المقالات

18 ديسمبر 2020

معلومات لاهوتية عن شهر كيهك

مواضيع عامه تسبحة كيهك تسمى (سبعة وأربعة) إذ أن ترتيبها الأساسى عبارة عن أربعة هوسات، وسبعة ثيئوطوكيات وكلمة هوس hwc معناها تسبحة. وكلمة ثيئوطوكية مشتقة من كلمة ثيئوطوكوس qe`otokoc ومعناها والدة الإله أى أنها تختص بعقيدة التجسد من والدة الإله العذراء القديسة مريم وهنا نضع أمامنا أربعـة أسـئلة حول تسبحة شهر كيهك لماذا فى شهر كيهك ؟؟؟ لماذا للعذراء القديسة مريم ؟؟؟ لماذا سبعة وأربعة ؟؟؟ لماذا أثناء الليل؟؟ أولاً : لماذا شهر كيهك ؟؟ الكنيسة تكثر التسبيح فى شهر كيهك وقبل عيد الميلاد (29 كيهك) استعداداً لاستقبال ميلاد ربنا يسوع المسيح، وكأنها تُعد الأرض كلها بالتسبيح لتصير سماء ثانية يحل فيها الكلمة المتجسد وتُعد قلوبنا أيضاً بالتسبيح لتصير سماء ثانية يسكن فيها المسيح. ولعل فى ذلك إشارة إلى اعتكاف السيدة العذراء من سن 3 سنوات وهى تداوم التسبيح والتمجيد لله حتى استحقت أن تسمع البشارة السماوية من فم رئيس الملائكة غبريال بأن المولود منها يدعى ابن الله وهكذا عندما نعتكف نحن أيضاً فى الكنيسة بالتسبيح والتمجيد خلال هذا الشهر المبارك ننتظر ميلاد ربنا يسـوع المسيح " والكلمة صار جسداً وحل بيننا " ولكى نتأهل أن يحل المسيح بالإيمان فى قلوبنا ولذلك ارتبطت تسابيح شهر كيهك بمعانى كثيرة عن التجسد الإلهى والميلاد العجيب والرموز والنبوات التى أشارت إليها وذلك وبصفة خاصة فى الثيئوطوكيات التى وُضعت أساساً لتأكيد عقيدة التجسد الإلهى من العذراء والدة الإله بعد مجمع أفسس سنة 431م برئاسة القديس العظيم البابا كيرلس الأول عمود الدين، وذلك ضد بدعة نسطور الذى أنكر أن السيدة العذراء والدة الإلـه qe`otokoc وكانت خطورة ذلك أنها لو لم تكن والدة الإله لما كان المسيح هو الله ولذلك جاءت السبع ثيئوطوكيات تتحدث بعبارات لاهوتية منظومة وقوية عن التجسد والميلاد ورموز العذراء مريم فى العهد القديم وارتباطها بالتجسد الإلهى مثل أنها قدس الأقداس، والتابوت المصفح بالذهب، وغطاء التابوت، وقسـط المن، والمنارة الذهب، والمجمرة الذهـب، وعصا هارون، وزهرة البخور، والعليقة، والسلم الذى رآه يعقوب، وجبل سيناء، والجبل الذى رآه دانيال، والباب الذى رآه حزقيال، ومدينة الله، والسحابة، والفردوس العقلى، والسماء الثانية الجديدة، وعجينة البشرية، والمرأة المتسربلة بالشمس، ولوحى العهد وهذه الرموز وردت بصورة مركزة فى الثيئوطوكيات وتحدثت بها وعنها المدائح المنظومة باللغة العربية باستفاضة، وتتكرر أيضاً فى الطروحات التى تُقرأ أثناء تسبحة سبعة وأربعة وتحدثت الثيئوطوكيات عن ارتباط هذه الرموز بالعذراء القديسة مريم بكونها والدة الإله وبالتالى تحدثت عن التجسد الإلهى كعقيدة أساسية فى إيماننا المسيحى عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد وهنا نشير إلى أن الكنيسة بالإشارات الكثيرة عن التجسد والميلاد فى نغم مفرح وجميل تؤهلنا للاستعداد باشتياق لهذا اليوم المفرح يوم عيد الميلاد فندرك عظمة محبة الله وتواضعه إذ أنه " أخلى نفسـه آخذاً صورة عبد صائراً فى (يو1: 14). - (اف 3 : 17). (3)- (1تى3: 16) شبه الناس " فنمجده بقلوب نقية فى هذا العيد المبارك، ولعلنا ندرك أن الاسـتعداد لأى شئ فى حياتنا يجعل لنا فيه فائدة كبيرة فكلما أعددنا نفوسـنا وقلوبنا فى شهر كيهك كلما استفدنا من عيد الميلاد فى حياتنا، وكان له فاعلية روحية عميقة ثانياً : لماذا العذراء القديسة مريم ؟؟ لعله أصبح واضحاً من حديثنا عن الاستعداد لميلاد ابن الله أن تسابيح شهر كيهك ترتبط بوالدة الإله التى استحقت أن تكون السماء الثانية، وهى أيضاً تدعونا أن نتشبه بها خلال هذا الشهر لتكون قلوبنا سماء ثانية لربنا يسوع المسيح مولود بيت لحم ولذلك – وكما سبق أن قلنا – أن كلمات التسابيح وخصوصاً الثيئوطوكيات تتحدث بإفراط عن التجسد، وعن العذراء القديسة مريم ونمجدها لأنها استحقت هذه النعمة العظيمة وهذا التطويب للعذراء القديسة مريم نطق به الوحى الإلهى على فمها الطاهر عندما قالت " فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى أليس تطويبنا للعذراء من يوم أن نطقت بهذه العبارة النبوية إلى هذا الجيل وإلى كل الأجيال ألا يتحقق هذا فى التسابيح الكنسية اليومية (من خلال الثيئوطوكيات اليومية السبعة)، ومن خلال تسابيح شهر كيهك بصورة أعظم وأعمق ثالثاً : لماذا سبعة وأربعة ؟؟ أساس التسبحة فى الكنيسة أربع هوسات، وسبع ثيئوطوكيات (كتاب التسبحة يسمى الأبصلمودية) والهوسات الأربعة هى الهوس الأول : وهو تسبحة موسى النبى بعد عبور البحر الأحمر(3) (فى 2: 7). (2)- (لو1: 48). (3)- (خر15)موسى وعبــور البحر الأحمر الهوس الثانى : وهو المزمور 135 وهو تسبحة شكر لله " أشكروا الرب لأنه صالح وأن إلى الأبد رحمته " الهوس الثالث : وهو تسبحة الثلاث فتية القديسين فى آتون النار| الهوس الرابع : وهو المزامير 148، 149، 150 وهى مزامير تسبيح وشكر لله على فم الخليقة كلها بكل كائناتها الثلاثة فتية القديسين ومعهم رابع شبيه بابن الآلهة أما السبع ثيئوطوكيات فهى مرتبة لكل يوم من أيام الأسبوع السبعة، وهى كما سبق أن أشرنا أنها مليئة بالعبارات اللاهوتية والرموز النبوية التى تتحدث عن التجسد الإلهى وحلول الله بيننا، وعن العذراء بكونها والدة الإله ولعل رقم (7) يمثل كل أيام الأسبوع (أى كل يوم) ورقم (4) يمثل كل الأرض (الجهات الأربعة) أى كل مكان فكأن التسـبيح بسبعة وأربعة يشـير (وردت فى تتمة سفر دانيال الإصحاح الثالث) إلى التسـبيح كل يـوم فى كل مكان، مثلما نصلى فى تحليـل صـلاة الغروب " وننهض للتسابيح والصلوات كل حين وفى كل مكان نمجد اسمك القدوس " ومعنى عبارة كل حين وفى كل مكان أى تصير الأرض كالسماء لأن التسبيح فى السماء كل حين وفى كل مكان وكأننا بهذه التسابيح فى سبعة وأربعة نتشوق أن تتحول الأرض إلى سماء يسكن فيها العلى فالتسبيح فى شهر كيهك هو إعداد الأرض كلها، وإعداد قلوبنا بصفة خاصة أن تكون كالسماء لكى يسكن فيها الله الكلمة المتجسد وهكذا يرتبط التسبيح دائماً بحلول الله وسكناه ولذلك تلقب الكنيسة العذراء بأنها السماء الثانية التى سكن فيها العلى (ثيئوطوكية السبت). ويضاف إلى الأربعة هوسات والسبع ثيئوطوكيات أجزاء أخرى مثل مجمع القديسين والإبصاليات (إبصالية yalia أى ترتيـلة) وذكصولوجـيات ( ذكصولوجية dozolojia أى تمجيد) ومدائح منظومة باللغة العربية، وطروحات (تفسير) تقال بعد كل هـوس، وكل ثيئوطوكية، وعلى نفـس المعانى الواردة بها لزيادة الشرح والتوضيح لكى يشترك الكل فى الفائدة الروحية رابعاً : لماذا أثناء الليل (السهر) ؟؟؟ اعتادت الكنيسة أن تسهر فى التسابيح الكيهكية طوال الليل حيث تبدأ السهرة بتسبحة قوموا يا بنى النور `e `p]wi ten ,qhnou وكأنها تدعونا أن تحول ظلام الليل إلى نور كما يقول معلمنا بولس الرسول " جميعكم أبناء نور وأبناء نهار لسنا من ليل ولا ظلمة فلا ننم كالباقين بل لنسهر ونصح"(1) وفى هذه التسابيح تدريب روحى على السهر فى تسبيح مملوء بالاشتياق والحب وكأنه حوار بين الكنيسة العروس والمسيح عريسها وهو متعة روحية جميلة يستمتع بها السهارى المستعدون كالعذارى الحكيمات وفى نهاية السـهرة طوال الليل نفرح بشـروق شمـس البر فى باكر النهار "ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر" والمتقون الرب هم الذين يسهرون فى الصلاة والتسابيح، فيشرق لهم العريس السماوى شمس البر فى نهاية كل سهرة روحية ونقول فى صلاة باكر " أيها النور الحقيقى الذى يضئ لكل إنسان آت إلى العالم أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر " وعبارة " أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر" تشير إلى مجئ المسيح شمس البر فى ميلاده الذى نستعد له بهذه التسابيح والسهرات الروحية.إلهنا الصالح محب البشر يعطينا أن نشترك فى هذه الأيام المباركة بالاستعداد والتسابيح ونقاوة القلب حتى ننال بركة عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح بفرح روحى ولا يكون هذا الكلام مجرد معلومات طقسية للمعرفة العقلانية فقط ولكن يكون دافعاً للممارسة والتمتع بحياة الكنيسة ونقول مع ربنا يسوع المسيح "إن علمتم هـذا فطوباكم إن عملتموه ".كل عام وأنتم بخير .
المزيد
17 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إشعياء

" فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد " إش 6: 1 مقدمة كان إشعياء واحداً من أعظم عمالقة التاريخ، وسفره هو الأول بين ما يطلق عليها: «أسفار الأنبياء الكبار »، ولا تستطيع أن تقرأ سفره دون أن ترتقى الهضاب العالية، وتمد بصرك إلى الآفاق البعيدة التى تجتاز العصور والأجيال، وتأتى إلى آخر الأيام فى الرؤى المذهلة العجيبة،... أليس هو الرجل الذى بدأ نبوته بذلك المنظر المهيب للسيد وهو جالس على كرسيه العالى والمرتفع، وأذياله تملأ الهيكل؟؟.. ومن ذا الذى يمكن أن يرى السيد فى مجده العظيم، والملائكة واقفون بين يديه، دون أن يحس بحاجته إلى الارتقاء إلى أعلى مقام عن هذه الأرض، ليخشع فى فزع قائلا: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6: 5 ".. وأليس هو الرجل الذى طوى مئات السنين، ونقلنا فى الأصحاح الثالث والخمسين إلى هضبة الجلجثة، لنرى دقائق الصلب وتفاصيله، كمن يراها رؤيا العيان، ويكتب عنها من تحت الصليب،... وأليس هو النبى الذى اخترق حجب المستقبل القريب والبعيد، فأوقفنا على هضاب آيته لاحقة لتاريخه،... فرأينا كورش يجتاح الممالك، ويطويها، ويسقطها تحت قدميه، ويعطيه اللّه اسمه قبل أن يولد بمائة وخمسين عاماً،... ولم يكن كورش إلا رمزاً لذلك الذي خرج غالباً ولكى يغلب، والذى يقود أعظم المعارك فى الأرض، ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم... فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل،... ولا يتعلمون الحرب فيما بعد » "إش 2: 2 - 4 " لأنى هأنذا خالق سموات جديدة وأرضاً جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال » " إش 65: 17 ".ولعلنا نتأمل الآن هذا الرجل العظيم من فوق هذه الربى والهضاب العالية لنراه مع سفره ونبواته وهو يحدثنا فيما يلى: إشعياء من هو!!؟ الاسم « إشعياء » يعنى « خلاص يهوه » أو « خلاص الرب » وهو ابن « آموص » أو « القوى » وقد أطلق على زوجته « النبية » وربما كان القصد فى ذلك أنها زوجة النبى، وإن كان البعض يظن أنها كانت تملك موهبة النبوة، وقد ولد له ولدان اسم الأول « شآر ياشوب » أو « بقية سترجع » ولعل القصد من ذلك رجوع البقية من السبى، أو رجوع البقية إلى اللّه برسالة إشعياء، والثانى: « مهير شلال حاش بز » ويعنى « سلب يعجل خراب يسرع » والمقصود بذلك أنه على قدر السرعة فى جمع الأسلوب ونهبها، على قدر ما يأتى الخراب المعجل،... وقد أوضح النبى أن نبوته جاءت فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا، ومن المعتقد أنه ولد قبل موت عزيا بعشرين عاماً على الأقل، وإذا صح التقليد القائل بأنه مات منشوراً على يد منسى الملك، فمن المتصور أنه عاش حتى بلغ التسعين من عمره أو ما بين عامى 780، 690 ق.م. ومن الجدير بالذكر أنه فى ذلك التاريخ بنيت مدينة روما، والتى كانوا يطلقون عليها « المدينة الخالدة » وقد عاش إشعياء على مر الأجيال والتاريخ أكثر عظمة وجلالا وخلوداً،... وفى تصور الكثيرين أن إشعياء كان ينتسب إلى البيت الملكى، وأنه على أية حال كانت له المكانة التى تجعله يعطى المشورة للملك آحاز، والذى لاذ به الملك حزقيا أمام غزوة سنحاريب للبلاد، وحصاره لأورشليم، ومن الثابت أنه كان شجاعاً حازماً، لا يعرف المداورة أو المهادنة فى كل ما يتصل بالدين،... يستوى عنده فى ذلك الملك أو غير الملك، ألم يقل للملك آحاز: « اسمعوا يا بيت داود. هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهى أيضاً » " إش 7: 13 " وقال للملك حزقيا: اوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش » " إش 38: 1 "، هوذا تأتى أيام يحمل فيها كل ما فى بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل. لا يترك شئ يقول الرب » " إش 39: 6 " وقد صور إسرائيل فى مرتبة أدنى من الحيوان فى مطلع سفره « الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه. أما اسرائيل فلا يعرف شعبى لا يفهم. ويل للأمة الخاطئة الشعب الثقيل الإثم نسل فاعلى الشر أولاد مفسدين ». " إش 1: 3 و4 " « كيف صارت القرية الأمينة زانية » " إش 1: 21 " « لأنه شعب متمرد أولاد كذبة ».. " إش 30: 9 " ومع هذه الشجاعة الحازمة كان رفيق القلب شديد الحدب والعطف، ويكفى أن نراه يقول: « لذلك قلت اقتصروا عنى فأبكى بمرارة. لا تلحوا بتعزيتى عن خراب بنت شعبى » "إش 22: 4 " بل لعله كان يبكى تجاه آلام الآخرين، حتى ولو كانوا من الأمم، وهو القائل عن موآب: « يصرخ قلبى من أجل موآب » " إش 15: 5 "« لذلك أبكى بكاء يعزير على كرمة سمة أوريكما بدموعى ياحشبون وألعالة ». " إش 16: 9 " كان يندد بالخطية أشد تنديد، وفى الوقت نفسه يبكى على الخطاة،... ومن الجانب الآخر كان فرحه عظيماً بالأمم التى تجرى إلى اللّه: « ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم »" إش 2: 2"« ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجداً » " إش 11: 10 "« فى ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجئ الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور ويعد المصريون مع الأشوريين فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة فى الأرض بها يبارك رب الجنود قائلا مبارك شعبى مصر وعمل يدى آشور وميراثى إسرائيل » "إش 19: 23 - 25 ". لم يكن الرجل ضيق الأفق، محدود النظرة، تمتلكه نعرة الجنس، تحجب رؤياه عن العالم الواسع الذى لا حياة لهن بدون اللّه،... على أن هذا لا يعنى أنه لم يكن غيوراً لوطنه، متحمساً له، يهتم بالدفاع عنه ورعايته، لقد كان وطنياً من طراز ممتاز، وهو القائل لآحاز: احترز واهدأ. لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبى هاتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وآرام وابن رمليا » " إش 7: 4 ".. كما قال لحزقيا: « هكذا يقول الرب إله إسرائيل الذى صليت إليه من جهة سنحاريب ملك آشور هذا هو الكلام الذى تكلم به الرب عليه: احتقرتك استهزأت بك العذراء ابنة صهيون. نحوك أنغضت ابنة أورشليم رأسها » "إش 37: 21 و22".وكان إشعياء، مع ذلك، رجلا عميق التعبد والاحترام للّه،... ولعل الرؤيا التى رآها فى الهيكل، تركت طابعها العميق فى حياته بجملتها!!.. وهو لا يرى هذا التعبد فى مجرد العبادة الشكلية والطقسية أو الظاهرية، فالذبائح لا قيمة لها: « لماذا كثرة ذبائحكم يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر » " إش 1: 11" والاهتمام بأيام معينة فى نظره باطل وكذب: « رأس الشهر والسبت ونداء المحفل لست أطيق الإثم والاعتكاف » " إش 1: 13 " كما أن الهيكل فى حد ذاته لا معنى له: « هكذا قال الرب: السموات كرسى والأرض موطئ قدمى. أين البيت الذى تبنون لى وأين مكان راحتى » " إش 66: 1 " إن العبرة عند اللّه بالحياة الروحية العميقة فى روح الطاعة: « إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض » "إش 1: 19" وحياة البر وخوف اللّه: « وإلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامى » "إش 66: 2 " كان إشعياء يعيش على الدوام أمام اللّه العلى: « لأنه هكذا قال العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه. فى الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيى روح المتواضعين ولأحيى قلب المنسحقين » "إش 57: 15 " « أدخل إلى الصخرة وأختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته » " إش 2: 10 "... ولا حاجة إلى القول بأن الرجل كان شديد الثقة باللّه، كامل الاعتماد عليه، ومن ثم كان يرفض تماماً التحالف مع آشور أو مصر،... وقد قاوم مثل هذا التحالف ما وسعته المقاومة سواء فى حياة الملك آحاز أو الملك حزقيا،... ومع أن مصر واشور كانتا الدولتين العظميين، قبل أن تظهر بابل فى الأفق،... إلا إنه كان يعتقد بحق، أن الإيمان باللّه وحده، هو الذى يعطى الإنسان اطمئنانه الكامل، وسلامه الدائم،... وأن الدول المتحالفة إذا أعانت بعض الوقت، فسيلحقها العجز بعد ذلك، وتضحى عبئاً، لا عوناً، وأكثر من ذلك إنهاء تحول المتحالف معها إلى فريسة يمكن أن تبتلعها متى أتيحت لها الفرصة، وسنح الوقت!!.. وقد كان الرجل صادق المشورة فى هذا المجال، بل كان واثقاً من النتيجة عندما استمع حزقيا الملك، وقد أدرك هذا الاختبار، فتعاون أولا مع آشور، ثم عاد ليواجهها معتمداً على اللّه،... وسقط عند أبواب عاصمته زهرة الجيش الأشورى مائة وخمسة وثمانون ألفاً من الجنود فى ليلة واحدة!! ومن المسلم به أن إشعياء كان واسع الثقافة، بلغ السمت والقمة بين الأنبياء، فلم يتفوق عليه أحد منهم من الوجهة الإنسانية. فى فخامة اللفظ، وجلال التعبير، ورصانة الأسلوب،... وقد قيل أنه لم يبره أحد قط منهم فى الجمع بين فخامة العبارة، ودسامة التفكير، إذ لم تكن فصاحته على حساب المعنى، أو معناه على حساب التعبير الجزل الجميل!!ولم يكن عند الرجل رتابة فى الأسلوب أو قصور فى المنطق، بل تحس وأنت تقرأ سفره أنك تسير بين أعلى القمم وأعمق الوديان،... ولعل هذا كان الباعث الأكبر عند عدد من النقاد، إلى الزعم بأن هناك أكثر من إشعياء فى كتابة السفر... وقالوا إن هناك إشعياء الأول والثانى وربما الثالث.. لأنهم تصوروا أن شخصاً واحداً لا يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه هذا السفر العظيم فى أصحاحاته الستة والستين!!.. ومع أن التاريخ اليهودى أو الكنسى، كان فيه ما يشبه الإجماع على أن إشعياء وحده هو كاتب السفر، ولم يشذ عن هذا الإجماع، سوى بن عزرا فى القرن الثانى عشر الميلادى، والذى قال إن الأصحاحات من الأربعين إلى الستة والستين ربما لا تكون من عمل إشعياء، ولم يجاره فى الكنيسة المسيحية سوى كاتب ألمانى اسمه كوبى (Koppe) الذى زعم أن هذا الأصحاحات كتبت على الأغلب بعد السبى البابلى، وتمشى فى إثره بعد ذلك، من تمشى من النقاد، وحجتهم فى الغالب أن الإصحاحات الأخيره المشار إليها، كتبت كما لو كان السبى البابلى حقيقة قد وقعت، وأن إشعياء (الثانى كما يزعمون) لم يكن قد ولد عندما جاء كورش، وأن قرابة مائة وخمسين عاماً أو تزيد، كانت لابد أن تمر قبل أن يأتى ذلك الملك العظيم المشار إليه فى إشعياء!! وأن الأسلوب فى الجزئين من السفر شديد التغير، مما يحتمل معه أن شخصاً مجهولا يمكن أن يطلق عليه إشعياء الثانى كتب الأجز اء الأخيرة من السفر بعد السبى، وضمت إلى إشعياء!!. وقد بلغ التصور عند نقاد آخرين إلى أن سبعة من الكتاب اشتركوا فى كتابة هذا السفر، وليس مجرد إشعياء ثان فقط!!... على أن أعظم علماء الكتاب قد قاوموا هذا التصور مقاومة حادة ونادوا بوحدة السفر ونذكر منهم فى ألمانيا... جاهن، وهستنبرج، وكلينرت، وهافرنك، وستاير، وكايل، وديلتش، ورينو شمعان،... وفى إنجلترا، هندرسون، وهاكستبيل، وكاى، ويورك، ودين باين سميث، وبروفسور بركس، وبروفسور ستانلى ليسز... وقد بنى هؤلاء وغيرهم، وحدة السفر على أسس خارجية، وأخرى داخلية،... أما الخارجية فتظهر من أن الترجمة السبعينية وهى الترجمة المعروفة من سنة 250 ق.م. تنسب الكتاب كله لإشعياء بن آموص، وابن سيراخ الذى عاش حوالى سنة 180 ق.م لا يتردد فى نسبة الأجزاء الأخيرة إلى إشعياء،... كما أن مخطوطات وادى قمران، وهى أحدث مخطوطات اكتشفت عام 1947 ق.م. بقرب البحر الميت ويرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الأول والثانى قبل الميلاد يظهر فيها سفر إشعياء كاملا منسوباً إلى إشعياء بن اموص!! كما أن اقتباسات العهد الجديد والسيد المسيح والرسول بولس، تظهر دائماً منسوبة إلي إشعياء، فقد جاء فى الأصحاح الثالث من إنجيل متى: « فإن هذا هو الذى قيل عنه بإشعياء النبى القائل صوت صارخ فى البرية »... " مت 3: 3 " وفى إنجيل لوقا الأصحاح الرابع قيل عن السيد المسيح: فدفع إليه سفر إشعياء النبى، ولما فتح السفر وجد الموضع الذى كان مكتوباً فيه روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين.. الخ " لو 4: 17 و18 " وفى إنجيل يوحنا فى الأصحاح الثانى عشر: « ليتم قول إشعياء النبى الذى قاله يارب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب » " يو 12: 38 "وقول بولس فى الأصحاح العاشر من رسالة رومية: « لأن إشعياء يقول يارب من صدق خبرنا... ثم إشعياء يتجاسر ويقول وجدت من الذين لم يطلبونى.. إلخ » " رو 10: 16 و20 " أما عن تنوع الأسلوب، من الواجهة الداخلية، فما لا شك فيه، أن شاعرية أو عبقرية إشعياء، إذا جاز هذا التعبير، وتمكنها من ناصية المنطق والبلاغة، يمكنها أن تسمو وتبسط، دون أن يكون هناك مساس بالكاتب الواحد، ومن ثم فنحن نرى رغم هذا التنوع، الفكر الواحد المطبوع، فاللّه السيد الذى رآه: « جالسا على كرسى عال ومرتفع وأزياله تملأ الهيكل " إش 6: 1 ".. هو نفسه: « العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه » " إش 57: 15 ".. والشعب الذى وصف بالتمرد والعصيان: « ربيت بنين ونشأتهم وأما هم فعصوا علىّ» " إش 1: 2 ".. « فإنك رفضت شعبك بيت يعقوب لأنهم امتلأوا من المشرق » " إش 2: 6 ".. « ذكرنى فنتحاكم معا، حدث لكى تتبرر، أبوك الأول أخطأ وسطاؤك عصوا علىّ » " إش 43: 26، 27 " كما أن اتساع النظرة وإعطاء الفرصة للأمم، قد جاءت فى أول السفر وآخره، ويكفى أن نشير هنا: « فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدى والعجل والشبل والمسمن معاً وصبى صغير يسوقها. والبقرة والدابة ترعيان. تربض أولادهما معاً والأسد كالبقر يأكل تبناً ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان. لا يسوؤون ولا يفسدون فى كل جبل قدسى لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطى المياه البحر» " إش 11: 6 - 9 ".. « الذئب والحمل يرعيان معاً والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يهلكون فى كل جبل قدسى قال الرب » " إش 65: 25 "فإذا قيل آخر الأمر كيف يمكن أن يكون الحديث عن السبى البابلى كأمر واقع، وإن يذكر اسم كورش الفارسى الذى لم يأت بعد،.. كان الرد ميسوراً: أن نبوات إشعياء ترى النهاية منذ البداءة « لأنه معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله » " أع 15: 18 ".. وقد تحدثنا عندما تعرضنا لشخصية يربعام كيف أن النبى تنبأ عن يوشيا الملك الذى سيأتى ويذبح كهنة المرتفعات ويحرق عظامهم، قبل ولادته بزمن طويل... وقد امتدت النبوة إلى هضبة الجلجثة لتصفها بدقة، كما لو كان الواصف ينظر إلى الصليب بمرأى عينيه، وقد سار الرجل بنا إلى آخر الأيام، لنرى الصورة اللامعة للأرض بعد أن تتحرر من الخطية والدنس!! والحقيقة أن السهم القاتل لنظرية إشعياء الثانى يكمن فى أن الآخذين بها، حاولوا حل الصعوبة، بصعوبة أفدح وأقسى إذ كيف يمكن التصور منطقياِ، أن هذه الأصحاحات الأخيرة من سفر إشعياء بما فيها من أروع النبوات أو التعاليم، تصدر عن نبى مجهول، جاء بعد السبى، ولا يعرف الناس عنه شيئاً، ويعلن هذه الروائع، ويكتبها، ويغيب فى التاريخ من غير علم أو دراية من أحد!!.. إن الفهم الكتابى الصحيح، واجماع التقليد فى المجمع اليهودى والكنيسة المسيحية يؤكدان أن إشعياء بن آموص هو الكاتب الوحيد لسفره الشامخ العظيم بين أسفار الكتاب االمقدس، دون أدنى شبهة أو تردد!! إشعياء ورؤياه وكانت هذه الرؤيا نقطة التحول فى تاريخ الرجل، أو بتعبير أدق، هى دعوة اللّه العليا التى بها ناداه إلى الخدمة العظيمة،... ومن العجيب أن أعظم الرجال على الأرض، هم الذين تغيرت حياتهم، وغيروا حياة الناس، لأن رؤيا اللّه حولت تاريخهم بأكمله،.. ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم، فقام برحلته الخالدة،... وظهر لموسى فى العليقة، فقام برسالته العظيمة،... وظهر لجدعون، فحوله من الخائف من ظله إلى بطل من أبطال الأجيال،... ومن المثير أن الجنرال فوشى الذى كسب الحرب العالمية الأولى يقول إنه فى 26 مارس عام 1918 ظهر له اللّه فى رؤيا وأعطاه يقيين النصر!! ولم يكن هذا الجنرل خرافيا، ولكنه آمن باللّه ورؤيته وانتصر!!... وها نحن الآن نتابع رؤيا إشعياء من جوانبها المختلفة: الرؤيا والسيد قال إشعياء فى مطلع الأصحاح السادس: « فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، فإذا قارنا هذا بما جاء فى إنجيل يوحنا الأصحاح الثانى عشر والعدد الحادى والأربعين: « قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه »... أدركنا أن السيد المسيح هو الذى ظهر لإشعياء فى مجده وجلاله وعظمته فى هيكل اللّه فى أورشليم،... وقد حدثنا إشعياء عن وقت الرؤيا، غداة وفاة الملك عزيا، ولعل إشعياء كان ذهنه مشغولاً وممتلئاً بعزيا الملك، وكان عزيا من أعظم الملوك الذين ظهروا فى حياة إسرائيل،... ولكنه فعل فى أخريات حياته شيئاً تعساً محزناً، إذ حاول أن يكول ملكاً وكاهنا معاً، فطرده اللّه لكبرياء قلبه، بعد أن أصيب بالبرص، وبقى فى بيت برصه إلى يوم وفاته،... إنه على أية حال كان يمثل الإنسان البشرى العظيم، ونقطة النقص والضعف اللاحقة بعظمته.. لكن إشعياء تحول من الملك الناقص، إلى الملك القدوس، رب الجنود، الذي له وحده عرش الجلال والكمال،... تحول من المشهد الأرضى إلى اللّه الذى السماء ليست بطاهرة أمام عينيه، وإلى ملائكته ينسب حماقة!!... والمسيح دائماً هو مثال الكمال، عندما ما نفجع فى برص الناس ونقصهم وضعفهم وخيانتهم وقصورهم،... على أن الرؤيا تكشف عن جانب آخر، إذ تكشف عن الملك الدائم، عندما يتحول الملك من إنسان إلى آخر، أو عندما نتطلع فلا نجد أحداً يملأ المكان، ويستولى علينا اليأس والقنوط،... مات عزيا الملك وبقى الملك السرمدى الأبدى الحى الذى لا يموت، وهى الرؤيا التى نحتاج إليها فى أتعس الأوقات وأحلك الليالى، عندما صرخ دوجلاس زعيم العبيد فى الولايات المتحدة، وهو يعدد الظروف التعسة القاتلة التى تواجه العبيد البائسين هناك وهو يقول: كل شئ ضدنا!!.. الظروف ضدنا!!.. الناس ضدنا!!.. صاحت فيه امرأة زنجية: ولكن يا دوجلاس اللّه حى ولم يمت!!.. فثاب الرجل إلى رشده، وأدرك أن العروش على الأرض تهوى، ولكن اللّه يسود فى عرشه ويملك ويحكم!!.. هل نستطيع أن نرى اللّه مستقراً وجالساً على كرسى عال ومرتفع مهما أحاط بنا الظلام والفزع والضيق والحزن والأضطراب؟؟. الرؤيا والملائكة لم يكن إشعياء محتاجاً أن يرى اللّه فحسب، بل كان عليه أن يرى كيف يخدم السرافيم اللّه والكلمة « سرافيم » من أصل عبرى معناه « الملتهبين » « الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة » " مز 104: 4 " وكان لكل واحد ستة أجنحة، فهناك جناحان للطيران، وبهما يطير ملتهباً فى غيرته لخدمة اللّه!!... والخدمة المسيحية، لابد أن تكون هكذا،... كان واحد من خدام اللّه الصينيين، وكان غيوراً للمسيح، فى الولايات المتحدة، ينتقل فى القطارات وهو يوزع النبذ المسيحية، وذات مرة رأى أمامه سيدة تبدو غنية وأنيقة، وقدم لها نبذة عن الخلاص،... وإذا سألته عما فيها قال: إنها قصة جميلة أرجو أن تقرأيها، فصاحت في ووجهه: لا أريد، وألقتها فى وجهه،.. وقد راعه أكثر أن الكمسارى قال له: إن هذا ممنوع وتألم الرجل، وهو يسأل نفسه كيف يمكن أن يمنع هذا فى بلد خرج منه المرسلون إلى العالم لينادوا ببشرى الخلاص؟... ولكن واحداً من الجالسين تقدم إليه وهز يده قائلا: إنك هززت قلبى من الأعماق، إذ أرى أحدهم يشتغل بعمل سيده!!... كان هذا الخادم يأخذ أجنحة السرافيم وهو يقف فى الطريق يصلى ويرنم بالأغانى المسيحية، وقد هز نفوساً كثيرة بحياته الملتهبة فى خدمة سيده!!... على أن السرافيم يعطوننا صورة أخرى، صورة الإتضاع فى حضرة اللّه، إذ يغطى كل واحد منهم وجهه بجناحين، لأنه لا يجسر أن ينظر إلى وجهه اللّه!!... وفى الحقيقة إن الاتضاع من أهم صفات الخادم المسيحى، وما ير هذا الخادم نفسه على وضعها الحقيقى فى حضرة اللّه، كما كان يرى داود نفسه كبرغوث أو كلب ميت أو لا شئ على الإطلاق،... فإنه لا يستطيع أن يقوم بالخدمة أبداً!!.. تقابل أحد خدام اللّه مع عضو ثرثار، وكان هذا العضو يتحدث كثيراً، ويكرر الكلام، والراعى مستعجل يريد الذهاب إلى مكان ما، وأخيراً قال له: أنا مشغول وينبغى أن أذهب بسرعة!!... ألا تعرف من أنا!!؟... وقال العضو: نعم أعرف، فانت الواعظ!!... ولكن هذه الكلمة رنت فى أذن خادم اللّه وقال: هل ينظر الناس إلى أنا، وهل أوجه الالتفات إلى نفسى أم إلى المسيح!!؟… وذهب إلى بيته، وأغلق على نفسه، وظل هناك حتى صلب الإنسان العتيق … وعاد ليعظ: « ينبغى أن ذلك يزيد وأنى أنا أنقص » " يو 3: 03 ز.. كان هناك واعظ ينقلونه من كنيسة إلى كنيسة، لأنه كان جافاً ويترك الجفاف فى كل مكان ذهب إليه!!.. وقال له الشخص المسئول فى المجمع: أنا لا أستطيع أن أعينك فى كنيسة، إنهم يصفونك بالقصبة العجوز الجافة … وبكى الرجل العجوز وقال: أعطنى هذه الفرصة الأخيرة … فعين فى قرية، وفزعت القرية إذ سمعت بخبر تعيينه.. لكنه دخل إلى مخدعه، وصارع مع اللّه، وعندما خرج، خرج إنساناً آخر، حتى كانوا يصفونه بالقول: إن القصبة العجوز اشتعلت فيها النار بعد الاتضاع والبكاء فى حضرة اللّه!! … وكان الجناحان الأخيران يغطيان القدمين، وهو الأمر الثالث فى الخدمة، ونعنى به الاحترام الكلى لعمل اللّه ورسالته، … تعود أحدهم أن يدخل الكنيسة دون أن يرفع قبعته، وإذ سأله الراعى عن السر فى ذلك … قال: لا تؤاخذنى لعدم رفع القبعة، فقال الراعى: لا مؤاخذه. فهذا ليس بيتى!! … إن من أهم مقومات الخدمة المسيحية الإجلال والاحترام الكامل للّه وبيته وخدمته ورسالته!! الرؤيا والنفس بعد أن أبصر إشعياء اللّه، والملائكة، رأى نفسه وحالته فصاح: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين » (إش 6: 5) هذا ما أحس به إشعياء وهو فى بيت اللّه، ونحن فى العادة نرى تصرف الناس فى بيت اللّه يختلف إلى حد كبير عن هذه الرؤيا إذ عندما يحضرون، ما أكثر ما يهنئون الواعظ على العظة البليغة الممتازة الى ألقاها، وينصرفون إلى الراعى دون أن يروا أنفسهم!!... وقال أحدهم: إن الكثيرين يذهبون بعد ذلك إلى بيوتهم يههنئون أنفسهم بالبركة والتعزية التى حصلوا عليها، ثم يأكلون طعامهم ويشربون شرابهم، ويمكن أن يقال لهم: لقد أكلتم، واحتسيتم وامتلأتم من القهوة أو الشاى، لأنكم لم تروا أنفسكم وخطاياكم لكى يصيح الواحد منكم: ويل لى إنى هلكت » جاء فى قصة قديمة أن شاباً غنياً استجاب لرسالة المسيح، وعمده الرسول يوحنا، وعندما علم أبوه بذلك خيره أن يختار فى أربع وعشرين ساعة بين دينه القديم وثروة أبيه، أو المسيح يسوع!!... وقال الشاب: إنى أختار المسيح، وخرج من بيت أبيه وعاش فى أوساط المسيحيين الفقراء مدة عامين،... وفى يوم عيد الميلاد كان يتجول فى غابة، وكانت نفسه فى أقسى حالات التجربة، وتصادف أن تقابل مع كاهن وثنى، وسأله الكاهن: لماذا يتجول بعيداً عن أصحابه وهداياهم!!؟ … ثم ابتدره – على ما تقول القصة – بالسؤال: هل يمكن أن يعطيه – أى للكاهن - اسم المسيح، وفى مقابل ذلك سيعطيه الكاهن ما يشتهى من ثروة وجاه ونفوذ؟!!... وقبل الشاب المبادلة، وسار فى إتجاه بيته القديم، ليجد أباه فى ضجعة الموت، وقال له الأب: إنى آسف يابنى لأنى عاملتك هذه المعاملة القاسية... هل لك أن تعلمنى عن السر المسيحى؟ وارتبك الشاب وهو يقول: « انتظر يا أبى قليلا... حتِى أشرح لك السر!!. وقال له الأب: لا أستطيع الانتظار، ومات بين يديه!!... وصرخ الشاب وهو يدرك أن سر تلعثمه راجع إلى أنه خضع للتجربة، فبكى وهو يقول « ويل لى إنى هلكت » وانحنى أمام اللّه تائباً!!... لقد عرت الرؤيا الإلهية إشعياء وشعبه، فرأي البرص يملأه ويملأ الأمة بأكملها!!... عندما رأى بطرس جلال المسيح صاح: « أخرج من سفينتى يارب لأنى رجل خاطئ» "لو 5: 8 " نرى هل رأيت هذه الصورة أيها القارئ وأنت فى حضرة اللّه؟!!. الرؤيا والتطهير ما أن اعترف إشعياء بخطيته حتى أدرك فى الحال ما قاله الرب على لسانه: « هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج إن كانت حمراء كالدودى تصير كالصوف » (إش 1: 18).. ولم يحتج إلى وقت حتى يظهر، إذ طار واحد من السرافيم، وقد أخذ جمرة من على المذبح ومس بها شفتيه، والسؤال: لماذا هى جمرة، ولماذا أخذت من على المذبح!!؟ إنها جمرة لأنها تشير إلى عمل الروح القدس النارى... ومن على المذبح لأنها تشير إلى عمل المسيح الكفارى... واللّه ينتزع خطايا إشعياء وخطاياى وخطاياك بفداء المسيح، وتأثير الروح القدس،... ولعلنا نلاحظ هنا أن السيد لم يوبخ إشعياء على خطاياه، أو ينظر إليه بغضب، أو يذله بها، بل سارع فى الحال إلى تطهيره عندما اعترف بها.جاء فى قصة أن أحد المؤمنين القديسين بعد أن تتجدد عرض للكثير من الضعفات والتجارب التى أسقطته، وحلم ذات يوم أنه ذهب إلى السماء، وإذ رأى المسيح أحنى رأسه خجلا، وقال: يا سيدى إن خطاياى كثيرة... وأنا حزين عليها!!... ولشدة دهشته سمع السيد يقول: « إنى لا أذكر البتة خطية لك، لقد محوتها جميعاً!!.. الرؤيا والرسالة «من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟ ».. " إش 6: 8 " ونحن نلاحظ هنا أن اللّه لم يوجه الدعوة مباشرة إلى إشعياء أو يأمره بها، لقد أعطاه مطلق الحرية للاختيار أو الرفض، … وهو القائل دائما: إن أراد أحد أن يأتى ورائى!!.. " مت 16: 24 “ ومن العجيب أن الدولة لا تترك لأحد أبنائها الحرية ليقبل الواجب أو يرفضه، فالمواطن لا يدفع الضريبة بالاختيار، والجندى لا يذهب إلى الجندية بملء إرادته، لكن اللّه لا يرغم أحداً على الرسالة التى يلزم أن يؤديها!!.. إنه يطلق النداء العام، وعليك أن تقبل أو ترفض،.. وقد أجاب إشعياء على الرسالة بالإيجاب وهو يقول: « ها أنذا أرسلنى » … " إش 6: 8 "… ومع أن الرسالة كانت من أصعب الرسائل وأقساها، إذ تحدث عن خراب بلاده لأنها لا تطيع اللّه، والنفس التى لا تطيع، معرضة للضياع على الدوام!!،كان على الرجل الذى ترك حياة القصور أن يدفع الضريبة، فى سبيل الخدمة، … وقد فعل على أعظم وجه يمكن أن يفعله نبى أو رسول أو خادم للّه فى الأض!!.. إشعياء والفكر اللاهوتى فى سفره سفر إشعياء غنى بالأفكار اللاهوتية، ومع أنه ليس من السهل حصرها فى صفحات، إلا أنه يهمنا أن نركز النظر على أهم صورها!!.. ويمكن أن نراها بوضوح فى: سيادة اللّه ومن الواضح أن إشعياء علم بوضوح وحدانية اللّه فهو، يذكر: « أنا الرب وليس آخر، لا إله سواى... أليس أنا الرب ولا إله آخر غيرى. إله بار ومخلص. ليس سواى » " إش 45: 5، 21 ".. هذا الإله المهيب العظيم المرتفع، الذى يعلو على كل متعظم وعال: « أدخل إلى الصخرة واختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته، توضع عينا تشامخ الإنسان وتخفض رفعة الناس ويسمو الرب وحده فى ذلك اليوم. فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعال، وعلى كل مرتفع فيوضع » " إش 2: 10 - 12 "... وستسقط أمام عظمة اللّه كل الآلهة التى هى من صنع الناس: « وامتلأت أرضهم أوثاناً، يسجدون لعمل أيديهم، لما صنعته أصابعهم... وتزول الأوثان بتمامها... فى ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية التى عملوها له للسجود للجرذان والخفافيش ليدخل فى نقر الصخور، وفى شقوق المعاقل من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض » " إش 2: 8، 18، 20، 21 " « الذين يصورون صنما كلهم باطل ومشتهياتهم لا تنقطع وشهودهم هى. لا تبصر ولا تعرف حتى تخزى.. من صور إلهاً وسبك صنما لغير نفع » (إش 44: 9، 10).. وأمام سيادة اللّه وعظمته، ما هو الإنسان، مهما علا شأنه وامتدت قوته؟ أنه كما صوره إشعياء: « كفوا عن الإنسان الذى فى أنفه نسمة لأنه ماذا يحسب » " إش 2: 22 ".. « الجالس على كرة الأرض وسكانها الجندب الذى ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن. الذى يجعل الغطاء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل … فبمن تشبهوننى فأساويه يقول القدوس؟ ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه. من الذى يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء لكثرة القوة، وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد. لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل قد اختفت طريقى عن الرب وفات حقى إلهى. أما عرفت أم لم تسمع؟ إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا ويعيا. ليس عن فهمه فحص. يعطى المعيى قدرة ولعديم القوة يكثر شدة الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثرون تعثراً وأما منتظرو الرب فيجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون " إش 40: 22، 23، 25 - 31 ". قداسة اللّه وقد سمع إشعياء فى الهيكل هتاف السرافيم: « قدوس قدوس قدوس »، والتعبير فى مفهومه العبرى تعبير عن القداسة الكلية المرتفعة المتعالية، وهى عندنا - كمؤمنين بالثالوث - هى الصفة الإلهية للاب والابن والروح القدس وهى ليست مجرد الانفراد والعزلة عن الخطية، أو الكمال الأدبى المطلق، بل هى - أكثر من ذلك - السمو المرتفع الذى ينفرد به اللّه وحده!!.. وهذه القداسة هى التى لا يمكن أن تتقابل مع الخطية أو تتهاون معها،.. والخطية هى القذارة والاتساخ والبرص، ولهذا صرخ إشعياء فى التو والحال: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشقتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6: 5 "... والخطية هى العصيان: « ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا على ّ » " إش 1: 2 " وهى المرض: « من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية. لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت ».. " إش 1: 6 " وإشعياء يؤكد أن عقابها رهيب، وأن يوم اللّه لابد أن يقضى على الخطية والخطاة. الإيمان باللّه والإيمان، عند إشعياء، يرتبط بالسكينة والهدوء، والاطمئنان والأمن: « إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا » " إش 7: 9 " « من آمن لا يهرب » " إش 28: 16 " « لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم » " إش 03: 51 ".. وهو الذى يعطى الإنسان السلام العميق فى وسط زوابع الحياة وعواصفها!!.. خلاص اللّه وقد رأى إشعياء عمانوئيل، والابن العجيب، الإله السرمدى، يتدخل بالخلاص فى حياة الأمة، ويكفى أن نركز أبصارنا آخر الأمر على الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء،.. وقد صاح جيروم عندما بدأ فى ترجمته من العبرانية إلى اللاتينية وهو يقول: « بالتأكيد إن هذا الأصحاح من مبشر فى العهد الجديد أكثر منه من نبى فى العهد القديم!!.. وقال ديلتش العالم الألمانى العظيم فى اللغة العبرانية والمفسر المشهور فى القرن التاسع عشر: « إن الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء، يبدو كما لو أن كاتبه كتبه وهو تحت الصليب فى الجلجثة... إن هذا الأصحاح هو الأصحاح المركزى، إنه أعمق وأسمى أصحاح، فى العهد القديم »، وقد حاول البعض أن يعتبره موجهاً إلى إسرائيل ورمزاً له، لكن هؤلاء لم يستطيعوا أن يفسروا كيف ينطبق هذا على إسرائيل فى الأوضاع المختلفة، وهو يشير إلى فرد بوضوح لا يقبل شكاً، بل إن هذا الأصحاح يتحدث عن شخص سيكون ضحية لأجل آخرين وإسرائيل لم يكن فى يوم من الأيام هذه الضحية،.. إن هذا الأصحاح هو حديث عن المسيح لا سواه!!.. ولعله من الملاحظ أن الجزء الأخير من الأصحاح الثانى والخمسين، وهو مرتبط تماماً بالأصحاح الثالث والخمسين، قد تحدث عن مجد المسيح، قبل أن يتحدث عن اتضاعه، وهو يرينا الحقيقة المؤكدة قى قصد اللّه الأزلى، أن الصليب سينتهى إلى المجد، وهذا المجد ليس أكيداً فحسب، بل هو عظيم ورائع أيضاً!!.. فإن نصرته ستكون حاسمة، وستسكت الملوك والأمراء والأمم والأجيال!! ومن المؤسف أن إسرائيل كثيراً ما رفض أن يصدق ما أعلنه الرب، وأظهر به ذاته وذراعه،... وقد نبتت آلام عبد الرب أو المسيح من مولده فهو العود الرطب الذى نبتت فى الأرض اليابسة، وجاء من أم فقيرة قروية، ولم يكن له أين يسند رأسه، ومع أنه أبرع جمالا من بنى البشر، إلا أن الحياة القاسية التى وجد فيها، لم تجعل الناس يتطلعون إليه ليبصروا جماله أو يشتهوا منظره... إن مأساة البشر أنهم ينظرون إلى الجمال عندما تحف به المظاهر الخداعة، والأوضاع الشكلية،.. وعندما جاء المسيح إلى أرضنا خلواً من هذه المظاهر احتقره الناس، ولم يحتقروه فحسب، بل خذلوه أيضاً، أو فى لغة أخرى، إن الاحتقار لم يكن سلبياً ساكناً فحسب، بل أكثر من ذلك كان متحركاً موجعاً، قد يحتقر إنسان آخر دون أن يتعامل معه، ويظل احتقاره تعبيراً دفيناً فى القلب، ولكن المسيح لم يحتقر فحسب، بل خذل من الناس الذين رفضوا مجيئه ونداءه ورجاءه وشركته. وقد تحول هذا إلى وجع عميق فى قلبه. وإلى حزن عميق فى نفسه، فحوله إلى رجل أوجاع ومختبر الحزن. وما يزال المسيح إلى اليوم يعانى من هذا الوضع من الكثيرين فما يزال الكثيرون يحتقرونه، ويخذلون آماله فيهم، ومايزال يبدو أمامنا، وقد رفضه الناس، رجل الأوجاع والخبير بالألم والحزن العميق. ومن الملاحظ أن النبى كشف عن الألم النيابى للمسيح، إذ أن الذين رأوا الألم فى ظاهره ظنوه ألماً أصيلا أو عقاباً: « ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من اللّه مذلولاً ».. " إش 53: 4 ".. لكن الأمر لم يكن كذلك، بل كان الألم النيابى الذى يحمله إنسان لأجل آخرين، وقد حمل المسيح أحزان الناس وأوجاعهم، إذ رفعها عن كاهلهم، لقد جال هو فى أرض فلسطين، ورأى المرضى والمتألمين والحزانى، فرفع عنهم أحزانهم وأوجاعهم ومراضهم وفى سبيل ذلك تعب هو وتوجع وأن... على أنه فى المعنى الأعمق، حمل عنا أوجاع الخطية وشرها وإثمها على الصليب، ولم تكن الآلام النيابية آلاماً هينة، بل كانت فى منتهى القسوة والعنف، فهو لم يجرح من أجل معاصينا فحسب، بل سحق أيضا بالحزن والعار الذى كسر قلبه...، ولم يؤدب، بل ضرب بالسياط، وقد كان هذا من أجلنا نحن العصاة الأثمة المتمردين، ولم يكن هناك من سبيل إلى الخلاص من عصياننا وشرنا وتمردنا والعودة إلى السلام والصحة، إلا بآلامه من أجلنا، فهذه آلام كفارية تكفر عنا أمام اللّه، وفى الوقت نفسه مطهرة تشفينا، وتعيدنا إلى صوابنا عندما نقف أمام آلامه من أجلنا!!... لقد ضللنا وأثمنا، ولكنه كان هو حمل اللّه الذى يرفع خطية العالم!! على أنه من الواضح أيضاً أن آلام المسيح لم تكن قهراً أو رغماً عنه، قد يؤخذ الجندى ليموت من أجل بلده، ولكنه يؤخذ فى كثير من الأحايين قهراً، أما المسيح فقد كان موته اختيارياً تطوعياً. ظلم فقبل الظلم والمذلة، دون أن يحتج أو يشكو، ولقد كان مثلا عجيباً فى تحمل الضغط والدينونة عندما حكم عليه، وهكذا بدا فى موته عظيماً، لأنه تطوع بهذا الموت لأجل الآخرين!!.. ومن العجيب أن تكون هذه الآلام برضى اللّه وسروره، إذ سر بأن يسحقه بالحزن، وقد سر اللّه بهذه الآلام إعلاناً عن محبته للخطاة، وتأكيداً للنصر الذى سيتأتى عنها، وقد كانت هذه مشورة الرب لخلاص البشر!! كان إشعياء - كما أسلفنا - يعنى « خلاص الرب » وقد أدنانا - فى حديثه عن سيادة الرب، وقداسته، والإيمان به - من الخلاص العجيب الذى أعده لنا اللّه كاملا على هضبة الجلجثة، والذى يدعونا إليه بقوله العظيم الكريم: التفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصى الأرض لأنى أنا اللّه وليس آخر »..!!.. " إش 45: 22 ".
المزيد
16 ديسمبر 2020

نساء خسرن أزواجهن!

الزوجة الحكيمة تكون مصدر سعادته لزوجها, كواحة يانعة مملوءة بالزهر والثمر يرجع إليها من صحراء العمل ومشقته غير أن بعض النساء للأسف الشديد لم يعرفن الهدف السليم من الحياة الزوجية, وكيف تكون مجالًا للسعادة المشتركة..! وأخطأن الوسائل فكانت النتيجة أنهن خسرن أزواجهن!! ومن بين هؤلاء ثلاثة أو أربعة أنواع سوف نذكرها:- 1- المرأة الشديدة الغيرة:- ما أشد هول تلك المرأة العنيفة في غيرتها, التي تعتمد في ذلك على حساسية شاذة غير طبيعية. فتغار على زوجها إن كان وسيمًا جدًا وناجحًا بدرجة يحيطه المعجبون والمعجبات. أو إن كان لطيفًا ومرحًا, ينظر إليه الجميع في حب وبشاشة. فتغار هذه الزوجة إن رأته يكلّم امرأة في لطف, أو يبتسم في وجهها, أو أن ابتسمت تلك المرأة أو ضحكت في مرح أثناء الحديث معه حينئذ تحارب الظنون والأفكار هذه الزوجة, فتحطمها من الداخل. وهى تتولى بدورها تحطيم الزوج. فتفرض عليه رقابة وحظرًا, وتوبخه على بشاشته مع امرأة أخرى, وتسئ فيه الظنون.هي تريده عصفورًا جميلًا تحبسه في قفص, لا يراه أحد. يكفى أن تراه هي! ولا يكلّم أحدًا غيرهًا, ولا يبتسم لغيرها, ولا يكون بشوشًا مع أحد!! وهكذا يفقد الزوج كل علاقاته الاجتماعية, لترضى هي عن تصرفاته.. وإلا صار البيت جحيمًا تسوده الشكوك والظنون, والمناقشات كل يوم, والتحقيقات ومحاولة الانتقام أو الشكوى. وقد يكون الرجل بريئًا جدًا. وقد تكون طبيعة عمله من النوع الذي يستلزم لقاءات مع كثيرين وكثيرات ولا ينجح فيه إلا باللياقة والبشاشة. ولكن زوجته تتعبها الغيرة فتتعبه!وقد تأخذ الغيرة عند الزوجة مظهر آخر, فقد تغار من جهة حبه لأمه أو أخته أو بعض أفراد أسرته. أو من إنفاقه على أخ أو قريب. وتظن أنه يحب أهله أكثر منها, أو أنه يخضع لمشورتهم أكثر منها. وتلهبها الغيرة حتى تريد أن تحرمه من كل أحبائه. فلا يحب أحد سواها!!وفى وقت الغيرة لا تفكر فيه ولا راحته. إنما تفكر في ذاتها فقط. وما على الرجل إلا أن يخضع لمشاعرها, ولا تهمها النتائج ولا الإحراجات التي يقع فيها... وإلا فإنها تتهمه بعدم محبته لها وبالخيانة وعدم الإخلاص..!ويحاول الرجل أن يجد حلًا ولا يستطيع. ويشرح الأمور ولا تقبل منه. ويتحرج الجو, ويتهدد البيت بالانهيار. إذ يشعر الزوج أن ثمن إرضائها هو أن يخسر الكل بسبب ظنون لا وجود لها في عالم الحقيقة. ولكنها موجودة في أتون الغيرة!! 2- المرأة المسرفة في التحقيق:- وهى الزوجة الدائمة التحقيق مع زوجها, حتى في صميم خصوصياته! فقد تحقق معه في الأمور المالية: ماذا يدخل إلى جيبه وكيف يصرفه؟ ولمن يعطى؟ ولماذا؟ وهل من اللائق أن يصرف هكذا؟ وأين الحكمة؟ وتحقق معه في تفاصيل مواعيده: لماذا يخرج الآن؟ ولمَ لا يتغير الميعاد؟ وأين يقضى الوقت كله؟ ولماذا يرجع متأخرًا؟ وما أهمية هذا الموعد؟ ولماذا لا يلغيه؟ وماذا ولماذا إلى غير حد..! وتحقق معه في علاقاته: كل علاقاته, مع كل أحد. ما نوعها؟ وما محصولها؟ وماذا حدث؟ وماذا قالوا لك؟ وماذا فعلوا؟ وماذا فعلت؟ ولماذا؟ بل قد تحقق معه في أكله وشربه, وفي ملبسه, وفي كلامه, وفي عمله! ويشعر الزوج أنه قد تزوج "وكيل نيابة" أو "أمن دولة"! ويشعر بأنه مضغوط عليه في حريته. وأنه محتاج أن يهرب من الأسئلة ومن الإجابة. وإن ضيّقت عليه الخناق, يرى أنه محتاج أن يهرب من البيت كله, ومن هذه المرأة البوليسية التي تطارده بتحقيقاتهاأما المرأة التي تحب زوجها, فإنها تتركه ليخبرها بنفسه دون أن تضغط عليه بالسؤال. وما يقوله, تقابله بقلب محب مفتوح. وما لا يريد أن يقوله, تتركه إلى حريته بدون إحراج, وبدون تطفل, وبدون ضغط أو تحقيق. 3- المرأة النكدية:- إن الرجل ينتظر من زوجته أن تستقبله في البيت بوجه بشوش يفرحه, ويدخل السعادة إلى قلبه وينسيه ما يُقاسيه في العمل من تعب وصدامات... أما إن قابلته زوجته بوجه عابس أو بالدموع والبكاء, وملأت البيت حزنًا ونكدًا, فإنها بدلًا من أن تحمل عن زوجها متاعبه, فإنها تضيف إليه تعبًا جديدًا! وللأسف يوجد نوع من النساء يمكن أن يُسمىّ بالمرأة النكدية, التي يمكنها بسهولة أن تحوّل البيت إلى نكد. والتي تغضب لأتفه الأسباب, أو بلا سبب. ويشعر الزوج أن من الصعب إرضاءها! وأنها تخلق مشاكل, وتعقد الأمور, أو تثير نقاشًا حادًا حول أبسط المسائل. وأنها دائمًا غاضبة, دائمًا حزينة وكئيبة, دائمًا ساخطة!! هذه الزوجة لا تبدو في الصورة التي خلق بها الله المرأة, في لطفها ورقتها, وإشاعتها السرور, وفي رسالتها كمُعين للرجل وكثير من الرجال يتبرمون بالمرأة النكدية ولا يحتملونها. أو يحتملونها إلى حين ثم لا يستمرون. وكثيرون منهم يخرجون من البيت, ويبحثون عن السعادة خارجه, في المقهى, أو في النادي, أو بين الأصدقاء والمحبين والمعارف, أو في أي نشاط آخر... بعيدًا عن النكد وهكذا شيئًا فشيئًا تخسر المرأة زوجها, إذ لا يجد سعادته إلى جوارها!! نقول كل هذا, لكي تتعظ أولئك الزوجات اللائي يتصفن بالغيرة الزائدة, وبالرغبة في التحقيق, ودوام النكد, ويبدأن في تغيير ذلك الأسلوب الذي نتيجته أن يخسرن الزوج.. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
15 ديسمبر 2020

التجسـد والصديق الألهـى

يأتى علينا زمن الحب الالهى ... في زمن الميلاد نرى الله يقترب الينا متجسدا حتى يدعونا له أصدقاء وأحباء وأبناء " والذين قبلوه اعطاهم سلطانا ان يصيروا اولاد الله اى المؤمنين باسمه الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئه رجل بل من الله ولدوا " يو 1 : 13 . لقد انفتح لنا باب الصداقة الالهية على مصراعيه واصبح الله قريبا منا ودعانا احباء " انتم احبائى ان فعلتم ما اوصيتكم به . لا اعود ان اسميكم عبيدا لان العبد لا يعرف ما يعمل سيده لكن سميتكم احباء لانى اعلمتكم بكل ما سمعته من أبى " يو 15 : 14 – 15 . ان الله الاب فى المسيح يسوع يريد ان يجمع الكل من كل الامم والقبائل والالسنة والشعوب كابناء له ويجعل من كل واحد وواحدة منا موضع مسرته ومحبته . وهكذا راينا فى كل جيل رجالا ونساء نموا فى معرفة الله ومحبته لتكون لهم عشره وصداقة واتحاد بالله . واصبح كل واحد منهم يحس بالحضور الالهى والحديث المتبادل حتى فى العمل اليومى البسيط فيكون الله العامل معنا والمشارك لنا والمبارك لتحركاتنا وقائد مسيرتنا ليس فى الاعمال العظيمة الكبيرة وبل وفى ابسط واصغر الامور . لقد عاش ابونا ادم قديما فى جنه عدن ومعه امنا حواء فى عشرة وصداقة مع الله ، ومع بعضهم البعض فى محبه وتفاهم وكان الله يتحدث معهما ويدعوهما لتسمية الاشياء باسمائها . ودعاهما ان يتسلطا على طيور السماء وحيوانات الارض وان ينموا ويكثروا . ومع غواية الحية جاء السقوط والخوف والاختباء من الله والقاء اللوم على الاخر وبهتت الصداقة الالهية . فالخطية تمثل فاصل بيننا وبين الله المحب . ومع هذا وجدنا فى العهد القديم امثله طيبة للصداقة الالهية والمحبة المتبادلة بين الله والبشر . فاخنوخ المنادى للبر سار فى صداقة وعشرة مع الله ولم يوجد لان الله نقله . وابراهيم ابو الاباء صار صديقا لله عندما دعاه ان يخرج من ارضه وعشيرته وبيت ابيه فخرج وهو لا يعلم الى اين يذهب وقال له الله " انا هو الله القدير سر امامى وكن كاملا " وكان الله لا يخفى عليه امر ما ويقول هل اخفى عن ابراهيم ما انا فاعله ؟ فكان يتناقش معه كما يحدث الرجل صاحبه . وموسى النبى كان يكلم الله كما يكلم الرجل صاحبه ايضا ولهذا اخذ من الله حكمة وحلم واستطاع ان يقود الشعب فى البرية القفره . وهكذا تمضى السنين ويرسل الله الانبياء ليرشدوا البشرية ويدعوهم الى الرجوع اليه ويعاتب الله البشريه على عدم طاعتها . " ربيت بنين ونشاتهم اما هم فعلى قد عصوا " بل ومن تحنن احشائه على شعبه يعتبر بعدهم عنه كابتعاد الزوجه عن زوجها وخيانتها له . حديث المحبه ... ان الله ليس عنا ببعيد بل به نحيا ونتحرك ونوجد وهو بالايمان يحل فى قلوبنا ويصيرها مسكنا له ولانه محبة فانه لا يسكن الا فى القلب المحب ويريدنا ان نتحدث معه حديث الحب نكشف له عن مكنونات نفوسنا ، نشكره على ما نقدمه له من خير ، نشكوا له همومنا واحزاننا وشكوكنا . نقدم له طلباتنا ونشبع به جوع قلوبنا ، نسمع كلامه ونحفظ وصاياه . ان الذى لا يدعنا نحس بهذه الصداقة والحب هى قساوة القلب وبعده عن الله او هروبنا من وجهه واتباعنا لشهواتنا وخداع ابليس . قد تكون هموم ومشاغل العالم وملذاته سبب فى عدم أحساسنا بمحبة الله الذى لازال ينتظر بل ويطلب صداقتنا له ويفرح بحبنا له كفرح العريس بالعروس ويناجى انفسنا قائلا ها انا واقف على الباب واقرع . ان سمع احد صوتى ادخل اليه واتعشى معه وهو معى . هكذا يدعوك ويدعونى الله لمحبته وصداقته فهل نلبى الدعوة. الطاعة وحفظ الوصية ... ان الله يريد منا الطاعة كابناء بل ان التمرد عليه وعصياننا هو جحود لمحبته " الذى عنده وصاياى ويحفظها فهو الذى يحبنى والذى يحبنى يحبه ابى وانا احبه واظهر له ذاتى " يو 14 : 21 . ونحن لا نحب باللسان والكلام بل بالعمل والحق . انت مدعوا اذن لطاعة الله وحفظ وصاياه والعمل بها ومدعو ان تنكر ذاتك وتحمل صليبه كل يوم وتتبعه . انسى اذن ما وراء وامتد الى ما هو قدام طالبا منه ان يجذبك بربط المحبة وقل له ياصديقى الالهى اريد ان احس بحضورك ويا اله المحبه اريد ان احبك اكثر . اطلب منه ليعلن لك ارادته وانتظر الرب وليتشدد قلبك . وعندما تداهمك الشكوك او تحاربك الافكار وشهوات العالم وهمومه اصرخ اليه قائلا يارب اما يهمك اننا نهلك عندما تلاطم الامواج سفينه حياتك وتكاد تغرقها اطلبه فياتى ويسكت الريح ويهدئ العاصفة ويمنحك سلاما ونجاه . السير مع اللة... انت لست وحيدا فى هذه الحياه حتى لو تخلى عنك الاصدقاء فلك المسيح قائدا وهو يبحث عن الخروف الضال ليحمله على منكبيه ويدعو الاصدقاء ليفرحوا معه برجوع الضالين . ان الله يسير معك فى رحله الحياه ويحملك وقت التعب ويرويك وقت العطش الروحى والعاطفى والنفسى ، هو يفرح بنا اذ نتخذه صديق محب ويفرح بقيادتة لنا فهو الراعى الصالح . اجعل الله سيدا لحياتك وصديقا فى رحلة عمرك وان لم تكن لك الخبرة الروحية الكافيه تعلم من سير الاباء القديسين الذين ساروا معه قبلك وكيف كانت كلمة الله حياتهم والصلاه وسيلتهم واسم الرب برج حصين لهم والروح القدس مرشدا ومعزيا فى مسيرة الحياه " فمن يتقى الرب يحصل على صداقة صالحة لان صديقه يكون نظيره " سير 6 : 17 . قدم لنا الانجيل الرب يسوع المسيح صديقا للبشرية يخرج من سمائه ويقترب اليها ويقدم لها ذاته على مذبح الحب فوق الصليب . لا لفضل فينا ولا لاستحقاق بنا بل بمقتضى نعمته ومحبته . ان هذه الصداقة لا تطلب منك شئ الا ان تطلبها وان تسأله يوما فيوم ماذا تريد يارب ان افعل؟ وهو يقودك ويكون فردوسا لنفسك وصديقا شخصيا لك وفرح لنفسك الباحثة عن الحب والحياه والفرح . الهى كن صديقى ... الهى وحبيبى ابحث عنك وانت فى ياصديق نفسى اين انت ؟ ولماذا تختفي في أزمنة الضيق نعم ياصديقى كنت تراقب جهادى . وتعلمنى كيف أجاهد وأنمو، وكنت القوة والسند والمعزي تحملنا وقت الشده والضيق . وانا لم تعد تستهوينى الاشياء ، ولا احب فى العالم سواك . كن صديقى واظهر لى ذاتك لاحدثك حديث الحب واتعلم منك كيف اسير واثق فى قيادتك طول الطريق واجعلك صديق نفسى الدائم ولا يستطيع احد ان يخطفنى من يدك او يجعلنى احول عينى عنك فانت ابرع جمالا من بنى البشر ، ومعك ينمو حبى وينتشر . القمص أفرايم الاورشليمي
المزيد
14 ديسمبر 2020

لا تخف يا زكريا

" فقال له الملاك لا تخف يا زكريا. طلبتك سمعت. إمرأتك تلد. ويكون لك فرح وإبتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته" (لو 1: 13). 1 - " لا تخف أيها القطيع الصغير" (لو 12: 32). أنت من الشموع القليله المُضيئه التي تتعرف علي كلمه الله العزيزه في جيل سادته الرذيله. لا تخف لقد أشتاق الله أن يبدأ طريق الملكوت وإبنك هو الذي ينادي به وهو الذي أراد أن يمتعك بالأحضان الأبويه ويعطيك سؤل قلبك وإشتياقك. " لا تخف. لأنه ليس بلحم ودم الأعلان" (أف 6: 12) بل بواسطة ملاك مفرح القلوب لأنه يكون لك فرح وإبتهاج. وأنك ستحمل سر فرح وإبتهاج لكثيرين. " لا تخف أنا عارف بإنك ستمكث في الهيكل إلي " إنتهاء مده خدمتك" (لو1: 23) لهذا جئت بأمر " أنت تكون صامتًا" (لو 1: 20) لكي تهدأ وتفكر جيدًا في هذا الفرح وسيرقص قلبك وينبض إبتهاج وعندما تفتح شفتيك ستعلن نبؤه وإعلان وتسبيح فيجب أن تصمت الأن.. " لا تخف لقد أمر الرب أن تنفتح عينيك علي من حولك أي لم تنظر أن ملائكة يخدمونك ويصعدون صلواتك وأنَّات قلبك. أراد أن يعلن برك ويعمل بك ولن يندم". لا تخف يا زكريا: أنا عارف إسمك وأنك ستضطرب مني بسبب عطايا الله الفائقه المفاجئه لك ولكن هذه البشاره تبث فيك سلام وفرح. 2 - فلا تخف يا زكريا أنت الأن رمزًا: بما أنك قدمت المحرقه علي المذبح ثم دخلت لتقدم بخورًا رمزًا للصلاه والشفاعه وهذا ما فعله المسيح بعد أن قدم ذاته محرقه علي الصليب. " دخل بدم نفسه مره واحده إلي الأقداس" (كشفيع عن البشر) " فوجد فداءً أبديًا" (عب 9: 12) لكل من يفعل مثله.فيجب علينا أن: نقدم ذاتنا وعباداتنا كذبيحه محرقه ثم نتقدم للكنيسه ونرفع بخور عشيه وباكر ونشفع عن إخواتنا ونطلب السلام لهم ثم نتقدم إلي الجسد والدم ونأخذ فداءً لنفوسنا وخلاصًا لأرواحنا إلي أن يكمل هذا في السماء. فلا تخف يا زكريا: طول ما أنت واقف علي المذبح ستنال الفرح. ستفرح الملائكة: عندما يتوب كثيرون علي يد النبي يوحنا المنادي بالتوبه والمغفرة. سيفرح كثيرون: لأنهم ذاقوا فرحه التوبه والخلاص وبشاره الملكوت. سيفرح الرب: لأنه أكمل وعده وفرح أبنائه ويكمل فرحه (يو 15: 11) بنا في السماء.نال زكريا الكاهن هذا الفرح بالصوم والصلاه والوقوف أمام المذبح وعينه مرفوعه نحو إله أبائه. 3 - في هذا المكان: قبل ميلاد المسيح بـ800 سنه ق. م وقف يهوشافاط ملك يهوذا خائفًا ورفع عينيه وطلب الرب هو وشعبه كله مع النساء والأطفال بالصوم والصلاه لأن أعداد مضاعفه قرروا الهجوم عليهم راجع (2 أخ 20).شكر الملك الرب: علي عمله مع أبائه وفكر الرب بوعده أن كل إنسان يطلب طلب من هذا المكان يكون له وقال: " ليس فينا قوه.. ونحن لا نعلم ماذا نفعل ولكن نحوك أعيننا" (2أخ 20: 12).وإذا بواحد وسطهم عليه روح الرب فقال للشعب وللملك: "الحرب هي للرب.. قفوا وأثبتوا وأنظروا خلاص الرب معكم" (2 أخ 20: 17) غدًا أخرجوا للقائهم في الطريق (الفلاني) فسجد الملك والشعب للرب وقاموا باكرًا وقال الملك: "أمنوا بالرب إلهكم فتأمنوا أمنوا بأنبيائه فتفلحوا" (2أخ 20: 20) وأتفق الملك مع الشعب وأقاموا مسبحين من سبط لاوي، وخرجوا أمام الجنود قائلين: " أحمدوا الرب لأن إلي الأبد رحمته" (مز135) الهوس الثاني وعندما تقدموا أقام الرب هرج وسط الأعداء وقاتلوا بعض أمَّا هم فظلوا ثلاثه أيام يجمعوا الغنائم من الأعداء.. وكانت هيبه الله (جلاله، فرحته، إبتهاجه) علي كل الأرض. هذه هي قوه أولاد الله والوقوف أمامه خاصة أمام مذبحه!! فكم وكم أمام الذبيحه؟! رساله لكل منَّا لا تخف يا (... أكتب إسمك...). بصلاتك وأمانتك وخدمتك البسيطه أمام المذبح أنت شمعه مضيئه في وسط عائلتك أو جيلك. " سيعطيك الرب سؤل قلبك "(مز 37: 4) ورغبتك وإشتياقاتك عليك فقط سلم وإنسي. " أفرح بالرب كل حين" (في 4: 4) أنت فرحه وسيكون لك فرح وإبتهاج. الراهب القمص إبراهيم الأنبا بولا
المزيد
13 ديسمبر 2020

عُمق قراءات الأحد الأول من شهر كيهك

بشارة الملاك لزكريا الكاهن مزمور العشية يُشير مزمور عشية الأحد الأول من كيهك إلى شيخوخة زكريا وأليصابات زوجته العاقر التي مضى زمان حَملِها بكثير، وأصبحت عارًا بين جيرانها فزكريا المُداوم على الصلاة للرب لكي يرزقه نسلًا لم يكِّل من هذه الطِلبة، حتى شاخ وتقدم في الأيام لأن من عادة بني إسرائيل أن يعيِّروا كل مَنْ لم يرزق بنسلًا، مُعتبرين إياه معدوم البركة (أي بركة الله) "وبارَكَهُمُ اللهُ وقالَ لهُمْ أثمِروا واكثُروا واملأُوا الأرضَ" (تك1: 28)وكان لسان حاله يصرخ دائمًا: "إلَى مَتَى يارَبُّ تنساني كُلَّ النسيانِ؟ إلَى مَتَى تحجُبُ وجهَكَ عَني؟ إلَى مَتَى أجعَلُ هُمومًا في نَفسي وحُزنًا في قَلبي كُلَّ يومٍ؟ إلَى مَتَى يَرتَفِعُ عَدوي علَيَّ؟ انظُرْ واستَجِبْ لي يارَبُّ إلهي" (مز13: 1-3). إنجيل العشية (مر14: 3-9) "وفيما هو في بَيتِ عنيا في بَيتِ سِمعانَ الأبرَصِ، وهو مُتَّكِئٌ، جاءَتِ امرأةٌ معها قارورَةُ طيبِ نارِدينٍ خالِصٍ كثيرِ الثَّمَنِ فكسَرَتِ القارورَةَ وسكَبَتهُ علَى رأسِهِ وكانَ قَوْمٌ مُغتاظينَ في أنفُسِهِمْ، فقالوا "لماذا كانَ تلَفُ الطيبِ هذا؟ لأنَّهُ كانَ يُمكِنُ أنْ يُباعَ هذا بأكثَرَ مِنْ ثَلاثِمِئَةِ دينارٍ ويُعطَى للفُقَراءِ" وكانوا يؤَنّبونَها أمّا يَسوعُ فقالَ "اترُكوها! لماذا تُزعِجونَها؟ قد عَمِلَتْ بي عَمَلًا حَسَنًا! لأنَّ الفُقَراءَ معكُمْ في كُل حينٍ، ومَتَى أرَدتُمْ تقدِرونَ أنْ تعمَلوا بهِمْ خَيرًا وأمّا أنا فلستُ معكُمْ في كُل حينٍ عَمِلَتْ ما عِندَها قد سبَقَتْ ودَهَنَتْ بالطيبِ جَسَدي للتَّكفينِ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: حَيثُما يُكرَزْ بهذا الإنجيلِ في كُل العالَمِ، يُخبَرْ أيضًا بما فعَلَتهُ هذِهِ، تذكارًا لها"يتحدث إنجيل العشية عن المرأة التي دهنت رأس السيد المسيح بالطيب الخالص الكثير الثمن فبينما كان السيد المسيح في طريقه ذاهبًا إلى أورشليم دخل أريحا، فزار زكا العشار، وأنعم عليه بالخلاص وبعدها ألقى على الشعب مَثَل العشر أمناء، وذهب بعدها إلى أورشليم حيث دخل بيت عنيا (بيت الحزن)، ودخل بيت سمعان الأبرص فجاءت المرأة ومعها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن، فكسرت القارورة، وسكبت الطيب على رأس الخالق والناردين الذي سكبته المرأة على رأس المُخلِّص معناه "السنبل"، وهو النبات الذي كانوا يستخرجون منه الطيب الغالي الثمن ذو الرائحة الذكية، وكانوا يستحضروه من بلاد الهند بعد استخراجه واستخلاصه فعندما كسرت المرأة قارورة الطيب، امتلأ البيت من أريج الطيب لكثرته وانتشار رائحته الذكية كانت النتيجة أن اغتاظ التلاميذ، وانتهروها وقالوا: "لماذا كانَ تلَفُ الطيبِ هذا؟" (مر14: 4) وكان على رأسهم يهوذا الإسخريوطي (سارق الصندوق)، فهو كان يريد المال وليس المحبة، وهذا هو نفس قصد الأشرار السيئ في أنهم يخفوا مقاصدهم السيئة تحت ستار التقوى والخوف على الفقراء!! وأخذ التلاميذ يعنفون المرأة على فِعلها هذا وأنه إتلافًا... وكيف يكون ذلك!! هل ما تقدمه للسيد المسيح يعتبر إتلافًا؟ هل مَنْ يكرسون حياتهم كلها للسيد المسيح يكونوا قد أضاعوا عمرهم هباء وأتلفوا حياتهم؟ هنا يرد علينا مُعلِّمنا بولس الرسول "بل إني أحسِبُ كُلَّ شَيءٍ أيضًا خَسارَةً مِنْ أجلِ فضلِ مَعرِفَةِ المَسيحِ يَسوعَ رَبي، الذي مِنْ أجلِهِ خَسِرتُ كُلَّ الأشياءِ، وأنا أحسِبُها نُفايَةً لكَيْ أربَحَ المَسيحَ" (في3: 8) لكن السيد المسيح لم يتركها، بل طلب منهم أن يكفوا عن إزعاجها، بل وأشاد بما فعلته قائلًا لهم "قد عَمِلَتْ بي عَمَلًا حَسَنًا!" (مر14: 6) فكان الواجب عليهم أن يشكروها بدلًا من أن يعنفوها، وقد برّر السيد المسيح رضاه على سكب الطيب وشكره لمريم على إيمانها هذا بأن قال لهم "لأنَّ الفُقَراءَ معكُمْ في كُل حينٍ، ومَتَى أرَدتُمْ تقدِرونَ أنْ تعمَلوا بهِمْ خَيرًا. وأمّا أنا فلستُ معكُمْ في كُل حينٍ" (مر14: 7) وأوضح مُخلِّصنا الصالح للتلاميذ شرف عملها هذا بأن قال لهم إنها فعلت ذلك لأجل تكفيني "عَمِلَتْ ما عِندَها. قد سبَقَتْ ودَهَنَتْ بالطيبِ جَسَدي للتَّكفين" (مر14: 8) ولم يكتفي السيد المسيح بذلك، بل قال لهم مُخلدًا ذكراها إلى الأبد"الحَقَّ أقولُ لكُمْ حَيثُما يُكرَزْ بهذا الإنجيلِ في كُل العالَمِ، يُخبَرْ أيضًا بما فعَلَتهُ هذِهِ، تذكارًا لها" (مر14: 9). إنجيل باكر (مر12: 41-44) "وجَلَسَ يَسوعُ تُجاهَ الخِزانَةِ، ونَظَرَ كيفَ يُلقي الجَمعُ نُحاسًا في الخِزانَةِ. وكانَ أغنياءُ كثيرونَ يُلقونَ كثيرًا. فجاءَتْ أرمَلَةٌ فقيرَةٌ وألقَتْ فلسَينِ، قيمَتُهُما رُبعٌ. فدَعا تلاميذَهُ وقالَ لهُمُ: "الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّ هذِهِ الأرمَلَةَ الفَقيرَةَ قد ألقَتْ أكثَرَ مِنْ جميعِ الذينَ ألقَوْا في الخِزانَةِ، لأنَّ الجميعَ مِنْ فضلَتِهِمْ ألقَوْا، وأمّا هذِهِ فمِنْ إعوازِها ألقَتْ كُلَّ ما عِندَها، كُلَّ مَعيشَتِها". يتحدث إنجيل باكر عن الأرملة التي ألقت فلسين في الخزانة، فبعدما أجاب السيد المسيح عن أسئلة رؤساء اليهود المختصة بالزواج بعد القيامة، وما هي الوصية العظمى في الناموس، ولمَنْ تُعطى الجزية وغيرها من الأسئلة أخذ يحذر الناس من الكتبة والفريسيين ورياؤهم، ونطق عليهم بالويلات للمرة الثانية في (مت23: 13-26) وبعد ذلك جلس السيد المسيح تجاه الخزانة لكي يعلّمهم درسًا لم يعوه ولم يدركوه فكثير من الأغنياء جاءوا وألقوا نقودًا كثيرة، ولكنها لم تكن من احتياجهم بل من فضلتهم، ولذلك فهم ليس لهم فضل فيما يعطونه لله، فهم يعطون من الزائد وليس من الاحتياج ولكن كان من بين الذين ألقوا في هذه الخزانة أرملة فقيرة جدًا جاءت لتقدم للرب من احتياجها، قدمت له فلسين قيمتها ربع (أي نصف مليم) (أي ما يعادل اليوم خمسة قروش) فامتدح السيد المسيح هذه المرأة التي أعطت من احتياجها وليس من الفائض، كما ستفعل فيما بعد أم يوحنا المعمدان (أليصابات) العاقر فحينما فتح الرب رحمها، وأعطاها نسل لم تبخل به على الله، فهو وحيدها، ولكنها أعطته لله فتركها وذهب للبرية ليُعد طريق الرب. الرسائل الرسائل هنا تشير كلها إلى موضوع واحد، وهو "طلبة أليصابات العاقر"، التي لم تكّل أن تطلب إلى الله أن يرزقها نسلًا، لكي ينزع عارها من بين الجميع. البولس (رو1: 1-17) "بولُسُ، عَبدٌ ليَسوعَ المَسيحِ، المَدعوُّ رَسولًا، المُفرَزُ لإنجيلِ اللهِ، الذي سبَقَ فوَعَدَ بهِ بأنبيائهِ في الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ، عن ابنِهِ. الذي صارَ مِنْ نَسلِ داوُدَ مِنْ جِهَةِ الجَسَدِ، وتعَيَّنَ ابنَ اللهِ بقوَّةٍ مِنْ جِهَةِ روحِ القَداسَةِ، بالقيامَةِ مِنَ الأمواتِ: يَسوعَ المَسيحِ رَبنا. الذي بهِ، لأجلِ اسمِهِ، قَبِلنا نِعمَةً ورِسالَةً، لإطاعَةِ الإيمانِ في جميعِ الأُمَمِ، الذينَ بَينَهُمْ أنتُمْ أيضًا مَدعوّو يَسوعَ المَسيحِ. إلَى جميعِ المَوْجودينَ في روميَةَ، أحِبّاءَ اللهِ، مَدعوّينَ قِدّيسينَ: نِعمَةٌ لكُمْ وسلامٌ مِنَ اللهِ أبينا والرَّب يَسوعَ المَسيحِ. أوَّلًا، أشكُرُ إلهي بيَسوعَ المَسيحِ مِنْ جِهَةِ جميعِكُمْ، أنَّ إيمانَكُمْ يُنادَى بهِ في كُل العالَمِ. فإنَّ اللهَ الذي أعبُدُهُ بروحي، في إنجيلِ ابنِهِ، شاهِدٌ لي كيفَ بلا انقِطاعٍ أذكُرُكُمْ، مُتَضَرعًا دائمًا في صَلَواتي عَسَى الآنَ أنْ يتيَسَّرَ لي مَرَّةً بمَشيئَةِ اللهِ أنْ آتيَ إلَيكُمْ. لأني مُشتاقٌ أنْ أراكُمْ، لكَيْ أمنَحَكُمْ هِبَةً روحيَّةً لثَباتِكُمْ، أيْ لنتعَزَّى بَينَكُمْ بالإيمانِ الذي فينا جميعًا، إيمانِكُمْ وإيماني. ثُمَّ لستُ أُريدُ أنْ تجهَلوا أيُّها الإخوَةُ أنَّني مِرارًا كثيرَةً قَصَدتُ أنْ آتيَ إلَيكُمْ، ومُنِعتُ حتَّى الآنَ، ليكونَ لي ثَمَرٌ فيكُم أيضًا كما في سائرِ الأُمَمِ. إني مَديونٌ لليونانيينَ والبَرابِرَةِ، للحُكَماءِ والجُهَلاءِ. فهكذا ما هو لي مُستَعَدٌّ لتبشيرِكُمْ أنتُمُ الذينَ في روميَةَ أيضًا، لأني لستُ أستَحي بإنجيلِ المَسيحِ، لأنَّهُ قوَّةُ اللهِ للخَلاصِ لكُل مَنْ يؤمِنُ: لليَهودي أوَّلًا ثُمَّ لليوناني. لأنْ فيهِ مُعلَنٌ برُّ اللهِ بإيمانٍ لإيمانٍ، كما هو مَكتوبٌ "أمّا البارُّ فبالإيمانِ يَحيا" يوضح هنا إيمانها، فمُعلِّمنا بولس الرسول يُخاطب أهل رومية قائلًا: "أوَّلًا، أشكُرُ إلهي بيَسوعَ المَسيحِ مِنْ جِهَةِ جميعِكُمْ، أنَّ إيمانَكُمْ يُنادَى بهِ في كُل العالَمِ. فإنَّ اللهَ الذي أعبُدُهُ بروحي، في إنجيلِ ابنِهِ، شاهِدٌ لي كيفَ بلا انقِطاعٍ أذكُرُكُمْ، مُتَضَرعًا دائمًا في صَلَواتي عَسَى الآنَ أنْ يتيَسَّرَ لي مَرَّةً بمَشيئَةِ اللهِ أنْ آتيَ إلَيكُمْ. لأني مُشتاقٌ أنْ أراكُمْ، لكَيْ أمنَحَكُمْ هِبَةً روحيَّةً لثَباتِكُمْ، أيْ لنتعَزَّى بَينَكُمْ بالإيمانِ الذي فينا جميعًا، إيمانِكُمْ وإيماني" (رو1: 8-12) مُعلِّمنا بولس الرسول يؤكد هنا على الإيمان موضحًا إيمان أليصابات في قوله "لأنْ فيهِ مُعلَنٌ برُّ اللهِ بإيمانٍ لإيمانٍ، كما هو مَكتوبٌ "أمّا البارُّ فبالإيمانِ يَحيا" (رو1: 17). الكاثوليكون (يع1: 1-18) "يعقوبُ، عَبدُ اللهِ والرَّب يَسوعَ المَسيحِ، يُهدي السَّلامَ إلَى الاِثنَيْ عشَرَ سِبطًا الذينَ في الشَّتاتِ. اِحسِبوهُ كُلَّ فرَحٍ يا إخوَتي حينَما تقَعونَ في تجارِبَ مُتَنَوّعَةٍ، عالِمينَ أنَّ امتِحانَ إيمانِكُمْ يُنشِئُ صَبرًا. وأمّا الصَّبرُ فليَكُنْ لهُ عَمَلٌ تامٌّ، لكَيْ تكونوا تامينَ وكامِلينَ غَيرَ ناقِصينَ في شَيءٍ. وإنَّما إنْ كانَ أحَدُكُمْ تُعوِزُهُ حِكمَةٌ، فليَطلُبْ مِنَ اللهِ الذي يُعطي الجميعَ بسَخاءٍ ولا يُعَيّرُ، فسَيُعطَى لهُ. ولكن ليَطلُبْ بإيمانٍ غَيرَ مُرتابٍ البَتَّةَ، لأنَّ المُرتابَ يُشبِهُ مَوْجًا مِنَ البحرِ تخبِطُهُ الريحُ وتدفَعُهُ. فلا يَظُنَّ ذلكَ الإنسانُ أنَّهُ يَنالُ شَيئًا مِنْ عِندِ الرَّب. رَجُلٌ ذو رأيَينِ هو مُتَقَلقِلٌ في جميعِ طُرُقِهِ. وليَفتَخِرِ الأخُ المُتَّضِعُ بارتِفاعِهِ، وأمّا الغَنيُّ فباتضاعِهِ، لأنَّهُ كزَهرِ العُشبِ يَزولُ. لأنَّ الشَّمسَ أشرَقَتْ بالحَر، فيَبَّسَتِ العُشبَ، فسَقَطَ زَهرُهُ وفَنيَ جَمالُ مَنظَرِهِ. هكذا يَذبُلُ الغَنيُّ أيضًا في طُرُقِهِ. طوبَى للرَّجُلِ الذي يَحتَمِلُ التَّجرِبَةَ، لأنَّهُ إذا تزَكَّى يَنالُ "إكليلَ الحياةِ" الذي وعَدَ بهِ الرَّبُّ للذينَ يُحِبّونَهُ. لا يَقُلْ أحَدٌ إذا جُرّبَ: "إني أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ"، لأنَّ اللهَ غَيرُ مُجَرَّبٍ بالشُّرورِ، وهو لا يُجَرّبُ أحَدًا. ولكن كُلَّ واحِدٍ يُجَرَّبُ إذا انجَذَبَ وانخَدَعَ مِنْ شَهوتِهِ. ثُمَّ الشَّهوةُ إذا حَبِلَتْ تلِدُ خَطيَّةً، والخَطيَّةُ إذا كمَلَتْ تُنتِجُ موتًا. لا تضِلّوا يا إخوَتي الأحِبّاءَ. كُلُّ عَطيَّةٍ صالِحَةٍ وكُلُّ مَوْهِبَةٍ تامَّةٍ هي مِنْ فوقُ، نازِلَةٌ مِنْ عِندِ أبي الأنوارِ، الذي ليس عِندَهُ تغييرٌ ولا ظِلُّ دَوَرانٍ. شاءَ فوَلَدَنا بكلِمَةِ الحَق لكَيْ نَكونَ باكورَةً مِنْ خَلائقِهِ" يوضح هنا صبرها في وصية مُعلِّمنا يعقوب الرسول للشعب أن يصبروا على كل ما يصيبهم من تجارب قائلًا: "عالِمينَ أنَّ امتِحانَ إيمانِكُمْ يُنشِئُ صَبرًا" (يع1: 3).فالعُقر الذي كانت تعاني منه أليصابات كان امتحان لها، لتزكية إيمانها وصبرها "ليَنزِعَ عاري بَينَ الناسِ" (لو1: 25) لذلك يطوّب الذين يحتملون التجربة فيقول "طوبَى للرَّجُلِ الذي يَحتَمِلُ التَّجرِبَةَ، لأنَّهُ إذا تزَكَّى يَنالُ "إكليلَ الحياةِ" الذي وعَدَ بهِ الرَّبُّ للذينَ يُحِبّونَهُ" (يع1: 12). الإبركسيس``Pra[ic (أع1: 1-14) "الكلامُ الأوَّلُ أنشأتُهُ يا ثاوُفيلُسُ، عن جميعِ ما ابتَدأَ يَسوعُ يَفعَلُهُ ويُعَلمُ بهِ، إلَى اليومِ الذي ارتَفَعَ فيهِ، بَعدَ ما أوصَى بالرّوحِ القُدُسِ الرُّسُلَ الذينَ اختارَهُمْ. الذينَ أراهُمْ أيضًا نَفسَهُ حَيًّا ببَراهينَ كثيرَةٍ، بَعدَ ما تألَّمَ، وهو يَظهَرُ لهُمْ أربَعينَ يومًا، ويتكلَّمُ عن الأُمورِ المُختَصَّةِ بملكوتِ اللهِ. وفيما هو مُجتَمِعٌ معهُمْ أوصاهُمْ أنْ لا يَبرَحوا مِنْ أورُشَليمَ، بل يَنتَظِروا "مَوْعِدَ الآبِ الذي سمِعتُموهُ مِني، لأنَّ يوحَنا عَمَّدَ بالماءِ، وأمّا أنتُمْ فسَتَتَعَمَّدونَ بالرّوحِ القُدُسِ، ليس بَعدَ هذِهِ الأيّامِ بكَثيرٍ". أمّا هُمُ المُجتَمِعونَ فسألوهُ قائلينَ: "يارَبُّ، هل في هذا الوقتِ ترُدُّ المُلكَ إلَى إسرائيلَ؟". فقالَ لهُمْ: "ليس لكُمْ أنْ تعرِفوا الأزمِنَةَ والأوقاتَ التي جَعَلها الآبُ في سُلطانِهِ، لكنكُمْ ستَنالونَ قوَّةً مَتَى حَلَّ الرّوحُ القُدُسُ علَيكُمْ، وتكونونَ لي شُهودًا في أورُشَليمَ وفي كُل اليَهوديَّةِ والسّامِرَةِ وإلَى أقصَى الأرضِ". ولَمّا قالَ هذا ارتَفَعَ وهُم يَنظُرونَ. وأخَذَتهُ سحابَةٌ عن أعيُنِهِمْ. وفيما كانوا يَشخَصونَ إلَى السماءِ وهو مُنطَلِقٌ، إذا رَجُلانِ قد وقَفا بهِمْ بلِباسٍ أبيَضَ، وقالا: "أيُّها الرجالُ الجليليّونَ، ما بالُكُمْ واقِفينَ تنظُرونَ إلَى السماءِ؟ إنَّ يَسوعَ هذا الذي ارتَفَعَ عنكُمْ إلَى السماءِ سيأتي هكذا كما رأيتُموهُ مُنطَلِقًا إلَى السماءِ". حينَئذٍ رَجَعوا إلَى أورُشَليمَ مِنَ الجَبَلِ الذي يُدعَى جَبَلَ الزَّيتونِ، الذي هو بالقُربِ مِنْ أورُشَليمَ علَى سفَرِ سبتٍ. ولَمّا دَخَلوا صَعِدوا إلَى العِلّيَّةِ التي كانوا يُقيمونَ فيها بُطرُسُ ويعقوبُ ويوحَنا وأندَراوُسُ وفيلُبُّسُ وتوما وبَرثولَماوُسُ ومَتَّى ويعقوبُ بنُ حَلفَى وسِمعانُ الغَيورُ ويَهوذا أخو يعقوبَ. هؤُلاءِ كُلُّهُمْ كانوا يواظِبونَ بنَفسٍ واحِدَةٍ علَى الصَّلاةِ والطلبَةِ، مع النساءِ، ومَريَمَ أُم يَسوعَ، ومع إخوَتِهِ".يتكلم عن انتظار الرسل في أورشليم، حتى يحل عليهم الروح القدس.. فهم "كانوا يواظِبونَ بنَفسٍ واحِدَةٍ علَى الصَّلاةِ والطلبَةِ، مع النساءِ، ومَريَمَ أُم يَسوعَ، ومع إخوَتِهِ" (أع1: 14).فهو يشير هنا إلى مواظبة زكريا على الصلاة والطلبة من أجل أن يرزقه الله نسلًا.. وبالفعل حدث ذلك كما سنرى في الإنجيل. إنجيل القداس (لو1: 1-25) "إذ كانَ كثيرونَ قد أخَذوا بتأليفِ قِصَّةٍ في الأُمورِ المُتَيَقَّنَةِ عِندَنا، كما سلَّمَها إلَينا الذينَ كانوا منذُ البَدءِ مُعايِنينَ وخُدّامًا للكلِمَةِ، رأيتُ أنا أيضًا إذ قد تتبَّعتُ كُلَّ شَيءٍ مِنَ الأوَّلِ بتدقيقٍ، أنْ أكتُبَ علَى التَّوالي إلَيكَ أيُّها العَزيزُ ثاوُفيلُسُ، لتعرِفَ صِحَّةَ الكلامِ الذي عُلمتَ بهِ. كانَ في أيّامِ هيرودُسَ مَلِكِ اليَهوديَّةِ كاهِنٌ اسمُهُ زَكَريّا مِنْ فِرقَةِ أبيّا، وامرأتُهُ مِنْ بَناتِ هارونَ واسمُها أليصاباتُ. وكانا كِلاهُما بارَّينِ أمامَ اللهِ، سالِكَينِ في جميعِ وصايا الرَّب وأحكامِهِ بلا لومٍ. ولم يَكُنْ لهُما ولَدٌ، إذ كانَتْ أليصاباتُ عاقِرًا. وكانا كِلاهُما مُتَقَدمَينِ في أيّامِهِما. فبَينَما هو يَكهَنُ في نَوْبَةِ فِرقَتِهِ أمامَ اللهِ، حَسَبَ عادَةِ الكَهَنوتِ، أصابَتهُ القُرعَةُ أنْ يَدخُلَ إلَى هيكلِ الرَّب ويُبَخرَ. وكانَ كُلُّ جُمهورِ الشَّعبِ يُصَلّونَ خارِجًا وقتَ البَخورِ. فظَهَرَ لهُ مَلاكُ الرَّب واقِفًا عن يَمينِ مَذبَحِ البَخورِ. فلَمّا رَآهُ زَكَريّا اضطَرَبَ ووَقَعَ علَيهِ خَوْفٌ. فقالَ لهُ المَلاكُ: "لا تخَفْ يا زَكَريّا، لأنَّ طِلبَتَكَ قد سُمِعَتْ، وامرأتُكَ أليصاباتُ ستَلِدُ لكَ ابنًا وتُسَميهِ يوحَنا. ويكونُ لكَ فرَحٌ وابتِهاجٌ، وكثيرونَ سيَفرَحونَ بوِلادَتِهِ، لأنَّهُ يكونُ عظيمًا أمامَ الرَّب، وخمرًا ومُسكِرًا لا يَشرَبُ، ومِنْ بَطنِ أُمهِ يَمتَلِئُ مِنَ الرّوحِ القُدُسِ. ويَرُدُّ كثيرينَ مِنْ بَني إسرائيلَ إلَى الرَّب إلهِهِمْ. ويَتَقَدَّمُ أمامَهُ بروحِ إيليّا وقوَّتِهِ، ليَرُدَّ قُلوبَ الآباءِ إلَى الأبناءِ، والعُصاةَ إلَى فِكرِ الأبرارِ، لكَيْ يُهَيئَ للرَّب شَعبًا مُستَعِدًّا". فقالَ زَكَريّا للمَلاكِ: "كيفَ أعلَمُ هذا، لأني أنا شَيخٌ وامرأتي مُتَقَدمَةٌ في أيّامِها؟". فأجابَ المَلاكُ وقالَ لهُ: "أنا جِبرائيلُ الواقِفُ قُدّامَ اللهِ، وأُرسِلتُ لأُكلمَكَ وأُبَشرَكَ بهذا. وها أنتَ تكونُ صامِتًا ولا تقدِرُ أنْ تتكلَّمَ، إلَى اليومِ الذي يكونُ فيهِ هذا، لأنَّكَ لم تُصَدقْ كلامي الذي سيَتِمُّ في وقتِهِ". وكانَ الشَّعبُ مُنتَظِرينَ زَكَريّا ومُتَعّجبينَ مِنْ إبطائهِ في الهيكلِ. فلَمّا خرجَ لم يَستَطِعْ أنْ يُكلمَهُمْ، ففَهِموا أنَّهُ قد رأَى رؤيا في الهيكلِ. فكانَ يومِئُ إليهِمْ وبَقيَ صامِتًا. ولَمّا كمِلَتْ أيّامُ خِدمَتِهِ مَضَى إلَى بَيتِهِ. وبَعدَ تِلكَ الأيّامِ حَبِلَتْ أليصاباتُ امرأتُهُ، وأخفَتْ نَفسَها خَمسَةَ أشهُرٍ قائلَةً: "هكذا قد فعَلَ بيَ الرَّبُّ في الأيّامِ التي فيها نَظَرَ إلَيَّ، ليَنزِعَ عاري بَينَ الناسِ"الهدف من قراءة هذا الفصل اليوم هو الاحتفال برحمة الله المتحنن على البشر، وهي تتجلى اليوم في البشارة بميلاد يوحنا المعمدان، الذي سبق السيد المسيح ليُعد له شعبًا مبررًا، ويُعد له الطريق.فميلاد يوحنا المعمدان هو أول خطوة بدأت بها رحلة خلاص البشرية، بتجسد السيد المسيح، وهي أول مظهر من مظاهر هذه الرحمة التي أنعم الله بها على البشرية.ففصل الإنجيل يُشير إلى البُشرى التي زفها الملاك لزكريا الكاهن عن قرب الموعد.. لتحقيق أمنيته التي كان يتمناها طوال عمره.. فبينما كان زكريا يقوم بخدمته الكهنوتية في نوبة فرقته، أصابته القرعة أن يدخل إلى الهيكل ليبخّر، فظهر له الملاك ليُبشره بميلاد يوحنا وظهور ملاك وقت البخور لزكريا له مغزاه فيوحنا المعمدان ملاك "ها أنا أُرسِلُ أمامَ وجهِكَ مَلاكي، الذي يُهَيئُ طريقَكَ قُدّامَكَ" (مر1: 2) لذلك اقتضى أن الذي يبشره هو ملاك.. وظهور الملاك عن يمين المذبح إشارة إلى أن يوحنا المعمدان سوف يضع يده اليمنى على رأس المُخلِّص وقت العماد، فبشر الملاك زكريا أولًا بقبول طلبته وسماع الله لها، وكذلك صلوات امرأته، وأنها سوف تلد ابنًا وتسميه يوحنا وهذا المولود سيكون سبب فرح لزكريا وابتهاج له وسيفرح بولادته كثيرين واستكمل الملاك كلامه مع زكريا عن المولود العتيد قائلًا: "يكونُ عظيمًا" فعظمته ترجع إلى امتلائه من الروح القدس وهو في بطن أمه، وهو الذي فاز بشرف تعميد السيد المسيح، ووضع يده عليه، وهو الذي فتح باب التوبة أمام الجميع "توبوا، لأنَّهُ قد اقتَرَبَ ملكوتُ السماواتِ" (مت3: 2) واستكمل الملاك كلامه عن يوحنا قائلًا "ويَتَقَدَّمُ أمامَهُ بروحِ إيليّا وقوَّتِهِ" (لو1: 17) فالضمير في كلمة "أمامه" يعود على الرب إلههم في الآية السابقة "ويَرُدُّ كثيرينَ مِنْ بَني إسرائيلَ إلَى الرَّب إلهِهِمْ" (لو1: 16) فيكون ذلك واضحًا على أن السيد المسيح هو "الله الذي معنا"، وهو "الله الذي ظهر في الجسد" "عظيمٌ هو سِرُّ التَّقوَى اللهُ ظَهَرَ في الجَسَدِ" (1تي3: 16)، وروح إيليا هي الأمور المشتركة بينهم، وهي البتولية والتقشف ولبس الصوف، والقوة فكما وبخ إيليا أخاب وإيزابل بكل قوة وشجاعة (1مل21) هكذا سوف يوبخ في المستقبل القريب يوحنا هيرودس وهيروديا "فإنَّ هيرودُسَ كانَ قد أمسَكَ يوحَنا وأوثَقَهُ وطَرَحَهُ في سِجنٍ مِنْ أجلِ هيروديّا امرأةِ فيلُبُّسَ أخيهِ، لأنَّ يوحَنا كانَ يقولُ لهُ "لا يَحِلُّ أنْ تكونَ لكَ" (مت14: 3-4) كان على زكريا الكاهن الرجل صاحب الوقار أن تصدمه بشارة الملاك، ولكن حدث العكس فقد شك في الكلام ولم يصدقه، ونسى قصة ولادة اسحق من سارة العاقر وإبراهيم الشيخ، ونسى أن الله قادر على كل شيء، ونسى ولادة شمشون من أم عاقر، وصموئيل الذي ولد من حنة العاقر كل ذلك لم يتذكره، وشك في كلام الملاك ولم يصدقه، وطالب الملاك بعلامة ظاهرة يستطيع من خلالها أن يصدق هذه البشرى فأراد الملاك أن يعطيه علامة على صدق البُشرى، بأن يعرفه بنفسه "فأجابَ المَلاكُ وقالَ لهُ "أنا جِبرائيلُ الواقِفُ قُدّامَ اللهِ، وأُرسِلتُ لأُكلمَكَ وأُبَشرَكَ بهذا" (لو1: 19) فعندما تأكد الملاك من شك زكريا أنذره بالعقاب جزاءً لعدم إيمانه فقال له"وها أنتَ تكونُ صامِتًا ولا تقدِرُ أنْ تتكلَّمَ، إلَى اليومِ الذي يكونُ فيهِ هذا، لأنَّكَ لم تُصَدقْ كلامي الذي سيَتِمُّ في وقتِهِ" (لو1: 20) ولاشك أن الصمت الذي حدث لزكريا كان مصحوبًا بأصم (عدم السمع)، بدليل أن الناس كانوا يخاطبونه بالإشارة حين أرادوا أنيعرفوا الاسم الذي يتسمى به المولود وقد حدد الملاك لزكريا موعد انتهاء فترة صمته، وهو اليوم الذي يتحقق فيه كل ما أنبأه به وقد أثار إبطاء زكريا في الهيكل عن المعتاد استغراب الشعب لماذا تأخر؟! ماذا حدث؟! فخرج لهم صامتًا يُومئ لهم برأسه، فأدركوا أنه رأى رؤيا، وأكد ذلك لسانه الذي انعقد وأذنيه اللتين أصيبتا بالصمم واستكمل زكريا خدمته رغم ما حدث له وحبلت أليصابات، وأخفت نفسها خمسة أشهر خوفًا من تعييرات الجيران، وكانت تردد القول بإن الله فتح رحمها إذ نزع عنها عارها، لأن شعب إسرائيل كانوا يعتقدون أن العقم هو علامة على غضب الله على الشخص، فكانوا يعيرونه بذلك فهم كما حسبوا الولادة رضى من الله، إذ سلكوا بوصايا الله"وألتَفِتُ إلَيكُمْ وأُثمِرُكُمْ وأُكَثرُكُمْ وأفي ميثاقي معكُمْ" (لا26: 9) وقوله لنوح وبنيه "أثمِروا واكثُروا واملأُوا الأرضَ" (تك9: 1) لذلك كانوا يعيرون العاقر بعدم تمتعها بالثمر والإكثار الذي من عند الرب من هنا نرى الخط المشترك الواضح في قراءات الأحد الأول هو"البشارة المفرحة" واستجابة الله للصلوات المستمرة التي كان يقدمها زكريا وامرأته أليصابات وبدأت الكنيسة شهر كيهك بهذه البشارة لتهيئ ذهننا لولادة المُخلِّص الذي يأتي ويُخلِّص الجميع من سلطان الخطية وأسر الشيطان ليعطينا الرب روح الصلاة والطلبة المستمرة،والإيمان بمواعيده الصادقة ولإلهنا المجد في كنيسته المقدسة من الآن وإلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
12 ديسمبر 2020

المقالة الحادية والعشرون في ورود ربنا يسوع المسيح الثاني

يا بني النور تقدموا وهلموا، وأسمعوا صوت مخلصنا، الصوت المغبوط المبارك الهاتف إليكم: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم ملك السماوات “. فأحذروا يا إخوتي أن يعدم أحدكم هذا الميراث السعيد، فإنه ها هو على الأبواب، إن النور نزل إلينا فأنارنا، وأدنانا إليه، وأصعدنا معه، فإذ نزل إلينا، صار من أجلنا مثلنا ليجعلنا مثله. من لا يموت نزل إلى المائتين ؛ وحين جعلهم غير مائتين، أرتقى إلى الآب، وسيجيء بمجد أبية المبارك يدين الأحياء والموتى. صار لنا طريق حياة مملوءة نوراً ومجداً، لنسلك نحن في النور إلى الآب، تعالوا يا أحبائي لنسلك في الطريق التي أوراها لنا الرب، لنصل بسرور إلى مملكته، ولنأخذ زاداً وزيتاً في أوعيتنا، فليست الطريق قصيرة. فلنشد أحقائنا بالحق، ومثل أناس وعبيد حافظين منتظرين سيدهم، نوقد مصابيحنا، ونستفيق بشهامة، لأننا منتظرون أن نستقبل ربنا من السماوات مقبلاً، فلا نتناعس فيما بعد لئلا تنطفئ مصابيحنا. ها قد وافى النور، فولى الليل وأتى النهار، يا بني النور بادروا إلى النور أخرجوا بفرح إلى استقبال ربكم. أروه فضائلكم، أتوا إليه بنسككم، وحميتكم، وسهركم، وأتعابكم، ودموعكم، وهجركم للقنية، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا، ولا ينظر أحد منكم إلى الرذائل التي وراء، بل فليعبد ناظر النفس إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظركم فوقاً، متأملاً ذلك الجمال والسرور، يا وارثي الآب ومساهمي ميراث ابن اللـه الحي. إن هذه النعم قد وهبها اللـه لنا فبماذا نكافئه، هلموا فلنطرح عنا كل اعتناء واهتمام هذا الدهر، ولنخدمه وحده بحرص عظيم ونشاط جزيل، فها يومه بالحقيقة قرب، ووروده بتأكيد حان. هلموا إذاً يا إخوتي، فلنعد ذاتنا، ونتيقظ منتظرين ربنا الختن السمائي الذي لا يموت، فإنه ها يشرق، ها يبلغ، لأن تلك الصرخة تصير بغتة، ها الختن وارد فأخرجوا إلى استقباله يا معشر الذين أحببتموه وأعددتم ذاتكم لمعاينته في مجده، لأن كافة الذين اشتاقوا إليه يفرحهم في حجلته الأبدية المنيرة البهية التي لا توصف. فأحذروا يا إخوتي إذا صار ذلك أن يوجد أحدكم ماسكاً مصباحه مظلماً لا زيت فيه، أو لابساً أطماراً بالية متسخة فيدان، ويحكم عليه بالظلمة البرانية، وبذلك العقاب الدهرى الذي لا يفنى، حيث البكاء وتقعقع الأسنان. فلنحذر ذاتنا يا أحبائي، فإننا لا نعلم متى يجئ ربنا، لأنه كالسارق في الليل، ومثل الفخ يوافي ذلك اليوم، وكبرق حاد هكذا يكون حضور الرب. لأن البوق يضرب، فتتزعزع الأرض من أساساتِها، وترتعد السماوات مع قواتِها، والموتى يقومون كلهم. يا أحبائي من لا يلومه قلبه في تلك الساعة، ابسطوا عذر ضعفي فإنني أظن أن كل نسمة ترتعد في تلك الساعة، لكن نعمة اللـه تقوي وتفرح قلوب الصديقين، فيختطفون في السحب إلى استقباله، أما المضجعون والعاجزون الذين يشبهوني فيلبثون على الأرض مرتعدين. فلنخفف ذاتنا يا إخوتي من الأرض قليلاً، لنرتقي بسهولة إلى السماء، ماذا ينفعنا العالم الذي قيدنا بِهمومه ؟ أم ماذا نربح من تزيين الثياب سوى نار لا تطفأ، أو ماذا تسبب لنا تطييب ألوان الأغذية سوى تعذيب أبدي؟ اعرفوا بتأكيد أننا إن لم نجاهد في هذا الزمان القصير، فإننا نزمع هناك أن نندم إلى أبد الدهر. يا إخوتي لِمَ نتوانى ولِمَ نضجع، لماذا لا نغذي أنفسنا ؟ لأن يوم الرب أقترب منا، لِمَ لا نطرح عنا كل اهتمام غير نافع ونخفف ذاتنا من ثقل الأمور الأرضية. أما قد عرفتم أن الباب ضيق وضاغط، ولا يستطيع الجزيل القنية أن يدخل فيه، وهو إنما يحب الذين لا قنية لهم، الذين قد ضيقوا على ذاتِهم باختيارهم بالنسك والتعب، والذين أعدوا ذاتَهم لمعاينة الختن السمائي الباقي في مجده، ويورثهم ملك السماوات. لأن ها يصوت ربنا قائلاً: أسرعوا إحضاركم، وتعالوا إليَّ، وليتكاثر عددكم فيَّ وفي خدر ربكم، ولتتعاظم صفوفكم مع الملائكة والقديسين في الضياء. فأنتم يا أولادي لا تقتنوا على الأرض شيئاً، ولا تَهتموا بشىء، لأن الختن مستعد للمجيء في سحب السماء بمجد أبيه المبارك، يدعو كل واحد منكم باسمه، ويتكئه في طغمة القديسين المتصرفين في النور الذي لا يوصف في الحياة الأبدية التي لا تبلى ولا تنفذ نظير أعماله وأتعابه. فلنحرص يا إخوتي، فلنحرص في هذا الزمان اليسير، ولا نضجع هنا لئلا نندب إلى الدهور التي لا نَهاية لها، حيث لا تنفع الدموع والزفرات، حيث لا توبة، إن حرصكم يسر به الملائكة ورؤساء الملائكة، وونيتكم يفرح بِها العدو، احرصوا يا سروري، احرصوا أن أسر أنا بكم، وأنتم بي إلى الدهر. لك أجثو ساجداً أيها الرب يسوع المسيح ابن اللـه الحي، أعطني ولكافة الذين يحبونك أن نعاينك بمجد في ملكك، ونرثه مع كافة الذين يحبوك وتاقوا إليك. يا أحبائي إن توانينا وأضجعنا في هذا الزمان اليسير، فلا تكون لنا دالة في ذلك اليوم المخوف، لأننا لا نجد حجة عن خطايانا، لأنه منذ أنحدر إلينا ربنا ومخلصنا أنتزع كل حجة لأنه وهب لنا حين جاء الحياة الأبدية. كنا أعداء صالحنا، أرضيين فصرنا سماويين، مائتين فدعينا غير مائتين، بني الظلمة فصرنا بني النور، مستأسرين ففدينا، عبيداً للخطية فحررنا، مساكين فأغنينا، ضائعين فوجدنا، ممقوتين فأحببنا. ظالمين فزكينا، غير مرحومين فرحمنا، خطاة فخلصنا، ترباً ورماداً فصرنا بنيناً للـه، عراة فسترنا، وصرنا وارثين للـه، ونظير ابنه في ميراث هذه النعم، قد وهبها لنا ربنا فبماذا نكافئه ؟ يا أحبائي هلموا فلنطرح عن ذاتنا كل اعتناء واهتمام هذا العالم الباطل، ونخدمه بحرص عظيم ونشاط كبير وحده، فها يومه حان بالحقيقة، ووروده دنا منا بتأكيد. تعالوا فلنعد ذاتنا ونتيقظ منتظرين ربنا الختن الذي لا يموت كأنه أشرق وتلألأ وأقبل، تناهى الليل والنهار أقبل. يا بني النور بادروا إلى النور، أخرجوا إلى استقباله بفرح، أروه فضائلكم، قدموا له نسككم ومسككم، سهركم وأتعابكم، دموعكم وزهدكم، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا. لا ينظر أحدكم إلى الوراء بل ناظر نفسكم فليكن إلى العلا ناظراً، إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظرك فوقاً متأملاً ذلك الفرح الذي لا يفنى، الذي لا تشبع منه نفوسكم من معاينة مجده وبَهائه وحسنه. من يجع فليصبر، لأن ها مائدة الملكوت تنتظره. من يعطش فليثبت، فها نعيم الفردوس أستعد له. من يسهر ويصلي ويرتل ويبكِ فليتأيد، فإن سرور حجلة ربه تعزيه. فإذ قد عرفنا هذه كلها يا إخوتي فلا نقتني على الأرض شيئاً، لأن كل أحد منكم في ذلك اليوم سيرى أية فضيلة قد أقتناها من هنا أو أي أتعاب أحتملها، أو أي نسك أو أي سهر أظهره. أترى إذا أشهر الشهداء جراحات العذاب والعقوبات، والنساك الشجعان نسكهم وحميتهم، وما لهم من الصبر والحزن والزهد، فالمضجعون والعاجزون والمتنزهون بماذا يفتخرون ؟ أبرخاوتِهم وونيتهم وهلاكهم، الويل لهم إذا توانوا، يا للأسف إذا أضجعوا. تعالوا يا أحبتي، تعالوا نحرص، هلموا نسجد له، ولننح ونبكِ أمامه بجراءة ليعطينا استنارة نفس، فنتفطن حيل عدونا ومعاندنا وماقت الخير، الذي يجعل قدامنا مزلقات ومعاثر ومضرات كثرة الاقتناء، وتنزه هذا الدهر، واللذة البشرية. وانتظار طول زمان هذه الحياة الحاضرة، وجزعاً من النسك، وعجزاً عن الصلوات، ونوماً في الترتيل، وراحة بشرية. فبمقدار ما يحرص ذلك نضجع ونتوانى، بقدر ما يمكن ذاك نتهاون نحن، فلنعلم موقنين أن أيامنا قصرت، والوقت قد أزف، ورب المجد سيجيء بحسن بَهائه، وبقوات ملائكته المرهبين، فيجازي كل واحد نظير عمله. فأخشى يا إخوتي أن يتم فينا قول القائل: أنَهم سيجيئون من المشارق والمغارب، والجنوب والشمال، ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملك السماوات، وأنتم تلقون خارجاً. إليك أتضرع أيها المسيح نور الحق، وابن الآب المبارك، صورته وشعاع أقنومه، أيها الجالس عن يمين عظمته، أيها الابن الذي لا يُدرك، المسيح الذي لا ينتهي أثره، الإله الذي لا يفحص. يا فخر وسرور الذين يحبونك، أيها المسيح حياتي، خلصني أنا الخاطئ في ملكك، إن الفاعل المتعوب ينتظر أن يأخذ حقوق أجرته، ويلي فإن لساني يتعب في تلاوة التمجيد، لا تجازيني نظير أعمالي بل خلصني بنعمتك، وترأف عليَّ بتحننك فإنك أنت هو المبارك والممجد إلى الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
11 ديسمبر 2020

ميلاد المسيح وميلاد الإنسان

وُلِدَ المسيح من روح الله القدوس، ومن عذراء لم تعرف رجلاً تُدعى مريم، فكان ميلاداً إلهيّاً، لم يحدث له نظير قط لا من قبل ولا من بعد! سبق أن تحدَّثَتْ عن هذا الميلاد الأسفار المقدَّسة، وجميع الأنبياء تنبَّأوا عنه بآياتٍ كثيرة، وكانت الحوادث كلها تتَّجه نحوه، وتنتهي إليه، حتى الزمن قيل إنه سيبلغ مِلأَه يوم مجيئه، وقد كان، فبُدئ بالتاريخ جديداً منذ الميلاد. وهكذا لم يكن المسيح نبيّاً ليتنبَّأ عن مجيء أحد آخر، ولا رسولاً ينتهي عند تكميل رسالته، بل كان هو «كلمة الله» صار جسداً، صائراً في صورة الناس آخِذاً شكل العبد! (في 2: 7)، وعاش كإنسان بين الناس، ودَعا نفسه «ابن الإنسان». ولكنه كان ذا مجدٍ إلهي، رآه أخصَّاؤه رؤيا العيان مجداً فريداً «مجداً كما لوحيدٍ من الآب» (يو 1: 14). وهو قال عن نفسه: إن الله أبوه (يو 5: 18). والله ناداه من السماء على مسمعٍ من تلاميذه: «هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا» (مر 9: 7). ولكنه وَضَعَ نفسه كالعبد، اختياراً، باتضاعٍ عجيب ومُذهل، حتى يرفع كل العبيد إلى درجة بنوَّته!! «لا أعود أُسمِّيكم عبيداً... لكني قد سمَّيتكم أحبَّاءَ لأني أَعْلَمتُكم بكلِّ ما سمعته من أبي» (يو 15: 15)، وأخلى نفسه قدر ما أمكنه من كلِّ مجدٍ ظاهر حتى يتفرَّغ لشركة الآلام مع الناس، هذه الآلام التي وُلد خصيصاً لكي يحملها عنهم كاملة، ليرفع لعنتها عن بني الإنسان، ويُتوِّجها في النهاية بموتٍ اختياري، قَبِلَه كقضاء دين وحُكْم تأديب، عن كلِّ خطاة الأرض، ليهبهم بموته براءة. وهكذا لم يَعُد الموت للإنسان قضاء دَيْنٍ وحُكْمَ تأديب عن خطية وعن إثم وتعدٍّ، بل حُكْم براءة وكفَّارة! وقام المسيح من بين الأموات بمجد وجلال ومشيئة سبق أن أعلن عنها، فأَعطى للإنسان بالقيامة قوَّة الغلبة على الموت، وطبيعة الحياة الجديدة الممتدَّة مع الله بعد الموت وإلى الأبد، يستمدُّها الإنسان من المسيح وبروح الله منذ الآن كعربون لِمَا هو آتٍ. فأصبحنا، ونحن الآن في قيامة المسيح، لا يمنعنا الموت عن البقاء في حياةٍ مع الله لا تزول. هكذا احتضن المسيح العالم كله بآلامه وموته وقيامته، فوَهَبَ الإنسان ميلاداً جديداً في ميلاده، وآلاماً شافية بآلامه، وموتاً بموته، وقيامة مُبرَّرة لحياةٍ أخرى أبدية. أو بمعنى آخر، فإنَّ المسيح جعل الإنسان خليقةً جديدة روحية بعد أن كانت خليقةً ترابية وحسب. وصارت حياة الإنسان مُمتدَّة في الله إلى مالان‍هاية. وبالتالي، لم يَعُد تراب الأرض أو الجنس أو اللون أو العنصر الذي ينحدر منه الإنسان، سبب فخر أو علَّة عار فيما بعد! فالإنسان، كل إنسان، قد تجنَّس بالمسيح، وبالتالي بالله في المسيح!! ولم تَعُد المرأة من دون الرجل، ولا العبد من دون الحُر، ولا الفقير من دون الغَني، ولا الجاهل من دون الحكيم، لا كأن‍ها حقوق إنسان تؤخذ بالمنطق أو تؤخذ غِلاباً؛ بل هي عطية الله للإنسان بميلاد المسيح، إذ رَفَع البشرية فيه إلى درجة بنوَّته، فصار الكل أبناء الله يُدْعَوْن!! والبنون متساوون في كلِّ شيء. لقد وُلِدَ الإنسان جديداً يوم ميلاد المسيح، لميراث أبوي محفوظ له في السموات، لفرح لن يُن‍زع منه، ومجد لا يُنطَق به. هو عطاءٌ مجَّاني للإنسان الذي شبع شقاءً عَبْر الدهور، فكما كان ميلاد المسيح أعظم هبات الله للإنسان، هكذا صار لنا هذا الميراث معه في السماء كعطية مجَّانية، كالشمس والهواء للخليقة الترابية، فمَنْ ذا يشتري الشمس أو مَنْ ذا يبيع الهواء؟ هكذا الله في المسيح لا يبيع برَّه بثمن، ولا قيامته ولا ميراثه في المجد. كل مَنْ يسأل يأخذ، ومَنْ يطلب يجد، ومَنْ يقرع يُفتَح له (لو 11: 10). بل وأكثر من ذلك، فإنه يسبقنا إلى باب السؤال عينه: «هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إنْ سَمِعَ أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي» (رؤ 3: 20). إن بنويَّة الله للإنسان قد صارت مَشاعاً على وجه الأرض كلها لكل بني الإنسان، في ميلاد المسيح! + ( + البشرية لم تستوعب ميلاد المسيح بعد، بمعناه الـ ”فوق بشري“، لأن عقلها صار لها فخّاً وعثرة، غير أن‍ها تسير وتتحرَّك نحو هذا الميلاد بحركة تفوق وعيها. فالبشرية يشدُّها إلى أعلى صوتٌ مُبهَم يُقلقها من الداخل ويضطرم فيها اضطراماً، تُعبِّر عنه بمفهومات تنطقها دون أن تكتشف بعد مصدرها العلوي، وتُخرجها كصيحات ترتفع من كل أقطار الأرض معاً وفي نَفَسٍ واحد. فالكل يُنادي بضرورة وحتمية السلام، سلام على مستوى العالم كله!! وحقوق الإنسان لكل إنسان!! وحرية الشعوب، والرأي، والتعبير، والعبادة، وحق تقرير المصير، وعدم الانحياز، ورفع الفوارق بين الطبقات والحياة الأفضل. هذه ليست مجرَّد شعارات، كما يظنُّها رَجُل السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الدِّين، ولكنها خصائص الإنسان الجديد الذي يتعطَّش إليها، لأن‍ها وُهِبَت له لتكون جزءاً حيّاً من كيانه وطبيعته العُليا الجديدة، بدون‍ها كأنَّ الإنسان في شِبْه نوم يجلس في الظلمة وظلال الموت مُذَلاًّ بقيود كأن‍ها من حديد، حتى أشرق عليه نور الله يوم ميلاد المسيح: «أنا هو نور العالم، مَنْ يتبعني فلا يمشي في الظلمة» (يو 8: 12). لأن في المسيح تنازَل الله إلى أعماق كيان الإنسان وأضاء بحبِّه وقداسته كلَّ ظلام طبيعته، وبدَّد كلَّ أحزانه، وقطع كلَّ قيوده وأوهامه، وأعطاه كلَّ ما يتناسب والحياة الأفضل، ونعمة فوق نعمة (يو 1: 16)؛ كل خصائص الإنسان الجديد. وطالما شعر الإنسان أنه فاقدٌ لهذه الصفات، فسيظل حائراً قلقاً، بل ثائراً مُتمرِّداً على كلِّ وضع، لا يفتأ يطلبها بإلحاح ويُحطِّم في سبيلها كلَّ القيود، لأن‍ها روحه الجديدة التي لن يستطعم للحياة بدون‍ها أي معنى. وإن كانت هذه الخصائص التي يُنادَى بها الآن تبدو كأن‍ها مجرَّد حقوق أو أصالة إنسانية أو حق وطني أو تقدُّم حضاري أو افتخار بشري، إلا أنها في حقيقتها تظل تعبِّر تعبيراً خفياً عن امتداد روح الإنسان الجديد نحو الله، والتهيُّؤ المناسب للتلاقي معه على مستوى ميلاد المسيح! المسيح وُلِدَ بجسد من روح الله ومن عذراء؛ جسد إلهي هو، مقدَّس، ممتد، لا حدود له، يشمل البشرية كلها بالتبنِّي؛ فقد قيل في الكتاب إن المسيح هو ”آدم الثاني“، رأس البشرية الجديدة، كل مَنْ قَبِلَه واعتمد باسمه، يولَد له بالروح ويصير ابناً لله فيه! المسيح، إذن، هو رأس البشرية الجديدة بالتبنِّي! لذلك يقول الكتاب: إنه «آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد» (عب 2: 10). هؤلاء في حقيقتهم الروحية هُم جسده الكبير الممتد ليُغطِّي كل أجيال الدهور في السماء والأرض. يقول بولس الرسول عنهم وعنه هكذا: «ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات وما على الأرض، في ذاك» (أف 1: 10). ولكن المسيح لم يبلغ بعد إلى ملء قامته في الإنسان! لأن البشرية لم تبلغ بعد ملء قامتها في المسيح. البشرية إلى الآن تنمو فيه مجرَّد نموٍّ، ولكن لم تكتمل صورت‍ها النهائية لتُطابق صورة المسيح. المسيح بدأ يتصوَّر في الشعارات فقط، وكأن البشرية ”تتوحَّم“ بصورة جنينها الجديد، ولكنها في نفس الوقت تتقيَّأ، وباستمرار، تراثها الميت الذي عافته. فهي الآن في توتُّر بلغ أقصاه: حروب، نزاعات، مجاعات، عداوة، خصام، تحزُّب، تكتُّل، تحدٍّ، حرمان، تجويع، فقر، إباحية، ثورة على التقليد والعفة والروتين والدِّين، وعلى الله نفسه. لماذا هذا التقيُّؤ كله؟ نعم، لماذا هذا كله معاً وفي جيلٍ واحد؟ أليس هذا لأن البشرية تجوز الآن مخاضها الأخير؟ إن‍ها تصرخ متوجعة: «لأن الأجنَّة دَنَت إلى المولد، ولا قوة على الولادة!» (إش 37: 3) البشرية تصرخ بشعارات‍ها الجديدة وكأن‍ها ت‍هذي: سلام عالمي، سلام سلام وليس سلام! مؤتمرات كل يوم في كـل مكان وبلا هدوء، ما هذا؟ البشرية تريد أن تتغيَّر عن شكلها، ولكن لا يسعفها ميراثها التقليدي، سياسياً كان أو اجتماعياً أو اقتصاديّاً أو حتى الدِّيني!! لأن كل ميراثها أصبح يعوزه الروح. لقد تعفَّن القديم كله وأنتن، وقارَبَ على الاضمحلال، وأصبح لا يُشبِع البشرية ولا يُغنِي عن جوع، وليس أمل، في الواقع، إلاَّ في ميلادٍ جديد لبشرية جديدة تولَد من الروح!! هذه هي الحياة الفُضلَى! ولا يمكن أن تكون حياة أفضل من حياة إلاَّ بمقدار عمل الروح، روح الله في التجديد. فالسياسة يعوزها الروح، والاجتماع والاقتصاد والدِّين وكل ضوابط البشرية، إذا لم يضبطها الله بروحه عاملاً في عمق كيان الإنسان بتجديدٍ يشمل الفكر والضمير العالمي، لأَخَويَّة على الأرض تستمدُّ روحها وأصالتها من بنويَّة واحدة لله؛ فسيظلُّ الإنسان يتقيَّأ نفسه. وأي شعار مهما أتقنه ونفَّذه، إنْ هو كان خالياً من روح الإنسان الجديد، أي من عمق معنى التبنِّي؛ فسيخرج هذا الشعار سَقْطاً ميتاً. فالسياسة، مهما ارتقت، إنْ هي لم تَرَ في جميع الأجناس والألوان والشعوب والأوطان أبناءً متساوين لله الواحد، لهم حقوق متساوية في أرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة، فهي سياسة أرضية ميتة وسَقْط ممسوخ متكرر لتقليد ترابي عافَه الإنسان جدّاً وتقيَّأه، وأصبح لا يطيق أن يسمع عنه أو يقرأ له! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
10 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إسحق

"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31 مقدمة لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية: إسحق.. من هو؟!! إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!!على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!.. إسحق وقصة السلام مع الناس وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني: إسحق وأخوه كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!..إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!.. إسحق وأبوه كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، ‎.. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، ‎.. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!.إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!.. إسحق وولداه وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، ‎.. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،..هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!.. إسحق والعالم الخارجي ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن ‎الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!..فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!! إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً"..كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ‎، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى..لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!..لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل