المقالات

05 نوفمبر 2018

علاقة الله بالإنسان

1- في البدء بالفردوس كانت العلاقة بين الله وآدم مليئة بالدفء والحب والدالة.. والآيات التالية تدّل على عمق هذه العلاقة القوية: "وبارَكَهُمُ اللهُ وقالَ لهُمْ: أثمِروا واكثُروا واملأَُوا الأرضَ، وأخضِعوها... وقالَ اللهُ: إني قد أعطَيتُكُمْ كُلَّ بَقلٍ يُبزِرُ بزرًا علَى وجهِ كُل الأرضِ..." (تك28:1-29). "وأخَذَ الرَّبُّ الإلهُ آدَمَ ووَضَعَهُ في جَنَّةِ عَدنٍ ليَعمَلها ويَحفَظَها" (تك15:2). "وقالَ الرَّبُّ الإلهُ: ليس جَيدًا أنْ يكونَ آدَمُ وحدَهُ، فأصنَعَ لهُ مُعينًا نَظيرَهُ" (تك18:2). "وجَبَلَ الرَّبُّ الإلهُ مِنَ الأرضِ كُلَّ حَيَواناتِ البَريَّةِ وكُلَّ طُيورِ السماءِ، فأحضَرَها إلَى آدَمَ ليَرَى ماذا يَدعوها، وكُلُّ ما دَعا بهِ آدَمُ ذاتَ نَفسٍ حَيَّةٍ فهو اسمُها" (تك19:2). حقًا قيل في إشعياء عن الإنسان: "هذا الشَّعبُ جَبَلتُهُ لنَفسي. يُحَدثُ بتسبيحي" (إش21:43). 2- الســقوط فجأة انقطعت هذه العلاقة الجميلة، وصارت هناك قطيعة بسبب الخطية.. وبدلاً من الدالة والحب والفرح صار هناك خوف واختباء ورعب.. "وسَمِعا صوتَ الرَّب الإلهِ ماشيًا في الجَنَّةِ... فاختَبأَ آدَمُ وامرأتُهُ مِنْ وجهِ الرَّب الإلهِ في وسطِ شَجَرِ الجَنَّةِ... فقالَ: سمِعتُ صوتكَ في الجَنَّةِ فخَشيتُ، لأني عُريانٌ فاختَبأتُ" (تك10،8:3).. وبدلاً من البركة صارت هناك لعنة وعداوة (راجع تك14:3-19) وطُرد آدم من وجه الرب.. "فطَرَدَ الإنسانَ، وأقامَ شَرقيَّ جَنَّةِ عَدنٍ الكَروبيمَ، ولهيبَ سيفٍ مُتَقَلبٍ لحِراسَةِ طريقِ شَجَرَةِ الحياةِ" (تك24:3) 3- الذبيحة الدموية لم تعُد العلاقة حبًا وودًا، بل تحولت إلى خصومة وعداوة وحاجز متوسط بين السمائيين والأرضيين، وساد الرعب والموت. ولم يكن من الممكن أن يقترب الإنسان إلى الله بدون دم.. فعمل الله أول ذبيحة ليعلّم آدم أنه: "بدونِ سفكِ دَمٍ لا تحصُلُ مَغفِرَةٌ" (عب22:9). ونستدل على هذه الذبيحة من الآية القائلة: "وصَنَعَ الرَّبُّ الإلهُ لآدَمَ وامرأتِهِ أقمِصَةً مِنْ جِلدٍ وألبَسَهُما" (تك21:3).. كان هذا الجلد هو جلد أول ذبيحة، ليعرف آدم أنه لن يُستَر عريه بدون الذبيحة وكان كذلك في ذبائح ابنَيْ آدم.. فقَبِل الله ذبيحة هابيل إذ كانت دموية، بينما رفض ذبيحة قايين إذ أنها نباتية بدون سفك دم.. "وقَدَّمَ هابيلُ أيضًا مِنْ أبكارِ غَنَمِهِ ومِنْ سِمانِها. فنَظَرَ الرَّبُّ إلَى هابيلَ وقُربانِهِ، ولكن إلَى قايينَ وقُربانِهِ لم يَنظُرْ" (تك4:4-5) لقد ضاعت العلاقة الجميلة والحب والفرح، وحلَّ محلهما الدم والموت!! 4- عصر الآباء.. (ما قبل الناموس) الآباء والمذبح.. على الرغم من الدالة والحب بين الله والآباء.. فقد كانت الصلة الأساسية التي تربطهم بالله هي المذبح والذبيحة، علامة على الحاجة إلى الكفارة والفداء بدم المسيح.. وهذا ما نراه متكررًا في سفر التكوين. نوح: "وبَنَى نوحٌ مَذبَحًا للرَّب. وأخَذَ مِنْ كُل البَهائمِ الطّاهِرَةِ ومِنْ كُل الطُّيورِ الطّاهِرَةِ وأصعَدَ مُحرَقاتٍ علَى المَذبَحِ، فتَنَسَّمَ الرَّبُّ رائحَةَ الرضا" (تك20:8-21). أبرام: "وظَهَرَ الرَّبُّ لأبرامَ وقالَ: "لنَسلِكَ أُعطي هذِهِ الأرضَ". فبَنَى هناكَ مَذبَحًا للرَّب الذي ظَهَرَ لهُ" (تك7:12). إسحاق: "فبَنَى هناكَ مَذبَحًا ودَعا باسمِ الرَّب" (تك25:26). يعقوب: "وأقامَ هناكَ مَذبَحًا ودَعاهُ إيلَ إلهَ إسرائيلَ" (تك20:33). نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
05 فبراير 2019

عصر ما بعد داود وسليمان

+ إنْ حَفِظَ بَنوكَ عَهدي.. رأينا فيما سبق كيف أعد الله داود النبي، ومن بعده ابنه سليمان الحكيم، لإدخال خدمة ذبيحة التسبيح إلى خدمة العبادة الرسمية في الهيكل. وكيف صار التسبيح الكنسي ذا شأن عال جدًّا، وعلى أعلى مستوى من التنظيم والمهارة والخبرة والفن. وكان الملك داود ومن بعده سليمان يهتمان بهذا النشاط الروحي بنفسيهما. الآن وبعد أن "اضطَجَعَ سُلَيمانُ مع آبائهِ فدَفَنوهُ في مدينةِ داوُدَ أبيهِ. ومَلكَ رَحُبعامُ ابنُهُ عِوَضًا عنهُ" (2أخ31:9).. ماذا حدث لخدمة التسبيح؟ ماذا حدث لهؤلاء المغنين والعازفين الذين كان الملك نفسه يهتم بهم وباحتياجاتهم، ويتابع بنفسه نشاطهم وخدمتهم، ويصرف على خدمتهم وحياتهم وبيوتهم من خزينة الملك؟ (1) رحبعام والانقسام.. وتدهور خدمة التسبيح لقد انقسمت المملكة بسبب سوء تصرف رحبعام، وصارت المملكة مملكتين (يهوذا وإسرائيل)، وفي الغالب كانت مملكة يهوذا أكثر تدينًا من مملكة إسرائيل، "وكانَتْ حَربٌ بَينَ رَحُبعامَ (ملك يهوذا)، ويَرُبعامَ (ملك إسرائيل) كُلَّ أيّامِ حَياتِهِ" (1مل6:15). انصرف الملك والجيش والناس إلى الحرب، ولم يعد أحد ينتبه إلى هؤلاء المرنمين والموسيقيين الموهوبين ليرعاهم.. فبدأت خدمة التسبيح في الانحدار والانحطاط. وحافظ سبطا يهوذا وبنيامين بالكاد على خدمة الذبائح فقط، في مقابل انسياق كل باقي أسباط إسرائيل وراء الأوثان. هذا ما عيَّر به "أبِيَّا" ملك يهوذا شعب إسرائيل المنحرفين وراء يربعام الملك عابدين الأوثان قائلاً: "وأنتُمْ جُمهورٌ كثيرٌ ومَعَكُمْ عُجولُ ذَهَبٍ قد عَمِلها يَرُبعامُ لكُمْ آلِهَةً. أما طَرَدتُمْ كهنةَ الرَّب بَني هارونَ واللاويينَ، وعَمِلتُمْ لأنفُسِكُمْ كهنةً كشُعوبِ الأراضي (الأمم)... للذينَ ليسوا آلِهَةً؟ وأمّا نَحنُ فالرَّبُّ هو إلهنا، ولم نَترُكهُ. والكهنةُ الخادِمونَ الرَّبَّ هُم بَنو هارونَ واللاويّونَ في العَمَلِ، ويوقِدونَ للرَّب مُحرَقاتٍ كُلَّ صباحٍ ومساءٍ" (2أخ8:13-11). في هذا الكلام ذكر "أبيّا" خدمات الهيكل التي نظمها موسى، ولم يتطرق إلى ذكر فرق التسبيح التي نظمها داود، ومن بعده سليمان. ومن ذلك يبدو أن هذه الفرق كانت قد ضعفت أو توقفت.. أي أن أسباط مملكة إسرائيل (الشمالية) انساقت إلى الأوثان، وتركت عبادة الله الحي.. ومملكة يهوذا (الجنوبية) أيضًا قد انشغلت، وتركت عنها خدمة التسبيح. فقد كانت البلاد في حالة حرب وفوضى وانشغالات كثيرة "وفي تِلكَ الأزمانِ لم يَكُنْ أمانٌ للخارِجِ ولا للدّاخِلِ، لأنَّ اضطِراباتٍ كثيرَةً كانَتْ علَى كُل سُكّانِ الأراضي" (2أخ5:15). لم يدُم الأمر هكذا كثيرًا، بل كانت ذبيحة التسبيح تتأرجح في قوتها بحسب زمان الملك الذي يملِك، وظروف المملكة.. فإن كان الملك بارًا تقيًا والمملكة في حالة سلام كان التسبيح يأخذ مكانته في الاهتمام والاعتبار، وإذا كان الملك شريرًا معوجًا والمملكة في حالة حرب وفوضى كان يضعف الاهتمام بالتسبيح، ويتفرق المُسبِّحون والعازفون، ويتوقف التسبيح من هيكل الرب أو يضعف مستواه الروحي والفني. (2) نهضات روحية متعاقبة كانت من أهم علامات النهضة الروحية التي يقوم بها أي ملك يملك على يهوذا، أو (إسرائيل) أن يعيد إلى الهيكل بهاءه، بتنظيم خدمة التسبيح. + نهضة في عهد آسا الملك.. في عهد "آسا" الملك.. وبَّخ النبي "عزريا بن عوبيد" الشعب، فتنبهوا ونزعوا الرجاسات من كل أرض يهوذا وبنيامين، وعادوا إلى الرب "ودَخَلوا في عَهدٍ أنْ يَطلُبوا الرَّبَّ إلهَ آبائهِمْ بكُل قُلوبِهِمْ وكُل أنفُسِهِمْ" (2أخ12:15). كانت علامة هذا العهد أنهم "حَلَفوا للرَّب بصوتٍ عظيمٍ وهُتافٍ وبأبواقٍ وقُرونٍ. وفَرِحَ كُلُّ يَهوذا..." (2أخ14:15-15). كذلك كانت عودة هتاف التسبيح، هي العلامة المميزة لعودة الروح إلى الشعب، بعد عصور من التمزق والتمرد وعبادة الأوثان والحروب العنيفة. + نهضة في عهد يهوشافاط.. في عهد "يهوشافاط" الملك تعرضت الدولة لهجوم من الأعداء.. فرجعوا إلى الرب، وكان أحد المُسبِّحين هو الذي قاد الشعب للتوبة وهو "يَحزَئيلَ بنَ زَكَريّا... مِنْ بَني آسافَ، كانَ علَيهِ روحُ الرَّب في وسطِ الجَماعَةِ" (2أخ14:20). وكانت عودتهم للرب مرتبطة بالتسبيح "فخَرَّ يَهوشافاطُ لوَجهِهِ علَى الأرضِ، وكُلُّ يَهوذا وسُكّانُ أورُشَليمَ سقَطوا أمامَ الرَّب سُجودًا للرَّب. فقامَ اللاويّونَ مِنْ بَني القَهاتيينَ ومِنْ بَني القورَحيينَ ليُسَبحوا الرَّبَّ إلهَ إسرائيلَ بصوتٍ عظيمٍ جِدًّا" (2أخ18:20-19). في الغد وقف "يهوشافاط" لتحفيز الشعب على العودة للرب، و"أقامَ مُغَنينَ للرَّب ومُسَبحينَ في زينَةٍ مُقَدَّسَةٍ... وقائلينَ: "احمَدوا الرَّبَّ لأنَّ إلَى الأبدِ رَحمَتَه"ُ. ولَمّا ابتَدأوا في الغِناءِ والتَّسبيحِ جَعَلَ الرَّبُّ أكمِنَةً علَى بَني عَمّونَ وموآبَ وجَبَلِ ساعيرَ الآتينَ علَى يَهوذا، فانكَسَروا" (2أخ21:20-22). فكان الفضل في نصرتهم يرجع إلى التسبيح. وعاد الشعب من الحرب "ليَرجِعوا إلَى أورُشَليمَ بفَرَحٍ، لأنَّ الرَّبَّ فرَّحَهُمْ علَى أعدائهِمْ. ودَخَلوا أورُشَليمَ بالرَّبابِ والعيدانِ والأبواقِ إلَى بَيتِ الرَّب" (2أخ27:20-28). يا لفرحة إسرائيل بنصرته على الأعداء، بل بالأحرى بعودة المجد لإسرائيل؛ إذ عادوا يُسبِّحون الله بحسب ترتيب داود وسليمان. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
12 فبراير 2019

عصر ما بعد داود وسليمان - الجزء الثاني

+ نهضة في عهد يهوياداع الكاهن.. وقد حدثت نكسات أخرى في حياة الشعب، وسادت الشرور والآثام، وتراجعت الروحانية والحب والتسبيح حتى قام كاهن عظيم هو "يهوياداع". ردَّ يهوياداع الشعب إلى الله، وخلع "عثليا" الملكة الشريرة، وملَّك يوآش بن أخزيا. وكان تجليس الملك في حفل ديني مهيب أعاد إلى الأذهان مجد الهيكل القديم أيام داود وسليمان: "وإذا المَلِكُ واقِفٌ علَى مِنبَرِهِ في المَدخَلِ، والرّؤَساءُ والأبواقُ عِندَ المَلِكِ، وكُلُّ شَعبِ الأرضِ يَفرَحونَ ويَنفُخونَ بالأبواقِ، والمُغَنّونَ بآلاتِ الغِناءِ، والمُعَلمونَ التَّسبيحَ" (2أخ13:23). وبعد حفل التجليس هذا الذي أحيا مجد التسبيح في الهيكل.. "قَطَعَ يَهوياداعُ عَهدًا بَينَهُ وبَينَ كُل الشَّعبِ وبَينَ المَلِكِ أنْ يكونوا شَعبًا للرَّب" (2أخ16:23). لقد كان من علامات هذه النهضة الروحية أن "جَعَلَ يَهوياداعُ مُناظِرينَ علَى بَيتِ الرَّب عن يَدِ الكهنةِ اللاويينَ الذينَ قَسَمَهُمْ داوُدُ علَى بَيتِ الرَّب، لأجلِ إصعادِ مُحرَقاتِ الرَّب، كما هو مَكتوبٌ في شَريعَةِ موسَى، بالفَرَحِ والغِناءِ حَسَبَ أمرِ داوُد" (2أخ18:23). لقد كان التسبيح هو المقياس الذي يقيس درجة الحرارة الروحية لشعب الله. والنظام الذي أرساه داود النبي كان هو المعيار والمرجع عند إعادة أي ترتيب لخدمة الهيكل. + نهضة في عهد حَزَقيَّا الملك البار.. قام في يهوذا ملك عظيم تقي هو "حَزَقيَّا" الذي قيل عنه إنه "عَمِلَ المُستَقيمَ في عَينَيِ الرَّب حَسَبَ كُل ما عَمِلَ داوُدُ أبوهُ" (2أخ2:29). هذا الملك القديس اجتهد أن ينهض بالشعب روحيًا "فتحَ أبوابَ بَيتِ الرَّب ورَمَّمَها" (2أخ3:29)، ونبَّه الكهنة واللاويين إلى التوبة (راجع 2أخ4:29-11). ثم "أوقَفَ اللاويينَ في بَيتِ الرَّب بصُنوجٍ ورَبابٍ وعيدانٍ حَسَبَ أمرِ داوُدَ وجادَ رائي المَلِكِ وناثانَ النَّبي، لأنَّ مِنْ قِبَلِ الرَّب الوَصيَّةَ عن يَدِ أنبيائهِ. فوَقَفَ اللاويّونَ بآلاتِ داوُدَ، والكهنةُ بالأبواقِ. وأمَرَ حَزَقيّا بإصعادِ المُحرَقَةِ علَى المَذبَحِ. وعِندَ ابتِداءِ المُحرَقَةِ ابتَدأَ نَشيدُ الرَّب والأبواقُ بواسِطَةِ آلاتِ داوُدَ مَلِكِ إسرائيلَ. وكانَ كُلُّ الجَماعَةِ يَسجُدونَ والمُغَنّونَ يُغَنّونَ والمُبَوقونَ يُبَوقونَ. الجميعُ، إلَى أنِ انتَهَتِ المُحرَقَةُ" (2أخ25:29-28). كانت عودة رائعة إلى الله، فيها اقترنت – مثلما فعل داود – الذبيحة الدموية مع ذبيحة التسبيح. وبعد ذلك: "قالَ حَزَقيّا المَلِكُ والرّؤَساءُ للاويينَ أنْ يُسَبحوا الرَّبَّ بكلامِ داوُدَ وآسافَ الرّائي، فسَبَّحوا بابتِهاجٍ وخَرّوا وسجَدوا... فاستَقامَتْ خِدمَةُ بَيتِ الرَّب. وفَرِحَ حَزَقيّا وكُلُّ الشَّعبِ مِنْ أجلِ أنَّ اللهَ أعَدَّ الشَّعبَ" (2أخ30:29،35-36). كانت أيام حزقيا أيامًا روحية عاد فيها الشعب للرب، وعملوا "عيدَ الفَطيرِ سبعَةَ أيّامٍ بفَرَحٍ عظيمٍ، وكانَ اللاويّونَ والكهنةُ يُسَبحونَ الرَّبَّ يومًا فيومًا بآلاتِ حَمدٍ للرَّب... وأكلوا المَوْسِمَ سبعَةَ أيّامٍ، يَذبَحونَ ذَبائحَ سلامَةٍ ويَحمَدونَ الرَّبَّ إلهَ آبائهِمْ... وفَرِحَ كُلُّ جَماعَةِ يَهوذا، والكهنةُ واللاويّونَ... وكانَ فرَحٌ عظيمٌ في أورُشَليمَ، لأنَّهُ مِنْ أيّامِ سُلَيمانَ بنِ داوُدَ مَلِكِ إسرائيلَ لم يَكُنْ كهذا في أورُشَليمَ. وقامَ الكهنةُ اللاويّونَ وبارَكوا الشَّعبَ، فسُمِعَ صوتُهُمْ ودَخَلَتْ صَلاتُهُمْ إلَى مَسكَنِ قُدسِهِ إلَى السماءِ" (2أخ21:30-27). كَمُلَت الفرحة الحقيقية إذ "أقامَ حَزَقيّا فِرَقَ الكهنةِ واللاويينَ حَسَبَ أقسامِهِمْ، كُلُّ واحِدٍ حَسَبَ خِدمَتِهِ، الكهنةَ واللاويينَ للمُحرَقاتِ وذَبائحِ السَّلامَةِ، للخِدمَةِ والحَمدِ والتَّسبيحِ في أبوابِ مَحَلاَّتِ الرَّب" (2أخ2:31). كذلك اهتم الملك حزقيا بأن يعطي مرتبات مجزية للكهنة واللاويين والمُسبِّحين، ولاحتياجات الهيكل "وأعطَى المَلِكُ حِصَّةً مِنْ مالِهِ للمُحرَقاتِ، مُحرَقاتِ الصّباحِ والمساءِ... وقالَ للشَّعبِ سُكّانِ أورُشَليمَ أنْ يُعطوا حِصَّةَ الكهنةِ واللاويينََ، لكَيْ يتمَسَّكوا بشَريعَةِ الرَّب" (2أخ3:31-4). + نهضة في عهد يوشيا الملك.. في عهد "يوشيا" الملك البار حدثت نهضة روحية جديدة، وكان أيضًا من علامات هذه النهضة أنه اهتم بترتيب خدمة التسبيح: "وكانَ الرجالُ يَعمَلونَ العَمَلَ بأمانَةٍ، وعلَيهِمْ وُكلاءُ... ومِنَ اللاويينَ كُلُّ ماهِرٍ بآلاتِ الغِناءِ" (2أخ12:34)، "عَمِلَ يوشيّا في أورُشَليمَ فِصحًا للرَّب" (2أخ1:35)، وذبح الذبائح واهتم بالتسبيح مع الذبيحة وباقي الترتيبات: "والمُغَنّونَ بَنو آسافَ كانوا في مَقامِهِمْ حَسَبَ أمرِ داوُدَ وآسافَ وهَيمانَ ويَدوثونَ رائي المَلِكِ" (2أخ15:35). لذلك فعند موته "كانَ جميعُ المُغَنينَ والمُغَنياتِ يَندُبونَ يوشيّا في مَراثيهِمْ" (2أخ25:35). إن الأحوال السياسية والعسكرية للمملكة كانت تتأرجح صعودًا وهبوطاً، وكانت حياتهم الروحية تتذبذب أيضًا بين الروحانية العالية، والانتكاس إلى الأوثان.. أما التسابيح الكنسية فكانت هي المؤشر المُعبِّر بصدق عن عمق روحانية الشعب، ومحبته لله وانتمائه للهيكل.. فكانت تعلو مع ارتفاع الروحانية وتهبط مع النكسات الروحية حتى وصلت قمة مأساة شعب الله عند سبي بابل. فما هي إذًا قصة هذا السبي؟ نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
08 أكتوبر 2019

المسيح في سفر التكوين - الجزء الثاني

(5) شجرة الحياة:- "وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد" (تك3: 22) لقد أشفق الله على الإنسان، وأراد له ألا يحيا إلى الأبد وهو في حالة الفساد بل دبّر أن يُعالجه أولاً، ويشفيه من الفساد وذلك بتجسد كلمة الله ثم بعد ذلك يسمح له أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله، التي هي بحسب تفسير كنيستنا الأرثوذكسية – جسد الرب يسوع ودمه الطاهر فمَنْ يأكل من شجرة الحياة "يحيا إلى الأبد" (تك3: 22)، ومَنْ يأكل جسد الرب ويشرب دمه يحيا إلى الأبد إن شجرة معرفة الخير والشر هي الطعام البائد، أما شجرة الحياة فهي الطعام الباقي للحياة الأبدية.. "اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا الله الآب قد ختمه" (يو6: 27) وشجرة الحياة الحقيقية هي "خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم" (يو6: 33)، وهذا الخبز هو ربنا يسوع المسيح نفسه "أنا هو خبز الحياة. مَنْ يُقبل إليَّ فلا يجوع، ومَنْ يُؤمن بي فلا يعطش أبدًا" (يو6: 35)."لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني: أن كل مَنْ يرى الابن ويُؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير" (يو6: 40)"الحق الحق أقول لكم: مَنْ يؤمن بي فله حياة أبدية. أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المَنَّ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 47-51)هنا يُعلن ربنا يسوع المسيح بكل وضوح أنه هو شجرة الحياة، وهو خبز الحياة، حتى المَن الذي أكله الشعب في البرية كان مجرد رمز، ولم يكن الحياة بدليل أن الآباء أكلوا منه، ثم ماتوا.. أما مَنْ يأكل من المسيح فإنه يحيا إلى الأبد وقد يظن البعض أن الأكل من المسيح هو مجرد كلام معنوي كمثلما نأكل كلامه "وُجِدَ كلامك فأكلته" (إر15: 16)، "ما أحلى قولك لحنكي! أحلى من العسل لفمي" (مز119: 103)، "أحلى من العسل وقطر الشهاد" (مز19: 10)ولكن السيد المسيح أكد أن "الخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 51). أي أننا سننال هذه الحياة إذا أكلنا جسده الحقيقي، وشربنا دمه الحقيقي وعندما انزعج اليهود من هذا التفسير وتساءلوا بخصوصه "كيف يقدر هذا أن يُعطينا جسده لنأكل؟" (يو6: 52)أكدّ السيد المسيح أننا لابد أن نأكل جسده ونشرب دمه بالحق وليس بالرمز أو الذكر أو بأي تفسير آخر غير أنه حق "الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. ومَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه. كما أرسلني الآب الحي، وأنا حي بالآب، فمَنْ يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبز الذي نزل من السماء. ليس كما أكل آباؤكم المَنَّ وماتوا. مَنْ يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد" (يو6: 53-58) لذلك صار ما يُميّز العهد الجديد أننا نأكل جسد الرب ونشرب كأسه المقدسة. "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفك عنكم" (لو22: 20)، وهذا أيضًا ما كرره بنفس النص مُعلّمنا بولس الرسول "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي" (1كو11: 25). أي أنه لا يوجد عهد جديد بدون هذا الكأس إن ربنا يسوع المسيح هو شجرة الحياة التي نأكل منها – الآن في الإفخارستيا – ولا نموت وكانت شجرة الحياة التي في "وسط الجنة" (تك2: 9) هي رمز لشخصه القدوس المبارك وهناك أيضًا وعد بأن نغتذى منه في الأبدية.. "مَنُ يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله" (رؤ2: 7)، "في وسط سوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك، شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة، وتُعطي كل شهر ثمرها، وورق الشجرة لشفاء الأمم" (رؤ22: 2) إن المسيح هو حياتنا كلنا، وبدونه لا يوجد حياة.. "إلى مَنْ نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك" (يو6: 68)، "مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غل2: 20). (6) الابن الأول:- كانت ترن في أذني حواء أن (نسل المرأة يسحق رأس الحية)وبعد قليل حبلت حواء، وولدت إنسانًا جديدًاوطار قلبها فرحًا، وظنت أنه هو النسل المزمع أن يسحق رأس الحية فقالت: "اقتنيت رجلاً من عند الرب" (تك4: 1).. فدعت اسمه (قايين)ولكنه لم يكن هو النسل الموعود به والمنتظر.. كان لابد لحواء أن تنتظر آلاف السنين حتى يأتي (قايين الحقيقي) الذي اقتنته البشرية من عند الآب قايين الجديد الذي "جاء لكي يطلب ويُخلِّص ما قد هلك" (لو19: 10)، وليس مثل قايين القديم الذي أهلك أخاه قايين الجديد الذي ستلده حواء الجديدة القديسة في كل شيء.. وليست حواء القديمة التي سقطت في المخالفة وصارت أصل الموت وينبوع الهلاك"ثم عادت فولدت أخاه هابيل" (تك4: 2)، وكلمة هابيل تعني (بسيط، بخار)، لقد أيقنت حواء أن قايين ليس هو المُخلِّص لذلك أسمت الآخر هابيل (ساذج، عادي) مُعلنة أنه ليس هو أيضًا المُخلِّص "وكان هابيل راعيًا للغنم، وكان قايين عاملاً في الأرض" (تك4: 2) كان قايين كأبيه آدم الذي "أخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخذ منها" (تك3: 23)، كان مشغولاً بالأرض، وبأكل العيش، لأنه أرضي ويعمل بالأرض أما هابيل فكان كالمسيح راعيًا "أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يو10: 11)، كان مشغولاً بالخراف والغنم لأن ذهنه كان مسحوبًا إلى الذبيحة والفادي لاحظ عزيزي القارئ أنه لم يكن مسموحًا وقتها للإنسان أن يأكل من الحيوانات، فلم يكن هابيل يرعى الغنم ليأكل منها، بل ليقدمها ذبيحة.. لذلك يُعتبر هابيل الصديق هو أول مُكرس على وجه الأرض وكانت ذبيحة هابيل المقبولة رمزًا لذبيحة المسيح التي رضى عنها وبها الآب السماوي، ورفع خطايا البشر من أجلها أما ذبيحة قايين فكانت شريرة وليست بقلب مستقيم فكرهها الرب "ذبيحة الشرير مكرهة" (أم21: 27). "بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين. فبه شهد له أنه بار، إذ شهد الله لقرابينه. وبه، وإن مات، يتكلم بعد" (عب11: 4) ثم حدث "أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله" (تك4: 8)، وكان هذا أول ذبيحة بشرية قدمها الإنسان الشرير.. ذبح الخاطئ إنسانًا صدّيقًا وبارًا "ليس كما كان قايين من الشرير وذبح أخاه. ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله كانت شريرة، وأعمال أخيه بارة" (1يو3: 12) إنه إشارة مبكرة إلى ذبح المسيح بيد الأشرار كان هنا قايين رمزًا ليهوذا ورؤساء الكهنة وبيلاطس، وكان هابيل رمزًا للسيد المسيح المذبوح لا لشيء إلا لأنه كان (بارًا)، "ويل لهم! لأنهم سلكوا طريق قايين" (يه11)، لذلك حكم السيد المسيح عليهم بالهلاك بسبب هذه الدماء البريئة التي سفكوها "لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحق أقول لكم: إن هذا كله يأتي على هذا الجيل!" (مت23: 35 ،36). نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
06 أبريل 2020

مفهوم المعجزة

أولاً: ماهية المعجزة:- المعجزة هى عمل يفوق الطبيعة، ويفوق التوقع الطبيعي، كأن يُشفى إنسان مريض بمرض عضّال فجأة وبدون علاج، أو يقوم ميت من الموت، أو غير ذلك من الأحداث فائقة الطبيعة وأعمال الله التى يعملها يوميًا معنا يمكن أن تُعتبر معجزات بالنسبة لنا، ولكنها شىء طبيعى بالنسبة لقدرة الله الفائقة لكن المعجزة الإلهية قد صارت شيئًا زهيدًا بسبب التكرار والاعتياد.. فالشمس تشرق كل يوم، وتغرب فى مواعيد محددة، وحركة الأفلاك السمائية التى لا تضطرب، بل ومعجزة جسم الإنسان وما فيه من أجهزة وعمليات فسيولوجية، والعقل البشرى وما يحويه من غنى، والإبداع والقدرة على التفكير، وعدد الخلايا العصبية التى فيه وكيف تعمل، بل لو تأملنا فى كل ما يحيط بنا، لأدركنا مقدار الإعجاز فيه لولا أننا اعتدنا.. فصار كل شىء لنا طبيعيًا، وبدأنا نبحث عن الأشياء الخارقة وعندما تجسّد الله وحل بيننا، كان الشىء الطبيعى بالنسبة له أن تخرج منه قوة لشفاء الناس "الذى جالَ يَصنَعُ خَيرًا ويَشفى جميعَ المُتَسَلطِ علَيهِمْ إبليسُ" (أع 38:10)"وكانَتْ قوَّةُ الرَّب لشِفائهِمْ" (لو 17:5)"وحَيثُما دَخَلَ إلَى قُرىً أو مُدُنٍ أو ضياعٍ، وضَعوا المَرضَى فى الأسواقِ، وطَلَبوا إليهِ أنْ يَلمِسوا ولو هُدبَ ثَوْبِهِ. وكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفىَ" (مر 56:6)"فقالَ يَسوعُ: قد لَمَسَنى واحِدٌ، لأنى عَلِمتُ أنَّ قوَّةً قد خرجَتْ مِنى" (لو 46:8).لقد كان الرب يسوع وسط الناس كمثل التيار الكهربائى، الذى تخرج منه قوة تُنير، وتُحرك، وتُسخن، وتُبرد. كذلك كانت القوة الخارجة من الرب تشفى، وتُطهر، وتغفر الخطايا، وتُبارك الأكل، وتُقيم الموتى... كان كل ذلك مُعجزيًا فى نظر الناس، ولكنه كان طبيعيًا جدًّا بالنسبة للرب يسوع.يمكننا أن نعتبر قيامة السيد المسيح من الموت، ليست معجزة لأنها الشئ الطبيعى بالنسبة له.. فهو ينبوع الحياة"فيهِ كانَتِ الحياةُ، والحياةُ كانَتْ نورَ الناسِ" (يو 4:1)"قالَ لها يَسوعُ: أنا هو القيامَةُ والحياةُ. مَنْ آمَنَ بى ولو ماتَ فسَيَحيا" (يو 25:11)والمعجزة الحقيقية التى تجرى فى حياتنا هى تجديد طبيعة الإنسان، واقتناؤه الحياة السمائية. ثانياً: الله وحده هو صانع المعجزات:- الله وحده هو صانع المعجزات لأنه هو وحده القادر على كل شىء، ولا يعسُر عليه أمر."مَنْ مِثلُكَ بَينَ الآلِهَةِ يارَبُّ؟ مَنْ مِثلُكَ: مُعتَزًّا فى القَداسَةِ، مَخوفًا بالتَّسابيحِ، صانِعًا عَجائبَ؟" (خر 11:15) "مُبارَكٌ الرَّبُّ اللهُ إلهُ إسرائيلَ، الصّانِعُ العَجائبَ وحدَهُ" (مز 18:72) ثالثاً: القديسون والمعجزات:- أحيانًا يُعطى الله رجاله القديسين أن يصنعوا عجائب باسمه "وصارَ خَوْفٌ فى كُل نَفسٍ. وكانَتْ عَجائبُ وآياتٌ كثيرَةٌ تُجرَى علَى أيدى الرُّسُلِ" (أع 43:2)"وجَرَتْ علَى أيدى الرُّسُلِ آياتٌ وعَجائبُ كثيرَةٌ فى الشَّعبِ. وكانَ الجميعُ بنَفسٍ واحِدَةٍ فى رِواقِ سُلَيمانَ" (أع 12:5)"وأمّا استِفانوسُ فإذ كانَ مَملوًّا إيمانًا وقوَّةً، كانَ يَصنَعُ عَجائبَ وآياتٍ عظيمَةً فى الشَّعبِ" (أع 8:6) رابعاً: الهدف من المعجزة:- إن الهدف من المعجزة هو إظهار قوة الله، وتمجيد اسمه القدوس، حتى يُؤمن به الناس "هذِهِ بدايَةُ الآياتِ فعَلها يَسوعُ فى قانا الجليلِ، وأظهَرَ مَجدَهُ، فآمَنَ بهِ تلاميذُهُ" (يو 11:2)"فآمَنَ بهِ كثيرونَ مِنَ الجَمعِ، وقالوا: ألَعَلَّ المَسيحَ مَتَى جاءَ يَعمَلُ آياتٍ أكثَرَ مِنْ هذِهِ التى عَمِلها هذا؟" (يو 31:7)وهناك سبب آخر أجرى من أجله السيد المسيح معجزاته الكثيرة.. فلقد جاء السيد المسيح ليعمل معجزات غير حسية فى الطبيعة البشرية، وهى:- - إخراج الشيطان من سلطانه المزيف على البشر. - تجديد الطبيعة البشرية، ومنحها نعمة الاستنارة. - أن يُقيمنا من موت الخطية، ويُحيينا حياة أبدية. - أن يعطينا أن نأكل جسده ودمه الأقدسين. كل هذه معجزات باهرة جدًّا، ولكنها غير محسوسة، ولن يصدقها الناس لأننا لا نؤمن إن لم نرَ بأعيننا!! فما الدليل على أن طبيعة الإنسان تتجدد بالمعمودية؟إننا لا نرى شيئًا ظاهريًا يحدث لمَنْ يعتمد باسم الثالوث وما الدليل على أن خطايا المعترف تُغفر له؟ إننا لا نرى شيئًا ملموسًا وهكذا لذلك عمل السيد المسيح معجزات ظاهرية محسوسة وملموسة ومرئية، ليبرهن بها على ما يعمله داخليًا فينا، دون أن نرى أو نحس أو نلمس هذه الحقيقة يمكن أن ندركها من كلام السيد المسيح مع اليهود، فى معجزة شفاء المفلوج "ولكن لكَىْ تعلَموا أنَّ لابنِ الإنسانِ سُلطانًا علَى الأرضِ أنْ يَغفِرَ الخطايا، قالَ للمَفلوجِ لكَ أقولُ قُمْ واحمِلْ فِراشَكَ واذهَبْ إلَى بَيتِكَ!" (لو 24:5) المسيح وهو شفقة الله على الناس والخليقة فى معجزة إشباع الجموع، قال الرب يسوع "إنى أُشفِقُ علَى الجَمعِ، لأنَّ الآنَ لهُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ يَمكُثونَ مَعى وليس لهُمْ ما يأكُلونَ" (مر 2:8) وفى معجزة شفاء الأبرص قيل"فتَحَنَّنَ يَسوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقالَ لهُ: أُريدُ فاطهُرْ!" (مر 41:1)وقيل كذلك "فلَمّا خرجَ يَسوعُ أبصَرَ جَمعًا كثيرًا فتَحَنَّنَ علَيهِمْ وشَفَى مَرضاهُمْ" (مت 14:14) خامساً: علاقة المعجزة بالإيمان:- هل يعمل الله معجزة بسبب إيمان الناس، أم أنه يعمل المعجزة لكى يؤمنوا به؟!!إن الإيمان هو "الثقَةُ بما يُرجَى والإيقانُ بأُمورٍ لا تُرَى" (عب 1:11)، فيجب أن يكون الإيمان نابعًا من القلب دون احتياج إلى معجزة. لذلك عاتب السيد المسيح توما قائلاً "لأنَّكَ رأيتَنى يا توما آمَنتَ! طوبَى للذينَ آمَنوا ولم يَرَوْا" (يو 29:20)إن الناس - من جهة هذا الأمر - ينقسمون إلى عدة أنواع:- 1- أناس نالوا المعجزة بسبب إيمانهم، مثل :- أ- نازفة الدم : وقد قال لها السيد المسيح: "ثِقى يا ابنَةُ، إيمانُكِ قد شَفاكِ. فشُفيَتِ المَرأةُ مِنْ تِلكَ السّاعَةِ" (مت 22:9) ب- الأعميان : "حينَئذٍ لَمَسَ أعيُنَهُما قائلاً: بحَسَبِ إيمانِكُما ليَكُنْ لكُما" (مت 29:9) ج- المرأة الكنعانية : "يا امرأةُ، عظيمٌ إيمانُكِ! ليَكُنْ لكِ كما تُريدينَ. فشُفيَتِ ابنَتُها مِنْ تِلكَ السّاعَةِ" (مت 28:15) 2- أناس آمنوا بسبب المعجزة :- أ- معجزة قانا الجليل : "هذِهِ بدايَةُ الآياتِ فعَلها يَسوعُ فى قانا الجليلِ، وأظهَرَ مَجدَهُ، فآمَنَ بهِ تلاميذُهُ" (يو 11:2) ب- "ولَمّا كانَ فى أورُشَليمَ فى عيدِ الفِصحِ، آمَنَ كثيرونَ باسمِهِ، إذ رأَوْا الآياتِ التى صَنَعَ" (يو 23:2) ج- شفاء ابن خادم الملك : "ففَهِمَ الأبُ أنَّهُ فى تِلكَ السّاعَةِ التى قالَ لهُ فيها يَسوعُ: إنَّ ابنَكَ حَىٌّ. فآمَنَ هو وبَيتُهُ كُلُّهُ" (يو 53:4) 3- أناس لم يُؤمنوا بالرغم من المعجزة :- أ- "ومع أنَّهُ كانَ قد صَنَعَ أمامَهُمْ آياتٍ هذا عَدَدُها، لم يؤمِنوا بهِ" (يو 37:12) ب- "فجَمَعَ رؤَساءُ الكهنةِ والفَريسيّونَ مَجمَعًا وقالوا: ماذا نَصنَعُ؟ فإنَّ هذا الإنسانَ يَعمَلُ آياتٍ كثيرَةً. إنْ ترَكناهُ هكذا يؤمِنُ الجميعُ بهِ، فيأتى الرّومانيّونَ ويأخُذونَ مَوْضِعَنا وأُمَّتَنا" (يو 47:11-48) 4- أناس لم تعمل لهم معجزة بسبب عدم إيمانهم :- أ- عندما سأل التلاميذ: "لماذا لم نَقدِرْ نَحنُ أنْ نُخرِجَهُ (الشيطان)؟ فقالَ لهُمْ يَسوعُ: لعَدَمِ إيمانِكُمْ" (مت 19:17-20) ب- "حينَئذٍ أجابَ قَوْمٌ مِنَ الكتبةِ والفَريسيينَ قائلينَ: يا مُعَلمُ، نُريدُ أنْ نَرَى مِنكَ آيَةً. فأجابَ وقالَ لهُمْ: جيلٌ شِريرٌ وفاسِقٌ يَطلُبُ آيَةً، ولا تُعطَى لهُ آيَةٌ إلا آيَةَ يونانَ النَّبى" (مت 38:12-39) ج- هيرودس الملك عند محاكمة السيد المسيح.. "ترَجَّى أنْ يَرَى آيَةً تُصنَعُ مِنهُ" (لو 8:23)ومع ذلك لم يعمل له السيد المسيح معجزة بسبب عدم إيمانه. سادساً: الشيطان والمعجزات هل هناك معجزات يستطيع الشيطان أن يعملها؟ نعم وهنا تكمن الخطورة، فالشيطان يستطيع أن يعمل معجزات ليُضلِّل بها الناس، مستخدمًا فى ذلك قدرته كملاك (ساقط)ولذلك ينبغى على الناس أن يحذروا من السقوط فى خداع الشيطان وأوهام المعجزات الكاذبة، وذلك بشهادة الأسفار المُقدَّسة"ويَقومُ أنبياءُ كذَبَةٌ كثيرونَ ويُضِلّونَ كثيرينَ" (مت 11:24)"اِحتَرِزوا مِنَ الأنبياءِ الكَذَبَةِ الذينَ يأتونَكُمْ بثيابِ الحُملانِ، ولكنهُمْ مِنْ داخِلٍ ذِئابٌ خاطِفَةٌ!" (مت 15:7)"لأنَّهُ سيَقومُ مُسَحاءُ كذَبَةٌ وأنبياءُ كذَبَةٌ ويُعطونَ آياتٍ عظيمَةً وعَجائبَ، حتَّى يُضِلّوا لو أمكَنَ المُختارينَ أيضًا" (مت 24:24)"إذا قامَ فى وسطِكَ نَبىٌّ أو حالِمٌ حُلمًا، وأعطاكَ آيَةً أو أُعجوبَةً، ولو حَدَثَتِ الآيَةُ أو الأُعجوبَةُ التى كلَّمَكَ عنها قائلاً: لنَذهَبْ وراءَ آلِهَةٍ أُخرَى لم تعرِفها ونَعبُدها، فلا تسمَعْ لكلامِ ذلكَ النَّبى أو الحالِمِ ذلكَ الحُلمَ، لأنَّ الرَّبَّ إلهَكُمْ يَمتَحِنُكُمْ لكَىْ يَعلَمَ هل تُحِبّونَ الرَّبَّ إلهَكُمْ مِنْ كُل قُلوبِكُمْ ومِنْ كُل أنفُسِكُمْ" (تث 1:13-3)لقد فعل العرافون معجزات أمام فرعون بقوة الشيطان، حتى يشوش على عمل الله، ولكن عمل الله ظاهر وقوى.. سابعاً: هل المعجزة علامة القداسة وصحة الإيمان؟ يعتبر البعض أن برهان قداسة إنسان هو أنه يُجرى المعجزات، بينما يشهد الكتاب المُقدَّس بعكس ذلك:- أ- قديسون لم يعملوا معجزات :- قيل عن يوحنا المعمدان"إنَّ يوحَنا لم يَفعَلْ آيَةً واحِدَةً" (يو 41:10) هذا الرجل الذي شهد عنه السيد المسيح بنفسه قائلاً "لأنى أقولُ لكُمْ: إنَّهُ بَينَ المَوْلودينَ مِنَ النساءِ ليس نَبىٌّ أعظَمَ مِنْ يوحَنا المعمدانِ، ولكن الأصغَرَ فى ملكوتِ اللهِ أعظَمُ مِنهُ" (لو 28:7)وكذلك لم يُسمع عن كثيرين من الآباء أنهم عملوا معجزات مثل: إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وصموئيل، وإشعياء فليست المعجزة برهان على قداسة السيرة، بل قداسة السيرة برهان صدق المعجزة، وأنها من عمل الله. ب- أشرار عملوا معجزات :- "كثيرونَ سيقولونَ لى فى ذلكَ اليومِ: يارَبُّ، يارَبُّ! أليس باسمِكَ تنَبّأنا، وباسمِكَ أخرَجنا شَياطينَ، وباسمِكَ صَنَعنا قوّاتٍ كثيرَةً؟ فحينَئذٍ أُصَرحُ لهُمْ: إنى لم أعرِفكُمْ قَطُّ! اذهَبوا عَنى يا فاعِلى الإثمِ!" (مت 22:7-23)لقد تنبأ "بلعام بن يعور"، ولكنه كان مرفوضًا من قِبَل الله "ويلٌ لهُمْ! لأنَّهُمْ سلكوا طريقَ قايينَ، وانصَبّوا إلَى ضَلالَةِ بَلعامَ لأجلِ أُجرَةٍ، وهَلكوا فى مُشاجَرَةِ قورَحَ" (يه 11) "لكن عِندى علَيكَ قَليلٌ: أنَّ عِندَكَ هناكَ قَوْمًا مُتَمَسكينَ بتعليمِ بَلعامَ، الذى كانَ يُعَلمُ بالاقَ أنْ يُلقىَ مَعثَرَةً أمامَ بَنى إسرائيلَ: أنْ يأكُلوا ما ذُبِحَ للأوثانِ، ويَزنوا" (رؤ 14:2)وتنبأ قيافا رئيس الكهنة بخصوص السيد المسيح "فقالَ لهُمْ واحِدٌ مِنهُمْ، وهو قَيافا، كانَ رَئيسًا للكهنةِ فى تِلكَ السَّنَةِ أنتُمْ لستُمْ تعرِفونَ شَيئًا، ولا تُفَكرونَ أنَّهُ خَيرٌ لنا أنْ يَموتَ إنسانٌ واحِدٌ عن الشَّعبِ ولا تهلِكَ الأُمَّةُ كُلُّها! ولم يَقُلْ هذا مِنْ نَفسِهِ، بل إذ كانَ رَئيسًا للكهنةِ فى تِلكَ السَّنَةِ، تنَبّأَ أنَّ يَسوعَ مُزمِعٌ أنْ يَموتَ عن الأُمَّةِ، وليس عن الأُمَّةِ فقط، بل ليَجمَعَ أبناءَ اللهِ المُتَفَرقينَ إلَى واحِدٍ" (يو 49:11-52)وطبعًا لم يكن قيافا قديسًا، فلقد تورط فى صلب السيد المسيح بقلب قاس جاحد حقًا "ليس كُلُّ مَنْ يقولُ لى يارَبُّ، يارَبُّ! يَدخُلُ ملكوتَ السماواتِ بل الذى يَفعَلُ إرادَةَ أبى الذى فى السماواتِ" (مت 21:7) وكذلك حق ما قاله القديس بولس الرسول: "وإنْ كانَتْ لى نُبوَّةٌ، وأعلَمُ جميعَ الأسرارِ وكُلَّ عِلمٍ، وإنْ كانَ لى كُلُّ الإيمانِ حتَّى أنقُلَ الجِبالَ، ولكن ليس لى مَحَبَّةٌ، فلستُ شَيئًا" (1كو 2:13)من أجل ذلك لا يجب أن نقبل كل مَنْ يعمل آيات قائلاً إنه قديس، بل يجب أن يُمتحنوا ويُخِتبروا على رأى القائل لا تصدقوا كل روح، بل جربوا إن كان ذلك الروح من الله، لأن أنبياء كثيرين كذابين قد خرجوا إلى العالم والرسول يقول إن هؤلاء رسل كذابون وفعلة غاشون، متشبهون برسل المسيح، وأن الشيطان يظهر بشكل ملاك النور، فلا عجب أن كل خدامه يتشكلون بشكل خدام العدل. ثامناً: هل يجوز التباهى بالمعجزة والإعلان عنها؟ لقد تعلّمنا من السيد المسيح عدم الافتخار "لا تفرَحوا بهذا أنَّ الأرواحَ تخضَعُ لكُمْ، بل افرَحوا بالحَرى أنَّ أسماءَكُمْ كُتِبَتْ فى السماواتِ" (لو 20:10)"تبِعَتهُ جُموعٌ كثيرَةٌ فشَفاهُمْ جميعًا. وأوصاهُمْ أنْ لا يُظهِروهُ" (مت 15:12-16)وفى حادثة التجلى "وفيما هُم نازِلونَ مِنَ الجَبَلِ أوصاهُمْ يَسوعُ قائلاً: لا تُعلِموا أحَدًا بما رأيتُمْ حتَّى يَقومَ ابنُ الإنسانِ مِنَ الأمواتِ" (مت 9:17)وإن كان السيد المسيح فى مواقع أخرى أمر الناس أن يذيعوا مجد الله، مثلما فعل مع مريض كورة الجدريين الذى خرجت منه الشياطين، فقال له: "ارجِعْ إلَى بَيتِكَ وحَدثْ بكَمْ صَنَعَ اللهُ بكَ. فمَضَى وهو يُنادى فى المدينةِ كُلها بكَمْ صَنَعَ بهِ يَسوعُ" (لو 39:8). لكن ذلك على أساس: "مَنِ افتَخَرَ فليَفتَخِرْ بالرَّب" (1كو 31:1) تاسعاً: المعجزة الحقيقية:- لقد طلب اليهود من السيد المسيح آية (معجزة)، فكان رده: "جيلٌ شِريرٌ وفاسِقٌ يَطلُبُ آيَةً، ولا تُعطَى لهُ آيَةٌ إلا آيَةَ يونانَ النَّبى. لأنَّهُ كما كانَ يونانُ فى بَطنِ الحوتِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ، هكذا يكونُ ابنُ الإنسانِ فى قَلبِ الأرضِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ" (مت 39:12-40)إن السيد المسيح هو المعجزة الحقيقية.. "ولكن يُعطيكُمُ السَّيدُ نَفسُهُ آيَةً: ها العَذراءُ تحبَلُ وتلِدُ ابنًا وتدعو اسمَهُ عِمّانوئيلَ" (إش 14:7)المعجزة هى أن الله تجسّد ورأينا مجده، وأنه مات عنَّا ولأجلنا، وأنه ارتضى أن يسكن فى قلبى الحقير النجس ما أجمل إجابة الثلاثة فتية القديسين عندما هددهم نبوخذنصر الملك بإلقائهم في أتون النار المتقدة "فأجابَ شَدرَخُ وميشَخُ وعَبدَنَغوَ وقالوا للمَلِكِ يا نَبوخَذنَصَّرُ، لا يَلزَمُنا أنْ نُجيبَكَ عن هذا الأمرِهوذا يوجَدُ إلهنا الذى نَعبُدُهُ يستطيعُ أنْ يُنَجيَنا مِنْ أتّونِ النّارِ المُتَّقِدَةِ، وأنْ يُنقِذَنا مِنْ يَدِكَ أيُّها المَلِكُ. وإلا فليَكُنْ مَعلومًا لكَ أيُّها المَلِكُ، أنَّنا لا نَعبُدُ آلِهَتَكَ ولا نَسجُدُ لتِمثالِ الذَّهَبِ الذى نَصَبتَهُ" (دا 16:3-18)أى إنه يمكن أن يعمل الله معنا معجزة وينقذنا من يديك، وإن لم يعمل المعجزة فإننا سوف نستمر على إخلاصنا وخضوعنا له وعبادته دون كل الآلهة وقد تكلّم بعض الآباء عن المعجزة الحقيقية التي يمكن أن تحدث فى النفس بالتوبة فمثلاً جاء فى بستان الرهبان"حدث أن تقدم بعض الرهبان إلى أنبا باخوميوس يسألونه "قل لنا يا أبانا ما الذى يمكننا أن نعمله لنحظى بالقدرة على إجراء الآيات والعجائب؟"أجابهم بابتسامة "إن شئتم أن تسعوا سعيًا روحيًا ساميًا فلا تطلبوا هذه المقدرة لأنها مشوبة بشىء من الزهو، بل اسعوا بالحرى لتظفروا بالقوة التى تمكنكم من إجراء العجائب الروحية فإن رأيتم عابد وثن وأنرتم أمامه السبيل الذى يقوده إلى معرفة الله فقد أحييتم ميتًا، وإذا رددتم أحد المبتدعين فى الدين إلى الإيمان الأرثوذكسى فتحتم أعين العميان، وإذا جعلتم من البخيل كريمًا شفيتم يدًا مشلولة، وإذا حولتم الكسول نشيطًا منحتم الشفاء لمُقعد مفلوج، وإذا حولتم الغضوب وديعًا أخرجتم شيطانًا، فهل هناك شىء يطمع الإنسان أن يناله أعظم من هذا؟". نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
29 أكتوبر 2019

المسيح في سفر التكوين - المسيح في حياة أبينا اسحق

إن ربنا يسوع المسيح حاضر بوضوح في حياة آباء وأنبياء العهد القديم، فهو فوق الزمان، وهو خالق الجميع وهو الفادي الذي جاء في ملء الزمان ليُخلصنا من خطايانا بصليبه المقدس وقد أراد الله أن يُمهد لتجسده الطاهربأن أرسل إلينا النبوات والرموز، بل والأشخاص الذين يتجلى فيهم تمهيداً لمجيئه بالحقيقة بالجسد لنرى ونؤمن وفي قصة حياة أبينا اسحق تقابلنا (سابقاً) مع قصة تقديمه ذبيحة كرمز لتقديم السيد المسيح الابن الوحيد المحبوب ذبيحة عن خطايانا، وعودة اسحق حياً هي رمز لقيامة السيد المسيح من الأموات وهناك موقف آخر في حياة أبينا اسحق يتجلى فيها ربنا يسوع بوضوح وهي قصة اختيار زوجة لاسحق:- إبراهيم الأب استدعى أليعازر الدمشقي كبير بيته المستولي على كل ما كان له، وأرسله ليخطُب عروساً لابنه اسحق إنها رمز للآب السماوي الذي أرسل الروح القدس، ليخطُب الكنيسة عروساً للمسيح الابن"لأني خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2)استحلف إبراهيم أليعازر بأن وضع يده تحت فخذ إبراهيم.. وهي إشارة إلى القسم باسم نسل إبراهيم أي المسيح وهو نفس الأمر الذي عمله أبونا يعقوب مع ابنه يوسف (راجع تك47: 29) وتنبأ إبراهيم لأليعازر بأن الله "يُرسل ملاكه أمامك، فتأخذ زوجة لابني من هناك" (تك24: 7) وهي تشبه النبوة التي قيلت عن يوحنا المعمدان السابق للمسيح "ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي، الذي يهيئ طريقك قدامك" (مر1: 2) إن يوحنا المعمدان هو الملاك صديق العريس، الذي جاء أمامه ليهيئ الطريق، لتقبل العروس أن تتحد به "مَنْ له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذاً فرحي هذا قد كمل" (يو3: 29) "أخذ العبد عشرة جمال من جمال مولاه، ومضى وجميع خيرات مولاه في يده" (تك24: 10)، وكأنه الملاك جبرائيل الذي جاء إلى العذراء مريم، حاملاً خيرات الآب السماوي في يده، مُعلناً إياها في عشر كلمات:- (1) سلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة. (2) الرب معكِ. (3) مُباركة أنتِ في النساء. (4) لا تخافي يا مريم. (5) لأنكِ قد وجدتِ نعمة عند الله. (6) ها أنتِ ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. (7) هذا يكون عظيماً، وابن العلي يُدعي. (8) ويُعطيه الرب الإله كرس داود أبيه. (9) ويملِك على بيت يعقوب إلى الأبد. (10) ولا يكون لمُلكه نهاية. (لو1: 28-33) "وأناخ الجمال خارج المدينة عند بئر الماء وقت المساء" (تك24: 11) لقد تقابل أليعازر مع رفقة عند بئر الماء وقت المساء، وبئر الماء هو رمز للمعمودية، التي يتقابل عندها الروح القدس مع النفس المنتخبة كعروس للمسيح.. ووقت المساء يشير إلى وقت صلب ربنا يسوع المسيح، وساعة خروج روحه الطاهرة ليد الآب السماوي وهناك ارتباط عميق بين المعمودية وصليب المسيح وخطبة الكنيسة فالمعمودية هي دفن مع المسيح، وخطبة الكنيسة مرتبطة بعهد الدم "إنك عريس دم لي" (خر4: 25) كانت رفقة فتاة "حسنة المنظر جداً، وعذراء لم يعرفها رجل. فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت" (تك24: 16) وهي ترمز للكنيسة المجيدة، التي لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل هي مُقدسة وبلا عيب(راجع أف5: 27) وكانت "جرتها على كتفها" (تك24: 15)إشارة إلى استعداد الكنيسة للخدمة، ونزول رفقة إلى العين وطلوعها إشارة إلى اغتسال الكنيسة بالمعمودية وبدم المسيح "لكي يُقدسها، مُطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة" (أف5: 26) لم تكن رفقة حاملة جرتها فقط بل كانت مستعدة أن تخدم خدمة الميل الثاني "فقالت اشرب يا سيدي. وأسرعت وأنزلت جرتها على يدها وسقته. ولما فرغت من سقيه قالت أستقي لجمالك أيضاً حتى تفرغ من الشرب. فأسرعت وأفرغت جرتها في المسقاة، وركضت أيضاً إلى البئر لتستقي، فاستقت لكل جماله" (تك24: 18-20) إنها مثال للكنيسة المستعدة أن تبذل كل الجهد من أجل خدمة الناس، متشبهة بعريسها القدوس محب البشر الصالح سأل أليعازر الفتاة "هل في بيت أبيكِ مكان لنا لنبيت؟" (تك24: 23) وكأن الروح القدس يسأل النفس هل يوجد عندك مكاناً لأبيت فيه؟ "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً" (يو14: 23)، "هنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي" (رؤ3: 20) إن الروح القدس يبحث عن مكان فينا لسكنى المسيح، لأنه عندما تجسد "لم يكن لهما موضع في المنزل" (لو2: 7) لقد كانت رفقة مستعدة لاستقبال الغرباء بفيض الكرم "قالت له عندنا تبن وعلف كثير، ومكان لتبيتوا أيضاً" (تك24: 25)، "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون" (عب13: 2) عندما أراد أهل رفقة أن يستضيفوا أليعازر أياماً أخرى "فقال لهم لا تعوقوني والرب قد أنجح طريقي. اصرفوني لأذهب إلى سيدي" (تك24: 56) وكأن الروح القدس ينبهنا ألا نتعوق بأمور العالم عن الانطلاق إلى الاتحاد بالمسيح إن الروح القدس يسعد بالنفس النشيطة، التي إذا جاءها في زيارة نعمة لينبهها تقوم معه في الحال لتذهب إلى العريس وتتحد به لماذا نتعوق والرب قد أنجح طريقنا؟ لم يكن من اللائق أن تذهب رفقة مع أليعازر دون موافقتها "فدعوا رفقة وقالوا لها هل تذهبين مع هذا الرجل؟ فقالت أذهب" (تك24: 58) وهكذا أيضًا لابد للنفس أن تعلن عن رغبتها وموافقتها للارتباط بالمسيح إن الله يحترم حرية الإرادة الإنسانية ويكرس الحب وليس القهرإننا نأتي إليه بكامل الحب والرغبة، ونتمسك به مهما كانت المعوقات "مَنْ سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ (رو8: 35) مرة أخرى تلتقي رفقة عند البئر "بئر لحَي رُئي" (تك24: 62), ولكن هذه المرة مع اسحق العريس الحقيقي كمثل التقاء الكنيسة مع المسيح عند المعمودية كان اسحق قد خرج ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء إنها اللحظة التي يتقابل فيها المسيح مع الكنيسة على الصليب عند المساء، وهو يتأمل الحقل المقدس، الذي زرعه بدمه الطاهر، لينبت منه الكرمة الحقيقية الكنيسة التي المسيح فيها أصل وجذر ورأس، ونحن أغصان، والآب هو الكرّام"أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرَّام" (يو15: 1)، "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو15: 5) إن المسيح يتقابل مع النفس عند إقبال المساء، لكي يحول المساء إلى صباح، والظلمة إلى نور، والخطية إلى بر "وسكن اسحق عند بئر لحَي رُئي" (تك25: 11).. إن المسيح يسكن في المعمودية، ليقابل كل نفس، ويطهرها فتدخل معه في شركة وعشرة وعضوية مقدسة إن الأب القديس اسحق هو رمز جميل لربنا يسوع المسيح الابن الوحيد المحبوب المطيع الذبيح والقائم من الأموات. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
03 مارس 2020

قدسوا صوما نادواباعتكاف

هلموا معى يا أصدقائى وأخوتى الأحباء لنبحر معاً عبر هذا النهر العظيم (الصوم الكبير) حاملين معنا زاداً يكفى رحلتنا التى - بلا شك - سنتزود فيها بزاد آخر يكفى لرحلة العمر إلى السماء.دعنا الآن نرى ما هو الزاد اللازم لرحلة الصوم. الصوم يحتاج:- أ- التوبة القلبية : "ارجعوا إلىّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح. ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم. وارجعوا إلى الرب إلهكم؛ لأنه رؤوف رحيم بطئ الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر" (يؤ 12:2،13). إن الصوم الكبير هو موسم التوبة وتجديد العهود... موسم العودة إلى أحضان المسيح نرتمى فيه ونبكى... نبكى على الزمان الردئ الذى مضى "لأن زمان الحياة الذى مضى، يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين فى الدعارة والشهوات وإدمان الخمر، والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرمة" (1بط 3:4). "أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم. فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارب النهار؛ فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور، لنسلك بلياقة كما فى النهار" (رو 11:13-13). آه... لو تحرك قلب الكنيسة نحو التوبة بحس واحد... آه لو تحرك قلبى وسط الجماعة المقدسة للعودة إلى المسيح... إن الكنيسة سبقت وأبرزت لنا نموذج توبة أهل نينوى، لنرى ونعجب كيف وماذا تفعل التوبة الجماعية... وتظل الكنيسة طوال الصوم تبرز لنا نماذج رائعة للتوبة: الابن الضال، السامرية، المخلع، المولود أعمى... وكيف أن لمسة الرب يسوع المسيح شافية للنفس والجسد والروح ومجددة للحواس وباعثة للحياة. ربى يسوع.. سامحنى وأعف عنى وأسندنى لكى لا أخطئ إليك ثانية... دعنى أقبل قدميك وأبلهما بدموعى وحبى... دعنى أرتمى فى حضنك الإلهى كطفل فى حجر أمه... أبكى بفرح العودة... أبكى برجاء النصرة.. أبكى بروح القيامة من سقطاتى الرديئة... سأكون لك بنعمتك... لن يستعبدنى العالم ثانية... لن يسبينى الشيطان مرة أخرى... لن يخدعنى الجسد بأوهامه... لقد ذقت مرارة الخطية واكتشفت وهمها الردئ... كنت أظنها حرية مفرحة وجدتها عبودية قاسية... الآن أدرك بنعمتك أنك وحدك فيك الحرية والفرح والسعادة... وبدونك حياتى مرة وكئيبة... الآن أدرك لماذا يفرح الصائم "متى صمتم فلا تكونوا عابسين" (مت 16:6)... أننى أفرح الآن بعودتى إليك بعد التوهان... الآن أستقر فى حضنك بعد الضياع... الآن نفسى تتوق إلى القداسة بعد أن دنست نفسى وجسدى بأفعالى الذميمة.. الآن يتغير اتجاه حياتى ليكون المسيح هدفى ومحور اهتمامى بل و"لى الحياة هى المسيح" (فى 21:1) بعد أن كان العالم ولقمة العيش، والجسد، والزلات قد استولوا على اغتصاباً؛ فأفقدونى هويتى ومعنى وجودى وسلبوا منى فرحتى، وتركونى ملقى بين حى وميت أنتظر سامرياً صالحاً يضمد جراحاتى. ب- الهدوء والصمت : "لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (أش 15:30) إن إيقاع الحياة الصاخب، وعنف متطلبات المعيشة، وكثرة الحركة والانشغال والهموم، افقدوا الإنسان معناه وإنسانيته وحولوه إلى مجرد ترس فى ماكينة ضخمة يتحرك بتحركها، ويقف بوقوفها إن وقفت... الإنسان اليوم يعيش فى تشتت مرعب يبدد قوى الجسم والنفس والعقل فكم بالحرى قوى الروح... إننا أحوج ما نكون إلى فترات هدوء واعتكاف نعود فيها إلى أنفسنا ونغوص فى أعماقنا بدون تأثير المشتتات الخارجية... إنها رحلة إلى أعماق الإنسان لاكتشاف الهوية وضبط الاتجاهات... دعنا نختزل من برنامجنا اليومى كل ما هو غير ضرورى: الثرثرة والأحاديث الباطلة، والتليفزيون، والمكالمات التليفونية الطويلة دون داع، والزيارات غير الضرورية، والملاهى والمآدب... ألا ترى أنه سيتجمع لدينا وقت كاف للتمتع بالهدوء والاعتكاف فى جلال الصمت وخشوع العبادة... والتأمل والتعمق واكتشاف سطحيتنا وزيف علاقاتنا مع الآخرين... إن كلامنا الثرثار فى طوفان الأحاديث الباطلة قد فقد قوته ومعناه... الصوم بجلاله يعيد إلى الكلمة قدسيتها ووقارها وسلطانها... "إن كان أحد لا يعثر فى الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً" (يع 2:3)، آه لو نستطيع أن نقتطع من برنامجنا اليومى الصاخب لحظات للهدوء والاعتكاف والتزام الصمت. اسمع الصوت الذى كلم ارسانيوس قديماً: "يا ارسانيوس الزم الهدوء والبعد عن الناس، وأصمت، وأنت تخلص لأن هذه هى عروق عدم الخطية". فإن كان ارسانيوس قد لزم الصمت والبعد عن الناس طول العمر فليس بكثير علينا أن نلزمها لحظات يومياً خاصة فى الصوم.العالم اليوم يحتاج إلى شهادة حية، لا بالوعظ والكلام، بل بقديسين يحملون نوراً وفرحاً وعمقاً، ورزانة ووقاراً، ولهم سر الصمت وقوة الهدوء، كعلامة وبرهان على حضور الله فيهم. ج- العطاء : "طوبى للرحماء على المساكين، فإن الرحمة تحل عليهم، والمسيح يرحمهم فى يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم". "يقولون لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟".. "أمثل هذا يكون صوم أختاره؟... هل تسمى هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب؟ أليس هذا صوماً أختاره: حل قيود الشر. فك عقد النير، وإطلاق المسحوقين أحراراً، وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك" (أش 3:58-7). "لا تنسوا فعل الخير والتوزيع (على الفقراء) لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله" (عب 16:13) لأن "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه، إفتقاد اليتامى والأرامل فى ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع 27:1) والقديس اشعياء سجل لنا ما قاله أبو مقار لرهبان من الإسكندرية "إن من لم يشأ أن يصنع رحمة من فلس واحد فلن يعمل رحمة من ألف دينار"وقال القديس الأنبا موسى القوى "الصدقة بمعرفة تولد التأمل فيما سيكون وترشد إلى المجد ،أما الإنسان القاسى القلب فإنه يدل على انعدامه من أى فضيلة""أعط المحتاجين بسرور ورضى لئلا تخجل بين القديسين وتحرم من أمجادهم" "اجذب المساكين لتخلص بسببهم فى أوان الشدة" إن الرحمة وروح العطاء إنما هما دليل على القلب الزاهد المحب لله... أنه القلب الذى يسعد بالعطاء ويفرح لفرح الآخرين والصوم المقدس فرصة رائعة لتدريب النفس على الزهد فى حطام الدنيا.. والعودة إلى الفلسفة الحقيقية التى بها نكتشف أن مكاسب العالم هى نفاية، وأن الممتلكات هى معوقات وثقل كان من الأجدر بنا أن نستثمرها فى كسب أصدقاء يقبلوننا فى المظال الأبدية (راجع لو9:16) بل والأكثر من هذا سيكون العطاء وسيلة لتقديسنا "بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شئ يكون نقياً لكم" (لو 41:11)... وكذلك الصدقة هى طريق للكمال: "إن أردت أن تكون كاملاً؛ فأذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء؛ فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى" (مت 21:19)، إذن فالصوم المقدس فرصة للتعبير العملى عن إيماننا بأنه "ليس بالخبز وحده (ولا بأى ممتلكات للدنيا) يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4:4)، "فإنه متى كان لأحد كثير، فليست حياته من أمواله" (لو15:12). خطورة الإفطار:- المسيحى الحقيقى هو عضو فى جسد المسيح الذى هو الكنيسة... وبرهان عضويته أنه مشارك للكنيسة فى كل ممارساتها... فنحن نصوم - ببساطة - لأن الكنيسة تصوم... لأننا منها ومعها وفيها... والروحانية الأرثوذكسية هى روحانية شركة.. كما كانت الكنيسة فى عصر الرسل تحيا حياة الشركة الكاملة، إذ كان المؤمنون يواظبون معاً على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات... فالذى يحرم نفسه من نعمة شركة الكنيسة يخطئ إلى نفسه ويسئ إلى الكنيسة.. وكأنه باع انتماءه للجسد المقدس (بأكلة عدس).. لذلك تحذر الكنيسة أولادها من كسر الصوم، لئلا يخسروا الكثير. والعجيب أن نفس القانون الذى يمنع الفطر فى الصوم، يمنع أيضاً الصوم فى الفطر (الخماسين والآحاد والأعياد)، ليبرهن أننا لا نقصد الأكل أو عدمه، لكننا نقصد الشركة والحب والعمل المشترك، يجب أن (نكون معاً)، "مجاهدين معاً بنفس واحدة لإيمان الإنجيل" (فى 27:1). نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة عن كتاب الصوم الكبير عوده الى الله
المزيد
22 يوليو 2019

إلى من نذهب؟ - الجزء الثاني

كيف نعيش بدون الكتاب المقدس؟!!! 5- نموت من أجلها: لقد استهان آباؤنا بالموت في سبيل حفظ كلمة الله.. لأنهم أدركوا بحسهم العالي، أن الحياة الحقيقية هي في هذه الكلمة ولذلك أعطاهم الله مكاناً لائقاً بهم في السماء "رأيت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم" (رؤ9:6). "ورأيت نفوس الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله" (رؤ4:20). لذلك قيل عن كلمة الله أنها تعطينا ميراثاً مع القديسين "والآن أستودعكم يا أخوتي لله ولكلمة نعمته، القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثاُ مع جميع المقدسين" (أع32:20)، حقاً "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول" (1تي9:4). 6- كلمة الله هي موضوع تسبيحنا: فنحن نفرح بكلمة الله "أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنيمة وافرة" (مز162:119)، وهي لا تمثل لنا عبئاً فـ "وصاياه ليست ثقيلة" (1يو3:5)، بل هي موضوع لذتنا "بفرائضك أتلذذ، لا أنسى كلامك" (مز16:119) وهي كلام نتغنى به "فآمنوا بكلامه. غنوا بتسبيحه" (مز12:106)، وكلام نتلذذ بأكله "وجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي، لأني دعيت باسمك يارب إله الجنود" (إر16:15)، "فقال لي: يا ابن آدم، كُل ما تجده. كُل هذا الدرج، واذهب كلم بيت إسرائيل. ففتحت فمي فأطعمني ذلك الدرج. وقال لي: يا ابن آدم، أطعم بطنك وأملأ جوفك من هذا الدرج الذي أنا معطيكه. فأكلته فصار في فمي كالعسل حلاوة" (حز3: 1-3)إنها حقاً لذة الصديقين "شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة" (مز72:119)، "لأن شريعتك هي لذتي" (مز77:119) "ورثت شهاداتك إلى الدهر، لأنها هي بهجة قلبي" (مز111:119). أيضاً طوبى لمن يتغنى بكلمة الله في قلبه "لتسكن فيكم كلمة المسيح بعضاً، بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، بنعمة، مترنمين في قلوبكم للرب" (كو16:3)، يصير فيه تعزية تفيض على الآخرين "لذلك عزوا بعضكم بعضاً بهذا الكلام" (اتس18:4)إن كلمة الله هي قبول الحوار مع الله برهان الحب والعشرة "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً، الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني" (يو14: 23-24). 7- كلمة الله تخلص الإنسان: ولذلك كان أمر الرب لتلاميذه أن يبشروا بالكلمة من أجل خلاص الناس "اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة" (أع20:5)، وهذا ما قاله الملاك لكرنيليوس عن بطرس "وهو يكلمك كلاماً به تخلص أنت وكل بيتك" (أع14:11)، وما قيل أيضاً لليهود "أيها الرجال الإخوة بني جنس إبراهيم، والذين بينكم يتقون الله، إليكم أرسلت كلمة هذا الخلاص" (أع26:13) إنها كلمة الحق التي تخلص "الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمعتم كلمة الحق، إنجيل خلاصكم، الذي فيه أيضاً إذ أمنتم ختمتم بروح الموعد المقدس" (أف13:1)، "لذلك اطرحوا كل نجاسة وكثرة شر، فاقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة القادرة أن تخلص نفوسكم. ولكن كونوا عاملين بالكلمة، لا سامعين فقط خادعين نفوسكم" (يع1: 21-22)وبكل تأكيد كلمة الله تقود الإنسان إلى الإيمان، وبالإيمان ينال المعمودية ويسير في الطريق المقدس الذي يقود في النهاية بنعمة المسيح إلى الخلاص "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة" (في12:2).دعونا الآن نقول: كيف يعيش العالم بمعزل عن كلمة الله؟ إنها مأساة أن يغيّب الشيطان كلمة الله عن الناس فليكن فينا هذا الاهتمام أن نبدأ ونستمر في قراءة وحفظ ودرس كلمة الله والتأمل فيها بشبع حتى نغتني فوق كل غنى. نيافة الحبر الجليل الأنبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
19 نوفمبر 2019

المسيح في العهد القديم - قصة نزول يعقوب وأسرته إلى أرض مصر

كانت قصة نزول يعقوب وأسرته معه إلى مصر، واستعبادهم في عبودية مُرّة بأرض مصر لمدة أربعمائة سنة، ثم عودتهم إلى أرضهم إسرائيل كانت هذه القصة الطويلة تحمل في طياتها رمزًا وإشارة ونبوة عما عمله السيد المسيح مع البشر بتجسده وتأنسه وفدائه العظيم الذي أتمه على الصليب خروج إسرائيل من أرض الموعد إلى أرض مصر كان إشارة إلى خروج آدم من الفردوس إلى أرض الشقاء لقد كان خروج آدم بسبب الأكل، وكذلك نزول إسرائيل إلى مصر كان بسبب الأكل فرعون يرمز إلى الشيطان بسبب الكبرياء والوثنية واستعباد الناس بعبودية مُرّة فصار إسرائيل تحت سلطان فرعون لمدة أربعمائة سنة رمزًا إلى استعباد الشيطان للناس حتى مجيء السيد المسيح المُخلِّص"فقال لأبرام: اعلم يقينًا أن نَسلَكَ سيكون غريبًا في أرض ليست لهم، ويُستعبدون لهم. فيذلونهم أربع مئة سنة. ثم الأُمة التي يُستعبدون لها أنا أَدينُها، وبعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة" (تك15: 13-14) حقاً صار الإنسان غريباً في أرض ليست له، لأن موطننا الأصلي هو السماء واُستعبد الإنسان للخطية والظلمة والشيطان، ولنا رجاء في الله أن نخرج من هذه الأرض إلى السماء بأملاك جزيلة أي بأكاليل النصرة وثمار الروح القدس بعد حرب طويلة ضد قوات الظلمة الأربعمائة سنة ترمز إلى أربعة أحقاب طويلة مرت بها البشرية قبل مجيء المُخلِّص الرب يسوع، وهي من آدم إلى نوح، ومن نوح إلى إبراهيم، ومن إبراهيم إلى موسى، ومن موسى إلى المسيح في نهاية المدة التي حددها الله بنفسه لامتحان شعبه هيأ لهم مُخلصاً هو موسى النبي العظيم الذي كان رمزاً لشخص ربنا يسوع المسيح فأخرجهم موسى من سلطان فرعون بيد عزيزة وذراع عالية، كمثلما أخرجنا السيد المسيح من سلطان الشيطان عمل موسى معجزات عظيمة قبل إخراج الشعب من مصر، وكذلك عمل السيد المسيح معجزات باهرة قبل صلبه المقدس الذي به حررنا من عبودية إبليس كانت آخر ضربات مصرضربة قتل الأبكار، مع قصة خروف الفصح الذي كان رمزاً واضحاً لموت السيد المسيح على الصليب، ثم خرج الشعب من مصر بعد ذبح الخروف، وكذلك خرجنا نحن أيضاً بالمسيح بموته على الصليب "لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا" (1كو5: 7) عندما خرج الشعب من مصر عبروا أولاً في البحر الأحمر، وكان هذا رمزاً للمعمودية التي نتحرر بها من سلطان الشيطان، ونبدأ حياة جديدة في رعوية شعب المسيح "فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا في البحروجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر" (1كو10: 1-2) بعد عبورهم البحر لم يدخلوا مباشرة إلى أرض الموعد، ولكن تاهوا في البرية لمدة أربعين سنة كانت إشارة إلى فترة الجهاد الروحي التي يقضيها الإنسان منذ معموديته حتى دخوله إلى السماء بالموت الجسدي مع ملاحظة أن رقم أربعين يرمز إلى جيل كامل أي إلى عمر الإنسان كله فنحن مطالبون أن نجاهد في برية هذه الحياة طوال العمر.. حتى ندخل إلى السماء"مَنْ يجاهد يضبط نفسه في كل شيء. أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً يفنى، وأما نحن فإكليلاً لا يفنى" (1كو9: 25) "جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيت أيضاً، واعترفت الاعتراف الحسن أمام شهود كثيرين " (1تي6: 12) "وأيضاً إن كان أحد يجاهد، لا يُكلَّل إن لم يجاهد قانونياً" (2تي2: 5) "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان" (2تي4: 7) كانوا في البرية يأكلون طعاماً من السماء هو المَن الذي كان رمزاً لجسد السيد المسيح الذي نغتذي به في حياتنا في هذه البرية"وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً" (1كو10: 3)، "أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المَنَّ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 48-51) وكانوا يشربون في البرية من الصخرة التي ضربها موسى بالعصا فخرج منها ماء.. "وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" (1كو10: 4)الصخرة هي المسيح، والعصا هي الصليب وضرب الصخرة بالعصا يرمز إلى صلب السيد المسيح وآلامه وموته، وخروج الماء يرمز إلى نهر الخلاص الذي نبع لنا من صليب المسيح في مرة أخرى عطش الشعب وتذمروا، فصرخ موسى للرب، فكان كلام الرب إليه قائلاً: "خذ العصا واجمع الجماعة أنت وهارون أخوك، وكَلِّما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها، فتخرج لهم ماء من الصخرة وتسقي الجماعة ومواشيهم" (عد20: 8)"العصا" هي الصليب، و"اجمع الجماعة" يعني الاجتماع الليتورجي، وهرون يمثل الكهنوت، و"كلِّما الصخرة" تعني الصلاة إلى السيد المسيح بالقداس أن يعطينا خلاصه الثمين بدمه الكريم، وفي نهاية القداس نتناول من جسد الرب ودمه (تسقي كل الجماعة) ففي المرة الأولى أمر الرب موسى أن يضرب الصخرة، وفي الثانية أن يكلّمها رمزاً إلى أن السيد المسيح مات مرة واحدة بالصليب، وبعد ذلك يسيل دمه إلينا بالصلاة وليس بتكرار الصلب استمر الشعب في البرية حتى مات موسى، ثم أدخلهم يشوع إلى أرض الموعد إشارة إلى أن الناموس والأنبياء لم يستطيعوا تخليص الإنسان وإدخاله إلى السماء إلا المسيح وحده يشوعنا الجديد، الذي استطاع أن يدخلنا إلى الفردوس بنعمته أما الناموس فقد كان "مؤدبنا إلى المسيح" (راجع غل3: 24)، "ولكن بعد ما جاء الإيمان، لسنا بعد تحت مُؤدبٍ" (غل3: 25) وعند دخولهم إلى أرض الموعد عبروا نهر الأردن ليكون رمزاً جديداً للمعمودية ثم حاربوا حروباً صعبة إشارة إلى الحروب الروحية قبل أن يتمكنوا من تملك الأرض التي أعطاها إياهم الله التي هي رمز للسموات بعينها ترى إذاً أن فترة طويلة من تاريخ الإنسان (نحو خمسمائة عام) استخدمها الله ليكشف لنا خطته في الخلاص بعد السقوط والنفي، ثم عصر الأنبياء، وأخيراً مجيء المسيا المُخلِّص قبل أن نعود عودة نهائية إلى أرضنا الحقيقية التي هي ملكوت السموات. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل