المقالات
21 نوفمبر 2020
المقالة الثامنة عشرة في استعداد العابد للأجل وملازمته القراءة والسكوت
إن سيرة الصديقين لبهية ؛ وكيف صارت بَهية جميلة إلا بالصبر، فحب الصبر أيها العابد بما أنه أم الشجاعة، أما المترنم داود فطوب قائلاً: ” أصطبر للرب وأحفظ طريقه “. وأما بولس فيعلم كيف تقتنى هذه الفضيلة بقوله: ” إن الحزن يصنع صبراً “.فإذا تصرفت في هذه الفضيلة تجد الرجاء ينبوع الصالحات، والرجاء لن يخزى، فأخضع الآن للرب، وتضرع إليه، فتصادف من هذه ما يتلوه فيعطيك كافة مسائلات قلبك.فماذا يكون أسعد غبطة من هذا، أن تقتني سمعاً من الملك هكذا صارخاً بوداعة، من ذا لا يؤثر أن تكون مسامع القاضي مفتوحة وسامعة له، أنت أيها الأخ فاعل الفضيلة أستأجرك المسيح لكرمه فما دام لك وقت أعمل الصلاح.أسمع بولس الرسول قائلاً: ” مهما زرعه الإنسان إياه يحصد “. أزرع في الروح فتحصد حياة أبدية، لأنه زعم من يزرع في جسده من جسده يحصد بلاء.أسمع الواعظ النصوح قائلاً: ” ازرعوا في ذاتكم العدل فتقطفون ثمر الحياة “.لا تسأم من العمل إذ تشاهد قدامك الرجاء، لأنه حيث الجهادات فهناك رايات الغلبة، وأين ما تكون الحروب فهناك الكرامات، وحيث ما يكون الصراع فهناك الأكاليل، فإذ تشاهد هذه الفوائد فروض نفسك بالصبر.أصرخ مع ذاتك كل حين مع القديسين قائلاً: تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب. هيئ للانصراف أعمالك وأستعد في الحقل، فالحقل هو هذا العالم، خذ مثالاً نافعاً العهد العتيق والعهد الجديد.سيج حول قطعانك بالأشواك، متكاتفاً بالصوم والصلاة بالتعليم إن كان لك مثل هذا السياج، فلا يدخل الوحش أعني المحال.فلح نفسك مثل كرم جيد، وكما أن محافظي الكروم يصفقون بأيديهم ويزعقون بصوتِهم ويُعرِّفون بذلك الذين يغتالونَهم، كذلك أهتف أنت بالصلاة، وكبر بالترنيم، فتطرد الثعلب الوحش الخبيث الذي هو المحال، الذي عنه يقول الكتاب: ” اقتنصوا بذاتكم ثعالباً صغاراً…. الخ “.صد العدو كل حين، إن رشق قلبك بشهوة قبيحة، إن رمى بمقلاع نفسك، وزج فيها أفكاراً دنسة، فأنصب نحوه ترس الأمانة، وألبس خوذة الرجاء، وأستل سيف الروح الذي هو قول اللـه، وإذا تسلحت مقابل العدو فأصبر ولا تسأم في الحرب.فُقْ في كل شيء، وقل: أنا لا تخفى عني معقولاته، أفرح في كل حين كما كتب قائلاً: فليعرف كافة الناس دعتكم، وليبرق تقوى اللـه في قلبك. لا تكن جندياً طارحاً سلاحه، ولا فاعلاً جباناً وعاجزاً. لا تَهرب من الأكاليل، فالعمر قصير والدينونة طويلة، تبصر في هذه أيها العابد.أصرخ بقلبك وقل مع القديسين: “تشجع وليتأيد قلبك وأصبر للرب”.شابه داود برميه حجر واحد مع المحارب، فالملائكة وقوف يبصرون سيرتك. لأننا قد صرنا مشهداً للعالم والملائكة والناس، فإن رأوك تقوِّم الفضيلة ظافراً يُسرون، وإن رأوك مغلوباً ينصرفون مقطبين، لأنَهم لا يحتملون أن يشاهدوا الشياطين يقهقهون عليك.
أخرط عوض السيف مخافة اللـه، لأن خشية اللـه هي كسيف ذي حدين يقطع كل شهوة خبيثة.فأتخذ في عقلك كل وقت خشية اللـه، متذكراً في عقلك اليوم الأخير المخوف، حين تضطرم السماوات وتنحل، وتحترق الأرض وكافة الأعمال التي فيها، حين تنتشر النجوم كالورق، والشمس والقمر يظلمان، ولا يمنحان ضوءهما.حين يظهر ابن اللـه وينحدر من السماوات إلى الأرض، وقوات السماوات تضطرب حين يتسارع إحضار الملائكة، وتتواتر أصوات الأصوار، وقدامة نار محرقة جارية عدواً تنظف المسكونة، وحوله زوبعة شديدة حين تصير زلازل مرهبة، وبروق لم تصر أبداً ولن تصير إلا في ذلك اليوم، حتى قوات السماوات يشملهم الرعب والرعدة.فكيف مزمع أن نكون يا إخوتي ؟ أية خشية أو أي رعب يشملنا ؟ تأمل يا أخي بني إسرائيل في البرية، أنَهم ما استطاعوا أن يحتملوا الضباب والظلام وخوار الأصوار، وصوت المتكلم في وسط النار، بل أبو أن يزيدهم كلمة.
لأنَهم بالحقيقة ما احتملوا ما كان بازائهم، ومع هذا أنه لم ينحدر بغضب، ولا خاطبهم بسخط بل بتسلية محققاً عندهم أن الذي معهم هو الإله.أسمع إذا يا أخي إن لم يستطيعوا احتمال وروده الذي كان بتسلية حين لم تلتهب السماوات وتنحل ؛ وما الأرض وما فيها احترقت ؛ ولا ضربت الأصوار شديداً كما يزمع هو أن يتوق ذلك الصور فينبه الراقدين منذ الدهر، ولا ظهرت نار تغسل كافة المسكونة، ولا صار شيء من الخوف العتيد أن يصير، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يحتملوا.فماذا نصنع إذاً، إذا أنحدر بغضب وغيظ لا يقاسان، وجلس على عرش مجده، وأستدعى الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربِها، وكافة الأقطار إلى محاكمة شعبه، ليجازي كل أحد نظير أعماله.الويل لنا، كيف سبيلنا أن نكون حين نمثل عراة بادية أعناقنا ؛ مزمعين أن ندخل إلى الموقف المرهوب، أفِّ أين حينئذ شجاعة البشرة ؟ أين الجمال المزور الغير نافع ؟ أين التذاذ الناس بالآلام ؟
أين حينئذ الدالة الموقحة الفاقدة الحياء ؟ أين حينئذ زينة الثياب ؟ أين وقتئذٍ لذة الخطيئة النجسة ؟ أين حينئذ المحتسبون أن الزنا بالذكور لذة ؟ أين حينئذٍ الذين كانوا يشربون الخمر على الطبول والأغاني الموسيقية، ولا يعاينون أعمال الرب ؟ أين حينئذ العائشون بالنفاق والتواني ؟ أين حينئذٍ التنعم والبطر ؟. كل تلك عبرت وزالت وانحلت بمنزلة الرياح.
أين محبة الفضة وحب الاقتناء ؟ أين الكبرياء النافرة الإنسانية الرافضة الكل، المحتسبة ذاتِها وحدها أنَها شيء ؟ أين وقتئذٍ الشرف الفارغ الباطل والمجد الإنساني ؟ أين التمرد ؟ أين الملك ؟ أين الرئيس ؟ أين المدبر ؟ أين السلطان ؟ أين المتبدخون بكثرة الغنى ؟ والمتهاونون باللـه ؟.
هناك إذا أبصروا يتعجبون هكذا، ويقلقون ويتزلزلون، ويشملهم الرعب والمخاض كالتي تلد، ويسحقون بريح عاصف.
أين حينئذٍ حكمة الحكماء ؟ أين مكرهم الباطل ؟ اضطربوا وناموا كالسكارى وابتلعت كافة حكمتهم، أين حينئذٍ الحكيم ؟ أين الكاتب ؟ أين الملتمس هذا الدهر الباطل ؟
يا أخي ردد الفكر كيف سبيلنا أن نكون إذا طولبنا أن نؤدي جواباً عن الأعمال التي عملناها ؛ إن كانت صغاراً أم كباراً، لأنه على كلمة بطالة سنعطي القاضي العادل جواباً. كيف يجب أن نكون لنجد في تلك الساعة نعمة أمامه ؟ وأي فرح يستقبلنا إذا عُزلنا عن يمين الملك.
كيف نزمع أن نكون إذا سلم علينا الصديقون وصافحونا ؟ هناك يقبلك إبراهيم واسحق ويعقوب، وموسى وداود وباقي الأنبياء، والرسل والشهداء وجماعة القديسين الذين أرضوا اللـه في حياة أجسادهم، وجماعة الذين سمعت هنا سيرتِهم وتعجبت منها وكنت تريد أن تعاينهم، هم يجيئون إليك هناك فيقبلونك ويسلمون عليك مبتهجين بخلاصك.
كيف تكون حينئذٍ ؟ وكيف هو ذاك الفرح الذي لا ينعته وصف، إذا قال الملك للواقفين عن يمينه ببشاشة: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم “.
فحينئذٍ يا أخي تأخذ ملك حسن البهاء ؛ وتاج الجمال من يد الرب، وتملك مع المسيح، وترث الخيرات التي أعدها اللـه للذين يحبونه، وتكون بلا هم ؛ ولا يذهلك حزن.
تفكر يا أخي ما هو التملك في السماوات، والملك مع المسيح الذي هو معاينة وجهه الأقدس كل حين، وأنه هو يكون لك نجماً، لأنه في ذلك الحين تعطيك الشمس لا أنواراً للنهار كما قال إشعياء، ولا القمر يضئ لك بالليل، لكن الرب يكون لك نوراً أبدياً، والإله مجدك.
أنظر يا أخي أي شرف ومجد قد أعد للذين يتقونه وللحافظين وصاياه ؛ وأفتكر في هلاك الخطاة إذا دخلوا إلى المجلس الرهيب، أي خزي يشملهم أمام القاضي العادل حين لا يكون لهم جواب اعتذار.
أي خجل يكتنفهم إذا افرزوا إلى يسار الملك، أي ظلمة تسقط عليهم إذا كلمهم بسخطه، وأقلقهم بغضبه قائلاً: ” انصرفوا عني أيها الملاعين إلى النار الأبدية المعدة للمحال ورسله “.
بأي ندب يولولون منتحبين نائحين ؛ مساقين ليعذبوا إلى الدهور التي لا أخر لها، كيف مكان البكاء وصرير الأسنان الذي يفرق منه الشيطان نفسه ؟ كيف جهنم النار ؟ كيف الدود الذي لا يرقد ونفثات السم ؟
ما أصعب تلك الظلمة البرانية، كيف الملائكة الموكلون بعذاب الغير رحومين يعيرون ويقرعون بجفاوة، يزعق المعذبون بدوام وليس من يخلصهم، والرب لا يستجيب لهم.
وحينئذٍ يعرفون أن كل أمور العالم باطلة، والأشياء التي ظنوها هنا مستلذة وجدوها أمر من المر والصدى.
أين حينئذ لذة الخطيئة المسماة لذة كاذبة ؛ لأن ليست لذة إلا مخافة الرب ومحبته، وبالحقيقة هذه اللذة تملأ النفس وتشبعها شحم وسمن.
حينئذ يعرفون ذاتِهم، والأفعال التي فعلوها، ويعترفون أن حكومة اللـه مقسطة قائلين: أننا سمعنا بِهذا، ولم نشاء أن نرجع عن أعمالنا الخبيثة. فلا ينتفعون من هذه إذا قالوها.
ويلي ويلي أنا المقتنص بخطايا لا تقاس، لأنني أخطأت أكثر من عدد رمل البحر، وقد انحنيت تحتها كما من حمل حديد، وليس لي دالة أتفرس وأبصر علو السماء.
إلى من ألتجئ إلا إليك أيها المحب للإنسان، إلا إليك أيها المحتمل السوء، ألهم ارحمني كرحمتك العظمى، وككثرة رأفاتك أمح أثمي، أغسلني كثيراً من ذنوبي، وطهرني من خطيئتي.
فأنني عارف أثمي، وخطيئتي أمامي كل حين، إليك وحدك أخطأت، وقدامك صنعت الإثم، فإذ صنعته ألتجئ إليك بما أنك عديم الحقد، إياك خالفت، وإليك لجأت من أجل كثرة خيريتك وتعطفك.
وأتوسل هاتفاً أعرض بوجهك عن خطاياي، وأمح كافة آثامي من أجل اسمك، لأن ليس لي شيئاً أقربه إليك، لا عملاً صالحاً، ولا قلباً نقياً، لكنني أثق برأفاتك، وأطرح ذاتي أمامك، لكي ما تجدد فيَّ قلباً نقياً، وتوطدني بروح رئاسي حتى لا أتكردس بسهولة في الخطية بل أعبدك منذ الآن ببر وعدل كافة أيامي، لأنه إياك تسبح كافة قوات السماوات، ولك المجد والعز إلى الدهور.
فأطلب إليكم إذاً يا إخوتي، بما أن هذه الأشياء تنتظر، فلنسارع لنكون عنده بسلامة غير مدنسين ولا عيب فينا.
إذا وافتك شهوة خبيثة أو فكر ردىء، فأستل هذا السيف الذي هو التفكر في مخافة اللـه، فيقطع كل قوة العدو.
عوض البوق لك الكتب الإلهية، لأنه كما أن البوق إذا ضُرب يجمع الجند، هكذا الكتب الإلهية إذا هتفت إلينا تجمع أفكارنا إلى مخافة اللـه، لأن أفكارنا مثل الجند الذين يحاربون أعداء الملك.
وأيضاً كما أن البوق إذا ضُرب في وقت القتال يُنهض نشاط المجاهدين الشجعان على الذين يقاتلونَهم، هكذا الكتب الإلهية تستنهض نشاطك إلى الخير، وتشجعك على الآلام.
فلذلك يا أخي كلف ذاتك بكل طاقتك أن تقرأها بمداومة، لتقرع أفكارك التي شتتها العدو برداوة صناعته وسوء حيلة، لأنه ينشئ نتائج خبيثة، وربما يجلب أحزاناً أو رفاهية وسعة كثيرة، لأنه يصنع هذه بمكره وخبثه حتى يغرب الإنسان من اللـه.
لأنه إذا صارع إنساناً بالأفكار، ولا يستطيع أن يقهره ويحطمه، فحينئذٍ يجلب غموماً لكي ما يسود ذهنه ويظلمه، فيجد فسحة أن تزرع المقاصد التي يؤثرها، ويبدي أن يخطر للإنسان فيقول بأقسام: أنني منذ صرت أعمل الخير رأيت أياماً رديئة، فأعمل إذاً المساوئ لكي ما تجئ الخيرات. فحينئذٍ إن لم يكن الإنسان مستفيقاً يبتلعه كالهاوية حياً.
فإن لم يمكنه بِهذه أن يقتسره، يجلب له حينئذٍ السعة، ويعليه ويطغيه بالسعة التي هي أصعب وأشر كافة الآلام، لأنَها تجعل الإنسان متكبراً لا يتقي اللـه، تجذب العقل وتسحبه إلى قعر اللذات. وتصيره أن يجعل في السماء فم التجديف، لأنه قد كتب ” جعلوا أفواههم في السماء “.
هذه تجعل الإنسان لا يعرف اللـه، ولا يعرف ضعف طبيعته، ولا يوم الوفاة، هذا طريق كافة الشرور، من يحب أن يمشي في هذا الطريق يصل إلى أبواب الموت، هذه هي الطريق التي قال عنها الرب أنَها عريضة واسعة مؤدية إلى الهلاك.
فها قد سمعت يا أخي أن العدو يجلب وقتاً سعة ووقتاً غموماً وضيقة، فالشىء الذي يختبر به نية الإنسان ويراها جانحة إليه يحاربه بِها.
فلذلك تيقظ يا أخي بتحرز وحرص دائماً أن تلاصق قراءة الكتب الإلهية، ولا تفصل ذاتك منها، لتتعلم كيف يجب أن تَهرب من فخاخ العدو، وتستدرك الحياة الأبدية.
لأن قراءة الكتب الإلهية تسلي القلب الحقيقي، فلذلك لا تتوانى في نفسك بل ثابر على القراءة والصلوات، وأشتغل بَها ليستضئ ذهنك وتصير تاماً كاملاً لا ناقصاً.
آخرون يتفاخرون بمخاطبة الرؤساء المعظمين والملوك، فأفتخر أنت أمام الملائكة بأنك تخاطب اللـه بالروح القدس بالكتب الإلهية، لأن الروح القدس هو المتكلم بِها.
فأحرص إذاً أن تفاوض الكتب الإلهية، وواظب على الصلوات، لأنه بمقدار ما تخاطب اللـه بِها يتقدس جسمك ونفسك وروحك.
فأعرف هذا أنك تتقدس بمقدار قراءتك واستماعك، وأحرص أن تفاوضها بمداومة، وإن كانت يداك مشغولتين فصلي بذهنك، فإن حنه المغبوطة صلت، فشفتاها كانتا تتحركان فقط، وأما صلاتِها فدخلت في مسامع الرب الصباؤوت، لأنه أعطاها سؤالها.
فلهذا إن كانت يداك مشغولتين، فأتلُ بذهنك، فإن اللـه يستمع من الساكتين.
وإن كنت لا تعرف أن تقرأ، فأذهب إلى حيث تسمع وتنتفع دائماً، فأنه قد كتب: إذا رأيت إنساناً فقيهاً فادلج ( أسرع ) إليه، ولتسحق قدماك درج ( سُلَم ) أبواب منزله.
وهذا يا أخي يفهمه لا الذين يعرفون أن يقرءوا فقط بل والذين لا يعرفون معاني الأقوال التي يقرءونَها.
