الكتب

العلامة ترتليان، من آباء أفريقيا

وُلد كوينتوس فلورنس ترتليانوس Quintus Septimius Florens Tertullianus في قرطاج نحو عام 155 م.، وكان والداه وثنيين، وكان والده قائد مئة في جيش الحاكم، ودرس ترتليان TERTULLIAN القانون واشتهر في المحاماة في روما بعد قبوله الإيمان المسيحي عام 193م، استقر في قرطاج وسرعان ما وظف درايته الواسعة بالقوانية والأدب والفلسفة لخدمة الإيمان المسيحي، ويحسب جيروم (1) سيم ترتليان كاهناً، ورغم انه هو نفسه لا يشير أبداً إلى رتبته الكهنوتية، إلا أنه كان من الصعب أن يتمتع بمكانته الفريدة كمعلم رائد لو لم يكن قد نال نعمة الكهنوت، وفيما بين عاميّ 195: 220م وضع الكثير من مؤلفاته، وكان للعدد الضخم من الكتب التي ألفها في غضون هذه السنوات تأثيره الدائم على علم اللاهوت المسيحي، ونحو عام 207م انحرف ترتليان وسقط في الهرطقة المونتانية Montanism بل وصار رئيساً لطائفة منهم تسمت باسمه "الترتليانيين Tertullianists" والتي ظلت موجودة في قرطاج حتى زمان القديس أغسطينوس، ورغم أننا لا نعرف تاريخ نياحته على وجه الدقة لكن لابد أنه كان بعد عام 220م فيما عدا القديس أغسطينوس هيبو، يُعتبر العلامة ترتليان أهم كاتب كنسي وضع أعماله باللغة اللاتينية، وإذ كان يتمتع بمعرفة عميقة بالفلسفة والقانون وباللغتين اليونانية واللاتينية، اتسمت أعمالة بالقوة والبلاغة الرائعة مع السخرية الحادة، وكان متشدداً تجاه الوثنيين واليهود والهراطقة، وبعد انحرافه إلى المونتانية صار متشدداً ضد مستقيمي الإيمان جاءت كتابات العلامة ترتليان جدلية دفاعية، ورغم أنه لا يخبرنا بالدافع وراء قبوله الإيمان المسيحي، لكن من الواضح أنه لم يؤمن بالمسيحية نتيجة لمقارنة عقدها بين التيارات الفلسفية المختلفة كما كان الحال مع القديس يوستين الشهيد، بل يبدو أن بطولة المسيحيين وشجاعتهم في زمان الاضطهاد كان لها تأثير عليه أكثر من أي شيء أخر(2)، وكان الحق هو الغاية العظمى من دفاعه عن المسيحية والسبب الرئيسي في مهاجمته للوثنيين والهراطقة، فقد كان يشتاق كثيراً إلى الحق، بل إنه في أحد كتبه وردت كلمة "الحق Veritas" 162 مرة، وكان يؤكد دوماً أن إله المسيحيين هو إله الحق، وكل من يجده يجد ملء الحق، والحق هو ما تكرهه الشياطين ويرفضه الوثنيون ويتألم المسيحيون ويموتون لأجله، فهو ما يميز المسيحي عن الوثني، وليس من الصواب أن نُرجع هذا إلى كون ترتليان محامياً وبليغاً يميل إلى حب الجدل، إذ كان يتكلم حقاً من عمق قلبه(3)، وليس هناك أي شك في أنه كان مستعداً تماماً لأن يموت لأجل إيمانه، وفي الكلمات الأخيرة من دفاعه يعبر عن رغبته العارمة في نوال إكليل الاستشهاد المبارك، فهو يرفض الهرب في زمان الاضطهاد وتُعد إسهامات ترتليان الأدبية للغة الكنسية الأولى ذات أهمية قصوى(4)، إذ أنها تُعد مصدراً هاماً لمعرفتنا باللغة اللاتينية المسيحية، فهي تحتوى على عدد كبير من المصطلحات الجديدة التي استخدمها اللاهوتيون فيما بعد وصارت من الكلمات المستخدمة دوماً في شرح العقيدة، لذلك دُعي "مؤسس اللاتينية الكنسية The Creator of Ecclesiastical Latin" (5) ورغم أن هذا اللقب فيه مبالغة، إلا أنه يوضح لنا مدى أهمية إسهامات ترتليان في تاريخ اللغة اللاتينية المسيحية.

الرسالة الى ديوجنيتس

رسمت كتابات الآباء أيقونة حية لحياة الكنيسة في العصور الأولى، فجاءت أعمالهم تكملة لخدمة الرسل الحواريين الأطهار، إذ انطلقوا يكرزون ويعلمون ويشرحون ويقطعون بكلمة الحق في يقين وثبات، فكانوا القوة الفعالة والفاعلة والمحركة للكنيسة على مدى الأجيال كلها من جيل والى جيل دهر الدهورلذلك عندما ندرس (علم الباترولوجي) آبا الكنيسة وتاريخ مسيحية القرون، نقرأ حياة وأعمال هؤلاء القديسين معلمي البيعة وأعلامها، الذين صاروا لنا بمثابة كتاب معاصرين، يحيون بيننا قريبين منا جدا بل وكأنهم في نفس المكان الذي نعيش فيه، لذلك اقتفاء أثار الآباء ودراسة فكرهم وتأمل أقوالهم، يجعل مجد الكنيسة مجددًا لا يشيخ، حيًا ومعاشًا في أذهان وقلوب أعضائهم تلك الكتابات الآبائية مسطرة كجواهر مرصعة في خزانة التقليد الكنسي الحي، كامتداد الكتابات الرسولية، فقد اعتبر الآباء أن الرسولية هي أساس الكنيسة وان الرسل هم أعمدة الكنيسة.. فصاروا هم آباء وأعمدة يحملون الكنيسة في قلوبهم وحياتهم، ويخرجون من كنز قلوبهم جددًا وعتقاء، نحتاج نحن أبناءهم أن نغوص وراء لآلئها في سباحة عميقة ممزوجة بالإيمان والمعرفة والتقوى ومحبة الصلاح وهكذا من الكتابات التي ورثناها من خزانة الآباء الروحية والتي استوعبتها الكنيسة، بدأت تسرى سيرتهم ووعيهم الإيماني وفضيلتهم في كياننا الروحي وتسجيل في الوعي الكنسي لأبناء الكنيسة محبي الآباء صفحة وراء صفحة كما بأصبع الله أبينا السماوي لقد امتلأت كتابات الآباء قداسة وهيبة وتعليمًا لاهوتيًا وسلوكيًا مسيحيًا إنجيليًا ونورًا وانتماءًا كنسيًا وخلاصًا، فأراد لهم الله أن يكونوا آباء للكنيسة، معشوقين عند الذين يقرأون وعند الذين يسمعون، متخطين حدود الزمان والمكان حاضرين معنا أينما تتلمذنا لهم بعد أن صارت أقوالهم حضرة دائمة لهم. أحياء يعلموننا ويستودعوننا دائمًا أبدًا نعمة المسيح فلم يكتف علم اللاهوت الآبائي بالسردية الوقائية للتاريخ الكنسي أو بالرؤية التحليلية له، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. بل قدم المؤلفون الروحيون آباء الكنيسة سيرتهم وخبرتهم لإيمانية القادرة على هداية أقدامنا في الطريق، بفكر وخبرة تحول إلى الإيمان العالم والمضمون السري للمسيحية وتؤكد لنا أن التاريخ (الحيّ) لا تصنعه القدرات البشرية وإنما الروح القدس، وان كنيسة الله لهى اشد رسوخًا من المؤسسات الأرضية وحسنًا قيل أن الأمور تقيم بالجذور لا بالقشور لذلك كان الحرص على الإلمام والوعي بالمتاح من فروح المعرفة الآبائية، والعلوم اللاهوتية التي كلمنا عنها عظماء الكنيسة وقديسوها البررة وتعتبر الرسالة إلى ديوجنيتس Diognetus من الكتابات الروحية التي كتبت بإلهام فاكتملت فيها عناصر الوعي الإيماني والجهات كخبرة روحية، مملوءة بالسمو والأصالة المسيحية، والمحاماة عن الإيمان الإلهي، والشهادة الصادقة للسر المسيحي حياة وسلوكًا، فلاق بها أن تكون على مستوى كل إنسان في كل عصر في كل العالم إنها درة آبائية وسط كنور آباء كنيستنا، وهي لاشك تمثل خطًا تعليميًا لا يمحى، وذخيرة نحتاجها لتنير قلوبنا وعقولنا، وتغذى إيماننا وسلوكنا وشهادتنا من اجل التمتع بغنى الحياة المسيحية وروعة الحب الإلهي، فبينما يتهم الغرب بالمنهج التحليلي، نهتم في الشرف بالخبرة الروحية والمعرفة المقترنة بالتقوى والجهاد، لذا يأتي اهتمامنا بهذه الرسالة كصورة وصفحة من صفحات وصور تاريخنا المشرق، وكوثيقة تاريخية بالدرجة الأولي على أعلى ما يمكن من الأصالة ويسرني أن أقدم هذه الرسالة الآبائية النفيسة -الرسالة التي ديوجنيتس- ضمن سلسلة آباء الكنيسة، التي نصدرها بمناسبة العيد المئوي للكلية الإكليريكية، والتي نتطلع إليها بقلب مستبشر واثق من عمل النعمة، في تكميل رسالتها التعليمية والقيادية، في عهد مشرق وعصر ذهبي، رأينا فيه بابا الكنيسة استنادًا في الكلية الإكليريكية وعميدًا لها ليجدد مجد مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، ورأينا فيه بابا الكنيسة خادمًا في خدمة التربية الكنسية ورئيسا للجنتها العليا لتربية أجيال ثابتة في الكرمة الحقيقية، ورأينا فيه بابًا الكنيسة شاعرًا وكاتبًا وصحفيًا وعرفناه أيضًا بطلًا من أبطال الإيمان فلمسنا النهضة الروحية والفكرية، والنهوض في التربية الكنسية الإكليريكية في الداخل والخارج أيضًا ففي مجال العناية بالتراث الآبائي عنى غبطته بمشروع الميكروفيلم والميكروفيش لتجميع المخطوطات والكتابات الآبائية وبإنشاء مكتبات قبطية متكاملة من أجل التواصل بتراث الكنيسة، لغة وثقافة وعقيدة وفنًا.. وعلمنا قداسة بابانا البابا شنودة الثالث -حفظة الرب- (أن تراث كنيستنا الثمين، هو حاجة العالم اليوم، والمطلوب من أبناء كنيستنا أن يصيروا كارزين وخدامًا في كل مكان) وفيما تحتفل الكنيسة بالعيد المئوي للإكليريكية تحتفل أيضًا بمرور ثلاثين عامًا على خدمة قداسة البابا كأسقف للتربية الكنسية والمعاهد الدينية، وتحتفل بعاهل الإكليريكية وعميدها البابا شنودة الثالث قاضى المسكونة، الذي أعاد للكنيسة المصرية ريادتها ومكانتها في عالمنا المعاصروقد اعتمدت في إصدار هذه الرسالة، على ما ورد في مجموعة "باترولوجى Patrology" لعالم آباء الشهير جونز كواستن Johannes Quasten، المجلد الأول ص 248-252، وعلى الترجمة الانجليزية الواردة بمجموعة (أباء ما قبل نيقية) ومن عمق القلب نقدم سجودنا القلبي للثالوث القدوس، الذي أعطانا نعمة وبركة هذا العمل وأعاننا لكي نحوجه إلى النور، وما كان لنا هذا إلا بفضل توجيهات وصلوات أبينا حضرة صاحب النيافة الحبر كلى الاحترام الأنبا بنيامين النائب البابوي للمدينة العُظمى الإسكندرية، ليديم الله حياته وأفضاله وينفعنا ببركة صلواته نتوسل إلى روح الله أن يقودنا في الطريق نحو حضن الآب، يعمل في حياتنا جميعًا لكي تستنير أذهاننا ونفوسنا وقلوبنا، وتتقدس أجسادنا وسلوكياتنا وعواطفنا، ببركة آباء الكنيسة وقديسيها، وبصلوات الحبر الأعظم جزيل الغبطة البابا شنودة الثالث، وللثالوث القدوس المبارك المجد والكرامة والعزة والتقديس إلى الأبد آمين.

البابا الكسندروس البطريرك ال19

سيامته: وُلد بالإسكندرية، وسيم بها قسًا، ثم سيم بابا للإسكندرية كما تنبأ البابا بطرس خاتم الشهداء (17)، وكان قد بلغ سن الشيخوخة، ومع هذا فكان يخدم الله بنشاط تقوي قال عنه المؤرخ الأنبا ساويرس بأن القديس أثناسيوس (البابا 20) روي بأن البابا ألكسندروس ما كان يقرأ الكتاب المقدس جالسًا قط، وإنما كان يقف والضوء أمامه. في تقواه دعاه الشعب بالقديس، وفي حبه للفقراء والمساكين كانوا يلقبونه "أب المساكين". مقاومته للميلانية والأريوسية: حاول أتباعا ميليتس أسقف ليكوبوليس (أسيوط) بكل طاقتهم عرقلة سيامة الكسندروس مرشحين أريوس ليكون هو البابا البطريرك ميليتس هذا كان قد أنكر الإيمان في اضطهاد دقلديانوس بالرغم من النصيحة التي قدمها له أربعة أساقفة بالسجن، ولم يكتفِ بهذا وإنما استغل سجن البابا ليجلس علي كرسيه ويرسم كهنة بالإسكندرية ويسلم أساقفة إيبارشيات غير إيبارشياتهم، وبهذا كوّن لنفسه حزبًا يتكون من ثلاثين أسقفًا يعلنون استقلالهم عن البابا، ويدخلون بعض الأنظمة اليهودية في عبادتهم. عقد البابا بطرس خاتم الشهداء مجمعًا حكم فيه بتجريد ميليتس من درجته فلم يعبأ بذلك. وقد أصدر مجمع نيقية حكمه بشأن انشقاق ميليتس، فخضع لحكم المجمع وخضع للبابا الكسندروس حتى مات عام 330 م أما أريوس فكان في البداية منتميًا لأتباع ميليتس، يشجع ملاتيوس علي الانشقاق ضد البابا بطرس. وعندما سيم البابا الكسندروس حاول أن يجتمع به فرفض، معلنًا لرسله أن البابا بطرس قد منعه في السجن من قبوله في شركة الكنيسة كأمر السيد المسيح نفسه الذي ظهر له بثوب ممزق قائلًا بأن أريوس هو والذي مزقه. وقد طلب منهم أن يقدم توبة للسيد المسيح، فإن قبلها يعلن له الرب ذلك فيقبله. ثار أريوس وصار يهاجم ألوهية المسيح علانية، مستخدمًا مواهبه من فصاحة وخداع مع وضع ترانيم لها نغمات عذبة تجذب البسطاء، كما تظاهر بروح النسك والعبادة، وقد اجتذب كثيرًا من الراهبات والعذارى والنساء، استخدمهن في نشر بدعته عقد البابا مجمعًا محليًا عام 319 م. يطالبه بترك بدعته، وإذ رفض عقد مجمعًا آخر بالإسكندرية يضم 100 أسقف من مصر وليبيا حرم أريوس وبدعته، مصدقًا علي قرار المجمع السابق. كتب أريوس إلى أوسابيوس أسقف نيقوميديا يستعطفه في خبث كمن هو مُضطهد من أجل الحقن وبقي في عناده يعظ ويبث سمومه، فطرده البابا حاول أريوس استمالة بعض الأساقفة في إيبارشيات خارج مصر، فكتب البابا الكسندروس إلي سمية الكسندروس بطريرك القسطنطينية، كما إلي بقية الكنائس يشرح لهم بدعة أريوس ومعتقداته الخاطئة. (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ وأقوال الآباء)عقد أتباع أريوس مجمعين الأول في بيثينية عام 322 م.، والثاني في فلسطين عام 323 م. قررا بأن الحكم الصادر ضد أريوس من بطريرك الإسكندرية باطل، وطالبا بعودة أريوس إلي الإسكندرية، وعاد أريوس إلي الإسكندرية ليقاوم الحق اضطر البابا أن يشهر حرمان أريوس ويطرده للمرة الثانية، وقام الشماس أثناسيوس بكتابة منشور ضد بدعة أريوس وقعه 36 كاهنًا و44 شماسًااستطاع أوسابيوس أسقف نيقوميديا بدالته أن يستميل قسطنطين الإمبراطور إلي أريوس، إذ كانت أخت الامبراطور أي كونسطاسيا تكرم الأسقف أوسابيوس. أرسل الإمبراطور قسطنطين أوسيوس أسقف قرطبة من أسبانيا وهو من المعترفين الذين احتملوا العذابات في عهد مكسيميانوس، إلي الإسكندرية ليتوسط لدي البابا فيقبل أريوس، وبعث معه خطابًا رقيقًا متطلعًا إلي أريوس ككاهن تقي غيور. وبوصول الأسقف إلي الإسكندرية لمس بنفسه ما يفعله أتباع أريوس، فانضم إلي البابا وطلب من الإمبراطور أن يأمر بعقد مجمع مسكوني لينظر في أمر الأريوسيين ُقد مجمع نيقية عام 325 م، وكان للقديس أثناسيوس الرسولي دوره الكبير في كشف أباطيل الأريوسيين، فقطع أريوس وأتباعه، ونُفي إلي الليريكون تنيح البابا الكسندروس حوالي عام 328. تعيد له الكنيسة الغربية في 26 فبراير، واليونانية في 29 مايو، والقبطية في 22 برمودة. لاهويتاته وكتاباته: كان يبذل كل الجهد لمقاومة فكر أريوس منكر لاهوت السيد المسيح، والذي كان ينظر إليه باعتباره صنيعة بولس السومسطائي ولوقيانوس الإنطاكي، مقدمًا تعليمه الذي هو "التعليم الرسولي الذي من أجله نموت"، مؤكدًا أزلية الابن ووحدته مع الأب في الجوهر، موضحًا أن بنوته للآب طبيعية وفريدة وليست بالتبني، لذا دعي القديسة مريم "والدة الإله". من كلماته: [إن كان الابن هو كلمة الله وحكمته وعقله، فكيف وُجد زمن لم يوجد فيه؟! هذا كمن يقول بأنه وُجد زمن كان فيه الله بلا عقل وحكمة]. أهم كتاباته هي: 1. يعلن القديس أبيفانيوس في كتابه ضد الهراطقات (69 : 4) عن وجود سبعين رسالة له، فُقدت جميعها ما عدا رسالتين في غاية الأهمية بخصوص الصراع الأريوسي. 2. له عظات من بينها وجدت عظة بالقبطية والسريانية عن النفس والجسد وعلاقتهما ببعضهما البعض.

الآباء المؤرخون مصادر التاريخ الكنسي

يتقدم التاريخ في المسيحية إلى الأمام ليربط -في النهاية- الزمن بالأبدية، وفي تاريخ الكنيسة تقف يد الله مختفية وراء الأحداث لتصنع المواقف تلك اليد الإلهية العالية، يد الله سيد التاريخ وخالق الزمن، هي التي باركت تاريخنا الزمني وقدست حياتنا على الأرض، لننطلق إلى اللازم، حيث الأبدية التي لا يحصرها ولا يحدها التاريخ لقد الآباء التاريخ والزمن مؤكدين على أن دورات التاريخ التي بلا رجاء قد انتهت، وعلى أننا قد تركنا الزمن لننشغل بالأبدية الدائمة، ومن ثم رأوا أن التاريخ لا تدفعه الأيادي البشرية وحدها كما قد يبدو في الظاهر، بل يد الله فوق الكل، وهي التي تنفذ مقاصده الإلهية الخلاصية العالية عن الأفهام لذلك رسم المنهج الآبائي صورة مبسطة للتاريخ الكنسي على اعتبار أن ذروة التاريخ ومركزه هو "المخلص" الذي به انفتحت النبوات واكتملت، وتحقق كل رجاء البشرية كمشتهى الأجيال كلها ولأن الآباء اعتبروا أن تاريخ الكنيسة يبدأ بتاريخ العالم، لذلك كانت غاية التاريخ في المفهوم الآبائي هي الكشف عن علاقة مملكة الطبيعة والخلقة بملكوت النعمة الأبدي، والكشف عن عمل الله الخلاصي وخطته الإلهية عبر الأجيال وحتى نهاية التاريخ البشرى وإعلان "الله الكل في الكل" {كو 1:16} على اعتبار أن السيد المسيح هو مفتاح التاريخ كله والتاريخ حسب فهم آباء الكنيسة له، هو اكتشاف العمل الكرازي والإيمان الرسولي والخدمة الرعوية وخبرة العبادة والشركة والشهادة والجهاد الروحي، فموضوع التاريخ الكنسي هو عنصر الكنيسة البشرى، وعلم تاريخ الكنيسة يصور حياة الكنيسة التاريخية، خلال مصادرها المتنوعة (الكتب المقدسة، القوانين، قرارات المجامع، دساتير الإيمان، الليتورجيات، رسائل الآباء وأقوالهم وفكرهم وتاريخ حياة القديسين وأعمالهم، الأيقونات، الأبنية، الأواني..) ولم تكن نظرة على الباترولوجي للتاريخ على انه مجرد سرد أحداث ماضية ميتة، أو تسجيل لوقائع منتهية، لكن التاريخ كعلم كنسي يحيط حياة الكنيسة من كل نواحيها بترتيب متصل ومتواصل، لأن المسيح هو ماضي الكنيسة وحاضرها ومستقبلهالذلك أصبح تسجيل التاريخ الكنسي في كتابات الآباء، يهتم بالمفاهيم الروحية والمدلولات الرمزية بفكر كنسي واسخاتولوجي هادف، خلال الحياة والسيرة والعبادة والسلوك فصارت الكتابات التاريخية عبارة عن فهم لعمل الله في وسط كنيسته عبر الأجيال، وإدراك الحقيقة الكنيسة وطبيعتها ورسالتها خلال تاريخها، وإذا تتبعنا تاريخ الكنيسة بهذا المفهوم الآبائي، فإننا نستطيع أن نتبيَّن الحقب المتتالية التي كانت وما زالت يوجهها الروح القدس الرب المحيى وتناول علم الباترولوجي التاريخ الكنسي عبر الحقب الممتدة من عصر الرسل، عصر الآباء الرسوليين، عصر الاستشهاد والاضطهاد، عصر الرهبنة، عصر الهرطقات، فتناول بذلك تاريخ الاضطهادات والهرطقات والنظم الكنسية والترتيبات الليتورجية وتاريخ اللاهوت والعقيدة والرهبنة وتاريخ الطقس والعبادة وسير الآباء والمجامع المسكونية، وتاريخ التقليد والقوانين والرعاية والكرازة والدفاعيات... ولأن الإنسان ينسى {أش 59:15} لذلك سمح الروح القدس وألهم حكماء الكنيسة أن يسجلوا تاريخها جيلاَ أثر جيل، منذ ان خط القديس لوقا الطبيب أول حرف في سفر أعمال الرسل، وإلى صفوف المؤرخين والكُتاب الكنسيين الذين واصلوا تسجيل "أعمال الروح القدس" كل جيل بمؤرخيه لقد تحقق معنى وقيمة التاريخ، لأنه مازال حياَ في الكنيسة يشكل الحاضر لمصدر دائم للإلهام، ليس بطريقة مجردة ولكن كاستعلان مجدد لروح الله، وكأبعاد أبدية للحياة الُمعطاة لنا في المسيح يسوع ربنا والمنقولة إلينا بواسطة الرسل الأطهار والآباء القديسين، وفالشعب الحي يجب أن يعيش دائماَ على اتصال وجداني وفكري بتاريخه، لما للتاريخ من قوة هائلة على التنبيه والإحياء، فالتاريخ ينبوع قوة روحية وتراث مقدس يحمل ليس فقط مجرد معرفة أو ذاكرة أو ذكرى بل شركة ومطابقة باطنية، نتحقق بها ونرى أن ما عمله الرب قديماَ هو في حياة الكنيسة اليوم، لا يزول منه حرف واحد ولا نقطة واحدة فالأصالة التاريخية للكنيسة ليست مجرد رمز تاريخي، ولكنها ثراء الحياة الذي لن يزول، فلنبحث في بطون التاريخ وأعماقه لنتعلم كيف نكون مسيحيين حقيقيين إن من السمات البارزة في التقليد القبطي أن تذكار الأحداث والشخصيات هو جزء لا يتجزأ من جوهر العبادة الكنسية، فمن وراء ذلك معنى لاهوتي عميق وثراء روحي يظل ينبوعاَ للقوة الروحية وميراثاَ غنياَ دائم التدفق نحتاجه كسند يومي نتمثل به ونقتفى أثاره وذخرت الكتبة القبطية بمجموعة من الميامر التاريخية التي تحمل سير البطاركة والشهداء والنساك والسواح والمتوحدين والرعاة الفعلة الأمناء، الذين بشروا بالمسيح وسفكوا دمائهم من أجله وفصلوا كلمة الحق باستقامة وجاهدوا عن الأمانة الأرثوذكسية، وسكنوا الجبال وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح لقد كان القصد من إصدار هذا البحث عن "الآباء المؤرخون" هو التعريف بهؤلاء الذين أرخوا تاريخ الكنيسة المقدس وصنعوا بكلماتهم وأقلامهم نسيج حياتها على الأرض، مقدمين أيقونة مجسمة وواضحة ومتألقة للكنيسة الأولى، فلولا هؤلاء الآباء المؤرخين ما كان لنا أن نعرف تاريخ العمل الكرازي وتاريخ الهيرارخية الرعوية وتاريخ تطورالعقيدة، وتاريخ المجامع والقوانين والقرارات الكنسية، كذا تاريخ الآباء والعبادة والممارسات المسيحية وتعتبر أعمال هؤلاء الآباء المؤرخين الأبحاث الأولى في علم الباترولوجي، والتي صاغوا فيها التاريخ الذي صنعه الآباء صُناع التاريخ نقدم هذا البحث كدليل للكتابات التاريخية التي يحتاجها الباحث في دراسة التاريخ الكنسي وفي كل الدراسات الباترولوجية، وبالرغم من أن بعض هؤلاء المؤرخين كان له انحرافاته الإيمانية، إلا أن أعمالهم ذات قيمة تاريخية هامة نقدم هذه الموسوعة الآبائية اخثوس ΙΧΘΥΣ مساهمة في حفظ تراث الكنيسة التعليمي الآبائي اللاهوتي الواسع والعريض، مع التركيز على استيعابه ووعيه وعياَ عميقاَ وعملياَ، وسط احتفال الإكليريكية المئوي وابتهاج الكنيسة بافتتاح معهد الرعاية والمؤسسات العلمية في عهد قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث -حفظه الرب- الذي عكف على السير على نهج الآباء في التعليم والرعاية والوعظ والكتابة آملين أن يحظى علم الباترولوجي باهتمام أوسع في مناهج المعاهد اللاهوتية حتى تكون الدراسات الكنسية على مستوى يضارع أرقى المعاهد اللاهوتية في كنيسة صاحبة أقدم وأعظم مدرسة عرفتها المسيحية، وأن يحظى بمساحة أكبر في مناهج التربية الكنسية التي تُعدها اللجنة العليا للتربية الكنسية، فتتمتع الأجيال المتعاقبة بأعظم ذخيرة من التعليم الكنسي الأصيل والمستقيم إننا نشكر الله من أجل جوده وسخائه إذ أعطانا أن نقدم هذا العمل بالرغم من ضعفنا وتقصيرنا، ونشكر أبينا المحبوب نيافة الأنبا بنيامين نائب قداسة البابا بالإسكندرية من أجل مساندته وتشجيعه الأبوي، وأيضاَ نيافة الحبر الجليل الأنبا ديسقورس الأسقف العام من أجل تدعيمه المتكرر لهذا العمل، كذا شكرنا لجناب الأب الموقر القمص أثناسيوس ميخائيل مدرس التاريخ الكنسي بالكلية الإكليريكية من أجل ملاحظاته القيمة ومراجعته للنسخ الطباعية الأولى، وليعوض الرب كل من له تعب ببركة وصلوات الآباء المؤرخين وصلوات جزيل الغبطة البابا شنودة الثالث، ولربنا السجود والمجد والإكرام.

العلامة يوسابيوس القيصرى

يبدأ العصر الذهبي للأدب الآبائي بكتابات باهرة لأبى التاريخ الكنسي يوسابيوس بامفيليوس Eusebius Pamphili اسقف قيصرية فلسطين، وهو مؤرخ ومجادل في نفس الوقت، وشخصية هامة في تاريخ الأريوسية في أيامه، وواحد من اخر المدافعين، ويقدم لنا صورة عن المتغيرات الجذرية التي حدثت في أيامه في تاريخ العالم بأمانة كاملة أكثر من أي مؤرخ آخرولم تكن قيصرية فلسطين مكان تعليمه ونشاطه الأدبي وكرسيه الأسقفي فقط، بل وأيضاً مدينة ميلاده سنه 263 م، وقد صارت هذه المدينة مركزاً للعلم والمعرفة منذ أن رحل أوريجانوس إليها وأنشأ مدرسته الشهيرة هناك، وقد شكلت مؤلفات أوريجانوس أساس المكتبة التي طورها بامفيليوس كاهن كنيسة قيصرية، وقد تحمس بامفيليوس لإصدار نص معتمد من الكتاب المقدس ولكن على أساس نص أوريجانوس المسمى (الهكسابلا – السداسي) وتفاسيره على العهدين القديم والجديد ولإتمام هذه المهمة احتاج إلى معاونين ومساعدين، فتقدم يوسابيوس ليكون عضواً عاملاً في هذه الجماعة الدراسية، وبدأ يساعد بامفيليوس الذي شجعه وعلمه كيف يعتمد على نفسه وعلى ذهنه وزوده بنصائحه، ودان يوسابيوس لمعلمه بامفيليوس بالفضل الكثير في تعلميه وتدريبه الفكري، وتعبيراً عن شكره ومحبته لأستاذه قرن اسمه باسمه فدعى نفسه "يوسابيوس بامفيليوس" أي أنه الابن الروحي لبامفيليوس وهكذا دخل يوسابيوس في تاريخ آباء الكنيسة باسم "يوسابيوس بامفيليوس" وما زال يوجد مخطوط قديم من نسخة الكتاب المقدس التي أعدها بامفيليوس ويوسابيوس معاً واستلم يوسابيوس عن معلمه تكريم أوريجانوس تكريماً عميقاً، وانشغل بتراثه الأدبي حتى يزيد من شهرة هذا العلامة السكندري، وبدأ في إصدار مجموعة مراسلاته، الأمر الذي ساعد على عدم ضياع هذا التراث أو تشتته وفى الاضطهاد الأخير نال بامفيليوس اكليل الشهادة، في العام السابع من اضطهاد دقلديانوس في السادس من فبراير سنة 310 م، وكتب يوسابيوس سيرته تكريماً لذكراه واعترافاً بمحبته له، ويوسابيوس نفسه هرب إلى صور ومنها إلى برية مصر في Thebais، ولكن قبض عليه هناك وسجن ويبدو أن العام الذي انتهت فيه الاضطهادات ضد الكنيسة (سنة 313 م) هو نفس عام تجليس يوسابيوس أسقفاً لقيصرية، وقد صارت له صداقة متينة مع قسطنطين الملك وكان ذا تأثير عليه، وبدأت شهرته كعالم تطغى على شهرة معلمه منذ ذلك التاريخ وقد دخل يوسابيوس -كأسقف- في الجدال الآريوسى، الذي اعتقد أنه يستطيع أن ينهيه باقتراحات بتنازلات متبادلة من كلا الطرفين، بدون أن يدرك الأهمية الحقيقية للعقيدة موضع النقاش، وكتب عدة رسائل يؤيد فيها أريوس، وكان له دوره المؤثر جداً في مجمع قيصرية المكاني الذي أعلن أرثوذكسية فكر وعقيدة آريوس رغم أنه طلب منه الخضوع لأسقفه، وبعد ذلك بقليل عقد مجمع مكاني في إنطاكية سنة 325 م. حرم أسقف قيصرية لرفضه للصيغة الإيمانية المعارضة للتعليم الآريوسي المنحرف، وفي مجمع نيقية سنة 325 م أراد أن يكون واسطة مصالحة، ورفض عقيدة (الهوموأسيوس Homoousios- مساواة الآب والابن في الجوهر) التي لأثناسيوس لأنه ظن أنها تؤدى إلى السابليانية Sabellianism،وأخيرًا وقع على قانون الإيمان النيقاوي كمجرد إرضاء خارجي لرغبة الإمبراطور، لكن بدون أي اقتناع حقيقي داخلي، ولم يستخدم قط في كتاباته بعد سنة 325 م. التعبير "هومواوسيوس" بل أيد صراحة يوسابيوس أسقف نيقوميدية وقام بدور بارز في مجمع إنطاكية المكاني سنة 330 م، الذي خلع الأسقف يوستاثيوس Eustathius، وكان له أيضًا دور هام في مجمع صور سنة 335 م. الذي حرم القديس أثناسيوس الرسولي، وبجانب ذلك كتب كتابين ضد مارسيللوس أسقف أنقره الذي خلع من كرسيه بعد ذلك بعام وكان إعجاب ومحبة يوسابيوس للإمبراطور، الذي أرسى السلام بين الكنيسة والإمبراطورية بعد سنوات من الاضطهادات الدموية، كبيراً جداً، وتمتع يوسابيوس نفسه بمكانة خاصة لدى قسطنطين، وفي التذكرين العشرين والثلاثين لتتويج الإمبراطور وتقليده الحكم، ألقى يوسابيوس كلمتي مديح للإمبراطور، وعندما تنيح قسطنطين في 22 مايو سنة 337 م. قدم يوسابيوس كلمة تأبين طويلة له، إذ يبدو أنه كان مستشاره اللاهوتي الأكبر، وقد مات يوسابيوس بعد إمبراطوره بأعوام قلائل في سنة 339 م. أو سنة 340 م. الملامح اللاهوتية والروحية في فكر العلامة يوسابيوس تكلم العلامة يوسابيوس عن التقدم إلى ما هو قدام في الحياة الروحية، فرسم منهاج للسير بلا عيب في الطريق الروحي وعدم الرجوع إلى الوراء وعدم الميل لا يمين ولا يسار ولا نظر للوراء من أجل بلوغ الهدف، ويقول: طالما أن القلب لا يزال بعد غير كامل فهذا هم كبير وتعب كثير بل أنه قد يتردى إلى أسوأ مما هو عليه، أما حينما يصل إلى قمة الكمال فحينئذ يكون قد تأسس في الفضيلة وتحرر من كل خوف، يطلب من الله أن يوضح له ولا يخفى عنه وصاياه حتى يكملها إلى المنتهى متفهماً لها حتى يعبر هذا العالم وهو بلا لوم ويتحدث يوسابيوس عن الحرب الروحية والقوات المضادة التي تحارب النفس في تفسيره للمزمور 118، فيقول: الله يصد عنا المضادات ويتولى قضاء الأعداء غير المنظورة بنفسه من أجل محبته للبشر، إذ قد تبنى قبضتهم لأنها قضيته وفى تأكيد على الإرادة المتجهة نحو الله يحث العلامة يوسابيوس على المواظبة على الاجتهاد والمثابرة، لان النفس التي تخطئ تذبل منجذبة في غفلة الخطية، ولن تقوم ولن تستيقظ إلا بتذكر الخير وإدانتها لنفسها واعترافها بخطاياها السابقة وتعلم الوصايا والثبات فيهاوهو بذلك يرسم معالم الطريق الروحي والحياة الداخلية بالشركة مع الله، ثم يذكر ملمح هام عن المكافأة والجعالة التي يحظى بها المجاهدون، عندما يتكلم عن نهاية العالم الزائلة وهيئته ليتبعه عالم جديد، وعوض الكواكب المنظورة يضئ المسيح نفسه لأنه شمس الخليقة الجديدة وملكها، عظيمة هي قوة هذه الشمس الجديدة، وعظيم هو بهاؤها، حتى أن الشمس التي تضئ الآن والقمر والكواكب الأخرى تظلم أمام هذا النور الأبدي العظيم. أما عن الملامح اللاهوتية في فكره، فيؤكد يوسابيوس على حياة الطهارة من أجل التأمل في الأمور العلوية (الإلهيات) فعدم الطهارة هو عدم التقوى وظلمة الجهل، أما نقاوة الفكر من الناحية الأخرى، فهي التقوى والتقوى تلازمها معاينة الله ويرى يوسابيوس أن تجسد الله اللوغوس هو استعلان السر الذي تدور حوله نبوات العهد القديم: "اللوغوس المتجسد هو وحدة الذي أعطانا نعمة معرفة الثالوث بميلاده السري لأنه لا موسى ولا أي من الأنبياء وهب خدمة هذه النعمة لشعب الله في العهد القديم، لأنه في ابن الله اللوغوس فقط أعلنت نعمة الآب للكل، لأن الناموس بموسى أعطى أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا". ويقارن يوسابيوس بين مسحاء العهد القديم من كهنة وملوك وأنبياء وبين السيد المسيح نفسه موضحاً أن ما ناله رجال العهد القديم كان رمزاً، فكانوا عاجزين عن أن يقيموا من أتباعهم مسحاء، أما السيد المسيح فهو وحده الذي دعى اتباعه مسيحيين لأنهم صاروا فيه مسحاءوالكنيسة عند أسقف قيصرية هي وحدها "تملك الطريق الملوكي"، ومن ثم تعطى (معرفة النعمة الإلهية)، لأن الكنيسة تملك اللاهوت الكامل، لأن فيها حُفظ سر الخلاص، سر تدبير الله، لأنها تجمعت من الأمم، وهب لها هذا السر بفضل نعمة فائقة مختارة، لأن فيها -كما يقول الرسول- كل كنوز الحكمة والمعرفة، ويقول يوسابيوس:(استعلن سر الخلاص لكنيسة المسيح فقط بنعمته) ومن المسيح الطريق والحق تتسلم الكنيسة معرفتها لسر الثالوث القدوس السري المبارك، وتحفظه كرجائها الذي لا يخزى وللنور في لاهوت وفكر يوسابيوس مكانه خاصة، والنور الذي أشار إليه القديس يوحنا اللاهوتي في بداية إنجيله أو النور الذي يضيء في الظلمة، هو نور اللوغوس الذي بقدرته خلق النفوس العاقلة الناطق، وهو الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم، وهو النور الذي لا يُدنى منه والذي لم يره أحد قط وشرح أبو التاريخ الكنسي أن حق الثالوث قد استعلن بتجسد اللوغوس، ومنذ ذلك الحين ظل في الكنيسة يقودها ويمنحها المواهب المتعددة، مواهب الروح والحكمة والمعرفة والإيمان والمحبة.

القديس يوحنا كاسيان مؤسس رهبنة الغرب

وُلد يوحنا كاسيان نحو عام 360 م. (اكتفينا هنا بعرض موجز لسيرة وأعمال كاسيان إذ أفردنا له كتابًا كاملًا ضمن هذه السلسلة اخثوس ΙΧΘΥΣ بعنوان "القديس يوحنا كاسيان")، ونال تعليمًا أدبيًا في شبابه، ونحو عام 380 م، انضم كاسيان وصديقه جرمانوس إلى دير في بيت لحم حيث قضى هناك عدة سنوات وتأدب بآداب أديرة سوريا، ثم قدم إلى مصر مع صديق جرمانوس ليتتلمذ على أيدي قديسيها وبعد أن قضى الصديقان سبع سنوات في مصر، عادا إلى ديرهما في بيت لحم، لكن ما لبثا أن زارا مصر مرة ثانية وبعد ذلك ذهب كاسيان إلى القسطنطينية حيث سامه القديس يوحنا فم الذهب شماسًا، وهناك شهد كاسيان وجرمانوس الأحداث التاريخية المؤدية إلى خلع ونفى فم الذهب وفي عام 404 م. ذهب إلى روما حاملًا رسالة التماس إلى البابا أنوسنت Innocent من أكليروس القسطنطينية يؤيدون فيها القديس يوحنا فم الذهب، ومكث هناك لفترة من الوقت، وربما كانت سيامته كاهنًا بيد أنوسنت في ذلك الوقت. ومن روما عاد كاسيان إلى فرنسا حيث استقر في مرسيليا وأسس ديرين وسط الغابات الكثيفة أحدهما للرهبان ويُقال أنه بُني على قبر القديس بقطر وهو شهيد من عصر دقلديانوس والآخر دير للعذارى. ولما كان لكاسيان من خبرة ودراية بالأنظمة الرهبانية في مصر، كان يُنظر إليه كمرجع ومصدر ثقة، ويُعد هو المنظم والمدبر الأول للرهبنة الغربية إذ نقل كل التراث القبطي من تعاليم وتسابيح وصلوات إلى الغرب. أما عن الدور التأريخي الهام الذي لعبه كاسيان، فنراه جليًا عند دراستنا لكتابيه "المناظرات"و "المؤسسات": المناظرات: أو المقابلات Conferences وهي أحاديث كاسيان وجرمانوس مع مشاهير الآباء الأقباط والتي يقدمون فيها التعاليم الرهبانية القبطية. المؤسسات: وفيه شرح كاسيان القوانين الرهبانية، والخطايا الثمانية التي تعيق الإنسان في جهاده الروحي. ويُعد هذان العملان من الأعمال الهامة في التأريخ للرهبنة والنسك القبطي في القرن الرابع، إذ يمدنا بصورة حية عن الأنظمة والتقاليد الرهبانية في ذلك الوقت مع التعريف بآباء تلك الفترة. وبجانب هذين العملين التاريخيين كتب كاسيان بحثًا في سبع مجلدات "عن التجسد ضد نسطور".

القديس كيرلس الكبير رسائلة ضد النسطورية

قال عن نفسه "إنني قد وعدت نفسي على أن اقبل لأجل المسيح كل أنواع التضحية والعذاب إلى أن ألاقى الموت الذي أقبله بفرح من أجل غاية كهذه... فلا شيء يخيفني لا الشتائم ولا الاحتقار ولا التعذيبات أيا كانت ولكن يكفيني أن يكون الإيمان كاملًا ومحفوظًا!!" أولًا: نشأة القديس 1- تربى القديس في كنف خاله القديس البابا ثيؤفيلس فشب على معرفة العلوم الدينية والشغف بقراءة الكتب المقدسة وأقوال الآباء وسيرهم كما انه كان يمتلك موهبة حفظ الألحان الكنسية وترديدها. 2- وقد ألحقه خاله بالمدرسة اللاهوتية بالإسكندرية لدراسة العلوم الفلسفية التي تعينه على الدفاع عن المسيحية ضد الهراطقة والمبتدعين فتمكن من دراسة جميع العلوم الدينية والفلسفية وتهذب بكل العناية الفائقة منذ الصغر وحتى تخرجه. 3- ولم يكتف خاله بذلك بل أرسله إلى البرية في جبل النطرون إلى دير أبي مقار حتى يتتلمذ على الأنبا سيرابيون تلميذ الأنبا مقار الذي أوصاه بأن يقوم بتهذيبه بكل العلوم الكنسية والنسكية ومكث بالفعل مع أستاذه مدة خمس سنوات تمكن خلالها من التهام كل كتب البيعة وأجاد بإتقان كل علوم الكنيسة وأعطاه الرب الإله نعمة وفهم قلب عجيب حتى كان إذا قرأ كتابًا مرة واحدة بحفظه عن ظهر قلب. 4- وهكذا بعد كل هذه الدراسات عاد إلى الإسكندرية حيث خاله الذي امتدح نبوغه العظيم المبكر بقوله "إنك بهذه الدراسات ستبلغ أورشليم السمائية في موضع سكنى القديسين" وعلى الفور قام خاله برسامته شماسًا وقد كان القديس كيرلس إذا ما وقف ليرتل الإنجيل تمنى المؤمنون ألا ينتهي من القراءة لرخامة صوته. 5- ثم بعد ذلك رسمه قسًا وكلفه بالقيام بالوعظ رغم صغر سنه فحاز إعجاب السامعين ونال رضى جميع الكهنة والعلماء في جيله حيث أنه برع في فهم الأسفار المقدسة وشرحها ببراعة عجيبة. وكان البابا ثيؤفيلس بشكر الله إذ رزقه ولدًا روحيًا قد شب بالنعمة والحكمة.

القديس ايلاريون الكبير أب رهبان فلسطين

وُلد هذا القديس حوالي سنة 292 م. بالقرب من غزة من والدين وثنيين ثريين من أغنياء المدينة وتقع قرية (طاباتا) التي ولد فيها على بعد خمسة أميال جنوبي غزة في شمال سيناء نشأ محاطاً بكل أسباب العناية والترف، وتثقف بالعلوم اليونانية، وإذ كان أبواه يريدان أن يستزيد أبنهما من دراسة علوم ذلك العصر ليمكنه أن يتبوأ مركزاً عظيماً، أرسلاه إلى الإسكندرية ليتقى العلم في مدرستها ويتعمق في دراسة الفلسفة والمنطق. وعاش هذا الصبي كما يقول جيروم مثل وردة بين الأشواك، قادماً إلى الإسكندرية معقل العلم، كي يتقن فن البلاغة والخطابة والفلسفة، إذ أنها كانت أكثر الأعمال شهرة آنذاك إلا أن الله بعنايته الساهرة، كما يقول معلمنا القديس بولس (لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً) (رو8: 29)، إذ بينما كانت غاية إيلاريون من ذهابه إلى الإسكندرية أن يستزيد من حكمة هذا العالم وينهل من معارفه المتعددة، كانت نعمة الله -قبل إيمانه بالمسيح- تقوده لغاية أسمى من طلب العلوم، وتعده لرسالة أعظم لقد سمح الله أن يكون قدومه بهيجاً إلى الإسكندرية في زمان البابا بطرس خاتم الشهداء، وفي عهد القديس أرشيلاوس عميد مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وهناك أظهر إيلاريون، على الرغم من حداثة سنه، مثابرة عظيمة في تلقى العلوم بغير ملحوظة تعلم على يد القديس أرشلاوس مبادئ الإيمان المسيحي، إذ كانت المدرسة اللاهوتية السكندرية تدرس الفلسفة المسيحية النابعة من صفحات الكتب المقدسة، باعتبارها أشهر معهد عقلي في العالم المسيحي الأول، ومهد اللاهوت في العالم المسيحي.

القديس ميثوديوس الاوليمبى

أولًا: سيرته: كان ميثوديوس الذي يدعى أيضًا "يوبوليوس"، أسقفًا أولًا لمدينتى "أوليمبوس" و"باتارا" كما يشهد بذلك العديد من قدامى الكُتاب ثم انتقل بعد ذلك -بحسب شهادة القديس جيروم- إلى إيبارشية كرسى صور في فينيقية "لبنان" وفي نهاية آخر الاضطهادات العظيمة التي مرت بالكنيسة، نحو عام 213 م.، استشهد في "خالكيس" في "أوبية" (جزيرة يونانية)، ولو أن البعض يرى أنه نال إكليل الشهادة في خالكيس التي في سوريا حيث أنها الأقرب إلى صور، وإن شهادة القديس جيروم يجب أن تقهم هكذا، ويؤكد آخرون أنه تألم تحت حكم دسيوس وفاليريان ولو أن هذا مثار جدال بين المؤرخين، ذلك لأنه كتب ضد أوريجانوس بعد فترة طويلة من نياحة Adamantius، بل وكتب أيضًا ضد بورفيرى الذي كان حيًا أثناء حكم دقلديانوس قال أبيفانيوس عنه: "رجل متعلم ومدافع شجاع جدًا في الحق". ثانيًا: كتاباته: 1- وليمة العشر عذارى: من الواضح أن ميثوديوس كتب "وليمة العشر عذارى" لتكون نظير مسيحي لـ"الوليمة" التي كتب عنها أفلاطون. 2- عن الإرادة الحرة: مضمون الكتاب يسعى ليثبت -في شكل حوار- إن إرادة الإنسان الحرة هي المسئولة عن الشر، ويبدو أن هذا العمل موجه ضد أتباع فالنتينوس وضد الغنوسيين. 3- عن القيامة: عبارة عن حوار دار في بيت الطبيب أجلاوفون، وهو يقع في ثلاثة كتب يفند فيها ميثوديوس نظرية العلامة أوريجين في القيامة بجسد روحاني، ويؤكد أن جسد القيامة هو نفس الجسد البشرى بعينه شارحًا أن المسيح تجسد لكي يحرر الجسد ويقيمه ويرفض ميثوديوس فكرة أوريجانوس عن الوجود السابق للنفس، وكتب ضده بعنف وهاجم التعاليم الواردة في كتاب "المبادئ" عن النفس كسجن للجسد وعن أبدية الخليقة وعن طبيعة الجسد المقام، ورفض فكره عن غاية الله من خلق العالم ونهايته وشرح أن الإنسان كان في البدء غير مائت في النفس والجسد وأن الموت وانفصال النفس عن الجسد هو من نتائج حسد إبليس فقط، وأن غاية الفداء هو جمع ما فرقه الشيطان. 4- عن الحياة والأعمال العاقلة: يتضمن الكتاب الحث على الكفاف والرضى بما أعطاه الله لنا في هذه الحياة، وعلى أن نضع كل رجائنا في حياة الدهر الأتي. 5- الأعمال التفسيرية ثلاثة أعمال تفسيرية الأول: موجه إلى امرأتين فرينوب وكيلونيا، ويتحدث عن فرز الطعام وشريعة العهد الجديد. الثاني: بعنوان "إلى سيستليوس عن البرص" وهو حوار بين شخص يدعى يوبليوس وآخر يدعى سيستليوس عن المعنى الرمزي للأصحاح الثالث عشر من سفر اللاويين. الثالث: وهو تفسير رمزي لأمثال (15:30... إلخ) "عن بنات العلوقة اللواتي لا يشبعن" والعدد الثاني من المزمور الثامن عشر "السموات تنطق بمجد الرب والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 2:18). 6- ضد بورفيرى: كتب بورفيرى الفيلسوف خمسة عشر كتابًا "ضد المسيحيين" نحو عام 270 م.، ففند ميثوديوس هذا العمل ودحضه تمامًا، ولكن هذا الرد قد فُقد ولا نعلم عنه شيء. 7- الأعمال المفقودة: من أعمال القديس ميثوديوس المفقودة: عن الكاهنة (العرافة). عن الشهداء. تفسيره لسفر التكوين. تفسيره لسفر نشيد الأنشاد.

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل