المقالات
25 يناير 2021
القديس أنطونيوس أب لفكرة وطريق وأب لمنهج روحي جديد
القديس الأنبا أنطونيوس له فضائل وميزات عديدة، لعلكم سمعتموها من قبل لذلك أتحير فى كل سنة، عن آي شئ أخاطبكم . ولكن لعل من الأشياء التى نذكرها فى مقدمة ميزات هذا الإنسان البار ، أنه أحد الأوائل أقصد أنه واحد من الذين شقوا طريقا جديدا، طريقا صعبا وجميلا ، لم يسبقه إليه أحد من قبل رهبان كثيرون ملأوا الدنيا آلاف وملايين . لكنه كان أول راهب فى العالم ،له مكانته، لأنه أول من سار فى الطريق ، وأول من وضع نظمه وأسلوب حياته، وأول من شرحه للناس وعرفهم به تماما كما نقول مثلا أن كثيرين كتبوا عن لاهوت السيد المسيح . لكننا نذكر القديس أثناسيوس الرسولى كأول لاهوتي كبير، ألف، ورد على الأريوسية فى هذا المجال وكثيرون كرزوا باسم السيد المسيح فى أرض مصر. لكننا نذكر أسم القديس مار مرقس ،لأنه أول من كرز فيها، ولم يسبقه فى ذلك أحد من قبل إن الأوائل الذين بدأوا الطريق ،لهم مكانتهم كلنا ، إن سرنا فى طريق الرهبنة، إنما نتبع أقدام القديسين الأوائل، وكما ساروا نسير . أما القديس الأنبا أنطونيوس ، فحينما شق طريقه فى الرهبنة لم تكن هناك أقدام سبقته فى هذا المجال من قبل.إنه أب لطريق ،بل أب لأصعب طريق، طريق الموت عن العالم ، طريق التجرد الكامل عن كل شئ وقد سار فى هذا الطريق وحده ،لما بدأعظمة الأنبا أنطونيوس ، أنه لم يوجـد أحـد يقـوده ويرشـده فى الرهبنـة بل هو الذي قـــاد وأرشــد الكل.كل من يترهب حاليا ،آباء ومرشدين، يشرحون له كيف يبدأ ، وكيف يتدرج وينمو. ويحكون له أسرار الحياة الرهبانية وأعماقها وطقسها، ويظهرون له حروب وحيل الشياطين، وكيفية الانتصار عليها ويمسكون بيد هذا المبتدئ، ويقودونه خطوة خطوة ، حتى يصل أما الأنبا أنطونيوس فلم يجد له مرشدا، وسار وحيدايقول الكتاب:" اثنان خير من واحد لأنه إن وقع أحدهما ، يقيمه رفيقه. وويل لمن هو وحده إن وقع ، إذ ليس ثان ليقيمه"( جا 4: 9 ،10 ).وكان الأنبا أنطونيوس وحده، ولكن لم يقع سار وحده فى طريق الرهبنة، بلا أب، بلا مرشد ، بلا زملاء فى الطريق ، بلا تعزية من آي إنسان. بل أيضا بدون الوسائط الروحية المتاحة للجميع ، بلا كنيسة بلا شئ يسنده فى الغربة والقفر والوحدة والحروب سوى إيمانه بأن الله معه ومع ذلك لم يستصعب الطريق ، بل سار وحده ، ومعه الله لهذا نحن نكرم الأنبا أنطونيوس وكل الذين يترهبون الآن ، مهما ارتفعوا ،لا يمكن أن يصلوا إلى درجة هذا القديس فعلى الأقل الدفعة أتتهم من الخارج . هناك من تابعوهم فى حياتهم الروحية النسكية ، حتى وصلوا لكن الأنبا أنطونيوس ، أتته الدفعة الأولـى مـن داخـله ولما دخل إلى الرهبنة فى أيامه ، دخل إلى المجهول سار فى طريق لا يعرف معالمه ، ولا يعرف حروبه حاليا توجد كتب للرهبنة، يوجد بستان الرهبان ، والعديد من الكتب النسكية ، كتبها كبار الأباء عن الحياة الرهبانية، وتوجد أيضا سير الآباء المتوحدين والسواح. والذي لا يجد مرشدا ، يمكنه أن يتعلم من الكتب أما فى وقت رهبنة الأنبا أنطونيوس ترد على الذين يبررون فى سقطاتهم ، معتذرين بأنهم لم يجدوا أب اعتراف، ولا مرشدا روحيا ، ولا قدوات صالحة أمامهم. لذلك سقطوا ! هو ذا الأنبا أنطونيوس لم يجد شيئا من هذا كله ، ومع ذلك سار فى طريق الكمال بلا عثرة. وكان الرب يرشده.؟
إنه لم يكن أبا للرهبان فقط ، إنما أبا للرهبنة ذاتها هو ذا الذي وضع أسسها وروحها ، وقدم للعالم صورته.وإن أردنا أن نفهم ما هي الرهبنة فى أصولها ، إنما نرجع فى ذلك إلى الأنبا أنطونيوس لذلك كانت حياته ذات تأثير عجيب ، أينما عرفت كانت سيرته مسكا لأنها كانت شيئا جديدا على العالم كانت حياته جديدة لم يعرفها العالم من قبل لقد أعطى العالم صورة جديدة عن طقس فى الحياة لم يكن مألوفا من قبل . فكان الناس يأتون من أقاصي الأرض لكى يروا هذه الحياة الجديدة ، وهذا الإنسان العجيب ، الذي يسكن الجبال والمغاير والبرية القفرة، وتمر عليه ثلاثون سنة لا يرى فيها وجه إنسان ، ومع ذلك فهو سعيد فى وحدته وعزلته ونسكه كان أعجوبة فى عصره. مجرد النظر اليه كان يفرح القلب …
كما قال أحد تلاميذه:[ يكفيني مجرد النظر إلى وجهك يا أبى ] . وكثيرون أحبوا الرهبنة لمجرد النظر إلى وجهه، واشتهوا أن يحيوا نفس حياته التى أعجبوا بها لقد كانت حياته ،فى صمت ، عظة جذبت إليه الكثيرين كانت حياة جديدة . لم تكن هروبا من العالم الأنبا أنطونيوس ،كان شابا غنيا، وكان العالم منفتحا أمامه. كان يملك ثلاثمائة فدان من أجود الأطيان فى الصعيد، وكان أبوه ذا مركز وسلطان ، ويستطيع أن يرث أباه فى المركز والكرامة. إن الدنيا لم تضق فى وجهه ليهرب منها . فلماذا إذن تركها ؟إنه لم يهرب من العالم ، بل أرتفع فوق مستوى العالم وكان هذا هو سـر عظمته ، وسـرإعجاب الناس به لقد أرتفع فوق مستوى الأطيان ، فوق مستوى الغنى ، وفوق مستوى السلطة، بل فوق مستوى العالم كله، بكل شهواته. وشعر أن العالم كله ليست له قيمة وأعطى للناس درسا عمليا فى تفاهة العالم، كما أعطاهم درسا مقابلا فى اهتمام الإنسان بأبديته ، قبل كل شئ وفيما كان الناس يتنافسون على ملاذ العالم وعظمته، وجدوا أنسانا يرتفع فوق هذا المستوى كله، وينظر إلى شهواتهم كتفاهات ، ويحمل عصاه فى يده، ويضرب بقدمه فى البرية، خارجا من العالم بإرادته، واهبا كل أمواله للفقراء ، لكى يحيا حياة الفقر الاختياري … مع الله وكان هذا شيئا جديدا عل الناس وكان جديدا عليهم أيضا أن يسكن فى مقبرةومهما ضربته الشياطين فيها ، وأخافته بكل طرق الرعب ، يظل باقيا متحديا قوة الشياطين ، قائلا لهم [.. وإن كان الله لم يعطكم سلطانا على ، فلن يستطيع أحد منكم أن يؤذيني]إنسان يظهر له الشياطين بهيئة أسود وفهود ونمور ، وبأصوات مفزعة، يحاربونه لكيما يخاف ويرجع. ولكنه يصمد. إنه فوق مستواهم ، وفوق مستوى مقدرتهم وسلطانهم….
لقد أرتفع فوق مستوى الخوف ،لا فى المقبرة، ولا فى الوحدة. لم يخف الشياطين، فخافت منه الشياطين وكان هذا شيئا جديدا على الناس ، أذهلهم واستهواهم من هذا الذي يعيش فى أعماق الجبل وحده ، حيث الوحوش والحيات ودبيب الأرض ، وحيث العزلة المخيفة ، والوحدة المملة ، وحيث حروب الشياطين ؟! ومع ذلك فهو لا يخاف ، ولا يل ، بل يحيا سعيدا، مفضلا هذه الحياة على كل ملاذ العالم…!رجل له قلب من حديد. دخل البرية ليس فقط بالنسك والزهد والصلاة ، وإنما أيضا بشجاعة عجيبة.إنه نوعية جديدة من الناس ، لم يرها البشر من قبل .
أغلق على نفسه مغارة ثلاثين سنة ، لا يستقبل أحد . وكان الناس يقرعون على بابه، ويتركون له بعض الحبوب والبذور ، ويمضون لشأنهم… وأخيرا لم يحتمل الناس البعـد عنه. كان وراء هــذا المجهـول شئ يستهويهم كان وراء بابه المغلق شئ يجذبهم فظلوا يقرعون بابه . ولما لم يفتح لهم ، كسروا الباب ودخلوا ، وقالوا له: نريد أن نعيش معك ، ونحيا الحياة التى تحياها، بأية طريقة ، نبقى معك تحت ظل صلواتك استهوتهم هذه الحياة المرتفعة عن مستوى العالم واستهواهم هذا القلب ، الذي يحيا وحده ، مكتفيا بالله هذا القلب ، الذي لا يحتاج إلى عزاء الناس ،لأن عزاء الله يكفيه… والذي لا يحتاج إلى أحاديث الناس،لأن الحديث مع الله يشبعه . استهواتهم حياته كلها، فبقوا معه هذه هي عظمة الأنبا أنطونيوس . لم يكن سرها ارتفاعه فى فضائل معينة كأن يطوى بعض الأيام صوما كالقديس مقاريوس الإسكندري ، كلا بل كان لعظمته سبب أخر :
سر عظمته، أنه اكتشف طريقا ، ما كان الناس يعرفونه قبلا . وأحب الناس هذا الطريق ، وأحبوا الأنبا أنطونيوس معه كانت للأنبا أنطونيوس فضائل كثيرة . فكان مشهورا بإتضاعه ، وبصلاته ، ومعرفته وإفرازه وزهده . ولكن ما أكثر من اتصفوا بهذه الصفات . أما الذي ينفرد به هذا القديس عن الجميع ، فهو قيادته لطريق الرهبنة الروحي فى فترة حديثة، كان البعض يتشاجرون ويصيحون قائلين" لا بد من أن يكون البطريرك من الرهبان…!"أما فى أيام الأنبا أنطونيوس ، فلم يكن البطاركة من الرهبان كانت الرهبنة طقسا روحيا، أعلى من عمل الرعاية، حقا لم تكن أعظم من الكهنوت ورئاسته، وإنما كانت حياة أجمل ،هي الأقرب إلى حياة الملائكة من الآباء كان يقبل أن يترك جمال الرهبنة ويصير بطريركا؟!عاش الأنبا أنطونيوس105 سنة ، وعاصر بطاركة عديدين. ولم يصير من الآباء البطاركة، بل شماس من تلاميذه ، هو الأنبا أثناسيوس صار بطريركا . وبقى الأنبا أنطونيوس فى حياته الروحية الحلوة . بكل عمقها،
وكل ارتفاعها ساعة واحدة يقضيها مع الله ، يمكن أن تنفع الكنيسة أكثر مــن جهــاد سنــوات وشهــور فى عمل الرعاية لما انتشرت البدعة الأريوسية ، وصارت خطرا على الكنيسة ، وظل القديس أثناسيوس يقاومها بالآيات والتفسير ، وبالجدال اللاهوتي والحوار المنطقي، أرسل الآباء الأساقفة إلى القديس الأنبا أنطونيوس ، لكى ينزل إلى الإسكندرية. لا للجدل اللاهوتي ، فما كان رجل جدال، وإنما من أجل تأثير روح الله الذي فيه . فنزل القديس ، وكان عمره حوالي المائة عاما . وقضى فى الإسكندرية ثلاثة أيام كان لها تأثير عجيب عميق فى الناس .
يكفى أن يسمعوا من فمه الطاهر أن الابن مساو للأب فى الجوهر … كلمة يقولها بلا جدال ، تسندها حياته المملوءة قدسا المحبوبة من جميع الناس ، تذكرنا بقول قائد المائة للرب :" قل كلمة فقط ، فيبرأ غلامي" وكان الناس ينتظرون من الأنبا أنطونيوس أن يقول كلمة فقط . فقال وأحدثت الكلمة تأثيرها.
القديس الذي كان مرعبا للشياطين، أما كان مرعبا للهراطقة ؟!
وبعد ذلك تقول سيرة القديس ، أنه عاد إلى ديره، كغريب يلتمس وطنه. حقا كان العالم غريبا عليه… غريبا على رجل الجبال والبراري والوحدة…وأبى الرهبنة الأصلية وصدقوني أن كلمة (رهبنة) ترجمة غير سليمة لحياة الوحدة إن كانت مأخوذة من عبارة: يرهب الله آي يخافه ، فالقديس الأنبا أنطونيوس نفسه قال لأولاده[ أنا لا أخاف الله . ذاك لآني أحبه، والمحبة تطرح الخوف إلى خارج] (1يو 4: 18) . فبماذا نسمى الرهبنة التى قادها الأنبا أنطونيوس ؟
الرهبنة هي حياة الملائكة الأرضيين أو البشر السمائيين الرهبان بشر يحيون حياة الملائكة ، وهم على الأرض . وقـد كان القــديس الأنبا أنطونيــوس هو أول الملائكة الأرضيين لي يا أخوتي مقر فى دير الأنبا بيشوى ، أقضي فيه نصف أو ثلث كل أسبوع . وفى أعلى هذا المقر ، لي كنيسة خاصة أسميتها :" كنيسة الملاك ميخائيل والأنبا أنطونيوس هو رئيس الملائكة الأرضيين غير أن الأنبا أنطونيوس يتميز على الملاك ميخائيل بميزتين الأولى أن الملاك ميخائيل ، خلقه الله هكذا، ملاكا أما الأنبا أنطونيوس . فقد ولدته أمه إنسانا . ولكنه تحول بسيرته الطاهرة إلى ملاك ، وأصبح فى مقدمة الملائكة الأرضيين والميزة الثانية أن الأنبا أنطونيوس ولد على الأرض ، واستطاع أن يحول الأرض إلى سماء ، والرهبان إلى كواكب ، فسموه:" كوكب البرية" وسموا " تلاميذه كواكب البرية" لقد أكتشف الأنبا أنطونيوس أن الدنيا لا تساوي شيئا . وهذا الاكتشاف عرفه قبله اثنان، وبقيا يعملان فى الدنيا أولهما سليمان الحكيم ، الذي قال أن الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس (جا 2: 11 ) . ومع ذلك بقى سليمان حياته كلها يعيش وسط هذا الباطل والرجل الثاني هو القديس بولس الرسول ، الذي قال :" خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية، لكى أربح المسيح" ( فى3 : 8 ) . ومع أنه عرف أنها نفاية ، بقى فى الدنيا من أجلنا ، يخدم، لأنه ائتمن على وكالة . وهكذا عاش فى الدنيا، ولم يعش فى نفايتها.سليمان بقى فى العالم كملك، وبولس بقى كرسول أما الأنبا أنطونيوس ، فلم يبق فى العالم ، ولو للخدمة أرتفع فوق مستوى الخدمة الأرضية التى كانت لسليمان ، وفوق مستوى الخدمة الرعوية التى كانت لبولس . وعاش فى الخدمة الملائكية التى كانت لطقس السارافيم وقدم لنا هذه الحياة نموذجا لطقس الملائكة الأرضيين كل راهب فى الدنيا يعتبر نفسه أبنا للقديس الأنبا أنطونيوس ، ليس الأقباط فقط ، وأنما الكاثوليك أيضا، وكل الأرثوذكس شرقيين وغربيين ، وكل محبي الوحدة فى العالم الكل يشتركون معا فى محبته، وفى إكرامه ،وفى البنوة له لقد قدم للعالم كله حياة التأمل والصلاة ، حياة الوحدة والسكون ، حياة الزهد والتفرغ الكامل لله قدم لنا حياة جديدة، لا تستمد عظمتها من الخارج لا تستمد عظمتها من الألقاب ، ولا من الجاه والسلطان، ولا من الوظائف ،ولا من الكهنوت، ولا من الرعاية، ولا من العلم والجدل والمعرفة. إنما تستمد عمقها من الداخل ، من الصلة الدائمة بالله ، فى حياة الروح هذا هو المنهج الجديد الذي قدمه الأنبا أنطونيوس . ونحن نكرمه كأب لهذا المنهج، ونقول مبارك هو الرب الذي منحنا الأنبا أنطونيوس وفتح لنا به بابا للسمائيات، وقدس أقداس وسط الجبال وقدس لنا رمل البرية ، وتلالها ، ومغائرها . وصارت مغارة الأنبا أنطونيوس مزارا يتبارك به الناس من كل أنحاء العالم ،ليروا مكانا حل الله فيه، مرافقا للأنبا أنطونيوس ومباركا ونشكر الله لأن الأنبا أنطونيوس فبل أن يقود الرهبنة. لم يصر أن يحيا وحده كالأنبا بولا ،فى عزلة كاملة عن العالم، يقضى حياته كلها لا يرى وجه إنسان مبارك هو اليوم الذي قبل فيه الأنبا أنطونيوس ، أن يرشد آخرين، ويعلمهم هذا الطريق الملائكي الذي أختبره.
مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب تأملات فى حياة القديس أنطونيوس
المزيد
24 يناير 2021
القديس أنطونيوس جاهد وأنتصر
لم يمتلئ بالروح القدس وهو فى بطن أمه ، كالقديس يوحنا المعمدان . ولكنه ولد كشاب عادى ، من أسرة غنية. وكان المنتظر لمثله أن يرث أباه فى غناه وسلطته، وأن يتزوج، ويعيش سعيدا فى ظل الغنى والعظمة، ويكون ناجحا فى حياته وكل الإمكانيات متوفرة.
ولكن الأنبا أنطونيوس جاهد لا لكى يستفيد من هذه الإمكانيات ، وإنما لكى ينحل منها جميعا . وكيف كان هذا؟
1 ــ نجح فى اختبار "ما أعسر أن يدخل غنى إلى ملكوت الله "( مت19: 23). قال السيد المسيح هذا ، أما الأنبا أنطونيوس ، فأجابه: لا تحسبني يارب من هؤلاء الأغنياء .أنني حسب وصيتك سأبيع كل مالي وأعطيه للفقراء وأتبعك فقيرا والشاب الغنى أنطونيوس دخل الملكوت ، وأدخل الآلاف معه حقا كان يملك المال ، ولكن المال لم يكن يملكه كان هو السيد على المال ، يصرفه كيفما شاء. ولم يسمح للمال أن يكون سيدا، يقوده فى مسالك أخرى ولأن المال لم يملك قلبه، استطاع أن يتركه ويوزعه، ويمضى إلى الملكوت بدونه. وحينما كان الشياطين ينثرون الذهب أمامه على الرمل ، ما كان يهتم به. كان كالحصى فى نظره. وفقد المال قيمته فى قلب الأنبا أنطونيوس ،لآن قلبه كان منشغلا بما هو أثمن وأهم أذن المال فى حد ذاته ليس هو الخطورة، وأنما الخطورة تكمن فى محبة المال ، والتعلق به والسعى وراءه ، والاتكال عليه، والافتخار به.
2 ـــ وكما أنتصر الأنبا أنطونيوس على محبة المال ، أنتصر أيضا على محبة الجاه والسلطة ، فلم يهتم بأن يكون له مركز أبيه.
3 ـــ بل أنتصر على محبة العالم كله. ونفذ وصية:" لا تحبوا العالم والأشياء التى فى العالم ، لأن العالم يبيد وشهوته معه "وصار الأنبا أنطونيوس قلبا نقيا خالصا، وليس فيه شئ من شهوة المادة والجسد والملاذ الدنيوية المتنوعة كان قلبا مات تماما عن العالم وكل ما فيه.
4 ــ وكما انتصر فى كل هذه الميادين، أنتصر على محبته لأخته أيضا، ونجح فى تدبير مسئوليته من جهتها كان يمكنه أن يقول : ماذا أفعل ؟ أنا أريد الرب ، ولكن ظروفي العائلية لا تساعدني ، وأنا مسئول عنها ..؟كان يحب أخته، ولكن كان يحب الرب أكثر من أخته ،لذلك أمكنه أن ينتصر . وأودع أخته فى أحد بيوت العذارى، وشق طريقة نحو الله ، منتصرا على هذه العقبة.
5 ــ وفى أول جهاده، حاربه الشياطين بشكوك عديدة، فانتصر عليها .
شكوك من جهة صحة الطريق ذاته، وإمكان استخدام المال فى أعمال الخير تحت إدارته وتصرفه وهكذا يوقعونه فى التردد . ويحولونه من حياة الصلاة والتأمل إلى حياة الخدمة شكوك أخرى من جهة أخته ومدى اطمئنانه عليها شكوك ثالثة من جهة نجاحه فى هذا الطريق ، وقدرته على الاستمرار فيه…. وشكوك عديدة أخرى لا حصر لها ولكن قلبه كان راسخا ، لم يتزعزع إطلاقا أمام الشكوك .
6 ــ صادفت الأنبا أنطونيوس عقبة أخرى هي الإرشاد، فانتصر عليها:
عاش وحيدا، بلا مرشد، بلا أب اعتراف ، بلا كنيسة ، بلا معونة من أحد. ولكنه انتصر على هذا كله أيضا أخذ أولا من النساك الذين إلى حافة القرية. ولما دخل إلى الجبل، بدأ يأخذ من الله مباشرة . وأعطانا درسا أنه حيثما لا توجد معونات بشرية ، فإن المعونة الإلهية لا تتخلى.
ومنح الله لهذا القديس إفرازا وفهما روحيا وحكمة لم تكن للذين تمتعوا بإرشاد من البشر.
7 ــ ثم دخل الأنبا أنطونيوس فى حرب أخرى وانتصر فيها ، وهى حرب الرعب والخوف ، فى البرية القفرة المنعزلة لما وجد الشياطين أن المال والعظمة لا تهمه، وأن الأفكار والشكوك لا تزعزعه ، وأن الشهوات لا تغلبه بدأوا معه حربا عنيفة لإخافته. فكانوا يظهرون له فى هيئة وحوش كثيرة، لها أصوات مخيفة عالية ، تهجم عليه بقصد افتراسه. ولكن قلبه ما كان يخاف بل أنتصر على هذه المخاوف بوسائل ثلاث : الإتضاع، والفهم، والصلاة:
بالإتضاع كان يقول لهم :[ أيها الأقوياء، ماذا تريدون منى أنا الضعيف أنا أضعف من أن أقاتل أصغركم]. وكان يصلى قائلا :[ أنقذني يارب من هؤلاء الذين يظنون أنني شئ ، وأنا تراب ورماد ]. فلما كانوا يسمعون هذه الصلاة المملوءة إتضاعا ، كنوا ينقشعون كالدخان ومن جهة الفهم ، كان يقول :[ أنني أعجب لتجمهوركم على بهذه الكثرة. ولو كنتم أقوياء حقا . لكان واحد منكم يكفى ] وهكذا بالإيمان أيقن من ضعف الشياطين ، وكان هذا الإيمان يخزيهم فيمشون وقد استعملوا معه طرق الإيذاء والضرب ، وبخاصة حينما كان ساكنا فى مقبرة، ولكنه صمد وكان يصلى مزمور "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب عاضد حياتي ممن أرتعب ؟! إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي. وإن قام على القتال ، ففي هذا أنا مطمئن " مكان فى أيمان عميق يقول لمهاجميه:[ إن كان الله قد أعطاكم سلطانا على، فمن أنا حتى أقاوم الله ؟! وإن كان الله لم يعطكم سلطانا على ، فان يستطيع واحد منكم أن يؤذيني ] وهكذا عاش الأنبا أنطونيوس فى حياة الإيمان، لا يخاف وفى كل مرة ينتصر، كان يزداد أيمانه، وينتزع منه الخوف بالأكثر، إلى أن زال منه الخوف تماما . وقال أيضا:[أنا لا أخاف الله ،لآني أحب الله].
هذا هو رجل الجبال ، جبار البرية الذي لا يخاف ، حتى من الوحوش المفترسة، وحتى من الشياطين وبخبرته الروحية، استطاع فيما بعد أن يجمع تلاميذه، ويلقى عليهم كلمة عميقة عن ضعف الشياطين وعدم الخوف منهم. وقد سجل لنا القديس أثناسيوس الرسولى هذه الكلمة فى كتابه عن حياة الأنبا أنطونيوس وفى انتصار الأنبا أنطونيوس وعدم خوفه، ظل محتفظا بتواضعه.يشعر بضعفه، يصرخ إلى الله ، فينقذه الله بقوته الأهيه.قال الأنبا أنطونيوس:[ فى إحدى المرات أبصرت فخاخ الشيطان مبسوطة على الأرض كلها . فقلت يارب من يفلت منها ؟ فأجابني الصوت قائلا :" المتواضعون يفلتون منها"].
8 ــ ولعل من مظاهر التواضع العملي فى حياة الأنبا أنطونيوس ،وعدم التشبث بفكره ، أنه كان يخطع لفكر الآخرين أحيانا.ولا شك أن فى انتصار من الإنسان على نفسه وسنضرب لهذا الآمر فى حياة قديسنا عدة أمثلة:
أ- إنه أقتنع بحياة الوحدة ومارسها، وعاش 30 سنة مغلقا على نفسه لا يرى وجه إنسان وأخيرا أزدحم الناس على بابه ، مصرين أن يفتح لهم ، وأن يصير لهم مرشدا . وكان ممكنا لهذا القديس أن يهرب من هؤلاء، حتى لو فتح لهم، وأن يتمسك بحياة الوحدة الكاملة التى أرادها لنفسه . ولكنه خضع لهم وتحول من متوحد بالمعنى الكامل إلى متوحد ومعلم للوحدة . واضطر أيضا أن يفتح بابه لكثير من الزائرين. وغير شيئا من أسلوب حياته. لأجل الناس . وقبل الوضع الذي أراده له، وتنازل عما أراده لنفسه.
ب- فى اعتقاده أن الرهبنة موت عن العالم، وبعد عن العالم ، وحياة وحدة فى البرية. ولكن لما طلب اليه الآباء الأساقفة أن ينزل ليعلن رأيه فى الأريوسية ، خضع لهم ، ونزل إلى الإسكندرية، وسط جماهير الشعب ، وقضى هناك ثلاثة أيام ، أكمل فيها الرسالة المطلوبة منه، ثم عاد ملتمسا ديره كان من النوع المطيع ( المهاود) ،على الرغم من نزوله وقتذاك كان من حوالي المائة من عمره
ج- ونزل قبل ذلك أيام الاستشهاد، وكان يذهب إلى حيث محاكمة الشهداء وتعذيبهم ، ويشجعهم ويقويهم فى تواضعه، انتصر على التطرف ،وعلى التحجر والجمود عند فكر معين . أعطاه التواضع مرونة وسهولة فى التعامل
9 ــ وإنتصاره على التطرف ، جعله معتدلا فى حياته، يسير بإفراز وحكمة، سواء مع الناس ،أو مع نفسه أيضا .
أ- قال عنه القديس الأنبا أثناسيوس، إنه لما خرج من وحدته وحبسه لمقابلة الناس ، ما كان نحيفا جدا بسبب النسك ، ولا كان بديلا مترهلا بسبب قلة الحركة فى حبسه. إنما كان معتدلا فى قامته، لأنه كان يسلك فى وحدته باعتدال وعدم تطرف .
ب- وظل الإفراز من أولى الفضائل التى يحبها ،حتى أنهم حينما سألوه عن أهم الفضائل ،قال لهم الإفراز،آي الفهم والتميز والحكمة فى التصرف وقال أنه هناك من صاموا وصلوا وسكنوا البرية، وهلكوا ،لأنهم تصرفوا بغير إفرازأما هذا القديس فقد كان يسلك بفهم واتزان وحكمة وتمييز، بعكس الرهبان الذين يتطرفون فى آي قانون من قوانين الرهبنة، حتى يخرجهم تطرفهم ليس فقط عن مبادئ الحياة الرهبانية ،إنما أيضا عن مبادئ السلوك الروحي عموما
ج- وفى انتصاره على التطرف ، انتصر على التزمت أيضا:
ولذلك كان بشوشا باستمرار، وجهه يفيض بالسلام على الآخرين، فاشتهى تلاميذه مجرد النظر إلى وجهه. وكان كل من ينظر إلى وجهه يمتلئ بالسلام. وهكذا أنتصر القديس أنطونيوس على حرب الكآبة التى يقع فيها رهبان كثيرون، ولا يوجدون أمامهم فى الكتاب المقدس سوى عبارة:"بكآبة الوجه يصلح القلب " ناسين الآيات التى تقول:" أفرحوا فى الرب كل حين "،"فرحين فى الرجاء"… فحياتهم فى الرهبنة كلها عبوسة…!
أما الأنبا أنطونيوس ، فلم يكن هكذا . كان بشوشا ولطيفا. ومع ذلك فيه كل فضائل الرهبنة. يحيا فى وحدة وفى صمت. وإذا ألتقي بالناس ، يلتقي بهم فى سلام وحب، يعطى فكرة عن المتدين السعيد بتدينه، الذي تنظر إلى وجهه فتتعلم الهدوء والسلام والبشاشة والطمأنينة واللطف.كان صاحب وجه مريح…
مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب تأملات فى حياة القديس أنطونيوس
المزيد
23 يناير 2021
روحانية القديس أنطونيوس
لا يوجد مصري واحد معروف و مشهور فى تاريخ المسيحية كلها أكثر من القديس أنطونيوس. ورغم وجود كثير من البطاركة و معلمو الإسكندرية المشهورين، فإن اسم هذا الراهب البسيط الذى اختلى فى الصحراء، هو الذى جذب أكبر انتباه خلال ال1600 عامًا الماضية. إن سيرة حياته كانت ولا تزال واحدة من أكثر الكتب المقروءة انتشارًا فى كل التاريخ المسيحي .و قد ألهمت سيرته ليس الرهبان فقط من كل أنحاء العالم، بل ألهمت أيضاً مؤلفين مشهورين ورسامين مشهورين مثل ماتياس جرينوالد M. Gruenwald، هيرونيموس بوسكس Hier. Boschs، جوستاف فلاوبرت، لارز جايللينستن Lars Gyllonsten. إن صورة القديس أنطونيوس كما وصلتنا فى كتاب " حياة الأنبا أنطونيوس " بقلم القديس أثناسيوس، بطريرك الإسكندرية الشهير فى القرن الرابع، قد صارت على مدى التاريخ النموذج القياسي للدعوة الرهبانية، وهى بالنسبة لكثيرين، افضل شرح لـ : ماذا يعنى أن يكون الإنسان مسيحيًا ؟
وفى مشروع بحث تموله الحكومة النرويجية يحاول 20 عالمًا من السويد والنرويج حاليًا أن يكتشفوا وأن يصفوا ماذا كان يعنى فعلاً و حقًا بالنسبة للناس و المجتمع فى القرنين الثالث و الرابع أن المسيحية صارت هى ديانة الإمبراطورية. وما هى التأثيرات التى حدثت، وكيف تغيرت طرق التفكير. إن عنوان هذا البحث هو : " المسيحى . صياغة هوية جديدة فى التاريخ القديم المتأخر Late Antiquity " . وبدون نقاش كثير فقد صارت " حياة أنطونيوس بسرعة فى بؤرة التركيز into Focus . ما هى الشخصية المسيحية وكيف كانت تفهم، وكيف كانت تختلف عن الشخصية الوثنية. وربما تبدو هذه أكثر وضوحًا فى هذه "الحياة " (السيرة) من أى نص آخر من نصوص ذلك العصر. و لكى نمسك بروحانية القديس أنطونيوس، من الضروري أن نبدأ بالحديث عن " حياة أنطونيوس "، وهى السيرة التي كتبها القديس أثناسيوس. فروحانية هذا الكتاب " الحياة " قد كان لها أكبر الأثر و صارت مرادفة لشخص أنطونيوس نفسه. و طوال المائة سنة الأخيرة فإن باحثون كثيرون قد حللوا هذا النص من جميع زواياه. هل الذى كتبه هو القديس أثناسيوس؟ وهل اعتمد على أية مصادر؟ وهل يُعتمد عليه (يوثق به) تاريخيًا historically reliable ؟ وهل نحن نلتقى فى هذا الكتاب بأنطونيوس نفسه، أم أن ما نقرأه هو الصورة المثالية التى رسمها البطريرك أثناسيوس؟
و بالمقارنات مع النصوص الأخرى التي كتبها أثناسيوس وكذلك الإشارات إلى المراجع التاريخية، فقد اقتنع كل الباحثين تقريبًا أن نسبة هذا الكتاب للقديس أثناسيوس، هى صحيحة. والنص الآخر الذى يعتمد عليه فى هذا المجال هو " رسائل القديس أنطونيوس ". و التى سأعود للحديث عنها بعد ذلك. و الآن نحتاج أن نفحص بعمق " سيرة حياته " نفسها، و نحاول أن نفهم منها كيف ترسم لنا روحانية القديس أنطونيوس، وكيف تريد هذه السيرة لنا أن نفهم حياته الموضوعة أمامنا كنموذج " لحياة مسيحية حقيقية "، كما ورد فى مقدمة الكتاب.
و لكى نكتشف أين يوجد تشديد الكاتب نفسه، يلزمنا أن نلاحظ كيف يبدأ النص وكيف ينتهى هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن أمكن أن نجد أية تعبيرات أو أفكار متكررة. و لكى يمكننا أن نحقق هذه الناحية الثانية الخاصة بالتعبيرات المتكررة ينبغى فى جميع الأحوال أن نفحص بعناية تامة كيفية تركيب النص، وكيف تبدأ أجزاءه الصغيرة وكيف تنتهى. و فى كل الكتابات يتم التأكيد على بعض الأفكار بوضع تعبيرات معينة فى بداية الجملة أو فى نهايتها، أو فى بداية كل فصل أو فى نهايته أو فى بداية الكتاب أو فى نهايته. فالقارئ يتأثر دائمًا اكبر تأثرًا بالبدايات والنهايات. كان أنطونيوس رجلاً زاهدًا فى الحركة و زاهدًا فى الشهرة، فهو لم يكن يريد أن يصير معروفًا على الإطلاق. و منذ البداية قيل عنه إنه اشتاق أن يمكث بالبيت بكل بساطة، واشتاق أن لا يتعلم، وقد قيل فى الفصل الأخير إن معجزة قد حدثت حتى أن ذاك الذى تحاشى كل علانية و عاش منفردًا فى جبل قد صار مشهورًا فى العالم كله. وهذا الأمر يتكرر فى مواضع عديدة . فحينما دخل أنطونيوس تدريجيًا إلى الصحراء تؤكد السيرة دائمًا أنه كان يعيش وحده، وأن كل ما حدث له إنما أثناء اعتزاله فى مكانه الخاص. وفى الفصول ال15 الأولى من الكتاب نجد أن أنطونيوس ليس عنده شئ يقوله (للآخرين)، وأنه لم يكن له تلاميذ، ولا أصدقاء. وإنه حينما استقر فى البرية الداخلية وجد سلامًا فى عزلته.وعلى مستوى أعمق سوف نجد أن هذا التأكيد على العزلة والخلوة يرتبط بفكرة هامة أخرى: وهى فكرة المحافظة على الطبيعة الأصلية. أما كون أنطونيوس لا يذهب إلى المدرسة فكما أوضحت فى كتابى فإن هذا لا علاقة له بمعرفة القراءة أو عدم معرفتها، إنما هذا يدل على أن روحانيته لم تُكتسب من الخارج، أى ليست من صنع الإنسان، بل هى موهوبة له من الله خالقه. ومرة تلو مرة يستعمل المؤلف كلمات وتعبيرات تشير إلى الحماية والحفظ فى مقابل الاضطراب والتغير. وتوصف أهمية ما هو طبيعى بصورة حية جدًا فى فصل 14 حينما يخرج أنطونيوس من صومعته التى قيل عنها إنه عاش فيها 20 سنة فى عزلة كاملة. ويُقال هنا إنه لم يتغير بالمرة، فهو لم يصر نحيلاً من الصوم ولا صار بدينًا من قلة التمرن. كان فى توافق كامل بحسب حالته الطبيعية والأصلية. وبالنسبة للمؤلف، فإن جسده هو علامة تدل على الثبات الداخلى الكامل. وفى أحد الفصول الأخيرة يتكرر نفس الحديث فيُقال هذه المرة إن أنطونيوس البالغ من العمر 105 سنة والذى كان على وشك الوفاة، قد احتفظ بصحة جسمية كاملة، فعيناه لم تكلاً ولم يفقد ولا سنّة واحدة من أسنانه ويداه ورجلاه كانت كلها فى صحة كاملة. لقد كان فى حالة أفضل من أولئك الذين يحاولون أن يحسّنوا ما قد أعطاه الله بأنواع من الأطعمة والحمامات المترفة. وكما قلت، فقد كان جسد أنطونيوس علامة تشير إلى شئ روحانى. فحفظ الجسم وصحته إنما هى العلامة الخارجية فقط لفكرة تتخلل كل سيرة الحياة: فمعرفة الله مرتبطة بمعرفة النفس معرفة حقيقية. فمعرفة الله لا تأتى من الخارج بالتعلّم، بل من الداخل، بأن يكون الإنسان أمينًا لخلقته الأصلية. وفى المجادلات مع الفلاسفة التى يحاول المؤلف فيها أن يشرح الصفات المسيحية لفلسفة أنطونيوس، أى يشرح طريقة معيشته، نجد أن أنطونيوس يخبر الفلاسفة، أن اليونانيون يتعبون باطلاً بأسفارهم فى كل مكان لأجل الحصول على المعرفة فى حين أن المعرفة الحقيقية إنما توجد فى داخل الإنسان. والقراءة المدققة لعظة أنطونيوس الموجهة للرهبان تظهر نفس التشديد ولكن من منظور آخر. نجد هنا أن أنطونيوس يحاول أن يخبر تلاميذه كيف يعرفون إن كانت الرؤى أو الأفكار آتية من الله أم من الشياطين. فالقديس أنطونيوس يقول إن الشياطين يسببون القلق على الدوام، إنهم يحاولون أن يقسّموا ويمزقوا؛ بينما الملائكة يسببون السلام والهدوء ويقودون إلى الوحدة بدلاً من التفرق. ولكن هل هذا يعنى أن روحانية القديس أنطونيوس بحسب كتاب سيرته هى روحانية ترفض وجود أية علاقات مع الآخرين، أو مع المحتاجين؟ كلا . فالسيرة تنقسم إلى قسمين متميزين تمامًا. القسم الأول يصف خلوة أنطونيوس وتكوينه الروحي فى حياة الوحدة ويسجل عظته الطويلة التي يلخص فيها تعليمه. وينتهى القسم الأول بالقول إن أنطونيوس صار مثل الشهداء بسكناه فى البرية الداخلية. أما القسم الثاني فيخبرنا عن اهتمامه بالعالم. وفى هذا القسم يلتقى أنطونيوس أولاً بمجموعة من الناس يطلبون المساعدة، ويلتقى بعد ذلك بمجموعة من الفلاسفة، وأخيرًا بمجموعة من ممثلى الدولة. ليس هناك شك أن المؤلف يريدنا أن نرى فى أنطونيوس، راهبًا يشفى المرضى، ويصنع السلام بين المتخاصمين ويتشفع لأجل الفقراء، ويدحض الهرطقات ويقاوم ذوى السلطان. والنظرة الفاحصة إلى هذه الفصول من الكتاب تكشف أنها قد كُتبت بطريقة واعية تمامًا. وفى كل هذه الفصول نجد أنها تحتفظ بمسافة معينة. فحينما يأتي المرضى إلى أنطونيوس، فهو يخبرهم أن يعودوا إلى بيوتهم لينالوا الشفاء هناك. إنه لا يلمسهم، حيث إنه ليس هو الذى يشفى بل "الرب". فهو يظل فى عزلته ويشفى من بعيد. وفى لقائه مع الهراطقة يضع نفسه خلف رؤساء الكنيسة ويتحاشى أية مقابلات عن قرب. والأمر ذو الدلالة العظيمة. فإن علاقاته مع السلطة العليا مع الإمبراطور رغم أنه إمبراطور مسيحى، ومع الحاكم المُعين منه، إنما تتم فقط بواسطة الرسائل. وفى كل معاملاته مع العالم فإن أنطونيوس لا يترك خلوته الداخلية، لا يتخلى عن سلامه وهدوئه. ولكى نلخص روحانية القديس أنطونيوس كما وصفتها سيرة حياته، فيمكننا أن نقول إن أنطونيوس كان مبتعدًا بطريقة ما عن حدود المكان والزمان فهو كما لو كان موضوع خارج القيود التى يختبرها البشر. فهو كما تؤكد السيرة فى النهاية حاضر فى كل مكان حيث إنه مختفى عن كل إنسان هو غير مرتبط بأي شئ، وغير متأثر بأي شئ ولا معتمد على أي شئ حصل عليه من العالم أى من الناس ومن حضارتهم. فهو كما يقول المؤلف متعلم من الله فقط وتنبع قوته من السلام الداخلي ومن الانسجام الداخلي المتأصل فى طبيعته الروحية الأصلية. والأمر الضروري بالنسبة لسيرة حياة أنطونيوس أن يظل الإنسان على الحالة التي خُلق عليها.إن روحانية أنطونيوس هى روحانية تجد أصولها فى الاقتناع الأكيد بأن الإنسان مخلوق على صورة الله، وأن الفضيلة لا تُكتسب، بل تحتاج فقط أن نحافظ عليها.والآن، بعد أن حصلنا على هذه النظرة لروحانية "سيرة أنطونيوس"، يمكن أن ننتقل إلى رسائل القديس أنطونيوس لنسأل إن كانت تحمل إلينا نفس الروحانية ولكى نركز الحديث على روحانية هذه الرسائل، فإنى لن أتحدث عن محتواها ولن أناقش كل المشاكل اللاهوتية التى تنتج من تحليل محتواها، و لكنى أشير فقط إلى نقطتين هامتين فى تكوين روحانية هذه الرسائل النقطة الأولى هى، وحدة المعرفة :-
فالتشديد على المعرفة هو أحد الملامح البارزة للرسائل. فكاتب الرسائل يؤكد مرة تلو أخرى على أهمية المعرفة والفهم. وكل الرسائل تقريبًا تختم باقتباسين من سفر الأمثال 9: 9 ومن رسالة كورنثوس الأولى 15: 10 والاقتباسان يتحدثان عن أهمية الحكمة. فبدون أن يعرف الإنسان نفسه أو كما يعبر القديس أنطونيوس بدون أن يعرف الإنسان جوهره الروحي، فإنه لا يستطيع أن يعرف الله، لا يستطيع الإنسان أن يدرك أعمال الله الخلاصية. فالإنسان، بإدراكه لنفسه تمامًا يستطيع فقط أن يعرف زمانه و بالتالى أن يعرف كيف يعبد الله عبادة لائقة. ورغم أن الإشارات إلى المعرفة متنوعة جدًا وموضوعات المعرفة تختلف عن بعضها، إلاّ أن الرسائل تشدد دائمًا على أن كل أنواع المعرفة مرتبطة ببعضها؛ فمعرفة الله ومعرفة النفس ومعرفة الزمان، ومعرفة الخلاص، كل هذه تعتمد كل منها على الأخرى.و لكى ندرك أهمية المعرفة فى روحانية أنطونيوس ينبغى أن نعرف، ما الذى يعنيه أنطونيوس عندما يتحدث عن المعرفة، وذلك لكى نعرف مفهوماته الأساسية . إن القراءة المدققة للرسائل تكشف أن أنطونيوس يمثل نفس النظرة الأساسية عن المعرفة مثل مدرسة الإسكندرية بميراثها الأفلاطونى، فهذه النظرة ترى أنه: "أن تعرف" هو أن تصير جزءً من شئ . فالمعرفة ليست أن تملك معلومة عن شئ، بل أن تشاكله وتتوافق معه. وأكثر من ذلك فإنك تستطيع فقط أن تعرف ذلك الذى يملك ميلاً طبيعيًا نحوك أنت الذى تعرفه. الإنسان يستطيع أن يعرف الله حيث إن الإنسان له صلة بالله، ليس فقط بأن تكون عنده معلومات عن الله ؛ بل أن يكون له نصيب حقًا فى طبيعة الله، ولذلك فالمعرفة لا تحصل بجمع المعلومات والتعاليم، بل أن نأتى لنعرف، نأتى لنقترب منه ولكى نحيا معه. المعرفة تفترض وجود المحبة. لذلك من السهل أن نفهم أنه رغم أن أنطونيوس يتكلم عن أنواع مختلفة من المعرفة، إلاّ أن المعرفة واحدة. وإضافة إلى ذلك، فمن الواضح أن المعرفة التي يكتب عنها أنطونيوس هى المعرفة الروحية، وهى معرفة تأخذ أصولها من الجوهر الروحي للإنسان . والتقدم فى المعرفة هو الاقتراب أكثر إلى الله، أن يصير الإنسان أكثر فأكثر إدراكًا لذاك الذى يتجاور كلماتنا. المعرفة تختلف عن العقيدة . فكلمات الإنجيل، وتعاليم الكنيسة هى نقطة انطلاق، أما المعرفة الحقيقية فتكمن فى الالتصاق بالله التصاقًا حميمًا بالحب. وحدة كل أنواع المعرفة لا توجد فى العقائد بل فى قلب الله.
النقطة الثانية فى روحانية رسائل أنطونيوس هو وحدة الكيان :-
وكما سبق أن ذكرنا، فإن أنطونيوس يرى أن الشرط المسبق لكل معرفة حقيقية هو فى الجوهر الروحي للإنسان، وهو جوهر متصل بالله اتصالاً وثيقًا . وفى محاولاته أن يشرح هذا، فإن أنطونيوس يعكس تحليل أوريجينوس عالم مدرسة الإسكندرية العظيم. وبحسب الرسائل، فإن جوهر الإنسان الداخلي هو جزءه الروحاني، أى عقله . كل البشر يشتركون فى نفس الجوهر الروحي، وينتمون إلى بعضهم البعض فى أرواحهم، وفى الواقع فإن كل ما هو روحى يشترك فى نفس الكيان، بل حتى إبليس و الشياطين أيضًا يشتركون فيه . و لكن عند السقوط تحطمت هذه الوحدة الروحية . والله لكى يخلص الإنسان، فإنه خلق العالم وأعطى للإنسان جسدًا وهو ما لم يحصل عليه الشياطين، ولذلك هم يحسدون الإنسان. وبواسطة الجسد يستطيع الإنسان أن ينمو فى الفضيلة وفى المعرفة، ولكن فى الوقت نفسه فإن الجسد يجذب الإنسان إلى أسفل ويضع حدًا لحياته. الجسد يخلص عن طريق التجسد، وهكذا تُستعاد الوحدة ويستطيع الإنسان أن يرجع إلى الله وإلى جوهره الروحى الأصلى، ولكن بجسد القيامة. وبدون الاستطراد أكثر فى هذه الأفكار اللاهوتية يمكننا أن نرى بسهولة أنها هى روحانية أنطونيوس. فوحدة الوجود تجعل محبتنا بعضنا لبعض جزءً من محبة الله. وأن يعرف الإنسان نفسه هو أيضًا أن يعرف جاره. أو كما يقول أنطونيوس فى الرسالة 6: " لذلك ينبغى أن نحب أحدنا الآخر بحرارة، لأن من يحب أخاه يحب الله والذى يحب الله يحب نفسه " .
و هكذا، فإننا فى روحانية أنطونيوس نجد تشديدًا قويًا على العلاقة بالآخرين، والحاجة إلى أن نعتنى كل منا بالآخر. و يصير واضحًا فى كل الرسائل كم هو هام خلاص الاخوة لأجل خلاص أنطونيوس نفسه. وهنا يصير فهم تعليم يسوع المسيح، عنصرًا هامًا . و المقطع الذى يتحدث فيه الرسول بولس فى رسالته إلى فيلبى عن إخلاء الابن لنفسه صائرًا فى هيئة عبد، عادة يُربط بكلمات يسوع فى الإنجيل التي يقول فيها، إنه لا يعود يسمى التلاميذ عبيدًا بل أحباء . فيسوع بصيرورته عبدًا استطاع أن يجعلنا أحباء له، وهكذا عن طريق صيرورتنا عبيدًا كل منا للآخر، يمكننا أن نربح بعضنا بعضًا كأصدقاء . وهكذا فالفرح والبكاء لأجل خلاص الآخرين هو جزء جوهرى من الحياة الروحية .
خاتمة :
وحينما ننظر إلى سيرة حياة أنطونيوس وإلى الرسائل، يمكننا أن نرى أننا نجد نفس الروحانية رغم التعبير عنها بطريقتين مختلفتين تماما . ففى سيرة حياته، تُرسم روحانية أنطونيوس بواسطة شخص آخر كأنما يرسم أيقونة . وفى عظة أنطونيوس فقط نجد تشابهًا كبيرًا مع ما ذُكر فى الرسائل . ولكن هنا فى العظة يحل الصراع مع الشياطين محل التأملات الشخصية الموجودة فى الرسائل، وفى السيرة نجد أن قصص اختلاء أنطونيوس تجعل نفس التشديد على وحدة الكيان والجوهر مفعمة بالحيوية مثل الرسائل، ولكن بعكس الرسائل فإن الجسد فى " السيرة " ليس أساسًا الذى تهاجمه الشياطين بسهولة، بل بالحرى تجعل منه " السيرة " صورة للنفس . الرسائل تقدم أنطونيوس كأحد الرهبان الذى يصرخ من أجل خاصته ولأجل خلاصهم. أما فى " السيرة " فلم يعد ظاهرة فى الصورة، بل نجده فى وضع متميز كنموذج يُقتدى به . فى "الرسائل" نراه مثل أب اعتراف يمكنك أن تتحدث إليه، أما فى "السيرة" فهو إيقونة تقف أمامها لكى تتأمل . ولكن بصفة جوهرية، فمن الواضح أن كلا الكتابين تقدم نفس الروحانية الأساسية، ونفس التشديد على الحاجة إلى الثبات الداخلي والهدوء، والحاجة إلى المعرفة الحقيقية للنفس، وإلى المحبة للغير . ويمكننا أن نعتبر "السيرة " بمثابة مقدمة رائعة عن كيف نقاوم بها الفساد، وكيف نحفظ الكمال والسلام، أما "الرسائل" فتلمس القلب، وتفتح طريقًا صاعدًا نحو سر الالتصاق الحميم مع الله.و نعود أخيرًا إلى مشروع البحث عن " الشخصية المسيحية (Christian Identity) كما صيغت فى المسيحية الأولى"، فأنى أظن أن هذا المشروع وثيق الصلة بموضوعنا . وبقدر ما أستطيع أن أرى، فإن أوربا بل العالم كله حصلت على ذلك الفهم للكائن البشرى، الذى يضع الشخص كل شخص قبل أى شئ آخر. فبدون مفهوم سلامة وقيمة كل شخص لا نستطيع أن نتكلم عن حقوق الإنسان بصورة حقيقية. بدون مفهوم السلامة الشخصية و المسئولية الشخصية التي تظهر مفعمة بالحيوية فى سيرة القديس أنطونيوس، لن يكون عندنا أية أسلحة حقيقية لمحاربة الفساد. فلأجل مستقبل التقليد المسيحي بل ولأجل مستقبل مجتمعاتنا، ينبغى أن نعطى انتباهًا أكبر و اهتمامًا أشد بروحانية القديس أنطونيوس.
بقلم صموئيل روبنسون أستاذ بجامعة لوند بالسويد
ترجمها عن الإنجليزية د. نصحى عبد الشهيد بطرس
المزيد
22 يناير 2021
الإبيفانيا
عنصر الإخصاب في الخليقة الجديدة(1)
لنا في كل عيد غطاس تأمل وعظة وعبرة وحياة، في عماد المسيح في الماء ونـزول الروح عليه في هيئة مجسَّمة كحمامة.تكلَّمنا وأفَضْنا جدّاً الكلام في دقائق الأمور الخاصة بالجوانب اللاهوتية والروحية، ولكن في هذا المساء نحاول أن نغطِّي هذا الموضوع بفكرة كبيرة على مساحة إنسانية وإلهية عريضة تبدأ من سفر التكوين وتنتهي عند جرن المعمودية.
أبدأ كلامي من سفر التكوين (1: 1 - 3) «في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة (لاحظوا هنا كلمة ”ظلمة“ مرادفة لكلمة ”خربة وخالية“) وروح الله يرفُّ على وجه المياه. وقال الله ليكن نور».هنا يبدأ تأملنا، وندخل في الحال في عمق الموضوع: هنا أمامنا الآن عناصر الخليقة الروحانية «من الماء والروح».نرجع للقديس يوحنا الرسول: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 3: 5). إذن، هنا وعلى الأرض بدأ باب مفتوح للدخول إلى ملكوت الله.هذا كله قبل كل خليقة مادية، وقبل خلقة الإنسان الترابي نفسه، بل وقبل سقوطه وموته. هكذا وَضَعَ الله في المشورة العُظمى الإلهية، ليس عودة الإنسان وحسب، بل وخلقته الأخرى التي ستؤهِّله للدخول في مُلك الله!
«اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة» (أف 1: 4).هنا في الحقيقة شمول رؤيا يلزم أن يعيش فيها الإنسان المسيحي. فالله لا يتدرَّج في فكره أو يساير الإنسان في مراحله، ويعدِّل ويبدِّل في مشوراته على حسب واقع الإنسان، كما قد يبدو أحياناً حسب قصر النظر الروحي؛ ولكن الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، كامل، وكماله يتسحَّب على فكره وعلى إرادته وعلى كل أعماله بالنسبة لكل إنسان منذ آدم حتى آخر إنسان يولد على الأرض. الإنسان يقوم ويسقط، ولكن الله هو الله، عالٍ وفوق كل عالٍ، في قيام الإنسان وسقوطه.والذي يسترعي انتباهنا جدّاً - أو كما يقولون - بالدرجة الأُولى، أن خلقة الإنسان الروحية كانت معدَّة للإنسان قبل خلقته الجسدية بل وقبل سقوطه، أليس هذا عجباً حقّاً؟ «الذي خلَّصنا ودعانا دعوة مقدَّسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطِيَت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أُظهِرَت الآن بظهور مخلِّصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل» (2تي 1: 10،9).أقف هنا لحظة معكم، فليس مثل هذا الكلام الروحي مقبولاً في هذا العالم بالدرجة التي نقبلها نحن الآن، نحن الذين قبلنا وآمنَّا ووُلِدنا حقّاً من الماء والروح. أعود بكم إلى بعض أفكار غير المولودين من الماء والروح، فلنسمع لقول بعض الفلاسفة العظام الذين أضجرهم موضوع الخلق ومصير الإنسان فمثلاً: نسمع من إمام الوجودية المعارضة وهو ”هيدجر“، وطبعاً يتكلَّم في غيبة كاملة عن الإيمان بالله، فيقول: إن الوجود الإنساني هو استسلام الفكر بأن الإنسان كائن قُذف به في العالم.ثم يعود ويقول: إن الإنسان موجود ليموت. وهذا هو منتهى المأساة الفكرية.ثم إذ يسألونه: أليس هذا عجزاً واستسلاماً؟ يقول: لا، بل يلزم أن نقبل الموت والنهاية بشجاعة ... سراب وخراب!!ثم لا أريد أن أستفيض معكم بما يقوله الفلاسفة الآخرون المعاصرون مثل ”جون بول سارتر“، الذي يجعل مضمون الإنسان أنه ”موجود ناقص يعطي لنفسه الكمال“، أو كما يقول أيضاً: ”إن الإنسان يجتهد ليمنح نفسه وجوداً مطلقاً يخلو من النقص“.الحقيقة والتاريخ كله ينفي ذلك. وفي الحقيقة سارتر هنا يترجم، دون أن يدري، خطية آدم، ويمتد بها ويصرُّ عليها حرفيّاً، إن آدم يريد أن يصير كالله!!ولكن نعود الآن نحن المولودين من الماء والروح، الذين كنا ليس ناقصين فحسب، بل وكنا عدماً بالخطية، كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا فأحيانا الله مع المسيح، وصرنا حائزين على وجودنا الأبدي في الله!!نعود إلى تأمُّلنا في روح الله وهو يرفُّ على وجه الماء والأرض خربة وخالية. عجيبة هنا عناصر الخلقة الروحانية، ولكن بدون أي كائن مخلوق حي!! لماذا؟ لأن عناصر الخليقة الروحية (الملائكة) هنا هي بدون ”إخصاب“ - لو صحَّ اللفظ - أي بدون كلمة الله (أي أن الخلائق الروحية لم تكن مخلوقة على صورة الله).فإذا نحن استطعنا أن نختزل الأزمنة من بداية سفر التكوين - أي خلقة الإنسان من التراب - ثم أزمنة العصيان، ثم السقوط، ثم الموت، ثم الطرد، ونأتي سريعاً بحسب مضمون موضوع عيدنا ”الإبيفانيا“، أي نـزول المسيح إلى الأردن في مثل هذا اليوم؛ نرى أن عنصر الإخصاب بدأ يعمل عمله في الحال بين روح الله والماء.
هنا دخلت ”كلمة الله“ الحيَّة الفعَّالة - اللوغوس - ابن الله، الأقنوم الثاني، بين الماء والروح، ليبدأ الله للإنسان الخليقة الجديدة بواسطة المسيح، لتكون على شبه المسيح ومثاله. وهنا المسيح خالقٌ، وكرأس للبشرية الروحانية، وأبٌ مُخصب، «آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد» (عب 2: 10).
معمودية يوحنا:
كذلك وعَبْرَ اللمحة السريعة التي أريد أن أغطِّي بها هذا الموضوع المتَّسع، لا أريد أن أعبر بسهولة على معمودية يوحنا، التي قيل عنها إنها بالماء فقط للتوبة. هنا، في الحقيقة، الروح القدس غائب، ولا يوجد إلا عنصر التطهير القديم، الماء، الذي يدخل كعنصر مناسب لتطهير الخليقة التـرابية العتيقة لإعدادها، مع الاعتراف بالخطايا والذنوب لقبول الخلقة الروحانية الجديدة بوسيط آخر، أي بعنصر تطهيري فائق آخر غير الماء. عنصر تطهير روحي فائق، هو ناري في حقيقة طبعه، وهو الروح القدس!! وذلك لكي يُبدِّد ما في الخليقة العتيقة من موت وفساد وخطية وهلاك، ويجعلها في حالة من الطُّهر الإلهي - إذا صح هذا التعبير - لتقبل الخليقة السرِّية بواسطة الماء والروح، عنصر الإخصاب ”الكلمة“ اللوغوس، لنولد لله على شكل المسيح وبالمسيح من الماء والروح.إذن، ما هي المحصِّلة التي بلغناها الآن إزاء أو في موازاة محصِّلة مارتن هيدجر الفيلسوف الوجودي الرافض؟إنها محصِّلة عكسية، فالفيلسوف هيدجر يقول إن الإنسان كائن قُذف به في الوجود ليموت.انتبهوا جدّاً هنا: بحسب سفر التكوين وبحسب الإبيفانيا والروح القدس والمسيح، وجدنا أن الإنسان كائن وُجِدَ ليحيا. وما الموت الذي لزم أن يجوزه إلا إعداداً لحياة بلا موت، فالأمر الإلهي بالخلود سبق السقوط والعقاب!! وملكوت الله مُعدٌّ للإنسان قبل أن يُخلَق الإنسان: «تعالوا يا مُبارَكي أبي، رِثوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 25: 34).إن هذه المحصلة أو الحقيقة في مفهوم العماد هي - بحدِّ ذاتها - ليست عنصراً مائياً منعشاً ومُحيياً فقط، بل عنصر رجاء، لا يجب ولا يمكن هدمه بأية فلسفة كانت، لأنها حقيقة نحياها وليس نتمناها. فالحياة الأبدية تسري فينا منذ الآن، والملكوت نعيشه بالروح.
السماء انشقَّت:
وإذا عُدنا إلى موضوع عماد المسيح في الأردن الذي فيه اعتبرنا أن مجرَّد نـزول المسيح في الماء وحلول الروح القدس يحوي تكامُل العناصر الفعَّالة للخلقة الروحانية: الماء والروح والكلمة، حيث هنا المسيح خالق ورأس الخليقة الجديدة، أقول نلمح ظاهرة مؤكَّدة لهذه الحقيقة تصل إلى حدِّ العجب، إذ أنه بمجرد أن تمَّ نـزول المسيح في الأردن، انشقَّت السماء. ما هذه الدلالة؟
هذه ظاهرة عجيبة حقّاً، لأننا نسمع المقابل لها تماماً عند حادثة تكميل موت المسيح الكفَّاري على الصليب من أجل العالم، إذ نسمع أيضاً أنه قد انشقَّ حجاب الهيكل الذي كان يفصل قدس الأقداس حيث حضرة الله عن القدس حيث وجود الناس، حتى الأطهار منهم - أي الكهنة. وهذا يعني أن الله رفع بنفسه الحجاب المتوسط بينه وبين الإنسان بموت المسيح!! وصار العالم كله مصالَحاً مع الآب بموت ابنه عن خطية العالم كله!!
هنا في الأردن، بعماد المسيح نجد السماء نفسها تنشق، وتتكشَّف الحضرة الدائمة لله تعبيراً عن التحام جديد وعجيب بين الله والإنسان، وليس بين السمائيين والأرضيين فقط، وذلك في شخص المسيح!! «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ» (مت 3: 17).إذن، فهنا دلالة قاطعة على رفع الحجاب الأبدي والكوني الذي يحجز الآب في السماء عن الإنسان، حينما يعتمد إنسان في يسوع المسيح. وكأنما الطريق من الأرض إلى السماء قد انفتح بانشقاق السماء في وجه الأرض. وما نـزول الروح القدس في الحقيقة إلا بمثابة الجناحين الجديدين الإلهيَّيْن، جناحَي الحب الإلهي ليسوع المسيح، اللذين أُعطيا للإنسان الجديد المولود من الماء والروح ليطير ويحلِّق بهما في سماء الله في حريَّة البنين.كذلك فإنه بمجرد أن التحمت عناصر الخليقة الروحانية الفائقة، الماء والروح والكلمة، على أرض الشقاء؛ انفتحت السماء، إعلاناً أن الوطن السمائي الذي تأسَّس للإنسان قد صار حقيقة مُشاهَدة ننتظرها ونرجوها؛ بل ونسمع صوتاً من السماء يُعلِن عن هذه المعاهدة الجديدة التي تمَّت في هذه اللحظة، إذ سلَّم الآب ابنه للعالم ليُصالح الجميع ويأتي بهم إليه!!
ظهور الروح القدس بهيئة منظورة مجسَّمة كحمامة:
كذلك تدخل هذه الدلالة دخولاً مباشراً وعميقاً في مفهوم الخليقة الروحانية الجديدة التي أكملها المسيح لنا في هذا السر المذهل الذي ظهر فيه كخالق للخليقة الروحانية الإنسانية، وكرأس مخصب لأبناء جُدُد لله الآب، لأن ظهور الحمامة نرى المقابل له في أيام الطوفان، عندما كان الماء هو عنصر الموت، لأنه لم يكن يخلو من روح الله. فكانت النقمة تُلازمه، وغضب الله فيه، فكان الماء للموت والهلاك، وظهور الحمامة في آخر لحظات هذه الخبرة المؤلمة في تاريخ البشرية كانت بشارة برفع الغضب الإلهي وبدء رضا الله، عندما عادت وفي فمها غصن زيتون أنبتته الأرض بعد انحسار لعنة الهلاك عنها.هنا في المقابل نرى الروح ينـزل من السماء على هيئة مجسَّمة كحمامة، وذلك عن قصد. فهذه الهيئة لا تُعبِّر إطلاقاً عن شكل الروح القدس أو صورته، فنحن رأينا الروح القدس يوم الخمسين على هيئة نار أيضاً.إذن، فظهور الروح القدس بهذه الهيئة - أي كحمامة - كان تعبيراً عن أن الماء هنا يحوي عنصر الحياة الإلهية، وذلك يتناسب مع عملية الخلق الروحاني الجديد الذي انفتح مجاله للإنسان. وكأنما كان كل زمان البشرية السابق من آدم حتى المسيح هو طوفان مستمر؛ ثم بقبول الكلمة المتجسِّد النـزولَ إلى الماء وبتقبُّله الروح القدس ليكون رأس الخليقة الجديدة، بدأت حياة الإنسان حقّاً مع الله وإلى الأبد.
هنا يتضح مرَّة أخرى أمامنا - ونحن بصدد فلسفة الوجوديين الملحدين - أن الحياة التي أعطاها الله للإنسان هي في حقيقتها الأُولى والأخيرة حياة لحياة. والمسيح لن يكون حياةً لموت فيما بعد!! بل وحياة يلازمها نشيد إلهي رائع، في صمت يحكي عنه الروح القدس وهو نازل من السماء كحمامة، وكذلك صوت الله بالسرور؛ هذا النشيد الصامت تعرف القلوب المؤمنة وحدها أن تترجمه. فهو حياة جديدة مفعمة بالسلام!! للقلوب الوديعة!! التي نالت وتنال كل يوم قوة هذا الميلاد عينه من فوق من الماء والروح، مع نور الكلمة، ورضا الآب في السماء!!وهكذا بنـزول المسيح في الأردن، وحلول الروح القدس عليه، وإعلان صوت الآب في السماء، هذا المُعبَّر عنه كنسيّاً بعيد الإبيفانيا، أي ظهور الآب والابن والروح القدس؛ بكل هذا صار، في الحقيقة، تدشينُ أول معمودية على الأرض باسم الثالوث، كبدءٍ فعَّال لا ينتهي ولن ينتهي إلا بانتهاء الزمان، من جهة ميلاد الإنسان ميلاداً جديداً من الله، روحيّاً من فوق، من السماء لحياة أبدية.وهكذا صارت أرض الشوك والشقاء واللعنة، الأرض العاقر التي كانت تسقي الإنسان الألم حتى الموت، والتي كانت تلد الإنسان لتُميته فعلاً، وتتركه للأيام لتُكفِّنه بخطاياه، وتدفنه الأيدي الحزينة كل يوم في أعماق لعنتها، صارت هذه الأرض عينها بميلاد المسيح الكلمة ابن الله متجسِّداً، ثم بنـزوله في الأردن معتمداً والروح القدس حالاً عليه؛ أقول صارت هذه الأرض من داخل الكنيسة ومن داخل جرن معموديتها، بطناً جديدة سماوية تنسل أبناءً لله جُدداً، لسلامٍ وحياةٍ لا تزول.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
21 يناير 2021
الميمر 167على تلك الآية التي صنعها ربنا في قانا الجليل الذي الّفه مار يعقوب
المقدمة
ايها الابن الذي كان قد كثّر الخمر الجيد في الوليمة، اعطني لاشرب السيول الحلوة الموجودة في تعليمك،ايها المدعو الذي اثرى من موهبته من دعوه، صبّ هنا ايضا خمر محبتك ليسعدنا، يا ابن الملكوت الذي كان قد دُعي الى الوليمة، لا تتاخر عن المجيء عند نقصي،ها قد دعوتُكَ ليس الى قانا لكن الى فكري، ربي هلّم وضع فيّ سيول تراتيلك الحلوة،بيعتك هي اعظم من الوليمة التي دعوتُك اليها كثّر عليّ المادة التي تسكرها وتشبعها، قادوك وذهبتَ الى مائدة الاشياء الزائلة، هلّم لانني دعوتُك الى الاتقانات الروحية،هناك اتكأتَ في الوليمة مثل حقير ولم يعرفوك، اسكب موهبتك هنا لانهم يعرفونها،هوذا لساني يمزج في عرس البيعة المقدسة، اثلم واجرِ فيّ الشراب الروحي الذي يسعده،كثّرت الخمر بين الناكرين وهم لا يستحقون لانهم شربوا وتعجبوا ولم يمجدوا كما يجب، ساعدني لاتكلم عن هذه الآية العجيبة لكي اسقي بيعتَك خمر تعليمك الجديد،جعلتني ساقيا في عرس الشريفة، فلا تنقص بسببي اجانة المواضيع من امتلائك.
دعوة المستمعين الى شرب التعليم وشكر الرب
اقتربوا ايها السامعون وارضعوا الحلاوة من التعليم، واشكروا النعمة كما يجب،بكم يهان الذين شربوا ولم يسبّحوا لانكم سمعتم خبر الآية فقط وتعجبتم به،الرؤيا الواضحة لم تكن شيئا بالنسبة الى الناكرين، هذه هي العظمة لما جعلكم سماع الاذن تصدّقون،هولاء الذين راوا لم يفهموا بالعجائب، لكم الطوبى لانكم اعطيتم التسبيح وانتم لم [تشاهدوا،النبع العظيم الذي اجرى سيوله بين ظالميه،ومن موهبته فجّرت الارض كل المساعدات،ابن الباري نزل الى البرية ليسير عليها ولم يبيّن لها عزته لئلا تفنى،مُثري الكل اتى الى العالم في الفقر، ليصير رفيق الفقراء ويثريهم،رب الاعالي مشى في المسكونة مثل الغريب ليقودنا نحن الضالين معه الى الملكوت، شبل الاسد صار حملا بارادته، ليصير ذبيحة بدل القطيع حتى [ يتحرر،نسر الطيور والملك السامي احنى جناحه ليجمع فراخ آدم الذين كانوا مبددين،طار من العلى وحلّ في العمق ولم ينتقل ليخلط العلويين مع السفليين.
يسوع كان سيذهب الى قانا سواء دعوه او لم يدعوه
ولما كان يتردد في ارض اليهودية مثل الفقير، صارت وليمة في احدى المدن القريبة منه، ولما ارسل الختن الى المدعوين وجمعهم، اراد الجبار ان يذهب ايضا مع الضعفاء، انحدرت ارادته وحثت الذين يدعون ليدعوه هو ايضا مثل البقية الى الوليمة،نخسهم امرُه وايقظهم لياتوا عنده، وبعدما يدعونه لا يتاخر من الذهاب،كان سيذهب حتى ولو لم يدعوه، لكي يصنع الآية ويحس العالم بلاهوته،حتى ولو لم يرسل الختن وراءه لئلا يذهب، لما ترك العمل الذي باشر به،كان قد صمم ان يصنع الآية في الوليمة، حينئذ ارسل الختن ودعاه وهو لا يعلم،كان قد دُعي بارادته قبل ان يذهب، وبعدئذ دعاه اولائك القادمون من بيت الختن،اراد الحكيم ان يُدعى وبعدئذ يذهب، ليعرفوا بان الذي دعوه هو يسوع،تعارفوا عليه بالكلمات وهم يدعونه، لئلا يتشككوا بعد الآية (ويقولوا) ليس يسوع،دعوه وقادوه مثل المحتاج وذهب ايضا لانه كان قد تهيأ ليسلك طريقه العظيمة.
يسوع يبدأ آياته في قانا ليبرهن بان الزواج طاهر
كان يليق ان يبدأ بالقوات في العرس، وفي بيت الزواج يمدّ اليد للقداسة،ركض ووقف على الباب الذي يُدخِل الجنسَ لكي ينشر التعليم لكل من ياتي الى العالم،اتى ليخطب عروس النور بصلبه، فتوجه اولا حيث كانت توجد العروس الزمنية، كان يجمل به ان يصنع الغلبة في العرس، ليتتلمذ كل المتكأ بتلك الاعجوبة، المسيح ايضا كان ختنا قديم الاجيال، وقد اتى ليخطب بيعة الشعوب بذبيحته،وبما ان عرسه كان بعيدا بعض الوقت، فقد اخذ الهدية وذهب ليجلبها مثل القريب،القى التقليد على ذلك الختن الذي دعاه، بحيث لما يصنع عرسَه يُقبلون اليه،دعوه وذهب حتى لما يدعوهم يذهبون معه، واتكأ عندهم ليُتكئهم على مائدته،ابان هناك بان طريق الزيجة طاهرة، والزواج مُتقن جيدا من قبل الله.
اين هم الذين يقولون انه ابن الغرباء وينكرون لاهوته؟
اين هم اولائك الذين يقولون: انه ابن الغرباء، لتحتقرهم تلك الوليمة التي اتكأ فيها،لو لم يكن من جوهر القدرة العاملة، لماكان يوافق ليدخل ويتكيء في بيت الزواج،لو هو ابن الغرباء كما يقولون، لما كان يحب اتقان القدرة العاملة.
الله يتقن الزواج ويعقد خدر العرسان
لو كان [ الزواج ذاته والشركة[5] مدنسَين، لما كان يدخل ويختلط في وليمته،لو لم تكن طريق الختن جميلة، لما كان يحل في مريم بقداسة،خاب الكذب الذي كان يُعلن عن الغريبَين لان [ الكائن[6] واحد، والولد الذي منه خلص البرايا،الآن لم نقم لنتكلم بجدال [ لانه واضح بان المسيح قد اتى[7] وهو ابن الباري،دخل الى العرس وهو يحمل الهدية بخفاء، واتكأ في الوليمة ليبارك سرير الشركة،[8]راى بان الزواج متقن جيدا بواسطة ابيه، وعقد خدرا للعروس الزمنية بالطهر، راى بان العرس لا يقترب منه الدنس، فاراد الرهينة (المدعو) ان يبدأ منه بالعجائب،كان قد وجد بان الختن لم يكن يشترك في الخطايا، فاخذ الهدية من موهبته ليقدمها له، وجد بان التعليم يجمل في الوليمة، فاشتاق ليشرق هناك كرازته، قام امرُه ليخدم في الوليمة، ليعمل الاعجوبة امام المتكئين، اراد الحكيم ان يصنع آية العجب بالخمر، ليفيض هناك التعليم مع الوليمة،انحنى رمزُه على الاجاجين وافرغها ليصير المجال لتلك الاعجوبة التي ستُصنع.
خمر يسوع والخمر الطبيعي
نفذ الخمر الطبيعي الذي لم يكن ينفع، /486/ ليفسح المجال لخمر يسوع الذي يفيد، نفذت المادة البسيطة التي انجبتها الجفنات، لكي يبين ابن الباري قوة قدرته العاملة، نفذ الشراب من بين ايدي السقاة، ليشرب الجمع خمر بشارة ابن الله.
البرية مصورة بوليمة قانا: العريس هو آدم والعروس هي البيعة
كل البرية كانت مصوّرة بتلك الوليمة لان خمر كل واحد كان قد نقص من الاتقان،كان الختن يشبه آدم بالعوز لان خمره نفذ كما كان قد نقص صِدق آدم،تلك العروس كانت تشبه بيعة الشعوب التي نفذ خمرها (كما نفذ) التعليم قبل المجيء،حينئذ دخل خمر يسوع عند المعوزين كما اتى يسوع ذاته عند الفقراء،هذه الاسرار حدثت في تلك الوليمة حيث بدأ ابن الله بالكرازة.
مريم تقول ليسوع ليس لهم خمر (يوحنا 2/3)
رأت مريم الطوباوية بان الخمر قد نفذ، وكانت قد عرفت بانه صار مجال للتعليم،حينئذ وشوشت النعجة البتول لشبل الاسد (قائلة): ربي، لا يوجد خمر لآل الختن،[9]قالت الذكية فقط: لا يوجد خمر، غير انه في فكرها كانت تُقال مثل هذه الامور بيّن قوتَك بالمعجزات لانك ابن الله، /487/ هوذا الوقت قد حان ليحسّ العالم بقدرتك العاملة،الجمع العظيم سيرى قوتك ويؤمن بك، يكفي توقّفُك عن الآيات وانت الجبار،بيّن قليلا سلطة قدرتك البارية، لماذا تسير بالبساطة وبالسذاجة،؟انت ابن الله فبيّن قوتك بالحقيقة وادعُ الارض لتؤمن بانك الاله،الى متى تصغّر نفسك بينما انت اله،؟ قم وبيّن الهيا بأسك للعالم، يا مثري الكل لماذا تسلك بالفقر،؟ افتح خزائنك ووزع ثرواتك بين المحتاجين،تفقد بحنانك الختنَ الذي تتكيء على مائدته، لئلا ينتشر اسم العوز في البيت الذي دعاك،
كانت هذه الغاية موضوعة في فكر مريم لما قالت لابنها: ليس لهم خمر.[10]
يسوع يردّ على مريم: ما لي ولكِ يا امرأة لم تحِن بعدُ ساعتي (يوحنا 2/4)
ولما اسرعت على فعل ليس خاصتها، اجاب الحكيم وكأنه تركها ووضعها في البعد كان يقول لها: ما لي ولكِ يا امرأة، بينما هي امه كما لو قال احد بجسارة:[11]لا تخصكِ القدرة الآمرة، فانا مستعد لاصنع العجب [ هذه المرة[12] حتى وإن سكتتِ،وبدون كلمتكِ هانذا اشرق قوة جوهري، لم تأت الساعة لاصمم تنفيذ الفعل، لما اريد، الرمز فقط سيصنع القوات، ارادتي لا تحتاج الى الاستعداد قبل الوقت،بنفخة صغيرة يسهل علي ان افعل بسرعة، ولما يُرسل امري لا يوجد فيه التاخير،طرفة العين ليست سريعة مثل قدرتي الفاعلة، فلماذا التفكير بالاعجوبة قبل الوقت.؟
قول مريم هو ثمرة ايمانها، وجواب يسوع اظهر قدرته العاملة
الرمز ينحني ويتحقق العمل بدون تاخير: قالت مريم وقولها حسن لانها كانت واثقة،بانه حكيم العالمين بالحقيقة ومن السهل عليه العمل، ولهذا حثته ليبين الاعجوبة،ابان بانه لا يفعل القوات بكلمتها، لانه كان قد قصد ان ينفذ الفعل قبل ان يذهب،بكلمتها كان قد اشرق ايمانها، وبكلمته كانت قد بانت قدرته العاملة كانت تعرف بان الابن الذي اتى بدون زواج يقدر ان ينجب الخمر الجيد بدون الجفنات، كان مستعدا ليعمل الآية في الوليمة، ولو سكتت لما كان يتاخر من (تنفيذ) فعله،كانت تعرف بانه كما اتى المجوس لاكرامه، ستُصنع ايضا الاعجوبة بارادته،كانت متيقنة بانه كما سكب الحليب في ثدييها، يقدر ان يملأ الاجاجين شرابا جديدا استنادا الى هذه الامور التي راتها مريم قالت له: لا يوجد خمر حتى يصنع الآية.[13]
مريم تقول للخدام: اعملوا ما يقوله لكم (يوحنا 2/5)
في نفس الوقت اقتربت وقالت للخدام: اسمعوا وافعلوا بسرعة ما يقوله،[14] الحكيم اطال اناته على الفعل حتى ينفذ الخمر ويحس كل واحد بما سيُصنع،ولما صخب الشعب وكان الختن قريبا من الهرب، قام الجبار ليفعل ما هو خاصته مثل آمر الكل.
يسوع يامر الخدام ان يملأوا الاجاجين ماء حوّلته قوته الى خمر (يوحنا 2/7-8)
اخذ ليبرهن بانه ابن العامل بالحقيقة، لئلا يتشككوا من مجيئه ويقولوا: ليس ربا،اراد ان يعرّف بانه ليس غريبا عن القدرة البارية، فامر الجمعَ ان يسكبوا الماء في الاجاجين،[15]وصنع الخدام كما قال وملأوها، حينئذ انحدرت خفيةً قوة لاهوته، وبدّلها وصارت خمرا بسرعة..،[16]احنى ارادةَ قدرته العاملة على الاجاجين، وسكب فيها مادة سليمة ليس من العنب،الرمز كان قد كمّل المياه التي سقطت هناك، /490/ وبدّلها الى الخمر الجيد،تحير المشاهدون من اللون والرائحة التي اقتنتها المياه، وطعم الخمر السليم ادهشهم.
خمر يسوع يسمو بجودته على الخمر الطبيعي (يوحنا 2/10)
الى هنا صلحت المياه التي صارت خمرا، واحرجوا الختنَ وذمّوه بسببه،حيرهم الشراب الجديد الذي اكتسب طعما حتى انهم ذموا (الشراب) الاول (قائلين): ليس بشيء،خفّت قيمة الخمر الطبيعي الذي يملكه الختن، وخمر يسوع كان ينتصر في الوليمة،صارت مادة الجفنات سخرية امام المدعويين، وهذه المياه التي صارت خمرا ادهشت كل واحد،خمر العنب كان بسيطا جدا مقارنةً بذلك الشراب الافضل [ برائحته[17] وبشربه.
المسيح يعمل مثلما يعمل الآب
المسيح ابان قدرته البارية بهذه المياه، لانه ابن العامل وهو المسلط على الكل مثل والده،مَن هو الذي يصغّر الابنَ عن مرسله ليأتِ ويرَ بان القوة هي واحدة ولا تتجزأ،؟الى الآن ابي يعمل مثل الباري، وهانذا اعمل كما هو (يعمل) ايضا،[18] قوة واحدة، وامر واحد، وفعل واحد، ورمز واحد، وارادة واحدة، وسلطة واحدة،[19]ذاك الامر الذي صاغ الاثمار في الاشجار كان جالسا في هذه المياه التي صارت خمرا،ذاك الحِرفي الذي نحت العنب بحكمته، ظهر بمهارته عند الاجاجين،ذاك المهندس الذي بنى وشيد الاثمار في الاغصان، سكب هناك طعما حلوا بخلاف الطبيعة.
جزء من قوة المسيح صنع الاعجوبة في قانا
الآية التي صارت حيرت المشاهدين كثيرا، بالنسبة الى المسيح ان ما جرى كان لا شيئا،تلك الاعجوبة التي صارت هناك كانت بسيطة بالنسبة الى قوة قدرته العاملة المخفية فيه،عملُ الابن كان صغيرا جدا بالنسبة الى سلطاته، وقد بدأ في مسيرة العجائب ليس بحسب قوته،ذاك الجبار لم يرفع الكتلة كما كان يقدر، انما صنع امرا صغيرا في العرس ليبهجهم،لم تنحنِ ارادتُه حسب قوته ليصنع العجب اذ صنع انتصاره ليس حسب شدة عزته،جزء من قوته انحنى قليلا على الاجاجين، واعطى التغيير لتصير المياه خمرا جيدا،ارادة القدرة العاملة وصلت هناك وصار الفعل بدون تاخير امام المدعويين،رؤيا رمزه خففها ونشرها بلذة وسكب السيول من ينبوع قدرته البارية،لم يغصب نفسه لما عمل الاعجوبة بل ابان خصوصيته في الوليمة بدون تعب،
في ذلك الوقت لم يصلّ مثل الناقص، لان قوته وقوة ابيه كانت واحدة في المعجزات،حيث شاء صنع الانتصار بدون طلبة، لئلا يعدّه احد ناقصا حيثما صلى،[20]رمز خفيةً وصار العمل بدون تاخير لانه ابان قوة لاهوته بالظواهر،كان قد استعمل حِرفة القدرة العاملة، ليؤمن كل العرس بانه ابن الباري.الآب يبدل الماء في الجفنات طبقا لنظام الطبيعة، الابن بدّل المياه في قانا برمز صغيرامر المياه لتصير خمرا، كما حبس ابوه ايضا (الماء) من السيول في الجفنات بحكمة،واحدة هي معرفة الآب وابنه بالنسبة الى البرايا، وواحدة قوة القدرة البارية بكل اشكالها،انظروا ايها المتميزون: يبدل الآب ايضا المياه، وبمهارته منها وبها يصنع الخمر،يجريها في الجذور حسب معرفته، ويسيّرها في الاغصان حسب ارادته،ويحبسها في حضن الجفنات كما لو كان في القنوات وبواسطة الشمس ينضجها ويسجرها ويسخنها،ويصوغ العنبات ويُخرجها ويعلّقها في [ الاغصان،[21] ويفرش الاوراق على البهيات ويبرّدها، تجري المياه في احضانها وهي غير مفتوحة، وينزل الفيض الى افواهها وهي غير مثلومة، المياه الممجدة متجمعة وقائمة في الاثمار المختومة، وتسجرها الريح والشمس لتنضجها، الآب يبدّل المياه في الجفنات خلال مدة طويلة وتبدّلها الى مادة الخمر قدرته العاملة، هذا الفعل لا يكمل الا في مدة شهور، اما الابن الحقيقي فقد كمّل ارادتَه برمز صغير،المياه لا تقتني الطعم الحلو من الكرمات، قوة الباري تملّحها بالاذواق الابن الذي اراد ان يبدلها بدون مدة زمنية لم يجعلها تحتاج الى نظام الايام والشهور.[22]
اين هو مَن ينكر لاهوت الابن؟
اين هو الذي ظلم الابنَ (وقال): ليس الها،؟ ليأتِ ويرَ بان قوته لا تنقص عن والده،يا من يتشكك بخصوص الوحيد (ويقول) ليس الها، انظر فان القدرة البارية ظهرت في العرس،
142 اتكأ في الوليمة لئلا يكفر بجنس امه، وبدّل المياه ليكرز هناك جنس ابيه،
143 اقام صورة للاهوته ولناسوته، وكان يتصرف حسب العظمة والصغر،
144 انه متكيء مثل الحقير، ويصنع القوات مثل القوي /494/ ليبرهن بانه كان الها وكان انسانا.
الخاتمة
145 ابان مجدَ لاهوته بالعجب الذي اجترحه، مبارك الذي بخمره اكسب طعما للبشر.
كمل ميمر الآية التي صنعها ربنا في قانا الجليل الذي الّفه مار يعقوب الطوباوي
المزيد
20 يناير 2021
الميمر 167 على تلك الآية التي صنعها ربنا في قانا الجليل
ايها الابن الذي كان قد كثّر الخمر الجيد في الوليمة، اعطني لاشرب السيول الحلوة الموجودة في تعليمك، ايها المدعو الذي اثرى من موهبته من دعوه، صبّ هنا ايضا خمر محبتك ليسعدنا، لا تتاخر عن المجيء عند نقصي، ها قد دعوتُكَ ليس الى قانا لكن الى فكري، ربي هلّم وضع فيّ سيول تراتيلك الحلوة، بيعتك هي اعظم من الوليمة التي دعوتُك اليها كثّر عليّ المادة التي تسكرها وتشبعها، هوذا لساني يمزج في عرس البيعة المقدسة، اثلم واجرِ فيّ الشراب الروحي الذي يسعده، ساعدني لاتكلم عن هذه الآية العجيبة لكي اسقي بيعتَك خمر تعليمك الجديد، جعلتني ساقيا في عرس الشريفة، فلا تنقص بسببي اجانة المواضيع من امتلائك.
ضرورة حضور المسيح في قانا:-
انحدرت ارادته وحثت الذين يدعون ليدعوه ايضا مثل البقية الى الوليمة، نخسهم امرُه وايقظهم لياتوا عنده، وبعدما يدعونه لا يتاخر من الذهاب، كان سيذهب حتى ولو لم يدعوه، لكي يصنع آية ويحس العالم بلاهوته.
طريق الزواج طاهرة:-
كان يليق ان يبدأ بالقوات في العرس، وفي بيت الزواج يمدّ اليد للقداسة، ركض ووقف على الباب الذي يُدخِل الجنسَ لكي ينشر التعليم لكل من ياتي الى العالم، اتى ليخطب عروس النور بصلبه، فتوجه اولا حيث كانت توجد العروس الزمنية، المسيح ايضا كان ختنا قديم الاجيال، وقد اتى ليخطب بيعة الشعوب بذبيحته، ابان هناك بان طريق الزيجة طاهرة، والزواج مُتقن جيدا من قبل الله.
المسيح ليس غريبا عن ابيه الذي اتقن الزواج:-
لو كان الزواج ذاته والشركة مدنسَين، لما كان يدخل ويختلط في وليمته، لو لم تكن طريق الختن جميلة، لما كان يحل في مريم بقداسة، لقد اتكأ في الوليمة ليبارك سرير الشركة، راى بان الزواج متقن جيدا بواسطة ابيه، وعقد خدرا للعروس الزمنية بالطهر.
وليمة قانا ترمز الى كل البرية:-
كل البرية كانت مصوّرة بتلك الوليمة لان خمر كل واحد كان قد نقص من الاتقان، كان الختن يشبه آدم بالعوز، لان خمره نفذ كما كان قد نقص صِدق آدم، تلك العروس كانت تشبه بيعة الشعوب التي نفذ خمرها كما نفذ التعليم قبل المجيء.
قالت مريم ليس لهم خمر:-
رأت مريم الطوباوية بان الخمر قد نفذ، وكانت قد عرفت بانه صار مجال للتعليم، حينئذ وشوشت النعجة البتول الى شبل الاسد: ربي، لا يوجد الخمر لآل الختن، قالت الذكية فقط: لا يوجد الخمر، غير انه في فكرها كانت تُقال مثل هذه الامور: بيّن قوتَك بالمعجزات لانك ابن الله، هوذا الوقت قد حان ليحسّ العالم بقدرتك العاملة، بيّن قليلا سلطة قدرتك البارية، لماذا تسير بالبساطة وبالسذاجة.؟
جواب يسوع لمريم:-
واذ اسرعت على فعل ليس خاصتها، اجاب الحكيم وكأنه تركها ووضعها في البعد، كان يقول لها: ما لي ولكِ يا امرأة، بينما هي امه كما لو قال احد بجسارة: لا تخصكِ القدرة الآمرة، انا مستعد لاصنع العجب هذه المرة حتى وإن سكتتِ، وبدون كلمتكِ هانذا اشرق قوة جوهري، لم تأت الساعة لاصمم تنفيذ الفعل، لما اريد سيصنع الرمز فقط القوات، ارادتي لا تحتاج الى الاستعداد قبل الوقت، بنفخة صغيرة يسهل علي ان افعل بسرعة، ولما يُرسل امري لا يوجد فيه تاخير، طرفة العين ليست سريعة كقدرتي الفاعلة.
المسيح يبدل الماء الى الخمر:-
اخذ ليبرهن بانه ابن العامل بالحقيقة، لئلا يتشككوا من مجيئه ويقولوا: ليس ربا، اراد ان يعرّف بانه ليس غريبا عن القدرة البارية، فامر الجمعَ ان يسكبوا الماء في الاجاجين، وصنع الخدام كما قال وملأوها، حينئذ انحدرت خفيةً قوة لاهوته، احنى ارادةَ قدرته العاملة على الاجاجين، وسكب فيها المادة السليمة ليس من العنب، الرمز كان قد كمّل المياه التي سقطت هناك وبدّلها الى الخمر الجيد.
ابي يعمل وانا ايضا اعمل مثل الآب:-
يبدل الآب ايضا المياه، وبمهارته منها وبها يصنع الخمر، يجريها في الجذور حسب معرفته، ويسيّرها في الاغصان حسب ارادته، ويحبسها في حضن الجفنات كما لو كان في القنوات وبواسطة الشمس ينضجها ويسجرها ويسخنها، ويصوغ العنبات ويُخرجها ويعلّقها في الاغصان، ويفرش الاوراق على البهيات ويبرّدها، تجري المياه في احضانها وهي غير مفتوحة، وينزل الفيض الى افواهها وهي غير مثلومة، المياه الممجدة متجمعة وقائمة في الاثمار المختومة، وتسجرها الريح والشمس لتنضجها، الآب يبدّل المياه في الجفنات خلال مدة طويلة، وتبدّلها الى مادة الخمر قدرته العاملة.
الابن يعمل دون ان يحتاج الى الوقت:-
الابن الحقيقي كمّل ارادتَه برمز صغير، الابن الذي اراد ان يبدلها بدون مدة زمنية، لم يجعلها تحتاج الى نظام الايام والشهور.
مناهضة المجادل:-
اين الذي ظلم الابنَ (قائلا): ليس الها،؟ ليأتِ ويرَ بان قوته لا تنقص عن والده، يا من يتشكك من الوحيد (ويقول) ليس الها، انظر فان القدرة البارية ظهرت في العرس. مَن هو الذي يصغّر الابنَ عن مرسله ليأتِ ويرَ بان القوة هي واحدة ولا تتجزأ،؟ الى الآن ابي يعمل مثل الباري، وهانذا اعمل كما هو (يعمل) ايضا، قوة واحدة، وامر واحد، وفعل واحد، ورمز واحد، وارادة واحدة، وسلطة واحدة، ذاك الامر الذي صاغ الاثمار في الاشجار كان جالسا في هذه المياه التي صارت خمرا.
المزيد
19 يناير 2021
عيد الظهور الإلهي للقدّيس يوحنا الذهبي الفم
الإنجيل: متى 3: 13 – 17
حينئذ أقبل يسوع من جديد إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه. فكان يوحنا يمانعه قائلا أنا محتاج أن أعتمد منك، أوأنت تأتي إلي! فأجابه يسوع قائلا: دع الآن، فهكذا ينبغي لنا أن نتم كل بر. حينئذ تركه. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وحالا عليه. وإذا صوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (متى 3: 13 – 17)."حينئذ أقبل يسوع من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 13:3).
جاء السيد مع العبيد، القاضي مع المحكوم عليهم، لكي يعتمد. مع ذلك، أقول لك لا تضطرب: فيما بين هؤلاء الوضعاء يسطع سموه. اقتبل أن يحبل به في أحشاء العذراء لزمن طويل، وأن يولد منها بجسد طبيعتنا البشرية، وأن يضرب، وأن يصلب، وأن يكابد الآلام كلها. إذا، لماذا تتعجب إذ تراه يقتبل المعمودية ويأتي مع الاخرين متجها نحو عبده؟ المذهل في الأمر هو الآتي: يريد أن يصير إنسانا بينما هو الله. كل شيء آخر يتبع بصورة منطقية. لذلك بالضبط كان يوحنا يقول مسبقا: "إني لست أهلا أن أحل سير حذائه"، وغيرها، مثلا: إنه القاضي وسوف يجازي كل واحد حسب استحقاقه، وسوف يمنح الروح القدس للجميع بغزارة. لذلك، عندما تراه آتيا إلى المعمودية، لا يقربن فكرك شك البساطة. لذلك، عندما اقترب السيد من العبد، مانعه هذا الأخير قائلا:أنا محتاج أن أعتمد منك، أوأنت تأتي إلي!" (مت 14:3).معمودية يوحنا كانت للتوبة، وللحث على الاعتراف بالخطايا. حتى لا يظن الواحد أن السيد يأتي من أجل كل ذلك، يستدرك السابق الأمر ويدعوه أولا "حمل الله" ومخلص العالم من الخطيئة كلها. طبعا الذي بإمكانه أن يرفع خطيئة العالم كلها، ينبغي له أن يكون بلا خطيئة. لم يقل: "هوذا الذي بلا خطيئة"، بل قال بالحري: "هوذا حمل الله الرافع خطيئة العالم" (يو 1: 29). هذا لكي تتقبل كل ما يجري أمامك. وإضافة إلى ذلك، أن تتحقق أنه يأتي إلى المعمودية لكي يتمم تدبيرا آخر وأبعد. لذلك عند اقتراب السيد من يوحنا، قال له هذا الأخير: أوأنت تطلب المعمودية؟ خشي أن يقول له ذلك. ماذا قال؟ "أوأنت تأتي إلي!".ماذا فعل يسوع؟ عمل كما سوف يعمل مع بطرس. كان هذا الأخير يمانعه أن يغسل رجليه، لكن عندما سمع الكلمات التالية: "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد" (يو 7:13)، وأيضا: "إن كنت لا أغسلك فليس لك نصيب معي" (يو 8:138). عندما سمع بطرس كل ذلك استسلم وبدل موقفه. كذلك يوحنا المعمدان عندما سمع قول السيّد: "دع الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نتمم كل بر" 15:3).عند ذلك أطاع للحال، لأنه مع بطرس لم يكونا معترضين للنهاية، بل أظهرا محبة وطاعة لكل ما كان يصدر عن السيد. لاحظ كيف يتوجه السيد ليوحنا: لم يقل له "هكذا يقتضي العدل أو البر" بل قال: "هكذا يليق بنا". كان يوحنا يعتبر نفسه غير مستحق لمثل هذا العمل، أي لاعتماد السيد من العبد، لذلك توجه إليه الرب، وكأنه يريد أن يقول له: لن تهرب من ذلك ولن تمانع كون الأمر غير لائق. دع الآن الأمور تجري كما أريد، وإضافة إلى ذلك أقول: هكذا يليق بنا أن نفعل.لم يقل "دع الأمر" وحسب، بل أضاف "الآن" لأن الحدث لن يطول. سوف تراني بالشكل الذي تود. لكن الآن تقبل هذا التنازل.وبعد ذلك يشرح لماذا يجرب الأمر كذلك، لكي يتمم الناموس بكامله. يظهر ذلك من خلال عبارته "كل بر". البر هنا تتميم الوصايا. لقد أتم الوصايا الأخرى كلها. وبقيت هذه النقطة الأخيرة. لذلك لابد من تتميمها. لأني جئت لكي أرفع عنكم اللعنة التي تلاحقكم بعد عصيان الناموس. لابد لي أولا من أن أتمم الناموس بكامله، وبعد تحريركم من القضاء، ترتفع عنكم اللعنة المكتوبة عليكم بعد العصيان. ها إني قد أخذت جسدكم وأتيت."حينئذ تركه. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله مثل حمامة وحالا عليه" (مت 16:3).كان كثيرون يعتبرون يوحنا أهم من المسيح، لأنه عاش مدة طويلة في البرية، وكان ابن رئيس كهنة، ويرتدي لباسا تقشفيا خاصا، ويدعو الكل إلى المعمودية، وقد ولد من عاقر. بينما المسيح أتى من فتاة غير معروفة، ولم يكن مولده البتولي معروفا بعد، وقد نشأ في بيت بسيط، وكان يعاشر الجميع، ويلبس اللباس العام، لذلك كان يعتبر أقل من يوحنا. لم يكن الشعب بعد يعرف شيئا عن ميزاته الفائقة الوصف. وجاء اعتماده على يد يوحنا داعما لهذا الاعتقاد غير الصحيح. رأوه واحدا من كثيرين أتوا إلى المعمودية، وهو أكبر من يوحنا بكثير، وأعجب منه بكثير.لذا لكي لا يسود هذا الاعتقاد عند الشعب، انفتحت السموات عند معموديته، ونزل الروح، وسمع الصوت مع نزول الروح."وإذا صوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 17:3) الصوت وحده لم يكن كافيا، إذ كان السامعون يظنون قوله "هذا هو" إشارة إلى المعمد لا المعمد، لذلك نزل الروح بشكل حمامة، فلفت الأنظار إلى يسوع، وبين بوضوح إشارة "هذا هو" إلى يسوع المعتمد، لا إلى يوحنا المعمد.
عدم إيمان اليهود:-
أيعقل أن كثيرين لم يؤمنوا به بعد ذلك كله؟ نعم، ففي أيام موسى كانت تجري عجائب كثيرة، ولئن اختلفت نوعا عن هذه الأخيرة، ورغم تلك العجائب، تلك الأصوات والأبواق والبروق، جلسوا وذبحوا لبعل فاغور. وهو أنفسهم كانوا حاضرين عند إقامة لعازر من الموت، ورأوا الميت قائما، ومع ذلك لم يؤمنوا به، لا بل كانوا يسعون جاهدين لقتله. لقد رأوا بأم أعينهم أمواتا ينهضون، ومع ذلك لم يؤمنوا وبقوا خبثاء. إذا، لماذا تتعجب الآن من كونهم لم يؤمنوا بالصوت الآتي من السماء؟ عندما تكون النفس ناكرة للنعمة، ملتوية، مأخوذة بمرض الحسد والغيرة، لا ترتدع عن أي عمل شرير، وأيضا عندما تكون النفس شاكرة تقبل كل شيء بإيمان، ولا تحتاج إلى أية أعجوبة.
لا تقل: لم لم يؤمنوا، بل أنظر إلى كل ما قيل وعمل لكي يؤمن الجميع. لقد ورد الله الدفاع على لسان النبي. كل ذلك جعل اليهود يهلكون بسبب منهم، ويسلمون أنفسهم إلى العقاب الأخير. لذا أراد الله أن يميز بين تدبيره الحسن وخبثهم، بقوله: "أي شيء يصنع للكرم لم أصنعه لكرمي؟" (إش 5: 4). كذلك، أي شيء يصنع هنا لم يصنعه؟ وإن دخل أحد في مناقشة حول موضوع عناية الله، يمكننا أن نلجأ إلى الطريقة الدفاعية السابقة ضد الذين كانوا يتهمونه ظلما بدافع شرهم. أنظروا إذا إلى العجائب الحاصلة الآن، التي تنذر بالحوادث المستقبلة. لم ينفتح الفردوس، بل انفتحت السموات. لندع هذا الموضوع جانبا، ونتابع شرح النص."فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له" (مت 3: 16). لماذا انفتحت السماوات؟ لكي تعلم أنت أيضا أنه عندما تعتمد أنت يحصل الأمر نفسه: يدعوك الله إلى الوطن السماوي، ويريد أن يقنعك بعدم ارتباطك بأي شيء على الأرض. آمن ولو لم تر. فالظهورات الحسية والعلامات السابقة للحوادث الروحية العجيبة تكون من أجل الضعيفي الإيمان، الذين هم بحاجة إلى مثل هذه الظهورات المحسوسة، الذين لا يعطون أي معنى للطبيعة اللامادية، بل يفتشون دوما عن الأمور المنظورة فقط. لذلك، عليك، ولو لم تر بعد ذلك مثل تلك العلامات، أن تقبل بإيمان كل ما جرى حتى الآن من البداية. لقد جرى مع الرسل صوت ريح عاصفة، وظهرت ألسنة نارية. هذا لم يحصل من أجل الرسل، بل من أجل اليهود الحاضرين. ولكن، حتى وإن لم تجر بعد ذلك مثل هذه العلامات الحسية أمامنا، علينا أن نقبل أنها جرت مرة هكذا بالفعل. لأنه من أجل ذلك أيضا ظهرت الحمامة، ودلت الحاضرين مع يوحنا، كما بإصبع اليد، إلى ابن الله، لكي تعلم أنت أيضا أن الروح القدس ينزل عليك في وقت المعمودية.لسنا بحاجة إلى علامات منظورة، بل يكفي أن يتوفر الإيمان عوضا عنها. العلامات ترد لا من أجل المؤمنين بل من أجل غير المؤمنين.لماذا ظهر الروح القدس بشكل حمامة؟ الحمامة حيوان أليف طاهر. وبما أن الروح القدس هو روح وداعة، لذلك تراءى بشكل حمامة. ومن ناحية أخرى، هذا يذكرنا بقصة تاريخية قديمة، عندما غمر الطوفان كل المسكونة، وكاد الجنس البشري أن يفنى، كانت الحمامة الطائر الذي بين بوضوح نهاية الغضب الإلهي، حاملة في منقارها غصن زيتون، كخبر مفرح يعلن السلام العام. كل ذلك كان رسما لما سيحدث لاحقا. كانت حالة الناس أبشع بكثير من حالتهم الحاضرة، وكانوا يستحقون عقابا أكبر. فلكي لا تيأس أنت الآن، يذكرك هنا بتلك الحادثة القديمة: حين كان الرجاء مفقودا، وجد حل وإصلاح. كان الطوفان في ذلك الوقت تأديبا، وأما الآن فقد جاء الحل عن طريق النعمة والعطية الجزيلة. لذلك ظهرت الحمامة، لا تحمل غصن زيتون، ولكنها تشير إلى الذي سيخلص من كل الشدائد، وتبسط أمامنا رجوات صالحة، لأنها لا تخرج إنسانا من الفلك، بل تقود ظهوره المسكونة كلها إلى السماء. لا تحمل غصن زيتون، بل البنوة للبشر كلهم.الآن، وقد أدركت قيمة العطية، لا تحسب أن قيمة الروح ناقصة، بسبب ظهوره بشكل حمامة. أسمع البعض يقول إنه كما يختلف الإنسان عن الحمامة كذلك يختلف المسيح عن الروح، إذ ظهر المسيح بصورة طبيعتنا الإنسانية، بينما ظهر الروح القدس بصورة حمامة. فبم نجيب عن كل ذلك؟ إن ابن الله اتخذ طبيعة الإنسان، بينما الروح القدس لم يأخذ طبيعة الحمامة. لذلك لم يقل الإنجيلي أن الروح ظهر "بطبيعة حمامة"، بل قال "بشكل حمامة". ولم يظهر الروح بعد ذلك بهذا الشكل، بل هنا فقط. فإن اعتمدت على هذه المقارنة، وحسبت أن كأن الروح قد صغر لهذا السبب، فسوف تجد الشاروبيم أسمى من الروح بكثير، كسمو، النسر على الحمامة، لأن الشاروبيم ظهرت بشكل نسر. كذلك تجد الملائكة أعلى بكثير، لأنهم يظهرون بشكل بشر. لكن، طبعا، كل ذلك غير صحيح. الحقيقة شيء والتدبير شيء. التنازل شيء، والظهور العابر شيء آخر.لا تكن إذن ناكر الجميل نحو المحسن، ولا تنسب عكس ما يجب أن تؤديه إلى الذي وهبك ينبوع الغبطة. حيث تكرم البنوة، يضمحل الشر، وتمنح الصالحات كلها. لذلك بالضبط ينتهي دور المعمودية اليهودية وتبتدىء معموديتنا. ويجري في المعمودية ما يجري في الفصح. ينتهي دور الواحد ويبتدىء دور الآخر. هنا أيضا، بعد إتمام المعمودية اليهودية تنفتح أبواب معمودية الكنيسة. ما يجري على المائدة يجري الآن على النهر.
يؤكد على الظل، ولكنه يضيف الحقيقة، لأن نعمة الروح القدس كائنة في معمودية يسوع المسيح فقط، ، بينما معمودية يوحنا لا تتضمن مثل هذه العطية. ولذلك لم يحصل للمعمدين الآخرين ما حصل للرب يسوع المسيح، لأنه هو من سيعطي هذه الموهبة.وإلى جانب كل ما ذكرناه حتى الآن، اعلم ما يلي: ليست طهارة المعمودية هي التي حققت مثل هذه العطية، بل قوة ذاك الذي يعتمد. إذ ذاك فتحت السموات، ونزل الروح عليه. إنه يخرجنا من حياتنا القديمة إلى حياة جديدة، فاتحا من أجلنا أبواب السماء، ومرسلا من هناك الروح الذي يدعونا إلى موطننا هناك. لا يدعونا فقط بل يكرمنا إكراما فائقا. لأنه لم يجعلنا ملائكة ورؤساء ملائكة، بل أظهرنا أبناء الله وأحباءه، وهكذا جذبنا إلى الميراث الذي هناك ...
من كتاب أناجيل ورسائل الأعياد
المزيد
18 يناير 2021
ميمر عيد الغطاس المجيد للأنبا بولس البوشي أسقف مصر في القرن الثالث عشر الميلادي،
يفتتح القديس بولس البوشي، أسقف القاهرة في القرن الثالث عشر، ميمر عيد الغطاس المجيد قائلاً:[المجد لقدوس القديسين الذي قدَّسنا بالميلاد الثاني وحلول الروح القدس، عندما حل في نهر الأردن بالعماد. المجد للذي لم يزل (الأزلي الدائم)، الذي وُلد جسدانياً ليلدنا روحانياً بالمعمودية المقدسة عندما تعمَّد من عبده يوحنا، وصار لنا طريقاً للبر والإرشاد (القيادة في الطريق). المجد للذي تواضع وأتى إلى نهر الأردن ليكمل كلَّ البرِّ، الذي ببرِّه تبررَّنا من الأشجاب (الاتهامات). المجد للذي أظهر لنا سرَّ الثالوث على نهر الأردن بإعلان].
يرى الأنبا بولس البوشي أن ما تمَّمه الرب يسوع على نهر الأردن كان لحسابنا نحن، لأنه لم يكن محتاجًا لأيٍّ منها، وهكذا أخذنا نحن عربون القداسة والولادة الروحانية والتبرير، عندما اعتمد الرب في نهر الأردن.[المجد للذي طهَّر المياه بحلوله فيها، وقدَّس العناصر وكل الأرض بمشيه عليها… اليوم رضَّ الربُّ رأس التنين على المياه، كنبوة داود (مز 74: 13)].كانت المياهُ في البدء عُنصرَ خلقٍ، حسب قول الكتاب: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ… وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» (تك 1: 1-2). لكن بعد سقوط الإنسان، صارت المياه عنصر موتٍ، كما حدث في الطوفان. ولكن بمعمودية الرب في نهر الأردن طهَّر المياه، إذ أباد الموت الذي صار فيها: اليوم رضَّ الربُّ رأس التنين، كناية عن الشيطان الذي كان له سلطان الموت، ومن ثم أصبحت المياهُ عنصر خلق من جديد، وصار لها القوة أن تلد الإنسان جديدًا في المعمودية المقدسة.ثم يعطي بولس البوشي المجد للرب يسوع، مبيِّنًا عظمة تدبيره على نهر الأردن:[المجد لك أيها المسيح الرب، الذي تواضع من أجل محبته للبشر، وجدَّد الخليقة بمولدٍ ثانٍ، لا يبلى، من فوق من عند أبي الأنوار. لك أبارك وأقدِّس يا من نزع عنا العار وجعلنا بني نور ونهار. لك أعظِّم وأرفع يا من هو فوق كل رئاسة وقوة وسلطان، شاء أن يتواضع ويعتمد من عبده يوحنا، وعلَّمنا سيرة الاتضاع الذي نخلص به من مكيدة الشيطان. أعطني معرفة يا من بغيره لا أقدر على شيء، لأتكلم من أجل أعمالك التي تفوق كل حسن وبهاء، هَب لي فهماً يا معطياً كلَّ فضل لأنطق على تدبير أعمالك التي أعلنتها. امنحني موهبةً يا مَن مِن امتلائه تفيض كلُّ النعم الروحانية، لأخبر بتواضعك أيها القدوس علانية].بعد ذلك يبين سبب تسمية هذا العيد باسم: عيد الظهور الإلهي:[عظيمةٌ هي كرامة هذا العيد المجيد اليوم، أيها الإخوة الأحباء. وهو يسمَّى عيد الظهور، لأن فيه ظهر سرُّ الثالوث القدوس. الذي كان رمزاً في كتب الأنبياء، ظهر لنا اليوم علانية باستعلان لأجل أن الابن متجسدٌ وأعلن كلَّ ما كان مستتراً. والمثال صار حقاً وكمالاً، والأشياء التي كانت مخفية عن الحكماء والفهماء ظهرت الآن للأطفال. أول ذلك عظمة القدوس الواحد في اللاهوت، مبتدأ الأشياء ورأسها وكمالها، استُعلن لنا اليوم. الابن في الأردن اعتمد، والآب في السماء يشهدُ له قائلاً: «أنت ابني الحبيب الذي بك سررت»، والروح القدس نازل شبه حمامة ليدل أن الروح كاملٌ بأقنوم].هذا (هو) الثالوث القدوس الذي به آمنَّا، وباسمه اعتمدنا على المثال الذي كان في الأردن، كما أمر الربُّ رسلَه الأطهار قائلاً: «امضوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19)، «فمن آمن واعتمد خَلَصَ، ومن لم يؤمن يُدَن» (مر 16: 16). وقال أيضاً: «الحق الحق أقول لكم: إن من لم يولد من الماء والروح لا يعاين ملكوت الله» (يو 3: 5). ثم عرَّفنا أنه غير هذا الميلاد الجسداني، فقال: «لأن المولود من الجسد فهو جسد، والمولود من الروح روح هو» (يو 3: 6).ولأجل شرف هذه الولادة المقدسة، يوحنا الإنجيلي يعلِّمنا قائلاً: «الذين آمنوا به أعطاهم سلطاناً أن يصيروا بني الله، وليس هم من دم ولا من هوى لحم ولا من مشيئة رجل، بل وُلدوا من الله» (يو 1: 12-13). هذا الذي به بحق نرث ملكوت الله، لأن لحماً ودماً لا يرثها، كما قال الرسول (1كو 15: 50)، بل الذين ولدوا بالروح. ولذلك لمَّا أراد الرب أن يستعلن للشعب بعد كمال ثلاثين سنة لمولده بالجسد، ابتدأ أولاً باستعلان الثالوث الواحد في اللاهوت. ثم أرانا الطريق الكاملة فوق كل كمال، وهو كيفية الميلاد الثاني مبتدأ الإيمان وعربون إرث البنوة التي بها صار العتق والحرية… يقول الكتاب: «حينئذ جاء الربُّ يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد من يوحنا» (مت 3: 13). يا لهذا الاتضاع الذي لا يُقاس ولا يستطيع لسانٌ بشري ترجمته. كيف (أنّ) الرب الذي يأتي إليه كلُّ البشر، كما هو مكتوب (مز 65: 2)، جاء إلى الأردن ولم يأنف من ذلك، وقدوس القديسين جاء ليعتمد من الذي قدسه هو، باركه واصطفاه وأعطاه موهبة روح قدسه، وأرسله بشيراً أمامه. وليس أنه كان محتاجاً إلى ذلك، بل من أجلنا نحن المحتاجين، ولا لأجل قبول الروح القدس أيضاً، لأنه لم يزل معه أزلياً في الجوهر الواحد اللاهوتي، بل لكي يعطينا نحن موهبة الروح القدس بالمعمودية على الإيمان باسمه المقدس. هذا الذي طهر المياه بحلوله فيها وقدسها، وطهرنا نحن أيضاً بهبوط روح القدس نازلاً عليها (يقول الكتاب: اسمح الآن لأنه ينبغي أن نكمل كل بر). فأما يوحنا حيث لم يقدر على الاستعفاء، ولا وجد له مفراً، ولم يقدر (أن) يعاند أمر سيده، حينئذ تركه. وأن الربَّ لما اعتمد «صعد للوقت من الماء»، لكي ما يرينا سرعة اهتمامه بنا، «فانفتحت له السموات»، لأنه ملك كل شيء، «وظهر روح الله نازلاً شبه حمامة آتياً إليه»، لنعلم أن الروح كاملٌ ذو أقنوم، وأنه استُعلن لأجل استعلان الابن، ليكون فاعلاً في كل التقديسات. وحيث هو غير متجسد، تمثّل شبه حمامة دون غيرها من الطير لأجل دعتها.«وإذا صوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». وبهذا سُمي هذا العيد عيد الظهور كما تقدم القول، لأنه فيه ظهر سرُّ الثالوث القدوس، الابن في الأردن، والآب يشهد له، وروح القدس نازلاً عليه.ولماذا لم يحلّ على الرب وهو في نهرالأردن؟ وذلك لئلا يُظنَّ أنه حل على يوحنا المعمداني، لأن اسمه كان ذائعاً. ولهذا لما صعد الربُّ من الماء واعتزل من يوحنا، حلَّ عليه خاصة، وإن كان الروح معه لم يزل في وحدانية اللاهوت جوهراً واحداً. بل صنع هذا لكيما كل من اعتمد بهذا المثال على اسم الثالوث القدوس الواحد في اللاهوت يقبل موهبة الروح القدس، لأن الربَّ صار لنا مثالاً في كل شيء.
فأما يوحنا الإنجيلي فإنه جعل فاتحة إنجيله في المولد الأزلي الذي ليس له ابتداء قائلاً: «في البدء كان الكلمة، ولم يزل الكلمة عند الله، وإله هو الكلمة»، وما يتلو ذلك. فلما تقدم لم يترك تدبير التجسد والمعمودية المقدسة لأجل فضلها، بل أكد ذلك جيداً بحلول الروح على الأردن وقول المعداني: «إني عاينتُ وشهدتُ أن هذا هو ابن الله» (يو 1: 34).ولم يقتصر بهذا (القول)، بل زاد ذلك ظهوراً وتأكيداً بأن الربَّ إنما صنع ذلك لأجلنا خاصة. يقول الربُّ لنيقوديموس: «إنه ينبغي لكم أن تولدوا من ذي قبل، لأن المولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح فهو روح» (يو 3: 3، 6). وقال: «من لم يولد من الماء والروح فلا يعاين ملكوت الله» (يو 3: 5). هذا الذي به جدَّدنا وجعلنا بنين للآب في الحياة المؤبدة. كما يقول الرسول: «إنه أحيانا بغُسل λουτρόν الميلاد الثاني وبتجديد موهبة روح القدس» (تي 3: 5)، أعني عن الروح الذي نزعه من آدم عند المخالفة، جدَّده فينا بالمعمودية مجاناً بنعمته. قال: «الذي أفاضه علينا من غناه وفضله بتأييد يسوع المسيح محيينا، لنتبرر بنعمته ونكون وارثين لرجاء الحياة الدائمة (تي 3: 6-7).فلذلك يا أحبائي، كرامة هذا العيد جليلة جداً، ويجب علينا أن نوقرها لأن فيها استعلن لنا سرُّ الثالوث.اليوم أعطانا الابنُ سلطاناً أن نولد من ذي قبل، ونصير بنين لله الآب بالروح. والروح يشهد لأرواحنا إننا بنون لله (رو 8: 16).اليوم رض الربُّ رأس التنين على المياه، كنبوة داود (مز 74: 13).اليوم عَتَقَنَا الابنُ من العبودية المرة، وصيرنا أحراراً عندما جعل فينا موهبة روح قدسه، ذاك الذي نزعه من أبينا آدم عند أكله من عود المعصية.اليوم كمل المكتوب في يوئيل النبي: «إني أفيض روحي على كل جسد، يقول الرب» (يؤ 2: 28).فلنصنعه الآن عيداً نقياً طاهراً كما يليق به، لأن فيه طهرنا الربُّ بحلول روح قدسه، وولدنا ميلاداً جديداً، وليس من زرع يبلى كما كان أولاً، بل مما لا يبلى لإرث ملكوت أبدية لا زوال لها (1بط 1: 23). إذ الصوت الصارخ نسمعه اليوم قائلاً: «أعدوا طريقَ الربِّ واصنعوا سبله مستقيمةً». وإن كان هذا قد صار إلى يوحنا وصرخ به في المسامع جسدانياً، فقد أكمل آباؤنا الرسل الأطهار كنائسياً في إنذار البشرى وبنيان الكنيسة، كما تقدم القول. فإنه يأتي إلى اليوم قائماً ثابتاً صائراً إلينا روحانياً، يصرخ في مسامع نفوسنا، التي صارت كمثل برية خالية من عمل البر، لترك الاهتمام بها، فأمرنا أن نسهل طريق الرب ليحل فينا بالروح عندما نحفظ وصاياه، كما قال: «إن الذي يحفظ وصيتي أنا والآب نأتي ونتخذه مسكناً» (يو 14: 23).فما الذي يكون أشرف من هذا أن الإنسان الحقير الترابي يصير مسكناً للرب الإله العظيم السمائي بعمل وصيته. وحينئذ تمتلئ الأودية التي في تلك النفس، وهي ضعف القلب، وقلة الأمانة (الإيمان)، وعدم الرجاء؛ تمتلئ إيماناً وقوة ورجاءً صالحاً في الله. ثم الآكام التي فيها تتضع، أعني الكبرياء والافتخار والعصيان لناموس الله، وتصير متضعةً من أجل الرب الذي اتضع من أجلنا، خاضعةً لناموسه بمحبة واجتهاد، حافظةً وصاياه بشهوة، حتى إن النفس التي كانت وعرة في مسلكها تصير سهلةً في انقيادها، وكانت أولاً وحشية (أي برية) خشنة في طباعها، تصير لينة سهلة في تصرفها، قد رُسم فيها وطُبع ناموس الروح، ليس في ألواح حجرية، بل في قلوب لينة لحمية، كما يقول الرسول (2كو 3: 3). وهكذا يعاين كل ذي جسد (أن) هذا فعله خلاص الله (لو 3: 6).ويجب علينا أن نذكر العهد الذي عاهدنا به الربَّ وقت المعمودية كالأوامر الرسولية، بأن نجحد الشيطان وكل أعماله، ونتبع ناموس الرب وكل أفعاله. وإن كنا قد زللنا وعملنا بالضد من ذلك، فنتجدد بنار التوبة التي من تلقاء الروح، وننهض من السقطة ونرجع عن توعر الهلاك، إذ الرب يدعونا على فم إشعياء النبي قائلاً: «ارجعوا إليَّ فأرجع إليكم يقول الرب، ولو كانت خطاياكم قد صارت كالدم، جعلتُها كالثلج، ولو كانت كصبغ القرمز، رددتُها كالصوف الأبيض النقي» (إش 1: 18). فإن تهاونا في ذلك، يكمل علينا قول الرسول: «أن ليس عهد ولا وفاء لهم». اللفظة قيلت للمؤمنين خاصة، فقال: «أولئك الذين يعرفون حكم الله أنه مستوجب الموت على الذين يعملون هذه القبائح، وهم لا يقتصرون على العمل بها فقط، بل ويلتمسون مشاركة من يعملها أيضاً» (رو 1: 31-32).
فالآن نرجع للربِّ بتوبة نقية لكي نَطْهُر من هذه القبائح، ونغتسل من وسخ دنسها، لأن الربَّ يعلِّمنا على فم إشعياء النبي قائلا: «اغتسلوا وتطهروا وانزعوا الشَّرَّ والخبثَ من قلوبكم أمام عيني، يقول الربُّ» (إش 1: 16). ثم إن النبي يثلبُ قوماً يدومون على خطاياهم وجهلهم قائلاً: «الويل للذين يسكرون من باكر، ويدومون على سكرهم إلى حين المساء» (إش 5: 11)، أعني الذين يتهاونون بنفوسهم في دنس الآثام من صباهم إلى كمال حياتهم، فيدركهم المساءُ الذي هو الموت، الذي لم يبقَ فيه عمل، ولا يُقبل فيه توبة.فلنسعَ الآن في عمل البر حسب قوتنا، مادام لنا زمان ومهلة، قبل أن تدركنا الوفاة، لكي نجد منه معونة ونظفر عنده برحمته، والرب يحفظنا أجمعين من مكائد العدو ومناصبه (أي معاداته)، ويؤهلنا لسماع ذلك الصوت الفرح القائل: «تعالوا إليَّ يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم» (مت 25: 34). بشفاعة سيدتنا البتول مرتمريم والدة الخلاص، وشفاعة القديس البار مار يوحنا المعمداني، وشفاعات آبائنا الرسل والشهداء والقديسين آمين.
المزيد
17 يناير 2021
المعمودية عبور من الموت إلى الحياة
المعمودية بالتغطيس كاشتراك في موت المسيح ودفنه:
التغطيس الكامل حتى الرأس، أو انغمار الجسم كله تحت الماء، كتعبير عن الدفن في الماء، هو بمثابة وقوع الإنسان الإرادي بالموت تحت عقوبة الله برسم الطوفان (1بط 3: 20 - 22)، بسبب الخطايا التي صنعها الإنسان والتي ورث دوافعها وآثارها ونتائجها في طبيعته الترابية. ولكن لأن هذا الدفن هو في اسم المسيح وعلى أساس موته ودفنه وكاشتراك فيه، فالموت يصبح للتبرير عن الخطايا السالفة، وبالتالي يُنشئ شركة في القيامة للحياة بلا خطية؛ أي يُنشئ ميلاداً جديداً للإنسان لخليقة جديدة. ثم بإعطاء الروح القدس (بوضع اليد أو بالميرون) تصير الخليقة الجديدة روحانية ومتحدة بالمسيح.
فالمعمودية في اسم المسيح والآب، وبمنحها الروح القدس، تكون هي المعجزة العُظمى للإنسان الممنوحة له من الله رأساً كآية العهد الجديد، التي فيها يرتبط الله بالإنسان لإعادة خلقته بروحه القدوس على صورة مسيحه، ليرفعه من خلقة إلى خلقة، من خلقة أرضية من التراب إلى خلقة سمائية «من الروح»، «من فوق»، «من السماء»، ليتغيَّر الإنسان من شكل آدم إلى شكل المسيح، وليقبل الإنسان عوض بنويَّته التي من آدم بالفساد والخاضعة للزمن والموت، إلى بنويَّة الله والحياة معه بالبر والقداسة والحق للحياة الأبدية.
مفاعيل المعمودية:
القديس بطرس الرسول يطالب كل مَنْ اعتمد بالهروب من الفساد الذي في العالم بالشهوة، وبممارسة الفضائل باجتهاد، وإلاَّ فإنه يُعتبر أنه «قد نسي تطهير خطاياه السالفة» (2بط 1: 9). وهنا تتضح فعَّالية المعمودية بالتحديد: «تطهير خطاياه السالفة»؛ فالمعمودية إما توضع نُصب أعيننا كمنبع طهارة ومصدر قوَّة للتطهير من جميع الخطايا (السالفة) - سواء التي ورثنا آثارها باللعنة الأُولى أو التي عملناها بإرادتنا - وإما ننساها فنفقد المصدر الذي نستمد منه طهارتنا وقدرتنا على الجهاد لاستمرار التطهير.
كما يرى بطرس الرسول في المعمودية أنها «لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله» (1بط 3: 21). أي أن المعمودية تُنشئ فينا إحساس الضمير المطهَّر الذي يجعلنا قادرين أو مستحقين للوقوف أمام الله لنصلِّي ونطلب من الله بلا لوم داخلي.
أما القديس بولس الرسول فيضع مفاعيل المعمودية واضحة في قوله:
+ «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11)
فالمعمودية هي اغتسال من الخطية = تقديس، والوقوف أمام الله بلا لوم = تبرير.
فهي تُعتبر الغاية العُظمى للخلاص الذي جاء الرب يسوع لتكميله بالموت على الصليب:
+ «... أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدِّسها مطهِّراً إياها بغسل الماء بالكلمة (المعمودية) لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضْن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدَّسة وبلا عيب.» (أف 5: 25 - 27)
ثم يعود بولس الرسول في رسالته للعبرانيين ليؤكِّد ذلك قائلاً:
+ «لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان، إذ قد صارت قلوبنا مرشوشة من ضمير شرير (أثر المعمودية بالروح داخل الضمير) وأجسادنا مغتسلة بماء طاهر، متمسِّكين ”باعتراف“ الرجاء بدون تردُّد لأن الذي وعد هو أمين.» (عب 10: 22 و23 ترجمة أكثر وضوحاً)
هنا يتضح أثر المعمودية في الضمير، وفي أعضاء الجسد، مشيراً إلى قوة التطهير بالروح في الضمير وبالماء بالنسبة للجسد. وإن أثر المعمودية في النهاية يعطي تقدُّماً إلى الأقداس العليا بقلب صادق ويقين الإيمان، على أن نظل متمسِّكين بالاعتراف الذي نتلوه في المعمودية برجاء لا يتزعزع وبلا تردُّد، اعتماداً على وعد الله وأمانته.
الروح القدس يدعو إلى المعمودية:
الدعوة إلى المعمودية كانت معروفة ومؤكَّدة منذ أول لحظة حلَّ فيها الروح القدس:
+ «فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم (فعل الروح القدس المُسْبَق) وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة، فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس (عمل الروح القدس اللاحق).» (أع 2: 37 و38)
واضح هنا أن الروح القدس هو الذي يُعد القلب بنخس خفي لقبول الإيمان والمعمودية.
واضح أيضاً أن الفعل الأول للروح القدس في المعمودية هو لمغفرة الخطايا، لذلك فإن قبول «عطية» الروح القدس تأتي بعد المعمودية، أي بعد مغفرة الخطايا، وهذا أمر في غاية الأهمية العملية. فالخطية تمنع قبول عطية الروح القدس.
ومن المهم أن نلاحظ أن المعمودية مرتبطة أساساً بالمسيح = «على اسم المسيح»، وذلك مبني على فعالية الخلاص والفداء الذي أكمله المسيح عن البشرية لسؤال مغفرة الخطايا، وعلى هذا الأساس يتم الميلاد الجديد بكل متطلباته كخليقة جديدة في المسيح. ولكن، لأن المسيح أكمل الفداء ليس من ذاته بل بمشورة الآب ومسرَّة الروح القدس، لذا أصبح يتحتَّم أن تكون المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس، حيث ينال الإنسان بواسطة المسيح علاقته الجديدة بالآب والروح القدس، وهي حالة التبني بالروح للآب. وينال الإنسان تقديس الحياة الجديدة بواسطة الروح القدس ليليق بحالة التبني لله: «أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، باعتبار أن ميلادهم الجديد هو شركة موت وحياة في المسيح ابن الله.
وهذا التعليم الإلهي المنسجم لدى كل الرسل واضح جدًّا أنه مسلَّم من واحد هو المسيح: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت 28: 19)
ونسمع أيضاً من حنانيا، أحد السبعين رسولاً، وهو يقول لشاول (بولس): «إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته، وتبصر البار، وتسمع صوتاً من فمه، لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت، والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد، واغسل خطاياك داعياً باسم الرب.» (أع 22: 14 - 16)
وهنا أيضاً مفاعيل العماد المسبقة والمرافقة والتابعة: انتخبك، لتبصر، لتسمع، لتشهد، ثم الأمر الإلهي «قُمْ»، «اغسل خطاياك». هنا فعل الغسل بالماء يشمل بكل وضوح معنًى روحيًّا عميقاً موازياً لغسل الجسد، ولكن أشد فعلاً وأبقى أثراً، إذ يتغلغل ليشمل كل أعمال الخطية في الماضي بكل آثارها على الروح والنفس والجسد والضمير!!«اغسل خطاياك»، ما أروع وما أسهل وما أعمق هذا التعبير!! وهذا ظل يعلِّم به بولس الرسول نفسه كل أيام حياته، بعد أن ذاقه وعاشه فعلاً. اسمعه يقول: «قداغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11)
تعليم الآباء الرسوليين عن المعمودية
وقد سلَّم الرسل هذا الإيمان نفسه بتحديده الواضح إلى الآباء الرسوليين، فنسمع الأسقف هرماس (142 - 174م.) يقول:
[عندما نزلنا إلى الماء تقبَّلنا غفران خطايانا السالفة.] (Mand. iv. 3.1)
وفي رسالة برنابا (80 - 130م.)، يرى أن المعمودية تعطي نفس طفل:
[لقد تجدَّدنا بغفران خطايانا وصُنعنا شكلاً آخر حتى يكون لنا نفس طفل، كأنما قد خُلقنا من جديد، كما يقول الكتاب بخصوصنا حيث الآب يخاطب الابن: لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا.] (Quasten, Patrology, vol. I, 87)
أي أن الآية: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 18: 3)، إنما تشير إلى المعمودية.
أما يوستين الشهيد (110 - 165م.) فيعتبر أن المعمودية هي تكريس النفس لله، وغفران الخطايا، وميلاد جديد بالاختيار والمعرفة، واستنارة:
[وسأقص عليك كيف نكرِّس أنفسنا لله ... ونحضرهم إلى مكان الماء ونعيد ميلادهم بنفس الطريقة التي وُلِدنا نحن بها ثانية، لأن باسم الله الآب سيد الخليقة ومخلِّصنا يسوع المسيح والروح القدس يقبلون اغتسال الماء. وقد تعلَّمنا من الرسل معنى هذا، لأنه بميلادنا الأول وُلِدنا بدون اختيارنا وبدون معرفتنا بواسطة والدينا عندما اجتمعا معاً، ونشأنا بعادات رديئة وخبرات شريرة. فلكي لا نبقى أبناء الضرورة والجهل بل أبناءً بالاختيار والمعرفة، ولكي نحصل في الماء على مغفرة خطايانا التي اقترفناها سابقاً، يُنادى فوق مَنْ اختار أن يولد ثانية، الذي يكون قد تاب عن خطاياه، باسم الله الآب وباسم المسيح يسوع الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي وباسم الروح القدس الذي ينير المُغتَسِل، وهذا الاغتسال يُدعى «استنارة» لأن الذين يعرفون هذه الأمور يستنيرون روحيًّا.] (Apol. 1-16: 10)
الدعاء باسم الرب هو ختم المعمودية:
والدعاء باسم الرب على المعمَّد أو بفمه هو أثناء النزول في الماء: «قُمْ واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب» (أع 22: 16). هنا قوَّة عمل الدعاء باسم الرب هو مكافئ لعمل حميم المياه، وهذا يعطي المعمَّد «قوَّة الاسم»، أي قوة المسيح التي ظهرت في الموت الكفَّاري والقيامة للحياة: «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11)
واضح هنا أن عمل قوَّة اسم المسيح عنصر هام قائم بذاته لقوَّة عمل الروح القدس في إتمام سر العماد.
هذا الدعاء باسم المسيح أثناء العماد هو الختم sfr£gij الإلهي الذي يناله المعمَّد لينطبع على كل كيانه الروحي باعتباره قد صار تابعاً للمسيح ومن خاصته. هذا الختم هو بمثابة شهادة وسلطان من الله أن المعمَّد صار ابناً لله: «كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، وقد عبَّر بولس الرسول عن فاعلية المعمودية بتعابير غاية في العمق: «ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله، الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا» (2كو 1: 21 و22)، «الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس.» (أف 1: 13)
والمعمودية كختم، حيث يتركَّز الختم في إجراء الدعاء باسم المسيح، هي تقليد انتقل أيضاً إلى الآباء الرسوليين، فيقول هرماس عن المعمودية إنها ختم الموت والحياة:
[قبل أن يحمل الإنسان اسم ابن الله يكون ميتاً، ولكن حينما يقبل الختم فإنه يخلع الموت ويلبس الحياة، والختم هو الماء، فهم ينزلون إلى الماء أمواتاً ويخرجون أحياءً.] (Quasten, Patrology, vol. I, 101)
وجاء أيضاً في الرسالة الثانية المنسوبة لكليمندس الروماني (92 - 101م.):
[احفظوا الجسد طاهراً واحفظوا الختم (المعمودية) بلا عيب حتى تنالوا الحياة الأبدية.]
(Quasten, Patrology vol. I, 56)
مسئولية الإنسان المعتمد:
نوال هبة المعمودية كميلاد جديد من الله يُنشئ في الحال مسئولية عُظمى على الإنسان المعتمد. فالمعمودية وزنة وهبة عُظمى تحمل صورة الله واسمه وختمه، ولذلك سيعطي الإنسان جواباً عن مدى احترامه وحفظه واستخدامه لها.
ولكي نتحقَّق من خطورة التحذير الوارد في رسالة العبرانيين عن الذين سقطوا بعيداً عن المستوى اللائق بالمعمَّدين: «لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة (أي لا يمكن تعميدهم مرَّة أخرى) إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه» (عب 6: 6)، «فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف وغيرة عتيدة أن تأكل المضادين» (عب 10: 26 و27)، نقول إنه إذا أردنا أن ندرك خطورة ذلك علينا أن نعود إلى وضع بني إسرائيل الذين اعتمدوا في البحر الأحمر - بالإيمان بالله - الذي هو مثال المعمودية الحاضرة - كمعجزة عُظمى للخروج من عبودية مصر، إذ عبر بهم الله على يد موسى من الموت المحقَّق إلى الحياة عبر البحر. ولكن، وبالرغم من هذا، تمرَّد الشعب على الله فاعتبر الله تمرُّده أنه إهانة واحتقار لمعجزة إخراجه من مصر وعبوره البحر الأحمر الذي هو مثال المعمودية، فدفع الشعب ثمن هذا العصيان و«عدم الإيمان» وحلَّ عليه غضب الله، فطُرحت جثثهم في القفر وهلك الجيل بأكمله، غير أن الرب أبقى لنفسه شاهدين!
كذلك نلاحظ هنا أن معمودية البحر الأحمر لم تسعف فرعون وجنوده بل كانت لهم موتاً وهلاكاً، في الوقت الذي أعطت النجاة والحياة لشعب الله. كذلك فإنها لم تنفع شعب الله الذي لم يقدِّم أثماراً تليق بالتوبة. ويوحنا المعمدان يؤكِّد أن المعمودية بدون أعمال تليق بالتوبة هي معمودية للموت: «والآن قد وُضِعَت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار» (لو 3: 9)، «يا أولاد الأفاعي (الذين يأتون إلى المعمودية هروباً من غضب الله ولكن لا يعملون أعمال التوبة) من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة» (لو 3: 7 و8). فالمعمودية فعل حياة أبدية مربوط بالإيمان، إذا استهان به الإنسان وسقط عنه - بالارتداد أو جحد الإيمان بالمسيح - لا يعود الروح القدس يعمل فيه كفعل حياة وتجديد بل ويدخل تحت الدينونة. فبعد أن يكون الإنسان شريكاً في موت المسيح على الصليب للقيامة والحياة يصير بجحوده للمعمودية والإيمان صالباً للمسيح!!
والقديس بولس الرسول، في رسالته إلى أهل رومية الأصحاح السادس، يعالج الحياة بعد المعمودية ليس على مستوى الارتداد الكامل أو جحد الإيمان، ولكن على أساس مجرَّد الرجوع لحياة الخطية وتمكين الخطية في الأعضاء وفقدان الرجاء بضعف الإيمان، فإن فعل الحياة الذي كان يسري فينا بقوَّة الإيمان بمقتضى سر المعمودية يتوقَّف وتبدأ الخطية تفعل فعل الموت مرَّة أخرى!! «لا تملكنَّ الخطية في جسدكم المائت (بالمعمودية).» (رو 6: 12)
وعلى هذا الأساس تتضح لنا الأمور الآتية:
1 - إن فعل الله في العماد يعتمد على إيماننا بقداسة الله وندائنا باسم يسوع المسيح ليعبر بنا من الموت إلى الحياة، وهذا يوضِّحه دخول شعب إسرائيل في البحر وراء موسى بدون خوف. أما حالة الأطفال الذين عبروا مع آبائهم وأمهاتهم، فعبورهم لم يعتمد على إيمانهم بالله وبالعبور، بل على وجودهم وسط شعب الله. فهنا تبعية الطفل للكنيسة العابرة وسط البحر هي التي أعطته فعل العبور والحياة ليستخدمه في كل حياته المستقبلة؛ أي أن إيماني بالمسيح الآن أو عدم إيماني لا يغيِّر من الحقيقة أنني اعتمدت للمسيح ونلت كل حقوق الإنسان الجديد والشركة في ملكوت الله وفي جسد المسيح، أي العضوية في جسده عندما كنت طفلاً، وهذا من واقع الامتياز أنني وُلِدْت من أسرة مسيحية أي داخل الكنيسة.
2 - الفعل الأول للعماد، إذاً، يتم فينا بمجرَّد أن نكون قد اعتمدنا، وهذا يوضِّحه عبور شعب إسرائيل بالفعل معتمدين على قوة الله وإيمانهم باسم الله في عبورهم. هنا مجرَّد عبور الطفل أعطاه كل حقوق الخلاص من عبودية فرعون، وكل قوة وبركة ومعونة الله للسير في البرية أربعين سنة. فهو بعد العبور لا يُطالَب بإيمان ما قبل العبور ولكن يُطالَب بإيمان ما بعد العبور.
3 - الفعل الثاني للعماد له قوَّة وقدرة مستقبلية لحياتنا، يعمل فينا بقدر حفظنا واعتمادنا على الفعل الأول. وهو الذي أخفق فيه شعب إسرائيل فأنكروا قوة الله التي عبرت بهم وجحدوا اسم الله الذي عبروا وراءه وقالوا للعجل: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.» (خر 32: 4)
هنا الأطفال الذين عبروا قد نالوا قوَّة الفعل الأول - العبور - ولا يُطالَبون بعد بمستلزماته ولكن يُطالَبون بوصايا المسير، وهذا هو الفعل الثاني للعبور. أو بمعنًى آخر، إن عظمة وقوَّة الفعل الحادث في هذا السر تُظهرها استجابة الإنسان على مدى الأيام بطول حياة الإنسان كلها، في سلوك وأعمال لها قوَّة الاسم الذي اعتمدنا له، وبإيمان يساوي نفس الإيمان الذي اعترفنا به.
فالمعمودية فعل حياة جديدة مربوط بالإيمان بقوَّة اسم المسيح يتجدَّد كل صباح، بأعمال وأفعال تزكيها النعمة على نفس مستوى الإيمان بقوَّة اسم المسيح على مدى العمر كله.
المزيد