أحذر أيها العابد أن تتوانى في الموهبة التي مُنحتها من المسيح، لكن أحرص وأطلب كيف ترضيه، وتنال تطويب القديسين، فقد كتب: مغبوطون الذين يفحصون شواهده ويتبعونه بكل قلوبِهم.
وأحذر أن يقطعك العدو إذا عزمت أن تقرأ، إذ يجلب عليك الضجر ويلقيك في تغلبات يسحب بِها ذهنك إلى كل جهة ويقول لك: أعمل هذا الأمر ما دام عمله يسيراً ثم أقرأ بلا اهتمام.
فيبتدئ يخطر لك هذه، ويمنحك نشاطاً في عمل اليد ليشغلك بِها، ويعوقك عن أن تقرأ وتنتفع، لأنه إذا رأى أخاً يداوم القراءة وينتفع بِهذه الحجج وأكثر منها يجتهد أن يعيقه، فلا تذعن له، وصر كالآيل الذي يعطش ويشتاق أن يجئ إلى عيون المياه أي الكتب الإلهية لتشرب منها وتبرد عطشك الملتهب فيك بالآلام.
ولاتركنَّ أن أصف لك المنفعة الصائرة من القراءة، فكما قلت: إذا منحك اللـه أن تعرف منها كلمة لا تُهملها تعبر عنك، بل أتلوها درساً، وأكتبها في قلبك، وأحفظها في حاسة ذكرك غير ممحوة.
فقد كتب: ” أني أتلو حقوقك “. وأيضاً: ” خبأت في قلبي أقوالك لكي لا أخطئ إليك “. وأيضاً: “بماذا يقوم الشاب سبله؟ بحفظه أقوالك”.
أرأيت أيها الأخ أنه بتكرار أقوال الرب يقوَّم طريق الإنسان، لأن من ذا يتذكر أقوال الرب فلا يتقوم، اللهم إلا إن كان غير مختبر وشقي، فمثل هذا لا يذكر بالجملة بل والذى يشعر أنه يذكره ينساه.
ولمثل هذا يقول اللـه: ” لم تُحدث بحقوقي وتأخذ بفمك ميثاقي “. ويأمر أن ينزع منه الشىء الذي يظنه له، فماذا يظن في ماله ؟ يظن أن له أمانة لأنه يدعى مسيحياً، وبأفعاله يجحد ذلك، فهو أشر من الكافر.
فلذلك يأمر أن ينتزع ما له من الروح القدس، الذي أخذه في يوم الافتداء، فيصير ذلك الإنسان بمنزلة جرة نبيذ، ترشح رشحاً كثيراً، وبرشحها تضيع النبيذ.
فكافة الذين يبصرونَها ولا يعرفون الأمر الصائر، يظنون أنَها مملوءة، فإذا فتشت حينئذ يظهر للجماعة أنَها موضوعة فارغة.
هكذا ذلك الإنسان إذا أختبر في يوم الدينونة المهول، وصودف مصفراً حينئذٍ تصير أموره ظاهرة للكل، ونظيره الذين في ذلك اليوم يقولون للملك: أيها الرب أليس باسمك تنبأنا وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فيجيب الملك ويقول لهم: حقاً أقول لكم لست أعرفكم.
أرأيت أيها الأخ أن مثل هذا ليس بالجملة شيئاً، فتذكر أنت إذاً الأقوال التي سمعتها وقوم طريقك، أحذر أن تدع النسيان أن ينحدر فيخطفها من قلبك، أحذر أن تترك الطير الخبيث ينزل فيأكل زرع ابن اللـه، فإنه هو قال: أن البذار هو القول الذي سمعتموه.
أخفِ البذار في بطون الأرض لكي ما يثمر، أي أخفِ قول التعليم في صميم قلبك ليثمر للـه بالتقوى، فإذا قرأت أقرأ باهتمام وتعب، وأعبر في الفصل بثبات كثير، ولا تسر في تقليب الورق فقط، فإن كانت الحاجة ماسة فلا تعجز أن تكرر الفصل مرتين وثلاثة ومراراً كثيرة لتفهم قوته.
وإذا عزمت أن تجلس لتقرأ، فأطلب أولاً إلى اللـه قائلاً: يا ربي يسوع المسيح أفتح مسامع قلبي وناظري لأسمع أقوالك وأفهمها، فأصنع مشيئتك، فأنني ساكن في الأرض، فلا تكتم عني وصاياك. أكشف حجاب عيني، فأتأمل عجائبك من شريعتك، لأنني عليك أتوكل يا إلهي أن تضئ قلبي. نعم يا أخي أطلب إليك أن تبتهل إلى اللـه كل حين هكذا، لكي ما يضئ عقلك، ويوضح لك قوة أقواله.
فإن كثيرين ضلوا إذ وثقوا بذهنهم، وزعموا أنَهم حكماء فحمقوا، وإذ لم يتفطنوا ويفهموا المكتوبات تكردسوا في التجديف وهلكوا.
وإن وجدت في كل قراءتك كلمة مستعجم فهمها، فأحذر أن يعلمك الخبيث أن تقول في ذاتك ليس هكذا المعني كما يذكر هذا القول، لأنه كيف يمكن أن يكون هكذا أو نظيره.
لكن إن كنت تؤمن باللـه فصدق أقواله، وقل للخبيث: أنصرف ورائي يا شيطان فإنني اعرف أن كلمات اللـه كلمات طاهرة فضة محماة مصفاة سبعة أضعاف، وليس فيها شئ صعب ولا معوج، لكنها كلها ظاهرة للذين يفقهون، ومستقيمة لذوي العلم.
وأنا إذ لا فهم لي لست اعرفها، أنا اعرف أنَها مكتوبة بمعنى روحاني لأن الرسول يقول: إن الناموس روحاني.
ثم بعد هذا ارفع طرفك إلى السماء وقل: يارب أنا أصدق أقوالك ولا أقاومها بل أني أرتضي بأقوال روحك القدوس، أنت يارب خلصني لأجد نعمة أمامك، أنا لست ألتمس شيئاً آخر إلا أن أخلص فقط وأنال رحمتك أيها المتحنن. لأن لك الملك والمجد والعز والاقتدار إلى الدهور. آمين.
أقتنِ السكوت أيها الأخ بما أنه سور حصين، لأنه يجعلك أعلى من الآلام. فأنت تقصد في الاستعلاء، والآلام تروم إحدارك إلى أسفل، فأقتنِ السكوت بمخافة اللـه، فلا تصل إليك كافة نبل العدو ولا تضرك.الصمت المقترن بمشيئة اللـه هو مركبة نارية من أقتناها يصعد إلى السماء، ويقنعك بذلك إيليا النبي كيف أحب السكوت وتقوى اللـه فصعد إلى السماء. يا للسكوت نجاح العُبَّاد، يا للسكوت السُلَّم السماوي، السكوت طريق ملك السماء، السكوت أم التخشع، السكوت مسبب التوبة، السكوت مرآة ترى الخطايا، موضح للإنسان ذنوبه، سبيل الدموع، والد الوداعة، مسكن للتواضع.يجيب الإنسان إلى الترتيب السلامي، مقترن بمخافة اللـه، منير الذهن، جاسوس الأفكار، ومحتسب الإفراز، والد كل خير، توطيد الصوم، ومعوق هيام البطن، مسبب المثابرة على الصلاة والقراءة، سكون الأفكار، وميناء صاحي، جاعل النفس بلا اهتمام.نير صالح ووقر خفيف ينيح ويحمل من يحمله، سرور النفس والقلب، لجام العينين والسمع واللسان.يا لك من سكون مبغض العربدة وعدو الوقاحة، أم الوداعة سجن الآلام، مؤازر كل فضيلة، مسبب هجر الاقتناء، حقل المسيح المثمر الأثمار الصالحة، مقترن بخشية اللـه، سور وحصن للمريدين أن يجاهدوا من أجل ملك السماوات.نعم أقتنِ يا أخي هذا الحظ النفيس كما اقتنته مريم ولن ينتزع منها.أرأيت أيها الأخ ما قدر السكوت، وكيف الرب يمدح من أقتناه، أقتنيه فتتنعم بربك جالساً عند رجليه ملتصقاً به وحده وقل بدالة: لصقت نفسي وراءك وإياي عضدت يمينك، من أجل هذا تمتلئ نفسي كأنَها ممتلئة من شحم ودسم.أقتنِ هذا السكوت فإنه أحلى من العسل، لأن خبزاً وملحاً في سكوت أفضل من تنضديد ألوان الأغذية الفاخرة بِهم وحزن.أسمع القائل: تعالوا إليَّ يا معشر المتعوبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.فالرب يشاء أن يريحكم من الهموم والغضب والأتعاب، وغموم هذا الدهر، يشاء أن تكون بلا هم من عمل لبن مصر، يريد أن يدخلك البرية أي السكوت، ليضئ سبلك بعمود السحاب لكي يطعمك المن أي خبز السكوت وعدم الهم، ويورثك الأرض الصالحة أعني أورشليم التي في العلا.نعم يا حبيبي حب السكوت وإياه أقتنِ لتتنعم بطرق شواهد اللـه كمن يتنعم بكافة الغنى، أقتنيه بمخافة اللـه فيكون إله السلامة معك.لأن به يليق المجد والعز الآن وإلى آباد الدهور. آمين.
أطلب إليكم أيها الإخوة المحبوبون من اللـه، أن تحرصوا كل يوم، وتتذكروا هذه التعاليم، متذكري الأمانة الرجاء المحبة التواضع.اختموا كل حين الصلوات وتلاوة الكتب الإلهية بالسكوت، لأن هذه الفضائل إذا كانت حاضرة عندكم وذائدة فيكم فلا تكونوا في معرفة ربنا يسوع المسيح بطالين ولا غير مثمرين.والعابد الذي لم يقتني هذه بل يتوانى في خلاصه هو أعمى شحاذ قد أشتمله نسيان خطاياه القديمة، وصح علية المثل أنه كالكلب الراجع إلى قيئه، كالخنزير الذي يستحم ويتمرغ في حمأته.فإن الذين هربوا من أدناس العالم بمعرفة ربنا يسوع المسيح ويلتفون بِها ويلتفتون ثانياً وينغلبون فقد صارت أواخرهم أشر من أوائلهم، ولقد كان أفضل لهم ألا يعرفوا طريق الحق، أوفق لهم من أنَهم بعد ما عرفوا عادوا إلى ورائهم.فمنذ الآن يا أحباء المسيح وجنده المصطفين ؛ لنتناول الأسلحة من التعاليم المقدم ذكرها، ونحفظها في قلبنا، لنستطيع أن نجاهد الجهاد النفيس، ونطأ كافة قوة العدو، وننجى من السخط الموافي الذي يحل بأبناء المعصية، ونجد رحمة ونعمة في ذلك اليوم المرهوب أمام القاضي العادل المجازي كل أحد نظير أعماله.الذي به وحده يليق المجد إلى آباد الدهور. آمين.
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
20 نوفمبر 2020
مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي
+ سرّ التناول مِن جسد الربّ رهيب وعجيب.. هو سرّ الأسرار، عاشته الكنيسة منذ أول عصورها وسلَّم المسيح جسده للرسل في عليةّ صهيون وإلى اليوم.
آلاف السنين وما زال السرّ مستورًا لم يَصِل أحد إلى كماله. ملايين الملايين من البشر نالوه ولم يُستَنفَذ بعد. أليس هو جسد المسيح الإله ودمه الكريم يُقام في ذات الوقت في عشرات الآلاف من الأماكن، وهو ذات المسيح الواحد، كالشمس التي تدخل إلى ملايين الأماكن في ذات الوقت. وهو يتوزَّع ولا ينقسم. مئات الملايين تناله وهو واحد أحد لا ينقسم. لا ينال الواحد جزءًا منه، ولكنّه يناله بالكليّة، فكلّ واحد مِنّا يأخذ المسيح، يدخُل إلى داخل أعماق الملايين، ولكنّه غير محدود وغير محصور، مثل الشمس تخترق أكوام النفايات ولا تتّسخ.
دخول جسد المسيح داخلنا نحن الخطاة، يطهِّر الخطايا ويغسل الضمير. نحن نأكل الطعام لنحوِّله إلى طاقّة للحركة والحياة، ولكن نأكل المسيح ليحوِّلنا إليه، لنحيا به وله.
هناك قولٌ يقول: «المسيحيون يقيمون الإفخارستيا، والإفخارستيا تُقيم المسيحيين». الغرض الرئيسي من إعطاء الربّ جسده لنا، لكي نحيا به، ولا نحيا بعد بذواتنا وفكرنا وبشريتنا وغرائزنا المنحرفة.
نحن نأكله لكي نثبت فيه وهو فينا.
نحن نأكله لكي يكون لنا حياة أبدية به.
نحن نأكله لأنّه خبز الحياة الأبدية.
بدون أكله ليس لنا حياة. به نحيا ونتحرّك ونوجَد.
وبدونه لا حياة ولا حركة حقيقية ولا وجود.
+ التناول بدون إدراك روحي حقيقي، يُفقِد الإنسان كلّ شيء. مثل الذين أكلوا المن – خبز الله - النازل من السماء. أكلوه بحاسّة بشريّة وبدون وعي روحي.. أكلوه ماديًّا، فتأفّفوا مِنه، وسئموه، وسمّوه الطعام السخيف.. فلم يُسَر الله بهم، وماتوا وطُرِحَت جُثثهم في القفر.
لذلك نبّهنا السيد بقوله لليهود «آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هذَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ» (يو6: 49 – 51).
+ لا بد مِن المذاقة الروحيّة الحقيقيّة، لنستطعِم خبز الحياة.
خبز الحياة الذي لا يُقاس بالأمور الماديّة ولا بالعقلانيّة ولا بالحواس الجسديّة، مِن نظر ولَمس وتذوُّق، بل بالحواس الروحيّة النقيّة، التي لإنساننا الداخلي، وبالبصيرة الروحيّة نراه، مع الملائكة الذين يخدمونه ويسترون وجوههم من بهاء مجده. وبالخشوع الروحي الداخلي نقترب إليه، وبالخوف الحقيقي نقبله كما قبل إشعياء جمرة النار من يد الساروف (واحد من السيرافيم) وبالإيمان نسمع ذات الكلام «إِنَّ هذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ، وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ». (إش6: 7).
+ ولكن أين هذا من واقعنا اليوم؟ كثر المتناولون، ولا عدد لهم في كلّ كنيسة، وفي كلّ القُدّاسات، وكلّ الأيام، ولكن قَلّما نجد أثرًا للتناول.
أين المسيح الحيّ في هؤلاء.. فهو قال «مَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يو6: 57). نتناول كلّ يوم ولكن نعيش بذواتنا ولذواتنا. نتناول خبز السماء، ولكن حياتنا تشهد أنّنا مازلنا أرضيّين ترابيّين. نتناول لغفران الخطايا، ولكن مازلنا متمسّكين بخطايانا، لأنّنا نتناول بدون توبة.
+ دينونة عظيمة للذي يتناول بعدم تمييز «غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ» (1كو11: 29).
+ دينونة عظيمة للذي يتناول بدون استحقاق.
+ الاستعداد للتناول بالتوبة والاعتراف والصلاة المنسحقة لقبول المسيح. وصلاة الشكر والامتنان بعد التناول يجعل الإنسان في نمو مستديم.
+ الروتين وحضور القداسات كما لقومٍ عادة، يقتل الحياة الروحيّة بجملتها، ويتحوّل الإنسان فيها كآلةٍ بِلا إحساس.. الآباء القديسون بسبب حرصهم الشديد وعمق علاقتهم بالمسيح، لم يَدخل إليهم الروتين والآلية، بل ظلّوا مدى الحياة في حِسٍّ مرهف، ويقظة روحية، لاسيما في ممارسة الأسرار، فكانوا يزدادون كلّ مرة يتزوّدون فيها من الذخيرة الروحيّة.
+ أمِل أذنَك الروحيّة عندما تسمع القول: «القُدْسات للقديسين» واطلب إلى القدوس أن تصير القدسات لك للتقديس وتطهير الحياة برُمّتها.
+ قال لي قداسة البابا شنودة (نيَّح الله نفسه) إنّني حينما أتناول أقول للرب «ليس من أجل استحقاقي بل من أجل احتياجي» هكذا يجب أن نقترب إلى السرّ الرهيب.
من يأكلني يحيا بيَّ
الإيمان بالمسيح، بتجسّده، وعمله الخلاصي على الصليب، وقيامته من الأموات، وصعوده إلى السموات، وجلوسه عن يمين الآب، وإرساله موعد الآب، روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق... وكلّ ما عمله المسيح وعلَّم به، وكلّ آيات الشفاء والمعجزات والتعليم الإلهى.. وكلّ ما يختصّ بحياة الأبد وميراث الملكوت.. كلّ هذا ذخَّره المسيح لنا حينما أعطانا جسده مأكلاً حقيقيًّا، ودمه لنشربه مَشربًا حقيقيًّا.
فالإيمان بالقلب، والاعتراف باللسان، مُعتَبَران أمرًا شفويًّا يخصّ التصديق والكلام العَلَن. أمّا التناول فهو فعل وليس قولاً.
التناول أكل وشرب.. وتناول الجسد المكسور بالحبّ هو فِعل حبّ إلهي فائق، وشُرب الدم المهراق على الصليب هو فعل الذبيحة التى اشتمَّها الآب وقت المساء على الجلجثة.
فكون المسيح يعطي ذاته ويبذلها من أجل خلاص العالم، ويسلّمه لنا فِعلاً حقيقيًا ولكنه مَخفيٌ في سِرّ إلهي فائق، ويقدمه لنا في الهيئةِ كخبز نازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان فيأكل الحياة الأبدية، فهذا أمرٌ يفوق العقول، ويتجاوز أفهام البشر والملائكة معًا.
+ الجسد المبذول هو عطية الله لحياة الإنسان الأبديّة، لأنّ الرب يسوع إذ قال: «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (يو6: 54)، سيقيمنا معه، وجسده الذي نتناوله هو القيامة بذاتها. فالتناول من الجسد الأقدس هو الذى يقيمنا الآن وفي الدهر الآتي.
+ وكما أنّ طعام الجسد يقُوته ويعطيه حياة، إذ لا يُعقَل أن يحيا الجسد بدون طعام.. هكذا صار خبز الحياة الأبدية بالنسبة لأرواحنا.
+ قال الرب: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ» (يو6: 35). هو شبع نفوسنا.. وحين نناله لا نجوع بعد إلى العالم.
«لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً... لِغَيْرِ شَبَعٍ؟» هكذا تساءل إشعياء النبي «أَيُّهَا الْجياعُ... أَيُّهَا الْعِطَاشُ ... تَعَالَوْا وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ... خذوا وَكُلُوا... اِشربوا وَلْتَتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ» (إش55: 1، 2). وهو بدون فضة أو ذهب، إذ يُعطَى مجانًّا، ولكنّه ليس رخيصًا، لأنّ قيمته أغلَى مِن كلّ ممتلكات الدنيا. هو ليس من هذه الخليقة.. بل هو جسد ابن الله بالحقيقة.
مَن يا تُرى يستطيع أن يُدرِك كمال هذا السرّ؟!! نحن نَقبَل هذه النعمة بإيمان بغير فحص العقل، ونشترك في الجسد الواحد الذي يحوّلنا إليه، ويوحّدنا بعضنا مع بعض كأعضاء في جسد واحد.
هذا هو سِرّ الحُبّ وسِرّ الحياة.. مستحيل على الطبيعة البشرية أن تذوق هذا الحبّ بعيدًا عن سِرّ جسد المسيح، لأنّ فيه وحده عدم الموت والحبّ المطلق.
+ الاستعداد للتناول من الجسد والدم، يكون كما قال الرسول: «لِيَمْتَحِنِ (ليفحص) الإِنْسَانُ نَفْسَهُ» (1كو11: 28). أولاً من جِهة المحبّة، أن يكون ذا قلبٍ مُحِبٍ للأخوة، بصفاء النيّة، ويكون مُختبِرًا السلام الإلهي مع جميع الناس.
- «اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ» (رو12: 9).. الرياء يُفسِد المحبّة.
- «أَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ» (1بط1: 22).. لا يوجد إنسان كامل في المحبّة، ولا يوجد أحد لم يتعكّر قلبه مُطلقًا.. هذا أمر مؤكَّد، ولكن إن اتّسخ القلب بعكارة العداوة أو عدم المحبة من جهة إنسان، فيُوجَد ينبوع لغسل الخطايا وتطهير القلب. الإنسان المسيحي يُسرع إلى ينبوع دم المسيح بالصلاة والتوسُّل.. ولا يطيق أن يحيا في العداوة.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
19 نوفمبر 2020
شخصيات الكتاب المقدس آسا
"أيها الرب ليس فرقاً عندك أن تساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة" 2أي 14: 11
مقدمة
تذكرني قصة آسا بقصة ذلك الجندي الذي يقولون إن الأطباء حكموا بأن مرضه غير قابل للشفاء، وأنه لابد سيموت، وإذ سمع الجندي هذا القرار، سأل نفسه إذا كان لابد من الموت، فلماذا لا يموت نبيلاً شريفاً في المعركة؟!! ولماذا يبقى في انتظار موت قد يقصر أو يطول أمده، مع بقية من حياة ممتلئة بالعذاب والمعاناة؟!!… وتحول الجندي إلى أسطورة في المعركة،… فإذا تراجع الجنود، كان هو الوحيد المتقدم؟!! وإذا هاجم كان هجومه ليس هجوم فرد واحد بل كأنه هجوم ألف من الرجال،.. وحول الجندي الهزيمة إلى نصر، والتقهقر إلى اكتساح عجيب!!... وعجب القائد من أمر هذا الجندي الغريب، وإذ سأل عن سره، أدرك قصته، وقال له: لا ينبغي أن تموت.. وجمع له عدداً من أعظم الأطباء الذين نجحوا في القضاء على علته، والانتصار على مرضه!!. وهنا حدث الشيء الغريب، إن الجندي وقد أيقن من نجاته استمرأ الراحة، وفقد روح البطولة، وأصبح واحداً عادياً من الجنود، عاد يخشى الموت، ويمسك بأسباب الحياة، ولم يعدله ذلك القول العظيم "إذا لم يكن من الموت بد، فمن العجز أن تموت جباناً!!".. وهكذا... كان آسا الملك في قلب المخاوف والمتاعب والصعاب. والموت ارتقى إلى أعظم ذري الشجاعة والقوة والبطولة، وعندما سارت الحياة هادئة ولينة ووادعة، طافت غلالة من الضعف والهوان حول شمسه البارعة،.. ومع ذلك فإنه سيبقى دون أدنى شك واحداً من أعظم الأبطال في ملوك يهوذا الذين ارتفعوا إلى آفاق من الإيمان قل أن يرتفع إليها الكثيرون، وكان مصلحاً من المصلحين الذين قاموا بالإصلاح بشجاعة قل أن توجد عند العديد من أبطال الإصلاح أنفسهم، وها نحن نتابع قصته فيما يلي:
آسا والظروف السيئة التي أحاطت به
لا نستطيع أن نقدر مدى ما في حياة الإنسان من قوة أو ضعف، من شجاعة أو جبن، من بطولة أو إسفاف، قبل أن ندرك الظروف المحيطة به، ومدى ما معه أو عليه من رصيد أو إفلاس،.. ولا حاجة إلى القول بأن آسا الملك قد تفتحت عيناه على ظروف من أسوأ ما يمكن أن تكون الظروف، فأبوه أبيام وجده رحبعام كانا ملكين آثمين شريرين، أوغلا في الشر والخطية، وطبعا المملكة بأشر طابع، وجدته -وهي بهذا المعنى سميت أمه- معكة ابنة أبشالوم، وهي التي جاء وصفها في سفر أخبار الأيام الثاني: "وأحب رحبعام معكة بنت أبشالوم أكثر من جميع نسائه وسراريه، لأنه اتخذ ثماني عشرة امرأة وستين سرية"... وقد كانت بهذا المعنى المرأة القوية الأثر الطاغية النفوذ، الوثنية الحياة، والتي عملت تمثالاً لسارية، لتتعبد أمامه،.. كانت المرتفعات والسواري الوثنية قد ملأت كل مكان!! وإذا دخلت العبادة الوثنية، فلابد أن يلحق بها كل أنواع الفساد والشرور، وقد انتشرت الدعارة، وبلغت الأمة أحط الدركات: "لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان، لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة وكذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الأنثى الطبيعي، اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور، ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق"... ولا ينبغي أن ننسى أن هذا النوع من الفساد يطلق عليه "السدومية" لما هو معروف بأن الخطية التي اشتهرت في سدوم، قبل أن يحرقها الله،... وتفتحت عيناً آسا ليرى بلده وقد أصبح سدوم وعمورة من هذا القبيل.ولم يكن آسا غبياً عن أن يدرك أن الخراب الذي وصلت إليه البلاد، قد جاء نتيجة الشر الذي انغمست فيه، ولعله دخل الهيكل مرات متعددة، ليمتلئ أسى وألما، وهو يرى كيف تبدلت الأواني والأتراس الذهبية بأوان وأتراس نحاسية، لأن رحبعام عملها بعد أن أستولى شيشيق على أورشليم، وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، ولم يترك شيئاً ثميناً لم يأخذه!!.. لقد ولد آسا على كوم من الرماد والخراب الذي شمل كل شيء في أرض يهوذا!!... وما أكثر الذين يولدون كآسا في أتعس الظروف وأشدها، وهم غير مسئولين عنها، ولكنهم مع ذلك، فإن واجبهم الحتمي لا أن يتجاهلوها أو يهربوا منها،... بل لأبد أن يروا فيه النقطة التي منها يبدءون ويعملون!!...
آسا والقدوة الصالحة التي اقتداها
لعل "آسا" الشاب، وهو يواجه الظروف السيئة التي واجهها، كان أدنى إلى ذلك الشاعر الغربي الذي قال: في ضغط الحوادث لم أدمدم أو أصرخ عالياً، تحت ضغط الظروف جرحت هامتي، ولكنها لم تنحن،.. بل لعل الظروف نفسها أنشأت عنده رد فعل عظيم،.. وكما أبصر برناردشو -وهو طفل صغير - أباه يدخل البيت وهو مترنح من المسكر، فعاش يكره الخمر طوال حياته، هكذا أبصر "آسا" أباه وجده، وما خلفا وراءهما من آثار بشعة،... وتحول من دخان خرابهما إلى الصورة اللامعة، صورة جده العظيم داود،... وكانت هذه الصورة أشبه بالمصباح الهادي الذي يحمله الإنسان في الليلة الداجية،.. وإذا كانوا قد قالوا: أن الجنود في معركة قاسية قد اجتمعوا حول مائدة، وهم يفكرون في الاستسلام للعدو، وبينما هم يهمون بفعل ذلك، رفع أحدهم بصره فرأى صورة القيصر معلقة على حائط، فما كان منه إلا أن أدارها إلى الحائط، لأنهم لا يستطيعون أن يسلموا، وعين القيصر تنظر إليهم!!... لقد كافح الركابيون على مختلف الأجيال والعصور في مواجهة الصعاب والمشكلات والمتاعب: "لأن يوناداب بن ركاب أبانا أوصانا"... وسعيد ذلك الإنسان الذي يستطيع في تاريخ أجداده وآبائه أن يجد يوناداب بن ركاب أو بالأحرى داود بن يسى،.. ولكل إنسان على أي حال القدوة التي تتغلغل في كيانه، وتسري في دمه، وتصبح له المثل الأعلى الذي يروم تقليده، وإذا كان نابليون قد تعود أن يضع في غرفته وهو شاب أعظم أبطال الحروب، أمثال الإسكندر، وقيصر، وهانيبال، وغيرهم ممن كانوا في نظره سادة الناس وأبطال الحروب، وتشبع بهم إلى درجة المحاكاة التي ملأت أوربا بالدم خمسة عشر عاماً،.. فإن آسا ويهوشافاط وعزيا وحزقيا ويوشيا كانوا يضعون على الدوام أباهم المثل والقدوة الصالحة التي يقتدون بها،.. وكان الواحد منهم يوصف بالقول: "عمل... كداود أبيه"... وعلى العكس من ذلك، كان النسل الشرير مثل أبيام الذي وصف بالقول: "ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه".. كان داود هو المقياس الذي تمتحن به قلوب أولاده، ومع أن هذا المقياس كان به الضعفات البشرية التي تحيط بنا جميعاً، لكنه -على أي حال- كان مقاساً مقارناً لأجيال تأتي بعده،.. وقد شجع هذا بولس على أن يقول للفلبيين: "أخيراً أيها الإخوة كل ما هو حق كل ما هو جليل كل ما هو عادل كل ما هو طاهر كل ما هو مسر كل ما صيته حسن إن كانت فضيلة وإن كان مدح ففي هذه افتكروا وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا وإله السلام يكون معكم"... ويقول للتسالونيكيين: "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يتمثل بنا... لكي نعطيكم أنفسنا قدوة حتى تتمثلوا بنا".. ترى هل نستطيع أن نكون لأولادنا ولأجيال آتية بعد، مثل هذه القدوة الصحيحة السليمة الكاملة؟!!
آسا والسلوك القويم أمام الله
كان آسا واحداً من أعظم الملوك الذين وصفوا بالقول: "وعمل آسا ما هو مستقيم في عيني الرب كداود أبيه"... ولسنا نظن أن هناك صفة مجيدة يمكن أن يوصف بها إنسان كمثل القول أنه يعمل المستقيم في عيني الرب، وهو بذلك يصل إلى أعلى مدارج السمو الخلقي بين الناس... قد يبدو المسيحي مستقيماً في عيني العالم، عندما يرى الناس سمو حياته اللامعة التي تبدو كالمنار العالي المرتفع على قمة جبل، وقد يكون من ذلك النوع العظيم الذي وصفه الرسول بولس في قوله: "لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاداً لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم" أو ما ذكره الرسول بطرس "وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا في ما يفترون عليكم كفاعلي شر يمجدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها".. وقد يبدو المسيحي أكثر من ذلك مستقيماً في عيون الأتقياء والقديسين، وهذا أعظم وأمجد،.. وذلك لأن قياس المؤمنين أعلى وأكمل وأنقى وأقدس، وهم مرات كثيرة ما يرفضون أشياء كثيرة متعددة، يرى العالم أنه لا غبار منها على الإطلاق، وهي في نظر المؤمنين كلها غبار وعفار،.. وأنه حسن أن يبدو المسيحي مستقيماً في عيني العالم، وأحسن منه أن يبدو كذلك في عيني المؤمنين، على أن الأحق والأمجد أن يكون مستقيماً في عيني الله، الذي يعرف السرائر، ويكشف الخبايا والظلمة هكذا كالنور أمام عينيه،... فإذا كان أحدهم قد قال: إن النظافة في مفهوم الناس تختلف، إذ يمكن أن نصف الشارع بالنظافة، ولكن نظافة الشارع شيء يختلف تماماً عن نظافة البلاط في المنزل،.. والبلاط النظيف يختلف بالكلية عن نظافة الأطباق وأواني الطعام، وهذه لا يمكن أن تقارن، بنظافة الأدوات الطبية المعقمة،.. فإذا ظهر الإنسان مستقيماً أمام عيني الله، فإن هذا أعلى ضرب من النظافة والحياة الخلقية السامية التي تبدو كالآنية المعقمة، بالمقارنة مع الحياة العالمية الشديدة الاتساخ،.. ومن المجيد حقاً أن توصف الحياة أمام عيني الله بحياة الاستقامة، أو حياة الخط المستقيم، أو حياة الطريق المستقيم، والطريق المستقيم هو أقصر الطرق، وأيسر الطرق، وآمن الطرق، وأمجد الطرق، فإذا كانت الدول الراقية والمتحضرة، توصف طرقها بمثل هذه الأوصاف، فإن أرقى إنسان على الأرض، وأصدق إنسان، وأعظم إنسان، وآمن إنسان هو ذلك الإنسان الذي يسلك طريق الحياة دون أن ينحرف إلى هذا الجانب أو ذلك،.. وهو الذي يسير هادئاً آمناً مبتهجاً سعيداً، في طريق الله المستقيم بين الناس!!...
آسا المصلح الثائر
وكم أود أن يتعلم الكثيرون من آسا كيف يكون الإصلاح، وكيف يضرب في العمق، وكيف يسير بلا هوادة أو تريث، وقد يصاحبنا الحياة كلها!!.وجمال الإصلاح أنه أولاً وقبل كل شيء، الإصلاح الصادر من شاب، إذ بدأ به منذ الدقيقة الأولى لتوليه العرش، ويبدو أن الشاب- لو كان على الأغلب في العشرين من العمر- عندما أصبح ملكاً، أشبه الأشياء ببرميل من بارود، لم يكن اعتلاؤه العرش، إلا بمثابة الشرارة التي تفجرت لتكتسح أمامها كل شيء، ولقد ظل مدة العشر سنوات الأولى يعمل بهمة لا تعرف الكلل، في إصلاح كل شيء تصل إليه يده،.. كان شاباً في طراوة الحياة ومطلع الأيام، وقد أعطى المثل بحياته، قبل أن يعطيه بكفاحه وجهاده، إذ كان أشبه بالزنبقة التي احتفظت بنقاوتها في أرض الأوحال، والزهرة التي عاشت بجمالها في وسط القاذورات،.. ولعل أروع ما في الشاب، أنه استدار إلى بيته، يطهره من المفاسد والأوشاب،.. أغلب الظن أن أمه ماتت وهو صغير وحلت ملكة بنت أبشالوم عابدة البعل والوثنية، محل أمه، وأضحت كل شيء بسلطانها القوي المفسد في البيت والأمة جميعاً، فإذا به يقوم عليها، ويحطم ساريتها، ويهدم نفوذها، ويستأصل شرها، ويعلن للجميع مدى عزمه وصدقه وقوته في القضاء على الوثنية والشر، ابتداء من أقرب الناس وألصقهم به،.. لقد أعلن آسا أنه وقف إلى جانب الحق، وهو إذا كان يحب أمه ويكرمها، لكنه لا يستطيع أن يحب أمه على حساب الحق الإلهي، ومجد الله، وهنا يجوز له أن ينقلب عليها ويقف ضدها، وهو لا يفعل هذا في الخفاء، بل يفعله على مر أى من الأمة كلها، بل ومن التاريخ بأكمله!!... وإذا كان أرسطو في واحد من أقواله المشهورة قال: "أنا أحب أفلاطون، ولكني أحب الحق أكثر من أفلاطون"، فإن كل ابن من أبناء الله جدير به أن يصل إلى شيء أبعد من ذلك: "إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً.
ثم كان الإصلاح ثانياً: الإصلاح الروحي، وهو لب الإصلاح وجوهره إذ لا إصلاح البتة، قبل إصلاح العلاقة مع الله، والجانب السلبي لهذا الإصلاح هو هدم المرتفعات الوثنية، التي أقامها الناس تعبداً للبعل وعشتاروث والآلهة الوثنية، بما يرتبط بها من عبادة شهوانية حسية، والجانب الإيجابي هو الاهتمام ببيت الله: "وأدخل أقداس أبيه وأقداسه إلى بيت الله من الفضة والذهب والآنية"... ولست أظن أن هناك إصلاحاً في الأرض يمكن أن يحدث بعيداً عن بيت الله، والارتباط به،.. ولا يمكن لأحد أن يقنعني بأي إصلاح اجتماعي أو علمي أو اقتصادي أو أدبي، يمكن أن يحل بديلاً للإصلاح الروحي،... إن قلب الإصلاح، هو إصلاح القلب البشري، ولن تقنعني أعظم درجات الحضارة الغربية التي تعطي ظهرها لله، ولبيت الله، وللشركة مع الله،.. قال بلي جراهام ذات مرة: "إن مشكلة العالم ليست القنبلة الهيدروچينية أو حتى الشيوعية، إن المشكلة الحقيقية هي في فساد الطبيعة البشرية، فليس هناك من فرق بين الإنسان المتوحش الذي يعيش في الأدغال، حاملاً السهم في يده، وأمريكي متعلم مثقف يطير بقاذفلة قنابل محملة".. أجل وهذا حقيقي تماماً... ولعله يذكرنا بما حدث ذات مرة في انجلترا، إذ كان على أحد الشواطئ الإنجليزية كنيسة قديمة بنيت على أكمة، وكان للكنيسة برج عال يكاد يبلغ السحاب، وقد دمرت إحدى الطائرات هذا البرج، وأصابت الكنيسة في أكثر من موضع بتلف بالغ، وانقضت شهور دون أن يفكر أحد في إصلاح التلف، وفي يوم من الأيام جاء أحد قواد الأسطول البريطاني إلى راعي الكنيسة وسأله: لماذا لم يعيدوا بناء الكنيسة؟ وإذ أخبره الراعي بأن الأعضاء فقراء وعاجزون عن بنائها مرة أخرى، أجاب: إذاً فالبحرية الإنجليزية ستتولى العمل لأن البرج المرتفع كان من سنوات متعددة هو المرشد الوحيد للسفن المقتربة للشاطئ، وقد أضحت السفن في خطر بالغ لسقوطه"... أجل... وكل سفن حياتنا ستضحى في خطر، ما لم نسترشد في كل شيء بالله والدين وكنيسة الله!!...
ثم كان الإصلاح ثالثاً: هو الإصلاح الأدبي، وقد قلنا هذا الكلام تجوزاً لأننا لا نفرق بين الإصلاح الروحي والأدبي، لأن الأدبي في حقيقته ليس إلا روحياً، في الشكل أو المضمون،... ولكننا اثرنا أن نذكر هذا لأن آسا قاوم ما يمكن أن نطلق عليه الشذوذ الجنسي: "وأزال المأبونين من الأرض".. ومع أن الإنسان يقشعر من هذا الانحدار الخلقي الذي سجله الكتاب عن سدوم وعمورة، وندد به بولس في الأصحاح الأول من رومية، واعتبره قاع السقوط في المستنقع الذي سقط فيه الإنسان البعيد عن الله،.. لكننا نتعجب غاية العجب، أن الدول التي يقال عنها أرقى دول العالم، لا تستنكر هذا الشذوذ، بل يزعم الكثيرون فيها أنه مظهر لحرية الإنسان التي لا ينبغي الاعتراض عليها، بل بالحري يكسبونها الشرعية فيما وصلوا إليه من إمكانية الزواج بين رجل ورجل،.. وأليس من الحق أن نقول بعد هذا القول المشهور: إيه أيتها الحرية كم من الآثام ترتكب باسمك الجميل!!... إن الغرب في حاجة إلى الملك القديم آسا لإزالة جميع المأبونين في الأرض!!...
ثم كان الإصلاح هو الإصلاح المصحوب بالوعظ وكلمة الله،... ونحن نشك في أي إصلاح يبقى أو يستمر إن لم تصحبه الكلمة الإلهية، وقد وعظ عزريا بن عوبيد الشعب، وذكرهم بالقانون الخالد الذي ينص على أن الرب مع من يريده ويطلبه، كما أنه يترك من يريد تركه، ولم يذكر الواعظ القاعدة اعبتاطاً، بل عاد وإياهم إلى تاريخهم واختباراتهم، وكيف أن الله تركهم مرات متعددة أيام القضاة: "ولإسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق، وبلا كاهن معلم، وبلا شريعة، ولكن لما رجعوا عندما تضايقوا إلى الرب إله إسرائيل وطلبوه وجد لهم وفي تلك الأزمان لم يكن أمان للخارج والداخل لأن اضطربات كثيرة كانت على سكن الأراضي".. إن تاريخ الكنيسة الطويل يشهد أن النهضات تقوم أو تنعدم على قدر ما يرتفع النبر المسيحي وينادي بكلمة الله أو يخيب عنها ويهجرها!!.. وقد توج الإصلاح بالعهد المقطوع أمام الله أخيراً،.. والعهد شيء جوهري يؤمن به وليم چيمس عالم النفس الأمريكي الكبير، إذ يترك في الذاكرة أثراً عميقاً، ليس من السهل أن يتجاوز الإنسان أو يتخطاه، ولعل هذا هو السبب الذي جعل المرنم يقول: "أوفي بنذوري قدام خائفيه.. حتى يجد نفسه مقيداً بهذه النذور أمام الله والمؤمنين!!... كان آسا نموذجاً رائعاً في ثورته الإصلاحية، كل من يريد أن يتعلم ويحاكي إصلاحه!!...
آسا المحارب
واجه الملك آسا حربين مختلفتين، كانت الأولى في صدر الشباب، وعلى الأغلب في السنة العاشرة من حكمه، وكانت الثانية في السنة السادسة والثلاثين من الحكم،.. وكانت الأولى أرهب وأقسى من الأخيرة، إذ زحف زارح الكوشي عليه بجيش من أكبر الجيوش القديمة، وقوامه مليون من الجنود، وقد كان من المتصور أنه مهما تكن قوة آسا واستعداده العسكري، فإنه لا قبل له أو طاقه للوقوف أمام هذا الجيش العظيم الرهيب،.. ولكن آسا لجأ إلى حليفه الأعظم القادر على كل شيء، وواجه آسا معركة من أكبر المعارك القديمة بصلاته العظيمة: "ودعا آسا الرب إلهة وقال: أيها الرب ليس فرقاً عندك أن تساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة فساعدنا أيها الرب إلهنا لأننا عليك اتكلنا، وباسمك قدمنا على هذا الجيش فساعدنا أيها الرب أنت إلهنا. لا يقو عليك إنسان"... فضرب الرب الكوشيين أمام آسا وأمام يهوذا، أي أنه كان واضحاً أن النصر بيد إلهية،.. وكان حريَّاً بآسا وقد حفرت هذه المعركة في أعماق ذاكرته، أن يستند إليها في مواجهة المتاعب والمصاعب والحروب التي قد تواجهه فيما بعد!!.. لكن آسا في معركته مع بعشا ملك إسرائيل فعل شيئاً مخالفاً لتصرفه الأول،.. لم يذهب إلى بيت الله ليصلي هناك، بل ليخرج من هذا البيت ومن بيته خزائن فضة وذهب ليقدمها الملك آرام لمعاونته في الحرب ضد ملك إسرائيل، واستجاب له الملك، وأعانه في الحرب، ونحن نعجب للملك الذي يترك الحليف الأقوى الذي لا يقوى عليه إنسان، إلى الحليف الأضعف الذي مهما كانت قوته، فهو لا شيء بالنسبة لقوة الله، ونحن أكثر عجباً لمن هو على استعداد أن يعطينا المعونة والخلاص، دون فضة أو ذهب أو مقابل، ومع ذلك لا نذهب إليه ونتركه لنذهب إلى من يكلفنا الغالي والثمن، وأكثر من ذلك سيتحول ضدنا يوماً من الأيام. وقال حناني الرائي هذا الكلام وغيره للملك آسا الذي كان عليه أن يعلم أن العدو الحقيقي المقبل هو الجيش الأرامي: "لذلك قد نجا جيش ملك آرام من يدك".. هل تسخط على الملك، وتنظر إليه كالأرعن الأحمق!! قبل أن تفعل هذا تذكر المعارك المختلفة في حياتك، وتذكر كيف واجهت أضخم المعارك بالإيمان العظيم، إن الله لا يقوى عليه إنسان، وتذكر أنك خرجت مترنماً صداحاً، تشهد بعظمة الله وقدرته العجيبة!!.. ثم سارت بك الأيام ودارت بك الحياة، لتلتقي بمعارك أصغر وأضأل وأقل، ولكنك واجهتها بروح أخرى أضعف وأيأس،.. لماذا حدث هذا؟!!.. هل أصابك ملل الحياة؟ هل دخلت في دور من الشيخوخة الروحية، والإعياء النفسي؟!! أم أنت بطرس يسير فوق الماء مثبتاً نظره نحو السيد، ولكنه إذ يحول النظر عنه يهوى في الحال، ولولا رحمة من المسيح وعون منه، لما طفا على الشاطئ، ولابتلعته الأعماق!!.. إيه أيتها النفس! أهكذا تتلونين وتتغيرين مع الزمن في اليوم الواحد!!... أجل، ولعل الصرخة الدائمة في -حياتنا وعلى لساننا: أؤمن فأعن عدم إيماني!!.. تذكر يا صديقي من يواجهك في المعركة وبأي روح تقاتل؟!! وهل تقاتل زارح الكوشي أو بعشا ملك إسرائيل!!..
آسا المريض
ومرض آسا يعطينا تحذيراً بالغاً قوياً، إذ يرينا الرجل وهو يركض في قصة الحياة، حتى صاح عندما لم يعد قادراً على الركض ليسقط متداعياً وهو يمسك برجليه، وهو يقول آه يا رجلي؟!!.. وقال الأطباء: إن الرجل مريض بقدميه، وقد اشتد مرضه، أما نحن فقد رأينا أن قدميه الروحيتين لم تعودا قادرتين على السير، لقد أصيب الرجل بمرض الحماقة التي جعلته يغتاظ من الناصح، ويزج به في السجن،.. وكما امتلأ بالحماقة أمام بعشا فلجأ إلى المعونة البشرية، امتلأ هنا أيضاً، فلم يطلب الرب، وآمن بالأطباء البشريين، فانتهى إلى الأردأ نفساً وجسداً،.. ونحن نسأل: هل كان من الضروري أن يحدثنا الكتاب عن هذه الغيمة، التي شابت شمس الرجل وقت الغروب؟ ولماذا لم يعطنا صورة لامعة مغطاة يمكن أن تخفي الأخطاء والهنات الضعفات... إن كتاب الله لا يمكن أن يكون ككتب البشر، إذ: "كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر. لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح"... إن السؤال الذي يلقيه علينا آسا الملك العظيم، ليس مجرد البدء أو الشوط الطويل الناجح في قصة الحياة!!.. بل أكثر من ذلك، وماذا عن النهاية وهل هي أقوى أو أضعف؟!!... عاد الشاب بعد خمسة وعشرين عاماً من تخرجه في الجامعة، وكان عند التخرج في القمة في كل شيء، وكانوا قد اختاروه الشاب المثالي،.. عاد في زيارة للجامعة، وقد بدا عليه الجلال والبهاء، وإذا بأحدهم يسأله: إنك تبدو جليلاً، ويظهر أنك وفقت في حياتك العملية كثيراً... وأجاب الشاب: جل.. وقال السائل: يبدو أنك أصبحت غنياً!!... فأجاب: نعم.. أصبحت غنياً ولم أخطئ.. فقال له: يبدو أن عندك ثروة كبيرة من الذهب.. فقال: كلا. بل الله ثروتي!!.. كم أصلي أن تكون حياتنا إلى النهاية أقرب إلى هذا الشاب، دون أن نصاب في أرجلنا أو حياتنا بمرض آسا القديم، بل نملك كل أمانة وشجاعة أن نقول: "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي الرب الديان العادل، وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً"!!..
المزيد
18 نوفمبر 2020
العولمة مرة أخرى، ومناقشة تأثيراتها
نتابع ما ذكرناه في المقال السابق فنقول من أهم عناصر العولمة: الحضارة وانتقالها من بلد إلى بلد:
وكلمة الحضارة واسعة جدًا في معناها, فهي تشمل الثقافة والرقى وسائر القيم والعادات السائدة.
أما عن الثقافة, فلا ننسى مطلقًا فضل العولمة في نشر العلم والمعرفة, مع الوضع في الاعتبار بعض أنواع المعرفة المبنية على الشك كالفلسفات الملحدة وكالأفكار الاقتصادية التي تميل إلى الشيوعية أو إلى التطرف بوجه عام.
أما من جهة العادات والطباع والقيم, وأمثال ذلك مما يسمونه في الغرب Culture, فإن فيه اختلافًا كثيرًا بيننا وبينهم. ونحن نلاحظ أن الذين يقيمون فترة طويلة في بلاد الغرب متغربين عن أوطانهم, يعودون بشخصيات وعادات مختلفة عما كان لهم من قبل, بل حتى لكنة ولهجة صوتهم تتغير, وكذلك طريقة تفكيرهم أيضًا...
وهنا نسأل ماذا يكون وضع المرأة الشرقية في ظل العولمة, حيث وصلت المرأة في بعض بلاد الغرب إلى منصب رئيس الوزراء, وتنافس على منصب رئيس الدولة أيضًا. ونحن نشكر الله أن بلادنا مصر قد أفسحت المجال السياسي والإداري والاجتماعي أمام المرأة. فيوجد لدينا أكثر من وزيرة, وكذلك وكيلة مجلس الشعب امرأة. وعدد كبير من النساء في رتبة وكيل وزارة, ورتبة مدير عام. كما تم تعيين ثلاثين امرأة في القضاء... ولكن هل ستقبل بلاد الشرق العربي أن تصل المرأة إلى هذا المستوى أو أكثر؟ بينما في بعض البلدان العربية تجاهد النساء لكي يكون لهن مجرد حق الانتخاب في بعض المجالس!
ثم في ظل انتشار العولمة ستعود مناقشة موضوع الحجاب والنقاب بالنسبة إلى المرأة. وكذلك ربما تظهر مشكلة الزواج المشترك ما بين طرفين مختلفين في المذهب.
تدخل مشكلة أخرى في محيط الأسرة وهى مدى احترام وطاعة الوالدين والكبار عمومًا. فنحن في الشرق نوقّر الكبار غاية التوقير, ونطلب رضى وبركة الوالدين, بينما في الغرب توجد الاستقلالية في الشخصية كلما وصل السن إلى مرحلة الشباب, ولا يجد الأبوان الفرصة الكافية لتأديب أبنائهم. ويمكن للابن أن يطلب تدخل الشرطة رسميًا للحد من سلطان أبيه أو تدخله في شئونه الخاصة...!وعلى الرغم من اعترافنا بفضل العولمة في انتشار العلوم ورقيها, إلا إننا نجد بعض نواحي العلم- وبخاصة في موضوع الإنجاب- قد سارت في تيار لا يتفق كثيرًا مع قيمنا ومع بعض مبادئنا الدينية من ذلك وجود بنوك البويضات المخصبة...حيث يمكن للمرأة أن تختار النوع الذي تريد أن يُولد به ابن لها: من جهة طوله أو لون بشرته أو لون شعره أو درجة ذكائه. وتختار البويضة المخصبة التي تناسب طلبها, بغض النظر عن كيف أخصبت, وما شرعية ذلك, وما مدى تحكم علماء تلك البنوك في الجينات البشرية وتوفيقها بأسلوب خاص لتأتى بالنتيجة المطلوبة يضاف إلى هذا التطور الواسع في موضوع الاستنساخ, الذي بدأ بتطبيقه على الحيوانات, ثم تطور إلى مجال البشر أيضًا. نحن لا نقف ضد العلم, ولكن من المفروض أيضًا أن تكون للعلم حدود لا يتعداها إلى الدخول في المشيئة الإلهية!نحن لا ندعى إطلاقًا بتدخل العلماء في القدرة على الخلق, وهم لا يدّعون ذلك, لأن الخلق هو الإيجاد من العدم, وهذا خارج نطاق العلم, ولكن تصرفهم في الخليقة حسب هواهم أو فكرهم الخاص هو موضوع من المفروض أن تكون له ضوابط وحدود.
نقطة أخرى وهى استئجار الأرحام, حيث يمكن نقل بويضة لأم معينة إلى رحم امرأة أخرى. ثم يُولد طفل له أم طبيعية وأم استأجروها ليولد منها!! وإلى أيهما ينتسب؟!
العولمة أيضًا لها تأثيرها في محيط التجارة والصناعة:-
إذ توجد بلاد يمكن أن تقدم صناعات بسعر أقل, وتسوّقها في بلاد أخرى, فتؤثر على ميزانها الاقتصادي, وعلى صناعتها المحلية, وبالتالي على وضع العمالة فيها. وربما هذا الأمر يوجد جوًا من التنافس في مجال الإنتاج ووفرته وجودته وسعره. ولكن ليست كل الدول تقدر على مثل هذا التنافس وكمثال واضح اختبرناه في مصر, انتشار الصناعة الصينية في نواح متعددة, وبأسعار أقل من السوق. بل عن طريق العولمة انتشرت صناعاتها أيضًا في بلاد أخرى غربًا وشرقًا.
لا ننسى أيضًا تأثير العولمة على اللغة:-
ويظهر هذا واضحًا في كثير من العلوم. فنحن نستعمل العديد من الألفاظ اليونانية, مثل كلمات: فلسفة, جغرافيا, جيولوجيا, إستراتيجية, تليفون, تلغراف تكنولوجيا. ونستخدم أيضًا عبارات في الطب والدواء ليست عربية مثل الكوليسترول, والفيتامينات. وعمومًا فإن تعريب الطب غير ممكن من جهة, وضار من جهة أخرى, إذ يوقف الصلة بالبحوث العلمية, والمؤتمرات العلمية, والمجلات والكتب التي عن الطب والصيدلة. وغالبيتها بلغات أجنبية.إننا تعودنا أن نستخدم عبارات ليست عربية), مثل درجة الماجستير وهى كلمة لاتينية, ومثل كلمة (مايسترو) عن معلم الموسيقى, وهى كلمة إيطالية, ومثل كلمة كيمياء وهى هيروغليفية الأصل أو قبطية. بل أن كلمة (لغة) نفسها ليست عربية, وإنما أصلها يوناني.أما في العربية فنستخدم عبارة (لسانًا عربيًا فصيحًا). ومن أقدم وأشهر القواميس في العربية كتاب لسان العرب لابن منظور وليس لغة العرب.
ختامًا, لا خوف من العولمة على ثوابتنا العقيدية, فهي أعمق من العولمة, أما الحضارة والثقافة فهي ملك الجميع.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
17 نوفمبر 2020
دُرُوس فِي ذِكْرَى أَنْبَا أَثَنَاسْيُوس مُطْرَانِ بَنِي سوِيف
عاش انبا أثناسيوس فقيرًا جدًا لا يملك شيئًا، وكل مَن اطَّلع على حياته يجد نذور الكفاف والعفة وفقر الاختيار وحفظ عهود الرهبنة وقوانينها. فكان راهبًا ناسكًا غير معجب بنفسه؛ ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم. وأنموذجًا للأسقف الكنسي "صورة الآب السماوي"، إنجيليًا روحانيًا ولاهوتيًا منهجيًا وراعيًا واقعيًا، وأبًا قائدًا صنع مدرسة من القادة، شغلوا مواقع ريادية في العمل الكنسي المعاصر. مؤسسًا لخدمة متكاملة؛ بناها على معرفه التقوى وبرهان الروح والقوة. لذا تتلمذت له أجيال من المكرسين والخدام والرعاة في كل أنحاء الكرازة المرقسية أحب الليتورجيا وقدم أعظم مثلٍ لليتورجيا ما بعد الليتورجيا في أعمال الدياكونيا والتوزيع والافتقاد والتنمية والرهبنة العاملة، محولاً إيبارشيته إلى خلية نحل وورشة عمل دائمة ودائبة في الكيان الالهي الكنسي الحي بالشركة في خدمة كيان البشر كسامري صالح .وبالرغم من ذلك؛ كان حضوره هادئًا رزينًا، لكنه أيضًا فاعل ومرهوب من دون ضجيج أو بهرجة، مرتقيا بتلاميذه؛ جاعلاً منهم شركاء معه في العمل والتدبير والرسالة علي مستوي حضاري لاهوتي راقي وواقعي .إنه بحق رجل المؤسسات الكنسية المبنية على أساس لاهوتي وعلى نور الإنجيل في واقعية آبائية؛ تعبُر إلى الذين في الشتات لتعينهم.. فكان له دوره الكبير والريادي في الأعمال الموسوعية والتنموية؛ والعمل المسكوني والدياكوني والاجتماعي المعاصر . عاش غريبا في هذا العالم ،معطيا المثل لكل الرعاة بحياته وقدوة سيرته ونسكه الصحيح ،فلم يجمع ويبني كأداة للتعبير عن كيانه وشخصه ،لانه اختبر ان كيانه ووجوده آت ومتطلع الي كمال حياة الدهر الاتي ، لذلك لم يعتمد مفاخر الإنجازات لتكون جوهر عمله الرعوي ، لانه كان يستمد وجوده الكياني من شركته الافخارستية ومن التصاقه بأعضاء المسيح المطروحة والمعذبة ومن تقواه ومخافته وخدمة محبته الكونية universal .كان أيضا فيلسوفًا في ترابط الإنسانية والكنيسة في صورتها الجامعة والخادمة.. لذا صار رائدًا في خدمة التفسير والتكريس والتدريب والتكوين وتربية النشئ ورعاية المغتربين والمهاجرين وجامعي القمامة "الزبَّالين "غير مبتغي أيَّة وجاهة أو صدارة.. فقد قال لي ذات مرة "أن نصيب من يخرج للحرب كنصيب الجالس عند الأمتعة"، وقال أيضاً "إن العبرة ليست في عدد الوزنات لكن فيمن تاجر بها وربح" فالكل من أجل رب واحد؛ له وحده أن يزيد.عاش انبا أثناسيوس ثابتًا علي الدوام في الحق الحاضر، كرجل الإنجيل والكنيسة والتفسير والمبادئ المعاشة بصمت عامل وعمل صامت.. مرتفعًا فوق الأحداث والمصاعب. وقد أرسل الله هيبته أمامه وعمل بسيرته التي تتكلم حتى اليوم تذكارًا وتمجيدًا لعمل الثالوث القدوس الممجد الآن وكل أوان.
القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
16 نوفمبر 2020
القيم الروحية فى حياة وتعاليم السيد المسيح (16) التلمذة والتَعلُم
أهمية التلمذة والتعلم فى حياتنا
مفهموم التلمذة والتعلم فى المسيحية ... اننا نقصد بالتلمذة الالتزام الروحى والانضباط والاستعداد الدائم للتعلم المنتظم والمستمر من السيد المسيح وروحه وكتابه المقدس وذلك من خلال الملازمة والطاعة والخضوع الشخصى والتبعية مدى الحياة فى محبة وعمق وأمانة ومن ثم هى عملية تهدف الى خلق وتطوير المعارف والمهارات اللازمة للعمل الناجح وتنمية الانسان لكى ينمو روحيا ويخدم الاخرين ويقودهم فى الطريق الى الله والملكوت . لقد أدراك العالم المتقدم أهمية التعلم مدى الحياة وتوسعوا فيه ويسمونه LLL أى (lifelong learning) . والذى يعمل على استمرار بناء مهارات ومعارف الفرد طوال الحياة من خلال التجارب والتدريب والتدريس وذلك بدافع شخصى من المتعلم بغية الوصول الى التقدم وتنمية القدرات. وهذا ما قام به السيد المسيح منذ الفى عام مع الاباء الرسل الذين دعاهم له (تلاميذ). { ثم دعا تلاميذه الاثني عشر واعطاهم سلطانا على ارواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف} (مت 10 : 1). هؤلاء التلاميذ تعلموا وتتلمذوا للسيد المسيح حتى يوم صعوده الى السماء واوصاهم ان يقوموا بتلمذة المؤمنين من بعدهم { فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الاب والابن والروح القدس. وعلموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به وها انا معكم كل الايام الى انقضاء الدهر امين) مت 19:28-20 انهم يعلموا الآخرين لا لكي يكونوا تلاميذ لهم بل للسيد المسيح وروحه وتعاليمة وقيمه السامية ومحبته وهذا ما يجعل التقليد المسيحى حى بالتلمذة والخضوع لقيادة الروح القدس وتسلم الايمان بامانة من جيل الى جيل {وما سمعته مني بشهود كثيرين اودعه اناسا امناء يكونون اكفاء ان يعلموا اخرين ايضا} (2تي 2 : 2). ان التلمذة المسيحية تقوم على التعلم والانقياد للمعلم الصالح . من يعمل من الخدام على تلمذة اخرين له شخصياً قد يكون انحرف عن الصواب وفقد كل معانى ومضمون التلمذة المسيحية الحقة وكما قال القديس يوحنا المعمدان عندما اتوا اليه ليقولوا له ان السيد المسيح يعمد وصار له تلاميذ واتباع كثيرين { فجاءوا الى يوحنا وقالوا له يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الاردن الذي انت قد شهدت له هو يعمد والجميع ياتون اليه. اجاب يوحنا وقال لا يقدر انسان ان ياخذ شيئا ان لم يكن قد اعطي من السماء. انتم انفسكم تشهدون لي اني قلت لست انا المسيح بل اني مرسل امامه. من له العروس فهو العريس واما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحا من اجل صوت العريس اذا فرحي هذا قد كمل. ينبغي ان ذلك يزيد واني انا انقص} يو 26:3-30.
- الحاجة الى التلمذة والتعلُم .. نحن فى عصر يتسم بسرعة التقدم العلمى والمعرفي وسرعة تحديث المعلومات ، كما ان فروع المعرفة تتسع فى مختلف المجالات الروحية والعلمية والأدبية. ونحن فى المجال الروحي نحتاج للتلمذة والتعلُم من السيد المسيح والاباء الرسل والقديسين المعتبرين أعمدة فى الكنيسة وسيرتهم وكتاباتهم بما فيها من سلامة الايمان والحياة الروحية المقدسة . نحتاج الى العودة لجذورنا الروحية لأكتشاف الكنوز المخبأة فيها والتتلمذ عليها ، مع استخدام كل الوسائل الحديثة والتكنولوجيا التى ساعدت على ترجمة كتابات الاباء من القبطية واليونانية والسريانية واللاتينية الى اللغات الحية الحديثة لنعيش إيماننا ونفهمه مع متطلبات عصر العلم. ان المسيحية هى روح وحياة وهي تدعو للمحبة والقداسة والعمل من أجل حياة أفضل وليس مجرد نصوص جامدة { ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه }(كو 3 : 10). لقد أخذ قادة الكنيسة والحركة الرهبانية على عاتقهم منذ العصور الاولي عاتقها قيادة ركب التقدم والابداع والشهادة للحق وكانت الكنيسة حاضنة للعلم والابداع فى مختلف مجالات الحياة منذ العصور الاولي للمسيحية وهذا ما ينبغى للكنيسة العمل على متابعته بحكمة وتخطيط ومتابعة فى عالم اليوم ان ارادت الكنيسة ان تكون حاضرة ورائدة لقيادة ابنائها نحو مستقبل أفضل .
- ان الإنسان الذى لا يتطور ويواكب التقدم لابد ان يتأخر فى حياته ويفوته ركب الحضارة ، وان كانت العقائد شئ ثابتة على مر الزمان فاننا يجب ان نفهمها ونحياها وننمو فى المعرفة والعلاقة باللة لنصل الى ملء القامة والنعمة والحكمة . كما ان روح الله القدوس هو القادر ان يجدد طبيعتنا يوماً فيوم لنعمل ونبتكر ونتقدم فى كل المجالات { ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الارض} (مز 104 : 30). لقد تفرعت الكثير من العلوم فى اللاهوت والروحيات والطقوس والتاريخ الكنسي فى عالم اليوم أعتماداُ على الكتاب المقدس وكتابات الاباء وفهمنا لروحها مع ربطها بالعلوم الحديثة فالإيمان يدعو الى التفكير والبحث والتبصر ويجب علينا التلمذة على تعاليم الكتاب المقدس وعلومه. فى مجال اللأهوت اصبح هناك العديد من الدراسات ومنها اللاهوت النظرى والادبي والروحي والمقارن والطقسي والعقيدى والدستورى والدفاعي . ومن العلوم اللاهوتية تفرعت العديد من المجالات الدراسية منها علوم الكتاب المقدس ومناهج دراسته ، وعلوم الكرستولوجى والمريمولوجى وعلم الاباء والكنيسة وعلم الخلاص والملائكة والاخرويات وعلم النفس المسيحى وعلوم الادارة الكنسية وغيرها وعلينا أكليروس وشعب ان نفهم ونعيش إيماننا ونكون مستعدين لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذى فينا.
+ سلامة وأستقامة الإيمان والتلمذة .. ومع أهمية التقدم الحاصل فى مختلف العلوم ،فاننا يجب ان نحتفظ باستقامة الإيمان وبسلامة العقيدة والأستمرار فى التلمذة والتعلم من كنوز إيماننا، وفكر الأباء وسير القديسين وهذه هى وصية وصلاة السيد المسيح للتلاميذ والمؤمنين للآب السماوى {كما ارسلتني الى العالم ارسلتهم انا الى العالم. ولاجلهم اقدس انا ذاتي ليكونوا هم ايضا مقدسين في الحق. ولست اسال من اجل هؤلاء فقط بل ايضا من اجل الذين يؤمنون بي بكلامهم. ليكون الجميع واحدا كما انك انت ايها الاب في وانا فيك ليكونوا هم ايضا واحدا فينا ليؤمن العالم انك ارسلتني. وانا قد اعطيتهم المجد الذي اعطيتني ليكونوا واحدا كما اننا نحن واحد.انا فيهم وانت في ليكونوا مكملين الى واحد وليعلم العالم انك ارسلتني واحببتهم كما احببتني} يو 18:17-23. . وما أجمل الكنيسة المجتمعة حول تعاليم معلمها الصالح تتلمذ على كلامه الذى هو روح وحياة وكما تنبأ اشعياء وقال بالروح { وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيرا }(اش 54 : 13). فيجب ان يكون لدينا الرغبة المستمرة فى التلمذة والتعلم من الله وكتابه المقدس وروحة القدوس وتعاليم الاباء ، ومن مدرسة الطبيعة والحياة حتى لا ننساق بتعاليم غريبة { اما أنت فاثبت على ما تعلمت وايقنت، عارفاً ممن تعلمت } 2تى 14:3. يجب ان يكون لدينا الحكمة والأفراز فيما نقرأ ولا نتأثر بكل ريح تعليم غير سليم فى وقت يموج فيه العالم فى صراعات دينية وعقائدية وفلسفية وان نكون من الراى العام المثقف الذى لا يقبل كل ما يتلاقاه بل يميز الغث من الثمين ، بل ونكون قادة فكر ودعاه حق فالمسيحى المواظب على صلوات وقراءات وتعاليم الكنيسة والمنقاد بروح الله لابد ان يكون نوراً فى العالم وملحاً فى الأرض وسفيراً للسماء ، يستضئ الآخرين بتعاليمه فى تواضع ومحبة . وكلما اقتربنا من شمس البر نستنير وننير . نعم نحن قد نمر باوقات صعبة قال عنها القديس بولس الرسول { لانه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح ، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم ، فيصرفون مسامعهم عن الحق ، وينحرفون الى الخرافات } 2تى3:4-4. اما نحن ففى تواضع ابناء الله وفى حكمة أهل بيت الله نبنى أنفسنا على ايماننا الاقدس والمستقيم والمسلم لنا من الاباء القديسين بالدم والعرق والدموع { واما انتم ايها الاحباء فابنوا انفسكم على ايمانكم الاقدس مصلين في الروح القدس} (يه1 : 20).
التلمذة والتعلُم على المعلم الصالح ..
+ السيد المسيح أقنوم الحكمة الالهية .. السيد المسيح ، كلمة الله المتجسد من اجل خلاصنا هو أقنوم الحكمة الإلهية {المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم} (كو 2 : 3). { وبالاجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد (1تي 3 : 16) . نعم تجسد وتأنس من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم ولكن لاهوته لايحد كما لا نحد ارسال القنوات الفضائية فى جهاز التلفزيون وان كنا نجسمه ونراه يتحرك ويتكلم امامنا. وان كان الله قديما حل وتكلم مع موسى من خلال العليقة الملتهبة ناراً فلماذا يحار البعض تواضع الله وأتيانه الينا كبشر { والكلمة صار جسدا وحل بيننا وراينا مجده مجدا كما لوحيد من الاب مملوءا نعمة وحقا} (يو1 : 14). لقد ذهب السيد المسيح الى الهيكل فى عمر الثانية عشر واخذ يحاور روساء الكهنة {وبعد ثلاثة ايام وجداه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسالهم. وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه واجوبته} لو 46:2-47.ولقد دعا قديما اليهود الذين قاوموه بعد شفاء الاعمي الى التعلم والتلمذة وتفتيش الكتب لانها تشهد له { والاب نفسه الذي ارسلني يشهد لي لم تسمعوا صوته قط ولا ابصرتم هيئته. وليست لكم كلمته ثابتة فيكم لان الذي ارسله هو لستم انتم تؤمنون به. فتشوا الكتب لانكم تظنون ان لكم فيها حياة ابدية وهي التي تشهد لي. ولا تريدون ان تاتوا الي لتكون لكم حياة}يو 37:5-40. التلمذة على المسيح تقتضى منا ان يكون المعلم الصالح هو سيدنا ومعلمنا نتعلم منه { فقال يسوع لليهود الذين امنوا به انكم ان ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي} (يو 8 : 31). الثبات فى الله يجعلنا نتغذى من تعاليمه ونحولها الى حياة وسلوك ، ولقد اشار الكتاب المقدس على ذلك بطريقة روحية فى العهد القديم فالحيوانات الطاهرة التى سمح الله للإنسان ان ياكلها { كل بهيمة من البهائم تشق ظلفا وتقسمه ظلفين وتجتر فاياها تاكلون} (تث 14 : 6). والمعنى الروحى ان الأنسان الطاهر هو الذى يقراء كلمة الله ويتأمل فيها ويحولها الى حياة وسلوك وحتى الأسماك الطاهرة هى الاسماك التى بها زعانف وحراشيف اى انها تستطيع ان تسير باتزان وتوازن فى البحر ولديها الدرع والترس الذى يحميها من المخاطر الخارجية { وهذا تاكلونه من جميع ما في المياه كل ما له زعانف وحرشف في المياه في البحار وفي الانهار فاياه تاكلون }(لا11 : 9). الانسان الروحى هو الذى يسلك باعتدال ويملك الاجنحة الروحية التى تجعله يسير بافراز وتوازن فى حياته ويحتمى فى صخر الدهور الهنا الصالح ليكون له ترس ودرع وحماية غير متكل على ذراعه او عقله او حتى على معونة بنى البشر .
+السلوك فى وداعة وتواضع المعلم الصالح وصبره . { من قال انه ثابت فيه ينبغي انه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو ايضا (1يو 2 : 6). ان الانسان الروحى يتعلم من المعلم الصالح ومن الآخرين ومن السهل عليه فى تواضعه ان يقدم راى غيره على رايه متى راى صحته ومن اليسير عليه ان يقبل النصح والأرشاد . بل ويتعلم من الاحداث التى تمر به والانسان الوديع أنسان مطيع فى افراز لا يجادل ولا يغضب ويقبل النقد بصدر رحب ويعمل به متى كان للبنيان وهكذا راينا القديس بطرس المعتبر من أعمدة الكنيسة يقبل عتاب القديس بولس وتوبيخه فى مواجهه حركة التهود فى كنيسة أنطاكيا عندما وجده ملوماً (غل 11:2) .ثم نرى القديس بطرس يُظهر أحترامه وتقديره لرسائل القديس بولس الرسول . بل ان المعلم الصالح اذ اتى الينا على الارض {واذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب} (في 2 : 8). اننا اذ نتبع ونتتلمذ للرب يسوع المسيح علينا ان نحيا فى محبة لله ونحب بعضنا بعضاً {بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعضاً لبعض} يوحنا 35:13. فنحن أخوة فى جسد واحد نعمل على السير وراء الراعى الصالح كقطيع متحد به ، يجمع ولا يفرق ، يحب ولا يكره ، يعلن سمو تعاليم معلمه لا بالكلام واللسان بل بالعمل والحق ، نحتمل بعضنا بعض فى وحدانية الروح وطول الأناة . { واما من يبغض اخاه فهو في الظلمة وفي الظلمة يسلك ولا يعلم اين يمضي لان الظلمة اعمت عينيه} (1يو 2 : 11).
+حمل الصليب وتبعية المخلص .. ان تلمذتنا وتعلمنا من المعلم الصالح تقتضى منا حمل الصليب { ومن لا يحمل صليبه وياتي ورائي فلا يقدر ان يكون لي تلميذا } (لو 14 : 27). الصليب يبدو للبعيدين عثرة أو جهالة أما لنا نحن المخلصين فهو قوة الله وحكمة الله ونجد فى حمل الصليب تعزية وفرحاً وسلاماً . ويعقب الصليب المجد والقيامة . لقد قبل تلاميذ السيد المسيح حمل الصليب وجالوا مبشرين به معلنين تبعيتهم للمصلوب من أجل خطايانا والقائم من أجل تبريرنا . فنالوا القيامة الممجدة والتكريم من المؤمنين فى كل الأجيال . ولنعلم اننا فى حمل الصليب نجد العزاء والقوة والنعمة فى ذاك الذى سار درب الآلام عنا وهو يدافع عنا ويقودنا فى كوكب نصرته . كما ان التلمذة للمعلم الصالح تحتاج الى التزام روحى بوصاياه وعدم العرج بين تبعية المخلص وشهوات العالم واباطيله فان الله فاحص القلوب والكلى ويريدنا ان نتبعه لا من اجل منفعة ما ولا منصب زائل ولا شهرة مرضية بل حباً واخلاصاً لمن أحبنا وطاعة لوصاياه { وفيما هم سائرون في الطريق قال له واحد يا سيد اتبعك اينما تمضي. فقال له يسوع للثعالب اوجرة ولطيور السماء اوكار واما ابن الانسان فليس له اين يسند راسه. وقال لاخر اتبعني فقال يا سيد ائذن لي ان امضي اولا وادفن ابي. فقال له يسوع دع الموتى يدفنون موتاهم واما انت فاذهب وناد بملكوت الله. وقال اخر ايضا اتبعك يا سيد و لكن ائذن لي اولا ان اودع الذين في بيتي. فقال له يسوع ليس احد يضع يده على المحراث وينظر الى الوراء يصلح لملكوت الله} لو57:9-62. ان من يتبع الله خوفاً فقط هم العبيد ومن يتبعه طمعاً فى الأجر هؤلاء اجراء يريدون الحصول على الأجرة أما الابناء فهم من يتبعونه لكونه ابيهم الصالح .
+أهتمام المعلم الصالح بتلاميذه وبنا ... اذ نتبع الرب يسوع ونكون له تلاميذ ويكون لنا رباً وسيداً ومعلماً وراعياً صالحا فانه يتكفل بنا ويتولى تعليمنا وارشادنا والدفاع عنا وينسبنا اليه فندعى مسيحيين نسبةً اليه . بل نكون أعضاء فى جسد المسيح كما الأغصان وثباتها فى الكرمة .عندما اتى جباة الجزية لبطرس ليأخذ من المعلم الجزية تولى الرب يسوع دفع الجزية عن نفسه وعن القديس بطرس { ولما جاءوا الى كفرناحوم تقدم الذين ياخذون الدرهمين الى بطرس وقالوا اما يوفي معلمكم الدرهمين. قال بلى فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلا ماذا تظن يا سمعان ممن ياخذ ملوك الارض الجباية او الجزية امن بنيهم ام من الاجانب.قال له بطرس من الاجانب قال له يسوع فاذا البنون احرار. ولكن لئلا نعثرهم اذهب الى البحر والق صنارة والسمكة التي تطلع اولا خذها ومتى فتحت فاها تجد استارا فخذه واعطهم عني وعنك} مت 24:17-27. وبعد القيامة المجيدة وفى اضطهاد شاول للكنيسة ظهر الرب يسوع لشاول واعلن له ذاته فى الطريق لدمشق {وفي ذهابه حدث انه اقترب الى دمشق فبغتة ابرق حوله نور من السماء. فسقط على الارض وسمع صوتا قائلا له شاول شاول لماذا تضطهدني. فقال من انت يا سيد فقال الرب انا يسوع الذي انت تضطهده صعب عليك ان ترفس مناخس} أع 2:9-5 . نعم يسوع المسيح معلمنا الصالح وكل اساءة الى تلاميذه تعتبر موجهة اليه وهو قادر ان يحفظنا وكما قدم ذاته فداء عنا فنحن على استعداد لنقدم حياتنا من أجل ايماننا وثباتنا عليه .
+ لقد اهتم السيد المسيح بتلاميذه وتعليمهم عليه بطريقة المعايشة والسماع والمرافقة الدائمة وبعد ان ثقل شخصياتهم بالمعرفة الروحية العملية والأختبارية ، جعل منهم قادة يذهبوا بما لديهم من سلطان وقوة ليكرزوا أمام وجهه فى كل مدينة {وارسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى }(لو 9 : 2) . {وبعد ذلك عين الرب سبعين اخرين ايضا وارسلهم اثنين اثنين امام وجهه الى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعا ان ياتي} (لو 10 : 1) وقال لهم ان الحصاد كثير ويحتاج لخدام كثيرين {فقال لهم ان الحصاد كثير و لكن الفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد ان يرسل فعلة الى حصاده} (لو 10 : 2) . وبعد صعوده لم يتركهم بل قال لهم ها انا معكم كل الايام الي انقضاء الدهر فهو معنا وبروحه القدوس يقودنا ويرشدنا { يسوع المسيح هو هو امسا واليوم والى الابد }(عب 13 : 8). وهو يدعونا ان نتتلمذ عليه وعندما كان يكلم الجموع بامثال فقد كان يفسر لهم ما عثر عليهم على انفراد . وكان يصحيح لهم بعض المفاهيم المغلوطة لديهم فصحح لهم مفهموم الرئاسة والعظمة { فدعاهم يسوع وقال انتم تعلمون ان رؤساء الامم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم.فلا يكون هكذا فيكم بل من اراد ان يكون فيكم عظيما فليكن لكم خادما. ومن اراد ان يكون فيكم اولا فليكن لكم عبدا.كما ان ابن الانسان لم يات ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين} مت25:20-28. وارسلهم للخدمة فى وجوده معهم معطياً لهم وصاياه وكان يطمئن منهم على كرازتهم ويشجعهم ويعلمهم { فرجع السبعون بفرح قائلين يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك. فقال لهم رايت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء. ها انا اعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا ان الارواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري ان اسماءكم كتبت في السماوات} لو17:10-20 . ان يسوع المسيح الهنا هو هو كائن بلاهوته معنا كل الأيام والى أنقضاء الدهر {ها انا معكم كل الايام الى انقضاء الدهر امين }(مت 28 : 20). وسيبقى الى انقضاء الدهر المعلم الصالح الأمين يقود تلاميذه ويطلب فعلة لحصاده وخدام أمناء يسعوا الى رد الضالين وخلاص الكثيرين والغيرة على مجد الله وملكوته . والدعوة موجهة لكل واحد منا ان نأتى بثمر ويدوم ثمرنا ويجب ان نتعلم من المعلم الصالح ومن القديسين الذين ساروا ورائه بكل قلوبهم وعملوا فى كرمه { لذلك نحن ايضا اذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع امامنا. ناظرين الى رئيس الايمان ومكمله يسوع الذي من اجل السرور الموضوع امامه احتمل الصليب مستهينا بالخزي فجلس في يمين عرش الله. فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تكلوا و تخوروا في نفوسكم} عب 1:12-3.
التعلم من الكتاب المقدس ..
+ اننا فى أمس الحاجة فى عالم اليوم الذى يموج بالافكار والاخبار الى كلمة الله القوية والفعالة التى تنقى وتقدس وترشد وتحيي الأنسان فى مسيرة حياته على الارض { انتم الان انقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به } يو2:15 . اننا نحتاج لكلمة الله لتنقى القلب والفكر والنفس من التلوث الفكرى والأعلامى الذى يحاصر الأنسان . نحتاج للتعلم من الأنجيل فعدم المعرفة بكلام ووصايا الله هلاك روحى يعاتب الله عليه شعبه { قد هلك شعبي من عدم المعرفة لانك انت رفضت المعرفة ارفضك انا } (هو 4 :6). من أجل هذا يدعونا السيد المسيح للتعلم منه والثبات فى كلامه { ان ثبتم في وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم. بهذا يتمجد ابي ان تاتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي . كما احبني الاب كذلك احببتكم انا اثبتوا في محبتي.ان حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي كما اني انا قد حفظت وصايا ابي واثبت في محبته. كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم و يكمل فرحكم } يو7:15-11.
+الكتاب المقدس يعرفنا ارادة الله لحياتنا وينير لنا طريقنا وينقينا من نجاسات العالم وأباطيله وهكذا يدعونا أشعياء النبي الأنجيلى للارتواء والشبع بكلام الله { ايها العطاش جميعا هلموا الى المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرا ولبنا . لماذا تزنون فضة لغير خبز وتعبكم لغير شبع استمعوا لي استماعا وكلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم انفسكم .اميلوا اذانكم وهلموا الي اسمعوا فتحيا انفسكم .اطلبوا الرب ما دام يوجد ادعوه وهو قريب. ليترك الشرير طريقه ورجل الاثم افكاره وليتب الى الرب فيرحمه والى الهنا لانه يكثر الغفران. لان افكاري ليست افكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرب. لانه كما علت السماوات عن الارض هكذا علت طرقي عن طرقكم وافكاري عن افكاركم. لانه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان الى هناك بل يرويان الارض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعا للزارع و خبزا للاكل . هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع الي فارغة بل تعمل ما سررت به وتنجح فيما ارسلتها له} أش 1:55-3، 6-11. هكذا كما ان المطر يروى الأرض ويخرج الزرع فكلام الله لابد ان يعمل فى قلوبنا وحياتنا ويجعلنا نثمر ثمرا روحيا ونكون اشجار بر مزروعة على مجارى المياه ، تعطى ثمارها فى حينه وكل ما نصنعه فيه ننجح .
+ ان كلام الله روح وحياة { الكلام الذي اكلمكم به هو روح و حياة }(يو 6 : 63). كتبه اناس الله القديسين مسوقين بالروح وهو يعمل فينا بنعمة الروح القدس ليهبنا حياة ابديه . عندما نتعلم من الأنجيل ونتتلمذ عليه كما تسلمته الكنيسة منذ القديم وفسرته وعاشته وسلمته لنا فيقودنا الي الثبات في الايمان والخلاص {لان كلمة الله حية و فعالة و امضى من كل سيف ذي حدين و خارقة الى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة افكار القلب و نياته }(عب 4 : 12). فنحن فى حاجة ماسه للتعلم من المعلم الصالح والتتلمذ علي يديه والا سيكون كلام الله دينونة لنا فى اليوم الأخير { من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الاخير (يو 12 : 48).
ثمار وفوائد قراءة الكتاب المقدس فى حياتنا
+ الحاجة الى الواحد .. لقد عرف الكثيرين من الرجال والنساء أهمية التلمذه على كلمة الله وكان الكتاب المقدس صديق لهم، أمنوا به وتتلمذوا عليه وصار لهم الكنز الثمين الذي يتأملون فيه ويحولونه الى حياة وسلوك . كما قال المعلم الصالح عن مريم التى تركت أهتمامات العالم المزعجة للنفس للتعلم منه والتأمل فى كلامه { وفيما هم سائرون دخل قرية فقبلته امراة اسمها مرثا في بيتها. وكانت لهذه اخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه.واما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة فوقفت وقالت يا رب اما تبالي بان اختي قد تركتني اخدم وحدي فقل لها ان تعينني. فاجاب يسوع وقال لها مرثا مرثا انت تهتمين و تضطربين لاجل امور كثيرة. ولكن الحاجة الى واحد فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها} لو 38:10-42. نعم يجب ان نقوم باعمالنا وواجباتنا بامانة واخلاص ولكن يجب ان لا نرتبك ونضطرب ونهتم كثيراً باهتمامات العالم الباطلة . نقدس أعمالنا بالصلاة مع التأمل فى كلمة الله واثقين من قدرة الكلمة الإلهية علي شفاء جهل ومرض نفوسنا وبعدها وأضطرابها لاجل أمور كثيرة { أرسل كلمته فشفاهم} (مز 107 :20). من اجل هذا رفض الرسل الاهتمام بخدمة الموائد واقاموا لها شمامسة أم هم فكانوا يواظبون على الصلاة وخدمة الكلمة {فدعا الاثنا عشر جمهور التلاميذ و قالوا لا يرضي ان نترك نحن كلمة الله و نخدم موائد. فانتخبوا ايها الاخوة سبعة رجال منكم مشهودا لهم و مملوين من الروح القدس و حكمة فنقيمهم على هذه الحاجة.واما نحن فنواظب على الصلاة و خدمة الكلمة} أع 2:6-5.
+ سلاح الغلبة والانتصار على حيل ابليس .. لقد كانت كلمة الله فى حياة رجال الله القديسين هي سلاح الغلبة والنصرة { من اجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا ان تقاوموا في اليوم الشرير وبعد ان تتمموا كل شيء ان تثبتوا. فاثبتوا ممنطقين احقاءكم بالحق ولابسين درع البر. وحاذين ارجلكم باستعداد انجيل السلام. حاملين فوق الكل ترس الايمان الذي به تقدرون ان تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة.وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله.مصلين بكل صلاة و طلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لاجل جميع القديسين } أف 13:6-18. ان كلام الله هو سلاح انتصارنا على الشيطان وشهوات العالم والجسد . وحتى السيد المسيح فى حربه مع الشيطان استخدم قوة سلاح الكلمة الإلهية فى التجربة على الجبل ليعلمنا كيف ننتصر على حيل أبليس الذى يحاول ان يخدعنا بانصاف الإيات { اما يسوع فرجع من الاردن ممتلئا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية . اربعين يوما يجرب من ابليس ولم ياكل شيئا في تلك الايام و لما تمت جاع اخيرا. وقال له ابليس ان كنت ابن الله فقل لهذا الحجر ان يصير خبزا. فاجابه يسوع قائلا مكتوب ان ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة من الله. ثم اصعده ابليس الى جبل عال واراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان. وقال له ابليس لك اعطي هذا السلطان كله ومجدهن لانه الي قد دفع وانا اعطيه لمن اريد.فان سجدت امامي يكون لك الجميع . فاجابه يسوع وقال اذهب يا شيطان انه مكتوب للرب الهك تسجد واياه وحده تعبد. ثم جاء به الى اورشليم و اقامه على جناح الهيكل و قال له ان كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا الى اسفل.لانه مكتوب انه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك.وانهم على اياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك. فاجاب يسوع وقال له انه قيل لا تجرب الرب الهك} (لو 1:4-12).
+الكتاب المقدس هو سر قوتنا ونصرتنا ونجاحنا.. {كتبت اليكم ايها الاحداث لانكم اقوياء و كلمة الله ثابتة فيكم و قد غلبتم الشرير }(1يو 2 : 14). ان كلمة الله وثباتنا فيها وسيرنا فى الحياة على نورها تقودنا الى النجاح والأثماروالقوة وتهبنا الحكمة والنعمة { ينبوع الحكمة كلمة الله في العلى ومسالكها الوصايا الازلية} (سير 1 : 5) . { انما كن متشددا و تشجع جدا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي امرك بها موسى عبدي لا تمل عنها يمينا ولا شمالا لكي تفلح حيثما تذهب.لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك بل تلهج فيه نهارا وليلا لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه لانك حينئذ تصلح طريقك وحينئذ تفلح.اما امرتك تشدد وتشجع لا ترهب ولا ترتعب لان الرب الهك معك حيثما تذهب} يش 7:1-9. انها النور والمرشد والمعين { سراج لرجلي كلامك و نور لسبيلي }(مز 119 : 105).
+ الكتاب المقدس وبيتنا الروحي .. لقد شبه السيد المسيح له المجد من يسمع كلامه ويعمل به برجل بنى بيته على الصخربعكس الانسان الذى لا يسمع ولا يعمل فيبنى بيته على الرمل { فكل من يسمع اقوالي هذه و يعمل بها اشبهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر.فنزل المطر وجاءت الانهار وهبت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط لانه كان مؤسسا على الصخر.و كل من يسمع اقوالي هذه و لا يعمل بها يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل.فنزل المطر وجاءت الانهار وهبت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط وكان سقوطه عظيما} مت 24:7-27. فنحن نسمع كلام الله ونعمل ونثمر به ليقودنا الى حياة التوبة والنمو والثبات فى الله { ولكن كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم }(يع 1 : 22) . وعندما يكون لدينا المحبة لله والسعي للعمل بكلمته فان كلام الله يهبنا الحرارة الروحية التي تحرق الخطايا وتلين القلوب القاسية وتحولها الى قلوب روحية تسمع وتعمل بالكلمة وتاتي بثمار كثيرة للملكوت { اليست هكذا كلمتي كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخر} أر29:23. ويوصينا القديس الانبا أنطونيوس بان نداوم على قراءة الأسفار المقدسة لتخلصنا من النجاسة وكما يقول القديس اغسطينوس (الكتاب المقدس هو سيف الانتصار على فيض الخلاعه التى اوشكت ان تقضى على الاداب المسيحيه) أما القديس أثناسيوس الرسولي فيوصي ان تكون لنا الحياة الصالحة لنفهم ونعمل بالكتاب المقدس (ان دراسة الكتاب المقدس ومعرفتها معرفة حقيقية تتطلبان حياة صالحة، ونفساً طاهرة وحياة الفضيلة التي بالمسيح. وذلك لكي يستطيع الذهن – باسترشاده بها – أن يصل إلى ما يتمناه وأن يدرك بقدر استطاعه الطبيعة البشرية ما يختص بالله الكلمة).
+ الكتاب المقدس وهدايتنا وارشادنا ..ان كلمة الله تنير عقولنا { فتح كلامك ينير يعقل الجهال} (مز 119 : 130). نحتاج إلى كلمة الله لتوسيع أذهاننا ومداركنا وتهبنا إستنارة روحية وتعمل علي نمونا الروحى فهى تنير عقلنا وتهبنا الحكمة وتعمل فى أذهاننا كما يعمل النور فى الحجرة المظلمة ، هكذا أيضا كلمة الله تبدأ فى إنارة أذهاننا وكما أن النور يلاشى الظلمة هكذا تلاشى كلمة الله جهلنا وفقرنا الروحى من اجل هذا يقول المرتل {سراج لرجلى كلامك ونور لسبيلى} (مز105:119).وكلام الله أيضا به كنوز وعجائب كثيرة {اكشف عن عينى فأرى عجائب من شريعتك} (مز18:119) واذا نحفظ كلام الله فى قلوبنا فانه يوجه سلوكنا للخير {خبات كلامك في قلبي لكيلا اخطئ اليك }(مز 119 : 11). ان الكتاب المقدس هو الكنز الروحى الذى منه ننهل وبه نعرف سعي الله لخلاصنا ويعلن لنا محبة الله المتجسدة لخلاص جنس البشر . عندما ننهل من الإنجيل نكتشف الكنوز المخبأة لنا فيه {فقال لهم من اجل ذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السماوات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا وعتقاء }(مت 13 : 52).إن فعل التفتيش هو البحث بإجتهاد. فلنفتش عن الكنوز المخفاة فى كلمة الله إذ لا يسعنا الإستغناء عنها ففى كلمة الله كنوز كثيرة كافية بأن تثرى وتغنى حياتنا كأفراد وكأبناء لله . ان كلمة الله تستطيع ان توجه حياتنا فى الطريق الصحيح فلابد لمن أراد الحصول على لآلىء الحق أن ينقب عنها كما ينقب عامل المنجم عن اللؤلؤ الثمين المخفى فى باطن الأرض ، وعلى قدر سعينا وأجتهادنا يعطى لنا ويذاد . ونحن نتعلم ونتتلمذ على ابائنا القديسين الذين كلمونا بكلمة الله {اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله انظروا الى نهاية سيرتهم فتمثلوا بايمانهم} (عب 13 : 7). يقول القديس مار اسحق السريانى (ان قراءة الكتاب المقدس تنير العقل و تعلم النفس الحديث مع الله ). اما القديس القديس امبروسيوس فيوصينا بالاصغاء الي صوت الله فى الإنجيل ( نخاطب الرب اذ نصلى و نصغى اليه اذ نقرأ الكتاب المقدس) .
التعلم من غيرنا والطبيعة والأحداث .. اننا فى التلمذة المسيحية نستمر فى التلمذة والتعلم حتى النفس الأخير . نتعلم من السيد المسيح ومن الكتاب المقدس ومن كتابات الاباء ومن غيرنا فى مختلف مجالات المعرفة والعلم بافراز وتمييز ، نتعلم من الطبيعة وهذا ما علمه لنا السيد المسيح { انظروا الى طيور السماء انها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع الى مخازن وابوكم السماوي يقوتها الستم انتم بالحري افضل منها. ومن منكم اذا اهتم يقدر ان يزيد على قامته ذراعا واحدة. ولماذا تهتمون باللباس تاملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل. ولكن اقول لكم انه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فان كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا افليس بالحري جدا يلبسكم انتم يا قليلي الايمان. فلا تهتموا قائلين ماذا ناكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس. فان هذه كلها تطلبها الامم لان اباكم السماوي يعلم انكم تحتاجون الى هذه كلها. لكن اطلبوا اولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم. فلا تهتموا للغد لان الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره} مت 26:6-34. كما دعانا ان نتعلم من التاريخ والأحداث والظروف التى نراها { وكان حاضرا في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم. فاجاب يسوع وقال لهم اتظنون ان هؤلاء الجليليين كانوا خطاة اكثر من كل الجليليين لانهم كابدوا مثل هذا. كلا اقول لكم بل ان لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون .او اولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام و قتلهم اتظنون ان هؤلاء كانوا مذنبين اكثر من جميع الناس الساكنين في اورشليم. كلا اقول لكم بل ان لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون} لو1:13-5.
القمص أفرايم الأورشليمى
المزيد
15 نوفمبر 2020
طقس رفع بخور عشية وباكر
1- يكشف الكاهن رأسه:
أول شي يكشف الكاهن رأسه بمعني مكشوف أمام الله كشفًا كاملًا لأن الله فاحص القلوب مختبر الكلي لأعطي كل واحد حسب طرق حسب ثمر أعماله.ولأن الرجل لا يصلي ورأسه مغطاة (1 كو 11) أما الملابس فهي ملابس الكهنوت وتاج الكهنوت.كشف الرأس أيضًا فيه إحساس بالتوبة أنه مكشوف وعريان أمام الله.
2- يسجد أمام الهيكل ويفتح الستر:
أولًا: هناك حركات معينة لابد من معرفة مؤداها والهدف منها:
الحركة الأولى: عكس عقارب الساعة إشارة إلى من هو فوق الزمن (فوقية البركة) فلحن أفنوتي ناي نان V] nai nan عكس عقارب الساعة إشارة إلى الرحمة فوق الزمن وما قدم علي المذبح فوق الزمن أي البركة والرحمة فوق الزمن.
الحركة الثانية: مع عقارب الساعة:
(1) ايريني باسي Iryny paci مع عقارب إشارة إلى العطاء لهذا الجيل الحالي الذي هو تحت الزمن أي أن ما فوق الزمن صار في إمكانيات من هم يحيون تحت الزمن إشارة إلى أخذ البركة في كل جيل (زمنية البركة).
(2) السجود وعمل ميطانية metanoia للمذبح وأخوته الكهنة والشعب ويقول أخطأت سامحوني أي يستغفر الكل.. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). يطلب غفرانهم.
(3) ثم يكشف رأسه ويفتح الستر ويقول: إشليل Slyl (يأمر بالصلاة) في حالة وجود رتبه مساوية (كاهن زميل – أسقف) درجة متساوية يقول إشليل إفلوجيسون Slyl eulogycon طلب بركة كرامة لوجوده. ويرد الشماس إي بي ابروس إفشي اسطاثيتي Epi `proceu,y `cta;yte.
صلاة الشكر:
وذلك لأن الشكر مبدأ كل صلاة بداية كل صلاة وهو عقيدة راسخة لأن الله صانع الخيرات كما في (رو 8: 28) كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله. لذلك في الجنازات وفي الأكاليل وفي القداسات وفي رفع بخور باكر وعشية نبدأ بالشكر.وبعد انتهاء صلاة الشكر يسجد الكاهن مرة أخري أمام الهيكل ويسجد مرة ثالثة أمام المذبح ذلك لاستمطار مراحم الله.السجود والقيام إشارة للسقوط والقيامة لأن الخطية تذل الإنسان وتضع رأسه في الأرض ويقوم بقوة القيامة لذلك نقول "أقامنا معه" ويبدأ بعد ذلك بوضع البخور:
- يضع الكاهن 5 أيادي بخور.
- 3 الرشومات، 2 مجدًا وإكرامًا ومجدًا للثالوث الأقدس.
- 5 أيادي تشير أو أو تمثل أوائل الذبائح المشهورة في العهد القديم:
1- ذبيحة هابيل (أول ذبيحة قدمها إنسان من أبكار الغنم "تك 4: 24")
2- ذبيحة نوح (أول ذبيحة قدمت بعد تجديد العالم بالطوفان "تك 8: 20")
3- ذبيحة ملشيصادق Melchizedek (أول ذبيحة تشير لذبيحة السيد المسيح من الخبز والخمر رغم أنها من الأرض ونتاجها ولكن قبل من خلال الرمز)
4- ذبيحة هارون (أول ذبيحة يقدمها رئيس الكهنة هارون بعد تخصيص سبط الكهنوت "لا 9").
5- ذبيحة زكريا (آخر ذبيحة في العهد القديم آخر عهد للكهنة) زكريا تعني الله يذكر، وهو أبو يوحنا المعمدان وهي همزة الوصل بين العهد القديم والعهد الجديد من مجيء السيد المسيح بدأ العهد الجديد إذًا الذبيحة محل ذكر الله دائمًا.وهذا ما يردده الكاهن عندما يصلي مكان زميله الرب يحفظ كهنوتك مثل كهنوت ملشيصادق. بين وضع أيادي البخور هناك صلاة.
(1) سر بخور عشية.. صلاة سرية مع تقدمة البخور إذًا البخور ذبيحة إلهية غير دموية.وهو واضع الشورية فوق المذبح بعد وضع الأيادي.إذا تقدمة ذبيحة البخور قبل ذبيحة الجسد والدم.
(2) سر بخور باكر قبل تقدمة الذبيحة مباشرة.هي صعيده البركة = ذبيحة مقبولة لأنها تصعد أمام الله
لذلك تسمى صعيده البركة دليل قبولها.لذلك هناك ربط بين صعود البخور و صعود السيد المسيح (عب 9: 12) وليس بدم بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديًا.لذلك ذبيحة السيد المسيح علي الصليب (قيامة، صعود) كملت.
في سر بخور عشية: يقول الكاهن "أيها المسيح إلهنا العظيم المخوف الحقيقي الأمين.." في سر بخور باكر: "يا الله الذي قبل إليه قرابين هابيل الصدق.."
نيافة الحبر الجليل الانبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
عن القداس الإلهي في اللاهوت الطقسي القبطي
المزيد
14 نوفمبر 2020
المقالة السابعة عشرة في عناية اللـه ومحبته للبشرواستعداد النفس للدينونة
هلموا يا إخوتي فأسمعوا مشورة إفرآم الخاطئ الفاقد الأدب ؛ فها قد بلغ إلينا يا أحبتي ذلك اليوم المخوف المرعب ؛ ونحن بما أننا متوانون نتنزه غير مؤثرين أن نتفطن في عبور هذا الزمان اليسير ؛ ونحرص أن نستغفر اللـه ؛ لأن الأيام والشهور تعبر كمنام، ومثل ظلال مسائي ليوافي بإسراع ورود المسيح المرهوب العظيم ؛ لأن ذلك اليوم بالحقيقة مرهوب للذين لم يؤثروا أن يعملوا مشيئة اللـه ويخلصوا.
فأتضرع إليكم يا إخوتي هلموا فلنطرح هنا الاهتمام بالأمور الأرضية ؛ لأن كافة الأشياء تزول كلها وتبيد، لا ينفعنا في تلك الساعة سوى الأعمال الصالحة التي اكتسبناها من هنا، لأن كل واحد مزمع أن يحمل أقواله وأعماله قدام مجلس قضاء الحاكم المقسط.
فالقلب يرتعد والكليتين تتغيران إذا صار هناك إشهار الأعمال وتحقيق الفحص عن الأفكار والأقوال ؛ خوف عظيم يا إخوتي ؛ رعدة عظيمة
يا خلاني، من ترى لا يرتعد من لا يبكي من لا ينتحب، لأن هناك تُشهر الأفعال التي عملها كل واحد في السر والظلمة.
أفهموا يا إخوتي هذا المعنى الذي أقوله لكم ؛ إذ أمنح مودتكم إقناعاً حقيقياً.
الأشجار المثمرة من باطنها تبرز الثمر مع الورق في أوان الإثمار، ولا تكتسي الشجر من خارجها جمالها حسن بَهائها لكن من باطنها بأمر اللـه تينع الثمر، كل واحدة منها بطباعها.
هكذا في ذلك اليوم المرهوب تبرز كافة أجسام الناس، وتينع كل الأشياء التي عملتها إن كانت صالحة أو خبيثة، ويحمل كل واحد قدام مجلس قضاء الحاكم المهول عمله كثمر، وكلامه كورق.
فالصديقون يحملون ثمراً جيداً ومطرباً، القديسون يحملون الثمر العطر نضارته، الشهداء يحملون فخر اصطبارهم على العذابات والعقوبات، النساك يحملون النسك والحمية والسهر والصلاة.
والناس الخطاة المدنسون المنافقون يحملون هناك ثمراً قبيحاً متهرياً ؛ ويكونون مملوءين نحيباً وحزناً وعبرات حيث دود لا يرقد ونار لا تخمد.
مهول يا إخوتي مجلس القضاء لأن كافة الأشياء تظهر بغير شهود، الأفعال، الكلام، الأفكار، النتائج، وبمحضر الماثلين ربوات ربوات، وألوف ألوف، ملائكة ورؤساء ملائكة، الشاروبيم والساروفيم، الصديقون والقديسون، الأنبياء والرسل، الجماهير التي لا تحصى.
فلِمَ نتوانى يا إخوتي الأحباء فإن الأوان قد حان، واليوم قد بلغ. حين يبدي الحاكم المرهوب مكتوماتنا إلى النور.
فلو عرفنا يا إخوتي ما أستعد لنا لبكينا كل حين في النهار والليل متضرعين إلى اللـه أن ينجينا من ذلك الخزي والظلمة المدلهمة، لأن فم الخاطئ ينسد أمام الموقف، والبرية كلها ترتعد، ومواكب الملائكة القديسين ترهب من ذلك المجد مجد وروده.
ماذا نقول له يا إخوتي في يوم الدينونة إن توانينا في هذا الوقت ؟
لأنه هو تمهل وجذبنا كلنا إلى ملكه، وسيطالبنا بجواب عن التواني في هذا الزمان اليسير.
فيقول لنا بذاته: من أجلكم تجسدت، من أجلكم مشيت على الأرض ظاهراً جهاراً، من أجلكم جُلدت، من أجلكم بُصق عليَّ، من أجلكم لُطمت، من أجلكم صُلبت مرفوعاً على خشبة، من أجلكم أنتم الأرضيين سُقيت خلاً لكي أجعلكم قديسين سمائيين.
وَهَبت لكم الملك الذي لي، أعطيتكم الفردوس، سميتكم إخوة لي، قربتكم إلى الآب، أرسلت إليكم الروح القدس، فأية أشياء أكثر من هذه لم أصنعها لتخلصوا أنتم، سوى أني لست أشاء أن أقتسر النية لكي لا يكون لكم الخلاص بشدة وإلزام.
قولوا لي أيها الخطاة والمائتون بالطبع، ماذا أصابكم من أجلي أنا السيد المتألم من أجلكم.
فها الآن قد أستعد المُلك والجائزة والنياحة والفرح، العذاب الخالد في ظلمة قصوى، فأين ما شاء كل واحد يسلك في ذات سلطانه.
هلموا فلنسجد له باتفاق، ولنبكِ كلنا أمام الرب الذي خلقنا قائلين: يا سيدنا هذه كلها إنما صبرت عليها من أجلنا بما أنك إله، ونحن بما أننا خطاة نجحد كل وقت إحساناتك، وأنت بما أنك لم تذل إلهاً لابدَّ لك بالطبيعة غير مدرك بلا لوم غير محتاج.
أثرت بألم صليبك أن تخلص مجاناً الخطاة الذين لم يعرفوك، وأعطيتهم نور المعرفة بك، فبماذا نجازيك نحن جنس الخطاة ؟ وبماذا نكافئ الإله الذي لا يدرك الصالح المتحنن ؟ نحن الذين صرنا بالنية منافقين لا بالطبيعة، لأنه من قبل أن نخلص كان جنسنا منافقاً.
ونحن الآن بعد هذه الإحسانات كلها خطاة بالنية، أنت أيها السيد كل حين صالح ومتحنن ومرهوب وممجد ؛ خالق الدهور محتمل منذ القديم صعوبة أمرنا برأفاتك الجزيلة التي أوضحتها فينا نحن البشر، فغلبت من محبتك ورأفاتك وعانقت الصليب من أجل خلاص المسكونة كلها.
فهذا لائق أن يقال من قبل نعمتك أمام مجدك، لأنه لو لم تغلب أيها المسيح من قبل تحنناتك، لما كنت بذلت ذاتك ذبيحة وقرباناً عن الخطاة.
قد شبع عقل عبدك أيها السيد، وامتلأ من حلاوة نعمتك البهية ؛ ومحبتك النفيسة، فلذلك أيها المحب للناس فيما هو يزداد حلاوة، ويستنير متواتراً، ويتأيد دائماً، يخالف كل حين ويعود وينتقل إلى مرارته غير مؤثر أن تكون له حلاوة سيده دائماً.
أيها الابن الوحيد الجنس، يا شعاع الآب الساكن في الضياء الذي لا يدنى منه، النور الذي لا يدرك، المنير كافة المسكونة، أضئ الناظر المظلم الذي فيَّ، لأنه قد خفي فيَّ ناظر مظلم فائضة بنعمتك ورأفاتك لئلا يدلهم العدو الغاش، لأن عقلنا المريض يضاهي النصبة الجديد نصبها التي تحتاج إلى سقي الماء دائماً.
هكذا ذهننا هو ضعيف مريض محتاج بلا انقطاع إلى الاستنارة من نعمتك، قولك يارب فتح عين المكفوف منذ مولده، عجب عظيم صار أيها السيد بسلوام، إذ الضرير حين أبصر بعينيه الجسدانيتين، أضاء ناظر ذهنه للحين ليبشر بلا خوف بخبره إنه إله الكل.
أضئ أيها السيد أعين قلبنا لنحبك، ونكمل بشوق مشيئتك دائماً، وإذ عين سلوام نائية عنا بعيداً، فها كأس دمك الرهيبة موعوبة نوراً وحياة فهبها لنا للفقه وللاستنارة.
فلنتقدم إليها بأمانة وشوق وقداسة، لتصير لنا تمحيصاً للخطايا لا للدينونة، لأن من يتقدم للأسرار الإلهية بنفس غير مستحقة يشجب ذاته، إذ لم ينظفها ليقبل الملك في حجلته.
فنفسنا هي عروس مقدسة للختن الذي لا يموت، والعرس هو الأسرار الإلهية، مأكولة بتقوى ومشروبه بجزع في النفس المقدسة.
فأصغِ إلى ذاتك حافظاً حجلتك بلا دنس، وكن مشتاقاً أن تقبل الختن السمائي المسيح الملك، لكي في يوم وروده يصنع فيك منزلاً مع أبيه، فيكون مديحاً كبيراً قدام الملائكة ورؤساء الملائكة القديسين، وتدخل إلى الفردوس فرح عظيم.
أيها الأخ ماذا يلتمس اللـه منك سوى خلاصك، فإن توانيت ولم تؤثر أن تخلص، ولم تسلك في طريق اللـه الممهدة، ولم تشاء أن تكمل وصاياه، فإنك تقتل نفسك، وتُخرج ذاتك من الخدر السمائي.
فإن الإله القدوس والغير خاطئ وحده لم يشفق من أجلك على ابنه الوحيد، وأنت يا شقي لا ترحم ذاتك.
فُقْ من نومك قليلاً يا مسكين، أفتح فمك مستغيثاً به، أطرح عنك ثقل الخطايا، ارحم نفسك، تضرع دائماً، أبكِ متواتراً، أهرب من الاسترخاء، أمقت الخبث، أرفض الرذيلة، حب الوداعة، تُقْ إلى الحمية، أدرس الترنم.
أحرص أيها الأخ ما دام يوجد وقت، حب اللـه من كل نفسك كما أحبك هو، صر هيكلاً للـه فيسكن فيك الإله العلي، فإن النفس الحاوية اللـه في ذاتِها هي هيكل للـه مقدس ونقي، تخدم فيها الأسرار العالية الإلهية أي مجد اللاهوت ويتبادر إلى افتقادها موكب الذين لا أجسام لهم.
فمنذ يسكن الرب في النفس، فالملائكة السمائيون يبتهجون بِها، ويحرصون أن يوقروها لأنَها هي هيكل سيدهم.
مغبوط الإنسان الذي أحبك من كل قلبه، ومقت العالم والأشياء التي فيه كلها ليقتنيك وحدك أيها الإله الكلي الطهارة، الدرة النفيسة، كنز الحياة.
فمن أحب اللـه هكذا حباً صافياً، وذهنه ليس على الأرض بل في العلا أبداً، حيث أحب واشتهى أن ينال، من هناك يتحلى، من هناك يستضىء، ومن هناك يشبع من محبة اللـه، بالحقيقة هي مملوءة سروراً وحلاوة، ومغبوط من ذاقها.
فمن يستطيع أن يصف حلاوة محبة اللـه وصفاً كما يجب، فإن بولس الرسول الذي ذاقها وشبع منها يهتف قائلاً: لا العلو بما معناه الذي فوق، ولا العمق الذي أسفل، ولا هذه الحياة نفسها، ولا الموت المنتظر، ولا جماعة الملائكة الرؤساء والسلاطين، ولا خليقة أخرى، فهذه كلها لا تستطيع أن تفصل من محبة اللـه النفس التي ذاقت حلاوته.
نار لا تموت، محبة اللـه في النفس المشتاقة إليه، فإنَها تجعل حواسها متلألئة الضياء، فترفعها من الأرض لتبغض الأرضيات وتعاين الإله الذي أحبته.
والشهداء والقديسون يعلموننا الذين ذاقوها وتملوا منها، أن محبة اللـه قيد لين ناعم، ولا يمكن السيف ذو الحدين أن يقطعها، فالأمراء قطعوا أعضاء القديسين، فأما محبتهم فما استطاعوا أن يقطعوها.
يا لقيد محبة اللـه الناعم الذي لا يمكن أن يفك، إن المحبة لا يقطعها سيف، ولا تطفئها نار.
قطعوا الأعضاء والمحبة ما صرموها، حرقوا الأعضاء وقيود المحبة لم يفكوها، حرقوا أجساد القديسين أيضاً ومحبتهم لم يحرقوها، قيدوا أعضاء الأبرار ولم يقيدوا محبتهم.
من ماذا ترى لا يتعجب من قيد المحبة اللين الترف الذي لا ينقطع قط ولا ينفك أبداً، من أحب اللـه حباً صافياً فقد أقتنى مثل هذه المحبة، لأن هذه المحبة أعطاها المسيح لكنيسته أن تتزين دائماً بِهذه المحبة، لأن هذه المحبة عربون اللـه للنفس.
المحبة قاعدة راسية في النفس القديسة، هذه المحبة أنزلت الابن الوحيد إلينا، بِهذه المحبة تأنس الإله، بِهذه المحبة شوهد من لا يرى، بِهذه المحبة فُتح الفردوس، بِهذه المحبة قُيد القوي، بِهذه المحبة صارت النفس عروساً للختن الذي لا يموت، لكي ترتأي حسن نَهاية في ذاتِها دائماً.
من أجل هذه المحبة تألم الختن الطاهر الذي لا يتألم، لأن النفس إن كانت مصفرة من المحبة لا يرضى بِها السيد السماوي، ولا يشاء أن يظهر بالكلية اختيار نيتها.
فلذلك خولها سلطاناً دفعة أن تسير دائماً كما تشاء وترتأي، أفترى من يستطيع ومن يكون كفواً أن يمجد ويسبح الإله المخلص عن الموهبة التي أخذناها كلنا بنعمة اللـه. المجد والسجود لمسرته.
فإذ قد سمعتم يا إخوتي مشورة حقارتي النافعة، فلنحرص دائماً ما دام لنا زمان أن نسير بطهارة، وبما هو أهل للـه ليسكن فينا الروح القدس، وتتكاثر محبة اللـه فينا، مكملين مسرته كل حين.
لا نقتني يا إخوتي سوى هذا الاهتمام، وهو أن نجد نفوسنا في النور، وأن لا نطفأها بأحد الأمور الأرضية، والهموم العالمية، والقنية والأموال.
ولنزينها بالصلوات والأصوام والأسهار والدموع، حتى تجد النفس دالة يسيرة أمام منبر المسيح المرهوب، حيث تقف النفوس كلها بخوف، حيث يصير تمييز المختارين من الخطاة، ويقف الخراف عن اليمين، والجداء عن اليسار.
فأيقنوا يا أولادي أن ورود المسيح قريب ليعطي كل واحد نظير عملة، ويسكن مختاريه في الضياء والسرور الخالد، والخطاة الذين أغاظوه يقطنهم في الظلمة.
فمغبوط الإنسان الذي يجد في تلك الساعة دالة ويسمع ذلك الصوت السعيد القائل: تعالوا يا مباركي أبى، ويا جماعة مختاري رثوا مملكتي.
حينئذ يشاهد كل واحد ذاته في النور، ويتأمل بذاته مجداً لا يقاس قدره، فيتعجب متفكراً في ذاته قائلاً: أترى أنا هو، فكيف وجدت هكذا أنا الحقير مستحقاً.
وحينئذ تتقدم الملائكة بسرور يشرفون القديسين ويمجدونَهم ويشرحون ويصفون لهم سيرتِهم، وهي النسك، الحمية، السهر، الصلاة، الفقر الاختيارى، هجر القنية الكامل، الصبر في العطش، الثبات في الجوع، الدوام في الصلاة، الفرح في العري من أجل المحبة التامة التي للمسيح.
تقول هذه الملائكة للصديقين بفرح، فيجيبهم الصديقون قائلين: يوماً واحداً من أيامنا على الأرض لم نصنع فيه تقويماً حسناً.
فتذكرهم الملائكة أيضاً بالموضع والوقت، فإذا تعجبوا في ذاتِهم يمجدون اللـه ناظرين أجسام القديسين ألمع من النور، لأنَهم حزنوا على الأرض باختيارهم، وبصبرهم خبئوا فيهم الدرة النفيسة، وصنعوا لهم حلة لا دنس فيها للعرس.
وجدوا في الحقل كنزاً، فباعوا كل الموجودات التي لهم على الأرض، واقتنوا ذلك الكنز.
تعب النسك قليل يا إخوتي، والراحة عظيمة، تعب النسك زمان قصير، وراحته في جنة النعيم إلى أبد الدهر.
فمن عرف ذاته أنه أخطأ إلى اللـه، وتراخى بنيته، وأخطأ عمداً، فما دام يجد زماناً؛ فليبكِ باشتياق، ولينتحب بلا انقطاع، ليجذب الدموع إلى قلبه سروراً، وليقتنِ تخشعاً، ويحمِ جسمه بالدموع والزفرات.
هل اختبرتم يا إخوتي الدموع ؟ هل استضاء أحدكم بنعمة الدموع من أجل اللـه ؟
فأيقنوا يا إخوتي أن ليس على الأرض ألذ حلاوة من الفرح والتخشع في تلك الساعة.
إذا صلي الإنسان ورأى الإله جالساً في قلبه دائماً، من منكم أختبر هذا، أو أستطعم الدموع حين صلى بارتياح وشوق، وأرتفع من الأرض وصار بجملته خارج الجسم، أليس يصير خارج هذا الدهر كله، ولا يكون على الأرض، لأنه يناجي الإله نفسه، ويستضئ بالمسيح، ويتقدس بالروح القدس.
يا إخوتي عجب عظيم أن يخاطب إنسان ترابي في صلاته الإله الذي لا يُرى، مغبوط الرجل الذي له كل وقت تخشع من أجل اللـه.
التخشع يا إخوتي هو شفاء النفس، الخشوع هو استنارة النفس، التخشع يفيد دائماً غفران الخطايا، التخشع يجذب إليه الروح القدس، الخشوع يُسكن فينا الابن الوحيد إذا صبونا إليه، وإني لخائف أن أصف لكم اقتدار الدموع.
حنة بالدموع أخذت من اللـه صموئيل النبي بسمو وفخر لقلبها، المرأة الخاطئة في منزل سمعان أخذت من المسيح غفران خطاياها حين بكت وبلت رجليه المقدستين.
عظيمة قوة الدموع وتقتدر كثيراً، الدموع التي من أجل اللـه تُجلى دائماً النفس من الخطايا، وتنظفها من الأثام، العبرات تمنح دالة لدى اللـه القدوس، والأفكار الدنسة لا تقدر قط أن تقارب النفس الحاوية التخشع.
فماذا ترى يكون أعلى سمواً من هذه الحلاوة ؟ وأي شيء يكون مأثوراً أكثر من تطويبها إذا ما حوت الإله الذي تصلي وتبتهل إليه ؟
أيها الإخوة إذا صبت النفس إلى اللـه تبصره دائماً في صلاتِها وتدرس في الليل والنهار، التخشع هو كنز لا يُسلب، النفس الحاوية التخشع تفرح فرحاً لا ينطق به، وقلت التخشع لا يوماً واحداً فقط بل إنما أعني التخشع الصائر دائماً باطناً في النفس ليلاً ونَهاراً.
التخشع في النفس هو كعين صافية، تسقي أغصانِها المثمرة فيها، وقلت أغصانَها المثمرة، أعني بذلك الفضائل التي تسقى دائماً بالدموع والزفرات، فتثمر ثمراً رائقاً نضارته في نفسك نافعاً أبداً.
فلتكونن غروسك مختارة وبَهية، أسقِ أيها الأخ غروسك بلا انقطاع مبتهلاً بدموع حتى إذا سقيت تنمو وتثمر يوماً فيوماً، لا تصر متشبهاً بي أنا المسترخي الخاطئ الذي أقول كل يوم ولا أعمل ألبته.
لا تصر هكذا متوانياً بنيتك مسترخياً باختيارك، فإنه لا يكون لك خشوع ولا صلاة نقية، فأنني أعرف نفسي كل حين خاطئاً، وأنا متخوف دائماً من الدينونة المنتظرة، وليس لي اعتذار عن جرائمي.
فأطلب إليكم يا إخوتي القديسين الخائفين من اللـه، والعاملين دائماً الأفعال التي ترضيه، أن تشفعوا إليه عني أنا الحقير لتوافي إليَّ نعمة بصلاتكم، وتخلص نفسى في تلك الساعة المخيفة المرعبة إذا جاء المسيح ليكافئ كل واحد نظير أعماله.
المجد للإله وحده القدوس الذي لا يموت، الصالح المرهوب الطاهر المتحنن، الجاعل لساننا الحقير بنعمته مترنماً بألفاظ العدل والمحبة والتخشع لإبتناء النفس، وإنارة القلب، ومنفعة الذهن، حتى تتحلى النفس بتلاوة هذه الأقوال، وتجتذب إلى الحياة الأبدية بربنا يسوع المسيح.الذي له المجد والعز والقدرة الآن ودائماً وإلى آباد الدهور آمين
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
13 نوفمبر 2020
اعرف حقيقة نفسك
«مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟» (1كو2: 11).
+ الناس يعرفون عنّا ما يرونه. وأحكام الناس فينا هي أحكام مبنيّة على ما نبدو عليه من الخارج. الشكل الخارجي قد يختلف كثيرًا عمّا هو بالداخل. فكلّ إنسان يعمل جاهدًا أن يَظهر بمظهر لائق، ويجاهد لكي يخفي ما لا يليق أو ما لا يَعجِب. والطامة الكبرى هي ضبط السلوك الخارجي بينما الداخل على غير ذلك. وقد كانت هذه عِلّة الكتبة والفريسيين والكهنة ومعلّمي الناموس.
+ كانوا عارفين الحقّ، وكان عندهم مفاتيح المعرفة. وقد قال الرب لهم بكلّ الأسف: «مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ» (لو11: 52). وقد يبدو أنّ هذه الضربة لم ينجُ منها إنسان ولا سيّما المتديّنين. وقد بلغ الأمر أنْ قيل عنهم «لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا» (2تي3: 5). ويجدر بالإنسان أن يراجع الويلات الثمانية التي قالها الرب للكتبة والفريسيين قديمًا (راجع مت23). وإن كان هؤلاء قد مضوا ومضى زمانهم.. فلنعتبر نحن لئلا يصيبنا ما أصابهم.
اعرف حقيقة نفسك
الأمر يحتاج إلى مَرّات ومَرّات يجلس فيها الإنسان منفردًا في هدوءٍ، ويبدأ يزيل كلّ ما هو غريب على طبيعته المخلوقة على صورة الله فى القداسة والحق. هذه الأيقونة البديعة شوّهتها الأيام، والمعرفة الكاذبة، ومعرفة أنواع الشرور، وممارسة الكثير منها.. طبقات طبقات من سنين جهل، وسلوك غير منضبط، وخِبرات شرور، وما علَق في الذّهن من مبادئ عالمية، أو أناس فاسدي الذّهن عادمي الحقّ.. إلى خُلطة أناس غير مقدّسين.. إلى انفتاح الذهن على طرق الشرّ والخبث والحقد وحُب النقمة. إلى ما صار مخزونًا في الذاكرة، من مناظر ومواقف تخدم الشرّ والشهوات.. إلى حُبّ المال، وحُبّ الظهور، وما هو سائد من أعراف العالم وحتميّاته الكاذبة.. إلى ما جُرِحَت به النفس جراء سقوطها في يد العدو وقبولها مشورات الخبث.. شيء مهول كَتَرَاكُم جبال. كم يحتاج إلى الخلود إلى الحق، لكي يكشف الإنسان عوار نفسه؛ ويحتاج إلى دموع توبة، وتبكيت وسهر وصلاة، حتى يصِل إلى حقيقة النفس التي تغرَّب عنها. لأنّه لما قبلنا بإرادتنا كلّ ما عُرِضَ علينا من أمور العالم، وزيف كلّ ما فيه، وتفاعَلنا عائشين بالأيام والسنين حسب أهواء الناس كباقي المجتمع.. صار فينا بذلك تراكُمات من عوائد وتصرّفات بعيدة عن طبيعتنا الجديدة المخلوقة في المعمودية. لذلك وَجَبَ علينا أن نعود إلى أصلنا. وإن كانت الحياة بعيدة عن أصلنا أفقدتنا كثيرًا من وعينا الروحي، وقدراتنا، بل وحُبّنا وتمتُّعنا بما هو روحي سماوي. ولكن قوة التوبة والرجوع تجعلنا نتحصّل على ما فُقد منا، بل بالحرى أكثر وأكثر، لأنّ لهيب الغيرة الروحية عند اكتشاف ما فُقد منا يدفعنا إلى جهادات وصراع وتصحيح وحزن، بل وبُكاء وغيرة متقدة.. قادرة بالنعمة أن ترد إلينا ما كان لنا بالأكثر كثيرًا.
+ خُذْ مثلاً.. إذا جلستَ إلى نفسك: بصلاة وهدوء، وتذكّرتَ أيام طفولتك الأولى.. كيف كان شكلك؟ كيف كان ذهنك وفكرك وقلبك.. وبساطة نفسك؟ كلّها نور، وكلّها خير، وكلّها بساطة واتضاع ونقاوة قلب وفكر وفرح.. كلّ هذا الخير وهذه الصورة القديمة التي في ذهنك هي حقيقة نفسك. فأين أنت منها الآن؟!! وهل من رجوع؟ وهل ممكن الرجوع إلى تلك الصورة بعينها؟!! ألستَ تعلم أنّ هذا هو قول الرب: «إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ» (مت18: 3). التوبة هي الرجوع إلى الأصل. والأصل فينا هو معموديّتنا المقدّسة. وولادتنا من الله من بطن الكنيسة، مخلوقين «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (1بط1: 23). قد يندم الإنسان عندما يَضَع مقابله صورته الأولى، وما فيها من براءة الأطفال، وواقعه الحالي بكلّ ما فيه. ولكن هذا الندم لابد أن يكون الدافع الأول للرجوع. إذ أنّ الربّ لم يغلق الباب ولن يغلقه لأنّه قال: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا» (يو6: 37). بل بالعكس فالرب ذاته قال: أنا «وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ» (رؤ3: 20). إذن المفتاح من داخلك.. في يدك وفي مقدورك.. فلتفتحْ للرب باب قلبك.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد