المقالات
05 أغسطس 2021
شخصية مريم العذراء والدة الإله
مريم العذراء والدة الإله
أليس كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم، ومع ذلك فغالباً ما يخشى المرء أن يتناول موضوع هذه الشخصية التي نالت تقديراً عظيماً وبركة عجيبة بين نساء العالمين. وهناك سبب آخر ربما يعوق الكثير من المؤمنين في دراسة امتيازاتها وصفاتها، هذا السبب هو الوثنية التي جرفت معها الملايين الكثيرة من المسيحية المعترفة. وليس من ترياق لعلاج هذا الميل الوثني – الذي يُحزن كثيراً روح الله ويهين الرب نفسه – سوى التأمل فيما أنشدته هذه الأنية المختارة، هذا النشيد أو التسبحة المحفوظة لنا في الأناجيل. وهذا هو العمل الذي نقوم به بحسب قيادته لنا، بغرض أن نفهم فهماً جيداً، كما نتعلم من الروح القدس، نعمة الله العجيبة التي أفرزت تلك المرأة الفقيرة لهذه الكرامة التي لا يُنطق بها، وأيضاً ثمار تلك النعمة المستعلنة في إيمانها البسيط بالرب غير المتزعزع وفي تقواها وحياتها المتواضعة.ومن الملفت للنظر أننا نجد كلمات مريم وأعمالها مسجلة فقط في أناجيل لوقا ويوحنا، بينما في متى تُذكر مريم مع تفاصيل أخرى بالارتباط مع ميلاد يسوع في هذا العالم ولا تتجاوز أكثر من ذلك. ويوسف في هذا الأناجيل يبرز بشكل واضح فتنحدر سلسلة نسب يسوع من خلاله إذ يُحسب أنه ابن داود (ص 1: 16 و 20). وتبقى مريم الإناء المختار والمُعد من الله لامتياز لا يوصف لتصبر إناء تُقدم يسوع في وسط إسرائيل. ذاك الذي يخلص شعبه من خطاياهم، كما كتب هذا الإنجيلي "وهذا كله كان لكي يتم من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانيوئيل الذي تفسيره الله معنا".لقد تمت هذه النبوة وولد الطفل، وضياء مجده أشرق بلمعان من خلال مريم. ومن ثم نقرأ في الإصحاح التالي إذ قيل خمس مرات "الصبي وأمه" ولا يقال "الأم والصبي". فكيف يقال ذلك ما لم يكن هذا المولود ليس أقل من عمانوئيل – الله معنا؟ هذه الحقيقية متى فهمت كما ينبغي فإنها تخمد وراءها إلى الأبد الرغبة في تعظيم مريم فوق ابنها، كما علم الرب بنفسه في موضع آخر عندما أظهرت واحدة ممن أعجبها ما سمعته وأدهشها كلامه فقالت له "طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما" فأجابها "بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 11: 27 و 28). إنها ليست المرأة التي حظيت نعمة عظيمة ولكنه "نسل المرأة" الذي سحق رأس الحية، وهو ذاك الذي استغلت به كل مقاصد الله واكتملت. إنه هو ابن الله المحبوب وليس مريم الذي أمكنه أن يملأ قلوب شعب الله بالتسبيح والتعبد.
إرسالية جبرائيل إلى مريم:-
وعندما نأتي إلى إنجيل لوقا فإن تحتل مكانة بارزة في قصة الميلاد. أما التدريب الذي اجتازه يوسف في هذا الأمر فلا يرد عنه شيئاً هنا. إذ يقال هنا فقط أن مريم "عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم" (ص 1: 27). ويُنسَب لها أنها كانت تسكن الناصرة حيث أُرسِل الملاك جبرائيل من الله. وإذ كانت جالسة في المنزل، كما يتضح من هذه الكلمات "فدخل إليها الملاك"، قبلت منه التحية التي حياها بها – "سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك مباركة أنت في النساء". وجبرائيل هذا هو "الواقف قدام الله" (ع 19) والذي معه السر الإلهي بخصوص العذراء المختارة ونتبين من طبيعة تحيته لمريم أنه بمقدار النعمة المتفاضلة مع البركة التي تفردت بها بين نساء العالمين – والتي نالتها من الله. أيضاً نجد من كلماته مدى سرور إذ يشترك في أفكار الله.أما مريم فعندما رأت الملاك – الذي ظهر لها في صورة رجل بلا شك (انظر ص 24: 4) "اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية". لقد تفكرت في داخلها في كلمات جبرائيل ما مغزى ومعنى تلك الكلمات. ويمكننا أن ندرك ذلك جيداً إذا أعدنا على ذاكرتنا صفاتها ومركزها – فقد كانت امرأة تقية تخاف الله، وكيفما كانت سلسلة نسبها فقد يبدو أنها عاشت في ظروف متواضعة. فالتواضع والوداعة والإيمان هي السمات البارزة في حياتها الروحية. ولذلك فإنها اضطربت عند سماعها كلامه، وفكرت في داخلها، لا بالذهن الطبيعي تجاه شكوك ولادتها، بل بالحري كانت حيرة نفسها في معنى خطاب الملاك لها. وبما لها من بصيرة إلهية معطاة لها ونتبين ذلك في مشاعرها، فإن جبرائيل بدأ أول كل شيء أن يهدئ عقلها وحيرتها، لكي يعدها لتشترك في هذه الأمور العجيبة والتي جاء خصيصاً لذلك، مؤكداً لها أنها وجدت نعمة أمام الله. نقول أن إرسالية جبرائيل كانت لإعدادها. فما لم تصبح النفس في سلام وحرية تجاه الأمور الإلهية لا يمكنها أن تتمتع بها بعد (قارن دانيال 10: 19).ويا لها من رسالة سلمها جبرائيل "وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلى يدعى" ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه: ويملك على بيت يعقوب على الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (ع 31 - 33).ولأن موضوع تأملنا هنا شخصية مريم، فإننا لا نريد أن نسهب في الحديث عن هذا السر الذي لا يوصف وهو تجسد ربنا ومخلصنا المبارك، كما لا نريد أن نتوقف هنا عند هذه الألقاب المتعددة والأمجاد الكثيرة الممنوحة له. ولكننا نقول أولاً أن مجد شخصه متضمن في اسمه الكريم "يسوع" ومعناه "الله المخلص". وثانياً فإن كل ألقابه ترتبط بالأرض وبتمجيده على الأرض فهو "ابن العلى" و "ابن داود" الذي سيسود إلى الأبد على بيت يعقوب – هذا باعتباره وارث لحقوق داود الملكية، فهو رب داود كما أنه ابن داود كما يستحضر أمامنا في هذه النصوص. ولعل القارئ لا ينسى أن هذه المواعيد جميعها تنتظر تحقيقها عن قريب، ولابد أن تتم، وستتحقق بشكل غير قابل للخطأ بقوة اله بحسب مقاصده الأزلية. ربما يقيم الملوك أنفسهم ويتآمر الرؤساء معاً ضد الرب وضد مسيحه، ولكن كيفما كان تمرد الشعوب ورؤسائهم فإن الله في مقصده الذي لا يتزعزع أقام ملكه على صهيون جبل قدسه. وسيحكم إلى أن يضع جميع أعدائه تحت قدميه.وعندما وعد الله إبراهيم بابن فان سارة ضحكت في نفسها متشككة ولم تعرف قوة الله القادر على كل شيء صاحب الوعد. كما أن زكريا وقع في مشكلة الشك عندما قبل إعلاناً من جبرائيل بأن امرأته أليصابات ستحبل وتلد ابناً. ومريم أجابت الملاك "كيف يكون هذا؟" وعلى الرغم من أن ما وعد به كان خارج النظام الطبيعي، إلا أنه في حالة مريم لم يكن مثل الحالات السابقة مرتبطاً بعدم التصديق في التساؤل الذي طرحته. وهذا نجده من الحقيقة التي كان على جبرائيل أن يجيب عليها إجابة كاملة معلناً شيئين أولهما الحبل المعجزي لربنا المبارك وثانيهما أن الطفل المولود به يدعى ابن الله، وبحسب المزمور الثاني فهو ابن الله المولود في هذا العالم. ولكن لكي يقوي الإيمان المعطى لها من الله والذي نراه فيها فإن جبرائيل يعلنها أيضاً بنعمة الله المعطاة لإليصابات نسيبتها، وإذ يعطيها الأساس الذي لا يتغير لكل إيمان فإنه يقول لها "لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله". فالله لا يمكن أن يكون هو الله ما لم يكن هكذا، وأيضاً كما علم الرب نفسه "كل شيء مستطاع لدى المؤمن". وهذا هو الدرس الذي تتعلمه مريم الآن داخل أعماقها، وكما تظهر من إجابتها "ها أنا أمة الرب" (أي عبدته) "ليكن لي كقولك".وليس فقط أن مريم تعلمت أنه بدون الله ليس شيء مستحيلاً، ولكنها أيضاً بنعمة الله قدمت نفسها طوعاً وبدون تحفظ، بالتأكيد فقد تم ذلك بقوة الروح القدس لأجل تتميم إرادته المباركة. وفي كل الكتاب لا نجد إيماناً له تقديره دون ارتباطه بالخضوع التام. إنها لا تستطيع أن تتجاهل النتائج الممكن حدوثها في هذا العالم. ونتعلم من متى أنها صارت موضوعاً للشك والامتحان حتى من يوسف لكن الإيمان لا يجادل ولا تتملكه الحيرة ولكنه يستند ببساطة على الله، في يقين أنه إذا دعانا لأي خدمة أو حرضنا للسير في أي اتجاه فإنه يقودنا ويؤازرنا كيفما كانت التجربة أو الاضطهاد. إن سكون النفس التي استقرت على إرادة الله لهو شيء يفوق التعبير، وهذا هو الميراث التي تمتعت به مريم في ذلك الوقت. إن النعمة الممنوحة لها كانت بلا حدود ولم تكن أقل من النعمة التي مكنتها أن تقبل بروح هادئة ووديعة. وفي هذا الصدد أيضاً كما في اختبارها إناء لولادة يسوع فإن جميع الأجيال يطوبونها.
زيارة مريم لأليصابات:-
وحينما يكون هناك عمل لنعمة في النفوس فإنها تتجمع معاً بروابط الحب الإلهي – وهذا ما حدث مع مريم وأليصابات. فقد أعلن جبرائيل لمريم أن الله افتقد نسيبتها أليصابات، لكي تقوم بما كان يجب عليها أن تؤديه، سواء فهمت معنى الرسالة كاملة أم لا. وأصبح لديها الشعور أن لها صديقة واحدة يمكنها تسكب معها نفسها ولذلك "قامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلمت على أليصابات".وإذا كانت محملة بهذه الأخبار – التي قيلت لها. وهي تحكي عن أمانة الله لكلمته وعن تلك المحبة التي لا تنطفئ من نحو شعبه، فلم يكن أمامها غير أن تذهب مسرعة. ترى أي أفكار كانت تملأ قلبها المتعبد الساجد وهي تسرع في إرساليتها! وهي كواحدة من النساء القديسات من يهوذا والتي عرفت الكتب المقدسة جيداً التي تتحدث عن الملك الآتي ومجد تلك المملكة. إنها أقوال مثل: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك. صوت مراقبيك. يرفعون صوتهم يترنمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون. أشيدي ترنمي معاً يا خرب أورشليم لأن الرب قد عزى شعبه فدى أورشليم" (أشعياء 52: 7 - 9) أو أيضاً "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" (زكريا 9: 9). إن كلمات الملاك عينها التي تكلم بها نجحت في أن تذكرها بهذه النبوات المجيدة ليفيض قلبها بالتسبيح فهي كعذراء متواضعة ارتبط بها تتميم تلك النبوات.وزيارتها لأليصابات كانت من الرب، وهذا رأيناه من التحية التي استقبلت بها – هذه التحية كانت دافعاً لتثبيت إيمانها بشكل ملحوظ. وحالما سمعت أليصابات سلام نسيبتها تذكرت حالتها الخاصة، وفي الحال امتلأت بالروح القدس وأوحى لها أن تعلن البركة لتلك التي ميزها الرب بنعمته "وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟. فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني. ارتكض الجنين بابتهاج في بطني: فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من قبل الرب".وقبل أن نتناول إجابة مريم لأليصابات، هناك ملاحظات قليلة في هذه الكلمة. أليصابات إذ "امتلأت من الروح لقدس" صارت في شركة تامة مع أفكار الله تجاه مريم. كان جبرائيل قد قال لها: "مباركة أنت في النساء"، والآن أليصابات تقول لها: "مباركة أنت في النساء" وتضيف أيضاً "ومباركة هي ثمرة بطنك". وإذا انفتحت عيناها بقوة الله، رأت كما رأى الله فنطقت بذات تقدير الله لتلك التي اختارها لهذه الميزة المتفردة. وإذ امتلأت بالروح في تواضع ووداعة اعترفت بمجد مريم بنعمة الله. وأكملت قائلة "فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟". وهي نفسها إذ كانت غرض رحمة الله فإنها اتخذت المكان المتداني أمام تلك التي ستصبح أماً للرب.ليت هذا التعليم يتغلغل بعمق في قلوبنا. فمتى كان روح الله عاملاً في نفوسنا فإن كل حسد وخصام وغيرة ستختفي. وستنساب المحبة بلا عائق وكذلك التواضع الذي هو ثمرة المحبة. ثم أنها بعدما وصفت تأثير سلام مريم عليها، فهي تعلن الصفة الثالثة لتلك البركة. فقد بوركت مريم لأنها غرض رحمة الله، وبوركت أيضاً باعتبارها إناء لتجسد ربنا، كذلك بوركت بسبب إيمانها – الإيمان الذي يتخطى المصاعب ويستريح على قوة الله الفائقة. وهي كإبراهيم، لم تتزعزع بالشك في وعد الله ولكنها تقوت بالإيمان معطية مجداً لله. وهي إذ تمسكت بكلمة الله لم تتردد متحققة أن الذي وعد هو قادر أن يتمم. وبهذه الطريقة أكرمت الله، كما تلقت تأكيداً إلهياً على شفتي أليصابات بأنه سيتم لها عن هذه الأمور من قبل الرب.
أنشودة مريم The Magnificat:-
هذه هي كلمات مريم وقد وضعناها هنا أما القارئ لكي يدقق بعمق أكثر من معانيها الإلهية وجمالها الصحيح:
"تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى اتضاع أمته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن القدير صنع لي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. صنع قوة بذراعه شتت المستكبرين بفكر قلوبهم أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة كما كلم آباءنا لإبراهيم نسله إلى الأبد"
قال كاتب معروف: "من الملاحظ أنه لم يقال أن مريم كانت مملوءة من الروح القدس". ويكمل الكاتب قائلاً: "ويبدو لي أن هذا كان تمييزاً مكرماً لها. فقد افتقد الروح القدس أليصايات وزكريا بصورة استثنائية. ومع أننا لا نشك أن مريم كانت تحت تأثير روح الله، فقد كان تأثيراً داخلياً أكثر ويرتبط بإيمانها وتقواها وكذلك بعلاقات قلبها مع الله (والتي تكونت بسبب إيمانها وتقواها) واستطاعت أن تعبر عن نفسها أكثر من يجيش في حاسياتها ففاض من تلك الفتاة المتواضعة الشكر لأجل النعمة المقدمة لها، ولكن يرتبط تسبيحها وشكرها رجاء وبركة إسرائيل". هذه الملاحظات ستساعدنا في التأمل في ترنيمة الحمد وهذه والتي يمكن أن نصفها بحق "أفراح إسرائيل بالمسيح المعطى لهم". فبينما كانت أقوالها هذه نابعة من المشاعر التي تغمر قلبها بواسطة الروح القدس، فإن مشاعرها أيضاً كانت تتفق وتتجاوب ع النعمة الممنوحة لها والتي ميزتها، فمع كونها خاطئة إلا أنها صورة لإسرائيل (انظر عدد 54).وبنظرة سريعة على هذه التسبحة نجدها ذات طابع يهودي، فهي لا تتجاوز إبراهيم ونسله. وفي هذا الصدد يمكن مقارنتها بتسبحة حنة التي هي أيضاً لم تصل إلى ما وصلت إليه مريم من جهة مواعيد الله لإبراهيم ولكنها تتكلم عن معاملات الله في شعبه وتوقع الانتصار والخلاص الكامل عندما يتدخل الرب "مخاصموا الرب ينكسرون. من السماء يرعد عليهم. الرب يدين أقاصي الأرض، ويعطي عزا (أو قوة) لملكه ويرفع قرن مسيحه". أما مريم فمن الجهة الأخرى تنظر إلى الخلاص إذ يتحقق في شخص ذاك الذي سيولد – ولذلك تقول "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأب".هناك شيئان يدفعاننا إلى ملاحظتهما في ترنيمة مريم: أولاً أنها تنسب كل شيء إلى الله، وثانياً أنها تتخذ مكاناً باعتبارها لاشيء على الإطلاق، ولذلك ترنمت بنعمته. وبخصوص هاتين النقطتين فإننا لا نتغاضى عن تقرير هذه الكلمات: "لقد اعترفت بالله مخلصها بالنعمة التي ملأتها بالفرح، في الوقت الذي فيه اعترفت بصغرها وأنها لاشيء أبداً. ولذلك فمهما كان يتطلب من قداسة للإناء الذي يستخدمه الله فقد وجدناه حقاً في مريم – كانت عظيمة فقط بالقدر الذي أخفت فيه نفسها إذ كان الله كل شيء لها. ومتى حاولت أن تجعل شيئاً فهذا معناه أنها تفقد مكانها، وهذا ما لم تفعله. وقد حفظها الله لكي تستعلن نعمته استعلاناً كاملاً. ليتنا جميعاً نعطي الانتباه لهذا التعليم المبارك ومن المستحيل أن النعمة يكون لها السيطرة التامة على نفوسنا ما لم نأخذ مكاننا الحقيقي أي لا شيئيتنا أمام الله."ويستطيع القارئ أن يفهم لغة ترنيمة الحمد هذه إذ استوعب تلك الأفكار. وعندما يكون هناك عمل حقيقي لروح الله في نفوس شعبه فإن قلوبهم ترتفع إلى المصدر الذي تأتي منها بركتهم. وهكذا مع مريم فقد كان أول ما انطبع في فكرها عندما افتقدها الرب بنعمته التي لا توصف "تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي باله مخلصي". لقد اندمجت فرديتها في الحال بعمل روح الله العظيم في إسرائيل، ولذلك ابتهجت بإله إسرائيل ومخلصه. صحيح أنها تكلمت عن نفسها في العدد التالي وقالت أن الله نظر إلى اتضاع أمته (أو جاريته) وأن جمع الأجيال ستدعوها الطوبة، ولكن هذا باعتبارها فقط الإناء المختار للبركة الآتية لإسرائيل. إنها فكرة خلاص إسرائيل من حالتهم المتدنية التي ملأت نفسها عندما قالت "لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس". وتضيف للتو "ورجمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه". وترينا فضلاً عن ذلك أن إسرائيل كمختار الله هو الذي كان يملأ ذهنها – إسرائيل الذي كان يتكلم عنه بلعام بانحصار عندما قال أن الله لم يبصر إثماً في يعقوب. ولا رأى انحرافاً في إسرائيل – إسرائيل بحسب قصد الله وأفكاره.وتقدم لنا الثلاثة أعداد التالية مبادئ أعمال الله بالنعمة وما يجب أن تكون عليه النفس أساساً لتتجاوب مع النعمة وما يجب أن تكون عليه النفس أساساً لتتجاوب مع النعمة. فالمستكبرون بفكر قلوبهم والأعزاء وهم على الكراسي والأغنياء والشباعى ولا يمكنهم أن يقفوا أمام الله القدوس في دينونته. ولكن لهؤلاء الفقراء يكرز بالإنجيل دائماً وللمتواضعين والأدنياء يرفعهم الله وللجياع يملأهم بالخيرات. والرب نفسه يعلن ذات الدرس عندما قال "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون..." ثم يتحول إلى الجانب الآخر ويقول: "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون. ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون" (لوقا 6: 20 - 26). ليت هذه الكلمات الجادة تعمل بأقصى قدر وبصورة متسعة على تشجيع وتعزية الفقراء والمتألمين والمذلين من شعب الله، كما تكون أيضاً تحذيراً عالياً ومتوالياً للذين يطلبون الشبع والغنى والمجد في هذا العالم.وتختتم مريم تسبحتها بلغة أشرنا إليها قبلاً "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة. كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأبد". إن الإيمان هو البرهان أو الإيقان بالأمور التي ترجى، ومريم في تلك اللحظة عاينت تتميم كل مقاصد الله بالنعمة لشعبه الأرضي. حقاً فقد كان كل شيء آمناً ومستقراً في شخص ذاك الذي سيولد في هذا العالم. كما هتفت الملائكة بتسبحتها في الإصحاح التالي "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام للذين سر الله بهم".واستمرت مريم ثلاثة أشهر مع نسيبتها العجوز ثم عادت إلى بيتها. ويزيح الكاتب الستار عن تلك العلاقة الروحية والشركة بين هاتين القديستين ولا شك أنهما كانتا مشجعتين لبعضهما في الإيمان والفرح بالرب. وانتهت الزيارة وعادت مريم إلى بيتها "لتتبع طريقها بكل تواضع لتميم مقاصد الله". كان هذا المنزل هو البقعة التي على الأرض تجتذب اهتمام السماء وتتركز فيها.
وللحديث بقية
المزيد
04 أغسطس 2021
حَيَاتنا سلسلة اختبارات
كل إنسان منا يجتاز في حياته مجموعة من الاختبارات، يتوقف عليها تقييم شخصيته، وتحديد مكانه في الأبدية.ليس المهم في نوع الاختبار أو مدته، إنما في عمقه ودلالته. يوحنا المعمدان مثلًا، كانت فترة اختباره قصيرة، ربما لم تتعدَّ سنة أو أقل. ولكنه عبّر فيها على نجاح هائل في الخدمة، وتواضع وإنكار ذات، وشجاعة وجرأة، وثمر وفير. من أجل ذلك، اكتفى الله بتلك الفترة القصيرة من الاختبار، وشهد له بأنه أعظم من ولدته النساء وأخذه إليه، وهو في حوالي الثانية والثلاثين من عمره..كانت فترة اختبار قصيرة. ولكنها كانت كافية.. نفس الوضع بالنسبة إلي فترة اختبار القديسين مكسيموس ودوماديوس، اللذين انتقلا إلى الفردوس في شبابهما. وكذلك القديس ميصائيل السائح الذي وصل إلي درجة السياحة وهو في حوالي الخامسة عشرة من عمره.أيتساءل أحد ويقول: لماذا يا رب تأخذ مثل هذه النفوس الطاهرة، في تلك السنة المبكرة؟! ويكون الجواب: لقد نجحوا في اختبارهم، وكان كافيًا عليهم ما بذلوه من جهاد.. وبالمثل كان الاختبار لبعض الشهداء والمعترفين..لقد تم اختبار إيمانهم وثباتهم فيه، واحتمالهم من أجله.. ربما في أيام أو شهور. وكان ذلك كافيًا فنالوا إكليل الشهادة.على أنه بصفة عامة، قد تؤخذ الحياة كلها كاختبار. لأن البعض قد تمر عليه فترة ضعف أو فتور، لا تدل على طبيعة حياته كلها، وقد تعينه النعمة على تصحيح مسيرته. والله تبارك اسمه – لا يفاجئ الناس بالموت وهم في حالة سقوط، بل يعطيهم فرصة للتوبة.. كما حدث مع القديس أوغسطينوس، والقديس موسى الأسود، والقديسة مريم القبطية، والقديسة بيلاجية. وهكذا يقول الكتاب «انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ..» (عب13: 7).والاختبار الذي يجتازه الإنسان قد يكون سهلًا أو صعبًا. آدم وحواء اُختُبِرا بوصية عدم الأكل من شجرة واحدة. أما أبونا إبراهيم فأخذ وصية أصعب: أن يخرج من أهله وعشيرته وبيت أبيه (تك12) إلى حيث لا يدري. فخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب (عب11: 8). وهكذا نجح في الاختبار، وباركه الله. ثم دخل في اختبار أصعب، وهو قول الرب «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ» (تك22: 2). ولم يتردد هذا القديس في طاعة الأمر، فنال بركة أكثر، وأنقذ الرب اسحق.أما أبوانا الأولان، إذ فشلا في الاختبار، نالا عقوبة من الله، وطردهما من الجنة، وحُكم عليهما بالموت، لولا أن أُنقِذا بالفداء.المهم إذًا ليس هو نوع الاختبار، إنما موقف الإنسان منه. سواء كان اختبارًا واحدًا أو عدة اختبارات.يوسف الصديق اُختُبِر بعداوة إخوته له وبيعهم له للإسماعيليين (تك37: 28). فلم يحقد عليهم، بل على العكس أحسن إليهم وقال لهم «أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا» (تك50: 20). وجُرِّب بأن يكون عبدًا في بيت فوطيفار. فلم يتذمر وأخلص كل الإخلاص، ونجح ونال الثقة حتى صار وكيلًا لفوطيفار في كل بيته..اُختُبِر يوسف أيضًا بإغراء سيدته له، فرفض ذلك ونجح في الاختبار. واُختُبِر أيضًا بإلقائه في السجن ظلمًا، فلم يحتج. وكانت النتيجة أن رئيس السجن ترك كل شيء في يديه. وخرج من السجن ليكون الثاني في المملكة، ويكون «أَبًا لِفِرْعَوْنَ وَسَيِّدًا لِكُلِّ بَيْتِهِ وَمُتَسَلِّطًا عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ» (تك45: 8).هناك أنواع كثيرة من الاختبارات ومصادرها. بعضها من حسد الشياطين. مثلما حسد الشيطان أيوب الصديق، الذي «أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي الْمَشْرِقِ» كما كان كاملًا ومستقيمًا. وبسماح من الله ضربه بالتجربة الأولى، ففقد كل أبنائه وكل ثروته. ولكنه نجح في هذا الاختبار وقال «الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا» (أي1: 21).وكان الاختبار الثاني لأيوب أصعب من الأول، فضُرِب في صحته، وفقد أيضًا كل شيء، حتى احترام أصحابه، واحترام زوجته.. وصبر أيوب، وباركه الله. وأعاد إلي كل شيء وأكثر، وبارك عمره فمات شيخًا وشبعان أيامًا (تك42: 10-17). وقال عنه القديس يعقوب الرسول «هَا.. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ» (يع5: 11).وقد يأتي الاختبار من مضايقات الناس، أو اضطهاداتهم. مثل عصر الاستشهاد الذي اُختُبِرت به الكنيسة في أيام الدولة الرومانية، وكيف صمدت الكنيسة ونجحت في الاختبار، فجعلها الله تمتد إلى أقاصي الأرض، ومنحها المواهب وصنع المعجزات. وجعل الله ذلك الاضطهاد يُختَم بمرسوم ميلان للحرية الدينية الذي أصدره قسطنطين الملك سنة 313م.أما سوء المعاملة فهو اختبار آخر، قد يحدث في محيط العائلة، أو في جو العمل بين الرؤساء والمرؤوسين، أو حتى في جو المجتمع عمومًا. ويُعرَف به معدن الإنسان، ومدى احتماله أو هياجه...والاختبار عمومًا: إن نجح فيه الإنسان ينال الإكليل. وفي سفر الرؤيا (رؤ2، 3) في رسائل الرب إلى الكنائس السبع، نرى أمثلة كثيرة من هذه الإكاليل التي أعدها الله للغالبين. فكل من يغلب، أي من ينجح في اختباره، له مكافأت عند الله في الحياة الأبدية، وربما في الحياة الأرضية أيضًا. يقول القديس بولس الرسول «وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا» (2تي4: 8).الاختبار ذكره الرب في مثل البيتين: اللذين كان أحدهما مبنيًا على الصخر، والآخر مبنيًا علي الرمل (مت7: 24-27). الاختبار جاء إلى كلٍّ من النوعين (الجيد والرديء). قيل في ذلك الاختبار «فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ». فالبيت المبني علي الصخر لم يسقط. أما المبني علي الرمل، فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا.إذًا لابد أن يستعد الإنسان لملاقاة الاختبار الذي سيتعرض له: يستعد بالإيمان القوي، وبالقلب النقي، وبشركة الروح القدس... وبهذا لا يتزعزع، بل يظل صامدًا. وبالأكثر ينمو في النعمة.إن اختبار كل شخص، هو أمر نافع له ولغيره. ففي الاختبار: كما يُختبَر هو في إرادته وعمله، فهو أيضًا يَختبر عمل الله معه، وتدخُّل النعمة في حياته، ويزداد خبرة بالحياة الروحية وبحروب الشياطين، وبالتجارب والانتصار عليها.إن القديس الأنبا أنطونيوس – بوحدته في البرية، وبكل ما قد تعرض له من تجارب – نال خبرة وقوة، بل نال سلطانًا على الشياطين. وهكذا بعد أن عاش تلميذه بولس البسيط فترة معه، أرشده بأن يعيش في الوحدة لكي يختبر حروب الشياطين...ومن كل هذا، صارت اختبارات الآباء وخبراتهم، دروسًا لنا جميعًا استفدنا بها. ونتعمق بها في المعرفة كلما قرأنا سير القديسين. بل إننا نستفيد أيضًا من قصص سقوط الآخرين كذلك، لنعرف أسباب الفشل ونتائجه، لكي نحترس من تلك الأسباب ونستعد لمواجهتها.إن الاختبار قد يمس أحيانًا نقطة الضعف في الإنسان. مثال ذلك قصة الشاب الغني، الذي كان قد حفظ الوصايا منذ حداثته. ولكن كانت له نقطة ضعف وهي محبته للمال. وهكذا عندما اختبره الرب بقوله «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي» (مت19: 21). قال عنه الكتاب «مَضَى حَزِينًا». وفشل في الاختبار «لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ».إذًا أبحث عن نقطة الضعف التي فيك، وأعمل علي علاجها، لئلا يأتيك الاختبار من هذه النقطة بالذات.وقد يُختبَر الإنسان بالأمراض، أو بالضيقات. ليظهر من هذا الاختبار: هل هو يتذمر، أو يفقد إيمانه بمراحم الله؟ أم هو يقابل ذلك بهدوء وبشاشة وصلاة؟ أم هو في حالة المرض يستعد لأبديته؟ أو هو في حالة الضيقات يقول مع بولس الرسول «لِذلِكَ أُسَرُّ بالضِّيقَاتِ» أو يقول معه «كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِمًا فَرِحُونَ» (2كو6: 10). إنه اختبار.وقد يُختبَر إنسان بعدم استجابة صلاته، أو بتأخر استجابتها. بولس الرسول اختبر بعدم استجابة صلاته، عندما طلب أن تُرفع عنه الضربة التي أصابته في الجسد «لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعْلاَنَاتِ». بل استبقى الله تلك الضربة، وقال له «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي» (2كو12: 8، 9). ونجح القديس بولس في الاختبار، وشكر الله على نعمته (1كو15: 10).أما عن تأخر الله في الاستجابة. فمثلما تأخر الله في منح إبراهيم ابنًا. وكانت النتيجة أنه لجأ إلى الطرق البشرية، فأخذ هاجر لينجب منها...وقد يكون الاختبار بالسلطة أو المال. فهناك بعض الناس إن ارتفع قدرهم بسلطة نالوها، ترتفع قلوبهم من الداخل، وينظرون إلى غيرهم من فوق، وتتغير معاملتهم لهم!! ولهذا قال القديس أنطونيوس إن احتمال الكرامة أصعب من احتمال الاهانة.. والمال أو الغنى مثل الكرامة أيضًا. قال الشاعر:لما صديقي صار من أهل الغنى أيقنت أني قد فقدت صديقيالمواهب هي اختبار آخر: هل يرتفع بها القلب أم يحتفظ بتواضعه؟ مثال ذلك الذين يفتخرون بموهبة الألسنة (إن كانت حقًا، ويظنوها علامة على الملء!!) أو قول الكتاب عن هاجر، إنها «وَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ صَغُرَتْ مَوْلاَتُهَا فِي عَيْنَيْهَا» (تك16: 4).
قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
03 أغسطس 2021
العذراء عند القديس كيرلس الكبير
يقول القديس كيرلس الكبير فى كتابه ( شرح تجسد الابن الوحيد )
ولد الكلمة من الآب بطريقة لا ندركها بل هى فوق مستوى الإدراك لكنه فى الزمان الاخير تجسد وولد من امرأة حسب الجسد .
والذى حدث انه اخذ من العذراء القديسة جسداً واتحدبه اتحاداً حقيقياً .
لذلك نعتقد ان العذراء القديسة هى والدة الإله لانها ولدته حسب الجسد لكنه مولود فى ذات الوقت من الآب قبل كل الدهور .
اذا كان هناك احد ما يتجرأ او يعلم ان العذراء مريم ولدت الطبيعة الإلهية غير الجسدانية فإن هذا هو الجنون بعينه لإن الطبيعة الإلهية ليست من تراب الأرض حتى تولد منه ولا تلك الخاضعة للفساد
( اى العذراء) تصبح أماً لعدم الموت ،ولاتلك الخاضعة للموت تلد الذى هو حياة الكل ،ولاغير المادى يصبح ثمرة للجسد الذى بطبيعتة خاضع للميلاد وله ابتداء فى الزمان .
الجسد لا يمكنه ان يلد الذى لا بداية له .
لكننا نؤكد ان الكلمة صار ما نحن وأخذ جسداً و أتحد به اتحاداً حقيقياً بطريقة فوق الإدراك او التعبير وانه تأنس وولد حسب الجسد . ألا تولد النفس البشرية وهى من طبيعة مختلفة عن الجسد لأنها متحدة به ،ولا أظن ان احداً سيفترض ان النفس لها طبيعة الجسد او انها تتكون معه ،وانما الله بطريقة غير معروفة بغرسها فى الجسد و تولد معه . ولذلك نحن نحدد ان الكائن الحى الواحد المولود هو من اثنين . وهكذا الكلمة هو الله لكنه تجسد ،وايضاً ولد حسب الجسد و بطريقة بشرية لذلك تدعى التى ولدته والدة الإله.
( عن كتاب شرح تجسد الابن الوحيد صـــ 43 ـــ الى صـــ 45 ـــ )
ويقول القديس كيرلس فى رسائله : حيث ان العذراء القديسة ولدت جسدياً الله متحداً بالجسد الإقنوم فنحن نقول انها والدة الإله ليس ان طبيعة الكلمة تأخذ بداية وجودها من الجسد لانه ( اى الكلمة ) كان فى البدء و الكلمة كان الله ( وكان الكلمة عند الله ) ( يو 1:1 ) وهو نفسه خالق الدهور وهو ازلى مع الآب وخالق كل الاشياء لانه كما قلنا سابقاً انه اذ وحد الانسانى بنفسه اقنومياً فإنه احتمل الولادة الجسدية من بطنها . واذا قد ولدته امرأة موحداً نفسه بالجسد فسوف ترفع اللعنة اذن عن كل الجنس البشرى .
( عن الرسالة السابعة عشرة ، الجزء الاول صـــ 34 ــ )
من لا يعترف ان عمانوئيل هو الله بالحقيقة و بسبب هذا فالعذراء هى والدة الإله ( لانها ولدت جسدياً الكلمة الذى من الله ، الذى تجسد ) فليكن محروماً .
(عن الرسالة السابعة عشرة ، الجزء الاول صـــ 35 ـــ )
نعترف ان ربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد هو إله كامل و انسان كامل ذو نفس عاقلة و جسم ،وهو مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته و انه هو نفسه فى الايام الاخيرة من أجلنا ومن أجل خلاصنا ولد من مريم العذراء بحسب ناسوته وهو نفسه من الجوهر نفسه الذى للآب ( او مع الآب ) حسب لاهوته ومن نفس الجوهر الذى لنا (او معناه ) بحسب ناسوته لانه قد حدث اتحاد بين الطبيعتين لاجل هذا نعترف بمسيح واحد ، ابن واحد ، رب واحد ،و بحسب هذا الفهم للإتحاد بدون اختلاط نعترف بأن العذراء القديسة هى والدة الإله لان الله الكلمه قد تجسد و تأنس ، ومنذ ذات الحمل به هيكل الذى اخذة منها مع ذاته
( من الرسالة 39 صــــ 43 ــــ )
+ ربما يقول أحد أن اسم ( المسيح ) لايطلق فقط على عمانوئيل وحده بل سوف نجده يطلق على آخرين ايضاً لان الله قال فى موضع ما عن اولئك الذين اختيروا و تقدسوا بالروح ( لاتمسوا مسحائى ولا تسيئوا الى انبيائى )( مز15:105 ) وعلى ذلك فان اسم المسيح يجب ان يطلق ليس فقط و بوجه خاص على عمانوئيل بل ايضاً على كل الباقين الذين يمسحون بنعمة الروح القدس .
ولكن توجد هوة كبيرة و اختلافات لاتقارن تفصل بين حالتنا و بين مجد و تفوق مخلصنا . فان كان جميع الآخرين هم مسحاء وهذا معقول جداً بسبب انهم مسحوا . اما المسيح وحده فهو الإله الحقيقى (عمانوئيل ) وبالحقيقة فإن احداً لا يخطىء .
إن إختار ان يقول ان امهات آخرين هم ( والدات مسيح ) ولكن ليسوا بآى حال ( والدات إله ) ايضاً ان العذراء القديسة وحدها بالمقابلة مع اولئك النساء هى كما ندركها و ندعوها والدة المسيح ووالدة الإله معاً لانها لم تلد مجرد انسان بسيط مثلنا بل بالحرى الكلمة الذى من الله الآب الذى تجسد و تأنس لاننا نحن ايضاً ندعى آلهه بجسب النعمة أما الإبن فليس إلهاً على هذا النحو ، بل بالحرى هو إله بالطبيعة و بالحق حتى وان قد صار جسداً .
+ ولكن ربما تقولون هذا ( قل لى اذن ، هل العذراء صارت والدة لاهوته )؟ ....
ورداً على هذا نقول ان كلمة الله نفسه الحى ، الكائن بإقنومة ، ولد من جوهر الله الآب ذاته وان الذى كان بلا بداية صار له بداية فى الزمن وكان دائماً موجوداً مع الذى ولده و كائناً فيه و موجوداً معه و يشاركة فى التفكير فى ازمنة الدهر الأخير حينما صار جسداً اى حينما اتحد بجسد ذى نفس عاقلة قيل انه ولد ايضاً جسدياً من امرأة .
ان سر تجسده هو بكيفية ما مماثل لولادتنا لان امهات اولئك الذين على الارض الخاضعات لقوانين الطبيعة فيما يخص الولادة لهم يثنت فى الرحمة وهو الذى ينمو قليلاً بحسب افعال الله غير المدركة ويصل الى النضوج .
الله لم يرسل الروح فى الكائن الحى بكيفية معروفة له . هذا بحسب قول زكريا النبى ( لأنه يجبل روح الانسان فى داخلة ) ( زك 1:2 )
+ ان لوغوس ( كيان ) الجسد الواحد :
وكذلك فإن لوغوس ( كيان ) النفس آخر و مع ذلك فمتى لو كانت هؤلاء النساء هن فقط امهات للأجساد التى من الأرض إلا انهن يلدن الكائن الحى كله ، وانا اعنى كائناً مكون من جسد ونفس ولا يقال عنهن انهن يلدن جزءاً من الكائن ولن يقول أحد ان اليصابات مثلاً كانت اماً فقط لجسد وليست اماً ولدت نفساً فى العالم الى جانب الجسد لانها ولدت المعمدان انساناً ذا نفس و كائناً حياً مكوناً من الإثنين وانا اعنى انساناً له نفس وجسد معاً .
+ اننا سنقبل ان شيئاً مثل هذا قد حدث فى ولادة عمانوئيل ايضاً لان كلمة الله الوحيد قد ولد من جوهر الله الآب . ولكن حيث ان الكلمة اتخذ له جسداً وجعله خاصاً به فإنه ايضاً حمل اسم ابن الانسان وصار مثلنا . وان رغب احد ان يقول ان أم فلان هى أم لجسده فقط و ليست ايضاً أماً لنفسه ،فإنه بذلك يفكر بغباء شديد لان الكائن الحى يولد مكوناً من عنصرين غير متماثلين إلا انه لإنسان واحد وكل عنصر منهما يظل كما هو.
والإثنان هما معاً كما فى وحدة طبيعية واحدة ، كما لو كانا يفحصان احدهما الآخر ، وكل منهما ينقل الى الآخر ما هو خاص به .
( من الرسالة الاولى صـــ 10 ـــ الى صــــ 14 ــــ )
وعن بتولية القديسة العذراء مريم كتب القديس كيرلس :
ولكن اولئك الذين يجادلون و يقولون ان كان هو قد جاء فى الجسد فتكون العذراء قد فسدت وان لم تكن قد فسدت فإنه يكون قد جاء بطريقة خيالية فقط ، هؤلاء نقول لهم ان النبى يعلن ( ان الرب إله اسرائيل قد دخل و خرج و الباب مغلقاً ) ( خر 2:44 )
وايضاً ان كان الكلمة قد صار جسداً بدون تزاوج جسدى اذ انه حبل به بدون ذرع بشر فإنه اذن ولد بدون ان تمس عذراويتها .
( عن كتاب تفسير أنجيل لوقا للقديس كيرلس الاسكندرى ج1 صــــ 28 ـــ )
+ يتكلم القديس كيرلس الكبير عن ( والدة الإله سر فرح العالم ) قائلاً :
اننى ارى اجتماع القديسين كل الغيورين اجتمعوا معاً مدعوين من أم الله القديسة الدائمة البتولية مريم .
كنت اشعر بالحزن الشديد ولكن حضور الاباء القديسين حول هذا الحزن الى فرح و ابتهاج ، الآن كلمات التسبيح الحلوة التى لداود قد تحققت فى حضورنا
( هوذا ما احسن وما احلى ان يسكن الاخوة معاً) (مز 1:133 ) . نقول (اعظمك يامريم يا والدة الإله )
بل تنبأ الانبياء و تغنى الرعاة بتماجيد إلهية . الملائكة ترقص و رؤساء الملائكة يسبحون بألحان عظيمة .
ينحنى المجوس ساجدين فى عبادة و خشوع ، تهلل يوحنا فى بطن أمه وسجد المصباح للنور السرمدى .
اشرقت النعمة التى لاينطق بها . و النور الحقيقى اتى الى العالم ... ربنا يسوع المسيح نوراً اشرق على الجالسين فى الظلمة و ظلال الموت لأجلك و بسببك اعلن الانجيل ( مبارك الآتى باسم الرب )( لو 38:19)
بك تأسست الكنائس الارثوذكسية فى كل مكان . اشرق منك قاهر الموت و محطم الجحيم . منك خرج صانع الخليقة الاولى و اصلح فساد الانسان الاول ، ذلك الذى فى يده ملكوت السموات . بك أظهر جمال القيامة و زاد تآلقه ،لقد اشرقت معمودية القداسة العظيمة من الاردن ، تقدس يوحنا وتقدست مياة نهر الاردن و طرد الشيطان . بك حصلت كل نفس مؤمنه على الخلاص .
+ عظة القاها القديس كيرلس الكبير ضد نسطور فى مدينة افسس بكنيسة السيدة العذراء :
السلام للثالوث القدوس الذى دعانا معاً فى هذة الكنيسة المكرمة على أسم العذراء والدة الإله السلام لك منا يا والدة الإله نعظمك ، نعظمك يا والدة الإله الكنز المرهوب الذى ( اعنى ) العالم كله .المصباح غير المنطفىء تاج البتولية صورلجان الارثوذكسية ، الهيكل غير الفاسد ، الإناء الذى حوى غير المحوى ، الأم و العذراء التى بك قيل فى الأناجيل ( مبارك الآتى باسم الرب ) ( مت 9:21 )
السلام لك يا من حويت غير المحوى فى بطنك القدس البتول . بك سقط الشيطان المجرب من السماء وعادت الخليقة الساقطة الى الفردوس . بك قدمت المعمودية ومسحة الميرون الى المؤمنين . بك تأسست الكنائس فى كل العالم و تغيرت الشعوب ماذا اقول اكثر من ذلك ؟ ...
منك اشرق الإبن الوحيد الجنس مثل نور لأولئك الجالسين فى الظلمة و ظلال الموت ، بك تنبأ الانبياء و بك كرز الرسل بالخلاص للامم . بك قام الاموات و حكم العظماء و ملك الثالوث القدوس .
مَن مِن البشر يقدر ان يمدح مريم المطوبة ...
البطن البتولى ، يالهذا العجب ان هذة العجبية تهزنى بشدة فرحاً .
هل سمع ان البناء منعه احد من ان يسكن فى الهيكل الذى بناه هو نفسه ؟ ....
هل يلام من دعى خادمته لتكون اماً له ؟.....
( ما اجمل اقدام البشرين بالسلام ) ( رو 10:15 )
اى سلام هذا ؟ انه ربنا يسوع الذى ولد من مريم حسبما اراد هو .
الراهب القس بطرس البراموسى
المزيد
02 أغسطس 2021
القديسة مريم العذراء وكرامتها
القديسة مريم فى الكتاب المقدس والتقليد الكنسى.
+ اهنئكم احبائى ببدء صوم القديسة مريم العذراء ، وهى التى ذكرها الكتاب المقدس باكرام واجلال وجاء عنها الكثير من الرموز والنبوات فى العهد القديم ولها كرامتها الفريدة فى العهد الجديد فهى والدة الاله الكلمة المتجسد ، المملؤة نعمة ، القديسة الشفيعة التى قام السيد المسيح بعمل اولى معجزاته فى عرس قانا الجليل بطلبتها وهى توصينا دائما ان نطيع وصايا الله {قالت امه للخدام مهما قال لكم فافعلوه} (يو 2 : 5). انها المراة التى تنبأ عنها سفر التكوين بان نسلها يسحق راس الحية القديمة ابليس {واضع عداوة بينك و بين المراة و بين نسلك ونسلها هو يسحق راسك} (تك 3 : 15). وهى العذراء الدائمة البتولية { ولكن يعطيكم السيد نفسه اية ها العذراء تحبل و تلد ابنا و تدعو اسمه عمانوئيل} (اش 7 : 14). وهى القديسة التى حل الروح القدس عليها وقدسها وملائها نعمة وبصوت سلامها على اليصابات امتلات اليصابات من الروح القدس { فقامت مريم في تلك الايام وذهبت بسرعة الى الجبال الى مدينة يهوذا.ودخلت بيت زكريا وسلمت على اليصابات. فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها وامتلات اليصابات من الروح القدس.وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة انت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك.فمن اين لي هذا ان تاتي ام ربي الي.فهوذا حين صار صوت سلامك في اذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني.فطوبى للتي امنت ان يتم ما قيل لها من قبل الرب. } (لو 1 : 39-45). ومن سفر التكوين الى سفر الرؤيا نرى رموز واشارات عن القديسة مريم { وظهرت اية عظيمة في السماء امراة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى راسها اكليل من اثني عشر كوكبا }(رؤ 12 : 1).
+ والعذراء مريم لها كرامتها فى تقليد الكنيسة منذ العصر الرسولى ، فهى الإنسانة الوحيدة التى أنتظر الله آلاف السنين حتى وجدها ورآها مستحقة لهذا الشرف العظيم بان يتجسد منها الله الكلمة هذاالشرف الذى شرحه الملاك جبرائيل بقوله { الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلىّ تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يدعى أبن الله}(لو35:1). لهذا قال عنها الكتاب المقدس "بنات كثيرات عملن فضلاً أما أنت ففقتِ عليهن جميعاً " (أم29:31).
+ على الصليب عهد بها السيد المسيح الى يوحنا الحبيب { ثم قال للتلميذ هوذا امك و من تلك الساعة اخذها التلميذ الى خاصته} (يو 19 : 27) فلو كان لها ابناء أخرين كما يدعى البعض لكانوا اجدر واحق برعايتها ! واذ صارت العذراء اما للرسل فهى أمنا لنا نحن الذين امنا على ايديهم . وما أكثر الالقاب التى اطلقها الاباء على القديسة مريم بما تحمله من مدلولات روحية مستمدة من الكتاب المقدس ، فهى السماء الثانية ، الحمامة الحسنة ، دائمة البتوليه ، شورية هارون ، سلم يعقوب ، الملكة القائمة عن يمين الملك كما جاء فى المزمور {قامت الملكة عن يمينك ايها الملك} مز9:45.والدة الاله وهذا اللقب ثبتته الكنيسة باجمعها فى مجمع افسس 431م كما جاء فى الإنجيل {فمن اين لي هذا ان تاتي ام ربي الي }(لو 1 : 43). ونقول عنها فى التسبحة ان الاب تطلع من السماء فلم يجد من يشبهك ارسل وحيده اتى وتجسد منك . ولقد بنيت اول كنيسة على اسم القديسة مريم فى مدينة فيلبي فى عصر الرسل لاكرام العذراء التى بصلواتها انحلت ابواب السجن الحديدية واخرجت القديس متياس الرسول من السجن .
+ من اجل كرامة العذراء والاقتداء بها وتطويبها نهتم باكرامها ومدحها فى التسبحة اليومية والقداسات ففى القداس الالهي يجرى ذكرى تطويب العذراء فى أكثر من مرة ففى لحن البركة: وقبل رفع الحمل يقال النشيد الكنسى للعذراء ومطلعه ( السلام لمريم العذراء الملكة ونبع الكرمة ) عند رفع بخور البولس: يقال فى الأعياد وأيام الفطر لحن: (هذه المجمرة الذهب هى العذراء وعنبرها هو مخلصنا ، قد ولدته وخلاصنا وغفر لنا خطايانا).وفى مقدمة قانون الإيمان: أبرزت الكنيسة أهمية شخصية العذراء مريم كوالدة الآلة فى التقليد الكنسى، بعد انعقاد مجمع أفسس مباشرة سنة 431م، وذلك لضبط مفهوم التجسد الإلهى ومقاومة البدع. وهكذا أضافت مضمون العقيدة التى أقرها هذا المجمع فى مقدمة قانون الإيمان والتى مطلعها: (نعظمك يا أم النور الحقيقى...).وبعد صلاة الصلح وقبل قداس المؤمنين نطلب شفاعة امنا العذراء "بشفاعة والدة الاله القديسة مريم يارب أنعم لنا بمغفرة خطايانا). فى مجمع القديسين نطلب شفاعة العذراء مريم على رأس قائمة أعضاء الكنيسة المنتصرة فى صلاة المجمع، فنحن نؤمن اننا كنيسة واحدة سواء من انتقلوا او يجاهدوا ليكملوا وينتصروا نصلى بعضنا من أجل بعض .
فضائل فى حياة العذراء مريم .
+ التواضع فى حياة القديسة مريم .ان التواضع صفة محبوبة من الله والناس { لان قدرة الرب عظيمة وبالمتواضعين يمجد} (سيراخ 3 : 21). { يقاوم الله المستكبرين و اما المتواضعون فيعطيهم نعمة} (يع 4 : 6). والعذراء القديسة مريم رغم ما نالته من حظوة وكرامة لدى الله { دخل اليها الملاك وقال سلام لك ايتها المنعم عليها الرب معك مباركة انت في النساء... وها انت ستحبلين و تلدين ابنا وتسمينه يسوع.هذا يكون عظيما و ابن العلي يدعى و يعطيه الرب الاله كرسي داود ابيه.ويملك على بيت يعقوب الى الابد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وانا لست اعرف رجلا. فاجاب الملاك وقال لها الروح القدس يحل عليك و قوة العلي تظللك فلذلك ايضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله} لو28:1،31-35. بعد هذه الكرامة نراها تجاوب الملاك { فقالت مريم هوذا انا امة الرب ليكن لي كقولك فمضى من عندها الملاك} لو 38:1 . وبعدما قال لها الملاك عن حبل اليصابات قامت مسرعة لتخدمها وعندما التقيا وامتلات اليصابات من الروح القدس وقالت لها من اين لى هذا انت تأتى ام ربى اليٌ نرى العذراء تعطى المجد لله { فقالت مريم تعظم نفسي الرب.و تبتهج روحي بالله مخلصي.لانه نظر الى اتضاع امته فهوذا منذ الان جميع الاجيال تطوبني.لان القدير صنع بي عظائم و اسمه قدوس} لو 46:1-49. احتملت العذراء فى تواضع الكرامة وسوء الظن من البعض فى تواضع عجيب وتسليم كامل لمشيئة الله . منذ طفولتها وحتى نهاية حياتها على الارض فى صمت الاتقياء { و اما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها} (لو 2 : 19).
+ الإيمان والصلاة . ظهر ايمان العذراء مريم فى العديد من المواقف فى حياتها ، فلم يحدث لعذراء غير متزوجة قبلها انجاب طفل ولكن كان للعذراء الايمان القوى الذى به اجابت به الملاك ليكن لى كقولك حتى ان اليصابات طوبتها على هذا الإيمان قائلة لها { فطوبى للتي امنت ان يتم ما قيل لها من قبل الرب} (لو 1 : 45). لقد كان ايمانها وعمق صلواتها مبني على علاقتها القوية بالله والكتاب المقدس حتى ان تسبحتها الحلوة عقب زيارتها لاليصابات كانت عبارة عن ايات من العهد القديم { فقالت مريم تعظم نفسي الرب. وتبتهج روحي بالله مخلصي.لانه نظر الى اتضاع امته فهوذا منذ الان جميع الاجيال تطوبني.لان القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس.ورحمته الى جيل الاجيال للذين يتقونه.صنع قوة بذراعه شتت المستكبرين بفكر قلوبهم.انزل الاعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين.اشبع الجياع خيرات وصرف الاغنياء فارغين.عضد اسرائيل فتاه ليذكر رحمة.كما كلم اباءنا لابراهيم و نسله الى الابد} لو46:1-55. وعند الصليب وقفت العذراء الام تتأمل بايمان تتميم عمل الخلاص وسيف الآلم يجتاز قلبها كما سبق وانبائها سمعان الشيخ عندما كان يسوع المسيح ابن اربعين يوما وكانت تقول ( اما العالم فيفرح بقبوله الخلاص واما احشائى فتلتهب عند نظرى الى صلبوتك الذى انت صابر عليه يا ابنى والهى). وظهر ايمانها فى طاعتها وتسليمها عندما خدمت فى الهيكل وهى طفلة وفى خضوعها عند سن البلوغ وذهابها الى بيت يوسف النجار بامر الشيوخ حيث كانت يتيمة الابوين ، وفى ذهابها الى مصر مع يوسف النجار وفى طاعتها لامر السيد المسيح بان تحيا فى رعاية القديس يوحنا الحبيب .
3 – العذراء وحياة الطهارة ..لقد عاشت العذراء حياة الطهارة والعفة منذ طفولتها فى الهيكل وكما تلقبها الكنيسة بحق العذراء كل حين ، ولتنظروا حتى الى ثيابها المتشحة بها فى كل الظهورات حتى بعد صعودها الى السماء ، مكتسية بحلل البهاء ومتسربلة بثياب من نور رمزا لطهارتها وعفتها . وعندما راي القديس يوسف النجار حبلها واذ كان رجلا بارا واراد ان يخليها سراً فمن أجل اظهار برائتها ظهر له ملاك الرب مدافعا عنها { و لكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تاخذ مريم امراتك لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس} (مت 1 : 20). وحسب التقليد الكنسي فان الذى رفع يديه ليعترض جسدها فى الطريق الى القبر فى عدم أحترام لها قطع يديه ملاك الرب مدافعا عن قداستها ولما صرخ نادما أعادها له الرسل بمعجزة . فحرى ببناتنا ان يتخذن من العذراء شفيعة وقدوة فى الطهارة النابعة من محبة الله والتأمل فى كلامه وحفظ وصاياه والعمل بها .
صوم القديسة مريم العذراء.
++ اننا اذ نكرم العذراء القديسة مريم ونطلب شفاعتها عند الله ونصوم باسمها فهذا من قبيل الأكرام وليس العبادة اطلاقاُ فالسجود والعبادة لله وحده {للرب الهك تسجد و اياه وحده تعبد }(مت 4 : 10). فصومنا وصلواتنا مقدمة لله القدوس ونحن نكرم الله فى جميع قديسه الذي قال للرسل الذى يرزلكم يرزلنى والذى الذى يكرمكم يكرمنى والذى يكرمنى يُكرم ابى الذى ارسلنى . ونحن نتعلم من فضائل القديسة مريم كام روحيه لنا { اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله انظروا الى نهاية سيرتهم فتمثلوا بايمانهم }(عب 13 : 7). العذراء بمحبتها وحنانها تطلب عنا وقد اختبارنا دالتها وصلواتها المستجابة عنا ، ونحن فى الكنيسة القبطية عبر تاريخها الطويل نتمتع بامومة ورعاية وشفاعة امنا القديسة مريم وظهوراتها المتكررة فى مصر على المستوى العام او معجزاتها وظهوراتها على المستوى الفردى تشهد لصحة إيماننا وقوة شفاعتها الدائمة عنا .
+ ان اصوامنا كلها نقدمها لله زهدا ونسكا وتفرغا من الأهتمام بملاذ الجسد لنتقوى فى الروح ونهتم بغذاء ارواحنا ، ويقال ان هذا الصوم صامه آبائنا الرسل أنفسهم لما رجع توما الرسول من التبشير فى الهند، فقد سألهم عن السيدة العذراء، قالوا له إنها قد ماتت. فقال لهم: (أريد أن أرى أين دفنتموها!) وعندما ذهبوا إلى القبر لم يجدوا الجسد المبارك. فإبتدأ يحكى لهم أنه رأى الجسد صاعدا... فصاموا 15 يوماً من أول مسرى حتى 15 مسري حتى أعلن لهم الرب صعود جسدها الى السماء واصبح عيد للعذراء يوم 16 مسرى من التقويم القبطي.
+ ولقد مارس صوم القديسة مريم اولا بعد ذلك العذراى والرهبان وبعد هذا صامه الشعب كله وقننته الكنيسة كصوم عام بعد ذلك ، وكم نحن نحتاج الى الصوم والصلاة فى كل حين { صالحة الصلاة مع الصوم و الصدقة خير من ادخار كنوز الذهب} (طوبيا 12 : 8). فاذ لنا اعداء مقاومين لابد ان يكون لنا الركب المنحنية والايدى المرفوعة بالصلاة لنشبع بمحبة الله وننتصر على اعدائنا الذين قال عنهم السيد المسيح { هذا الجنس لا يمكن ان يخرج بشيء الا بالصلاة و الصوم} (مر 9 : 29). فالصوم فترة للنهضة الروحية والشبع بكلمة الله { فاجاب و قال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله }(مت 4 : 4).
+ طوباكى ايتها الشفيعة المؤتمنة التى خدمت البشرية كلها وعوضا عن مخالفة أمنا حواء للوصية ، أطعتى انت ايتها القديسة مريم وقدمتى كحواء الجديدة والثانية لله شعبا مستعدا من قبل طهارتك ، وكنتِ وستبقي على مدى الاجيال أمنا مكرمة تطوبك جميع الأجيال فانت قدوة للعذارى ومعلمة للفضيلة للجميع وانت أمنا الحنون التي نتلجأ اليها فى ضيقاتنا لترفعى معنا الصلاة وتطلبى عنا من الرب ليغفر لنا خطايانا ويقوى أيماننا ويحفظ كنيستنا رعاة ورعية .
القمص أفرايم الأورشليمى
المزيد
01 أغسطس 2021
العذراء وحياة التسليم
فَضَائِل وَبَرَكَات كَثِيرَة وَمَجْد عَظِيم مُخْفَى دَاخِل أُمِّنَا السَيِّدَة العَذْرَاء وَلكِنْ يُوْجَدٌ فَضِيلَة نُرِيدْ أنْ نَتَعَمَقٌ فِيهَا
وَنَأخُذ بَرَكَاتْهَا مِنْ السَيِّدَة العَذْرَاء وَرَبِّنَا يُعْطِينَا قُلُوب مَفْتُوحَة وَآذَان صَاغِيَة قَالَتْ السَيِّدَة العَذْرَاء ﴿ هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ ﴾ ( لو 1 : 38 ) سَنَتَحَدَث عَنْ حَيَاة التَّسْلِيم عِنْدَ السَيِّدَة العَذْرَاء وَسَنَتَحَدَّث فِي ثَلاَث نِقَاطْ :-
1- التَّسْلِيم عِنْدَ العَذْرَاء :-
التَّسْلِيم يَعْنِي إِنْسَان يِسَلِّمْ أي يَتْرُك إِرَادَتُه لإِرَادِة الَّذِي أمَامُه وَالسَيِّدَة العَذْرَاء عَاشَتْ حَيَاة التَّسْلِيم وَالخُضُوع لِكُلَّ أمر إِلهِي فَأبُوهَا تَنَيَّح وَعُمْرَهَا ثَلاَث سَنَوَات وَأُمَّهَا تَنَيَّحَتْ وَكَانَ عِنْدَهَا سِتْ سِنِينْ وَلكِنَّهَا سَلِّمِتْ وَعَاشِتْ فِي الهِيكَل حَيَاة التَّسْلِيم وَكَانَتْ خَادِمَة فِي الهَيْكَل اليَهُودِي وَيُوْجَد صُورَة فِي أذْهَان البَعْض أنَّ السَيِّدَة العَذْرَاء كَانَتْ تُسَبِّح وَتُرَنِمْ فِي الهِيكَل وَلكِنْ هذَا جُزْء مِنْ حَيَاتْهَا وَلكِنْ يُوْجَد جُزْء آخَر وَهُوَ أنَّ البِنْت فِي الهِيكَل اليَهُودِي تُصْبِح خَادِمَة وَالهِيكَل اليَهُودِي فِيهِ ذَبَائِح كَثِيرَة وَيَحْتَاج إِلَى تَنْظِيفْ وَالَّذِي يَقُوم بِعَمَلِيِة التَّنْظِيفْ الخَادِمَات أوْ النَّذِيرَات وَمِنْ ضِمْن البَنَات كَانَتْ السَيِّدَة العَذْرَاء وَتُوْجَد صُورَة لِلسَيِّدَة العَذْرَاء غَرِيبَة وَهيَ شَعْرَهَا مَنْكُوش وَرِجْلِيهَا حَافْيَة وَهذَا يَدُل عَلَى الضَّغْط الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الخِدْمَة وَبَدَأ سِنَّهَا يِكْبَر وَلَمْ تُفَكِّر السَيِّدَة العَذْرَاء إِلَى أيْنَ تَذْهَبْ أوْ مَاذَا يَفْعَلُوا بِهَا ثُمَّ قَالُوا لَهَا أنَّهَا سَوْفَ تُخْطَبْ وَلكِنَّهَا تُرِيدْ أنْ تَعِيش حَيَاة البَتُولِيَّة وَلَمْ تَعْتَرِض فَعَمَلُوا عَلَيْهَا قُرْعَة حَتَّى يَجِدُوا الشَّخْص وَكَانَ هذَا الشَّخْص هُوَ يُوسِف النَّجَار وَكَانَ فِي ذلِك الوَقْت عَنْدُه 70 سَنَة وَكَانَتْ إِمْكَانِيَات يُوسِف فَقِيرَة جِدّاً فَهُوَ يَعْمَل نَجَّار فِي المَنْزِل وَلَيْسَ لَهُ وَرْشَة أي يِصَلَّح الأشْيَاء وَلاَ يَقُوم بِعَمَل أشْيَاء جِدِيدَة وَبِالتَّالِي دَخْلُه بَسِيطْ جِدّاً وَفِي كُلَّ هذَا السَيِّدَة العَذْرَاء تَقُول حَاضِر .. وَلَمَّا أتَى المَلاَك لِيَقُول لَهَا أنَّهَا سَوْفَ تُصْبِح حَامِلٌ فَالأمر الَّذِي أعَدَّهُ الله لِلعَالَمْ مُنْذُ 5500 سَنَة إِسْتَوْعِبِتُه العَذْرَاء فِي لَحْظَة وَلِهذَا قَالَتْ لَهَا ألِيصَابَات ﴿ طُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ ﴾ ( لو 1 : 45 ) وَلكِنْ هذَا الأمر سَيُعَرِّض ذَات السَيِّدَة العَذْرَاء إِلَى إِهَانَات وَسَيَشُك فِيهَا أقْرَب النَّاس وَبِالفِعْل نَجِدْ أنَّ يُوسِف البَّار أرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً ( مت 1 : 19) وَلكِنَّهَا فِي كُلَّ هذَا خَاضِعَة وَيُوْجَدٌ شَرِيعَة فِي العَهْد القَدِيم فِي سِفْر العَدَد تُسَمَّى شَرِيعِة (( المَاء المُر )) هذِهِ الشَّرِيعَة تُطَبَّقٌ عَلَى السَيِّدَة أوْ البِنْت الَّتِي يُشَك إِنَّهَا عَمَلِتْ خَطِيَّة وَزَنِتْ وَوُجِدَت حَامِل فَيَتِمْ إِحْضَار مَاء وَيَقُوم الكَاهِن بِقِرَاءِة الوَيْلاَت عَلَيْهَا وَتَقُول البِنْت فِي كُلَّ مَرَّة " آمِين آمِين " وَيَقْطَعْ الوَرَقَة دَاخِل المَاء وَتَقُوم البِنْت بِشُرْب المَاء فَإِذَا كَانَتْ عَمَلِتْ خَطِيَّة يَتَوَرَّم جِسْمَهَا وَتَسْقُطْ رِجْلِيهَا لأِسْفَل وَإِذَا لَمْ تَفْعَل تُصْبِح سَلِيمَة وَتَحْبَل بِزَرْع ( عد 5 : 11 – 28 ) وَيُقَال أنَّ السَيِّدَة العَذْرَاء جَازَتْ هذَا الإِخْتِبَار فَالسَيِّدَة العَذْرَاء كَانَتْ تَقُول إِذَا كَانَ رَبِّنَا رَاضِي بِالإِهَانَة أوْ بِرَجُل فَقِير وَكِبِير فِي السِّنْ فَلْتَكُنْ إِرَادَتُه وَبَعْد ذلِك يَرَى يُوسِف البَّار رُؤيَة حَتَّى لاَ يَخَاف وَيَأتِي وَقْت الوِلاَدَة وَلَمْ تَجِدٌ السَيِّدَة العَذْرَاء أي مَكَان لِتَلِدٌ فِيهِ وَوَلَدَت فِي مِزْوَدٌ وَكَانَ مُمْكِنْ عِنْدَمَا تَرَى السَيِّدَة العَذْرَاء مَنْظَر المِزْوُدٌ تَعْتَرِض وَلكِنْ فِي كُلَّ الأُمور كَانَتْ تَقُول حَاضِر ثُمَّ تُوْجَدٌ مُشْكِلَة وَهيَ عَدَم وُجُودٌ دَخْل لِيُوسِف النَّجَار حَتَّى يِصْرِفُوا مِنُّه فَيُوسِف فِي بَلَدٌ غَرِيبَة وَلاَ أحَدٌ يَعْرِفْ أنَّهُ نَجَّار فَيَحْدُث تَدْبِير إِلهِي عَجِيبْ وَهُوَ أنْ يَأتِي المَجُوس لِيُقَدِّمُوا هَدَايَاهُمْ ذَهَبْ وَلُبَان وَمُرّ ( مت 2 : 11) وَيُقَال أنَّ هذَا الذَّهَبْ هُوَ الَّذِي تَرَبَّى بِهِ يَسُوع وَهُوَ الَّذِي أُنْفِقَ بِهِ عَلَى إِحْتِيَاجَاتُه ثُمَّ يَظْهَر المَلاَك لِيُوسِف وَيَقُول لَهُ خُذْ الصَّبِي وَأُمُّه وَاهْرَب إِلَى مِصْر وَكُلَّ بَلَدٌ تَدْخُل فِيهَا السَيِّدَة العَذْرَاء كَانَتْ الأوْثَان تَقَعْ وَيَقُوم النَّاس بِطَرْدَهَا وَفِي كُلَّ هذَا السَيِّدَة العَذْرَاء تَقُول حَاضِروَكَانَتْ تُرَبِّي رَبَّنَا يَسُوع الْمَسِيح بِالجَسَد وَعِنْدَ الصَّلِيبْ كَانَتْ فِي تَسْلِيمْ عَجِيبْ فَلَمْ تَعْتَرِض فِي أي مَرْحَلَة أوْ تِدَّخَل أوْ تَتَمَرَدٌ وَلَمْ تُحَاوِل أنْ تَجْعَل الأُمور تَسِير حَسَبْ هَوَاهَا أوْ فِكْرَهَا أوْ رَغْبِتْهَا وَلكِنَّهَا عَاشِتْ حَيَاة تَسْلِيمْ كَامِلَة فَالأمر الَّذِي لَمْ يَسْتَوْعِبُه الأبْرَار وَالكَهَنَة وَالأتْقِيَاء أنْ يُوْجَدٌ عَذْرَاء تَحْبَل وَلكِنْ السَيِّدَة العَذْرَاء إِسْتَوْعِبِتْ الأمر وَحَفَظِتُه فَالأمر الَّذِي أُخْفِيَ عَنْ أعْيُنْ كَثِيرِينْ كَانَ وَاضِحٌ أمَام السَيِّدَة العَذْرَاء وَمُمْكِنْ أحَدٌ يِسْأل سُؤَال لاَهُوتِي وَهُوَ مَنْ الَّذِي كَانَ يَعْرِفْ أنَّ السَيِّد الْمَسِيح هُوَ إِبْن الله (( الله المُتَجَسِّد )) ؟ وَالإِجَابَة هِيَ أنَّ السَيِّدَة العَذْرَاء هِيَ الوَحِيدَة الَّتِي كَانَتْ تَعْرِفْ فَالسَيِّدَة العَذْرَاء رَأت السَيِّد الْمَسِيح فِي كُلَّ مَرَاحِل حَيَاتُه وَهُوَ يِكْبَر وَيَتَكَلَّمْ فَكَيْفَ كَانَ حَدِيثُه وَاهْتِمَامَاتُه ؟ وَكَانَتْ السَيِّدَة العَذْرَاء فِي حَالِة دَهْشَة وَهذِهِ الحَالَة أوْجَدِت صَمْت فِي حَيَاتْهَا وَكَانَتْ تُفَكِّر فِي جَمِيعْ هذِهِ الأُمور فِي قَلْبِهَا .. وَعِنْدَمَا إِعْتَرَفَ بُطْرُس أنَّ الْمَسِيح هُوَ إِبْن الله الحَيِّ ( مت 16 : 16) لَمْ يَكُنْ إِيمَانُه مِثْل إِيمَان السَيِّدَة العَذْرَاء بِدَلِيل أنَّهُ شَك وَاهْتَز إِيمَانُه أمَام جَارِيَة .
2- التَّسْلِيم فِي حَيَاتْنَا :-
بِالرَّغْم مِنْ أنَّ كُلَّ ظُرُوفْ السَيِّدَة العَذْرَاء كَانَتْ ظُرُوفْ صَعْبَة وَمُعَاكْسَة إِلاَّ إِنَّهَا كَانَتْ تَقُول حَاضِرفَأحْيَاناً يَقُول الإِنْسَان حَاضِر فِي الظُّرُوفْ الَّتِي تَسِير عَلَى هَوَاه وَلكِنْ هَلْ مُمْكِنْ أنْ يَقُول حَاضِر فِي الأُمور الَّتِي لاَ تَسِير مَعَ إِرَادَتُه ؟ فَالإِنْسَان إِذَا نَجَح يَقُول حَاضِر وَلكِنْ إِذَا لَمْ يُوَفَّقٌ هَلْ يَقُول حَاضِر ؟ وَالإِنْسَان السَّلِيمْ يَقُول حَاضِر وَلكِنْ إِذَا حَدَثْ لَهُ مَرَض هَلْ يَقُول حَاضِر ؟فَالتَّسْلِيمْ هُوَ أنْ أقْبَل كُلَّ شِئ فِي كُلَّ وَقْت وَأنْ أشْعُر أنَّ حَيَاتِي فِي يَدْ الْمَسِيح فَالتَّسْلِيمْ هُوَ الخُضُوع الكَامِل لله بِمِلْء الإِيمَان وَلِهذَا نَجِدْ أنَّ حَرْب القَلَقٌ تَتَزَايَدْ عَلَى الإِنْسَان خَاصَّةً فِي هذَا الجِيل فَالإِنْسَان طُول الوَقْت يُفَكِّر وَلاَ يَعِيش مُطْمَئِنْ أوْ هَادِئ لأِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعْ أنْ يُسَلِّمْ وَدَائِماً قَلِقٌ عَلَى المُسْتَقْبَل فَأغْلَبْ الأمْرَاض أسْبَابْهَا عَصَبِيَّة وَنَفْسِيَّة وَهذَا فَخ مِنْ عَدُو الخِير حَتَّى لاَ يَعِيش الإِنْسَان فِي أمْن فَالإِنْسَان يَعِيش دَائِماً فِي دَائِرَة وَلكِنْ يَحْتَاجٌ فِي كُلَّ هذَا إِلَى التَّسْلِيمْ فِي كُلَّ أحْوَال حَيَاتُه وَلاَ يَلْجَأ إِلَى أعْمَال غِير سَلِيمَة﴿ مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ ﴾ ( زك 2 : 8 ) يُحْكَى أنَّ أبُونَا بِيشُوي كَامِل عِنْدَمَا تِعِبْ فِي أخِر أيَّامُه كَانِتْ تَاسُونِي أنْچِيل حَزِينَة جِدّاً وَكُلَّ مَا يَضَعْ أبُونَا يَدُه عَلَى شَعْر ذَقْنُه فَكَانَ الشَّعْر يَسْقُطْ وَكَانَتْ تَاسُونِي أنْچِيل تَبْكِي وَفِي مَرَّة نِزِل شَعْر كَثِير مِنْ ذَقْن أبُونَا فَتَاسُونِي أنْچِيل إِنْهَارِتْ فِي البُكَاء وَلكِنْ أبُونَا بِيشُوي قَالَ لَهَا إِنَّ هذَا الشَّعْر لاَ يَسْقُطْ إِلاَّ بِإِذْن الله فَالصُدْفَة لاَ تَلْعَبْ دُور فِي حَيَاتْنَا وَلاَ المَال وَلاَ الذَّكَاء وَلاَ الأقَارِبْ ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ فَيَكُونَ وَالرَّبُّ لَمْ يَأْمُرْ ﴾ ( مرا 3 : 37 ) فَكُلَّ شِئ بِتَدْبِير وَأمر وَإِرَادِة الله وَعَلَى الشَّخْص أنْ يَثِقٌ فِي إِرَادِة وَتَدْبِير الله وَأنْ يَخْضَعْ لله فَرَبَّ المَجْد قَالَ ﴿ أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ ﴾ ( مت 6 : 25 ) فَالَّذِي يُعْطِيك الأهَمْ ألاَ يُعْطِيك الأقَلْ ؟!! الَّذِي أعْطَاكَ الجَسَد ألاَ يُعْطِيك الطَّعَام ؟!! وَلكِنْ نَجِدٌ النَّاس تَعِيش فِي قَلَقٌ عَلَى الأكْل وَالشُرْب وَنَجِدٌ أنَّ عَدُو الخِير يُشَكِّك الإِنْسَان فِي القَلِيل حَتَّى يَنْسَاق الإِنْسَان وَرَاءَهُ فَأُمور كَثِيرَة يُحَاوِل عَدُو الخِير أنْ يُقْلِقْنِي وَيِفْقِدْنِي سَلاَمِي وَأنْ أنْسَى خَيْرَات الله إِلهِي وَأنْ أسْأل الله لِمَاذَا يَارَبَّ تَفْعَل هذَا ؟ فَعَدُو الخِير يَسْتَثْمِر الظُّرُوف وَلكِنْ عَلَى الإِنْسَان أنْ يَقْبَل إِرَادِة الله وَيَقْبَل كُلَّ شِئ مِنْ يَدِيه فِي ثِقَة أنَّهُ يَصْنَعْ الكُلَّ حَسَن فَنَحْنُ لاَ نَعْلَمْ مَاذَا يَفْعَل الله وَلكِنْ نَحْوَك عُيُونَنَا ( 2أخ 20 : 12) فَلِمَاذَا هَرَبْ رَبِّنَا يَسُوع مِنْ وَجْه هِيرُودِس ؟ فَحَسَبْ تَقْدِير الإِنْسَان كَانَ مِنْ المُمْكِنْ أنَّ الله يِمَوِّتْ هِيرُودِس وَلاَ يَهْرَبْ وَلكِنْ الله لَهُ قَصْد هُوَ أنْ يَأتِي إِلَى مِصْر وَيُبَارِك شَعْبَهَا وَيُصْبِح هُنَاك مَذْبَحٌ وَعَمُودٌ فِي أرْض مِصْر ( أش 19 : 19) وَأنْ تُصْبِح مِصْر يُوْم مِنْ الأيَّام عَمُودٌ الْمَسِيحِيَّة وَكَارِزَة لِلعَالَمْ فَرَبِّنَا إِسْتَخْدِم هِيرُودِس فَهُوَ الَّذِي يُحَرِّك الأُمور وَمِنْ الجَمِيلٌ أنْ يَشْعُر الإِنْسَان أنَّ الأُمور الَّتِي لاَ تَسِير عَلَى إِرَادَتِهِ أنَّ الله هُوَ الَّذِي يُحَرِّكْهَا وَأنَّهُ يَفْعَل كُلَّ شِئ حَسَبْ إِرَادَتِهِ وَلكِنْ الإِنْسَان مُتَعَجِّل لِمَعْرِفَة خِطَّة الله فِي حَيَاتُه وَلكِنْ الله يُرِيدْ أنْ يَتَعَامَل الإِنْسَان مَعَ يَدِهِ القَدِيرَة وَأنْ يَفْهَمْ مَا يَحْدُث لَحْظَة بِلَحْظَة فَيَشْعُر الإِنْسَان بِفَرَح وَسَعَادَة لأِنَّ الله يُرَتِّب حَيَاتُه فَمُعَلِّمْنَا بُطْرُس عِنْدَمَا إِنْحَنَى السَيِّد الْمَسِيح لِيَغْسِل رِجْلِيه قَالَ بُطْرُس حَاشَاك يَارَبَّ وَلكِنْ رَبِّنَا قَالَ لَهُ إِذَا لَمْ أغْسِل رِجْلِيك لاَ يَكُون لَكَ نَصِيبٌ مَعِي فَقَالَ بُطْرُس إِغْسِل يَارَبَّ وَلكِنُّه كَانَ فِي خَجَل وَحِيرَة لِمَاذَا يَفْعَل الله هكَذَا ؟ وَكَانَ رَدٌ رَبِّنَا عَلِيه لَسْتَ تَفْهَمْ الآنْ مَا أنَا فَاعِلُه وَلكِنَّك سَتَفْهَمْ فِيمَا بَعْد ( يو 13 : 5 – 9 ) وَ" فِيمَا بَعْد " مُمْكِنْ تِكُون بَعْد سَاعَة أوْ شَهْر أوْ فِي الأبَدِيَّة فَمُمْكِنْ أنْ تَحْدُث أشْيَاء فِي حَيَاتِي وَلكِنِّي لاَ أفْهَمْهَا وَلكِنْ سَيَفْهَمْ الإِنْسَان كُلَّ شِئ فِي الأبَدِيَّة حَيْثُ يُرْفَعْ عَنَّا الجَهْل وَنَأخُذْ المَعْرِفَة الكَامِلَة .. فَكُلَّ مَا نَرْفُضُه عَلَى الأرْض نَقْبَلُه فِي الأبَدِيَّة يُحْكَى عَنْ أبُونَا مِيخَائِيل إِبْرَاهِيم أنَّ إِبْنُه الأكبَر كَانَ طَبِيب مُتَزَوِج وَأنْجَبْ طِفْلَة ثُمَّ أُصِيبَ بِمَرَض وَتَنَيَّح فَجَاءَ كَاهِن زِمِيل أبُونَا حَتَّى يُعَزِّيه فَعِنْدَمَا دَخَلِتْ الطِّفْلَة فَمِسِك أبُونَا الزَّائِر هذِهِ الطِّفْلَة وَحَضَنْهَا وَانْهَار فِي البُكَاء فَإِذَا بِأبُونَا مِيخَائِيل هُوَ الَّذِي طَيِّبْ خَاطِر الكَاهِن وَقَالَ لَهُ إِنّ مَا حَدَث هُوَ أمر مِنْ الله وَإِرَادَتُه وَهُوَ فِي مَكَان جَمِيلٌ وَقَالَ لَهُ إِذَا كَانْ إِبْنُه سَافِر فِي بِعْثَة إِلَى أمْرِيكَا أفَلاَ كَانَ هذَا الكَاهِن يَأتِي لِتَهْنِئِة أبُونَا ؟فَالسَّمَاء أحْسَنْ مِنْ البِعْثَة وَلكِنْ أحْيَاناً الكَلاَم سَهْل وَلكِنْ التَّنْفِيذ يِخْتِلِفْ وَالمَوْقِفْ هُوَ الَّذِي يَخْتَبِر الإِنْسَان .
3/ كَيْفَ أقْتَنِي التَّسْلِيم ؟ :-
أ- حُبْ الله :-
لإِنْسَان يُحِبْ الله وَلاَبُدْ أنْ يَثِقٌ أنَّ الله يُحِبُّه وَأنّ الله لاَ يُؤذِيه أوْ يَضُرُّه فَالله لَيْسَ ضِد الإِنْسَان وَهُوَ الَّذِي يُعْطِينَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنَىً لِلتَّمَتُّع ( 1تي 6 : 17) فَإِذَا كَانَ الأب يُعْطِي أوْلاَدُه عَطَايَا جَيِّدَة فَكَمْ بِالأوْلَى الله ( مت 7 : 11) فَنَحْنُ أوْلاَدُه وَهُوَ الَّذِي يَرْعَانَا فَنَحْنُ مِلْك لَهُ وَمِنْ الأشْيَاء الصَّعْبَة أنْ يَجْعَل الإِنْسَان أُمورُه تَسِير عَلَى طَرِيقْتُه .
ب- الثِّقَة :-
الثِّقَة تَجْعَل الإِنْسَان يَتْرُك نَفْسُه لِشِئ وَعَلَى قَدْر مَا نِسَلِّمْ لِرَبِّنَا أُمور حَيَاتْنَا عَلَى قَدْر مَا نِجْبِرُه عَلَى الإِعْتِنَاء بِنَا وَعَلَى قَدْر مَا نَتَوَلَّى أُمور حَيَاتْنَا نِجْبِرُه عَلَى أنْ يَتَخَلَّى عَنَّا فَمَنْ الَّذِي يَقُودٌ حَيَاتَك أنْتَ أم الله ؟ فَالله هُوَ الَّذِي يَقُودْنَا فِي مَوْكِبْ نُصْرَتِهِ ( 2كو 2 : 14) فَلاَبُدْ أنْ يَكُون الإِنْسَان عَنْدُه ثِقَة أنَّ الله قَدِير وَأنَّهُ صَانِعْ الخَيْرَات وَهُوَ الَّذِي دَبَّر الكُون وَصَنَعُه حَسَن فِي وَقْتِهِ أفَلاَ يَصْنَعْ كُلَّ شِئ فِي حَيَاتِي حَسَن فِي وَقْتِهِ حَتَّى إِذَا وُجِدَت شِدَّة أوْ أزْمَة فِي حَيَاة الإِنْسَان ؟ فَنَحْنُ نَقُول فِي القُدَّاس ﴿ أُقَدِّمُ لَك يَا سَيِّدِي مَشُورَات حُرِّيَتِي ﴾ ( مَا يَقُولُه الكَاهِن قَبْل رُشُومَات الخُبْز فِي القُدَّاس الغِرِيغُورِي ) .
ج- الإِخْتِبَارٌ :-
فَالإِنْسَان الَّذِي يَعِيش حَيَاتُه بِذِهْنُه يَشْعُر أنَّ حَيَاتُه لاَ تُوْجَدٌ فِيهَا سَلاَمٌ وَلكِنْ عِنْدَمَا يَتَذوَق التَّسْلِيمْ يَشْعُر الإِنْسَان أنَّهُ أصْبَحٌ هَادِئ وَمُطْمَئِنْ فَالتَّسْلِيمْ حَيَاة إِخْتِبَارٌ وَلاَبُدْ أنْ يَخْتَبِر الإِنْسَان حَيَاة التَّسْلِيمْ كُلَّ يُوْم حَتَّى تَنْقِلُه مِنْ مَجْد إِلَى مَجْد فَيَقُول سَلَّمْنَا فَصِرْنَا نُحْمَل ( أع 27 : 15) وَمِنْ أكْثَر الأشْيَاء الَّتِي تُسَبِّبْ القَلَقٌ فِي حَيَاة الإِنْسَان رَغَبَاتُه الكَثِيرَة المُتَصَارِعَة وَطَلَبَاتُه وَعَدَم شَبَعُه وَلكِنْ عِنْدَمَا يَخْتَبِر حَيَاة التَّسْلِيمْ يَشْعُر بِالفَرَح وَالبَهْجَة وَيَشْعُر أنَّ الله هُوَ كِفَايْتُه وَشَبَعُه وَيَقُول لِتَكُنْ إِرَادِة الله فَأنَا أُرِيد الله فَقَطْ وَعِنْدَمَا يَتَذَكَّر الإِنْسَان حَيَاتُه وَيَخْتَبِر عِنَايِة الله بِهِ فَمِنْ الصَّعْب أنْ لاَ يُسَلِّمْ بَاقِي حَيَاتُه لله فَالَّذِي أعَانَ الإِنْسَان مُنْذُ حَدَاثَتِهِ هَلْ يَعْجَز عَنْ تَدْبِير بَعْض الأيَّام أوْ الإِحْتِيَاجَات ؟ فَهذِهِ الأُمور بِالنِّسْبَة لله تَافْهَة فَقَبْل الشُّرُوع فِي أي عَمَل أوْ أي مَوْقِفْ فِي حَيَاة الإِنْسَان لاَبُدْ أنْ يَكُون مَمْزُوج بِصَلاَة وَخُضُوع وَتَسْلِيمْ وَيَقْتَنِعْ بِإِرَادِة الله قَبْل أي أمر مَصِيرِي فِي حَيَاة الإِنْسَان لاَبُدْ أنْ يُسَلِّمْ الإِنْسَان هذَا الأمر لله فَالإِنْسَان يَخَافْ مِنْ إِرَادَتُه وَلكِنْ عِنْدَمَا يَضَعْ الأمر أمَام الله يَقُول لله أنَا أُرِيدْ إِرَادَتَك وَأنْ تَهْدِينِي وَيَمِينَك تُمْسِكْنِي أنَا أُرِيدْ أنْ أتَأكِّدْ أنَّ الأمر مِنَّك وَلِتَكُنْ إِرَادَتِي كَإِرَادَتَك فَالعِصْيَان هُوَ الّذِي أحْدَر الإِنْسَان مِنْ السَّمَاء إِلَى الأرْض وَخَطِيِّة أبُونَا آدَم فِي الأسَاس هِيَ العِصْيَان وَلكِنْ الشِئ الَّذِي يِرَجَعْنَا إِلَى الحَيَاة الفِرْدُوسِيَّة هِيَ حَيَاة الطَّاعَة وَالتَّسْلِيمْ وَعِنْدَمَا جَاءَ الله عَلَى الأرْض قَدَّم طَاعَة عِوَض العِصْيَان فَالله أطَاعَ حَتَّى مَوْت الصَّلِيب ( في 2 : 8 )فَلاَبُدْ أنْ يَقُول الإِنْسَان لله حَاضِر وَيُكْثِر مِنْ الصَّلاَة وَيَحِيد إِرَادَتُه أي يَضَعْهَا جَانِباً فَلاَ تُزَل قَدَم الإِنْسَان لأِنَّ كُلَّ شِئ يُعْمَل بِإِرَادِة الله حَتَّى وَإِنْ كَانْ فِي مَظْهَر حَيَاتُه أتْعَاب فَحَيَاة السَيِّدَة العَذْرَاء فِيهَا أتْعَاب وَحَيَاة السَيِّد الْمَسِيح أيْضاً فِيهَا أتْعَاب وَلكِنْ مَا هِيَ فِكْرِة الإِنْسَان عَنْ الأتْعَاب ؟ فَالإِنْسَان الَّذِي يَعِيش حَيَاة التَّسْلِيمْ يَعِيش فِي سَلاَمٌ حَتَّى إِنْ وُجِدَت الآلاَم وَالأتْعَاب وَالضِيقَات فَكُلَّ أمر أقُول لله أنَا عَبْدَك وَإِبْن أمَتَك( مز 115 مِنْ مَزَامِير التَّاسِعَة ) وَأقُولْ لَهُ أيْضاً ﴿ أنَا أُخْضِعُ ذَاتِي دُونَ عِنَادٍ لأِصَابِعِكَ تُشَكِّلُ فِيَّ ﴾( مِنْ تَرْنِيمِة " أيُّهَا الفَّخَارِي الأعْظَمْ " ) رَبِّنَا يُعْطِينَا حَيَاة التَّسْلِيمْ وَيَرْفَعْنَا بِبَرَكِة السَيِّدَة العَذْرَاء وَيِكَمِّل نَقَائِصْنَا وَيِسْنِد كُلَّ ضَعْف فِينَا بِنِعْمِتُه وَلإِلهْنَا المَجْد إِلَى الأبَد آمِين
القمص انطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا انطونيوس محرم بك الاسكندرية
المزيد
31 يوليو 2021
الصلاة فى مزامير داود النبى
كما شرحها القديس يوحنا ذهبي الفم
حينما خاطب القديس يوحنا ذهبي الفم شعبه سواء مباشرة من على المنبر أو بالمقالات المكتوبة، كان يستعرض فهمه للطبيعة البشرية ولتقلُّبات الحياة اليومية. وقد كان اهتمامه الأول أن يسمو بشعبه ويجذبهم ليقتربوا أكثر فأكثر من شخص الرب يسوع المسيح. كان يحاول باستمرار، ليس فقط أن يُعلِّمهم كيف يحيون حياتهم متشبِّهين بالمسيح، بل وأيضاً كيف يُنمون حياتهم الروحية. وكانت الصلاة من بين الموضوعات التي كان يُكثر الحديث عنها. وفي شروحاته على المزامير يتناول هذا الجانب الهام: ”الصلاة“ بتوسُّع، وإن كان ليس على سبيل الحصر.ولا يتحدث القديس ذهبي الفم عن الصلاة من جهة أنواعها المتعددة (صلاة التمجيد، صلاة التوسُّل... إلخ)، بقدر ما يتكلَّم عن هدف أن يستجيب الله صلاتك بأي نوع كانت. ويدور تناوله لهذا الجانب من الصلاة حول داود النبي والمرنِّم، وكيف كان يسعى لإرضاء الله حتى يستجيب له.وفي شرحه للمزمور السابع الذي يصفه بأنه ترنيمة شكر لله بعد انتصار داود على ابنه أبشالوم، يُعدِّد القديس ذهبي الفم ستة شروط لاستجابة الله لصلواتنا:
شروط استجابة الصلاة:
أولاً: أن تكون جديرة بالقبول من الله،
ثانياً: أن يُصلِّي الإنسان بما يتوافق مع شرائع الله،
ثالثاً: أن يُصلِّي الإنسان على الدوام وباستمرار،
رابعاً: أن لا نطلب متاع الأرض في صلواتنا،
خامساً: أن نطلب ما هو نافع حقًّا لنا،
سادساً: أن نفعل كل ما في مقدورنا فعله من صلاح.
إن العلاقة بين الصلاة والحياة عموماً هي موضوع رئيسي في شروحات المزامير للقديس يوحنا ذهبي الفم ولا يعسر علينا العثور عليها كثيراً في سائر عظاته الأخرى. فالحياة التي يعيشها الإنسان، والطريقة التي يُعامِل بها رفقاءه مــن بني البشر، ومـا يكمن داخل أعماق نفسه، كل هذه أمور ضرورية للصلاة الناجحة، تماماً مثل أهمية كلمات الصلاة نفسها. كما أنه ليس هناك أسلوب محدَّد للكلمات التي نُرضي بها الله، فمعاني الكلمات والإحساسات التي تقف وراءها هي التي تهم.وهنا يتضح تأثير رسائل القديس بولس الرسول. فالقديس بولس كثيراً ما تكلَّم عن سلوك الحياة كما يحق للرب، وفي كولوسي 10:1 يصف مثل هذه الحياة بأنها الإثمار في كل عمل صالح. وفي تسالونيكي الأولى 17:5 يحث المسيحيين على الصلاة الدائمة. وهو في هذا يكرر الوصية في رومية 12:12: «مواظبين على الصلاة»، وتصريحه في أفسس 18:6: «مُصلِّين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح». أما عن الحياة بحسب مشيئة الله فيوصي الرسول المسيحيين في رومية 2:12: «ولا تشاكلوا هذا الدهر» (أي لا تعيشوا بحسب هذا العالم)، ويوبِّخ بولس الرسول مسيحيي فيلبي الذين «يفتكرون في الأرضيات» (في 19:3). ويربط القديس ذهبي الفم بين الشرط الخامس لاستجابة الصلاة وبين القديس بولس حينما صلَّى إلى الله أن يرفع عنه الشوكة التي في جسده فلم يستجبْ، بأنها مَثَل للصلاة من أجل ما ليس نافعاً للإنسان.ومما لا شكَّ فيه أنه كان للقديس بولس تأثير عميق في تعاليم القديس ذهبي الفم. وكثيرة جداً هي إشارات القديس ذهبي الفم في كل كتاباته وفي بعض من باقي أعماله (وإن لم يكن في شروحاته على المزامير) حيث يُسجِّل إعجابه بلا حدود بالقديس بولس. ويرجع ذهبي الفم إلى القديس بولس ليس بمجرد ترديد نصوص من رسائله؛ بل هو يستغرق في كتاباته فيرجع إلى مضمون مفاهيمه اللاهوتية حينما يتناول موضوعاً مـا. وكمثال لهذا، مـا نـراه في الشروط الستة لاستجابـة الصلاة. فباستثناء ”الصلاة بـلا انقطاع“ (1تس 12:5)، فإن باقي الأمثلة المستقاة من رسائل بولس الرسول لا تختص بالصلاة بالذات، بل بوصايا بولس الرسول للسلوك في الحياة المتمثِّلة بالمسيح. مما يلفت نظرنا إلى أن الصلة بين الحياة المتمثِّلة بالمسيح وبين الصلاة الناجحة هي لفتة يتميز بها القديس يوحنا ذهبي الفم.
وهذه الدراسة قائمة على شروط ذهبي الفم الستة كما يشرحها ليس فقط في تفسيره للمزمور السابع، بل وفي كل شروحاته على المزامير. وفي هذه الدراسة قسَّمتُ هذه الشروط إلى قسمين اثنين: الشرطان الأول والسادس مختصَّان بالحياة والصلاة كشرطين لاستجابة الصلاة، والشروط من الثاني إلى الخامس مختصَّة بمضمون الصلاة.والقديس ذهبي الفم يتكلَّم عن كاتب المزامير باعتباره ”النبي“، وهو ليس إنساناً آخر سوى داود. وتشمل الشروط الستة الحياة بأكملها، وبكلمات القديس يوحنا فإنه لكي تتحقَّق هذه الحياة، فإنه لابد من أن يصحب المزمور القارئ في كل مستوى من مستويات حياته الشخصية.
وحينما يُقدِّم داود باعتباره مؤلِّف المزامير ويرجع إلى الأحداث التي تمَّت في سيرته ليشرح هذه المزامير، فإنَّ ذهبي الفم يُقدِّم داود للقارئ باعتباره شخصاً حقيقياً يتحدث عنه. وهو بهذا يوفِّر لنا تعمُّقاً في نصوص المزامير أكثر مما تعوَّدنا عليه من تفاسير المزامير.
الحياة والصلاة معاً لضمان استجابة الصلاة
لكي نستحق أن ننال استجابة لصلواتنا، فهذا يتطلب بالضرورة أن نعمل كل ما في وسعنا. وهذا يعني: طريقة الحياة، ووضع الصلاة، ما يجعل الله منصتاً لصلواتنا. ويعتبر القديس ذهبي الفم داود أنه بالدرجة الأولى المعلِّم لهذه الأمور. فهو ليس فقط مستحقاً لاستماع الله له، بل هو أيضاً جديرٌ بأن يكون قدوة للآخرين.
الاستحقاق في الصلاة:
حينما يتحدَّث ذهبي الفم في ”شرحه لمزمور 7“، عن تعقُّب أبشالوم لداود، يضع تأكيداً على رد فعل داود لهذه الضيقة، حيث تظهر شخصية الرجل بوضوح. وحتى بعد أن قتل أبشالوم أخاه، يقول ذهبي الفم إن داود عامَـل ابنه برفق، ثم بـالرغم من أن أبشالوم انقلب حينئذ على أبيه واضطره إلى الهرب خوفاً على حياتـه، فإن داود يظل يقول لجنوده: «ترفَّقوا لي بالفتى أبشالوم» (2صم 5:18). وحينما بلغ داود خبر مقتل أبشالوم صرخ باكياً منزعجاً: «يا ابني يا ابني أبشالوم، يا ليتني مُتُّ عِوَضاً عنك...» (2صم 33:18). لقد عانى داود عداءً شديداً على يدي ابنه، ويُعلِّق القديس ذهبي الفم بأن داود تألَّق كالذهب في بوتقة الانصهار، إذ صار أكثر نقاءً بسبب هذه المحنة القاسية) ويرى القديس ذهبي الفم في عزلة داود وضعفه الواضح نموذجاً لانتصار الفضيلة على الرذيلة، لأن الفضيلة ــ كما يقول ذهبي الفم ــ يقف الله لها حامياً ومعضدا ,. ويحثُّنا أن نقتدي بهذا المثال الذي يُقدِّمه داود بكلماته في المزمور: ”يا رب إلهي، فيك وثقتُ، فخلِّصني...“ (مز 1:7 ــ بحسب النص في شروحات ذهبي الفم). وهذه النصيحة التي يُسديها لنا ذهبي الفم تربط بين الحياة والصلاة.وتتضح فضيلة حياة داود العالية من بدايات مُلْك داود. ففي 2صم 14:7ــ16 يُعلن الرب أنه سيُثبِّت مملكة داود إلى الأبد، وسوف يؤدِّبه إن أخطأ، ولكنه لن ينزع رحمته منه كما نزعها من شاول الملك.ولكن إن كان ذهبي الفم قد أوضح أن حياة الفضيلة العالية ضرورية لحياة الصلاة الناجحة، فماذا يا تُرى قال عن خطية داود العظيمة مع بثشبع؟ لا شكَّ أن كلامه ذو أهمية وحاسم لنفهم تعليمه عن علاقة الخاطئ بالله وفرصته في الصلاة الناجحة.وفي الشروحات كما هي متاحة لنا اليوم، يرجع القديس ذهبي الفم إلى مرجعين في هذا الموضوع. ففي شرحه على مزمور 6 يقول إن داود ارتكب خطية القتل، إلاَّ أنه اختبر ”محبة الله للبشر“ Philanthropia. وفي شرحه على مزمور 4 يتكلَّم عن المعاناة القاسية التي أصابت داود بسبب شهوته الآثمة ويُقدِّم القديس ذهبي الفم تعليقاً مطوَّلاً على هذه المسألة في ”عظاته على إنجيل متى ــ العظة 36“، حيث يصف ارتكاب داود للزنا والقتل بأنه ”مرض“، تفاقم سُوءُه بسبب حقيقة أنه لم يكن فقط رجلاً فاضلاً؛ بل أيضاً نبيًّا. لكن ذهبي الفم يعود فيؤكِّد على ”سرعة تماثـُل داود للشفاء“ من مرضه، لأنه لم يستغرق في اليأس بل تاب، وعاد طاهراً مرة أخرى([في موضع آخر يصف طريقة داود في التوبة بأنها بالاتضاع، وندم القلب، وبتأنيب الضمير، وبعدم الرجوع لهذا السقوط مرة أخرى بتذكُّرها دائماً، وباحتمال كل ما يأتي عليه بالشكر، وبالرفق بمن يحزنونه، وبالامتناع عن الحُكْم على الذين يتآمرون ضده، إلى حدِّ مَنْعه الذين كانوا يريدون أن يفعلوا هذا.ونجد في المزامير التي شرحها القديس ذهبي الفم برهاناً على كل ذلك. فكما رأينا، فإن سلوك داود تجاه أبشالوم برهان على الامتناع عن مجازاة خصومه. أما عن احتماله بشكر ما يأتي عليه، فإننا نجد ذلك في مزمور 7 حينما يقول: ”سأشكر الرب حسب برِّه، وسأُرنم لاسم الرب العليِّ“ (مز 17:7). ويقول ذهبي الفم إن داود باستخدامه هنا صيغة المستقبل (”سأشكر“، ”سأُرنم“) يشير إلى أنه لم ينسَ أعمال الله الصالحة التي نالها ولا هو صار كسولاً؛ بل كان صاحي العقل يقظاً لإحسانات الله معه)
الصلاة الدائمة:-
يحثنا القديس يوحنا ذهبي الفم على الصلاة الدائمة، لأنه ما من شيء يؤدِّي إلى الفضيلة مثل أن نتكلَّم دائماً مع الله، وأن نقدِّم له الشكر دوماً ونسبِّح الله وكان ذهبي الفم على مدى حياته كلها يشير إلى أن داود النبي مجَّد الله بكلماته كما بأعماله وينصح القديس ذهبي الفم قرَّاءه، أنه في أوقات التجارب والمحن والاضطهادات فلنفعل كما فعل داود ونُقدِّم المجد لله ولا نكفّ عن أن نباركه وسواء كُنَّا شيوخاً أو شباباً، فيجب أن نُقدِّم الشكر لله. وكما يقول ذهبي الفم، فإن هذا هو غرض المزمور 148 أنه يُبيِّن لنا أنه لابد أن نُسبِّح الرب على كل شيء، بصرف النظر عمَّن نكون نحن. كما يجب أيضاً أن نثابر في صلواتنا وتوسُّلاتنا ولا نيأس إذا لم تُستَجَبْ في الحال. صلاة التوبـة:-
أما صلاة التوبة فهي نوع آخر من الصلاة التي تتطلَّب الدوام فيها والمثابرة عليها. فحينما يشرح المزمور 6: 6 ”أغسل كل ليلة سريري، وبدموعي أبلُّ فراشي“، يقول ذهبي الفم إن المرنِّم هنا كان يقضي كل حياته في دموع التوبة. وهذا مَثَل لنا في كيف يجب أن نتصرف حينما نخطئ: أن نفصل أنفسنا عن كل مَن يُخطئ، ونصلِّي إلى الله بدموع كل ليلة فوق سرير نومنا. إن القديس ذهبي الفم يرى في المزامير نموذجاً لنا في الصلاة الدائمة.ففي كل ظرف من ظروف الحياة يلتفت المرنِّم إلى الله بالصلاة. وحينما نثابر في الصلاة فسوف ننال ما نسأل من أجله، إن كان نافعاً لنا.
نسأل ما هو نافع حقًّا، وليس الأمور الأرضية:-
أن نطلب ما هو نافع معناه أن لا نطلب الأمور الأرضية بل نطلب ما هو حقًّا نافع لنا، هكذا يعلن القديس ذهبي الفم. وصلاة المزمور 140 (الترجمة السبعينية) هي هذه الصلاة بعينها، ويشير ذهبي الفم أن داود في هذا المزمور لا يسأل شيئاً ضد أعدائه، ولا يسأل غِنىً ولا ازدياداً ولا قوةً ولا مجداً ولا سائر الأشياء الزائلة، بل فقط الباقيات والخالدات ويأخذ ذهبي الفم سليمان الملك كنموذج آخر لمن استُجيبت صلاته، لأنه سأل الروحيات. فقد سأل سليمان الذهن الفهيم ليحكم به شعبه (3 ملوك 3 في السبعينية، وهي تساوي 1 ملوك 3 في الطبعة المتداولة)، وقد كافأه الله على صلاته الروحية هذه فأعطاه حتى ما لم يسأله. فقد نال ليس فقط الحكمة العالية، بل وأيضاً غِنَىً وكرامة عظيمتين.وكما يشرح ذهبي الفم، فإن المرنِّم حينما يُصلِّي: ”اهْدِني يا رب ببرِّك“ (مز 5: 9)، فإن هذا السؤال ليس من أجل أشياء فانية وعابرة في هذه الحياة، بل من أجل التعضيد من العُلا. لأننا ونحن في هذه الحياة، التي هي كمثل طريق، نحتاج إلى الله هادياً لنا ليمسكنا بيده ويُرينا الطريق . ويؤكِّد ذهبي الفم على أنه من الضروري أن نطلب معونة الله إن كنا نريد أن ينجح جهادنا . يقول المرنِّم في مزمور 142: 10: ”علِّمني أن أصنع مشيئتك، لأنك أنت إلهي“، فكل صلواته كانت روحية؛ إذ لم يسأل مالاً ولا قوة ولا مجداً، بل أن يصنع مشيئة الله.وأيضاً في مزمور 143، يشرح ذهبي الفم، أن المرنِّم يزدري بكل متاع الدنيا ويُعلن: ”طوبى للشعب الذي الله هو إلهه“ (مز 143: 15). أما الشهوات الخاطئة، والجنوح نحو أمور هذه الحياة والتعلُّق بالأرض، فإنها تُضعف القلب. الفضيلة هي الشيء الوحيد الجدير باقتنائها في هذه الحياة. هذه هي الأشياء التي علينا أن نسألها في الصلاة، حسب شرح ذهبي الفم.ويُقدِّم ذهبي الفم توسُّعاً في شرح هذه النقطة، وهو يشرح مزمور 7: 11، حيث يقول النبي: ”مُعيني هو بار“. ويشرح ذهبي الفم ذلك: هذا يعني ”فليتعاملْ الله معي بطريقة بارة (عادلة) لأني لم أسأل شيئاً غير عادل“. فإن كنا نريد أن نتمتع بالتعضيد من فوق، فلنسأل فقط ما هو متوافق مع العدل، وذلك حتى من طبيعة هذا التوسُّل نتأكَّد من المعونة الآتية مِن ”الذي يُنجِّي المستقيمي القلب“ (مز 7: 10). لكن صلاتك لن تكون بارة إن سألتَ غِنَى أو جمالاً أو أي نعمة أخرى عابرة تتصل بهذه الحياة الحاضرة وحتى إذا كان المصلِّي بارًّا، فقد لا تكون صلاته مستجابة إذا لم تكن من أجل شيء نافع. هكذا يقول ذهبي الفم في شرحه مزمور 7 لأنه مَن كان أكثر برًّا من القديس بولس؟ ولكن لأنه سأل شيئاً ليس نافعاً، فلم يُستَجَبْ له.حيث يقول القديس بولس: «من جهة هذا تضرَّعتُ إلى الرب ثلاث مرات أن يُفارقني. فقال لي: تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكْمَلُ» (2كو 12: 8و9). وأيضاً مَن كان أكثر برًّا من موسى النبي؟ وهذا أيضاً لم يُسمَع له، حيث قال الله له: «كفاك، لا تَعُدْ تُكلِّمني أيضاً في هذا الأمر» (تث 3: 26). لأنه كان يسأل الله أن يدخل إلى أرض الموعد، وكان هذا الطلب غير نافع له، فلم يسمح الله بذلك.
ملاحظات ختامية:-
إن ذهبي الفم في كتابه شرح المزامير، يتفوَّق في عظاته الرعوية المشهور بها جداً. وإن الشروط الستة لاستجابة الله للصلاة كما يُعدِّدها في ”شرح مزمور 7“ تحيط بكل نواحي الحياة اليومية. فالشخص المصلِّي قد يكون مستحقاً لنوال إجابة صلاته فقط حينما يعيش الحياة الصالحة والتَقَويَّة. ويحث ذهبي الفم متواتراً قارئه لسلوك هذه الحياة، بحيث إن كل شيء يقوله ذهبي الفم يهدف من ورائه أن يجذب الإنسان ليكون أكثر التصاقاً بالله وأكثر بُعْداً عن الخطية. ولأن نوعية حياة الإنسان تؤثـِّر مباشرة في فاعلية صلاته، فإن كل عظات ذهبي الفم تتصل بالصلاة. لكن هذه الملاحظات التي تعقد رباطاً بين الاثنين: الحياة والصلاة تُعتبر بمثابة ”خريطة طريق“ للإنسان المُصلِّي، وهذا هو ما تُلقي عليه الضوء هذه الدراسة التي نُقدِّمها. وبنفس الطريقة، فإن الصلاة في توافقها مع شرائع الله، والصلاة الدائمة، وعدم سؤال الأشياء الأرضية؛ بل سؤال الأشياء التي هي حقًّا نافعة لنا، هي توجيهات يحاول بها ذهبي الفم أن يدفع القارئ إلى سلوك الطريق الصحيح نحو الله. وحينما نوفي كل هذه الشروط، فإننا حينئذ فقط نكون قد اشتركنا بكل ما في مقدورنا عمله. يقول ذهبي الفم إن غاية كل مجهوداتنا الدائمة، يجب أن تكون ليس فقط أن نصلي، بل أن نصلي ونحن في الحالة التي فيها تُستجاب صلواتنا. ثم يواصل ذهبي الفم توضيحه، أن الصلاة وحدها ليست كافية لننال ما نسأل من أجله، إن لم نضع في اعتبارنا هذه الشروط التي تجعل صلاتنا مقبولة لدى الله. فالفرِّيسي صلَّى، لكن صلاته لم تنفعه شيئاً. واليهود كانوا يصلُّون، لكن الله انصرف عن صلواتهم لأنهم لم يصلُّوا بالشروط المطلوبة. لهذا يوصينا الله أن نُقدِّم له صلاتنا في الوضع الذي يجعلها مسموعة. وهذا هو ما علَّمنا إيَّاه داود في مزمور 6. ومزمور 6 ليس وحده الموضع حيث يُعلِّمنا داود عن الصلاة لكي تكون مُستجابة. ففي كل المزامير - كما يقول ذهبي الفم - كان داود يحثنا على معرفة الله وسلوك الحياة المقدسة . إنه يتولَّى دور المعلِّم كما يتولَّى دور النبي كذلك، حيث يمزج المشورة بالصلاة أحياناً، وأحياناً يمزج التشجيع بها وفي مزمور 148 يُظهِر لنا داود أنه لا يكفي أن نرتل بالتسبيح لله بأنفسنا فقط، بل وبكل الخليقة التي يجب أن تشترك في تسبحات الأتقياء: ”سبحيه أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا كل النجوم والنور.“ (مز 143: 3) وفي شروحات ذهبي الفم على المزامير التي هي حقًّا صلاة داود، فإن هذه الشروحات تُقدِّم ليس فقط حثـًّا وإرشاداً على الصلاة، بل هي أيضاً عمل جوهري على ربط الصلاة بشخص النبي داود وبتعاليم القديس بولس الرسول. إن هذه الدراسة بما فيها من معلومات ليتها تكون نافعة لطالبي الصلاة والحياة الروحية، وكذلك لطالبي دراسة التعليم الآبائي الكنسي، وعلم التفسير. وفي دراسة عن العهد القديم يقول الكاتب: ”هناك أسفار قليلة في العهد القديم قُرئت أكثر من المزامير، إما لأنها جزء من الليتورجية، وإما من خلال الدراسة الشخصية، وقد بَدَت أنها مُحببة إلى قلوب المؤمنين“. وإني أعتقد أن هذا هو المستوى الذي بلغ إليه نبوغ ذهبي الفم بأكثر وفرة، إذ حيث لمست شروحات ذهبي الفم ”القلب البشري، ودوافعه، وضعفه، أو بشـَّرت بنعمة ومحبة يسوع المسيح، فهنا يرتفع ذهبي الفم ويدوم ليصير بحق "معلِّماً في إسرائيل".“وكما تلمس المزامير نفسها قلب الإنسان، هكذا أيضاً فعلت شروحات ذهبي الفم على المزامير.
المزيد
30 يوليو 2021
لا تدنو ضربة من مسكنك ج2
كلّ مرّة تسقط، قُمْ فتخلُص.. «لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ» (خر17: 16).ولكن يُحسَب أنّ الحرب هي للرب، فمنذ يوم خروجنا من بطن المعموديّة وقد تعهّدنا وتكرّسنا للحياة بحسب المسيح، بعد أن جحدنا الشيطان وكلّ قواته الشريرة. صارت الحرب إذن من العدو الشرير ضدّ المسيح الذى صرنا له وهو فينا، وصرنا مُبغَضين من الجميع من أجل الاسم الذي دُعِيَ علينا. فنحن مُضطهدون ليس لأجل ذواتنا، بل لأجل اِنتسابنا للمسيح أبطَلَ المسيح قوّة المجرِّب وسلَّم لنا مفاتيح الانتصار عليه. ليس في مقدور الشيطان ولا في سلطانه أن يُجبر أحدًا مِنّا على الخطيّة، أو يسوقه قَسرًا إلى ارتكاب الشرور. هو خدَّاع وكذَّاب ولكنه صاحب حيلة ودهاء، هو يعرض بضاعته النجسة ويلفَّها بغلاف اللذّة ويُزيِّنها للإنسان فتبدو شهيّة.. كما قيل في الأمثال: «الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ» (أم9: 17)، هي مياه وخبز ولكنّ الشيطان المُزوِّر يُظهرها للإنسان هكذا حلوة، لكي ينخدع وينجذب بالشهوّة نحو الحرام. ولكن كلّ مَن يثبت فى إيمان المسيح يستطيع بالنعمة أن يفلِت من فخاخه. القديسون فضحوه وأهانوه بكثرة الاتضاع والالتصاق بالرب. هو أبّ الكبرياء، ولكنّ الروح الوديع الهادئ يغلب كبرياءه وقد أوصانا الرب بالصلاة أن نطلب إلى الآب ونقول: «لاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ» (مت6: 13). فالصلاة الجادّة والطِلبة من القلب هي عامل أساسيّ في أن نجد عَونًا في حينه.. فلا يستطيع أحد أن ينقذنا من يد المُشتكي علينا سوى أبونا الذي في السموات وكوننا نطلب عونًا ونجاة، هو اعتراف ضمني بضعفنا وعدم إمكانيِّتنا.. لذلك إذ يسحق هو الشيطان تحت أقدامنا، فليس لنا فضل ولا افتخار.. بل نتمسّك بالأكثر، ونحتمي في ذاك الذي به «يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا» (رو8: 37) تجربة الجوع والخبز هي تجربة طبيعتنا التي تلاحقنا مَدى الحياة.. الميل الطبيعي والحاجات الطبيعيّة ليس فيها خطيّة.. ولكنّ العدو الخدَّاع يستغلّ ما هو طبيعي وينسج منه بالكذب خيالات وخيالات، كلّها خداع وكلّها تهويل وكذب. وهذا التهويل والتخويف من الموت ليس فيه حقّ. وقول المسيح: «لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ» (مت4: 4)، لم يكُن أحد من الناس قد عاشها قط.. رغم أنّها الحقّ ذاته إنّنا نستمد حياتنا في الحقيقة من شخص المسيح، الذي هو الكلمة الذاتي. هو مصدر الحياة و«هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ... لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ» (يو6: 48، 50). صِنَّارة المُجَرِّب هي الميل الطبيعي، وهو في كلّ محاولاته أن يُحرِّف الميل الطبيعي إلى ما هو على خلاف الطبيعة، لأنّه يريد أن يُفسد خليقة الله ويُميت ويقتل، بانفصال إرادة الإنسان عن الله.. فيعمل الإنسان إرادته الذاتية منفصلاً عن الحقّ والحياة.. فيموت.
تُرى مَتَى أحيَّا بكلّ كلمة تخرج من فم الله؟
مَتَى استمدّ حياتي ووجودي واستمرار حياتي منه وفيه وله وبه؟
كيف أتذوّق وآكُل فأحيا.. وأسمو بنفسي وجسدي وغرائزي؟ إنّني استمدّ خبز الكفاف من يده.. ألم يُطعم الملايين من المن النازل من فوق؟ ألم يُشبع الآلاف من خبز الكفاف حتى فضل عنهم؟
شبع الجسد شيء، وشبع النفس شيء آخر.. الجسد يطلب ما هو أرضيّ، ترابيّ حسب طبيعته.. بينما شوق أرواحنا إلى الشبع من برّ المسيح. فنحن نجوع ونعطش إليه، وهو قد طوَّب الطالبين وجهه، والمترجّين خلاصه بجوع وعطش نحوه.
الميل الطبيعي لكلّ ما هو جسدي هو الشهِّية المغروسة في طبيعتنا لبقاء الحياة كغرائز. قُدرة الميول الطبيعيّة ليس فيها خطيّة، إنّما انحراف الإرادة بعيدًا عن الله يحوّل الشهِيّة إلى شَهْوة، والشهوة إذا حبلَت تجُرّ الإنسان إلى الخطايا، ثم إلى الموت «الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا» (يع1: 15).جوع المسيح بعد أربعين يومًا أفصَحَ عن الشهِّية الطبيعيّة للطعام دون شهوة أو انحراف. فلما جاء المجرِّب يلعب على هذا الوتر، ليجرّ المسيح من الشهِّية إلى الشهوة خاب وافتضح وانكسرت سهامه.وعلى هذا تُقاس جميع حِيَل الشيطان المجرِّب، الذي يدخل من مداخل الميول الطبيعيّة ليحرِّفها نحو الشرور، والسلوك المنحرف، بعيدًا عن الحقّ، لخدمة الخطايا لقد سجّل الوحي هذه التجارب الثلاث كنموذج، والواقع أنّ إبليس جرَّب الربّ بكلّ تجربة، وبكلّ حيلة وخديعة، وبكلّ أسلحته كما هو مكتوب: «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ» (لو4: 13). فالتجارب صوَّبها العدو نحو الجسد في تجربة الخبز والجوع، ثم نحو النفس في تجربة مباهج العالم والملكيّات الأرضية وكلّ مجدها.. هذه التي تشتهيها النفوس، ثم التجربة الثالثة نحو الروح والروحيّات، إذا ألقى بنفسه من على جناح الهيكل، وحملته الملائكة فلا تُصدِم رِجله بحجر بحسب وعد الله. فقد صوَّب العدو سهامه بذلك نحو الجسد والنفس والروح، أي كيان الإنسان كلّه. و«فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رو8: 37) ونجَّانا من هذه الفخاخ المنصوبة، إذ حطّمها وكسرها وأذلَّ فخر المجرِّب، بل وطرده أشر طردة.في تجربة النفس، قال العدو: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا (كلّها)» (مت4: 9).. مجدُ العالم زائلٌ ومِلكياته وهْمٌ. المجرِّب هو رئيس هذا العالم، كقول الرب.. هو مسيطر على العالم بالخداع والكذب لأنّه روح الظلمة. وحينما يقول لأحد أعطيك، فهو كاذب. هو لا يملك لكي يعطي، ولكنه يَعِدُ ويكذبُ. وكم مَنَّى الإنسان بالأماني بأنّ يمتلك العالم، ولكن يكتشف الإنسان أخيرًا إنّه قبض الريح.. والثمن الباهظ الذي يدفعه الإنسان هو السجود للشيطان والخضوع لروح الظلمة. وهذا هو الهلاك بعينه.رد الرب يسوع بالمكتوب «لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». أمَّنَ الإنسان من الخضوع للظلام ليحيا في النور بالخضوع لمشيئة الله وحده.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
29 يوليو 2021
شخصيات الكتاب المقدس تارح
تارح
ومات تارح في حاران" تك 11: 32
مقدمة
قصة تارح قصة الرجل الذي توقف في منتصف الطريق قبل أن يصل إلى كنعان، قصة الرجل الذي سجل عنه الوحي: "ومات تارح في حاران".. وقد يسأل البعض: وأي شيء في هذا التعبير يمكن أن يثير أو يشير؟!! لقد مات الرجل شيخاً عن مائتين وخمس من السنين، فهو لم يذهب في قوة الصبا أو أوج الشباب حتى يمكن أن يتوقف الناس ليبكوا عوده الزاوي وشبابه الضائع في صبح الحياة؟!! وهو الرجل الذي خلف وراءه الأولاد إذ لم يمت عقيماً، بل ترك أولاداً على رأسهم إبراهيم الابن العظيم الخالد،.. قد يكون هذا صحيحاً وحقاً،.. ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن الرجل مات في رحلة من أعظم رحلات الإنسان على الأرض،.. وقد خرجت القافلة الصغيرة من أور الكلدانيين، وعلى رأسها شيخ ورجل وشاب، وكان الشيخ تارح، والرجل إبراهيم، والشاب لوط، وسقط الشيخ في الطريق، وجرد الشاب من كل ما يملك، ولم يبق سوى الرجل الذي كان النموذج الأعظم الثاني في الرحلة الخالدة ومن المؤسف أن الشيخ الذي قطع أكثر من خمسمائة ميل في الرحلة حتى وصل إلى حاران، أو في لغة أخرى قطع أكثر من نصف الطريق، هذا الشيخ لم يلبث أن أصابه الملل والتعب والكلل والإعياء، فرفض أن يتقدم خطوة أخرى واحدة بعد هذا،.. ومات في حاران دون أن يدخل أرض الموعد،.. هذه مأساة الرجل القديم الذي خرج يبحث عن الله، أو بتعبير أصح، خرج مع ابنه الذي استجاب الدعوة السماوية وقطع شوطاً طويلاً في الطريق دون أن يتمم أو يبلغ نهايته،.. إنه يمثل الكثيرين من المسيحيين الذين أطلق عليهم مودي: "المسيحيين الحارانيين" الذين يبدءون الرحلة بالغيرة والحماس والقوة والنشاط، ولكنهم هم أبناء "تارح" الذي سقط في الأرض، وليس أبناء إبراهيم الذين وصلوا إلى نهاية المطاف إلى كنعان السماوية، إن قصة تارح تعطي تحذيراً أكيداً للسالكين في رحلة الحياة الأبدية إلى الله في المجد، ولذا يحسن أن نراها من النواحي التالية:
تارح وتجاربه
وما أكثر ما واجه تارح من تجارب،.. وربما كانت تجربته الأولى تجربة الإعجاب الوقتي،.. ولعلك تلاحظ عند المقارنة الدقيقة بين إبراهيم وتارح، أن الكتاب يقول: "ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو ما بين النهرين قبلما سكن في حاران".. وليس في لغة الكتاب ما يدل على أنه ظهر لتارح، وقد صنع هذا الفارق القصة المختلفة بين الأب وابنه،.. وسيتاح لنا عندما نقرأ في الشخصيات الكتابية شخصية إبراهيم، أن مفتاح حياته كان هذه الرؤية المجيدة، التي كانت بمثابة الجاذب المغناطيسي الذي حركه حيثما حل وذهب، وهل يستطيع الحديد المقترب من القطب المغناطيسي إلا أن يسير أسراً لهذه القوة المغناطيسية وفي نطاق دائرتها؟!!.. وهكذا كان إبراهيم في صداقته وعلاقته بالله، ولقد ضرب في الأرض، وهو لا يعلم إلى أين يأتي، لأنه سبى بشخص الله الذي ظهر وهو ما بين النهرين قبلما سكن ولسنا نعلم كيف واجه تارح الوثني هذا التغيير العجيب الذي طرأ على ابنه!!.. هل قاومه الأمر، عندما أدار إبراهيم ظهره لعبادة القمر، وغيرها من ديانات الوثنية؟!! قد يكون إذ ليس من السهل التصور أن أبينا يخرج على دين آبائه، ثم يستقبل الآباء هذا الخروج بالهدوء أو التصفيق والاستحسان!! وإذا كانت التقاليد تقول إن نمرود اضطهد إبراهيم اضطهاداً مريراً عندما تحول عن العبادة الوثنية، فليس من المستبعد أن تارح فعل الشيء نفسه تخوفاً أو مصانعه لأهله وعشيرته!!.. على أن إبراهيم وقد تمكنت الرؤية من نفسه ومشاعره –تحمل كل شيء كما يتحمل المؤمن الحديث الإيمان بفرح كل ما يمكن أن يفعله الأشرار في نفسه؟!!.. ولعله –وقد أضاءت حياته بهذا النور اللامع الجديد- قد استطاع أن يؤثر في أبيه ويثير إعجابه إلى أبعد الحدود!!.. ولعل أباه إعجاباً أو خوفاً على ابنه من الاضطهاد أبى أن يتركه وحده في رحلته، بل سار معه في ارض المجهول حتى جاءت القافلة إلى مدينة حاران. وهكذا ذهب تارح وإبراهيم ولوط في الطريق إلى الأرض الجديدة، والأب معجب كل الإعجاب بابنه العظيم.. والإعجاب في العادة يصلح أن يكون ابتداءً، لكنه لا يمكن أن يصمد في السير إلى النهاية، ما لم يكن مصحوباً بعوامل أخرى فعالة وعظيمة،.. وهو أشبه الكل بالزرع الساقط على الأرض الذي وصفه السيد المسيح بالقول: "والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فحالاً يعثر".. ولعل الرؤيا التي أبصرها إبراهيم –ولم يرها تارح- هي التي صنعت الفرق العظيم بين القلبين أو التربتين، فكان الأصل العميق في قلب إبراهيم، والسطحية المحجرة في قلب تارح،.. وكان الفارق بين من قطع الطريق إلى آخر الشوط، ومن تخلف في منتصفه دون أن يتم الرحلة إلى أرض الموعد!!.. كما أن التجربة الثانية أمام الرجل كانت ولا شك الإعياء، فهو شيخ يضرب في الفيافي والقفار، مئات الأميال، بعد أن ترك أهله وصحبه وبيته، والحياة التي درج عليها وعاشها سنوات متعددة طويلة، وهو إذا كان قد بدأ متحمساً غيوراً نشطاً، فمما لا شك فيه أن خمسمائة ميل خلفها وراءه أصابته بالإعياء البالغ الجسدي أو النفسي على حد سواء، ولم نعد نراه على الحماس القديم أو الغيرة السابقة،.. وهو صورة للكثيرين من المسيحيين الذين يدلفون صوب كنعان السماوية، وقد يقطعون أشواطاً متعددة من الرحلة، والهتاف يملأ قلوبهم، ونفوسهم، على أنهم شيئاً فشيئاً –والرحلة طويلة ممتدة قاسية فوق حصباء الحياة ورمال الزمن- نجد الكلال والتعب والتبرم والضيق يستولي عليهم، وعلى وجه الخصوص إذا أحاطت بهم التجارب، أو حفت بهم الآلام، أو ضاقوا بالحياة أو ضاقت الحياة بهم، وإذ بحاران أول مدينة يلقون فيها عصا الترحال دون رغبة في مواصلة السير، حتى ولو كانت هناك نهاية الحياة، وآخر المطاف،.. إنهم أحوج الكل إلى القول الإلهي: "بصبركم اقتنوا أنفسكم".. أو: "سمعتم صبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف".. أو: "الرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح".. صور دانتي في الكوميديا الإلهية الذئب أشد ضراوة من النمر أو الأسد وذلك للفارق البعيد بين هجوم الاثنين على الفريسة المطاردة، إذ أن النمر أو الأسد ينقض على الفريسة من أول الحركة، وهو لا يسلم من صراعها، إذ تبدو في كامل قوتها، وتحاول أن ترد العدوان بكل ما تملك من جهد أو قوة!!، وعلى العكس من الذئب الذي يطارد فريسته أولاً، ثم ينقض عليها عندما يتملكها التعب والإعياء، وتكون أعجز عن أي مقاومة، وتصبح بذلك لقمة سهلة سائغة ميسورة!!.. وقد بدا هذا واضحاً وصحيحاً في الكثير من الصور الروحية التي جاءت في كلمة الله.. ألم يأتي عيسو ذات يوم من الحقل وهو قد أعيا وقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت، لذلك دعي اسمه أدوم فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك، فقال عيسو، ها أنا ماض إلى الموت فماذا في بكورية!!.. وباع عيسو أثمن ما يملك وهو معيي بطبق من عدس!!.. كان عماليق أخطر الأعداء على شعب الله، وذلك لأنه ترك الشعب حتى الإعياء، ثم انقض عليه، ومن ثم جاء الأمر الإلهي بمحو ذكره من تحت السماء، لأنه لم يرحم المتعب المجهد المعيي،ألم يسر إيليا في البرية مسيرة يوم، وإذ أخضه التعب الجسدي والروحي جلس تحت الرتمة، وطلب الموت لنفسه وقال كفى الآن يا رب، خذ نفسي لأنني لست خيراً من آبائي،.. ورأى الله حاجة إيليا القصوى إلى الراحة فأنامه وأطعمه حتى تهدأ نفسه وتستريح، قبل أن يلتقي به أو يتحدث معه في جبل الله حوريب وكانت التجربة الثالثة أمام تارح تجربة الإغراء والعودة إلى الماضي القديم، إذ كانت حاران أقرب المدن جميعاً إلى أور الكلدانيين، فالمدينتان كانتا مركزين متماثلين لعبادة القمر، وكلتاهما كانت على درجة عالية من الحضارة والثروة والتجارة والصناعة، فإذا سكن تارح في حاران، فإنما يستعيد بذلك ما فاته أو ما ضاع منه في أور الكلدانيين، ولعل السؤال الملح الذي كان يطوف بذهنه، ويطارده ليلاً ونهاراً.. ألم يكن متعجلاً في الخروج من أور الكلدانيين؟!!.. وهل رأى ابنه حقاً الرؤيا الإلهية أم هي بعض الخيالات أو الأوهام أو الوساوس التي ألمت به، فظنها رؤيا الله البعيد الساكن السموات؟ مسكين الإنسان عندما يقع بين شقي الرحى، التعب من جانب، والإغراء من الجانب الآخر إنه مثل هرقل كما تصوره أساطير الإغريق، والذي كان عبداً لملكه، وأراد الملك أن يتخلص من قوته الخارقة، فكان يرسله إلى أخطر الرحلات، ويطلب منه أشق الأعمال، لعله يهلك، أو تأتيه الكارثة بأية صورة من الصور،.. وقد جلس هرقل ذات يوم يلتقط أنفاسه المتعبة، وإذا به يبصر فتاتين تقبلان عليه في الطريق، وتقول أولاهما: أي أيها البطل العظيم، لقد جئتك أدعوك إلى المسامرة، وأمد لك أسباب الحياة الحلوة الجميلة الفياضة المترعة بالملاهي والمتعة والملذات، إن سرت معي وصاحبتني الرحلة طول الطريق، ويسألها هرقل: من هي ومن تكون وما اسمها؟ فتقول: أنا اللذة، وإن كان أعدائي يطلقون عليَّ اسماً آخر هو الرذيلة".. وتتقدم الثانية لتقول: لا تصدقها يا هرقل، فهي مدعية وكاذبة، ولن أعدك أنا بما أدعت أو صورت، لكني أعدك بأن أسير معك الطريق المضني المتعب القاسي، وأن أزودك بالقوة والشجاعة الأمانة والصبر، فتحيا، وتصبح قصتك قصة عظيمة تتوارثها الأجيال، ويتحدث بها عابرو الطريق في كل جيل وعصر!!.. وسألها هرقل: من هي ومن تكون وما اسمها؟ فقالت: اسمي "الفضيلة"!!
قد تكون هذه أسطورة من أساطير الإغريق، ولكنها تنطق بما يواجه الإنسان في كل زمان ومكان،.. ورأى تارح وإبراهيم القصة بكاملها في أرض حاران، وسقط الأب، ونجا الابن،.. وعاد الأب على الأغلب لعبادة القمر، أو كان على أية صورة من الصور الإنسان الذي تقاعس في الطريق دون أن يتم رحلته إلى آخر الشوط،.. ولم يكن له من نصيب في موعد الله ما كان لابنه أبي المؤمنين في الأرض!!.. وقد أضاف بعضهم إلى القصة تجربة رابعة، هي تجربة الشيخوخة الطاعنة في السن، ومع أن رحمة الله يمكن أن تنتقد الإنسان مهما طال عمره حتى إلى أخريات حياته لكن هناك فارقاً واضحاً بين إنسان كبلته الشيخوخة بالكثير من التقاليد والعادات والسير والماضي، وبين آخر لم تحكم حوله السنون شراكها بما يمكن أن يتركه أسيراً لا يفلت من شرها وخداعها!!.. ولعل هذا ما قصد الرسول يوحنا بعد آلاف من السنين أن يذكر به الأحداث في القول: "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير. لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما في العالم شهوة الجسد شهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد".. وقف تارح في حاران شيخاً طاعناً في السن، ووقف معه إبراهيم إلى أن دفنه هناك!!..
تارح وخطاياه
أما وقد أدركنا هذه التجارب التي ألمت بتارح، فمن حقنا أن نعرف الخطايا التي أودت به إلى أسوأ مصير،.. ولعل أول خطية كانت البقاء في مكان التجربة،.. هل سمعت عن القديس الذي تاب عن الخمر، وصلحت حاله، وأصبح من أروع الأمثلة عن التعبد والشركة مع الله؟، لكنهم رأوه ذات يوم مخموراً ساقطاً في الطريق، وتعجبوا كيف يمكن للرجل الذي أصبح عيافاً أن يصل إلى هذه الحال،.. وتبينوا شيئاً عجيباً غريباً، أن الرجل وهو في سبيله إلى العبادة في الكنيسة تعود أن يربط حصانه على مقربة من الحانة القديمة التي كان يشرب فيها الخمر، فكان المكان القريب من الماضي الآثم مصيدته التعسة وهو لا يدري،.. من المؤكد أن يوسف لم يكن في قوة شمشمون الخارقة، ونجا يوسف من السقوط في الخطية لأنه ترك ثوبه وهرب، ونام شمشمون على حجر دليلة ليسقط الجبار كما يسقط الوعل في شبكة!!.. إن النصيحة التي سمعها لوط من الملاك كانت "اهرب لحياتك" وكان تارح في حاجة إلى هذه النصيحة أكثر من إبراهيم، ولكنه توقف في حاران لينتهي هناك!!..
وكانت خطية تارح الثانية خطية التأجيل، لست أعلم هل استحثه إبراهيم على السير قدماً إلى الأمام؟ وهل راوغه الأب يوماً وراء يوم حتى جاءت النهاية؟.. الذي أعلمه أنه لم يجعل حاران نقطة انتقال، بل مكان سكن، هل اقتنى بيتاً هناك، ورفض السكن في خيام؟، هل تلكأ لهذا السبب أو ذاك، ومنع ابنه سنة بعد أخرى عن الرحلة الخالدة؟!!.. إنه على أي حال التأجيل، وما يصاحب هذا التأجيل من أخطاء وبلية!!.. "اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر" لقد أوشك لوط أن يضيع في سدوم رغم إنذار الملاكين بسبب التأجيل في مواجهة الخطر الداهم وقيل: "ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: "اهرب لحياتك، لا تنظر ورائك ولا تقف في كل الدائرة اهرب إلى الجبل لئلا تهلك".. وهل تعلم أن شاول الطرسوسي كان في حاجة أيضاً غداة لقاء المسيح إلى نصيحة حنانيا الذي قال له: "والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب".. والخطية الثالثة كانت خطية الارتداد أو العودة إلى الدين القديم، كانت البلاد المحيطة بحاران تعبد آلهة مختلفة فبعضها كان يعبد الشمس أو غيرها من الكواكب، لكن حاران بالذات كانت تعبد القمر، مما شجع على التصور أنها طابت مكاناً ومقاماً لتارح، حيث عاد إلى العبادة الوثنية التي رفضها إبراهيم،.. هل نشأ النزاع بين الأب وابنه، وكانت سنوات حاران انقساماً فكرياً أو روحياً بين الاثنين؟!! أو هل جاهد إبراهيم طوال هذه الفترة أن يقنع أباه ببطلان القمر والشمس والنجوم كآلهة معبودة، لسنا ندري سوى أن الموت حسم النزاع، وذهب تارح بعيداً عن إله إبراهيم ومواعيده وأمجاده، وتجددت الدعوة لإبراهيم بعد موت أبيه أن يحمل عصا الترحال إلى أرض كنعان!! مهما يكن الذي حدث، فمما لا شك فيه أن إبراهيم كان يمثل الإيمان بكل شجاعته وقوته وصلابته، وكان أباً للمؤمنين وما يزال في كل العصور أو الأجيال. وكان تارح رمزاً للهزيمة والضياع والتراجع، وأبا للمرتدين الذين تذوقوا الحلاوة الأولى، ثم عافوا عنها، أو أضحت مراً لهم، إذ أفقدتهم الخطية الطعام والشهوة والمذاق الصحيح!!.
تارح ومأساته
وأية مأساة أقسى من هذه المأساة؟ وأي ضياع أرهب وأشد من هذا الضياع؟، أليس هو ذلك الرجل الذي كان من أقدم من وصفهم الرسول بطرس يوم قال: "لأنه كان خيراً لهم لو لم يعرفوا طريق البر من أنهم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة"؟! أجل لقد ضاعت الخمسمائة ميل في طريق دون خير أو جدوى، فلا هو بالإنسان الذي استقر مع قومه دون أن يرحل عنهم وعن صحبتهم وعن الليالي السامرة التي لم يعد يجد مثيلها في الأرض الغريبة النائية،.. ولا هو الذي سار مع ابنه إلى الأرض العظيمة أرض الموعد، ليرى بركات الله وإحسانه ورحمته وجوده!!.. كان تارح من أقدم رجال التاريخ الذي عرجوا بين الفرقتين، وأدرك أنه لا يمكن الاستفادة من القديم أو الجديد على حد سواء!!.. وكان مثلاً بشعاً من أقدم الأمثلة التي تحكي مأساة الارتداد الديني المحزن عن شخص الله،.. وما من شك بأن إبراهيم ابنه –وقد دفنه هناك- وقف على قبره في آلم حالة وأقسى حزن، إذ لم يكن يود له هذا المصير، وودع هذا القبر بالعين الباكية وكأنما يردد بعد ألفي عام ما قاله المسيح لبنات أورشليم اللواتي خرجن وراءه في يوم الصليب نائحات باكيات: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن".. أو ما قاله الرسول بولس، عندما كتب رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، ويعتقد أنه كتبها من كورنثوس وكان يرى من بعض النوافذ هناك مقابر الوثنيين وقد حفر فوقها لغة اليأس والحزن في عبرات تعتبر ضياع الأمل، وانقضاء الرجاء!!.. ومن ثم كتب: "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الأخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم".. أجل إنه شيء محزن أن نخسر الضياع أو المركز أو الشهرة أو الجاه أو أي متاع أرضي، لكن هذا كله لا يمكن أن يقارن بالخسارة الأبدية!!.. وحق للشاعر "دانتي" أن يكتب على باب الجحيم هذه العبارة: "أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!"..
كان تارح مأساة لنفسه، ومأساة قاسية لابنه الذي كانت ينتظر ولا شك أن يأخذ أباه معه إلى كنعان السماوية،.. ولكن الرجل تخلف وراءه في الطريق، وأضحى مأساة تحذر الآخرين أيضاً في كل جيل وعصر!!.. كان من أشد ما روع الكابتن سكوت في رحلته في القطب الجنوبي. وهو يسير أميالاً متعددة فوق الجليد المتكسر، أن أبصر ورفقاؤه المتعبون معه، شيئاً يلوح من بعيد،.. كان علماً أسود رفع على بقايا ضحايا من الرحالة الذين سقطوا في الطريق، وقد فقدوا الحياة دون أن يبلغوا الغرض المنشود!!... ومنذ آلاف السنين ارتفع علم أسود فوق قبر قديم في أرض حاران لرجل تعثر في الطريق، ومات هناك، وتركه ابنه بعيون دامعة وهو يضع رخامة محزنة فوق القبر ما تزال كلماتها باقية إلى اليوم: "ومات تارح في حاران"..
المزيد
28 يوليو 2021
المعرفة معرفة الله معرفة الناس معرفة النفس
كل ما يعرفه الناس أنهم يعرفون بعض الأشياء عن بعض الأشياء، أما المتخصص منهم فيركز في معرفته علي أمر معين، يعرف عنه بطريقة أعمق وما أكثر الأشياء التي لا يعرف عنها البشر شيئًا وبعضها مجال لبحوثهم والبعض فوق مستوي البحث!
أما الله تبارك اسمه، فانه يعرف كل شيء عن كل شيء ويعرف كل شيء عن كل احد، في السماء وعلي الأرض، سواء من الأرواح البشرية، أو الملائكة أو أسرار الكون، ما يري منه وما لا يري وهي معرفة كاملة شاملة. ولذلك فان الله هو الوحيد الذي يمكن أن يوصف بأنه 'كلي المعرفة'.
الله أيضًا يعرف كل الخفيات والظاهرات فهو الوحيد الذي يعرف الغيب. وان ذكر بعض البشر معرفة شيء من المستقبل، فان ذلك يكون عن طريق الاستنتاج أو المعرفة العامة، مثل ما يقوله خبراء الأرصاد عن حالة الجو فيما سيحدث من حرارة أو رياح أو مطر، حسبما يتوقعون وقد لا تكون معلوماتهم دقيقة.. أو قد يقول أحد الأساتذة حسب خبرته أن طالبًا من تلاميذه سوف يرسب وان طالبًا آخر سوف ينجح بتفوق. ويحدث هذا فعلًا بناء علي درايته السابقة بمستوي تلاميذه من حيث العقلية والدراسة والذاكرة.وقد يقول طبيب عن احد مرضاه انه لابد سيموت بعد أيام، وذلك بناء علي وضوح تطور المرض وعدم الاستجابة لأي علاج. ويحدث هذا فعلا ولا نسميه لونًا من معرفة المستقبل إنما هو استنتاج. أما معرفة المستقبل عند الله، فهي فوق مستوي الاستنتاج أو ما توحي به طبيعة الأشياء، إنما هو النبوءة التي فوق الإدراك البشري.
ومن أمثلة معرفة الله بالخفيات معرفته بما في الأفكار والقلوب.. فالله هو الوحيد فاحص القلوب وقارئ الأفكار والعارف بما في داخل الإنسان من نيات ومشاعر.. ولذلك فهو يحاسب كل شخص علي نواياه، الأمر الذي هو فوق معرفة البشر.. كما أنه أحيانًا ينقذ البعض من مؤامرة سرية تدبر ضدهم ولا يعرف بها أحد إن كلمة 'أسرار' تقال عن معرفة بعض البشر. أما عند الله فلا يوجد سر بالنسبة إليه.. إنما كل شيء واضح أمامه ومعروف.والله يعرف كل أمر بدون وسائط أو وسائل أو أجهزة.ما أكثر الأجهزة والوسائل التي يستخدمها البشر للوصول إلى معرفة معلومة معينة.. كما نري في الطب أجهزة الأشعة والتحاليل والمناظير، وأجهزة لمعرفة الحرارة والضغط أو التأكد من وجود مرض معين. أما الله فيعرف كل شيء معرفة مباشرة بدون وسائل.. البشر في قمة ما وصلوا إليه من علم اخترعوا سفن الفضاء، واستخدموها لمعرفة بعض أخبار الكواكب أو الحصول علي بعض صور أو حجارة يستنتجون منها شيئًا..! أما الله فيعرف كل تلك الأجرام السمائية، لأنه هو خالقها، ويعرف كل المعلومات عن باقي الكواكب التي لم يستطع البشر الوصول إليها.. وكذلك ما في فلك السماء من شمس وكواكب ونجوم تحيط بها ولا يحيط بها علم البشر أبدًا..!
البشر ينقبون في الجبال بحثا عن الذهب والأحجار الكريمة. وقد ينجحون أحيانًا أو يفشلون.. كما أنهم يحفرون أميالًا عديدة تحت الأرض لعلهم يجدون شيئا من البترول مثلا.أما الله فيعرف كل ذلك دون تنقيب أو حفر، لأنه هو الذي وضع الذهب في تلك الجبال، ووضع البترول تحت الأرض وبالمثل قد يبذل العلماء جهودهم ووقتهم إلى أن يكتشفوا خواص طبية في بعض الحشائش أو النباتات أو في مواد معينة. بينما الله جلت قدرته يعرف كل هذا دون بحث علمي لأنه هو الذي وضع في تلك النباتات أو المواد ما تتصف به من خواص طبية.
تتميز معرفة الله أيضا بأنها معرفة يقينية وفوق التطور الإنسان ينمو في معرفته وأحيانًا يتطور أو يتغير حتى يصل إلى معرفة يعتبرها ثابتة وقد كانت له قصة متناقضة في موضوع الذرٌة وانقسامها إلى أن استقر علي معرفته الحالية وكذلك مرٌ بمأساة بشرية حتى وصل إلى كروية الأرض وقد كان من قبل يحكم بالموت علي من يقول بذلك!
ومازال البشر من جهة أصل الإنسان ونظرية التطور في اختلاف بين ما يقوله الدين وما يقوله بعض العلماء وبخاصة عن الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد!
وأمور كثيرة نري فيها معرفة الإنسان وبخاصة العلماء لم تصل إلى مستوي اليقين بعد، إنما هي مجرد محاولات للوصول.. أما معرفة الله فهي معرفة يقينية في كل شيء لا تقبل الشك.
معرفة الإنسان تأتي أحيانًا عن طريق التدرج فخطوة منها تقود إلى خطوة أخرى. وبحث لعالم معين يكمل مجهودًا لعالم آخر حتى يصل الجميع إلى نتيجة ثابتة.عنصر التدرج أيضًا يكون في علاج كل مريض مع متابعة كل خطوات علاجه واستجابته له. ونفس التدرج نجده في حلٌ أي تمرين هندسي وفي شرح أي علم حتى يستوعبه الذهن البشري نقطة اثر نقطة.. كذلك كل إنسان في تلقيه للعلم يتدرج من مستوي إلى مستوي اعلي. وفي معرفته ينمو فيها شيئًا فشيئًا.أما الله سما وتعالي فلا تدرج مطلقا في معرفته، بل انه يعرف كل شيء دفعة واحدة وليس خطوة فخطوة. نهاية كل شيء واضحة أمامه مع بداية هذا الشيء.والله كما يعرف يمنح أيضًا المعرفة للإنسان في الأمور التي لا يستطيع أن يصل إليها بذاته.ولذلك كما انه كليٌ المعرفة هو أيضًا مانح المعرفة. وان كنا نحن نعرف أمورًا عديدة بعقولنا فهو الذي منحنا هذه العقول بكل مداركها وقدراتها وكثيرًا ما يكشف لنا أمورًا فوق قدراتنا الطبيعية أن نعرفها.. ولعله من أمثلة ذلك ما منحه ليوسف الصديق من جهة موهبة تفسير الأحلام وما تشير إليه أحيانًا عن مستقبل الأمور.وأيضًا ما منحه للأنبياء من وحي الهي.. وما منحه للبعض من جهة كشف المستور ومعرفة بعض الأمور.علي انه يعطينا من المعرفة ما يلزمنا وما ينفعنا. ونحن نشكر الله في كل حين، لأنه أعطانًا علم معرفته وأوصلنا إلى الإيمان به.وهناك أمور يعرفها الله، ولم يكشفها لنا بعد فأمور خاصة بسرٌ الحياة والموت وما يتعلق بروح الإنسان: ما كنهها؟ وكيف تفارق الإنسان؟ وكيف تعود إليه؟ وكيف تكون قيامة الأجساد من الموت؟ ومتى يكون ذلك؟ وكيف تتغذي الروح في العالم الآخر؟ وما كنه ذلك العالم وأين يكون؟
في كل ذلك نطلب المعرفة من الله نفسه وليس إلى غيره
فهو وحده الذي يعرف الحق كله بل هو الحق جل جلاله.. نقول ذلك ونحذر الذين يطلبون المعرفة من غير الله عن طريق المنجمين أو الدجالين أو الذين يدعون معرفة البخت والحظ وقراءة الكف وقراءة الفنجان أو ضرب الرمل وأمثال كل ذلك من ادعاء معرفة الغيبيات التي هي من شأن الله وحده.كذلك نحذر من اللجوء إلى السحرة، أو من يدعون السحر!! أو اللجوء إلى الشيطان كمصدر من مصادر المعرفة عند المخدوعين! فالشيطان معرفته دنسة ومضللة يريد بها خداع الناس ممن يقبلون خداعه.. 'وللبحث بقية'.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد