطية الكائنـة في الأعضاء. وكـذلك يُطهِّر الفكر والقلب والضمير مـن الأعمال الميتـة. هـذا هو مفهوم العين الروحية البسيطة. التأمُّل في الله: إذا كانت العين الروحية سليمة ليس بها أي مرض، فسيتطلَّع الإنسان إلى ما هو فوق. فطالما كانت العين الروحية صحيحة ومستقيمة وليس فيها تعتيم، فإن النور الإلهي يدخلها وينفذ فيها ويُنيرها، فيكون نظرها دائماً إلى ما هو فوق: «بنورك، يا رب، نُعاين النور» (مز 36: 9). فالنور الإلهي إذا دخل إلى أعماق الإنسان، سينعكس على كل ما هو ظاهر أو خارج، فيحدث ما يُسمِّيه المتصوِّفون: ”التحديق“، وما يُطلِق عليه الروحيون: ”التأمُّل“، أو ما يُطلَق عليه ”التحديق في النور الإلهي“. أي التحديق في ”الحق“، أي في ”طبيعة المسيح“. فالإنسان الذي دخله شعاع النور، من خلال العين الروحية، يستطيع أن ينفُذ هو أيضاً - من خلال العين الروحية السليمة - لينظر ويتأمَّل في الله. وكلما تأمَّلنا في الله، كلما انسكب فينا النور بصورةٍ أقوى. فهنا التحديق في نور الله، في الحق الإلهي، في شخص يسوع المسيح؛ يُزيد العين جلاءً، ويُزيد أعماق الإنسان استنارةً. الذين يتأمَّلون في الروحانيات، إذا كنتم قد جرَّبتم هذا، فإنه يحدث لهم في بداية الطريق صُراخ، لماذا؟ لأن بمجرَّد أن يتأمَّل الإنسان في الحقِّ أو في النور أو في المسيح؛ ترتد العين الروحية. فالتحديق أو التأمُّل في النور الإلهي، يستغرق ثوانٍ، ثم ترتد العين عن التحديق أو التأمُّل. ولماذا يرتدُّ الإنسان، أو العين الروحية، عن الرؤيا أو التحديق؟ لأن العين ليست مستقيمة كما ينبغي، ولذلك فهي تحتاج إلى تطهير وتنقية. ولذلك مداومة الإنسان على النُّسك والعبادة وقراءة الكتاب المقدس والاطِّلاع على الكتب الروحية وأقوال الآباء؛ يجعل العين الروحية صافية نقية. وعندما يزداد تحديق العين الروحية في الحق الإلهي، وتزداد فترات التأمُّل في آية من الآيات، أو في صفة من صفات الله؛ عندئذ يتركَّز الذهن مع القلب مع المشاعر مع الفكر، في الحق الإلهي، فيما هو فوق. ويستمر هذا التحديق أو التأمُّل لفترةٍ من الفترات، يعود بعدها الإنسان بغنيمةٍ روحية، ولا يعود فارغاً أبداً. فكلَّما تأمَّلنا أكثر، ودام تأمُّلنا في الحق الإلهي أكثر؛ كلما أَخَذَت العين الروحية قـوةً للتحديق في النور الإلهي، واقتنت صفاتٍ روحية جديدة.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
14 يناير 2019

ثانياً: عيد الختان

أما بخصوص زمن التعييد لهذه المناسبة المقدَّسة، فالمعروف أنه كان مرتبطاً بعيد الميلاد ارتباطاً جوهريًّا، بحيث لم توافق الكنيسة منذ البدء على أن تخصِّص له عيداً منفصلاً عن الميلاد. وزمن عيد الميلاد لم تحدِّده الكنائس كلها في زمن واحد. فمعروف أن كنيسة روما في الغرب كانت تُمارس عيد الميلاد، وربما عيد الختان منذ زمن بعيد، كما يقول العلامة ترتليانوس، إذ عَثَرَ عُلماؤها في القرون الأُولى على أرشيف الحوادث المدنية التي حوت ذكر حوادث الاكتتاب أيام أوغسطس قيصر، وفيها اسم يسوع ونسبه وميعاد ميلاده وخلافه، والتي منها استدلَّت الكنيسة على ميعاد ميلاد المخلِّص، وبالتالي حدَّدت زمن عيد الميلاد والختان: [أو كيف يُسمح للمسيح أن يدخل إلى المجمع إذا كان غير معروف سابقاً أو كان ظهوره مفاجئاً ولا يُعرف من أي سبط هو ومن أي بلدٍ ومَنْ هي عائلته؟ وأخيراً تسجيله في الاكتتاب الذي عمله أوغسطس قيصر، وهو الشاهد الصادق على ميلاد الرب، المحفوظ في أرشيف روما. كذلك وبكل تأكيد كان هناك شهود يتذكَّرون إن كان قد اختتن على أيديهم أم لا حتى يُسمح له بالدخول إلى أماكنهم المقدَّسة.]([6]) ويؤكِّد هذه الحقيقة القديس يوحنا ذهبي الفم في عظته التي ألقاها في 25 ديسمبر سنة 376م، حيث يُعلن فيها ضمناً بدء ممارسة كنيسة أنطاكية لعيد الميلاد منفرداً عن عيد الغطاس، اعتماداً على مراسلات جرت له مع كنيسة روما التي كانت قد سبقت أنطاكية في تحديد زمن العيد بوقت كثير. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [والحقيقة أنه لم يمضِ حتى الآن سوى عشر سنوات منذ أن تعرَّفنا بوضوح على هذا اليوم (يوم الميلاد 25 ديسمبر). وبالرغم من ذلك، ها هوذا قد ازدهر هذا اليوم وانتشر بسبب غيرتكم وكأنه قد تسلَّم لنا منذ البدء. وهكذا لا يخطئ الإنسان لو هو قال إن هذا العيد جديد وقديم معاً، جديد لأننا هوذا قد عرفناه حديثاً، وقديم لأنه هكذا اكتسب مساواة مع الأعياد القديمة ... وهذا اليوم كان معروفاً منذ البدء عند رجال الغرب، غير أنه وصلنا أخيراً منذ مدة وجيزة فقط ... (وهنا يبدأ يوحنا يقص قصة الأرشيف المدني في روما كمصدر تعرف منه رجال الكنيسة على هذا اليوم) ... ومن هؤلاء الذين كانت لديهم معلومات دقيقة عن الموضوع في روما قد تسلَّمنا بدورنا تحديد هذا اليوم، لأن قاطني هذه المدينة كانوا متمسِّكين بهذا اليوم منذ البدء، ومن التقليد القديم، وهم الذين أرسلوا لنا هذه المعلومات]. أما في كنيسة مصر، فنستقي تحديد بدء عيد الميلاد (ومعه عيد الختان) من مصادر متعددة، وأهمها الآتي: أولاً: الدسقولية (أي تعاليم الرسل) وهي من مدونات القرن الثالث: 18: [يا إخوتنا تحفَّظوا في يوم الأعياد التي هي عيد ميلاد الرب، وأكملوه في اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع الذي للعبرانيين، الذي هو اليوم التاسع والعشرون في الشهر الرابع الذي للمصريين. ومن بعد هذا الإبيفانيا، فليكن عندكم جليلاً لأن فيه بدأ الرب أن يظهر لاهوتيته في معموديته في الأردن من يوحنا. واعملوه في اليوم السادس من الشهر العاشر الذي للعبرانيين الذي هو الحادي عشر من الشهر الخامس الذي للمصريين. وليتقرَّب في الميلاد والغطاس ليلاً لا لكراهية الصوم بل لتمجيد العيد]. ويُلاحَظ هنا أنه ذكر كلمة ”يوم الأعياد“، مما يفيد أنه في يوم واحد كان يُقام عيد للميلاد والغطاس معاً. كذلك فإن تشابه العيدين في طقسهما المسائي يوحي بذلك. ثانياً: القديس أثناسيوس الرسولي: وينقل عنه العالِم كوتيلييه من إحدى مخطوطاته التي لم يُذكر اسمها قول أثناسيوس: [لأن ربنا يسوع المسيح وُلِدَ من العذراء القديسة مريم في بيت لحم في 29 من شهر كيهك، بحسب المصريين، في الساعة السابعة، الموافق الثامن من يناير.]([7]) ثالثاً: من كلمندس الإسكندري، حيث يبدو كلمندس متردِّداً في قبوله: [والأمر العجيب أنه توجد جماعات حدَّدت بالفعل سنة ميلاد الرب وأيضاً اليوم الذي وُلِدَ فيه المخلِّص وهي السنة الثامنة والعشرون لأوغسطس قيصر، في اليوم الخامس والعشرين في الشهر التاسع([8]) (ديسمبر) (الموافق 28 كيهك). كذلك نعلم أن أتباع باسيليدس يعيِّدون أيضاً ليوم عماده، ويمضون الليل كله ساهرين في القراءات، ويقولون إن عماد الرب كان في السنة الخامسة عشر لسلطنة طيباريوس قيصر، في اليوم الخامس عشر من شهر طوبة.]([9]) وهكذا تأتينا هذه الأخبار المبكِّرة جدًّا بخصوص تعييد العيدين: الميلاد والغطاس، كل بمفرده في مصر، ولكن ليس مؤكَّداً إن كان هذا من قبل الكنيسة الرسمية الأرثوذكسية الجامعة. ولكن الإشارة هنا إلى أن تعييد العماد بمفرده كان لبعض الجماعات المنشقة مثل باسيليدس. رابعاً: عن كاسيان: سنة 360 - 450م: ثم يعود كاسيان ويؤكِّد لنا أن الكنيسة في مصر كلها كانت لا تزال في أيامه تعيد لعيد الميلاد والغطاس معاً في عيد الإبيفانيا، حيث تأتي كلمة ”الإبيفانيا“ بصيغة الجمع، أي تشمل عدَّة ظهورات: ( أ ) الظهور في الجسد «الله ظهر في الجسد». (ب) ظهور النجم للمجوس، وهو إشارة إلى استعلان الله للأُمم. ( ج ) استعلان بنوَّته لله في العماد بصوت السماء. ( د ) استعلان لاهوته بمعجزة قانا الجليل. [وفي إقليم مصر، هذه العادة قديمة بالتقليد حيث يراعى أنه بعد عبور ”الإبيفانيا“ التي يعتبرها الكهنة في هذا الإقليم الزمن الخاص بمعمودية الرب، وأيضاً ميلاده بالجسد، وهكذا يعيِّدون لكلا التذكارين أي لكلا ”السرّين“، ولا يعيِّدونهما منفصلين كما هو في أقاليم الغرب. ولكن في عيد واحد في هذا اليوم.]([10]) ونفس هذه الحقائق يسجِّلها إبيفانيوس أسقف قبرص. والمعروف لدى العلماء أن أول مَنْ عيَّد ”الإبيفانيا“ للميلاد والغطاس معاً هي كنيسة الإسكندرية منذ العصر الرسولي، ويُقال إن هذا التقليد مسلَّم للكنيسة من القديس يعقوب أخي الرب. ومنها انتقلت إلى روما والغرب. وهناك حدث في الربع الأخير من القرن الرابع، انفصال العيدين، وعيَّدت كنائس الغرب للميلاد في 25 ديسمبر. ومن الأمور الطريفة أن في عيد الغطاس عند الغرب، لا تزال الكنيسة هناك تحتفظ بتذكار زيارة المجوس!!([11]) كذلك من الأمور الطريفة أن الغرب احتفظ باسم عيد ”الإبيفانيا“ في نطقه اليوناني، أما الميلاد فبنطقه اللاتيني؛ مما يفيد أن عيد الإبيفانيا مأخوذ بطقسه واسمه من الشرق، أما التعييد للميلاد منفرداً عن الغطاس فهو من ترتيب الغرب. خامساً: البابا الإسكندري تيموثاوس الأول (378 - 384م): يسجِّل لنا المؤرِّخ جناديوس في كتابه عن التاريخ الكنسي، أن البابا الإسكندري تيموثاوس هذا ألَّف كتاباً على ميلاد ربنا بحسب الجسد. ويظن المؤرِّخ أنه كُتب أو قُرئ في عيد الإبيفانيا([12]). ومن هذه الإشارة يبدو واضحاً أن كنيسة الإسكندرية كانت تعيِّد للميلاد متميِّزاً عن الغطاس، ولو أن ذلك كان في يوم واحد وعيداً واحداً، وكانا يُسميان معاً بالإبيفانيا. ويُعتبر هذا الكتاب الذي ألَّفه تيموثاوس بابا الإسكندرية الثاني والعشرون عن الميلاد أول مؤلَّف كنسي عن الميلاد قاطبة. وهكذا كما ابتدأ الميلاد يأخذ مجاله المتميِّز كعيد قائم بذاته منذ القرن الثاني في مصر، هكذا ابتدأ عيد الختان يأخذ وضوحه المتميِّز معه جيلاً بعد جيل؛ لأن الكنيسة بدأت تهتم بتسجيل كل حوادث الإنجيل مبكِّراً جدًّا، فنحن نقرأ للقديس مار أفرآم السرياني (الذي تنيَّح سنة 373م) تحديده أيضاً لعيد البشارة هكذا: [لأن في العاشر من مارس كان الحبل به وفي السادس من يناير كان ميلاده.]([13]) سادساً: البابا كيرلس الكبير عمود الدين (412 - 444م)، والأسقف بولس من ”أميسا“: مذكور في تسجيلات مجمع أفسس سنة 431م، أن الأسقف بولس من أميسا ألقى عظة في حضور البابا كيرلس الكبير الإسكندري عن ميلاد ربنا يسوع المسيح، حدَّد فيها ميلاد المسيح باليوم التاسع والعشرين من شهر كيهك (الذي كان يوافق 25 ديسمبر)([14]). وعنوان العظة كالآتي: [عظة لبولس أسقف أميسا ألقاها في اليوم التاسع والعشرين لشهر كيهك في الكنيسة العظمى بالإسكندرية بحضرة المطوب كيرلس على ميلاد ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح]. ومن هذه العظة يتضح أن عيد الميلاد كان له وجود مستقل عن عيد الغطاس في زمن كيرلس الكبير! وكان قد تحدَّد له يوم معيَّن خلاف يوم الإبيفانيا. ولكن المعروف أن هذا تم بحذر شديد، لأن التقليد المألوف الجاري في الكنيسة كان يعتبر أن عيدي الميلاد والغطاس يكوِّنان مفهوماً واحداً ”لطبيعة الله الكلمة المتجسِّد“. كذلك فمجرد تقسيم العيدين يُعتبر تقسيماً لمفهوم طبيعة المسيح، الأمر الذي أثار حفيظة شعب القسطنطينية عندما أجرى غريغوريوس النـزينـزي (اللاهوتي) هذا التقسيم وجعل الميلاد منفصلاً عن الغطاس، فهاج الشعب محتجاً معتبراً ذلك إساءة لمفهوم لاهوت المسيح. تحديد عيد الختان: ومن الأمور الثابتة في الكنيسة أن الإشارة إلى عيد الختان كانت قديمة في الكنيسة، وكانت تستتر تحت كلمة ”الأوكتاف Octave“ أي ”الثامن“، وهو اليوم الثامن من بعد الميلاد، أي الموافق للختان. وقد اختير هذا الاصطلاح تحشُّماً واحتراماً لجلال المختتن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكنيسة كانت تعتبر الختان مكمِّلاً للميلاد، فلا يصح أن يُعيَّد للختان عيداً منفصلاً عن الميلاد، فأضافت ”اليوم الثامن“ أي ”الأوكتاف“ إلى عيد الميلاد بالرغم من إقامة تذكاره في يوم آخر غير يوم الميلاد. وهذا الأمر سبق أن لاحظناه أيضاً في تمسُّك الكنيسة بالجمع بين عيدي الميلاد والغطاس معاً، باعتبارهما يكوِّنان مفهوماً واحداً لمسيح واحد مولود في بيت لحم وفي الأزلية، بحيث لا يمكن فصل ميلاده في بيت لحم عن ميلاده الأزلي. وقد ظلَّ هذا الاصطلاح ”الأوكتاف“ معمولاً به في الكنيسة مدَّة طويلة، حيث بدأ قليلاً قليلاً يأخذ اسمه الطقسي ”عيد الختان“ بوضوح. ومن قراءات اليوم الثامن من بعد الميلاد، تظهر الفصول الخاصة بختانة المسيح، وذلك في أقدم القطمارسات أما أقدم وثيقة في الكنيسة بلغت إلى علمنا حتى الآن، فهي تحمل عظة عن ”عيد الختان“، وهي من أعمال ”زينو“ أسقف فيرونا من القرن الرابع([15])، قيلت في ”أوكتاف“ الميلاد، أي في اليوم الثامن من الميلاد. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
13 يناير 2019

الختان وعيد الختان

أولاً: الختان ( أ ) معنى الكلمة: peritšmnw 1 - جاءت هذه الكلمة في الأدب اليوناني القديم بمعنى ”يقطع دائريًّا“ أو «يحز دائريًّا للقطع». واستخدمت في معنى «تقليم العنب». ولعل مَثَل الرب عندما شبَّه نفسه بالكرمة ونحن الأغصان، وأن الآب يقلِّم الأغصان لتأتي بثمر أكثر، إشارة غير مباشرة إلى الختان الروحي. 2 - ويشير ”استرابو“ (الحكيم اليوناني الشهير) إلى الختان بوضوح بصفته عادة يهودية مأخوذة من مصر. ولكن هذا أمر غير صحيح، وذلك بمقارنة الأصحاح الخامس من يشوع القائل إن ختان مَنْ تبقَّى من شعب إسرائيل قبل عبور الأردن كان يومئذ لرفع عار مصر عن الشعب. (ب) الختان في العهد القديم: 1 - أصل الطقس: (تكوين 17): «وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي. أنتَ ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختن منكم كل ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيامٍ يختن منكم كلُّ ذكرٍ في أجيالكم. وَلِيد البيت والمُبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختاناً وليد بيتك والمبتاع بفضتك. فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبديًّا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختَن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي.» (تك 17: 9 - 14) وبذلك فالختان كان بمثابة أول علامة عهد شخصي على مستوى العلاقة الداخلية غير المنظورة بين الله وبين كل فرد في شعب الله. وسُمِّي ”عهد الختان“ (أع 7: 8). ولكن نجد العهد القديم يستخدم الختان ليس للإنسان فحسب، بل وللشجر أيضاً حاسباً أن الشجرة المغروسة جديداً تعتبر ”غلفاء“ أي غير مختونة (غير مقدَّسة) معنويًّا لمدَّة ثلاث سنوات، حيث يعتبر كل ثمرها ”أغلف“ أي نجساً لا يُؤكل، بل يُطرح. وفي السنة الرابعة تحسب الشجرة مقدَّسة بعدما يقدم طرحها للرب كتقدمة شكر، وبعد ذلك في السنة الخامسة تحسب حلالاً على الإنسان ومقدَّسة: + «ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غرلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء. لا يؤكل منها. وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قُدساً لتمجيد الرب. وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها. لتزيد لكم غلتها. أنا الرب إلهكم.» (لا 19: 23 - 25) والمعنى هنا ينصبّ على تحويل الشجرة من غرس أرضي (شيطاني) عليه اللعنة الأُولى، إلى غرس سماوي (مقدَّس) حلَّت عليه البركة. وكأنها عملية جحد للشيطان تماماً كالذي يحتِّمه الطقس في المعمودية، تنتقل به الخليقة من معسكر الشيطان إلى معسكر الله. وهذا يتضح أكثر في قصة موسى وزوجته صفورة وابنها البكر الذي ختنته في الطريق إلى مصر لتمنع عنه الهلاك، وكان دم ختانته على رجليه (القائمتين) علامة على التصاقه بالرب «فانفكَّ عنه، حينئذ قالت: عريس دم من أجل الختان.» (خر 4: 26) والمُلاحَظ أن كلمة ”ختانة“ في اللغة السامية (الآرامية) القديمة تفيد معنى ”قطع الغلفة“، أو معنى ”العريس“، وقد استعملت كذلك منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد باعتبار أن الختانة هي علامة أو طقس الزواج. وقد انحدرت هذه المرادفة إلى اللغة العربية فـ”الختن“ هو ”العريس“، ولكن بمفهوم العريس الطاهر، أي الذي انفك عنه الشيطان بقطع غلفة النجاسة. وفي أواخر العصر اليهودي اقتصرت الختانة الجسدية على مفهوم الدخول في شعب الله (كشعب اختاره الله وتزوجه لنفسه كابن بكر)، وقد اقتربت الختانة بأخذ الاسم الجديد الذي يلزم أن يكون مطابقاً لاسم أحد أفراد أسرته إمعاناً في تبعية الطفل لشعب الله. وكان هذا الطقس، على العموم، في غاية الأهمية بالنسبة لليهودي المخلص لشعبه وإلهه، لدرجة أنه كان يهون جدًّا على الإنسان اليهودي أن يستشهد في سبيل تكميل ختانته لأن موت اليهودي بدون ختانة معناه الحرمان الأبدي من ميراث شعب الله. 2 - دخول طقس الختان في شريعة موسى مرتبطاً بالفصح: وقال الرب لموسى وهارون هذه فريضة الفصح: كل ابن غريب لا يأكل منه، ولكن كل عبد مبتاع بالفضة تختنه ثم يأكل منه. النـزيل والأجير لا يأكلان منه. وهنا ابتدأ الختان يأخذ صورة طقسية محضة ويتزحزح قليلاً قليلاً في التقليد اليهودي من وضعه الأصيل كعلامة عهد خاصة بين الله وكل فرد على المستوى الروحي والإيماني بحسب الترتيب الذي وضعه الله مع إبراهيم، حيث إبراهيم هو مركز إيمان وليس مركز طقس في الكتاب المقدَّس بعهديه. 3 - الخطأ الذي وقع فيه التقليد اليهودي بخصوص أصل الختان ومستواه الروحي: واضح من المنازعات التي حدثت في بداية البشارة بالإنجيل بين الأُمم غير المختونين، أن الفكر اليهودي كان قد تزحزح تماماً عن مفهوم الختان الروحي ومصدره الأصيل، وهو إبراهيم، إذ ظنوا أن مجرد العلامة في اللحم هي الختان، وأنه من وضع موسى وليس إبراهيم: «وانحدر قومٌ من اليهود وجعلوا يعلِّمون الإخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا» (أع 15: 1)، «وقد أُخبروا عنك أنك تعلِّم جميع اليهود الذين بين الأُمم الارتداد عن موسى قائلاً أن لا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد.» (أع 21: 21) الرب يسوع يصحح وضع الختان أنه من إبراهيم وليس من موسى: واضح جدًّا أن الرب يسوع لمح من حياة اليهود وتفكيرهم وتمسُّكهم بطقس الختان أنهم كانوا قد انحرفوا انحرافاً أكيداً عن معناه ومصدره الأصلي، لذلك نجده يصحح هذا التقليد بقوله: «أجاب يسوع وقال لهم: عملاً واحداً عملت فتتعجَّبون جميعاً (شفاء مريض بيت حسدا - مريض الـ 38 سنة)، لهذا أعطاكم موسى الختان، ليس أنه من موسى بل من الآباء (إبراهيم)، ففي السبت تختنون الإنسان، فإن كان الإنسان يقبل الختان (طقس إبراهيمي ثم موسوي) في السبت (والسبت طقس أهم إذ قد رتَّبه الله نفسه) لئلا يُنقَض ناموس موسى، أفتسخطون عليَّ لأني شفيت إنساناً كله في السبت؟ لا تحكموا حسب الظاهر!» (يو 7: 21 - 24) وهنا يشير الرب إشارة في غاية الوضوح والعمق أن الختان الذي كان علامة خارجية لارتباط روحي داخلي بين الله والإنسان عند الآباء، صار عند الأجيال المتأخرة، وخصوصاً من بعد موسى، مجرَّد علامة خارجية خوفاً من نقض ناموس موسى وليس لاقتراب روحي أو قلبي إلى الله: كعهد علاقة إلهية والتصاق. وشفاء الرب لمريض الثماني والثلاثين سنة بـ”كلمة“ يعبِّر عنه الرب: «لأني شفيت إنساناً كله». وهنا يجعل الرب كلمته الشافية شفاءً كليًّا أعلى من مستوى الختان، أي باعتبار الختان شفاءً جزئيًّا بالنسبة للشفاء الكلِّي الذي صنعه الرب مع المرض المزمن لأنه غفر خطاياه وشفاه، أي شفاه روحيًّا أولاً ثم جسديًّا!! في حين أن الختان كان يفيد الشفاء الجسدي وحسب. وهكذا تكشف لنا هذه الآيات عن قيمة الختان في نظر المسيح بالنسبة للعمل الخلاصي الذي نـزل من السماء ليكمِّله لنا. فالختان في مضمونه الكلِّي على مدى العهد القديم كان في نظر الرب علامة ارتباط بين الإنسان والله، عجز الإنسان أن يتمِّم شروطها الروحية الداخلية، فانحصرت في حدودها الجسدية فقط، وبذلك فقدت عملها الشفائي الكلِّي أو الخلاصي. وهكذا ظلَّ مريض الثماني والثلاثين سنة مطروحاً عاجزاً مع أنه مختتن!! وكان مفروضاً أن اختتانه يُدخله ضمن وعد الله الذي يضمن له الشفاء، أو ربما يضمن له عدم المرض أصلاً وذلك إن كان يطيع أوامره ووصاياه. المعنى الروحي العميق للختان في العهد القديم: غُلْفة الشفتين: لم يكن الختان يقتصر فقط في معناه العميق على أعضاء التذكير في الإنسان، فنحن نسمع موسى يقول لله: «كيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين (أي غير مختون الشفتين).» (خر 6: 12 و30) وهنا ”غلفة“ الشفتين تفيد نجاسة الفم، وبالتالي ضعف الفم واللسان عن النطق بأقوال الله المقدَّسة، فتأتي الكلمات ضعيفة أو متلعثمة أو خاطئة!! وهذا يحقِّقه إشعياء النبي بوضوح: «فقلت ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود. فطار إليَّ واحد من السَّرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح ومسَّ بها فمي وقال: إن هذه قد مسَّت شفتيك فانتُزع إثمك وكُفِّر عن خطيتك.» (إش 6: 5 - 7) غُلفة الآذان: ونسمع إرميا النبي يقول لله: «من أكلِّمهم وأنذرهم فيسمعوا. ها إن أذنهم غلفاء (غير مختونة) فلا يقدرون أن يصغوا. ها إن كلمة الرب صارت لهم عاراً، لا يُسرون بها.» (إر 6: 10) غُلْفة القلوب: كذلك إرميا النبي يربط بين طهارة القلب ورضاء الله ربطاً شديداً في تعبير ختانة القلب ورفع نجاساته. + «اختتنوا للرب وانـزعوا غُرَل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أُورشليم لئلا يخرج كنار غيظي.» (إر 4: 4) ويلاحظ هنا إن أرميا النبي يضيف الختانة لحساب الله «اختتنوا للرب». وهنا تعمُّق أكثر في المعنى اللاهوتي للختانة كعمل إلهي أو طقس روحي صرف، فهو إن كان يُجرى في لحم الجسد فهو يمتد إلى القلب والضمير ويوطد الصلة بالله!! وإدراك صلة الختانة في اللحم بالطاعة لله يشدِّد عليه موسى منذ البدء «فاختنوا غرلة قلوبكم ولا تصلِّبوا رقابكم.» (تث 10: 16) ويعود موسى أيضاً ويكشف عن معنى سرِّي تصوُّفي عميق للغاية للختان القلبي كعمل روحي يتم في الخفاء بجرح القلب نفسه جرح محبة أبدي: «ويختن الرب إلهك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا» (تث 30: 6). وهذا يفيد رفع كل أهواء وشهوات وتعلُّقات القلب بكل شيء في الدنيا فيصير القلب كله للرب!! ونسمع أيضاً من الشهيد استفانوس أحد الشمامسة السبعة، وهو ينقل لنا صورة عن مفهوم الختان في العهد القديم الذي ورثه الأتقياء المختارون الذين قبلوا الروح القدس والإيمان بالمسيح، وذلك عند قوله: «يا قُساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان. أنتم دائماً تقاومون الروح القدس.» (أع 7: 51) وهكذا يتضح أمامنا مقدار عمق معنى الختانة الروحي في العهد القديم. فالختان فهموه أنه ليس مجرد علامة في لحم أعضاء التذكير بقطع غلفة الذكر، بل يتعدى ذلك إلى الشفاه والآذان والقلوب. فأعضاء الإنسان كلها ذات غلفة، أي ذات غطاء جلدي يمنعها من الإحساس والاستجابة، وتحتاج إلى ختانة!! فالشفاه الغلفاء لا تستطيع أن تبشر باسم الله وقوته وكلمته، حيث الغلفة هنا تفيد النجاسة. موسى كان يحس بأن شفتيه كانتا غلفاوتين. إشعياء النبي كذلك. من هنا كان الإحساس العميق بالحاجة إلى التطهير بالدم أو بالنار... وكذلك الآذان الغلفاء، يصفها إرميا النبي بأنها لا تستطيع أن تصغي إلى كلمة الرب ولا أن تحترمها إذ تصير كلمة الرب وكأنها عار، تتحاشى سماعه، وإذا سمعتها لا تسرُّ بها!! أما الشهيد استفانوس فيكشف لنا عن مفهوم القلب الأغلف غير المختون بأنه يقاوم الروح القدس، أي روح القداسة والطهارة، وأن هناك علاقة حتمية بين القلب الأغلف والأذن الغلفاء: فغلفة القلب تنشئ غلفة الأذن، وغلفة الأذن تنشئ غلفة القلب. أما الغلفة فهي ترمز إلى الغلاف اللحمي، الذي يجعل القلب والآذان والشفاه حساسة للشهوة واللذة والنجاسة والانفعال بالغرائز اللحمية الحيوانية، فتنصدَّ عن كل ما هو طاهر ومقدَّس وروحي! ... إذن، فكان معروفاً لدى الروحيين في العهد القديم أن طقس الختان كان عملاً روحيًّا يشير إلى قطع شهوة النجاسة بمفهومها المتسع، ليس من عضو الذكر فحسب، بل ومن القلب والأذن والشفاه ومن الإنسان كله، حتى يتطهَّر ويكون قريباً من الله متهيئاً لسماع كلمته والنطق بها والشهادة لها. وأخيراً يكون مستعداً للتعرُّف على المسيح نفسه عند مجيئه وظهوره باعتباره ”كلمة الله“ القدوس. والله اختار عضو الذكر ليجري عليه الختان كعلامة عهد بين الله وإبراهيم ونسله، حتى ينتبه الإنسان أن عهد الله منذ البدء يقوم على الطهارة، ظاهرياً في اللحم وداخلياً في القلب وفي الأذن وفي الشفاه، تمهيداً لحلول كلمته وروح قدسه في هيكلنا. فالاختتان في العهد القديم هو تماماً عملية تكريس كامل لله بكل الأعضاء، داخلياً وخارجياً!! ليصير الإنسان على مستوى عهد الله وقداسة الله «سر أمامي وكُن كاملاً» (تك 17: 1)، أو كما وضعها العهد الجديد على فم المسيح: «كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت 5: 48). ولذلك اعتُبر المسيح أنه خادم الختان!! لأنه الوحيد الذي تمَّم الختان على أعلى وأكمل مستواه، الروحي والجسدي معاً، بأن كان مقدِّساً أو مكرِّساً جسده ونفسه لله كليًّا من أجلنا: «لأجلهم أقدِّس أنا ذاتي.» (يو 17: 19) وكان كذلك حتى يمكن أن يكمِّل الله فيه كل وعد الختان وعهده لنا، فيظهر فيه صدق وعد الله للإنسان منذ إبراهيم!! «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبِّت مواعيد الله.» (رو 15: 8) وهكذا قبل إبراهيم الختان ليكون أباً لكل من يؤمن بالله ويدخل عهده ويصير من أهل بيت الله، وليس كالغريب أو النـزيل. ولكن لم يستطع أحد أن يحقِّق عهد الختان هذا ويثبت أهليته لله. وبقي صدق الله معلَّقاً من حيث وعده بقبول الإنسان ليكون من أهل بيته حتى مجيء المسيح، لأنه حتى ولا موسى نفسه استطاع ذلك، إذ قيل عنه أنه «كان أميناً في كل بيته كخادم ... أما المسيح فكابن.» (عب 3: 5 و6) توارث الختان ثم توقُّفه: كان في تأسيس عهد الختان الذي صنعه الله مع إبراهيم ما يشير بوضوح إلى أعماق سر الختان من جهة هدفه الروحي، وذلك حينما جعله يشمل ختانة الأطفال المولودين: «ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت، والمبتاع بفضة، من كل ابن غريب ليس من نسلك ... في ذلك اليوم عينه خُتِن إبراهيم وإسماعيل ابنه وكل رجال بيته وِلْدان البيت والمبتاعين بالفضة من ابن الغريب خُتنوا معه.» (تك 17: 12 و26 و27) هنا يتجه الختان إلى الأثر أو المعنى الروحي الذي يتجاوز العلامة الخارجية، فهو ميراث يرثه الصغير ابن الثمانية الأيام بمقتضى إيمان أبيه، مجاناً؛ فينضم إلى شعب الله ويرث كل مواعيد الآباء وبركتهم، حتى ولو كان ابناً لعبد مشترى بالفضة غريباً عن رعوية إسرائيل، طالما كان هذا العبد أميناً لصاحب البيت وأميناً لإله إسرائيل ببرهان طاعة وصايا الله وأوامره. وهكذا بمقدار ما للخطية من أثر توارثي، صار لبر الإيمان من أثر توارثي كذلك، وذلك بواسطة الختان الذي هو في حقيقته ختم مجَّاني لميراث بر الإيمان الذي ناله إبراهيم بسخاء الله وجوده. كما يحدِّد بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية: «وأخذ علامة الختان ختماً لبر الإيمان الذي كان في الغرلة، ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون وهم في الغرلة، كي يُحسب لهم أيضاً البر.» (رو 4: 11) كذلك بالرغم من أن تكميل طقس الختان في لحم الغرلة كان يعطي الطفل المولود ابن ثمانية أيام كل حقوق الرعوية في شعب إسرائيل، إلا أن هذه الحقوق تتوقَّف كلها إلى أن يثبت المختون طاعته لوصايا الله عند بلوغه السن الذي يطالب فيه بتكميل الوصايا. وهذا نراه متركِّزاً بشدَّة في وصية الله لإبراهيم كشرط أساسي في تكميل كل بنود عهد الختان: «سر أمامي وكُن كاملاً فأجعل عهدي بيني وبينك.» (تك 17: 1 و2) إذن، فكانت الطاعة لوصايا الله هي التي تجعل عهد الختان قائم المفعول دائم الأثر، وهكذا كان مفهوم الختان في العهد القديم، روحيًّا بمقدار ما كان لمفهوم الطاعة لوصايا الله! ... وهكذا نرى أن عهد الختان كان يورَّث بالإيمان ويثبَّت بالطاعة: + «اختتنوا للرب وانـزعوا غرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أُورشليم لئلا يخرج كنار غيظي، فيحرق وليس مَنْ يطفئ بسبب شر أعمالكم.» (إر 4: 4) + «فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس. ولكن إن كنت متعدِّياً الناموس فقد صار ختانك غرلة.» (رو 2: 25) ومن هنا يصبح الختان عديم المنفعة تماماً إزاء العجز عن تكميل الناموس. فإن كان قد بلغ العجز عن تكميل الناموس في نهاية العهد القديم إلى أقصى حالاته وعمَّ كل الشعب بلا استثناء: «الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس مَنْ يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (رو 3: 12)، يكون بذلك قد بلغ عهد الختان إلى حالة عديمة الفعل والأثر وتوقف نهائياً: «ها أيام تأتي يقول الرب وأعاقب كل مختون وأغلف» (إر 9: 25). وقد تم تهديد الله هذا بالحرف الواحد. فنقرأ في السفر الأول للمكابيين في نهاية أيام حكم الملوك السلوقيين، وبالذات في أيام الملك أنطيوخس الرابع (175 - 163ق.م.)، أنه صدر حكم يمنع ختانة اليهودي، وكان أن الأم التي تختن ولدها تقتل: «والنساء اللواتي كُنَّ يختّنَّ أولادهن أماتوهنَّ حسب الأمر ... وكان على إسرائيل غضب عظيم جدًّا.» (1مك 1: 60) وهكذا وضحت مشيئة الله أن ينـزع من إسرائيل في أواخر الأيام الختم، أو علامة الختان التي هي علامة تبعية الشعب لله، وحلَّ بدلها الغضب واللعنة في الحال والتبعية لملك الأُمم، إشارة إلى زوال مُلك الله عنهم. ولكن أهمية الختان ظلت عند اليهود أقوى من الموت حتى وفي أعصب أوقات اضطهادهم. وكان يهون عليهم الاستشهاد في سبيل تكميلها، لأن الختان كان في صُلب الإيمان بمثابة ختم يلازم اليهودي بعد الموت، فهو ختم فداء لما بعد الموت. فالأغلف في حياته هكذا يكون في موته: «كلهم قَتْلى، ساقطون بالسيف، الذين هبطوا غُلْفاً إلى الأرض السفلى.» (حز 32: 24) ختان المسيح في اليوم الثامن: يقول بولس الرسول إن المسيح وُلِدَ «تحت الناموس» (غل 4: 4) لكي يكمل حرفية الناموس لأجلنا ويفتدينا من لعنته، حيث الإشارة هنا تتضمَّن الخضوع لعملية الختان في اليوم الثامن، كما كان يأمر بها الناموس، حيث أخذ أيضاً اسمه الذي كان قد تسمَّى به سابقاً. أما بخصوص تتميم ختان اللحم والتدقيق في تكميل ذلك في اليوم الثامن بحسب الناموس، ففي ظاهره لا يعطي أية قيمة عملية، ولكن إذ يحمل هذا بالنسبة للمسيح بالذات أبعاداً روحية وسريَّة عميقة، لذلك ينبغي جدًّا الانتباه إلى دقائق هذه الأمور لما تحوي من استعلان للحق الإلهي. وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير عمود الدين: [لأن في اليوم الثامن (أي يوم الأحد) قام المسيح من الأموات وأعطانا الختان الروحي، وذلك بمقتضى ما أمر به الرسل القديسين: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19)، ونحن نؤكِّد هنا أن الختان الروحي يتم أساساً في المعمودية، حيث يجعلنا المسيح شركاء أيضاً في الروح القدس.]([1]) ويبدو أن البابا كيرلس الكبير هنا ينقل لنا تقليداً رسوليًّا ردَّده من قبله الشهيد يوستين في محاوراته مع تريفو: [إن الوصية بطقس الختان التي تأمر بأن يعتمد الأطفال في اليوم الثامن، كانت رمزاً أو مثالاً للختان الحقيقي للخلاص من الخطية والشر، بواسطة قيامة الرب يسوع المسيح من الأموات في اليوم الأول من الأسبوع (الأحد)، الذي بالرغم من بقائه معتبراً الأول لكل الأيام إلا أنه يُدعى الثامن (لأنه أتى بعد السبت بحدث جديد فأكمل بعد مرور الأسبوع بسبعة أيامه عملاً لم يدخل أصلاً في حدود الأيام السبعة خصوصاً في أيام الخلقة القديمة).]([2]) ويعود القديس كيرلس الكبير ويشرح كيف يختنَّا المسيح بالروح القدس، بقوله: [وعن هذا أيضاً، فإن يشوع القديم، الذي كان قائداً بعد موسى، هو مثال فإنه أولاً قاد بني إسرائيل عبر الأردن ثم في الحال توقَّف وختنهم بسكاكين من صوان؛ هكذا نحن بعد أن نعبر الأردن (أي المعمودية) يختنَّا المسيح بقوة الروح القدس لا مطهِّراً الجسد، ولكن قاطعاً بالأحرى النجاسة أو الفساد الذي في أنفسنا.]([3]) ثم يعود القديس كيرلس ويكشف عن مدى ارتباط خلاصنا بختانة المسيح في اليوم الثامن معتبراً أن المسيح اختتن لنا ونحن اختتنا فيه؛ فتمَّ لنا بختانة المسيح وفي ختانة المسيح، الخلاص! [في اليوم الثامن، إذن، اختُتن المسيح وتقبَّل اسمه (يُدعى اسمه يسوع أي المخلِّص). لأنه عندئذ، أي بهذا، خلصنا بواسطته وفيه. كما قيل: «وبه أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية، بختان المسيح، مدفونين معه في المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه» (كو 2: 11 و12). أي أنه كما كان موت المسيح من أجلنا وكانت قيامته، كذلك كانت ختانته.]([4]) انتهاء عهد الختان: وبتأسيس المعمودية التي يتم فيها الختان الروحي للإنسان، حيث يخلع جسد الخطية، ويلبس الجديد بالروح القدس، ويتم الختم الإلهي لتبعية الله بالاتحاد بالمسيح؛ انتهى عهد ختان اللحم. وفي ذلك يقول القديس كيرلس أيضاً: [ولكن بعد ختانة المسيح انتهى هذا الطقس إلى الأبد، وذلك بدخول المعمودية التي كان طقس الختان يرمز لها. لأن بسبب المعمودية لا نعود نمارس طقس الختان بعد. لأن الختان حسب ما يبدو لي كان يخدم ثلاث غايات: الغاية الأولى: تخصيص نسل إبراهيم بعلامة أو بختم لتمييزهم عن بقية الشعوب الأخرى جميعاً. الغاية الثانية: أن الختان كان يحمل صورة نعمة وفعالية المعمودية الإلهية حيث كان يُحسب قديماً أن المختون هو عضو في شعب الله بهذا الختم، هكذا أيضاً كل مَنْ يعتمد الآن يكون قد حصل في داخله على المسيح الختم، وبذلك يُكتب ضمن شعب الله المختار. أما الغاية الثالثة: فهي تفيد رمزيًّا أن الشخص المؤمن قد تأسَّس في النعمة قاطعاً أولاً بأول كل الشهوات الجسدية وإماتة كل الأوجاع بعمل الإيمان الجراحي أي القاطع، وليس بقطع اللحم، إنما بالنسك المجتهد وبتطهير القلب مختتناً بالروح وليس بالحرف، الذي مدحه لا يحتاج، كما يقول بولس الرسول، إلى حكم بشري وإنما يعتمد على شهادة من فوق.]([5]) وهكذا نجد أن العماد حلَّ محل الختان بصورة أكمل وأشمل وبأثر روحي عميق وفعَّال. فبالمعمودية، كما يقول بولس الرسول، خلعنا جسم الخطية بأكمله وليس جزءًا منه، ولبسنا المسيح وصرنا فيه وبه خليقة جديدة كميلاد ثانٍ من السماء، وأصبحنا رعية مع القديسين، أهلاً وأحباء في بيت الله، وملوكاً وكهنة مع المسيح لله!... ولكن لا ينبغي أن يتوه عن بالنا قط أن كل بركات المعمودية بحدودها الباهرة اللانهائية، إنما هي امتداد ”للختان“ عبر المسيح! فالختان - كما رأينا - سبق أن تصور فيه كل أسرار الحاضر؛ من أجل ذلك لم يحجم المسيح عن أن يخدم هذا السر في صورته الرمزية بحسب الوعد الأول، ليمنحنا الانفتاح اللانهائي على بركاته الأُولى والأخيرة «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبِّت المواعيد التي أُعطيت للآباء.» (رو 15: 8) وبولس الرسول يرى أن الإنسان الجديد العابد بالروح والمتحد بالمسيح هو الآن بحد ذاته ”ختان كامل“ أو ”أوج الختان“ في أعلى مفهوم روحي له «لأننا نحن الختان، العابدين الله بالروح والمفتخرين في المسيح يسوع وغير المتكلين فيه على الجسد.» (في 3: 3 ترجمة حرفية) المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
29 أبريل 2021

يوم الخميس من البصخة المقدسة

عشاء الوداع: وتذكرونني إلى أن أجيء «شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم». هي شهوة تكميل الرسالة وتسليم سر البقاء الدائم! كانت آلام المسيح وكان موته الفاصل بين الوجود بالجسد والوجود بالروح، ليس فاصلاً زمنياً ولا فاصلاً كيانياً؛ ولكنه كان فاصلاً بين العيان المنظور والرؤيا بالروح لشخصه الإلهي في المجد. وكان العشاء الأخير صورة وداع للغياب العيني بالمنظور، وفي نفس الوقت، استيداع سر بقائه مع التلاميذ إلى الأبد: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر»؛ وذلك في سرٍّ استودعه الخبز ليكون عِوَض الجسد الروحاني مأكولاً بالفم ومستقراً في كيانهم بالروح، وفي خمرٍ ممزوج عِوَض الدم مشروباً بالفم ومستقراً في كيانهم بالروح.كان هذا هو اشتياقه الذي برَّح به أن يأكل معهم فصح الوداع، ويكون فيه سر البقاء وسر الشركة الحقيقية بالروح.وإمعاناً في تأكيد وجوده كلما أكلوا من الخبز وشربوا الكأس، قدَّس كليهما تقديساً ليحمل الخبز سر الجسد ويحمل الكأس سر الدم. وبعد أن قدَّسهما أعطاهم الخبز متحوِّلاً إلى جسده وكاشفاً سر التحوُّل بقوله: «خذوا كُلوا هذا هو جسدي... وخذوا اشربوا هذا هو دمي».ولكي يجعل التأكيد على حضوره يقيناً، كشف لهم سر الجسد المكسور وسر الدم المسفوك بقوله: «كلما أكلتم من هذا الخبز (المتحوِّل) وشربتم هذه الكأس (المتحوِّلة)، تبشِّرون بموتي»؛ باعتبار أن الجسد حال تأكلونه، تأكلونه مذبوحاً بالسر؛ والدم حال تشربونه، تشربونه مسفوكاً بالسر؛ أي يكون قد استودع في العشاء سر الصليب والقبر. ولكونه أصلاً قد مات ليقوم، صارت البشارة بالموت هي بعينها اعترافاً بالقيامة.وبهذا العمل السري، يستحضرون الرب حيّاً وعليه جروح الصليب، ويكون هذا بمثابة وجوده بينهم حيّاً كما كان، إنما في حال قيامة دائمة وجروحه عليه. وهذا يكون بمثابة صُنع تذكار حيّ لوجوده غير المنظور، لا بالفكر كمَنْ يتذكَّرون المسيح الذي مات ومضى؛ بل ذِكْر وجودٍ حيٍّ للمسيح القائم الدائم. وهكذا صارت الإفخارستيا استدعاءً لوجود الرب مذبوحاً وقائماً معاً بحالٍ غير منظور للعيان، فائقاً على فكر الإنسان؛ كخبز مأكول ودم مشروب، وهو هو بعينه المأكل الحق والمشرب الحق، وليس حقٌّ في الوجود إلاَّ المسيح. ولذلك اعتُبِرَت الإفخارستيا أكلاً حقيقياً للرب حسب قوله: «مَنْ يأكلني فهو يحيا بي»! وهكذا يؤول التذكار إلى شركة حيَّة في المسيح لتتميم سر الاتحاد العجيب: «أنتم فيَّ، وأنا فيكم» ! و “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه» ، «ويكون له حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير» ! فتذكار المسيح بإقامة الإفخارستيا، هو ذِِكْر حضوره ليس ذِِكْراً عابراً، وهو بعينه سر شركة في حياة وقيامة الرب التي ستُستعلن أخيراً بالقيامة حينما نراه كما هو، ونرى أنفسنا فيه: «إذا أُظهِرَ نكون مثله، لأننا سنراه كما هو” . والقول: «نكون مثله» ، قولٌ سري عميق المعنى، غاية في الخطورة، لأنه يعني: شركة المثيل للمثيل.وقوله: «وتذكرونني إلى أن أجيء» ؛ أي: إلى أن أُحقِّق لكم وجودي بالعيان المنظور، الذي يبلغ من الصفاء الحد الذي فيه يتطابق العيان مع الرؤيا، حين يبلغ الإنسان الجديد تحقيقه اللازمني، فيرى ما لا يُرَى. فنحن الآن نعيش الذكرى بسبب تعوُّق الإنسان الجديد عن أن يُعاين بالعيان المجد الحادث الآن للرب ، ولو أنه أحياناً يأتي، فينفتح وعي الإنسان الجديد ويرى الرب قائماً ومتكلَّماً.مِن هذا يتأكَّد لنا أنه حاضرٌ محتجَبٌ. وقوله: «إلى أن أجيء» ، هو بسبب غيابنا نحن عن اكتشاف وجوده. لذلك فصراخ الشعب مع الكاهن في الكنيسة الأولى بعد تكميل الإفخارستيا وتناولهم جميعاً، عندما يقولون: “ماران أثا” بمعنى: “تعالَ أيها الرب يسوع، وليزول العالم”؛ هو محاولة شبه يائسة لرؤية الرب القائم في الوسط حسب وعده الأمين: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم»! أما قوله على الجسد فهو: «لأني أقول لكم: إني لا آكل منه بعد حتى يُكْمَلَ في ملكوت الله»، ومرة أخرى على الدم: «الحق أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله». وذِكْر كلمة: ”اليوم“، تفيد: ”الآن وفي الزمن الحاضر“. فالمعروف، وبحسب الرب، أن في الملكوت السماوي لا أكل ولا شُرب؛ ولكن المعنى أقوى وأبسط، فهو سيأكله معنا هنا عندما يكون قد دخل ملكوته، ويشربه معنا هنا سرّا ًعلى الأرض وهو قائمٌ في ملكوته. فالمعروف، وبحسب صراخ الشماس، أن المسيح يكون قائماً على المذبح وقت رفع الذبيحة، ويشترك معنا كعشاء الخميس مع الرسل.أما كيف يأكل ويشرب هنا معنا، وهو في حال قيامته ومجده، فالردُّ على ذلك أوضحه هو: «وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مُصدِّقين من الفرح، ومتعجِّبون، قال لهم: أعندكم ههنا طعامٌ؟ فناولوه جُزءًا من سمك مشوي، وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدَّامهم».لذلك من اليسير أن نفهم أن المسيح بحضوره في الإفخارستيا يشترك حقًّا. ومن أجل هذا تأخذ الإفخارستيا قداستها ورهبتها وحقيقتها الأولى في عشاء الخميس.وفي قدَّاس القديس باسيليوس، تقول إحدى الأسبسمسات أثناء القبلة المقدسة: [ تعالَ إلينا اليوم يا سيدنا المسيح، وأضيء علينا بلاهوتك العالي].وأيضاً في نفس موضع القبلة في القداس الكيرلسي، يقول الشعب الأسبسمس الآتي: [ عمانوئيل في وسطنا الآن، بمجد أبيه والروح القدس، ليُباركنا كلنا ويُطهِّر قلوبنا ويشفي أمراض نفوسنا وأجسادنا. نسجد لك أيها المسيح].وفي أثناء التوزيع يُقال لحن:بي أويك Pioyk :[ونحن ننظرك كل يوم على المذبح، ونتناول من جسدك ودمك الكريم ... إلخ].فالإفخارستيا هي حضورٌ إلهي حقيقي، يقدِّسها المسيح بشخصه، ويُقيم سره فيها، وهو الذي يُناوِل بيده غير المنظورة، إنْ الجسد أو الدم.فالمسيح عند وعده، لم يشترك مع تلاميذه في أيِّ إفخارستيا إلاَّ بعد قيامته. وقد كشف لنا التلاميذ هذا الحضور وهذه الشركة في الأكل والشرب بقولهم: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأعطى أن يصير ظاهراً، ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات» .وهكذا يتحقَّق لدينا حضور الرب في الإفخارستيا وتقديس أسرارها، واشتراكه فيها وتوزيعه لأسرارها بيديه. فهذه الإفخارستيا التي نصنعها لذكره، هو قائمٌ ومشتركٌ فيها. فأيُّ تذكار هذا إلاَّ ذِكْر حضوره! أما مجيئه فسيكون لاستعلان القيم والحقائق العظمى للأسرار التي أكملناها باسمه وذِكْره، ولِبْس الأكاليل للذين أقاموا الذِّكْر حسناً. نعم، تعالَ أيها الرب يسوع. آمـين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
28 أبريل 2021

الساعة التاسعة من يوم الأربعاء من البصخة المقدسة

مِسْحَة الموت المُعطِّرة للجسد ان الطيب المسكوب على الجسد الحي من أجل تكفينه في بيت عنيا أول شركة مقدَّسة صادقة في موت المسيح. كانت هذه المسحة الأخيرة أول عبادة مقدَّسة للجسد الإلهي الذي ارتفع إلى السماء حيًّا ليحيي جسم البشرية ويبرِّرها. لقد رد المسيح طيب الناردين مضاعفاً باقياً أبداً لجسد البشرية الذي اتحد به ومنحه روحه وحياته وبنوَّته، بأن أجلسه عن يمين أبيه. وارتد تذكار هذه المحبة الخالصة الكثيرة الثمن لصاحبته من دور فدور وفي كل كنيسة وقلب كل عابد في العالم كله. ولقد صار ناردين البشرية المسكوب على جسد المسيح مدخلاً بديعاً للآلام ونبوَّة عن قيامة عتيدة تعطِّر تاريخ الإنسانية! «وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيِرِ الثَّمَنِ، فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ».كان ذلك بحسب إنجيل ق. يوحنا قبل الفصح بستَّة أيام وبحسب الأيام كان مساء السبت 8 نيسان.القديس متى عاشق للمقارنات، يضع قصة العطر والمسحة في بيت مريض شفاه المسيح، في مقابل بيت رئيس الكهنة الذي تفوح منه رائحة الدم والنتانة تتصاعد من أفواه وبطون الكبراء والرؤساء والمرؤوسين والمأجورين.هنا يعفُّ ق. متى أن يمس بكلمة تلك المرأة صاحبة المحبة المحفوظة في قارورة الطيب إلى اليوم الذي ينبغي أن تخرج منه، لتعطي للجسد كرامته بل قداسته، إن لم يكن في أعين رؤساء الكهنة ففي عين الكنيسة إلى أبد الدهور. فالذي يمسح الجسد المسحة الأخيرة كاهن هو وأعظم من كاهن، فلمَّا خذل الكهنوت صَنْعَتَهُ واشتغلوا بالمؤامرات والقتل، قامت امرأة في إسرائيل كدبُّورة ترفع قرن الكهنوت عالياً وتطرح حقد التلاميذ وجشع يهوذا أرضاً لتقول قول دبورة: دوسي يا نفسي بعز!! وضمَّخت الجسد بالعطر قبل أن يُعرف له قبر!! ودهنت الرأس ولم تكن تعلم أنها دهنت رأس الكنيسة كلها. ولقد عبَّرت هذه المرأة الملهمة الذكية عن بهجة القيامة في وسط مؤامرات الموت وحبَّبت إليه القبر لمَّا اشتمَّ من قارورتها رائحة الصعود! «فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: لِمَاذَا هذَا الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ».لقد تضاربت الأقوال على مَنْ هو صاحب هذا النقد غير الصائب، فالقديس يوحنا قال إنه يهوذا وهذا كان يليق به لأنه كان حامل الصندوق ويلتقط كل ما يدخل فيه. والقديس مرقس قال بعض التلاميذ متحشِّماً، وق. لوقا قال أحد الفريسيِّين حتى يزيح هذه السبَّة عن جبين التلاميذ. وهنا ق. متى يلقيها على التلاميذ كلهم - لأن ق. مرقس زاد القول أن التلاميذ كانوا يؤنِّبونها- حتى تصيب الكنيسة فيوعِّيها عن الخطأ والعيب. ولكن لا يفوتنا اتهام التلاميذ هنا عن أن يلقي الضوء على ضعف وانحراف دور التلاميذ في قصة الآلام الذي قد تنبَّأ عنه المعلِّم بقلب حزين: كلّكم تشكون فيَّ في هذه الليلة، هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي. فكانوا يشكِّلون ثقلاً على المسيح، ولكن كشفوا في المقابل عن مدى سعة صدر المسيح وعفوه وحبّه وتسامحه ونعمته. وصدق ق. يوحنا إذ قال بصددهم: كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى. وألقى ق. لوقا صدى هذا القول بقوله: شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألَّم. كما تنبَّأ المسيح عن بطرس حزيناً: سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ولكني طلبت من أجلك لكي لا ينفى إيمانك. ولكن وفي الحقيقة كان موقف التلاميذ مُخزياً للغاية! «فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ؟ فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً! لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».”كَشْفٌ فاضحٌ وتقريرٌ لاذع وتعقيب على غيظهم يَرُدُّ غيظهم إلى بطونهم. هم قالوا هذا التصرُّف فيه إتلاف فردّ الرب عليهم وقال هذا الرد فيه إزعاج. هم قالوا أن يُباع أحسن، والمسيح قال إنها عملت الأحسن. هم قالوا الفقراء أفضل والمسيح ردَّ عليهم بل أنا الأفضل! فماذا بقي لمشورة التلاميذ؟ لقد استطاع ق. لوقا في إنجيله أن يرى في تصرُّف التلاميذ هذا عملاً عدائياً للمسيح فاستكثره على التلاميذ فنسبه إلى أحد الفريسيين!! فكان هذا أفضل تعليق على الوضع بأكمله دون أن يجرح التلاميذ وهو بذاته أشد من الجرح!! ”تبًّا للمبادئ والأصول وقياس الأفضل مالياً إن كان فيها احتقار للمحبة، ويا ليتها محبة مقدَّسة لإنسان محتاج ولكن لمسيح قادم على الصليب. إن القلم يكاد يخرج عن طاعتي حينما أعيد الفكر فيما صنعه التلاميذ، ولكن شكراً للرب فقد قال ما يكفي. آه لو دري جميع الفقراء بما قاله التلاميذ، لتبرعوا بثمن خبزهم شهراً ليقدِّموا نفس قارورة الطيب وفي نفس وقتها ولنفس الغرض ويبقوا هم جياعاً مسرورين إذ يكونون قد قدَّموا طيباً لتكفين الجسد الذي حمل عنهم خطاياهم وفتح لهم باب الملكوت! وكم وكم تحمَّل الفقراء ألوف وملايين من الأموال التي نُهبت على اسمهم وما دروا وما سمعوا عنها شيئاً!! والقديس متى يصمِّم أن يجعل من قصصه تعليماً للكنيسة طالما بقي لها ضمير!! ”على أن الدرس الأكبر الذي نخرج به من قول المسيح إنها عملت بي عملاً حسناً وإن الفقراء معكم كل حين، هو أن العبادة لله بالروح أعلى شأناً من إعطاء الحسنات، وتوقير شخص المسيح بالحب أرفع من خدمة الفقير. لذلك نحن نرى في قول ق. مرقس من أجل ترك العالم والأسرة أن يكون ذا اتجاهين هكذا: من أجلي ومن أجل الإنجيل اتجاهاً سريًّا خطيراً لتقنين بيع العالم وما فيه حبًّا للمسيح وحده، وتقديم ذبيحة النفس طوعاً لعبادته، على نفس المستوى تماماً لتقديم الذبيحة لخدمة الإنجيل والكرازة باسمه. وعلى القارئ أن يزنها جيداً، فهي سند إنجيلي قوي للذين كرَّسوا الروح والنفس والجسد لعبادة الرب بالروح والحق!! لذلك تجدنا أيها السامع العزيز أمام لغز هذه المرأة - التي نعرف بحسب تأكيد إنجيل ق. يوحنا أنها مريم أخت لعازر - التي لفتت نظر الكنيسة بقوة نحو حياة الجلوس تحت قدمي الرب باعتباره اختيار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها، أفضل مما اختارت مرثا بالارتباك والاهتمام بأمور الخدمة الكثيرة. ثم تعود هنا وتظهر بقارورة طيبها التي لم تكن إلاَّ حياتها تكسرها وتدهن بها الجسد لتطيِّبه حبًّا فأراحت نفسه، وردَّ جميلها بأجمل منه إذ جعل حياتها هذه سواء بجلوسها تحت قدميه تسمع وتتأمَّل فيما تسمع، أو بتحويشة العمر لتسكبها على رأسه والجسد وتبل رجليه بدموعها كعهد تَـقْـوَى، وتمسحهما بشعرها لترتد لها مسحة قداسة، جعل حياتها في الكنيسة عملاً وذكرى وتذكاراً حسناً. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
30 أبريل 2021

يوم الجمعة من البصخة المقدسة

دم المسيح وجهادنا اليومي اليوم رهيب جداً يا أحبائي، لا تستطيع كلمات و لا تعبيرات بشرية أن تقترب مجرد اقتراب من سر الصليب. سر غير مُدرك، سر يتلاقى فيه الموت والحياة. سر يتلاقى فيه الألم الشنيع والضعف مُنتهى الضعف مع القوة مُنتهى القوة، بل مع قوة ليست من هذا الدهر. من أجل هذا يصبح الكلام عسيراً جداً، إذ لمن صُلب المسيح إلا لنا، ولمن قدَّم المسيح جسده لِتُدقَّ فيه المسامير ويُطعن ويُخضب بالدماء، إلا لكي يغرس هذه المسامير عينها إنما - بلا وجع - في جسد كل واحد منا. لأنه مَنْ مِنَ البشر يستطيع أن يُصلب عن نفسه، غير ممكن، وإلا يُعتبر انتحاراً!! حتى لو صُلب الإنسان عن نفسه؛ أيُدعى ذلك خلاصاً؟! أبداً! ففي البداية والنهاية هي عقوبة، موت، والموت عقاب. فالمستحيل لدى كل إنسان استطاع الله أن يُتمه للإنسان. اليوم نرى المسيح الصادق الأمين، الذي قال عن نفسه: «أنا هو الراعي الصالح» الذي «يبذل نفسه عن الخراف»، يُتمم ذلك عملياً على الصليب، ويقول: ليس حبٌّ أعظم من هذا أن يضع إنسان نفسه من أجل أحبائه. حديثنا اليوم عن أوجه الصليب الثلاثة التي تختص بحياتنا. الوجه الأول للصليب هو الوجه المقابل لله الآب: هذا الوجه يختص بالله مائة في المائة. هو فعل كفَّاري. فإذا كنا نقول: أنا «مع المسيح صُلبت»، ومع المسيح مُت، ومع المسيح قُمت؛ ولكن لا أحد يجترئ ويقول: أنا مع المسيح سفكتُ دمي. هذا عمل يختص به المسيح وحده، عمل خاص به، لا نستطيع نحن أن نُشارك فيه. إنه عمل إلهي خاص بالعلاقة التي بين الآب والابن التي تجسد ليكملها من أجلنا. نحن عندما نقول أن المسيح سَفك دمه على الصليب، نتذكر على الفور ما كان يتم يوم عيد الكفارة عندما كان يدخل رئيس الكهنة وحده مرة واحدة في السنة إلى قدس الأقداس وينضح بالدم ويُكفِّر عن الشعب. هذا هو تماماً ما فعله المسيح عندما دخل إلى الأقداس بدم نفسه، ونضح على جسده، أي على البشرية كلها، وتراءى أمام الآب والدم عليه، فوجد لنا فداءً أبدياً. واعتُبر هذا ذبيحة كفَّارة عن كل خطية اقتُرفت من آدم إلى آخر الدهور. الفعل الثاني لسفك الدم والتقدم به للمسيح متصل وتابع بالضرورة لذبيحة الكفارة: هو الفداء. المسيح عندما قدم ذاته كذبيحة كفارة والدم عليه أو على البشرية؛ فإن الآب قبل هذه الذبيحة، هذا هو الفداء، وأصبح الإنسان مفدياً. كانت البشرية كلها أمام الله ميتة، لأن اللعنة جازت من آدم لكل نسله. المسيح تقدم إلى الآب، بموت نفسه، لكي يقدم هذا الموت إزاء كل موت آخر لكل إنسان؛ فإذا قُبل هذا الموت ، أو قُبلت هذه الذبيحة الكفارية؛ يكون هنا الفداء قد أُكمل. الفعل الثالث هو المصالحة، هو تالي ومتصل اتصالاً وثيقاً بالفعلين السابقين أي الكفارة التي قُدمت وقُبلت؛ وبذلك تم الفداء، ومن ثم صارت المصالحة. فالمصالحة هنا هي استجابة الآب. «وكان الله مُصالحِاً العالم لنفسه بالمسيح». ثلاث أفعال سرية، نقلتنا 3 نقلات مهمة للغاية، كان نتيجتها إننا كُفِّر عنا، واُفتدينا، ثم صُولحنا مع الآب بدم كريم، دم يسوع الذي بروح أزلي قدَّم نفسه للآب ليطهِّر ضمائرنا من أعمال ميتة. هذا هو وجه الصليب الأول، المواجه للآب. ثانياً: وجه الصليب المواجه للشيطان الشيطان هو المشتكي علينا وعلى إخوتنا ليلاً ونهاراً، هو لا يطيق نجاحنا، هو دائما يحسدنا، ثم هو يعرف ماضينا وما اقترفناه في حياتنا، لذلك هو يُذكِّر الله بها، تماماً كما رأيناه في شكواه على أيوب، لذلك هو يضع أمام الله كل مُسوغاته في الأفعال التي يمسكها علينا، ويُدعِّم شكاياته علينا ليثبت له عدم استحقاقنا. أما الله، فمن جهته، فهو يرى أمامه دم ابنه كل حين، فعلى الفور، وفي الحال، تسقط كل شكاوي الشيطان. كما يقول القديس يوحنا: «دم يسوع المسيح ابنه يُطهرِّنا من كل خطية». فكل شكوى تُقدم وتُقام ضد أولاد الله مرفوضة. ويبلور بولس الرسول هذا المفهوم ويقول: «مَنْ سيشتكي على مختاري الله؟» . فإذا كان المسيح هو الذي له وحده حق الدينونة علينا فنحن بكل تأكيد نصير مُبرَّأين وتسقط كل القضايا المرفوعة ضدنا. كذلك الشيطان يمكن أن يشكونا ضد أنفسنا، يُزيِّف ضمائرنا. نعم قد يجعلك تقرع صدرك، ويقول أنت خاطئ وشرير، ولكن إلى هنا ليست هناك مشكلة، ولكنه بعد ذلك يوقعك في اليأس، ويوهمك أنه ليس هناك رجاء. ويجب أن تُفرِّق بين صوت روح الله المتكلم في الضمير وصوت الشيطان الكاذب في الضمير. صوت الله يعطي تبكيت، ولكن لخلاص ورجاء بلا ندامة، في حين أن صوت الشيطان هو للتأنيب وينتهي باليأس. وخدعة أخرى للشيطان يحارب بها أولاد الله، هو أنه قد يقنعهم بزيادة الجهاد، بزيادة النسك، بزيادة الميطانيات، بزيادة السهر... والشخص يسير في هذا الطريق، للأسف، بلا مشورة، فيجد نفسه في محلك سر، مازال واقعاً تحت نفس الضعفات الأولى، ولا يتقدم قيد أُنملة في الطريق الروحي. في الحقيقة إنه لا عيب في الجهاد بحد ذاته، فلابد من النسك، لابد من قمع الجسد، لابد من الميطانيات، لكن هذه وحدها فقط لا تكفي، ولا تغني عن دم المسيح. فالسبب الرئيسي لغلبة الشيطان علينا هنا هو أننا نجاهد ببرنا الشخصي، نجاهد بقوتنا الرخيصة، نجاهد لحساب الذات. أما الرد الوحيد على كل مهاجمة واتهام للعدو لنا هو: دم المسيح. دم المسيح هو فِعل لانهائي، فلا خطيتي ولا خطايا البشرية كلها تقدر أن تُنهيه أو تستهلكه أو تستنفذه. ليست خطية ولا ألف خطية تقدر أن تدينني أو تُعيرني أو يكون لها شكاية عليَّ أمام الله. أنا أمام المسيح مُبرَّأٌ، مُكفرٌ عني، مغفور الخطايا. كل اتهام يرفعه الشيطان ضدي مرفوض شكلاً وموضوعاً، مُقدم أمامه حق الفيتو. فحتى ولو كان المشتكي يشتكي علينا ليلاً ونهاراً؛ فالمسيح بدمه يشفع فينا أيضاً ليلاً ونهاراً. فشفاعته ضد شكايته. وأنا تماماً خارج الموضوع. المسيح محا الصك المكتوب علينا، رفعه من الوسط، كل الوثائق الممسوكة علينا مزقها في صليبه، كما نقول: «مزَّق كتاب يد خطايانا، أيها المسيح إلهنا». المسيح، بدمه المسفوك على الصليب، ظفر بالشيطان، فضحه، جرَّده من كل أسلحته، أخضعه تحت رجليه. فهل بعد هذا يقدر الشيطان المُهلك أن يدخل البيت طالما الدم مرشوش عليه؟ هل تجوز أي شكاية أو عرائض اتهام علينا طالما نحن في حمى الدم؟ مستحيل بالتأكيد. نعم، عليك أن تيأس من نفسك، ولا أقول تيأس من خطاياك، فكل خطاياك مغفورة، بل عليك أن تَكْفَر بقدراتك ومحاولاتك النابعة من أصل المرارة داخلك، لا تتكل على أعمال صلاحك، فكل هذا لن يجديك، هو فقط دم المسيح. الوجه الثالث للصليب: أمام كل واحد فينا هنا الإنسان يكتشف أن المسألة ليست مجرد خطية تُرتكب، ولا فعل خاطئ يُفعل، ولا سلوك معيب يُدان عليه، لا، الأمر أعمق من هذا بكثير، فداخلي ينبوع فاسد، ميل مستمر للخطية حتى بدون فعل. هذا هو الإنسان العتيق. والحق إن هذا المصدر هو أعمق بكثير من الأعمال والسلوك والخطايا، ذلك لأني كلما أُخطئ، أعترف وأتوب، والدم يُطهرني؛ ولكننا هنا نتكلم عن المصدر، المنبع الذي تنبع منه هذه الأفعال الرديئة، والطبيعة الميَّالة للخطية. نحن خطاة ليس لأننا نعمل الخطية؛ ولكننا أولاد آدم. عندما أخطأ آدم في الفردوس، نحن كنا معه في صُلبه، فورثنا منه طبيعته الخاطئة. فآدم كان هو العِلة، ورثنا منه كل ما هو رديء وكل ما هو لا يُرضي الله. إذن ما هو الحل؟ كيف أُغيِّر طبيعتي، ربما قليلاً نقدر أن نُغير بعض أفعالنا وبعض سلوكياتنا، ولكن المطلوب تغيير مصدر هذه الطبيعة. الحل لابد أن يموت آدم. ونحن جميعاً أولاد آدم. ففي اليوم المعين، وفي الساعة المُعيَّنة العظيمة، الساعة التاسعة من يوم الجمعة العظيمة، نفَّذ الله تدبيره في المسيح، ومات المسيح، ومات آدم معه، وتخلصنا من طبيعة آدم إلى الأبد. وهذا هو وجه الصليب الثالث. هذا هو العمل العظيم الذي عمله الله في المسيح لكل واحد فينا. كان من العسير أن الآب يتعامل مع كل واحد فينا ليُميته، فأرسل ابنه في شبه جسد الخطية ليدين الخطية، يدين المصدر، أي الينبوع المُلوث الذي تصدر منه سائر الخطايا. مات المسيح بالجسد على الصليب فدينت الخطية إلى الأبد. ومات آدم الذي فينا وأُعطينا فرصة من اليوم وإلى الأبد، من يوم الصليب، الجمعة العظيمة وإلى نهاية الدهور أن ننال هذه القوة فينا بإيمان بدم المسيح، قوة الموت عن آدميتنا، لنحيا بالمسيح. صلاة يا ربنا يسوع المسيح، يا من أعطيتنا ذاتك، ووراء عطيتك كان ما كان من آلام لم تدركها البشرية بعد؛ ولكن أعلنتها لأولادك المخلصين. أعلِنْها اليوم، يا رب، بالسر لأولاد سِرِّك، ليعلموا كم كلَّفَتْ الخطية الله وابن الله، كم كلَّفت من حب مسفوكٌ دمه على الصليب؛ حتى نستطيع مرة أخرى أن نأخذ حريتنا بالروح، وننال حياتنا التي كُبلت بالخطية وبالموت سنيناً هذا عددها. أعطِنا، يا ابن الله، انتباهة روحية في القلب لقيمة عمل الصليب بأوجهه الثلاثة، لكي لا ننسى أبداً أننا كُفِّر عنا تكفيراً، وافتُدينا فداءً أبدياً، وصولحنا أمامك إلى الأبد. ولا يحتاج الأمر بعد إلا إيماناً بجرأة وقدوماً إليك في شخص يسوع المسيح لنأخذ نصيبنا الذي لنا في المسيح. أعطِنا، أيها الآب السماوي، أن ندرك اليوم عطاياك التي وهبتَها لنا في شخص ابنك يسوع المسيح: عطايا هذا طولها وهذا عرضها على الأرض وفي السماء. أعطنا أن نضع أيدينا على الدم المسفوك على صليبك ليكون لنا إيمان به، نسير به حتى عتبة الموت. آمين. اسمعنا أيها الآب والابن والروح القدس ليتبارك اسمك منذ الآن وإلى أبد الآبدين. آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
22 يناير 2022

عيد عرس قانا الجليل

هذا العيد محسوب من أعياد الإبيفانيا التي كانت تعيِّد لها الكنيسة معاً: الميلاد، وزيارة المجوس، والختان، والعماد، وعُرس قانا الجليل.. كذلك بخصوص هذا العيد السيدي يسجِّل لنا القديس إبيفانيوس أسقف قبرص (315 - 403م) لمحة عن اهتمام الكنيسة القبطية بالتعييد له مع عيد الغطاس منذ القديم في قوله: [وتقيم الكنيسة القبطية عيد عُرس قانا الجليل في 11 طوبة (مع عيد الغطاس) حيث يعتقد الشعب بإمكانية تحوُّل مياه الينابيع ومياه النيل بحسب الإيمان الطيب الصادق إلى خمر، كذكرى سنوية لمعجزة المسيح]( 1). قانا الجليل تبعد ستة أميال شمال شرق الناصرة، أي على بُعد ساعتين مشياً على الأقدام. العذراء مريم سبقت المسيح وتلاميذه كعادة تواجد النساء معاً منذ بداية العُرس (مدته 7 أيام)، والمسيح يحضر في الوقت المناسب دائماً (بعد فراغ الخمر)، مع تلاميذه الذين لم يكتمل عددهم إذ لم يكن قد مضى سوى ثلاثة أيام على دعوة نثنائيل، وفيلبس قبله بقليل، وأربعة أيام على دعوة أندراوس وبطرس، أما يوحنا فلم يتجاوز الأسبوع منذ أن انتقل من مرافقة يوحنا المعمدان إلى مرافقة يسوع. إذن، فلم يتجاوز عدد التلاميذ يوم عُرس قانا الجليل عدد أصابع اليد الواحدة. تأتي هذه المعجزة كبداية آيات وبداية خدمة المسيح، بعد معموديته، كما تأتي كأول مقابل لخدمة يوحنا المعمدان، لأنها تعطي أوضح صورة للمسيح «ابن الإنسان»: هذا بالماء والنسك والامتناع الكلِّي عن الخمر وحياة البراري، وهذا بعرس قانا الجليل وبتحويل الماء إلى خمر، حيث التنبيه الذي تستحدثه المعجزة هنا يتركَّز في الدعوة إلى الانتقال من الماء - رأسمال يوحنا المعمدان - كقوَّة للتطهير وللتغيير بالتوبة والسلوك، إلى المسيح نفسه كقوَّة فائقة عُظمى للتغيير في صميم الطبيعة وبالتالي في سلوكها!! فالمسيح هنا إذ يُخضع الماء ويحوِّله إلى ما ليس ماءً بسلطان كلمته، ينبِّه بشدَّة إلى أن القوة التي يتوق إليها الإنسان للتغيير والتوبة والفرح والعزاء كائنة أصلاً في المسيح وفي كلمته!! كما أن المعجزة تشير كذلك إشارة خفية مُبدعة إلى أن الخمر، بحضرة المسيح، لم يعد هو مصدر الانتعاش والانتقال من الكآبة والهم إلى الفرح والتهليل، إذ يوجد الآن مَنْ هو أقوى فعلاً وأثراً من الخمر، المسيح الذي يخلق طبيعة الخمر ذاتها خلقاً!! وبالتالي كل ما في الخمر من قوَّة، وأكثر!! «(حُبَّك) حبيبي أطيب من الخمر»!! (نش 1: 2) التركيز إذن في هذه المعجزة ينصبُّ في كلمة واحدة: المسيح كمصدر ”التحوُّل“. المسيح ينبِّهنا في بداية آياته وبداية خدمته أنه جاء ليكون هو وحده ”مصدر التحوُّل“ في حياة الإنسان: إذن لا بالنسك ولا بالبراري يكمن سر التغيير، ولا بالتطهيرات بالماء أو بالدعاء، ولا في إيليا ولا يوحنا ولا بالأنبياء، ولكن في المسيح يتم تحوُّل الإنسان، كما تحوَّل الماء سرًّا وبدون أي صلاة أو دعاء أو أي حركة ما، إلى ما ليس ماءً، إلى خمر جديد جيِّد، هذا الذي كان يتوهَّم الإنسان أن فيه راحته. معنى العُرس في التقليد العبري: مراسيم العُرس في التقليد العبري الأصيل وما يلازمه من احتفالات، تحمل معاني أعمق بكثير من كونه ”فرحاً“ أو حفلة أو مناسبة اجتماعية للسرور والمجاملات. والذي ننقله إلى القارئ من تقليد العُرس العبري في أيام المسيح هو من التلمود وكتب اليهود الطقسية القديمة كما يقدِّمها لنا أحد الحاخامات المتنصِّرين(2). وخلاصة القول أن العُرس كان يُعتبر نقطة حاسمة في حياة الشاب والشابة، يصوم كلاهما قبل التقدُّم إليه ويعترف كل منهما بخطاياه. فالزواج كان يُقدَّر في التقليد العبري على كونه بمثابة ”سر“، حتى أنه بمجرَّد تتميم عقد الزواج يحدث غفران تلقائي لكل خطايا الإنسان السالفة. ويعطينا سفر التكوين صورة واقعية بهذا المعنى، فامرأة عيسو التي كان اسمها قبل الزواج ”بسمة“ ونُطقها العبري الصحيح ”باسيمات“ (تك 36: 3) صار اسمها بعد الزواج ”محلة“ ونُطقها العبري الصحيح ”ماحلات“ (تك 28: 9) ومعناها ”محالة الخطايا“ أو ”مغفورة الخطايا“. وكان المعروف أن العلاقة التي تربط العريس بالعروس هي على نمط ما هو قائم بين يهوه وشعبه ككل!! وهذا يردِّده الكتاب المقدَّس مراراً وتكراراً حتى صار من صميم تعاليم الربِّيين. وهكذا كان ارتباط العريس بالعروس يوم القران - في مفهوم الشعب - يقوم على أساس ارتباط الله بإسرائيل. لذلك كان الاهتمام الشديد لحضور أي حفلة عُرس بالنسبة للشعب وقادته ينبع من مفهوم الشركة في تعميق سر ارتباط الله مع شعبه، وتكريم قيام وثبوت وعود الله الخاصة بازدهار الأُمة! بهذا المعنى كانت حفلة العرس يُعتنى بتنسيقها جدًّا، وبتوفير مصادر الفرح لها من قِبَل الأغنياء ورجال المجمع، إذا كان الزوجان فقيرين، لأن ذلك يُحسب تكريماً للعلاقة التي تربط الله بالمجمع وبالشعب!! وبالتالي كانت مراسيم الزواج المفعمة بالخشوع والتقوى والإحساس الديني تتخلَّل حفلة العرس ذاتها من أول لحظة إلى آخرها كحفلة مقدَّسة، حيث يكون السرور والفرح والرقص والتصفيق باليدين وشرب الخمر، بعد الصلاة بالبركة عليه(3 ). كل هذا، على المستوى الديني، لا تشوبه أي شائبة انحلالية، بل كأعمال مقدَّسة تكريماً للرب ”يهوه“. بل إن مجرَّد الخطوبة التي تسبق الزواج والتي نسمِّيها الآن؛ ”جي بنيوت“، أي قراءة «أبانا الذي»، كانت تسمَّى بالعبرية ”عروسين قدوشين“، أي دخول العروسين في القداسة!! وحين كان يقف أحد المسئولين أو الكهنة ليعدِّد أوصاف وفضائل وجمال العروس كان هذا يُحسب ضمن الطقوس المقدَّسة!! كل هذا يجعل حضور المسيح حفلة عُرس لعريسين فقيرين «ليس لهم خمر»، أمراً طبيعياً يدخل في صميم رسالته كعريس حقيقي لكل نفس، خاصة وأنه أول عمل يأتيه مدعَّماً بآية. فإن كان حضور العُرس محسوباً أنه خدمة دينية وواجب لكل إسرائيلي ولكل ذي غيرة، فإنه بالنسبة للمسيح هو بمثابة تقييم جديد لمعنى العُرس في العهد الجديد. إذ بحضوره تمَّ حضور الله. وهكذا أصبح الزواج المسيحي مدموغاً منذ عرس قانا حتى اليوم بطابع ”السر الإلهي“، حيث مفهوم سر الزيجة ينحصر في معنى ”حضور المسيح“، لجعل رباط الزيجة قائماً ودائماً بين ثلاثة وليس بين اثنين «فالذي جَمَعَهُ الله لا يُفرِّقه إنسان» (مت 19: 6)!! حيث المسيح في كل زيجة هو مقيم الوعد وضمين العهد بين الزوجين، لتحويل الحياة من مستواها الزمني العادي إلى مستواها الخالد والأبدي، بسر حضور الله (على مستوى تحويل الماء إلى خمر)! وعندما قصد المسيح أن تكون بداية خدمته واستعلان مجده من داخل عُرس، لم يكن إلا مشيراً بإصبع المناسبة والآية إلى نهاية خدمته، حينما يستدعينا جميعاً إلى عُرسه الخصوصي لحضور «عشاء عُرس الخروف» (رؤ 19: 9)، حيث نكون نحن موضوع هذا العُرس، وموضعنا موضع العروس!! «لأني خطبتكم لرجُلٍ واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (2كو 11: 2) إذن فآية عُرس قانا الجليل تعود أيضاً ومن طرف خفي لتنبهنا إلى مكانة المسيح الحقيقية سواء في ”قانا“ أو في حياتنا، فهو العريس الحقيقي أينما حضر، ونحن معه دوماً أينما كان وأينما كُنَّا، كعروس تتبع دائماً عريسها، إذن فعُرس قانا هو عُرسنا، والعريس فيه هو عريسنا، والعروس فيه هي نفسنا ... آه يا نفسي متى تدركين موقعك من المذود والأردن، ومن قانا والصليب، والقبر والسماء؟ المعجزة: لقد قصدت العذراء أن تعلن ابنها للعالم بصفته المسيَّا، وكانت تستعجل مجده لأنها كانت تعلم ذلك بيقين، وتتحيَّن الفرصة باشتياق بالغ الشدَّة لكي تُشرك كل إسرائيل فيما أدركته وتحقَّقته من سر مجد المسيح رجاء الدهور كلها ... ولكن لم تكن العذراء الطيبة تُدرك أن بدء استعلان المسيح هو هو بدء ظهور شبح الصليب، ويوم الإعلان عن حقيقته ومجده هو هو بدء العد التنازلي لأسبوع الآلام!! «ما لي ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد!» (يو2: 4). وما كان ألزم للعذراء جدًّا في نظر المسيح أن تبتعد عن سكة الصليب! وما كان أحوجها جدًّا في نظره أن لا تكون هي نفسها سبباً معجِّلاً للسيف الذي سيجوز في نفسها عندما تراه معلقاً على الصليب! ولكن من أجل إيمانها وثقتها المطلقة فيه ومن أجل تقديره الخاص لها، لم يردها عن سؤالها. وبعد عتاب قصير ومختصر استجاب لها، فكان بداية مجده وبداية آلامه معاً وعلى حد سواء!! ولكي نرفع الغموض الذي يحيط بمخاطبة الرب للعذراء قائلاً لها: «يا امرأة»، ينبغي أن ندرك أن المسيح يتكلَّم هنا من موقع الألوهة فهو على وشك إتيان معجزة خلق فائق الطبيعة، فهنا ابن الله يخاطب أماً بشرية!! وفي هذا الأسلوب يشير المسيح إشارة بليغة للعذراء أنه قد دخل في مجاله الإلهي لبدء خدمته العليا التي لا تحتمل بأي حال من الأحوال مشورة امرأة أو أي بشر، لقد قال لها مرَّة وهو ابن اثنتي عشرة سنة «ينبغي أن أكون فيما لأبي» (لو 2: 49)، أما هنا فقد دخل، وإلى الأبد، في علاقته السرية مع الآب، حيث ليست مشورة إلا من الآب فقط!! كذلك لا نستطيع أن نعبر بسهولة على طريقة العذراء القديسة في عرضها لسؤالها «ليس لهم خمر» (يو 2: 3). فهنا سؤال هو هو الصلاة بعينها، ولعلها أقصر صلاة وردت في الكتاب المقدَّس كله وأكثرها وثوقاً وتأكيداً وأمانة. ليت صلاتنا تكون هكذا مختصرة أشد الاختصار، واثقة أشد الوثوق، لا تزيد عن عرض واقعي لما هو حادث «ليس لهم خمر»! وبالرغم من رد المسيح الذي يكاد أن يحمل عدم الاستجابة أو على الأقل استنكاراً لسؤالها، إلا أن العذراء القديسة كانت تدرك أعماق المسيح الوديع، فلم يهتز يقينها من جهة استجابته لأعواز الناس، هذا ما تحقَّقت منه العذراء تماماً مدَّة ثلاثين سنة معه «مهما قال لكم فافعلوه» (يو 2: 5). وهنا ينكشف مدى قناعة العذراء في استطاعة المسيح اللانهائية، ويكشف مدى إدراكها لسر المسيح في استعداده المطلق للاستجابة!! ماء التطهير: الماء هنا للتطهير بغسل الأيدي والكؤوس والأباريق والصحائف النحاسية، ستة أجران، وليس سبعة، إشارة إلى أن استهلاكها يمتد على مدى ستَّة أيام الأسبوع فقط، أما السابع - السبت - فهو راحة، ولا يحتمل إجراءات التطهير، والجرن الواحد الحجري يسع من صفيحتين إلى ثلاثة، إذن فهي مساوية حجماً للأزيار الصغيرة المُستخدَمة الآن. المسيح يجد في ماء التطهير مصدراً حسناً لإجراء المعجزة، لكي يوقف معنى التطهير الشكلي، فالماء تحوَّل كله إلى خمر. لقد انتهى الماء من الأجران، وبالتالي انتهى عصر التطهير بالماء في حياة الإنسان. الخمر في أجران وليمة العُرس هنا إشارة سريَّة تمتُّ بصلة وثيقة إلى خمر ليلة العشاء الأخير المقدَّم بوصفه الدم المزمع أن يسفكه على الصليب للتطهير الحقيقي بمغفرة الخطايا. تحول ماء التطهير إلى خمر هنا هو عملية تمهيدية، أكملها المسيح ليلة العشاء بتحويل الخمر إلى دم حقيقي لمغفرة الخطايا. إذن فالمسيح بتحويله ماء التطهير كله إلى خمر، كان يشير في الحقيقة إلى نفسه كمصدر حقيقي للتطهير «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي» (عب 1: 3). كذلك فإن عملية تحويل الماء إلى خمر كأول عمل يأتيه المسيح بمعجزة في بداية خدمته الخلاصية، كانت عملية تنبيه عميقة لأذهان المترجِّين لخلاص إسرائيل، فهنا عصر موسى من جديد، عصر الخلاص، موسى الذي حوَّل الماء في أنهار مصر إلى دم، وفي بداية خدمته أيضاً، لإظهار قوة الله ومجده على يديه، لعل شعبه يؤمن به ويستجيب لعمل الخلاص المزمع أن يقودهم فيه، لذلك يشير إنجيل يوحنا إلى ذلك خفيًّا عند قوله: «وأظهر مجده فآمن به تلاميذه.» (يو 2: 11) وينبغي هنا أن نلفت نظر الباحث إلى أن يوحنا الحبيب وحده هو الذي سجَّل لنا هذه الحادثة في إنجيله، والعلَّة في ذلك ظاهرة لأن التلاميذ لم يكن عددهم قد تكامل بعد عند إجراء هذه المعجزة، فالذي حضرها على وجه التحقيق خمسة تلاميذ كان أولهم يوحنا. ومعلوم أن يوحنا الرسول فوق أنه كان شاهد عيان لهذه المعجزة، فهو الوحيد أيضاً الذي اطَّلع على دقائق الحوار الذي حدث بين المسيح والعذراء سرًّا، وذلك بسبب تواجد العذراء معه وفي بيته مدَّة طويلة بعد الصليب، وهي التي أخبرته بكل الأمور. كذلك ينبغي للقارئ أن يكون على بيِّنة من الأسلوب السرِّي العجيب الذي يكتب به يوحنا الرسول إنجيله، فهو يطرح الحديث والقصة والمعجزة ببساطة متناهية، ولكن مقاصده عميقة وأهدافه جليلة للغاية. وهنا في قصة عُرس قانا الجليل إشارتان خطيرتان تهدف إليهما القصة من أولها لآخرها: الإشارة الأولى تختص بالمسيح العريس أو ”الختن“ الحقيقي معلَناً من خلال ”وليمة المسيَّا“. والإشارة الثانية «الخمر الجيد» الإفخارستيا، وسر الكنيسة، ومحور الخلاص، والفداء. الكنيسة انتبهت منذ البدء للخلفية السريَّة التي تتحرَّك في إطارها قصة عُرس قانا، فربطت الكنيسة في تعاليمها وفي أيقوناتها بين معجزة عُرس قانا الجليل (الخمر فرغ) وبين معجزة الخمس خبزات والسمكتين (الجموع الجائعة)، باعتبارهما التفسير الحي الواقعي الذي قدَّمه الإنجيل لمفهوم الإفخارستيا الروحي والإيماني، حيث يتركَّز في عُرس قانا مفهوم ”التحوُّل“ على أعلى وأوضح مستوى من التفسير. أما في معجزة الخمس خبزات فيتركَّز مفهوم اللامحدودية واللانهائية في سر الخبز (الجسد)، حيث الشبع المتولد منه والفائض يفوقان الأصل المنظور والمحسوس بدون قياس. ويلاحظ في المعجزتين أن الحاجة والجوع كانا الدافع لإجراء المعجزة، والإشارة هنا إلى الحالة الداخلية. فالحاجة إلى الخمر إشارة إلى الحاجة إلى الروح القدس للعزاء والسرور ورفع الهموم والغموم، والجوع الشديد إشارة إلى العوز إلى ”الجسد“ أي الكلمة طعام الحق للحياة الأبدية. المسيح في كلتا الحالتين وقف يسد أعوازنا كمصدر حقيقي للملء والسرور حتى الشبع، وهو لا يرضى أبداً أن يكون فرحنا وملؤنا من السوق، سوق العالم، مهما كان معنا من ألوف الدينارات!! «لا يكفيهم خبز بمئتي دينار.» (يو 6: 7) كذلك فإن التركيز على تحويل ماء التطهير إلى خمر ”جديدة“ في عُرس قانا لا يجعل العقل يفلت من إدراك قصد المسيح في اختيار عُرس قانا لبدء الإشارة إلى العهد الجديد «لأن الناموس بموسى أُعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا.» (يو 1: 17) وإنجيل يوحنا لا يطرح القصة بدون تمهيد إلهامي مثير للدهشة، إذ يبدأها بقوله: «وفي اليوم الثالث كان عُرس في قانا» (يو 2: 1). أما الذهن الروحي النشيط فلا يمكن أن يعبر على هذه اللفتة دون أن يدرك قصد الإنجيل. فاليوم الثالث في بداية هذا الأصحاح لا يعني شيئاً بحسب الحرف، أما عند المسيح والكنيسة كلها بل وبمقتضى نبوَّات العهد القديم فهو يشير إلى القيامة. إذن فقصَّة عُرس قانا بجملتها يضعها الروح بمحاذاة ”مجد“ القيامة، المسيح في إنجيل يوحنا يحقِّق قيامته منذ أول خدمته!! والمسيحي كذلك يدخل إلى مجد القيامة مع ”بني العُرس“ بعد سر المعمودية مباشرة. والكنيسة، بمقتضى الطقس، تحسب المسيح أنه عريسها لا منذ بدء معموديته، بل منذ أخذ اسمه ”يسوع“ المخلِّص شعبه، وذلك في يوم ختانته حيث الختانة هي التأهيل الطقسي لصلاحية العريس. لذلك فالكنيسة تسمِّي المسيح ”الختن“ الحقيقي، أي العريس الطقسي بالنسبة لها، فالكنيسة هي «امرأة الخروف» الذي ذُبح المسيح من أجل فدائها وتقديسها وهي الآن تتزيَّن له (رؤ 21: 2 و9). فـ”الختن“ و”العريس“ كلمتان مترادفتان في اللغة الأرامية التي كان يتكلَّم بها المسيح! «حينئذ قالت عريس دم، من أجل الختان» (خر 4: 26). والتشديد في قصة ”قانا الجليل“ يتركَّز على ”العُرس“ للإشارة إلى من أي مكان يبدأ المسيح خدمته: من حفلة عرس ليعلن نفسه كمصدر فرح للبشرية، وكإشارة إلى مركزه ”كعريس“ للبشرية المفدية. يوحنا المعمدان أيضاً يبدأ خدمته بالنسبة للمسيح، بالإشارة إلى المسيح كعريس، وإلى نفسه كصديق للعريس: «كشارب خمر (بالروح)» مع بني العرس، أي كشريك فرح (سمائي) ولكن ليس «كصاحب أو كمصدر الفرح». تحويل الماء إلى خمر جيد يشير إلى تحويل أحزان البشرية وعرق تعبها وكدها إلى فرح حقيقي: «مَنْ له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذاً فرحي هذا قد كمل.» (يو 3: 29) إذن فعرس قانا الجليل بالنسبة لنا هو حياتنا الجديدة، هو مصدر الفرح الحقيقي والدائم، حيث ينبع فرحنا باستمرار من ”صوت العريس“، عندما يأمر كل يوم أن يتحوَّل ماؤنا ودموعنا إلى خمر جيد، ليس في أجران متسعة، ولكن في ”كأس“، لأن الشبع والملء هما الآن على مستوى السر والروح. الكنيسة في كل يوم أحد هي في حفلة عُرس، وكأنها تقيم في قانا الجليل! إنجيل يوحنا يركِّز أيضاً على أن المسيح لا يبدأ المعجزة من فراغ أو من دائرة أبعد أو أرفع أو أقل من عالمنا، فهو لم يخلق الخمر من لا شيء، كما سبق ورفض أن يحوِّل الحجارة إلى خبز. ولكن من صميم مائنا يجري ”التحوُّل“، ومن صميم خبزنا يدخل ”البركة“. القصد هنا ينصبُّ على تقييم معنى وأسلوب حياتنا مع الله في العهد الجديد، على أساس عدم نقض أو إلغاء الواقع المادي أو الترفُّع عنه، ولكن تغييره إلى ما هو جديد وحق؛ وعلى عدم احتقار الموجود والمحدود، بل تكثيره بسر الشكر والبركة إلى ما يفوق العقل والحدود. والمسيح هو في سر التحوُّل حتى الملء وفي سر البركة والنعمة حتى الكمال «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا. ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين.» (يو 6: 13) فماء اليهود الذي للتطهير المحلي والجزئي على مستوى اليد والكأس، حوَّله المسيح لنا إلى خمر الإنجيل، أساس سر الدم والفداء الذي يطهِّر ضمير العالم كله. وخبز العرق والدموع الذي حمله الصبيان معهم لحاجة رحلتهم القصيرة عبر بحيرة طبرية أخذه المسيح في يديه وغرس فيه البركة، وجعله مصدر شبع وفيض للعالم كله، منذ ذلك اليوم إلى منتهى أجيال الدهور!! «الطعام الباقي للحياة الأبدية.» (يو 6: 27) وعطية المسيح دائماً يبدو جمالها وتبدو جودتها في النهاية بعكس عطية العالم: «كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً ... أما أنت فقط أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.» (يو 2: 10) وليس عبثاً أن يذكر إنجيل يوحنا كيف يبدأ المسيح خدمته في عُرس قانا بحضور أُمه العذراء وينهي خدمته بحضورها أيضاً على الصليب، لأنه كان هو بنفسه شريكاً معها في هذا وفي ذاك، فهو تلميذ حضن يسوع أما هي فأُم العريس بالدرجة الأُولى وشريكة في فرحه وآلامه بالضرورة، حيث لا يمكن فصل مجده في فرحه عن مجده في آلامه لأن في هذا يتمجَّد وبذلك يتمجَّد. لأنه في عرس قانا أظهر مجده، وعلى الصليب أكمل مجده!! في عرس قانا تمجد، وفي أحزان بيت عنيا تمجد!! المسيح إذن هو مجدنا في الفرح والحزن سواءً بسواء! فالمجد يتبع المسيح أينما سار. وأظهر مجده فآمن به تلاميذه: لقد تحيَّر المفسِّرون، وما هو مجده في آية تحويل الماء إلى خمر؟ أهو في المعجزة ذاتها أم في الظروف التي أحاطت بها؟ فإن كانت في المعجزة ذاتها فالذي آمن به هم تلاميذه فقط، إذن فالمعجزة لم تكن بالدرجة الكافية لتبهر غير الأخصَّاء. أما الظروف المحيطة بالمعجزة فهي لا تزيد عن كونها مشاركة اجتماعية مفروضة على ذوي الولاية من القربى أو من رجال الدين. إذن فأين يكمن مظهر المجد الذي استُعلن لتلاميذه من هذه الآية حتى آمنوا به؟ هنا يلزمنا أن ندرك أن أعمال الله تحتاج إلى أُذن مفتوحة مهيَّأة للسمع وعين مُبصرة مستعدة للرؤيا ... أُذن التلاميذ كانت مفتوحة وعيونهم كانت على أعلى درجة من الترقُّب للرؤيا، لأن علاقتهم بالمسيح لم تكن قد تجاوزت في جملتها أكثر من أسبوع واحد. إذن فالمعلِّم كان تحت الفحص الدقيق والملاحظة الشديدة والترقُّب المستبشر جدًّا والمستعد لإدراك أقل حركة فائقة وترجمة أي عمل خارق، وذلك بحساسية مرهفة غاية الإرهاف. لهذا عندما رأوا بعيونهم الماء وهو يُصبُّ في الأجران أمامهم، ثم رأوه يُرفع هو نفسه خمراً، وذاقوه وتحقَّقوه، حدثت في الحال المعجزة، لا معجزة تحويل الماء إلى خمر بل معجزة إيمانهم!! لقد آمنوا بالمسيح كليَّة!! إذ رأوا في هذا العمل أقصى ما يمكن أن يتمنوه أو يتصوَّروه وهو اختراق معلِّمهم لحاجز المادة. إذن، فهذا هو المسيَّا بكل ثقة وتأكيد. لقد انطبقت في أذهانهم كل كلماته العذبة وتعاليمه السابقة المنيرة على هذه القدرة الخارقة! لذلك كانت آية عُرس قانا الجليل آية المجد الأُولى لمعلِّمهم وأعظم الآيات طُرًّا في حياة التلاميذ الخمسة الأوائل، ويوحنا بالدرجة الأُولى!! ولكن ما كان أحوج التلاميذ، وما أحوجنا معهم أن نكون دائماً على هذا المستوى من الحساسية والإرهاف الشديد في تتبُّع أعمال المسيح في حياتنا ودنيانا. إنه كل يوم يحوِّل كل شيء أمامنا وفي حياتنا، ولكن الحاجة أشد الحاجة إلى الأُذن التي تسمع والعين التي تُبصر! إن كل شجرة - وليست العُلَّيقة وحدها - مشتعلة بالنار الإلهية ولا تحترق، ولكن ذا العين المفتوحة هو وحده الذي يرى وهو وحده الذي يخلع نعليه! وماؤنا يتحوَّل كل يوم إلى خمر، وخمرنا إلى قداسة وإلى حياة أبدية، والقريبون المترقِّبون هم وحدهم الذين ينظرون ويذوقون الرب ويتهلَّلون المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 فبراير 2020

يونان ونينوى ونحن

ليس عبثاً وضعت الكنيسة هذا الصوم المبارك في هذا الوقت بالذات، فترتيب الكنيسة دائماً مُلهَم. تعلمون أننا قادمون على الصوم الأربعيني المقدَّس. والكلام هنا مركَّز وموجَّه. فكلمة "الأربعيني" ذات أهمية خاصة. ذلك لأننا قادمون على موت يجوزه المسيح عن البشرية كلها، أو هو استبدال موت بهلاك، ذلك لأن البشرية كلها كانت في حالة هلاك أو مشرفة على هلاك وإبادة لا تقل عن إبادة الطوفان(2)، وذلك بسبب تعاظم سلطان الخطية وهذا ما حدا بالابن المبارك أن يترك مجده ويلبس بشريتنا ويتألَّم لكي ينقذ البشرية. لقد قدَّم نفسه للموت عوضاً عن هلاك البشرية ثم قام، فصار موته وقيامته مصدر خلاص وتوبة لا تنتهي. صار آية لكل مَنْ يريد أن يرث - لا أن يرى الإنسان بعد آية - بل يرث السماء نفسها. فهذا هو موت المسيح وقيامته. وهذا هو الصوم الأربعيني الذي صامه الرب عن البشرية كلها، ليوفِّي عنها كل نقص في نسك أو في صوم والكنسيون منكم يتذكَّرون أننا لازلنا نردِّد ألحان عيد الظهور الإلهي، أي التعميد الذي لا يتم حسب الطقس إلا بالتغطيس الكامل تحت سطح الماء(3)، أي في عمق المياه - أو بتعبير قصة يونان - نزل إلى بطن الماء. لذلك لما خرج المسيح من الماء اعتُبر ذلك مسحة خَدَم بها، تلك التي تقدَّم بها للدخول في صوم الأربعين يوماً، ثم إذا تجاوزنا الزمان أو التـزمنا بالطقس الكنسي ندخل مباشرة في أسبوع الآلام ثم الموت فالقيامة وهكذا يأتي صوم يونان قبل الأربعين المقدَّسة حاملاً معاني ورموزاً كثيرة ما بين الغطاس والموت على الصليب!! نعود إلى يونان. ونسأل: مَنْ هذا المدعو يونان؟ إنسان نبي، من العبرانيين، أتاه صوت الرب هكذا «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة » (يون 1: 1 و2)فقام يونان، يقول الكتاب إنه "قام وهرب" إلى ترشيش من وجه الرب، وذهب وهاج البحر السفر لم يوضِّح أكثر من هذا، وطبعاً إن أي عدم توضيح في الأسفار أو الإنجيل ليس معناه قصوراً أو خللاً في التدوين ولا حتى سهواً، ولكنه فسحة للفكر العمق وللنفس المتأمِّلة، لتستوعب الأشياء التي لا يمكن أن تُكتب في سطور. وأتمنَّى أن يكون هذا الكلام له صدى عند السامع، لأن كثيرين يشتكون من غموض بعض المواضع في العهد القديم؛ بل وفي الإنجيل أيضاً. صوت الرب يقول ليونان: اذهب وبشِّرها لأن شرَّها صعد أمامي. فهرب ونزل في بطن الماء وبقي فيه ثلاثة أيام، وبالتعبير الكتابي، المسيح نـزل إلى الهاوية ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. ويونان نـزل إلى العمق، في بطن الحوت، ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبتعبيره هو قال: «صرختُ من جوف الهاوية» (يون 2: 2)، وهكذا يبدو سفر يونان تطبيقاً ورؤيويًّا، وكل سطر وكلمة فيه تشير إلى المسيح بصورة قويَّة جداً. وهنا يمكن اعتبار يونان بمثابة يوحنا المعمدان في العهد الجديد الصارخ ليعد طريق الرب يونان رمز حيٌّ بشخصه، يمثِّل المسيح. عماد المسيح دفع به إلى الأربعين المقدَّسة، والأربعين إلى الصليب ثم القيامة. تماماً كما نـزل يونان الماء ثم ذهب لنينوى كارزاً لها بالتوبة قائلاً لها: إن المدينة ستهلك بعد أربعين يوماً - كأنما هنا إشارة خفية أن الأربعين يوماً هذه مهمة في تحديدات الله - وكأنها وفاء أقصى مدة محدَّدة للهلاك(4). لكن الرب وفَّاها وقضاها في صومه الأربعيني عن البشرية كلها أما هروب يونان، فكأنه يستصعب الدعوة، لكنه بعد أن نـزل في الماء وظلَّ فيها ثلاثة أيام حدث له شيء ما. لأنه بعد ما ألقاه الحوت على الشاطئ، قال له الرب مرَّة ثانية بنفس الألفاظ الأُولى: «قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ لها بالمناداة التي أنا مُكلِّمُكَ بها» (يون 3: 2)، فانصاع يونان وكأنما تجدَّد فكره بعد أن اعتمد لنينوى ثلاثة أيام في العُمق!! هنا شيء سرِّي حدث. وكأنما النـزول في الماء - معمودية يونان - هو اجتياز الموت والقيامة لنينوى. يا للعجب على الإشارات البليغة، يا للكنيسة التي تستطيع باللمسات الخفيفة أن تحدِّد صوماً محدَّداً أو عيداً معيناً. تحديدات كلها إلهام ورؤيا لمَنْ يريد أن يسمع أو أن يرى، وليس كالكتبة والفريسيين الذين قالوا له: «نريد أن نرى آية»، متغاضين عمَّا حدث من قبل وضعت الكنيسة هذا السفر أمام أعيننا في هذه الأيام لنستطيع أن نستوعبه لأنفسنا: أولاً في يونان، وثانياً في نينوى. لأن ليونان ونينوى رسالتين لنا في حياتنا. فيونان يضع لمسات صورة المسيح القادم من بعيد. ونينوى تبكِّتنا بشدَّة: «رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلاَّ آية يونان النبي.» (مت 12: 41 و39)«هذا الجيل»، لا يقصد به الوحي زمن جيل المسيح فحسب - كما يقول أغلبية الشرَّاح - ولكنه هو هذا الجيل أي كل جيل شرير وفاسق. كل جيل فيه الشرير والفاسق، فهو «هذا الجيل». أما جيل المسيح الذي هو جيل الرسل فهو جيل مستمر فينا وبنا حتى الآن. وأنتم تسمعون الكاهن يقول: "اذكر يا رب كنيستك الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية"، ثم تسمع في المجمع أسماء البطاركة حتى آخر بطريرك. فالكنيسة ممتدَّة من المسيح والرسل إلى هذا اليوم. فهو جيل واحد، هو جيل المسيح، وهذا اسمه. الجيل الشاهد للمسيح حتى آخر يوم في تاريخ البشرية، جيل ممتد، الجيل الطيب القديس الطاهر أما الجيل الآخر فهو جيل قايين، وجيل يهوذا، الجيل الصالب، هو أيضاً ممتد حتى هذا اليوم، فيه يهوذا وفيه الصالب أيضاً «جيل فاسق وشرير»، قد تبدو هنا قسوة في كلام المسيح، ولكن ليس الأمر كذلك. هو جيل فاسق وشرير لأنه زاغ عن الله. وإذا سمعت عن "الفسق والشر" في الإنجيل فلتفهم أنه يقصد الوضع الروحي وليس الجسدي (لأن الوضع الجسدي يمكنه بطعنة في الضمير الحي من سيف كلمة الله أن يحوِّل أشر الناس إلى القداسة). الشر الروحي، هو أن نعبد غير الله، أن نرتمي في أحضان الشيطان، هذه هي الخيانة الزوجية. لأن المسيح اتخذ الكنيسة لنفسه عروساً، حسب نفسه عريساً للكنيسة: «لأني خطبتكم لرجل واحد لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (1كو 11: 2)«جيل فاسق وشرير يطلب آية»، هل يريد من الله أن يرسل له ناراً من السماء؟ أو يرسل له منًّا من السماء يأكله ويشبع؟ ألم يقدِّم لهم الطعام في معجزة إكثار الخمس خبزات والسمكتين (إنجيل اليوم الثالث من صوم يونان)؟ ولكن لننتبه لأنفسنا جداً لأن الآية لا تزيد الإيمان، ولكن الإيمان بحد ذاته آية!! تذكرون قول الإنجيل إن المسيح «لم يصنع هناك (في الناصرة) قوات كثيرة لعدم إيمانهم» (مت 13: 58). لن يستطيع المسيح أن يعمل لك آية في حياتك إن لم يسبقها إيمان «ولا تُعطَى له آية إلا آية يونان النبي»، جيل فاسق شرير، وخطيته شنيعة جداً. لن تنفعه الآيات من السماء. ولكن آيته الوحيدة هي التي تقيمه من موت الضمير، وآيته هي آية يونان النبي، آية الموت لأن يونان في عُرف المنطق والعلم أنه كان يتحتَّم أن يموت في بطن الحوت، يونان مات، نعم مات، والرب أقامه، ولكن لمَنْ كان الموت؟ ما أجمله موتاً ذلك الذي نموته كل يوم من أجل الآخرين! ما أجملك يا يونان يا نبي الفداء وأنت تموت ثلاثة أيام بلياليها لتكفِّر عن خطيتك وخطية نينوى العظيمة!! الشرَّاح الغربيون يقولون عن سفر يونان أنه سفر خرافي، أما المتساهلون منهم فيقولون عن يونان إنه يمثِّل الابن الأكبر (في مَثَل الابن الضال)، لأن نينوى لما خلصت حزن يونان وصار مثل الابن الأكبر لم يُرِدْ أن يدخل البيت لا، لم يحدث هذا، الحقيقة العميقة هي أن يونان تمنَّع من الذهاب لنينوى لئلاً يبِّشرها بالخراب!! ولأنه يعلم يقين العلم أن الله طويل الأناة بطيء الغضب، وسيصفح حتماً في النهاية. لذلك هرب يونان لئلا يواجه محنتين: محنة التبشير بالخراب، وهو عسير كل العسر على النفس الوديعة؛ ومحنة رجوع الله عن غضبه، فيظهر يونان وكأنه يسخر من شعب غريب. ولكن أين يهرب يونان من وجه الله؟ فالله دائماً يطارد الخادم الهربان. فكل إنسان يمكن أن يهرب من وجه الله، إلاَّ من سمع صوته وحمل نيِّره وقَبـِلَ اسمه القدوس في الفكر القبطي يونان ليس هو الابن الأكبر الذي حزن على خاص نينوى، ولكنه مثال المسيح. هو نبي الفداء المبدع، لا يقلُّ بل ربما يزيد عن كل الأنبياء في العهد القديم، رقة ورهافة، لا يماثله في هذه الرهافة والرقة إلاَّ نبي واحد مظلوم مثله، هو أيوب.يونان لم يحتمل أن يكون كارزاً بالخراب. وفي إنجيل لوقا إشارة لطيفة جداً ولكنها سرية للغاية، تكشف عن حدوث صلة توبيخ لأهل نينوى بسبب المخاطرة العظمى والموت المحقَّق الذي تعرَّض له يونان من أجلهم: «وكما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل.» (لو 11: 30)إذاً، فقد بلغ أهل نينوى أن يونان عبر محنة الموت في داخل بطن الحوت ثلاثة أيام، ثم قام من أجل خلاصهم!!هنا يقصد إنجيل لوقا أنه كما كان يونان بنفسه (وليس بكرازته فقط) آية لأهل نينوى، هكذا يكون ابن الإنسان بنفسه آية لهذا الجيل، أي بموته وقيامته من الصعب جداً، يا إخوة، أن نتكلَّم كثيراً عن ضغطة الموت على مدى ثلاثة أيام بلياليها التي جازها يونان، ولكننا نعرفها أكيداً في تطبيقها على المسيح لما مكث ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في الهاوية ثم قام: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا (أي كرامات)» (أف 4: 8)، قام «ونفخ (في وجه تلاميذه) وقال لهم ... مَنْ غفرتم خطاياه غُفرت له» (يو 20: 22 و23). أعطى الحِلَّ والبركة على الأرض لتدوم إلى أبد الآبدين، إذ نسمع الكاهن يقول: «كما أعطيت الحلّ للتلاميذ ليغفروا الخطايا ...»، هكذا دام هذا الحلُّ الذي يفك كل الخطايا هكذا قام يونان وكَرَزَ لنينوى، ليحل عنهم بضيقة موته ثم بكرازته غضب الله!! ويبدو أنه قال لهم ما حدث له وأما من جهة نينوى المدينة العظيمة، فنحن آتون هنا لمنظر من المناظر الرهيبة، إذ بمجرَّد أن سمع الملك بما حدث ليونان، وبما نادى به، قام عن كرسيه الملكي وخلع ثيابه وفخفخته وجماله وفخره الكاذب، ولبس المسوح، والشعب كله لبس المسوح - والمسوح ثوب من شعر المعزى خشن الملمس جداً - وأعطى الملك أمراً أن يُرفع الطعام عن كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً حتى الرضيع على صدر أمه - يا للهول - وعن البهائم كلها، وهنا وكأنما الخليقة كلها تتمثَّل في قصة توبة نينوى.وكان ذلك إلى ثلاثة أيام. مدينة فيها "واحد على ثمانية" مليون نسمة تتوب كلها ويعفو الرب عنها من أجل توبة جماعية ناشطة وتدبير متقن لهذا الملك النصوح الواعي الذي استطاع بحكمته أن يرفع حكم الموت عن شعبه؛ يا للرعاية ويا لحكمة الراعي!! ثم ما هذا الحضن المتسع يا الله؟ إن هذا عجب كبير حقاً! مدينة وثنية تؤمن بالله بكرازة واحدة؟ نعم، ليس بآية من السماء ولا من الأرض تتوب البشرية أو يُعفَى عن إثمها، بل بالاتضاع والصوم والصلاة وتذلُّل القلب لدى الله القدير!آه لو علم كل خاطئ هذا، ما استكثر خطاياه أبداً عن عفو الله. لو علمت الكنيسة ما ينبغي أن تكون عليها من توبة جماعية، لجلست مع أبنائها في هذه المسوح وفي تراب المذلة إلى أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء، ولكانت أزمنة الفرج تأتي من السماء سريعاً!! كما قال بطرس الرسول (أع 3: 19)يا أحبائي، إن تعطَّلت أزمنة الفرج فالعيب هو منا، نينوى كانت تسير إلى الهاوية والهلاك أكيداً وسريعاً، ولكن بوقفة شريفة شُجاعة أمينة على قدر الدعوة وقدر التهديد استطاعت أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء. ماذا يعوزك أيها الخاطئ؟ أيعوزك المسوح؟ أيعوزك التراب؟ ماذا يعوزك؟ لو كانت التوبة بذهب وفضة، لو كانت تستلزم سلماً عالياً نطلع به إلى السماء، لو كانت تستلزم منا جهداً نفسانياً أو عقلياً أو جسمانياً أو حكمة فائقة أو علماً زاهراً، لكي نحدر المسيح من السماء أو نصعده من الهاوية؛ لقلنا إن التوبة صعبة وشاقة. ولكن ملك وشعب ونساء وأطفال وبهائم نينوى عرفت طريقها سريعاً إلى النجاة. فما بالنا نتعطَّل نحن، وما بالنا نذهب يميناً ويساراً ونستشير الكبير والصغير، والخلاص أمامنا وبابه مفتوح، والذين دخلوا منه كثيرون، ومن كل شعب ولسان وأُمة!!وها هي نينوى تضع لنا نموذجاً لتوبة بسيطة قادرة بعنفها أن تفتح أبواب السماء وتحدر عفواً شاملاً بلا أي استثناء للمدينة بأسرها، قيل عنها في الكتاب إنها لا تعرف شمالها من يمينها!يا إخوة، نحن قادمون على الأربعين المقدسة، يعوزنا قلب كقلب ملك نينوى وشعب نينوى. أما مجرَّد ذكر البهائم الصائمة وهي خائرة على مذاودها ففيه توبيخ لنفسي، لأني أرى في نفسي وحوشاً ضارية تتعالى على غيرها كما يعلو الأسد على الغزال. كم فيكِ يا نفسي من غرائز تحتاج أن تُذلَّل بالجوع والمسوح؟ منظر نينوى وبهائمها واقفة على المذاود تئن، مرعب لشهواتي وملذاتي. الثيران وقعت من الجوع خائرة. وكم فيكِ من هذا يا نفسي يا مدينة الله! ما أجملكِ يا نفسي وأنتِ جالسة في المسوح والتراب متشبِّهة بنينوى!! جيد لكِ يا نفسي في هذه الأربعين المقدسة أن تَرْبُطي حواسكِ كلها، البهيمي منها والوحشي، ولا تفتكري أنكِ بنت المدينة العظمى التي تعرف شمالها من يمينها، لأن الخطية لا يتعالى عليها إلا مَنْ ذاق ما ذاقته نينوى!اليوم يا أحبائي، أكشف أمامكم سر السماء بلا ستار، بلا حجاب؛ ملك يترك عرشه، وينتـزع الخلاص، وينتـزع العفو السمائي، بتوبة جميلة رائعة استطاع أن يحصل عليها وهو في التراب والرماد ثقوا، إن ساعات الخلاص وأيام الرجاء لا تأتي جزافاً أبداً. إن كنت تريد خلاصاً سريعاً، إن كنت تريد أزمنة فرج، فاليوم تعلَّم من درس نينوى، وهو درس للأجيال كلها جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلا آية نينوى آية نينوى لا تقل إطلاقاً عن تفتيح عيني الأعمى، وعن إطعام الجائعين بخمس خبزات وسمكتين، وتحويل الماء إلى خمرآية نينوى فاقت كل آية إلا موت المسيح وقيامته، ولكن الجديد في آية نينوى أنها تابت بمناداة نبي، والآن الصوت الذي ينادينا أعظم من كل نبي لأن يونان نادى بالموت أو التوبة، ولكن المسيح يقدِّم لنا موته قوَّة حية محيية قادرة أن تُقيم من الخطية والموت!!اليوم يا أحبائي يوم نينوى ونبيها الرقيق المشاعر، النبي الفادي القائل: "هذه خطيتي" حينما هاج البحر ولم يقل "هذه خطية نينوى"يونان هنا ينادي كل خادم، كل واعظ، كل كاهن، كيف يرى خطية شعبه ومدينته، ويرى في آلامه وحزنه وضيقه، بل وموته فدية لأولاده وصلَّى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال«دعوت مِنْ ضيقي الرب فاستجابني. صَرَختُ مِنْ جوف الهاوية فَسَمِعتَ صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار. فأحاط بي نهرٌ (نهر الموت). جازت فوقي جميع تياراتك ولججك. فقلت: قَدْ طُردتُ مِنْ أمام عينيك (إلهي إلهي لماذا تركتني؟). ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك (وفي اليوم الثالث أقوم). قد اكتنفتني مياهٌ إلى النفسِ (هذا المزمور يُقال في يوم جمعة الصلبوت). أحاط بي غَمْرٌ. التفَّ عشبُ البحرِ بِرَأْسِي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي. حين أعيت فيَّ نفسي ذكرتُ الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك. الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم. أما أنا فبصوت الحمد أذبح لكَ. وأوفي بما نذرته. للرب الخلاص.» (يون 2: 2 - 9) هكذا تكون صلواتنا في ضيقاتنا. اشْتَكِ للرب فقط، شكوى الممنونين "جازت عليَّ آلامك يا رب. أجزتني المحنة وأمررتني تحت العصا. المرُّ في حلقي. دخلت المرارة إلى قلبي وإلى نفسي". وكما يقول النبي: «توجعني جدران قلبي» (إر 4: 19)، بتعبير عجيب، كلها أنين الشكر وشكوى الحمد إن صلاة يونان هي المزامير الجديدة للسائرين في طريق الجلجثة والتي حتماً تردِّد قرارها في السماء كل الأرواح المبرَّرة المكمَّلة في المجد. إنها السلم الجديد الذي نرتفع عليه لكي نطل خلسة إطلالة سريعة على المجد المعد!نعم، هكذا يُغتصب ملكوت السموات! بصلاة كصلاة يونان وهو في عمق الهاوية. اليوم يا أحبائي، هو يوم التوبة الغاصبة لحقوق القديسين وميراث ابن الله. اليوم، مفهوم جديد لمعنى الكرازة بالبذل حتى الدم. اليوم، دعوة للكارز ليسلك طريق النجاة لنفسه وشعبه، للراعي والرعية. هذه نينوى تعطينا صورة حاسمة لكل دقائق ومعنى استرضاء وجه الله!! يا رعية الله، صغيرها وكبيرها، شيخها وطفلها، مريضها وسليمها، هذه نينوى أمامنا آية ويا كارزي المسكونة، ويا واعظي الكنيسة، هوذا يونان لكم اليوم مثلٌ يُحتَذى، كيف كان وماذا صار. فيونان قَبـِلَ أن يدخل محنة الموت والثلاثة الأيام بلياليها ما كان نافعاً لا لنينوى ولا لنفسه، حيث كان سيذهب إلى ترشيش ليأكل الخرنوب مع الخنازير وها هو يونان بعد أن صلَّى من عمق التجربة وأهوال الموت يرينا كيف جاز التجربة حتى النهاية، وصار يونان كارزاً بشبه المسيح، وحُسب له موته بشبه فداء. وهكذا تكرَّم يونان بهذه التجربة فصار هو النبي الوحيد الذي أخذه المسيح ليضعه نموذجاً لموته وقيامته! وآية للتائبين!! صلاة يا رب الفداء الحقيقي الذي منك نستمد كل معنى وكل قوَّة للفداء، أعطِ يا رب روح الفداء لرعاة شعبك، الكبير منهم والصغير، العجوز والحَدَث، المطران والكاهن، أعطهم روح يونان يا رب، وأما رعيتك فأعطها طاعة كطاعة نينوى لمليكها لقبول مرارة التوبة لتنجو ولا تُدان مع العالم، وليؤمن شعبك بالحق أن الرب قادر أن يميت ويُحيي فيا شعب الله اطلبوا الحياة بسيرة التوبة ولا تسعوا بسيرة أهل العالم في طريق الموت يا رب أعطِ رعيتك جميعاً روحاً كروح نينوى في هذا اليوم ليتوب شعبك، وتتوب كل مدن ممالك الأرض إليك، ولتأتِ أزمنة الفرج سريعاً من عندك على العالم. آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
19 أبريل 2021

إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السابع من الصوم المقدس

المزمـور: «12أَحْمَدُكَ يَـا رَبُّ إِلهِي مِـنْ كُلِّ قَلْبِي، وَأُمَجِّدُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْـرِ. 13لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْهَاوِيَةِ الْسُفْلَى» (مز 86: 13،12). الإنجيل: «31إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا.32اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ.33أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. 34وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. 35كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. 36وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَـدْ أَرْسَلَنِي. 37وَالآبُ نَفْسَهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ، 38وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِـهِ. 39فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الِّتِي تَشْهَدُ لِي.40وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. 41مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ، 42وَلكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. 43أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ. 44كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ 45لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. 46لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. 47فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كَلاَمِي؟» (يو 5: 31-47). بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين إنجيل القدَّاس: إنجيل قدَّاس اليوم يحتاج منَّا إلى شرح. وإن كنتُ أودُّ أن يكون الكلام لأنفسنا؛ ولكن لأن الكلام يظهر كما لو أنَّ فيه نوعاً من التعارُض، لذلك أصبح لِزاماً عليَّ أن أشرحه أولاً. في الأصحاح الخامس (يو 5: 31)، نجد أن الرب يسوع يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا»؛ بينما في الأصحاح الثامن (يو 8: 14)، يقول: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». هنا نجد تعارُضاً ظاهرياً بين الآيتين، لابد أن نحلَّه أولاً. سنشرح الوضع المذكور في إنجيل يوحنا - الأصحاح الثامن. فالمسيح يُقرِّر في شهادته لنفسه أن‍ها حـقٌّ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، أن‍ها شهادة شخصية مُفردة، وذلك في ردِّه على الكَتَبَة والفرِّيسيين الذين كانوا يقولون له: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، في أعقاب قوله: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ». وكان كلامهم على أساس الناموس الذي يُقرُّ أنه لا تؤخذ شهادة شخصية من شخصٍ بعينه، بل كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَيْن أو ثلاثة. ففي هذه الواقعة يقول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». على أيِّ أساس؟ على أساس مـا ذَكَره الرب لاحقاً: «لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِـنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ». هـذه هي الحجَّة التي ذَكَرها المسيح: ”إنني أشهد لنفسي، وشهادتي حقٌّ؛ وأشهد شهادة شخصية، وهي حقٌّ؛ لأني أعلم من أين أتيتُ وإلى أين أذهب!“.هنا يُوضِّح المسيح أنه جاء من عند الله، وإلى الله سيذهب! إذن، فهو من الله. وإذن، هو من الحقِّ، وإلى الحقِّ يذهب. إذن، هو حقٌّ، وهو يشهد للحقِّ! فالحقُّ لا يطلب شهادة من أحدٍ، تماماً مثل النور، الذي يشهد لنفسه. فهل إذا كان النور مُشرقاً، يحتاج لِمَن يشهد أنَّ هذا نورٌ؟! هكذا المسيح، لأنه يشهد للحقِّ، فهو لا يحتاج إلى شهادة إنسانٍ قط! لماذا؟ لأنه هو نفسه جوهر الحق، فأصبح لا يحتاج إطلاقاً أن يشهد له آخر. وفي نفس الأصحاح الثامن، يقول المسيح: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو 8: 18). هنا الرب لا يقصد أن هذه شهادة اثنين، ولكن لكي يسدَّ ثغرة الناموس، التي فتحها الكَتَبَة والفرِّيسيون بقولهم: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، قـال لهم: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ». فهي شهادة اثنين بالنسبة لهم؛ أما بالنسبة له، فهو يشهد للحقِّ الذي فيه، والحق الذي في الآب. وبالتالي فهو غير محتاج أن يشهد له شخصٌ آخر. أمَّا في الأصحاح الخامس من إنجيل قدَّاس هذا الصباح، فإنَّ الرب يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا». هنا ينطلق المسيح من مبدأ آخر غير الناموس الذي يُقرُّ أنَّ كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَين أو ثلاثة، هذا المبدأ الهام يُوضِّحه بقوله: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ». فعلى أيِّ أساس يقول المسيح: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ»! بالرغم من معرفتنا جيداً أنه يُطالبنا أن نُمجِّده؟ ذلك على أساس أنه لا يشهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس؛ لأنه إذا شهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس، تكون شهادته حينئذ ليست حقّاً. لماذا؟ لأنه في هذه الحالة يطلب مجد نفسه؛ والذي يطلب مجد نفسه، لا يطلب بالطبع مجد الله! فالمسيح يقول ما معناه: ”إن كنتُ أشهد لنفسي لأتقبَّل مجداً أو كرامةً من الناس، تكون شهادتي ليست حقّاً“. فهو يَعتَبِر أنَّ شهادة يوحنا المعمدان، وشهادة كل الأنبياء، وشهادة موسى نفسه وكل التوراة؛ هي للإعلان عنه، أو لاستعلان مجده فقط. ولكنها جميعها غير قادرة أن تُضيف إليه مجداً. فهو في غير حاجة إلى كلام النبوَّات لتشهد له، لأنه هو بعينه الحق. النبوَّات جاءت لكي يعرف الناس أنَّ المسيح هو الحق، وليس لكي يُزيدوه حقّاً أو مجداً! ولذلك بعد أن قال لهم المسيح: «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ»، أردف قائلاً: «وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فالمسيح في مطلع هذا الأصحاح، يقول: «اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ»، هذا الكلام هو عن ”الآب“. والشهادة إذا كانت حقّاً، فتكون من الآب؛ أمَّا إذا كانت الشهادة للحقِّ، فتكون من يوحنا المعمدان! «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ». لماذا وجَّه المسيح النظر إلى يوحنا المعمدان؟ لقد وجَّه المسيح نَظَرَهم، بل ونَظَرنا نحن أيضاً، إلى يوحنا المعمدان، ذلك لكي يُظهِر أن شهادة يوحنا المعمدان، وكذلك كل الشهادات السابقة عليه، حتى موسى النبي؛ هي شهادات لأجلنا نحن، وليست له هو. ولذلك قال: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فكل ما قاله المسيح، وكل ما عمله، وكل ما شهد به للحقِّ؛ هو من أجلنا نحن، وليس من أجل أن يتمجَّد هو! إذن، أصبح قول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، هي في نظرنا وفي نظر السامعين له، لمجد الله الآب. وبالتالي فتكون شهادته لنفسه حقّاً، لأن‍ها لمجد الآب.أمَّـا إذا كـانت شهادة المسيح لمجد نفسه، فتكون هـذه الشهادة ليست حقّاً. ذلك لأن الفرِّيسيين ات‍هموه أنـه يشهد لنفسه، أي يطلب مجد نفسه، يسعى لمجده الذاتي. وفي الحقيقة هم تكلَّموا ب‍هذا الكلام، لأن‍هم مُلوَّثون بالبر الذاتي، وب‍هذه الأفكار. ولذلك فإنَّ المسيح أَظهر ما في نيَّتهم، وكَشَفَ إيمان‍هم وأعمالهم، وبالتالي أنـذرهم قائـلاً: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟» (يو 5: 44). مُحاصرة المسيح للفرِّيسيين: في الحقيقة، إنَّ مَن يقرأ هـذا الأصحاح (الخامس)، إذا لم يتمعَّن في هذه الآية التي ذُكِرَت آنفاً، سوف لا يفهم الأصحاح كله. فـالرب يسوع حاصر الفرٍِّيسيين من خلال هذه الآية، وكَشَفَ ما في داخلهم: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِـنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟». فوراء هـذه الكلمات معاني مخفية، إذ أنَّ العبادة والإيمان انقلبا عند الفرِّيسيين إلى فرصةٍ لتمجيد ذوات‍هم. فعبادت‍هم ليست عبادةً حقيقية، فهي ليست للحقِّ، ولا من أجل الحقِّ؛ ولكنها عبادة تبتدئ بأنفسهم، وتنتهي إلى أنفسهم! لقد توزَّعت عليهم درجات التكريم والتمجيد من الناس، بل وطالبوا الناس ب‍ها. وبالتالي اهتموا جدّاً بالكرامات الذاتية، والأمجاد الذاتية؛ في الوقت الذي نَسَوْا فيه مجد الله وكرامته! ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟». وهذا معناه - بحسب قـول المسيح - إن‍هم تغاضوا عـن مجد الله: «وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ». فَهُم أولاً نَسَوْا مجد الله، ثم بعد ذلك أهملوه، ثم أخيراً أحسُّوا أن‍هم في غير حاجة إليه! وبالتالي لم تبقَ العبادة - بالنسبة لهم - أساسها تمجيد الله، أو السعي لتمجيده، بالتسبيح أو بالصلاة أو بالسجود أو بالترتيل أو بكلِّ أنواع العبادة! فالعبادة كلها التي كان ينبغي أن تَصُبَّ في اتِّجاهٍ واحد، وهو مجد الله؛ أصبحت بكل ما فيها من كلام وتحية وصلاة وتسبيح لأجل مجد ذوات‍هم. وذلك لكي تُظهِر الشخص منهم أنه يعرف أن يُسبِّح بإتقان، ويعرف أن يتكلَّم جيِّداً، ويعرف أن يعظ بتدقيق؛ هذا كله من أجل مجد الشخص الذاتي، وليس مجد الله، ولذلك انتهت العبادة الحقيقية! استحالة أن يتوافق الإيمان الحقيقي مع طلب الإنسان مجده الذاتي: ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا...؟». فيستحيل الإيمان الحقيقي طالما أنَّ الإنسان يطلب مجد نفسه. وبالتالي يستحيل أن يسمح له الله أن يُمجِّده، مهما حاول! هذه نقطة خطيرة يُثيرها المسيح. فهذا الأصحاح من إنجيل القديس يوحنا يُركِّز على هذه النقطة بشدَّة، لأن‍ها في الحقيقة أكبر لوثة لوَّثت العبادة والإيمان، أن يطلب الإنسان تزكية لنفسه، أن يسعى لمجد ذاته. كل هذا مِمَّن يطلبه الإنسان؟ يطلبه من إنسانٍ مثله!! إذا قرأنا في إنجيل القديس متى، نجد ما هو أصعب وأكثر مِمَّا قيل في إنجيل القديس يوحنا، إذ يقول المسيح عـن الكَتَبَة والفرِّيسيين: «وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ، فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِـمْ، وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِـمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!» (مـت 23: 5-7). متطلبات الشهادة للمسيح: ولكن لا يتبادر إلى ذهن أحد، أنَّ المسيح لا يُريد شهادة من إنسان! فهو بالرغم من أنه غير محتاج إلى شهادة من أحدٍ، إلاَّ أننا نحن المحتاجين أن نشهد له. أن نشهد للمسيح بالقول والفكر والعمل، في كل موقف مـن مواقف الحياة: إن أكلنا لابد أن يكون ذلك لتمجيد الله، وإن شربنا كذلك، وإن نمنا، وإن عملنا أي عمل، لابد أن يكون كل ذلك لمجد الله! لماذا؟ لأنه، في الحقيقة، إذا مجَّدنا المسيح أو شهدنا له؛ فنحن نشهد للحقِّ. معنى هذا أنَّ الحق انكشف لنا، أنه استُعلِنَ لأعيننا. فنحن أبناء الإيمان، أولاد الشهداء. فالشهادة للمسيح ينبغي أن تكون عـن وعيٍ تام، ذلك أننا نشهد للحقِّ. فالحق لابد أن يكون مُستَعلَناً لنا تماماً، حتى تكون الشهادة له ذات فاعلية في قلوب الناس وعقولهم.فالإنسان الذي يشهد للمسيح، وهـو لا يُدرك شيئاً كثيراً عنه، فيكون إنساناً بسيطاً وساذجاً! ولكن الشهادة للمسيح عن وعيٍ وإدراك، تحتاج تلمذة لفتراتٍ طويلة قدَّام الإنجيل، وتحتاج لصلواتٍ متواترة، تحتاج لسؤال مَن لهم خبرة في الحياة الروحية... إلخ؛ حتى يستوعب الإنسانُ الحقَّ. أمَّا إذا شهدنا بكلماتٍ لا نعرف معناها ولا عُمقها؛ فهنا نكون كمَن لا يشهد إطلاقاً، إذ تكون شهادة بلا قيمة، وبالتالي لا تُقبَل شهادتنا! المسيح يطلب الذين يشهدون له، وهـو يطلب الساجدين له، وكذلك «الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ» (يو 4: 23). المسيح يطلب أننا نُمجِّده ليلَ ن‍هار؛ لأننا إذا مجَّدناه نكون قد وصلنا إلى مفهوم مجد الله، الذي هو يفوق كل أمجاد الدنيا! مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ ولكن، مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أي مجدٍ آخر! يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أمجاد العالم! هذا هو الذي يُمجِّد المسيح. هنا المسيح يطلب الذين يشهدون له، كما قال: «رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27،26)، «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مر 16: 15).فالكرازة بالإنجيل هي شهادةٌ، والشهادة تمجيدٌ لاسم المسيح. فالشهادة والتمجيد صنوان عزيزان لا يفترقان أبداً. فكل مَن يشهد يُمجِّد الله، وكل مَن يُمجِّد الله يشهد له. المسيح بعدما صعد إلى أعلى السموات، أرسـل موعـد الآب لكي يشهـد له. لماذا؟ لأن الكرازة بالمسيح ما زالت سارية في العالم، بالروح القدس وبنا نحن! إذا توقَّفت الشهادة، انتهت الكرازة بالمسيح في الأرض كلها، ولذلك قال الرب: «وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟» (لو 18: 8)، أي يجد الشهادة له! ولذلك أين نحن مـن الشهادة للمسيح؟ فالروح القدس لا يمكن أن يقف عاطلاً عن الشهادة للمسيح! والآن، سأسرد الشهادات التي قالها المسيح من أجل خلاصنا: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ» (يو 5: 34)، «وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27). فعلى أيِّ أساس نشهد؟ على أساس الشهادة التي شهد ب‍ها المسيح عن نفسه، لأنه هو الحق. وما هو منهج الشهادة؟ نحن لا نشهد من عندياتنا، ولا نخترع شهادةً مُعيَّنة؛ فالرب يسوع هو الذي وضعها كلها! شهادة الرب يسوع عن نفسه: + «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِـنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُـوَ فِي السَّمَاءِ» (يو 3: 13). معنى هذا أنَّ السماء انفتحت لنا! + «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يو 6: 51). معنى هذا أننا نقتني الحياة! + «مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ» (يو 1: 51). إذن، فقد انفتحت السماء بعد قرونٍ طويلة! + «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (يو 6: 54). نحن نأكل جسد الرب ونشرب دمه كل يوم، ولذلك فلنا حياة كل يوم. فنحن لا ننتظر الحياة الأبدية، ولكننا نعيشها منذ الآن! + «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يو 6: 57). نأكلك يا ربنا يسوع المسيح؛ إذن، فنحن الآن أحياء بك وفيك للآب! + «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يو 7: 37). من الآن لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه عطشان بالروح أبداً، فالينبوع مفتوحٌ: «مَنْ آمَنْ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يو 7: 38). تشرب أنت، وتروي الناس العطاشَى! + «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو 4: 10).المسيح كما قـال للسامريـة: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»؛ يطلب منَّا أيضاً أن يشرب، يشرب من صلاتنا، من دموعنا، من قَرْع صدورنا، من سجودنا. فالمسيح ليس عطشاناً للماء الذي تحمله السامرية، ولكنه عطشانٌ لها، لخلاصها؛ فهو عندما رواها من مائه الحي، ارتوى هو! + «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ... طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34،32). + «وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو 4: 14).مـاء المسيح يروي. إذا دَخَلْتَ في أعماق الكلمة، تروي عطشك لسنين قادمة. الكلمة الواحدة إذا انفَتَحَتْ لك، تعيش ب‍ها طوال العمر! + «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ» (يو 4: 32).عرِّفنا، يا ربُّ، ما هذا الطعام؟ «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34). هذا هو الطعام الحقيقي، أن نصنع مشيئة الله. هذا هو غذاؤنا الذي سيرفعنا إلى أعلى! + «مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 9: 5).لقد عرفنا، يا ربُّ، أنه ليست لنا ظلمة! كل مَن يقول إنه يعيش في الظلمة، فهو لا يقول الحق. لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه مظلومٌ، لأن معنى أنه مظلومٌ، أي أنه يعيش في الظلمة. نور العالم غير منطفئ أبداً، ولا يمكن أن ينطفئ! + «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ» (يو 12: 46).آمِن بالرب يسوع المسيح، فتنفتح لك العين العالمة بكـلِّ شيء، العين التي ترى وتعرف وتفهم حتى أعماق الله! + «لأَنَّـهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الاِبْـنُ أَيْضاً يُحْيِي مَـنْ يَشَاءُ» (يو 5: 21).نحن موتاك، يا ابن الله، وقد حيينا بك، ونحيا كل يوم! + «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْـنِ اللهِ» (يو 5: 25).الآن، يـا ربُّ، يا ليته يكون. أيها الأموات، أتسمعون صوت ابـن الله؟ «وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ». هذا وعدٌ، والله لا يحنث بوعده! + «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يو 11: 25).مُتنا، يا ربُّ، وحيينا فيك، وكل يوم نموت ونحيا! + «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ» (يو 5: 24).نعم، قـد انتقلنا، يا ابن الله. فـلا دينونة الآن علينا. نحن قد عبرنا الدينونة، لأننا آمنَّا بك، يا ابن الله. قد سمعنا كلامك، ودخل قلوبنا، فلن يَقْوَى علينا الموت! + «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يو 12: 32).أيها القطب الجاذب، نحن فيك، يا ربُّ، ناظرين إلى فوق، وعيوننا لا ترتخي إلى الأرض! + «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14: 6).نعم، يا ربُّ، نحن نسير في طريقك، فلنا فيك حياة. ولا يمكن أبداً أننا نَزِلُّ، لا يميناً ولا يساراً، لأنك أنت هو ”الطريق“. نحن لا نسير على الطريق، أنت الطريق، ونحن نسير بك وفيك! + «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو 14: 6).رأيناك، يا ابن الله، في قلوبنا. رأيناك في كلِّ كلمة. رأيناك في إنجيل كل يوم، ورأينا الآب فيك! + «قَالَ يَسُوعُ: ”الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً“» (يو 13: 32،31).المجد الذي لك، يا ابن الله، محفوظٌ لك. ونحن أيضاً مجَّدنا ونصيبنا السماوي محفوظٌ لنا فيك! + «أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يو 8: 23).ونحن أيضاً، يا ربُّ، لم نَعُد ولم نَصِر من هذا العالم! + «فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: ”أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟“ أَجَابَ يَسُوعُ: ”أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ“» (يو 18: 37).نحن نشهد بشهادتك، يا ابن الله، أنك أنت أتيتَ وشهدتَ واعترفتَ الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي! + «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 27؛ يو 13: 3).نشكر الله، لقـد انكشفت لنا أعماق الله. انكشفت لنا كـل أسـرار الله الآب في المسيح يسوع. لم نَعُد معوزين شيئاً مـن معرفة كل الأمور التي عند الآب، فقد أخبرنا ب‍ها الرب يسوع. قد صارت لنا السموات منذ الآن كصفحةٍ مقروءة، ككتابٍ مفتوح، نقرأه كل يوم! + «فَـإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُـلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ» (مت 16: 27).أعمالنا، يا ربُّ، وراؤنا، وأنت أمامنا. قد مَحَوْتَ كل خطايانا كغيمة صيف. نحن أمامك وأمام الآب بلا لوم في المحبة وقدِّيسون! + «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ... ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (مت 25: 31-34).كل الذين باركوا الآب، سيجلسون عن يمينه، وسيُقال لهم: «رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ»! نُباركك، يا ابن الله، ونبارك أباك الصالح، كل يوم وكل لحظة! + «دُفِعَ إِلَيَّ كُـلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ...» (مت 28: 19،18).يقـول المسيح: ”بسلطاني، بالكلمة التي سأنطقها في أفـواهكم، بـالروح الذي سأسكبه على ألسنتكم؛ سوف تذهبون وتكرزون“! «هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي» (لو 24: 49). يا أحبَّائي، انظروا، هـذه هي شهادات المسيح عن نفسه. انظروا كيف أن‍ها كلها تنطق بمجده، مع أنه لا يطلب من ورائها مجداً لنفسه!وفي كل هذه الشهادات التي شهدها المسيح، يَصدُق قوله: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». ففي كل آية من هذه الآيات التي ذكرناها آنفاً، تكمن زاوية من زوايا خلاصنا.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل