المقالات

20 يناير 2022

شخصيات الكتاب المقدس زكريا النبى

زكريا النبى " هوذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان "" زك 9: 9 " مقدمة زكريا هو الحادى عشر بين الأنبياء الصغار الإثنى عشر، وكان معاصراً للنبى حجى، ويسميهما البعض « التوأمين بين الأنبياء »، وقد عاد الإسرائيليون من السبى البابلى، وقد عاد زكريا، وهو شاب، مع العائدين فى أول مرة، وكان كاهناً ونبياً، وقد كافح لبناء الهيكل الثانى فى أورشليم، وكان عليه أن يعمل على بناء هذا الهيكل، وفى الوقت نفسه يعد الشعب لحياة أفضل وأكمل، وإذا كان حجى - واسمه يفيد الحجج أو الذهاب إلى العيد، أو يمكن أن ندعوه فى اللغة الشائعة «عياد» الذى يعيد بعد السبى الطويل، ويعود إلى حياة الفرح والبهجة - فإن زكريا يمتد إلى أكثر من ذلك، إذ معناه « الرب يذكر » وقد كشف برؤاه الثمانى المجيدة، ونبواته الرائعة، كيف أن الرب سيذكر شعبه ويضمن سلامهم إلى آخر الأيام،... وهو من أكثر الناس لذلك حديثاً ونبوة عن يسوع المسيح ومجيئه فى الجسد، ووداعته، وصلبه، حتى تنتهى الرؤى والنبوات إلى آخر الأيام، ومن المعتقد أنه فى رؤاه وحديثه عن المسيح، لا يباريه فى هذا الشأن من الأنبياء سوى إشعياء، وأنه فى عرف الكثيرين يأتى تالياً لإشعياء فى هذا المجال!!.. ومن المعتقد أنه بدأ نبوته وهو شاب فى عام 520 ق.م.، وها نحن نراه فيما يلى: زكريا ورؤاه الثمانى المجيدة وهى ثمانى رؤى متتالية مجيدة، يقول البعض إن النبى رآها متلاحقة فى ليلة من الليالى، وقد نهض الناس لبناء الهيكل وربما كان ذلك فى تمام 025 ق.م.... ومن نعم اللّه على الإنسان أنه يعطيه الرؤيا،... وهى بركات روح اللّه التى تحدث عنها يوئيل النبى، عندما ينسكب روح اللّه على كل بشر، فيتنبأ بنوننا وبناتنا، ويرى شبابنا رؤى، ويحلم شيوخنا أحلاماً، والحياة فى الواقع، لا يمكن أن تكون صحيحة أو مجيدة بدون هذه الرؤى والأحلام، ومن ثم فإن الروائيين والكتاب والشعراء، وهم يتخيلون عالماً أفضل وأعظم وأمجد، تمتد رؤاهم عبر الواقع التعس المحزن الأليم،... وقد قال أحد الكتاب: « إن الرجل الذى يستطيع أن يتكلم إلى القلوب المهزوزة والنفوس التعسة، لابد أن يكون ذلك الإنسان الذى يعرف قلبه ونفسه، ومقدار ما عانى من اضطرابات مماثله لما يعانيه الناس الآخرون فى الحياة،.. الإنسان الذى خاض معركته، وجابه الظلام، ووصل إلى النور الذى أعطاه اللّه إياه فى مواجهة الآلام،... هذا الإنسان الذى منحة اللّه لمسة الحنان والرفق تجاه الشكوك والتعثرات والتخبطات التى تحيط بالناس حوله »... ولابد لنا أن نرى النبى بهذا المعنى، إذ أنه ليس الإنسان الذى يتلقى الوحى آلياً، أو الذى لا يدرك معنى الشكوك التى يكافحها، أو التجارب التى يندد بها، أو اليأس، أو البؤس الذى يريد أن يخلص الناس منه،... إنه الإنسان الخاضع لنفس الآلام التى يقع تحتها الآخرون، وقد جرب بتجاربهم، ولكنه بروح اللّه تعلم الانتصار والغلبة على المصاعب والمشاكل والمتاعب التى واجهها، وهو من نبع الإختبار، وبسلام الإيمان، يمكن أن يحارب فى معارك الرب، ويقود الناس إلى النصر فيها »... وبهذا المعنى كان زكريا النبى، وهو يكشف رؤى اللّه للناس!! فإذا تصور الناس فى زحام الحياة ومتاعب الأيام، أن اللّه قد ترك الأرض والقوى فيها يأكل الضعيف، والمستبد يهلك الوادع، وأن الأمور تسير فى كل شئ وفق الأهواء أو النزوات، وبدا كما لو أنه ليس هناك إله يحكم الناس، أو عناية تتمشى فى حياتهم، فإن ملاك اللّه يظهر لزكريا ليرى شجر « الآس »، وهو ذلك النوع من الشجر القصير الصغير، الظليل الجميل الدائم الاخضرار، العطرى الرائحة، وهو الاسم العبرى الذى أطلق على أستير الملكة، وربما أطلقه مردخاى عليهم إشارة إلى جمالها الفائق الفتان، وقد علته مسحة من الكابة والوحشة والتعاسة التى أورثها إياها الفقر واليتم والسبى،... وأورشليم كانت بهذا المعنى شجرة آس، وهى تعود من السبى والمنفى والألم، ولكنها ما تزال ممتلئة بالتعاسة والوحشة والبؤس،... وربما خطر على بال الناس فيها أن اللّه قد ترك الأرض،... ولكنه يؤكد أنه يرسل خيله لتجول فى الأرض كلها، وهو لا ينسى أحداً، ولا يهمل أحداً، ولا يتغاضى عن أحد.ومهما اختلف لون الخيل الحمر والشقر والشهب، ومهما كانت ترمز إلى ألوان العناية فى تعدد مظاهرها،... إلا أن المعنى المقصود هو أن اللّه لا يغفل عن شئ أو يهمل شيئاً فى الأرض!!.. وإذا كانت عناية اللّه تمتد إلى كل الأرض، فإنها تهتم على وجه الخصوص بشجرة الآس، التى ترمز إلى أورشليم، أو إلى كنيسة اللّه العلى،... التى تحيط بها المتاعب أو الضيقات ولكنها ليست متروكة على الإطلاق من اللّه.فإذا تحولنا إلى الرؤيا الثانية، فإننا نبصر هناك أربعة قرون، هى رمز للشر الذى سيطر فترة من الزمان، وبدد يهوذا وإسرائيل وأورشليم، وهذه القرون الأربعة، فى تصور الشراح، هى ممالك بابل، ومادى وفارس، واليونان، وروما، الممالك الأربع العالية التى بددت أورشليم، والتى خرج فى إثرها الصناع الأربعة وهم قوى اللّه العظيمة الأدبية، ورآها بعضهم البر، والعدالة، والضمير، والعناية، وهى التى ستتغلب آخر الأمر، وتقضى على كل المفاسد والاثام والشرور، وتؤكد أن اللّه لا يمكن أن يتخلى عن شعبه وأبنائه، وستسقط كل القوى الطاغية تحت أقدامهم، فإذا جئنا إلى الرؤيا الثالثة، فنحن أمام غلام يحاول أن يقيس أورشليم، ليرى كم طولها وكم عرضها، وقد بدت أمامه صغيرة ضعيفة مخربة، ولكن الملاك يمنعه، لأنه لا يمكن أن تقاس أورشليم التى ستتسع لكل المؤمنين فى الأرض، وهى ليست أورشليم القديمة، التى تعرضت للغزو والفتح والتدمير، بل أورشليم السماوية، كنيسة اللّه التى ستغزو وتمد أطنابها فى الأرض كلها.فإذا كان هناك خوف من آثام الماضى، وهل يمكن أن تتكرر، فنحن إزاء الرؤيا الرابعة، والتى يظهر فيها يهوشع الكاهن العظيم، وهو يمثل شعب اللّه، لابساً ثيابه القذرة، وإذا بالنعمة الإلهية تخلع عنه ثيابه، وإثمه، وتلبسه ثياباً مزخرفة، وتضع على رأسه العمامة الطاهرة، عندما يأتى عبد الرب « الغض » المسيح الذى بنعمته وروحه يزيل إثم الأرض وشرها بدم صليبه!!.. على النحو الذى قرأناه ونحن نتعرض لشخصية يهوشع فيما سبق من الشخصيات،فإذا ظهرت االصعوبات القاسية كالجبال الرواسى فى طريق بيت اللّه وعمله وخدمته، فنحن نرى فى الرؤيا الخامسة منظر المنارة التى كلها ذهب، وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها، وسبع أنابيب للسرج التى على رأسها وعندها زيتونتان... إحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره،.. ونحن هنا إزاء بيت اللّه الذى يشع منه النور ليملأ الأرض كلها، وإزاء النعمة التى تجعله دائماً مضيئاً ومنيراً، فإذا كانت هناك صعوبات هائلة، فى طريقه، فإن الجبل يضحى سهلا لا بقدرة الإنسان، أو قوته، أو جهده البشرى، بل بقوة وعمل روح اللّه، كما ذكرنا هذه الحقيقة عند دراسة شخصية زربابل التى يحسن الرجوع إليها فى هذا الموضوع،فإذا قيل: ولكن المدينة ما تزال ممتلئة بالأشرار والمجرمين واللصوص والأثمة والخطاة، فنحن هنا إزاء الدرج الطويل العريض الذى رآه فى الرؤيا السادسة والذى يحمل اللعنة والملعونين، لإبادة أسمائهم من الأرض فإذا قيل أيضاً: ولكن إلى متى يكون هذا، ومتى سيبقى الشر بعيداً عن النهوض مرة أخرى؟؟... فنحن نأتى إلى الرؤيا السابعة فى إيفة الشر التى تجلس فيها امرأة، وقد أغلق على فمها بثقل من الرصاص، وحملت على أجنحة لتدفن فى أرض شنعار، حيث لا تقوم لها قائمة بعد وحتى يبدو هذا مؤكداً فنحن آخر الأمر أمام الرؤيا الثامنة، التى تتحدث عن مركبات اللّه المنتصرة التى تخرج إلى كل مكان فى الأرض،.. ومن الواضح أن الخيل التى تقود المركبات مختلفة الألوان، فالحمر فى عرف الشراح تشير إلى الدم والمعارك التى يستخدمها اللّه كواحدة من سبل العناية وإتمام مشيئته، والدهم - وهى أقرب إلى السواد - تشير إلى الحزن والمجاعة، والشهيب الأقرب إلى البياض، تتحدث من البهجة والمسرة، والمنمرة الشقر، هى مزاج الآمال والآلام والراحة والمتاعب،... وقيل إن الحمر تتجه إلى الشمال إلى بابل، وتتبعها الدهم إلى مادى وفارس، والشهب نحو اليونان!! والنمرة نحو روما،فإذا أخذت الرؤى جميعها معاً، فإنها تبدو أمامنا فى صورة الصراع الظاهر فى سفر الرؤيا بين الخير والشر، وأن الشر مهما يفعل فسيسقط مهما بدت قوته، ومظهره، وسلطانه، وعمله!!... وأن الحق والخير والجمال والنور، مقرر لها الغلبة من أول الأمر ومن ابتداء المعركة!!.. أما زكريا نفسه، يبدو أمامنا فى صورة الرجل الذى يلمع وجهه بالرجاء، فى قلب الظلمة الداكنة!! زكريا والجواب على أسئلة الشعب عندما دمرت أورشليم وأخذ الشعب إلى السبى، وتحول الهيكل ركاماً وأنقاضاً وتراباً، فقد الشعب طقوسه وفرائضه، غير أنه فى السبى - وقد سيطر عليه الحزن، واستبد به الألم - رأى أن يأخذ نفسه بألوان من الصوم، لم تكن عنده أصلا، وعاش السبعين عاماً وهو يصوم وينوح فى الشهر الخامس والسابع،... وبعد أن انتهى السبى، كان لابد أن يسأل نفسه هذا السؤال: ترى هل يستمر فى الصوم، أو يغيره، أو يقلع عنه؟؟،.. وقد كان من المشجع على الاستمرار، أنه رغم العودة إلى أورشليم فإن الخراب الذى يسود البلاد، والحياة التى يعيشها الناس فى ضعف وفقر وجدب، وماتزال قائمة باقية، فهل يستمر فى الصوم إلى أن تنتهى وتتلاشى؟ وقد أجاب اللّه على لسان زكريا، مقرراً أن الأصل عند اللّه ليس الطقس أو الصوم، بل حياة البر والطاعة، وأنهم لو عاشوا هذه الحياة، لما جاء السبى، ولما كانت هناك حاجة إلى التزيد فى الطقوس والأصوام،... وأن السر كل السر فى الضياع هو أن الناس لم تسمع لكلمة اللّه ولا لشريعته وإرشاده، فكانت النتيجة مجئ غضب اللّه العظيم، والعقاب المروع، والنبى يكشف كيف أن الناس لم يسمعوا الشريعة، إذ أصموا آذانهم وثقلوها، وذلك سواء بالانتباه إلى أصوات أخرى تأتيهم من خداع العالم والخطية والشر، أو أنهم تمردوا على الكلمة فامتنعوا عن سمعها، بعد الإنصات أو عدم الذهاب إلى بيت اللّه، ولم يقبلوا الخدمة، فأداروا ظهورهم وأعطوا كتفاً معاندة، وكانت النتيجة أن ضاع السلام وولى، وجاء الخراب والتدمير والتشريد والنفى،والسلام لا يمكن أن يأتى بالفرائض والطقوس،... ومع أن زكريا كان يشجع على بناء هيكل اللّه، ولكنه مع ذلك لم يحاول أن يربط السلام بمجرد المساهمة فى بناء البيت أو تزيينه. إن السلام يرتبط بشئ فى الداخل فى سريرة الإنسان وأعماقه، ومن ثم فليس يكفى أن يصوم الصوم الطقسى فى شهور معينة من السنة، بل المهم أن يحب الحق ويصنع الإحسان والرحمة، ويمد يده للمساعدة، ولمعونة الأرملة واليتيم والغريب والفقير، إن مساعدة الضعيف والعاجز ثمرة من ثمرات الحياة الدينية المتعمقة مع اللّه، وهنا نجد النبى يحض على الدين العملى، وليس النظرى فحسب، وإذ قد لا يفهم الإنسان العقائد اللاهوتية العميقة، وقد يصعب عليه إدراك المباحثات الدينية البعيدة!!... لكنه يستطيع أن يحيا الحياة الدينية بممارستها!! إذ يحدث هذا، يقودنا النبى إلى العصر الذهبى المجيد الذى يتمتع فيه الناس بالحياة المبتهجة السعيدة، فنرى المدينة وقد امتلأت بصبيانها وبناتها، بشيوخها وشيخاتها، وهم يجلسون فى الراحة والأمن والسلام، دون ضيق أو إزعاج، فإذا بدت الصورة جزئياً فى العودة من السبى، إلا أن الأمر لن يقصر على شعب واحد، لأنه: « هكذا قال رب الجنود سيأتى شعوب بعد وسكان مدن كثيرة وسكان واحدة يسيرون إلى أخرى قائلين لنذهب ذهاباً لنرضى وجه الرب ونطلب رب الجنود. أنا أيضاً أذهب. فأتى شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود فى أورشليم وليترضوا وجه الرب. هكذا قال رب الجنود: فى تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم يتمسكون بذيل رجل يهودى قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا أن اللّه معكم » " زك 8: 02 - 32 " وهنا نخرج من نطاق اليهودية الضيق، إلى مجد المسيحية العظيم!!.. زكريا والنبوات عن المسيح يسوع وقد تتحدث زكريا عن المسيح فى أكثر من نبوة من نبواته، إذ تحدث عن دخوله المنتصر الظافر إلى أورشليم: « ابتهجى جداً يا ابنة صهيون اهتفى يابنت أورشليم. هو ذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان » " زك 9: 9 " وقد اقتبس هذه النبوة متى ومرقس ويوحنا، فى هذا الدخول المجيد، ولعلنا نلاحظ الفرق بين دخول هذا الملك، وغيره من ملوك الأرض،... ولقد قيل إن الإسكندر فى غزواته، وهو يقترب من المدن، كان يثير فيها الفزع والهلع والرعب أما المسيح فلا يمكن أن يقترن دخوله فى مكان ما، إلا بالبهجة والفرح والهتاف، وذلك لأنه يحل ومعه العدل والنصر والسلام،.. كيف لا وهو لا يدخل إلا وديعاً متواضعاً محباً، فوق حمار وجحش ابن أتان، كما فعل عندما دخل مدينة أورشليم ليموت هناك حبا وفداء لجنسنا البشرى الذى ضيعته الخطية، وأماته الإثم والتمرد والعصيان!! كما أن زكريا تنبأ ثانية عن المسيح المحتقر، المرفوض من شعبه: « فقلت لهم إن حسن فى أعينك فأعطونى أجرتى، وإلا فامتنعوا.، فوزنوا أجرتى ثلاثين من الفضة. فقال لى الرب ألقها إلى الفخارى. الثمن الكريم الذى تمنونى به فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخارى فى بيت الرب » " زك 11: 12 و13 " ومهما قيل عن ارتباط هذه النبوة بما جاء فى نبوات إرميا فى الأصحاح الثامن عشر والتاسع عشر، حيث يصور النبى قدرة اللّه وسلطانه على الشعوب بقدرة الفخارى على قطعة الطين فى يده، كما أن اللّه - إذ يأمر النبى إرميا أن يحطم إبريق الفخارى - يكشف عما سيفعله هو، كإله مقتدر، بالأمة الخاطئة، إلا أنه واضح أن النبى زكريا كشف عن المسيح المرفوض، والذى قدره شعبه بثلاثين من الفضة، وهو الأجر الذى يعطى تعويضاً عن العبد إذا نطحه ثور ومات: « إن نطح الثور عبداً أو أمة يعطى سيده ثلاثين شاقل فضة والثور يرجم » " خر 21: 32 " ومهما يقل الناس عن صفقات بخسة فى كل التاريخ والعصور والأجيال، فلا نعرف صفقة تعسة خاسرة كالتى باع بها يهوذا الأسخريوطى يسوع المسيح!!.. قيل إن أحد الشبان الأمريكيين دخل معرضاً من معارض الشمع وإذا به يرى صورة التلاميذ مجتمعين معاً فى حضرة المسيح، فما كان منه إلا أن هوى على تمثال يهوذا الأسخريوطى وحطمه تحطيماً،... وإذا بالمشرف على المعرض يذهل ويقول له: لماذا تفعل هكذا؟!.. « إنه تمثال!، وإذا بالشاب يجيب: تمثال أو غير تمثال،... إن يهوذا الأسخريوطى لا يمكن أن يدخل ولا يتنا إلا وينال هذا المصير ». ومع أن كثيرين إلى اليوم ما يزالون وقد دخلهم الشيطان، يفعلون مثل يهوذا القديم الذى باع سيده بأتفه الأثمان، إلا أن يهوذا ذهب إلى أتعس مصير يمكن أن يصل إليه إنسان!!... وهو المصير الدائم لمن يبيع المسيح الكريم مهما كان الثمن، فكم بالحرى لو كان الثمن تافهاً حقيراً!!.. على أن زكريا عاد فتنبأ عن رجوع اليهود إلى المسيح: « وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلى الذى طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون فى مرارة عليه كمن هو فى مرارة على بكره » " زك 12: 10 " وربما لم تعرف الأمة اليهودية حزناً عميقاً وشاملاً، كحزنها على يوشيا الملك عندما سقط فى معركة مجدو، التى أشار إليها زكريا النبى: « فى ذلك اليوم يعظم النوح فى أورشليم كنوح هدد رمون فى بقعة مجدون » "زك 12: 11".. ولم يكن هذا إلا رمزاً للألم والبكاء الذى أحسن به اليهود يوم موت المسيح على هضبة الجلجثة: « وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء اللواتى كن يلطمن أيضاً وينحن عليه... وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان، رجعوا وهم يقرعون صدورهم "لو 23: 27 و48"... فإذا سار اليهود فى عذابهم وآلامهم ومتاعبهم، فى كل أجيال التاريخ، وعندما يفتح اللّه عيونهم ليعودوا إلى الذى طعنوه، بالألم والحزن والتوبة!!.. فإن النبوة ستتحقق على ما أشار إليه الرسول بولس فى الأصحاح الحادى عشر من رسالة رومية « فإنى لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل. كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب » " رو 11: 25 و26 "وتنبأ زكريا - إلى جانب هذا كله - عن موت المسيح: « استيقظ يا سيف على راعى وعلى رجل رفقتى يقول رب الجنود. اضرب الراعى فتتشتت الغنم وأرد يدى على الصغار » " زك 13: 7 "... ولا أظن أن هناك كلمات يمكن أن تكون أجمل من كلمات ف. ب. ماير يوم قال: « إنه السيف الذى لمع فى يد الكروبيم على باب جنة عدن لحراسة طريق شجرة الحياة، وهدد الزوجين المعتديين بلهيبه المتقلب، إنه سيف العدل، سيف كلمة اللّه المنتقم على العصيان بالموت، وقد نام فى غمده أربعة آلاف عام، وإذا جاز أن نقول، باليقين الإلهى، بأن الرحمة لابد أن تلتقى بالعدل تجاه الناموس المكسور،... كان من المحال أن ينام فى غمده إلى الأبد،... ووعد اللّه لابد أن يتم، وفى ملء الزمان جاء المسيح ليكون كفارة، ليظهر بر اللّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال اللّه لإظهاره بره فى الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع » " رو 3: 25 و26 "... وقد أيد المسيح هذه الحقيقة: وهو يقول لتلاميذه، « حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون فى هذه الليلة لأنه مكتوب أنى أضرب الراعى فتتبدد خراف الرعية " " مت 26: 31 ". ولا تنتهى نبوات زكريا قبل الحديث عن مجئ المسيح الثانى العتيد،... وليس المجال هنا للبحث فى الحرفية « أو » الرمزية التى يتتسم بها الأصحاح الرابع عشر من زكريا.. فبعض الشراح يفسر الأصحاح تفسيراً حرفياً، حيث ينشق جبل الزيتون فعلا إلى نصفين يفصلهما واد كبير،... وتحدث معركة هر مجدون آخر معارك العالم التى يحسمها المسيح بظهوره العتيد،... غير أن هناك من يأخذ « أورشليم » أو « الكنيسة » بالمعنى الرمزى، دون أن يحدد صورة حرفية معينة، قد تكون أورشليم المشار إليها فى مطلع الأصحاح الرابع عشر، هى التى دمرها الرومان، أو قد تكون الكنيسة حين انهارت الحياة الروحية وغطاها الظلام فى العصور الوسطى، على أن اللّه لا يمكن ان يتركها أو يهملها، بل سيأتى ليحارب عنها، وينتصر، ويكون الملك له وحده وسواء تم هذا بالمعنى الحرفى أو الروحى، فإنه لا يمكن أن يتم إلا بعد المعاناة والمتاعب والزلازل، والعلامات التى أكد السيد المسيح أنها لابد أن تكون قبل مجيئه الثانى العتيد، فإذا جاء فإن مجيئه سيكون أشبه بعيد المظال الذى يعيد فيه اليهود سبعة أيام، أو فى لغة أخرى، إنه الخروج من تعب الخطية وشدتها وقسوتها ومعاناتها، إلى الراحة والسلام والاطمئنان. والملك الألفى العظيم العتيد،... وسواء كان هذا الملك هو حكم المسيح لمطلق لمدة ألف عام فى الأرض، كما يذهب مذهب، قبل الألف، الذى سبقت الإشارة إليه فى بعض الدراسات السابقة، أو هو انتصار كنيسة الرب يسوع بالمعنى الروحى الذى يقدس فيه كل شئ لمجد السيد، وهو الأرجح فى نظرنا، إذ لا نستطيع أن نفهم أن يتحول كل شئ قدساً للرب: « فى ذلك اليوم يكون على أجراس الخيل قدس للرب والقدور فى بيت الرب تكون كالمناضح أمام المذبح. وكل قدر فى أورشليم وفى يهوذا تكون قدساً لرب الجنود وكل الذابحين يأتون ويأخذون منها ويطبخون فيها. وفى ذلك اليوم لا يكون بعد كنعانى فى بيت رب الجنود» " زك 14: 20 و21 ".. ما لم نفهم الذبيحة المعنى الروحى،... ونفهم أن تقدس أقل الأشياء كالأجراس التى تعلق على رؤوس الخيل، والتى هى للزينة أو للصوت أو الرنين الذى يحدث منها كلما سارت فى الطريق،... أى أن، يصبح كل شئ - صغر أم كبر فى الأرض - لمجد اللّه وجلاله بالمعنى المفهوم فى الحياة المملوكة بالتمام للّه!!.. على أية حال كانت نبوات زكريا عبوراً طويلاً ممتداً من أورشليم وهيكلها القديم، وقد كانت أمام عينى النبى القديم أطلالا دارسة تحاول أن تقو وتنتفض من التراب، إلى أورشليم التى صلبت يسوع المسيح، ورأت من العذاب والضيق مالم تره مدينة أخرى فى كل التاريخ، إلى أورشليم أمنا السماوية، كنيسة الرب يسوع التى ستظهر فى اليوم الأخير بمجده الأبدى الفائق، حين تنتهى اللعنة إلى الأبد، ويصبح كل شئ فى السماء وعلى الأرض قدساً للرب!!..
المزيد
19 يناير 2022

عيد الغطاس - الظهور الالهى - الثيؤفونيا

عيد الظهور الإلهى وأهميته ... أهنئكم أحبائى بعيد الظهور الإلهي راجيا لكم حياة مقدسة مثمرة فى الرب . اننا اذ نحتفل بعيد (الأبيفانيا) Epiphany (إيبيفاني) أو عيد الغطاس المجيد، فاننا نتذكر الرب فى تجسده وعمادة ليقدس ويكرس لنا الطريق الى البنوة الحقيقية لله والولادة من الماء والروح ونتذكر معموديتنا يوم تعهدنا ان نجحد الشيطان ولا نسير فى طرقه وان نعلن ايماننا المسيحى ونحيا اوفياء لعهد تبنى الله لنا فى قداسة وبر وتقوى . تعمد السيد المسيح القدوس من القديس يوحنا المعمدان بالتغطيس { وللوقت وهو صاعد من الماء } ولذلك نسمى المعمودية "الغطاس". ليؤسس لمعموديتنا نحن المؤمنين به، ففيما نال هو المسحة بالمعمودية أعطانا من خلالها الولادة من الماء والروح . لذلك يوحنا المعمدان قال للناس {هوذا حمل الله الذى يحمل خطية العالم كله} (يو1:26). وشهد عنه قائلا: {إنى قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقرعليه، وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذى أرسلنى لأعمد قال لى : الذى ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذى يعمد بالروح القدس. وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابنالله} (يو 1: 33 – 34). + وهنا ربط بين معمودية السيد المسيح وحلول الروح القدس عليه وأنه يعمد بالروح القدس. معنى هذا أن الروح القدس حل على السيد المسيح كبداية للعهد الجديد لكى يحل على المؤمنين عبر الولادة من الماء والروح ومن خلال مسحة الميرون المقدس. لهذا تحتفل الكنيسة بعيد الغطاس المجيد لما فيه من أحداث هامة وإعلانات إلهيه تخص خلاصنا. ولعل أول كل هذا ظهورالله المثلث الأقانيم وقت عماد السيد المسيح.. لذلك يطلق علي هذا العيد (عيد الظهور الالهي).. فالاب ينادي قائلاً عن الرب يسوع وهو في الماء {هذا هو أبني الحبيب الذيبه سررت} (مت 3:17)، بينما الروح يحل في شكل حمامة مستقراً علي السيد المسيح ليعلن أنه المخلص الذي أتي لخلاص العالم ليصنع الفداء العجيب. ويقول في ذلك القديس أغسطينوس: (بجوار نهر الاردن ننظر ونتأمل المنظر الالهي الموضوع أمامنا.. فلقد أعلن لنا إلهنا نفسه عن نفسه بكونه ثالوث في واحد.. أي ثلاثة أقانيم في طبيعة إلهية واحدة). معمودية السيد المسيح ومعموديتنا .. الرب يسوع المسيح لم تكن لولادته من الماء والروح لأنه لابن الوحيد للاب بالطبيعة،)هذة العظه من منتدى أم السمائيين والأرضيين) فلم يكن نزوله فى المعمودية لكى يولد من الماء والروح لكنه كان نازلاً من أجل ان يستعلن انه المسيح الرب ويبدأ خدمته العامة لذلك سُمى بالمسيح، يسوع اسم الولادة والمسيح هذا اسم المسحة فى المعمودية، وبينما لرب يسوع يقف في إتضاع عجيب أمام يوحنا المعمدان في نهر الاردن ليعتمد منه.. أعلن الله ليوحنا عن الذي سيعمده إذ هو الابن الكلمة المتجسد . فشهد يوحنا المعمدان قائلاً: {أنا أعمدكم بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست مستحق أن أحل سيور حذائه.. هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي وأنالم أكن أعرفه لكن ليظهر لاسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء.. إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فأستقر عليه وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي تري الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو أبن الله..}(يو 1: 26 – 34). بهذه الشهادةالتي قدمها القديس يوحنا المعمدان يكون قد أعلن عن المخلص الحقيقي الذي استعلن وسط البشر في الماء ليحمل خطايا العالم.. وكأن من نزل في الماء قد ترك خطاياه واغتسل منها.. بينما إذ نزل الابن الكلمة المتجسد في الماء وهو بلا خطية قد احتمل كل خطايا البشر.. هذا هو سر الخلاص المعلن في نهر الاردن. يقول القديس اثناسيوس الرسولى عن معمودية السيد المسيح ومعمودتنا نحن وحلول الروح القدس عليه ( أن نزول الروح علي السيد المسيح في الأردن، إنما كان نزولاً علينا نحن بسبب لبسه جسدنا. وهذا لم يصر من أجل ترقيه اللوغوس، بل من أجل تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في مسحته، ولكي يُقال عنا " ألستم تعلمون إنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم " (1كو16: 3). + فحينما اغتسل الرب في الأردن كإنسان، كنا نحن الذين نغتسل فيه وبواسطته. وحينما اقتبل الروح ، كنا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته.ولهذا السبب ، فهو ليس كهارون ، أو داود أو الباقين قد مُسح بالزيت هكذا بل بطريقة مغايرة لجميع الذين هم شركاؤه أي " بزيت الابتهاج " الذي فسر أنه يعني الروح قائلاً بالنبي: " روح الرب علىَّ لأنه مسحني" (إش1: 61)، كما قال الرسول أيضًا: " كيف مسحه الله بالروح القدس" (أع38: 10). + متى قيلت عنه هذه الأشياء إلاّ عندما صار في الجسد واعتمد في الأردن، " ونزل عليه الروح " (مت16: 3). + وحقًا يقول الرب لتلاميذه إن " الروح سيأخذ ممالي" (يو14: 16)، و " أنا أرسله" (يو7: 16)، و" اقبلوا الروح القدس" (يو22: 20). إلاّأنه في الواقع، هذا الذي يُعطى للآخرين ككلمة وبهاء الآب يُقال الآن إنه يتقدسوهذا من حيث إنه قد صار إنسانًا، والذي يتقدس هو جسده ذاته. إذن فمن ذلك (الجسد) قدبدأنا نحن الحصول على المسحة والختم، مثلما يقول يوحنا " أنتم لكم مسحة من القدوس" (1يو20: 2). والرسول يقول " ختمتم بروح الموعد القدوس"(أف13: 1). + ومن ثمَّ فهذه الأقوال هي بسببنا ومن أجلنا( القديس اثناسيوس الرسولى عن العماد) لقد اعتمد السيد ليعلن لنا أنه الطبيب الحقيقي الذي جاء ليرفع خطايا البشر.. لم يقف في الماء لكي يقر بخطيئته كما فعل باقي الناس اللذين أعتمدوا من يوحنا.. فهو بلا خطية.. لهذا ذهل يوحنا حينما أعلن له عن ما هو الواقف أمامه لايعتمد.. لذلك قال له {أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي} (مت 3: 14) لقد حاول أن يمنعه من العماد لأنه بلا خطية.. فلماذا يعتمد ؟! فأجاب الرب علي يوحنا قائلاً {اسمح الان لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر. حينئذ سمح له} (مت3: 15). العماد في نهر الأردن + في قصة عبور بني اسرائيل ليدخلوا ارض الموعد قديما بقيادة يشوع ابن نون وفي نهر الاردن (يش20: 7 – 17) لما وضعوا تابوت العهد فى الماء انشق النهر فعبروا فيه وانتخبوا 12 رجل من أسباط اسرائيل رجل من كل سبط واخذوا حجارة ومروا عليها حتى عبروا نهر الأردن. قصة العبور كانت هذه القصة رمزا لعبورنا من خلال الرب المتجسد السماء أرض الموعد الحقيقية لذلك انفتحت السماء حين نزل الرب فى الماء كما انفتح النهر بحلول تابوت العهد فيه توافق فى الرمز والمرموز اليه . من هنا أخذت المعمودية أهمية خاصة لأنها عبور إلى ارض الموعد الحقيقية التي هي السماء. حلول الروح القدس على السيد المسيح هو حلول لأجل عمل الخلاص، الإبن الكلمة والروح القدس كلاهما أقنومين فى الثالوث القدوس.(هذه العظه من منتدى أم السمائيين والأرضيين) هذه الحادثة تؤكد أهمية هذا الرمز لما حدث في عماد الرب يسوع علي يد القديس يوحناالمعمدان لأن الرب جاء لكي يوصلنا إلي أرض الموعد الحقيقية وهي السماء.. لذلك كما كان نهر الاردن الوسيلة التي من خلالها وصل بني اسرائيل الي أرض الموعد هكذا تحقق الرمز في عماد الرب في نهر الاردن ليكون الوسيلة للوصول الي السماء.. وهكذا نفس الامر إذ بمجرد نزول الرب الي نهر الاردن انفتحت السماء ونزل الروح القدس علي هيئة جسمية في شكل حمامة وأستقر علي رأس الرب يسوع كاول إنسان يستقر فيه الروح القدس منذ غادر البشر كما جاء فيه (تك: 3) { فقال الرب لا يدين روحي في الانسان الي الابد لزيغانه هو بشر وتكون أيامة مائة وعشرين سنة}.. اي لا يدوم روحي في البشر.. ولتوضيح هذا المعني أريد أن لا نخلط بين السيد المسيح والروح القدس لاهوتياً (إذ هما أقنومان في الذات الالهية الواحدة) وبين حلول القدس علي السيد المسيح ناسوتياً. ولقد سبق الوحي الالهي وتنبأ عن ذلك قائلاً: {روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لانادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالاطلاق لأنادي بسنة مقبولة للرب} (أش61: 1، 2) + ان الإبن الكلمة والروح القدس كلاهما أقنومين فى الثالوث ولذلك هذا هو الوضع اللاهوتى، (مز45: 6،7) {كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك}. هذا الجزء الأول الخاص باللاهوت هذا عن الإبن ووضحها القديس بولس الرسول عن الإبن، {أحببت البر وأبغضت الاثم من أجل ذلك مسحك الله الهك بزيت الإبتهاج أفضل من رفقائك}هذا الجزء خاص بالوضع الناسوتى وهونفسه كرسيه إلى دهر الدهور هو نفسه الذى مُسح بزيت الإبتهاج. هذا هو الهدف من المعمودية أن يحل الروح القدس على السيد المسيح ناسوتياً. الملوك يمسحون بزيت قرن المسحة ولكن فى السيد المسيح حل الروح القدس عليه معطيه كمال المسحة المقدسة. ثمار المعمودية والولادة من الماء والروح + المعمودية ولادة من فوق من الماء والروح وبها نصير ابناء وبنات لله بالتبنى والنعمة وتغفر لنا خطايانا ونؤهل للدخول للسماء { اجاب يسوع الحق الحق اقول لك ان كان احد لا يولد من الماء و الروح لا يقدر ان يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو و المولود من الروح هو روح } يو 5:3-6 . + وكما يقول الانجيل { بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس } وبها نلبس الرب يسوع { لأن كلكم الذين أعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح } (غلا3: 27) . وننال التطهير الكامل والبر والقداسة (ف 3: 25). لكى يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكى يحضرها كنيسة مجيده لا دنس فيها ولا غضن ولا شيئاً من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب وبالمعمودية ندفن مع المسيح ونقوم {كل من أعتمد ليسوع المسيح قد أعتمد لموته} (رو6: 3، 4) . لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته فإن كنا قد متنا مع المسيح عن الخطية وشهوات العالم وقدمنا توبة عن اثامنا وخطايانا ننمو فى القداسة ونثمر ثمر الروح ونرث ملكوت السموات . + لهذا يحثنا القديس اغريغوريوس النزينزى ان نحتفل بهذا العيد بالتوبة والقداسة ( فلنكرم ليوم معمودية المسيح، ولنعيد عيدًا سعيدًا يفرحنا روحيًا بدلاً من أن نهتم بمعدتنا وشهواتنا. ما هي طريقة فرحنا ؟ اغتسلوا حتى تتنقوا. إذا كنتم قرمزيين من الخطيئة فصيروا بيضًا كالثلج بالاغتسال والتوبة. حاولوا أن تتنقوا لأن الله لايفرحه شئ بقدر ما تفرحه النقاوة وخلاص الإنسان الذي تجسد من أجله، ومن أجله كُتبت كل الكتب، وأعطيت كل الأسرار لكي يصبح (الإنسان) كوكبًا مشعًا بالضياء للعالم المنظور وأمام الملائكة، وقوة محيية للآخرين، ولكي تتقدموا أنتم كأنوار أمام الله النور الاعظم ، وان تدخلوا إلى مساكن النور ).
المزيد
13 يناير 2022

شخصيات الكتاب المقدس زربابل

زربابل " هذه كلمة الرب إلى زربابل قائلا لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحى قال رب الجنود " زك 4: 6 " مقدمة أغلب الظن أن « زربابل » عندى عاد من السبى، كانت روحه أقرب الناس إلى روح ذلك المرسل، الذي جلس مع اثنين من زملائه وقد استولى عليه اليأس العميق، إذ كان كل شئ ضدهم، وكانت الظروف المحيطة بهم لا توحى بأدنى رجاء، فالعمل قاس والصعاب جسيمة، والمعونات المنظورة لا يكاد يبين لها أثر على الإطلاق،... وصاح المرسل نحن هنا أصفار، ولا أمل لنا على الإطلاق،... وقال زميله: كلا، بل نحن هنا ألف، لو أحسنا الرؤية،... وقال الآخر ساخراً: وأين هذا الألف الذى تقول عنه!!؟... فقال. نحن حقاً ثلاثة أصفار، ولكن المسيح واحد معنا، يصنع منا ألفاً، إذا وقف إلى جانبنا كثلاثة أصفار نأتى على يمينه،كانت الصعاب فى وجه زربابل، كالجبل العظيم الشامخ الذى يسد عليه كل الطريق، بل يرده إلى ما يشبه المستحيل فى الرسالة الضخمة الموضوعة أمامه،... ولعله زفر مرات كثيرة يائسا، وتمنى ألا يتحرك من مكانه فى السبى على رأس أول مجموعة ترجع منه، فهو، على الأقل، هناك يرى الصعاب بعين الخيال دون الواقع المرير الذى يواجهه فى أورشليم، ودون المسئولية التى ألقيت على كتفيه ليحملها فى قيادة الأمة، وبناء الهيكل،.. وإذا بكلمة اللّه تأتى إليه، وتؤكد المعونة التى التى حسبها تتخلى عنه - بين حجرى الأساس والزاوية أو - فى لغة أخرى - بين ابتداء العمل ونهايته،... وانتصبت روح الرجل البائس وانتصبت معه كل روح تواجه عمل اللّه الجبار فى كل العصور، وهى تسمع كلمة الرب يسوع المسيح وهو يقول لتلاميذه: « ليكن لكم إيمان باللّه لأنى الحق أقول لكم إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح فى البحر ولا يشك فى قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له » " مر 11: 22 و23 "ولعلنا بعد ذلك يمكن أن نتابع قصة زربابل فيما يلى: زربابل والعمل الجبار لم يعد المسبيون من السبى دفعة واحدة إلى أورشليم، بل انقضت خمسون سنة تقريباً بين الفوج الأول والفوج الثانى من العائدين، فعندما أذن لهم كورش الفارسى بالرحيل، رجع نحو خمسين ألفا منهم تحت قيادة زربابل عام 536 ق.م. ومن الملاحظ أن المسبين لم يكن شغلهم الشاغل عند عودتهم، هو بناء بيوتهم ودورهم، أو غرس كرومهم وحدائقهم، بل كان أولا وقبل كل شئ بناء مذبح اللّه، أو بمعنى آخر، إن التفكير الدينى عندهم كان سابقاً على التفكير الاقتصادى أو الاجتماعى أو السياسى، وقد بدأوا فى إقامة المذبح حال وصولهم، وقدموا التقدمات والمحرقات، وعيدوا الأعياد وحافظوا على الطقوس والفرائض التى أمر بها موسى وفى العام التالى وضعوا أساس هيكل اللّه وتاريخ زربابل يرتبط أولا وقبل كل شئ ببناء الهيكل، ونحن لا نسمع عنه، كقائد لأمته وشعبه، أية أفكار أو ميول أو اتجاهات أو إصلاحات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكننا نسمع فقط عن علاقته بهيكل أورشليم واهتمامه ببنائه وإعادة العبادة فيه. ولعل قصة السبى نفسها كانت أعمق المواعظ فى نفسه، وأبعدها أثراً،... فالسبى لم يحدث للشعب بسبب أحداث أو حوادث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية - كضعف البلاد أو قلة سكانها أو عدم تسلحها أو ما إلى ذلك من الأسباب التى قد تكون هناك ويؤمن العالم أنها السر الأول والأخير فى انهيار المالك وسقوطها وزوالها - لكن السبب - على الدوام - أعمق كثيراً من ذلك، فهو الخطية والبعد عن اللّه، وستسقط أعظم الممالك وأقواها، يوم تبتعد عن السيد، أو تنحرف نحو الآثم والخطية.. كلنا يعلم من هو أرثر بلفور السياسى الانجليزى المشهور، صاحب وعد بلفور،... لقد ألقى هذا الرجل ذات يوم فى جامعة أدنبرة محاضرة عن « القيم الأدبية التى تعمل على توحيد الجنس البشرى » وكان بين المستمعين طالب يابانى، أخذ ينصت بكل إصغاء وتأمل إلى المحاضر، كما كان يدون فى مفكرته كل ما يسترعى انتباهه من النقط الرئيسية البارزة فى المحاضرة،... وبعد أن انتهى بلفور من إلقاء محاضرته، دوت القاعة بتصفيق حاد، إعجاباً بالمحاضر الذى تحدث فى إسهاب ودقة عن الروابط المختلفة التى تربط العالم، والمصالح المتشابكة فيه، كالعلم والتجارة والصناعة، وما أشبه وبعد فترة من الصمت وقف المشرف على الاجتماع ليشكر المحاضر على محاضراته، ولكنه قبل أن ينطق بكلمة واحدة وقف الشاب اليابانى، وصاح بصوت واضح مسموع. ولكن يامستر بلفور... أين يسوع المسيح!!؟ وران على القاعدة صمت بليغ، حتى ليسمع فيها وقع سقوط الإبرة، إذ كانت العبارة شديدة الوقوع على الجميع، وعلى مستر بلفور أيضاً، إذ كيف لا يشير رجل لعب دوراً هاماً فى تاريخ الإمبراطورية البريطانية، التى قيل إن الشمس لا تغرب عن ممتلكاتها، إلى المسيح كالركن الأعظم والأول فى بناء الجنس البشرى؟!،.. لم يعش بلفور، ليرى كيف تقلصت بريطانيا، وهوت من مجدها العظيم، رغم قوتها وثرائها وسيطرتها، لأنها أهملت الاتجاه الدينى الذى ساد فى أعظم وأزهى عصورها!!.. كان الهيكل أهم شئ فى أورشليم بالنسبة للأمة، فى حاضرها ومستقبلها وكان على المسبين جميعاً، الذين عادوا من السبى، أن يدركوا هذه الحقيقة، ولا يتغافلوا عنها،... وقد تحدث زكريا النبى، وكان شاباً فى ذلك الوقت، فى رؤياه عنها إذ قال: «فرجع الملاك الذى كلمنى وأيقظنى كرجل أوقظ من نومه، وقال لى ماذا ترى؟ فقلت قد نظرت وإذا بمنارة كلها ذهب وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها وسبع أنابيب للسرج التى على رأسها وعندها زيتونتان إحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره » " زك 4: 1 - 3 ".. كان على زكريا أن يستيقظ تماماً إلى حقيقة المنارة التى تغذيها شجرتا الزيتون بالزيت، لتبقى سرجها دائماً موقدة تعطى النور... وهذا يقودنا، فى الرؤيا الممتدة، إلى السبع المنابر الذهبية فى سفر الرويا، بل يقودنا إلى المسيحية كلها كنور للعالم، وحاجة البشرية إلى هذا النور العظيم ليهديها سواء السبيل. قال الجنرال عمر برادلى الذي كان من أبرز القواد الذين ظهروا فى الحرب العالمية الثانية، ومن أكثرهم صلة باللّه، وهو ينظر بحزن إلى العالم: « عندنا كثيرون من رجال اللّه،.. ولكننا تطلعنا لبحث أسرار الذرة ونسينا الموعظة على الجبل،.. وها الإنسان يتعثر فى الظلام الروحى الدامس، وهو يعبث بأثمن أسرار الحياة والموت،... ولقد حصل العالم على نور دون حكمة، وعلى قوة دون ضمير،.. ونحن نعلم عن الحرب أكثر مما نعلم عن الحياة، وعالمنا عالم جبابرة المادة، وأطفال االمبادئ والأخلاق » وفى الحقيقة، إن السبى لم يكن مجرد عقاب من اللّه للخطية أو انتقام من شعبه، بل إنه فى الواقع، كان عدالة من اللّه تنتهى إلى الرحمة، إذ هى عدالة الأب الذي يؤدب أبناءه ليرحمهم مما يتهددهم من المآسى والتعاسات التى يمكن أن يحصدوها من وراء حماقاتهم وشرورهم وخطاياهم. ولقد حدد اللّه مدة السبى بسبعين عاماً، لابد أن يقضيها الشعب مشرداً قبل أن ينضج ويعود إلى حياة الحق والبر والقداسة والتكريس، وحذر اللّه المسبيين على لسان إرميا، من الأنبياء العرافين المدعين الكاذبين، الذين يحاولون أن يخدعوهم بالقول إن اللّه سيرجعهم سريعاً إلى بلادهم، وطلب إليهم أن يبنوا بيوتاً، ويغرسوا جنات، ويتزوجوا، ويصلوا لأجل البلاد التى هم فيها إذ أن وقتاً متسعاً لهذا كله لابد أن ينقضى قبل رجوعهم، كما بين لهم أنه سيكون رفيقاً بهم مشفقاً عليهم، إذ سيسمح لهم بألوان سعيدة فى السبى، تجيز لهم أن يفعلوا هذه كلها، وهو يقصد بذلك أن يظلوا محتفظين بإيمانهم وشجاعتهم، وقوميتهم وعقائدهم ودينهم!!... وإذا ظن البعض أن السبى شر مطلق، فإن اللّه يؤكد لهم العكس، إذ أنه سباهم لأنه يفكر فيهم ويحبهم ويقصد لهم آخرة فياضة بالسلام والرجاء، أو كما يقول إرميا: « لأنى عرفت الأفكار التى أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب، أفكار سلام لا شر، لأعطيكم آخرة ورجاء، فتدعوننى وتذهبون وتصلون إلى فأسمع لكم. وتطلبوننى فتجدوننى إذ تطلبوننى بكل قلبلكم، فأوجد لكم يقول الرب وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التى طردتكم إليها يقول الرب وأردكم إلى الموضع الذى سبيتكم منه ».. " إر 29: 11 - 14 " كل هذه الحقائق كانت ماثلة فى ذهن زربابل بعد عودته، فأدرك أن رسالته الأولى والأخيرة فى قيادة أمته وشعبه، هى جمع الكل حول العودة إلى اللّه والرجوع من سبى الخطية والشر،... وأن الفلاح والنجاح والسعادة جميعها، مرتبطة بمدى نجاحه فى هذا العمل!!.. زربابل والجبل العظيم لا تكاد تعرف المعنى الدقيق للأسم « زربابل »، وإن كان من المرجح عند البعض أن الاسم يعنى « زرع بابل»، وعلى أية حال، إن هذا الأسم يرتبط ببابل بمعنى مؤلم عميق،... ولعله يكشف أن زربابل، الذى خرج من بابل على رأس العائدين إلى أورشليم، لم تخرج ذكريات بابل من أعماق نفسه أو وجدانه،... لقد علق المسبيون فى بابل أعوادهم على الصفصاف، وهم يبكون عند تذكر مدينتهم الحبيبة، ويفضلون أن يلتصق لسانهم بحنكهم قبل أن يرنموا ترنيمة من ترنيمات صهيون!!.. ولعل زربابل كان يمد بصره إلى بعيد، وكلما امتدت به الرحلة مقترباً من أورشليم كلما يتطلع بشغف إلى مدينة أحلامه وروأه،... وما أن وقف على مشارف المدينة، ورأى خرابها الرهيب، حتى أطلق لنفسه العنان فى البكاء والصراخ،... لقد رأى المدينة أكواماً من تراب، ورأى بقايا أكثر رهبة وأشد هولاً، ألا وهى بقايا هيكل اللّه الذى تحول أنقاضاً وركاماً، تحكى قصة عز دارس، ومجد هوى إلى الرماد والحضيض، ولست أبالغ فى القول: إن عقدة نفسية - لابد - ملأت كيانه باليأس والعجز، وهو يرى قصة بلاده المفجعة من بين الخرائب والأنقاض،.. وهنا بدأ الجبل العظيم يلوح أمام عينيه من اللحظة الأولى، ويتمكن فى وجدانه من أول دقيقة وطأت فيها قدماه أرض أورشليم!... أخذ يقارن بين حال المسبيين فى بابل، وحالهم فى أورشليم، ولعله رأى الفارق البعيد بين الحالين، إذ كان المسبيون فى بابل أشبه بالتين الجيد أذا قورن بالباقين فى أورشليم الذين تحولوا تينا رديئاً عطنا لا يؤكل، كانو قلة مبعثرة ولا قوة لهم ولا رجاء فيهم، ومأساتهم البالغة أنهم تحولوا جماعات تسعى إلى صالحها الفردى أو البيتى، وقد ضرب الهوان عليهم من كل جانب، وهم وصوليون نفعيون، لا هم لهم إلا أن يعيشوا ويأكلوا لأنهم غداً يموتون!!... كانت حياتهم أدنى إلى حياة العبيد الذين خاض ابراهام لنكولن من أجلهم الحرب الأهلية الأمريكية، وكتب لهم وثيقة التحرير، وعندما أعلن ذلك لزعيمهم فردريك دوجلاس نهض الرجل على قدميه وقال فى تأثير عميق: لقد وهبتهم يا سيدى الحرية ولكنهم يحتاجون إلى سنوات طويلة ليتذوقوها، لأنهم إذا كانوا قد خرجوا من العبودية، فإن العبودية لم تخرج منهم بعد،.. وهذه حقيقة مؤكدة بالنسبة للشعوب المغلوبة على أمرها، والتى جعلت الإسرائيليين الخارجين من مصر يحنون إلى الكرات والثوم والجلوس عند قدور اللحم، مفضلين إياها على الحرية التى كانوا فى الطريق إليها والأخذ بأسبابها!! كان زربابل فى أورشليم قائداً وحاكماً لشعب قليل فقير مبعثر ذليل،... وإلى جانب هذا كله، كان محاطاً بأعداء أقوياء، كل همهم القضاء على أية محاولة لإنهاض هذا الشعب أو إنها صورة العالم يحيط بالقطيع الصغير، كما تحيط جماعة الذئاب بالحملان التى لاقوة لها أو سلاح تدافع به عن نفسها!! وقد ظهر هذا بوضوح فى قصة زربابل عند بناء الهيكل، إذ أن زربابل بادر ببناء المذبح ليوقد الشعب عليه الذبائح، وعندما شرع فى بناء الهيكل وجد أمامه شعباً ضائعاً لا يكاد يقوى على البناء، ووجد أعداء أقوياء يمنعونه من البناء بالتآمر والسلاح،... وضع حجر الأساس، ولم يستطع طوال عشرين عاماً أن يتمم البناء أو يبلغ حجر الزاوية،... وانصبت الصعاب أمامه كالجبل العظيم، الذى يسد عليه السبيل إلى النجاح والصلاح. زربابل والمعونة الإلهية أغلب الظن أن زربابل كان يصبح ويمسى، ومنظر الجبل العظيم لا يفارق وجدانه وخياله، ولعله كان يهجس مخاطباً هذا الجيل فى العلن أو فى السريرة، وتحول الجبل إلى عدو عملاق ظاهر يواجهه على الدوام،... ومن ثم جاء صوت اللّه المقابل لهذه الحقيقة مدوياً فى أذنيه على لسان النبى، لقد دخل اللّه المعركة إلى جواره،.. كان زربابل قبل ذلك يواجه الجبل بالرعب والفزع، وأذا به بعد ذلك يواجهه بهتاف الانتصار والتحدى!!... من أنت أيها الجبل العظيم!!؟.. ومن الملاحظ أيضاً أن « الشئ » تحول فى العدو وبالعدو « شخصاً » هائلا مخيفاً يقف أمام زربابل يمكن مخاطبته: « من أنت »!! وحق لروح اللّه فى المؤمن أن يواجه كل مبدأ أو نظام أو قانون أو عقيدة أو دين غير إلهى، أو فساد أو شر متمكن فى الأرض حتى ولو تحول إلى الجبال الرواسى: « من أنت أيها الجبل العظيم »!!؟.. وحق لروح اللّه فينا ألا يقلل من الصعوبات الرهيبة التى تحولت بالتاريخ والناس قلاعاً وحصوناً وجبالا عالية شامخة: « من أنت أيها الجبل االعظيم!!؟ »... إن زربابل هنا صورة ورمز للمسيحى فى مواجهة الصعاب والمستحيلات والأعاصير الشيطانية التى تقف تجاهه،... ولذا يمكن أن نقول هذا القول لكل تحديات العصور التى تجابهنا، بصيحة الإيمان القوية: « من أنت أيها الجبل العظيم »!!؟ وإذا كان من حق المؤمن أن يوازن بين القوة والمقاومة، وماله وماع ليه، ومن له ومن عليه، فإنه سيجفل فى مبدأ الأمر، لأنه وهو ضئيل وضعيف أمام تراكمات الأجيال التى تحولت جبالا مرتفعة تجاه جهده المحدود، وخطة اليسير، وقدرته الراهنة،. فإن من حقه أيضاً، وهو يتلفت إلى المصدر الأزلى الأبدى يقف إلى جواره، أن يهتف: « من أنت أيها الجبل العظيم »!! إن التأثر بالمنظور هو الذى يحجب عن الإنسان هذه الرؤيا العظيمة!!... عندما تطلع زربابل إلى المال الذى فى يده، والجماعة التى معه،.. والأعداء المتربصين به، فقد الرؤيا التى كان يتعين عليه من البداءة أن يتنبه إليها... لقد خرج من بابل بأمر الرب، بعد انقضاء سبعين سنة عينها الرب لمدة السبى، وهو يرجع إلى بلاده تنفيذاً للوعد الإلهى الذي لا يخيب أو يكذب فمهما كان الجبل عظيماً أمامه من المتاعب والمشاكل المتراكمة، فإن من حقه أن يقول ما قاله الرسول بولس فيما بعد »... « فماذا نقول لهذا... إن كان الرب معنا فمن علينا »!!.. " رو 8: 31 ".فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم تعمل معه قوى اللّه منذ اللحظة الأولى؟ ولماذا اعترضته الصعاب المهولة القاسية من أول الأمر عند وضع حجر الأساس!!؟.. ولماذا رأى الجبل العظيم فى شموخه وارتفاعه أمام عينيه!!؟. الحقيقة، إن هذه هى سياسة اللّه الدائمة مع أولاده المؤمنين!!.. إنه دائماً يرفع الجبل أمام عيونهم، ليصغروا فى أنفسهم ويعلموا أنهم لا شئ فى الأساس تجاه المتاعب والمشاكل والصعاب القاسية التى لابد أن تواجههم!! إنه يبلغ بهم أولا إلى النقطة الأولى التى يتعين عليهم أن يعلموها قبل كل صعوبة ومشكلة!!؟ ونعنى بها مشكلتهم أمام نفوسهم، وأنهم عدم بدون المساعدة الإلهية، أو كما قال السيد المسيح لتلاميذه: « بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً » " يو 15: 5 "... وهذا واضح على الدوام فى حياة أبطال اللّه فى كل الأجيال والعصور،... عندما دفع اللّّه موسى ليخرج الشعب من مصر، كان عليه أن يجرده - أولا وقبل كل شئ - من إحساسه بشخصه وذاته وكيانه ولذلك أبقاه فى البرية أربعين عاماً، هى ثلث عمره بالتمام، ليدرك موسى حقيقته وحجمه الصحيح، قبل أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام،.. بل كان عليه، أكثر من ذلك، أن يبلغ به نقطة اليأس الكامل فى مواجهة فرعون، فيزداد الأمر سوءاً أو تزداد الطينة بله كما يقولون، وتثقل العبودية على الشعب: « فرأى مدبرو بنى إسرائىل أنفسهم فى بلية إذ قيل لهم لا تنقصوا من لبنكم أمر كل يوم بيومه وصادفوا موسى وهرون واقفين للقائهم حين خرجوا من لدن فرعون فقالوا لهم: ينظر الرب إليكما ويقضى لأنكما أنتنتما رائحتنا فى عينى فرعون وفى عيون عبيده، حتى تعطيا سيفاً فى أيديهم ليقتلونا، فرجع موسى إلى الرب وقال ياسيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب؟ لماذا أرسلتنى؟ فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب وأنت لم تخلص شعبك » " خر 5: 19 - 23 " ومن العجيب أن داود الذى واجه الدب والأسد وجليات، كل عليه أن يعيش طريداً فى البرية ليس بينه وبين الموت إلا خطوة، حتى يدرك الحقيقة دائماً أنه أشبه بالبرغوث أو الكلب الميت أو الكيان الضائع حتى تفتقده عناية اللّه ومحبته وإحساناته ورحمته!!.. كان على زربابل أن يموت أولا قبل أن يحيا لمواجهة الجبل العظيم الذى يقف أمامه ويسد عليه كل سبيل إلى التقدم والنجاح »!!.. كان على زربابل فى مواجهة الجبل العظيم أن يدرك أمرين مختلفين أحدهما سلبى، والآخر إيجابى، أما أولاهما فهو أنه: « لا بالقدرة ولا بالقوة »... ومن المعتقد أن الكلمتين مترادفتان، وتشير ان إلى الجهد البشرى المنظور، وإن كانت الفولجاتا قد ترجمت « بالقدرة » إلى « بالجيش ». وقد قيل إن القدرة تشير إلى القوة المتجمعة أو القوى المعنوية، بينما تشير القوة إلى القوة الفردية أو المادية،.. وفى الحقيقة، ليس من السهل الفصل بين مدلول الكلمتين، إذا أنهما تجمعان معاً كل الجهد البشرى المنظور، أو الذى يمكن تصوره، وإن كانت القدرة تتجه إلى المعنويات أكثر من الماديات فنحن نتحدث عن الرجل المقتدر فى إمكانياته العقلية أو الذهنية، أوسعة باعه وعن قوته المادية أو البدنية ومدى ماله من جهد من هذا القبيل.. والفارق على أية حال ليس قاطعاً أو فاصلا، فكثيراً ما تستعمل الكلمة الواحدة منهما مرادفة للأخرى أو بدلا منها،... وليس معنى العبارة كلها أن اللّه لا يستخدم فى عمله القدرة أو القوة البشرية لإنجاز ما يريد أو ما يطلب فى حياة الناس،... فما هذه القدرة أو القوة، إلا الوزنات الموهوبة للبشر، والتى عليهم أن يستثمروها لمجده فى الأرض!!... إنما يريد هنا أن يذكر أن له مطلق الحرية، فى الوصول إلى أغراضه سواء بهذه القدرة أو القوة الخفية، لإتمام أغراضه، فهو فى إخراج الشعب من مصر فعل شيئاً يختلف تماماً عما فعل لإعادتهم من السبى البابلى!!... ففى الخروج من مصر لجأ إلى القوة والقدرة الظاهرتين، عندما غنى الشعب على ضفاف البحر الأحمر: « الفرس وراكبه طرحهما فى البحر »!!.. " خر 15: 1 و21 " لكنه فى عودة المسبيين، لم تكن هناك المعركة الظاهرة بل التأثير الخفى، فهو يؤثر فى قلب كورش أو داريوس، وهو يحول قلوب الملوك كجداول مياه بين يديه!!... وهو فى كل حال الإله القادر على كل شئ!!!... وهو يفعل ذلك مرات كثيرة فى مواكب التاريخ المختلفة ومن ثم حق لأحدهم أن يقول: « لا بالقدرة ولا بالقوة استطاع لوثر أن يواجه ثورة روما وقوتها ومقامها ويحقق الإصلاح!! ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم بوث أن يقابل الفقر والسخرية والهزاء وينشئ جيش الخلاص العظيم!... ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم لويد جارسون أن يهاجم - وهو أعزل - نظام الرق، ويطلق القوة التى حررت - آخر الأمر - أربعة ملايين من العبيد... وياله من سجل طويل لأعظم أبطال العالم ممن يستعرضهم الذهن، وممن لم يستندوا فى شئ إلى قوة بشرية، بل استندوا على قوة روح اللّه رب الجنود فصنعوا الخوارق والمعجزات!!... لقد أدهشت شجاعة وليم أورنج فى تسليح الفلاحين فى هولندا والفلاندرز للثورة ضد طغيان الملك فيليب والفا الدموية.. لقد أدهشت هذه الشجاعة الملك الأسبانى، حتى أنه تساءل عمن يمكن أن يكون من وراء هذه الحركة من حلفاء أو ملوك، فكان له جواب وليم الشجاع: « إنك تسألنى عما إذا كنت قد دخلت فى حلف رسمى مع قوة أجنبية، ألا فاعلم بأنى قبل أن أحمل على عاتقى قضية هذه الولايات المنكوبة، قد دخلت فى الحلف والعهد مع ملك الملوك ورب الأرباب »... ترى، هل نستطيع أن نواجه جبال مشاكلنا، كما وقف زربابل أمام الجبل العظيم العاتى المرتفع قديماً؟!!.. زربابل والضمان الإلهى وقد ظهر هذا الضمان فى الوعد العظيم المجيد، إن يد زربابل التى وضعت حجر الأساس، هى هى التى ستضع حجر الزاوية مع الهتاف الكريم بالنصر، ولست أعلم كم كان سن زربابل عندما بدأ حجر الأساس، لكنه وقد أوقف العمل، ومرت سنوات عديدة، كان يخشى أن ينطوى عمره قبل أن يضع اللمسة الأخيرة فى بيت اللّه، حجر الزاوية،... وما أجمل أن يسمع بأنه سيبقى حتى يتم العمل، وتراه عيناه، ويسمع الهتاف المدوى بالانتصار على كل العقبات والصعاب والمشكلات التى اعترضت طريقه، ووقفت أمامه كالجبل الشامخ المرتفع العظيم،... ومن اللازم ألا نقف عند شخص زربابل، بل نرى فيه رمزاً للمسيح مخلص العالم، الذي لا يترك عملا قبل أن يقول « قد أكمل »،.. " يو 19: 30 ". فهو الخالق الذي به كل شئ كان وبغيره لم يكن شئ مما كان!!.. ولم ينته من عمل الخليقة حتى « ترنمت كواكب الصبح، وهتف جميع بنى اللّه » " أيوب 38: 7 ".. وهو فى الفداء يفعل الشئ نفسه، ولم يتركه قبل أن يقول على الصليب « قد أكمل، وهو هو الذى خرج فى موكب العصور « ليجمع أبناء اللّه المتفرقين إلى واحد، " يو 11: 52 " ولن يكل أو يعيا « حتى يخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم » " مت 12: 20 و21 "« قال اللّه: « إن يدى زربابل قد أسستا هذا البيت فيداه تتمانه » " زك 4: 8 ".. ورجل اللّه قائم حتى يتمم الرسالة الموضوعة عليه فى الأرض، ومع أن عمل اللّه فى العادة يترك اللآتين مجالا للخدمة، إلا أن اللّه أراد أن يعطى زربابل الضمان المؤكد بأنه لن ينتهى من قصته الأرضية، قبل إتمام العمل الضخم العظيم الجبار!!.. ولعله سعد كثيراً بهذه النبوة وانتعشت روحه وانتصب على قدميه، رغم ضآلة البداءة التى بدأ بها!!.. هل أمسك فى الخطوات الأولى من العمل بالزيج الذى يستخدمه البناء فى قياس استقامة الجدار وهو يرتفع؟،.... وهتف به الهاجس، هل سيحيا ويعيش حتى يرى النهاية فى حجر الزاوية الأخير!!؟ وأكد له اللّه ضمان النهاية من الابتداء!!؟... يعتقد الكثيرون أن زربابل رأى فى يوم الابتداء من يهزأ به ويسخر، ويوم الابتداء، فى العادة، هو يوم الأمور الصغيرة، يوم الزارع يزرع البذار فى الأرض، يوم البانى يبنى الأساس الذى يغطيه التراب،... يوم المخترع حين لا يكون الاختراع، فى خطواته الأولى، سوى محاولات تتأرجح بين النجاح والفشل، يوم المتعلم وهو يقف على أعقاب الدراسة، قبل أن يضرب فى خضم البحر الغزير بحر العلم الواسع العميق الممتد،... يوم الطفل حين يحبو قبل أن يصبح شاباً أو بطلا فى مستقبل الأيام والتاريخ!!. هذا اليوم قد يزدرى به الكثيرون،... ولكن اللّه لا يمكن أن يزدرى به بل أعين اللّه السبع تفرح بالعمل فيه: « لأنه من ازدرى بيوم الأمور الصغيرة فتفرح أولئك السبع ويرون الزيج بيد زربابل، إنما هى أعين الرب الجائلة فى الأرض كلها » " زك 4: 10 ".أدنى الشاب إلى أذنه بذرة من بذار شجرة البلوط، وتخيل نفسه وهو يتحدث معها، ويسمعها وهى تقول له: « يوماً ما ستأتى الطيور وتبنى أعشاشها فى، ويوماً ما سأكون ملجأ للمحتمين بى عندما يستظلون بظلى ويوماً ما سأكون ألواحاً قوية توضع فى سفينة كبيرة، من عابرات البحار، وسأهزأ من ضربات الأمواج، وأنا أنقل الناس من قارة إلى أخرى ».. وما أن سمعت هذا - قال المتحدث - حتى صحت أيتها البذرة الحقيرة أتفعلين كل هذا؟!! أجابت: « نعم.. اللّه وأنا نفعل كل هذا ».. عندما أراد اللّه أن يغير تاريخ العالم كله، أرسل اللّه ابنه مولوداً ن امرأة، مولوداً تحت الناموس،... أرسل اللّه وليد بيت لحم بين الناس!!.ما أسعد زربابل عندما خلف وراءه قصة الجبل العظيم الذى أضحى سهلا، واستمع إلى الهتاف المدوى فى يوم حجر الزاوية كالهتاف الذى سمعه منذ سنوات عديدة عند وضع حجر الأساس،!!.. وعتد بين الخالدين من الرجال، لأن رسالته كانت فى قوامها الصحيح إنهاض أمة، وإقامة شعب، بهذا الشئ الواحد، ببناء بيت اللّه فى أورشليم!!
المزيد
30 ديسمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس رفقة

رفقة «وكان أسحق ابن أربعين سنة لما أتخذ لنفسه زوجة رفقة بنت بتوئيل الآرامي أخت لابان الآرامي من فدان آرام». مقدمة أيهما يا ترى أهم في قصة الحياة الزوجية الصورة الأولى التي يتصورها الناس ليوم الزواج، أم صورة الأيام الأخيرة في الحياة الزوجية إن أمكن أن تصور.. إن الناس في العادة تهتم بأن يحضر المصور حفل الزواج، ليصور العروس في ثوب زفافها التقليدي الأبيض الجميل الأنيق، والعريس في بدلته المجهزة لهذا اليوم، لكننا لا نعرف إنسانًا فكر أن يستعدي المصور ليأخذ صورة لليوم الأخير عندما يربض الموت أو يأتي ليفرق بين اثنين عاشا سنوات طويلة في حياة زوجية قد تصل إلى خمسين سنة أو أكثر.. وبين هاتين الصورتين كم من الصور يأخذها الزوجان على مر الأعوام والسنين في الشباب أو الكهولة أو الشيخوخة أو مع الأولاد والأحفاد، فيما بين الجمال الرائق الفائق الحي جمال الشباب، وتجاعيد الشيخوخة القاسية ورسومها المطبوعة على جبين الاثنين في آخر المراحل في هذه الحياة، ولا أقصد من هذه الصور جميعًا مجرد الظاهر من الشكل، أو الخارج من الصور، بل أقصد شيئًا أعمق وأجل... فمن لي بمن يرسم تيار الحياة الزوجية عندما يكون الزوج حلماً رائقًا جميلاً نديًا كيوم الزفاف، يوم يتعانق فيه الزوجان نفسًا وروحًا وجسدًا وعندما تكون العاطفة قوية ورائقة ومشبوبة وملتهبة، وفي تلك الأيام البعيدة المتأنية عندما لا يعود الزوجان يبحث أحدهما في شيء عن شكل الآخر الجسماني، بل عندما تلعب السنون في ظروفهما المتعددة وتتغير الأوضاع، وتتلون حياتهما بمختلف ألوان الأحداث والمحن والآلام والمتاعب، وتهدأ العاطفة أو بالحري تتعمق لا ليكون تيار الزوجية ذلك الزبد الهائج فوق سطح البحار والمحيطات بل التيار العميق الداخلي الذي يسير الحياة الزوجية على نحو لا يعلمه سوى الله وحده!! ولعله من الغريب أن نلاحظ أننا لا نعرف بالضبط الصورة الأولى لزواج إبراهيم بسارة عندما تزوج هناك فيما وراء النهرين، لكننا نعرف بكل يقين الصورة الأخيرة عندما نراه وقد أضجع زوجته العظيمة جثمانا مسجي أمام بني حث، وهو يشتري القبر المشهور في مغارة المكفيلة، وعلى العكس من ذلك تمامًا، نحن نعرف جيدًا الصورة الأولى لزواج اسحق برفقة، في تلك القصة الطويلة الرائعة عندما ذهب اليعازر الدمشقي ليخطبها لسيده من فدان آرام، وكانت باهرة الجمال قوية الشخصية ممتلئة الأنوثة، لكني أخشي أن أقول إن هذه الصورة وحدها هي الغالبة في فهم هذه الشخصية، أو التي تطغي على أية صورة أخرى، ولذا فنحن أحوج ما نكون إلى الصور الأخرى الآتية المتلاحقة، وأخشى أن نصدم في بعض نواحيها، أذ سنرى صورا تختلف إلى حد كبير عن الصورة الأولى.. فمثلا ما أبعد الفرق بين أول مرة ترى فيها رفقة زوجها اسحق، فتغطي وجهها وهي تقترب منه عندما تراه مقبلاً إليها في الحقل القديم، والصورة الأخرى التي تتفق فيها مع ابنها يعقوب على استغلال عدم رؤياه لصالح الابن الأصغر، كل هذه الصورة تعطينا أن ننتبه بل وننبه ونحذر الأزواج والأسر والجماعات إلى ما قد يفعل الزمن والأيام في كل زواج، وأفضل الأزواج وأسعدهم هم الذين يستطيعون أن يختموا الحياة الزوجية على صورة أروع وأحلى وأعظم وأمجد من اليوم الأول العاطفي الملتهب في قصة الزواج،.. وبهذا المعنى سنواجه رفقة في أكثر من صورة. رفقة وخطبتها:- كانت خطبة رفقة إلى أسحق أول قصة كتابية رائعة تذكر على هذا النحو المطول الذي جاء في الأصحاح الرابع والعشرين في سفر التكوين، وقد درج الوعاظ على العودة إلى هذه القصة الكتابية القديمة ليتناولوها من هذا الجانب أو ذاك، لكني أخشى أن أقول إن دراسة هذه الجوانب كثيرًا ما لا تأخذ حظها الكافي في الموضوع، ولعلنا لو أحسنا التأمل لرأينا القصة تبدأ أولا باستعمال العقل، والعقل هو أول خطوة في أي زواج موفق سعيد، وقد استعمل إبراهيم عقله فأغلق كل باب فيما يتصل بالزواج من بنات الجيرة المحيطة به من الكنعانيين، ذلك لأن إبراهيم كان يعلم تمام العلم ما للأسر المتصاهرة من سلطان وتأثير في حياة الزوجين، وان ابنه سيقاد حتمًا وبدون أدنى شك بتأثير هذه الزوجة إلى ما هو أسوأ وأرادأ أو أشر، الأمر الذي لم ينتبه له عيسو، أو استخف به، فقلب حياته وتاريخه بجملته، الأمر الذي وعاه بلعام بن بعور فجعله الشرك القاتل لشعب الله، عندما نصح بالاق ملك موآب بأن يهزم الشعب بالموآبيات الراقصات والواقفات في طريق العابرين!! الأمر الذي استهان به شمشمون استنادًا إلى قوته الجبارة الخارقة، فقلعت عيناه ودار كما يدور الحيوان في الطاحونة، وذهبت حياته على نحو محزن بسبب حجر دليلة الخاطئة، الأمر الذي غفل عنه سليمان رغم حكمته الفائقة فأمالت النساء الكثيرات قلبه بعيداً عن الله، ولهذا كان إبراهيم حازمًا وحاسمًا في أن يستعمل عقله ويبعد ابنه تمامًا عن تأثيرات البيئة المجاورة التي لا تتفق وأحلامه وميوله ورسالته ورؤياه البعيدة والعظيمة معًا، والتي لابد أن تكون... واستعمال العقل بهذا المعنى يرقى إلى مستوى البديهيات الألهية في الحياة، فلا حاجة إلى أخذ رأى الرب للزواج بمن يختلف وايانا في العقيدة والإيمان والحياة والأسلوب والرؤى، كمثل الملحدين ومن هم أشبه ممن لا تستطيع أن تجتمع معهم حول فكر أو معتقد أو رأى، لأن هذا يرقى إلى مستوى البديهيات التي لا حاجة إلى التساؤل عندها!! واذا فقد الإنسان عقله بهذا المعنى، فلا يلومن إلا نفسه على ما لابد أن ينال من أوخم النتائج أو أرهب الآثار أو أقسى الشرور، على أنه إلى جانب العقل، أو امتداداً له، عندما تتوقف خطاه، هناك الإيمان، والقصة ترينا كيف لعب الإيمان دوره العظيم في هذا الأمر، وكان الذين ربتوا لهذا الزواج ثلاثة... قلت ثلاثة!.... أخشى أني أخطأت.. فهم في الواقع أكثر من ثلاثة آذ هم في الحقيقة أربعة... كان هناك إبراهيم الذي رأى في الموضوع أخطر مواضيع الحياة وأهمها عنده، ولأجيال ممتدة أخرى بعيده آتية، ومن ثم استحلف كبير عبيده المؤتمن والموثوق به تمامًا!!.. ومع هذا فمن الغريب أن إبراهيم لم يتحرك في الأمر ولم يذهب مع عبده اذ أنه وإن كان قد أودع الأمر لهذا العبد الا أنه أودعه أكثر إلى السيد، وأدخل إبراهيم عنصر الإيمان فيه، وكان الثاني الذي لا يقل اهتمامنا بالأمر هو اسحق ونحن نعلم أن اسحق من ذلك النوع من الناس الذي يحسن التأمل، ولكنه لا يكثر الكلام، وكان اسحق ولا شك يدرك أن هذا الموضوع يعد بالنسبة له أخطر مواضيع الحياة جميعًا... وكان من الممكن أن يطلب الذهاب ليرى ويفحص ويدقق، ويشترط كما يفعل الكثيرون في أمر يعتقدون أنه من أعظم الأمور في قصة الحياة وعلى مفترق الطرق، ولكن اسحق آثر أن يخضع العقل لسلطان الإيمان! وكان الثالث اليعازر الدمشقي الرسول المكلف بتنفيذ هذه المهمة العظيمة والدقيقة والشاقة معًا، وكان اليعازر واحدا من أعظم الناس الذين يعرفون المسئوليات ويرتفعون بها أمام الله والناس إلى مرتبة التقديس، وقد كلفه سيده بمسئوليات متعددة، لكنه يعلم أنه لم يكلف قط بمسئولية أرهب أو أضخم من هذه المسئولية التي هو ذاهب إليها، ومع تقديره الضخم لهذه المسئولية، أؤ بالحري لتقديره الضخم لها، أوقف عقله وأدخل في الأمر... الإيمان!... أما الرابع أو بالحري الأول والأخير، فقد كان الله ذاته،... واذا كان الموضوع عند الثلاثة ذا أثر بعيد عميق ممتد، فهو عند الله أعمق وأجل وأكثر امتداداً، والله هو المحيط بما لا يستطيع الثلاثة أن يصلوا أو يسبروا غوره أو يدخلوا إلى أعماقه، وأكثر من ذلك فان المرأة الذاهبة إلى هناك تحمل رسالة من أهم وأخطر الرسالات التي وضعت على عانق المرأة في كل التاريخ...وإذا كانت حاجة الإنسان الدائمة إلى أن يدخل الله معه في كل صغيرة وكبيرة، فأنه أحوج إليه عندما يقف على مرحلة حاسمة من مراحل الحياة، المرحلة التي لن تؤثر فيه هو فحسب بل ربما تطبع بآثارها أعدادًا من الناس هيهات أن تتصورهم أو تتخيلهم مهما أوتينا من بعد الخيال أو قوة التصور. وإلى جانب العقل والإيمان فهناك الصلاة أيضًا وقد صلى عبد إبراهيم ليكتشف الزوجة التي عينها الرب لابن سيده، ولم تكن الصلاة في الواقع عنده وحده فمما لا شك فيه أن إبراهيم كان يصلي طوال الرحلة من أجل هذا الأمر، وكان اسحق يفعل ذلك أيضًا بدون أدنى ريب، وصلاة العبد لم تكن صلاة مطولة مكررة بقدر ما هي مختصرة وحارة ومركزة ولعلها واحدة من أعظم الصلوات الحاسمة التي يستنجد بها الإنسان في اللحظات الدقيقة الحاسمة أمام الله، ومن العجيب أن كثيرًا من هذه الصلوات المصيرية قد تكون بالغة القصر، لكنها في ارتفاعها وطولها لها مثل طول السموات والأرض،.. ألم يصل نحميا أمام الملك مثل هذه الصلاة وهو يقول: فصليت إلى إله السماء،.. ألم يصل العشار المسكين بجملة واحدة صارخة، اللهم ارحمني أنا الخاطيء!!.. ألم يصل اللص التائب: أذكرني يارب متى جئت في ملكوتك!!... إن الصلاة الناجحة القوية هي التي يقول عنها الرسول: أصلى بالذهن وأصلي بالروح أيضًا، وقد تكون بعيدة عن الفلسفة والفن والجمال اللفظي والعبارة المنمقة، واللهجة الخطابية أو اللحن الموسيقي، ولكنها الصلاة الملتهبة القوية المؤثرة، وقد كانت صلاة اليعازر العبد الدمشقي القديم، على هذا النمط، وهكذا ينبغي أن تكون صلوات الباحثين عن الزواج صلوات صادقة محددة صارخة صادرة من نبع قلب، أدخل الله في الأمر، وهو يرجو أن يدله الله كأب عطوف محب محسن على من يصلح، وفي أي وقت يصلح، وعلى أي أسلوب يمكن أن تكون هذه الصلاحيات المنتظرة، وهل يمكن لهذه الصلوات أن تضيع أو يغفل فيها الله عن الجواب الصحيح والحاسم العظيم.ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل وبعد أن اكتشفت الإرادة الألهية، جاء التسليم، وقد ظهر هذا التسليم من الجانب الآخر، بتوئيل أبيها ولابان أخيها اللذين لا يستطيعان التدخل بالخير أو الشر مادام الأمر قد تناولته يد أعلى وأقوى وأقدر، لكنهما مع ذلك يعطيان درسًآ رائعًا في المعنى الديموقراطي العظيم، بسؤال الفتاة عن مكنون رأيها، وعمق رغبتها، ويتركان لها حرية التصرف في الرفض أو القبول، واذ تقبل يباركان رأيها، ويطلبان لها ولمن يأتي منها كل رغد وسلام ونصر، ومن الغريب أن يأتي هذا الرأي منذ أربعة آلاف عام، بينما يصر كثيرون من الآباء والأمهات والأخوة في القرن العشرين، على أن الفتاة لا رأى لها، أو لا ينبغي أن يؤخذ لها رأى في مثل هذا الأمر المصيري بالنسبة لها ولأولادها فيما بعد!! أن بتوئيل يذكرنا أو ينبغي أن يذكرنا بأن رأى الله هو الرأى الأول، ورأى الفتاة صاحبة الشأن هو الرأى الثاني، أما رأيه ورأى أخيها أو آلهًا أو الأصدقاء، فلاشك يقع بعد هذين الرأيين، ولا يجوز أن يتجاهلهما أو يتجاوزهما على وجه الأطلاق.وثمة أمر أخير قبل أن تترك موضوع الخطبة، وهو الهدايا التي قدمت، وهي تقدم أولا وقبل كل شيء للخطيبة نفسها، أما ما قد يقدم لأبيها أو أخيها أو أهلها فيأتي تاليًآ وثانوياً بالنسبة لما يعطي لها، ولعله من المناسب أن نلاحظ أن الهدايا التي أعطيت لرفقة وبيتها، كانت وسطا بين الشح والتبذير، فقد أعطيت توازنًا صحيحًا مع الثروة الكبيرة الطائلة التي لإبراهيم واسحق، والتي أعلنها العبد للأسرة حتى تعرف ما هي ذاهبة إليه أو مقبلة عليه، ولعله من أهم الأمور في الحياة، أن تقع المادة هذا الموقع بعينه ابتداء واستمرارا في قصة الحياة الزوجية فلا هي بالتقتير تعطي بخلا وشحا، ولا بالتبذير تعطي رميًا وسفها لمن لا يملك إلا القليل، ولكنه قد يقسو على نفسه أو يستدين ليظهر بهذا المظهر أو ذاك، مما يغرقه في النهاية بالدين أو العطب أو الهلاك!!... وما أكثر ما قادت المادة لمثل هذه الأمور في أكثر من خطبة وأكثر من زواج.... رفقة وشخصيتها:- أما وقد عرفنا، كيف خطبت رفقة إلى اسحق، آن لنا أن نقف بعض الوقت في شخصيتها كما تظهر في كلمة الله، ولعل أول ما نواجه به هو جمالها الفائق الذي كاد يتعرض لمثل ما تعرضت له سارة، من تجارب الجمال وأخطاره، وأنا لا أعلم هل كان اسحق بطبيعته يحب الجمال، ومع أنه لم يذهب مع عبده ليختار امرأة جميلة، فان سيده الأعلى لا يمكن أن يخلق فيه حبًا للجمال أو تذوقًا له دون أن يشبعه منه أو يمتعه به على نحو فائق وعظيم، وأغلب الظن أن اسحق كان من هذا النوع المتأمل الذي يهوى الجمال، في الزنبقة النابتة في البرية وفي الطير الصداح الذي يفرد جناحيه ويرتفع مغردًا هنا وهناك في سماء الله، ولأجل ذلك أشبعه السيد وعزاه عن جمال أمه، بجمال امرأة تكاد تكون ندا ونظيرًا لأمه الحبيبة الجميلة،... يتصور البعض عندما يطلب إليهم أن يتعلموا التسليم لله في اختيار الزوجة، أن الله يفعل على عكس ما يرغبون أو ينتظرون، فيعطيهم الزوجة التي لا تتفق وميولهم، كأنما يعاند الله هذه الرغبات ولا يشبعها، في حين أنهم لو عقلوا، لأدركوا أن الله لا يخلق إنسانًا على شيء ثم يجرده في الوقت نفسه من متطلبات هذا الشيء أو حاجته، وأن الله لا يمكن أن يحرم إنسانًا من حب الجمال إلا إذا أدرك أن هذا الجمال سيكون وبالا على هذا الإنسان وخطراً على حياته الروحية والأبدية.وكانت رفقة إلى جانب جمالها العظيم من النوع الحالم الطموح البعيد الرؤى والأحلام والآمال كانت ولا شك قد سمعت عن رحلة إبراهيم وسارة ولوط، يبحثون عن عالم آخر أسمى وأعظم وأجمل وأجل من العالم الذي تعيش فيه مع بقية الأهل والعشيرة والوطن، وكانت تسرح بخيالها ولا شك إلى ذلك العالم، وعندما رأت شعاعات منه في القافلة من العشرة الجمال وجميع الخيرات التي تحملها القافلة، وأليعازر القائد لها، وعندما سمعت كيف بارك الله إبراهيم ومنحه وأعطاه الغنم والبقر والفضة والذهب والعبيد والإماء والجمال والحمير، لم تعد ترغب في عالمها أو تقبل البقاء فيه، وعند أول نداء للدعوة للعالم الجديد، قالت مدفوعة برؤى الشباب وأحلام اليقظة: أنا أذهب!.. على أنها أكثر من النساء الذي لا يكاد يرغب في الجلوس أو يطيقه أو يقبل عليه، يسألها أليعازر الدمشقي جرعة من ماء فاذا بها كما يصفها الكتاب، تسرع وتنزل جرتها على يدها وتسقيه، وبعد أن تفرغ من سقيه، تطلب إليه أن تسقي جماله أيضًا، وتسرع تفرغ الجرة في المسقاة، وتركض إلى البئر أيضًا لتملأ المسقاة حتى تستقي لكل جماله!!. ولعل حركتها هذه تشير أيضًا إلى مدى ما لها من جراة وشجاعة وجسارة، فهي تذهب مع غريب بعد ليلة يبيتها في بيتها في رحلة منطلقة قد تأخذ شهرًا من الزمان دون تردد أو خوف، أو نوع من الهيبة التي تسيطر ولاشك على الإنسان المهاجر الذي ينطلق ربما إلى غير عودة إلى وطنه مرة أخرى في الحياة!!... كما أنها كانت ولاشك بالغة الجرأة وهي تشجع ابنها المتردد على أخذ البركة من أبيه، بذلك الخداع الذي دفعته إليه!! على أن هذا لا ينبغي أن ينسينا بأنها غطت وجهها في الواداعة والتواضع، على أي حال كانت رفقة واحدة من النساء اللواتي لا يمكن أن يذهبن أو يجئن إلى مكان ما دون أن يطبعنه بطابع محفور قوي عميق!... رفقة وضعفها:- إن المتتبع لحياة رفقة يجد أن هذه الصورة من شخصيتها قد اهتزت كثيرًا في بعض النواحي وربما أصيبت في حياتها بمرض الملل، فانطفأت إلى حد كبير جذوة الحماس التي جاءت بها أول الأمر إلى أرض كنعان، لقد استمرت عشرين عاماً دون أن تنجب فتلتفت حولها فرأت المكان على ما كان فيه من ثروة أو غنى أو مجد، الا أنه صحراء، يختلف إلى حد كبير عن أور الكلدانيين، وكان زوجها اسحق، رجلا هادئًا ساكنًا قابعًا في خيمته!! وعندما جاء الولدان، كانت المسافة بينها وبين زوجها من ناحية العمر، قد وصلت إلى الحد الذي أصبح فيه يأخذ طريقه إلى الشيخوخة وهي إلى متوسط عمرها، على أي حال أنها أصيبت بما قد تصاب به أي فتاة في مطلع صباها، عندما تتخيل الزواج أحلامًا ذهبية، ورؤى لامعة، وهي تحلق بأجنحة عالية في سماء الخيال، ثم لا تلبث أن يردها الواقع إلى عالم المفشلات والآلام والضيق والمعاناة، فتنتهي إلى نوع من الملل لم تكن تحلم به أو تتصوره على وجه الاطلاق، كما أن مأساة هذه المرأة أن احترامها لزوجها لم يعد يأخذ نفس الصورة الأولى والطابع القديم، ورغم علمها بأن هذا الزوج هو رأس الأسرة، وفي يده البركة يستطيع أن يعطيها لمن يشاء، ويحرم من يشاء الا أن الرجل الطيب وقد أحاطت به الشيخوخة وجلس هادئًا في مكانه لا يتحرك، وقد فقد بصره تماماً، لم يعد ينال نفس الصورة القديمة من المهابة والاحترام، فهي تشجع ابنها المتردد على أن يخدعه، ومع أنها ربما اعتذرت لنفسها، أنها تتم إرادة الله التي وعدت من البدء يعقوب بالبركة، إلا أنها على أي حال فيما قلت، لا تعطينا إلا صورة المرأة التي استهانت بشيخوخة زوجها وضعفه وقلة حركته، ولا أعلم هل تعلمت هذا في بيتها الأول، إذ يبدو أن أباها بتوئيل لم يكن ينال الاحترام الكافي في بيته، وأن ما طبعت عليه الفتاة في بيتها القديم، عادت إلى تكراره في بيتها الثاني، لست أدري؟ وإن كنت أعلم أن كثيرًا من صور الحياة يمكن أن تنقلها الفتاة من بيتها القديم إلى البيت الآخر الجديد الذي تذهب إليه، وأن معاملة أمها لأبيها يمكن أن تتكرر في معاملتها لزوجها، وأن العديد من المتاعب والمآسي والآلام تحدث عندما تفاجأ الزوجة بزوج لا يمكن أن يقبل مثل هذا الأسلوب المعكوس، ويجتهد في أن يقلب الأمور رأساً على عقب، أو بتعبير أصح يصحح الوضع الخاطيء الذي –لكثرة ما يألفه الإنسان- يتصوره صحيحاً سليمًا لا يقبل أدنى تغيير أو تحويل، على أن هناك صورة أخرى من الضعف وقعت فيه، ولعلها جرت البيت بأكمله إليه، ونعني بها تحيزها إلى يعقوب ابنها الصغير، في الوقت الذي أحب فيه اسحق ابنه عيسو وقد يسأل البعض ولكن لماذا يمكن أن يحدث هذا التحيز الذي أوجد ولاشك شرخًا وتصدعًا وانقسامًا في الأسرة كلها..!! في الواقع أن كلا من الأبوين انجذب بطبعه إلى الابن الذي يكمله، فرفقة المتحركة لا يمكن أن تقبل إلا ابنها الهادي يعقوب، فهما قطبان فيهما السالب والموجب ولأجل هذا يأتلفان ويتقابلان، لكنها تبقى مع عيسو، أشبه بالسالب يواجه سالباً آخر ولابد يتنافران، أما عيسو المتحرك الشجاع الجريء فهو حظوة أبيه، وهو يكمل الأب الساكن الوادع في مواجهة المحيطين به من جماعات وقبائل متربصة معادية!... على أنه مهما يختلف الأولاد في الطباع أو الحياة أو الأسلوب فان من أكبر الأخطاء أن يلاحظوا ظاهرة التحيز في المعاملة عند الأبوين، وأن هذا الأمر قد يكون بمثابة الدمار للأسرة كلها، ولهذا فان من أهم الأمور في أية أسرة حرص الأبوين على تربية الأولاد بدون أدنى تمييز أو تحيز أو فرقة أو انقسام، بل لعله من أهم الأمور أيضًا ألا يظهر الأبوان مهما اختلفا في وجهات النظر أي نوع من مثل هذا الاختلاف أو أسبابه مهما كانت الظروف. فلا يجري ما جرى عندما وقفت رفقة عند باب الخيمة تسمع عن تأهب اسحق لمباركة ابنها عيسو، فترتب الحركة المضادة، لينال يعقوب لا عيسو هذه البركة. لقد كان اسحق مخطئًا ولاشك لأنه وهو يعلم أن البركة المودعة من الله في الأصل ليعقوب، لكنه نسى هذا أو تجاهله بدافع محبته المتحيزة لابنه الأكبر، أما رفقة التي تفضل الأصغر، فقد رأت العكس وأصرت على أن ينال هذا ما يلزم أن يكون حقه بالموعد الإلهي لا لمجرد اتمام الرغبة الإلهية بل لأنها تحب يعقوب وتميزه وتؤثره وتسعى على أن يبقى دائمًا الأفضل والأعظم. رفقة وحصادها:- كان لرفقة من كل هذا حصاد مرير مفزع هائل، اذ فاضت كأسها مع الأيام بالمرارة والعلقم، ولعل أول هذا الحصاد كانت تلك المرارة التي جاءت عن زوجتي عيسو يهوديت ابنه بيري الحثي وبسمة ابنه ايلون الحثي اللتين كانتا مرارة نفس لاسحق ورفقة، ومن العجيب أن البعض يقول إن الفتاتين على ما جبلتا عليه من طباع وثنية شريرة كافية لأن تجعل الأسرة تغرق في العلقم والافسنتين، لكن رفقة بمعاملتها لابنها دفعته وهي لا تدري إلى هذا السبيل، ولو أنها قربته إلى قلبها وأعطته الحب والحنان، ولم تفرق بينه وبين أخيه، لما حدث كل هذا الذي حدث،... ولما تحول البيت إلى نوع من الجحيم بعد أن حصل يعقوب على البركة والبكورية معاً، ولما وضع عيسو في قلبه أن يقتل أخاه، ولما وصل الألم إلى قلب المرأة إلى الحد الذي فيه تدفع ابنها الاصغر إلى الهرب وتذهب إلى زوجها قائلة: «مللت حياتي من أجل بنات حث أن كان يعقوب يأخذ زوجة من بنات حث مثل هؤلاء من بنات الأرض فلماذا لي حياة»... وهكذا عاشت المرأة المتآمرة لتفقد في يوم ما طعم الحياة مع كل ما لديها من أسباب المادة المتوفرة التي تكفل الحياة السعيدة لمن يظنون ان المادة تفعل مثل هذا في حياة الناس على الأرض، على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أنها وهي تدفع ابنها الأصغر الحبيب إلى الهرب، كانت تقدر أن الأمر لن يطول بل هي بضعه أيام أو شهور يهدأ بعدها الأكبر، وتسكن ثورته وغضبه، ويعود الصغير مع زوجته وما قد يأتيه من أولاد تفرح بهم وتهتم بتربيتهم، فيتصالح الأخوان، ويلم الشمل، ولم تكن تتصور على الأطلاق أن الأمر سيطول حتى يبلغ عشرين عامًآ، وأنها لن ترى هذا الابن مرة أخرى إذ ستموت قبل أن يجيء!! ولعلها كانت تمد البصر في أيامها الأخيرة صوب البلاد البعيدة حيث هناك ابنها الطريد، ويعتصرها الألم لتتعلم، وبالحري لتدرك الحكمة التي جاءت معها أول الأمر، عندما غطت وجهها، وهي تحترم زوجها عند أول لقاء... وأنه أولى بالاحترام والهيبة عندما كف عن البصر، وقعد عن الحركة، وأنه مهما كان الفارق بين ولديها، فان رسالتها الدائمة في الحياة، أن تعاملهما معاملة واحدة، في جهادها مع الله والناس على حد سواء، تاركة الله في قصده الأزلي أن يقول: «لأنهما وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرًا أو شرًا لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو قيل لها إن الكبير يستعبد للصغير كما هو مكتوب أحببت يعقوب وأبغضت عيسو».
المزيد
23 ديسمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس رحبعام

رحبعام "خنصري أغلظ من متني أبي" 1مل 12: 10 مقدمة اشتهر رحبعام بن سليمان بأنه الرجل الذي أضاع مملكة بلسانه،.. وسيقف رحبعام مثلاً في كل التاريخ، للقدرة المدمرة الهائلة للسان البشري، وإن كنت في شك من الأمر، فاقرأ ما كتب الرسول يعقوب عن اللسان: "هكذا اللسان أيضاً هو عضو صغير ويفتخر متعظماً هوذا نار قليلة أي وقود تحرق" فاللسان نار عالم الإثم هكذا جعل في أعضائنا، اللسان الذي يدنس الجسم كله ويضرم دائرة الكون ويضرم من جهنم لأن كل طبع للوحوش والطيور والزحافات والبحريات يذلل وقد تذلل للطبع البشري، وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يذلله. هو شر لا يضبط مملوء سماً مميتاً"...، وبمفهوم المخالفة أو على حد التعبير العكسي كما يقولون، أو بما قال الرسول يعقوب في استهلال الحديث عن اللسان: "إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذلك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً".. ولعل هذا يذكرنا بالمثل الفارسي القائل أن فيلسوفاً أرسل تلميذه إلى السوق طالباً منه أن يشتري أردأ ما في السوق، فعاد الغلام. وقد اشترى "لساناً" من السوق!!... وإذا أعاده الفليسوف ليشتري أفضل ما في السوق أيضاً، فعاد الشاب وقد اشترى "لساناً" من السوق!!.. وفي سوق الحياة ليس هناك ما هو أردأ من اللسان أو أفضل من اللسان،... لأنه في الواقع من فضلة القلب يتكلم اللسان،... ونحن لم نكشف في قصة رحبعام عن لسانه أو بالأحرى اتساخ لسانه، بل سنتعمق أكثر إلى ذهنه الفارغ، وحياته القبيحة التي لم يكن اللسان سوى تعبير صادق عن كليهما في شخصيته ومن ثم يصح أن نرى رحبعام من الجوانب التالية: رحبعام ونشأته:- عندما ولد رحبعام أطلق عليه سليمان هذا الاسم الذي يعني "مرحب الشعب" أو موسع الشعب، ولعله سليمان كان يحلم لابنه ما يحلمه في العادة الأباطرة بالنسبة لأولادهم،.. ولعله فردرك الأكبر الذي جاء بولده قبل أن يموت، وقال له: ها أنا يا ولدي أسلمك امبراطورية عظيمة، فلا تسمح أن يضيع منها شيء، وإلا ضحكت عليك في قبري!!... ولا أعلم إن كان شيء من هذا المعنى في ذهن سليمان، وهو يتوق أن يرى الامبراطورية العظيمة، التي أنشأها، وجعلها حلماً من الأحلام، لا في اتساع رقعتها فحسب، بل في الثروة الخيالية التي ملأ بها أورشليم، والمباني والقصور الشاهقة، والتجارة العظيمة، والفن، والمعمار، والموسيقى،.. وهو يتمنى أن ولده يتسلم هذه جميعاً، ليجعلها أضعافاً مضاعفة،.. على أي حال إن هذا حلم كل أب لابنه، وهو الحلم الذي يتمشى مع أعماق الطبيعة البشرية التي تتغلغل فينا جميعاً، وقد ذكره بناياهو بن يهوياداع لداود في قوله: "كما كان الرب مع سيدي الملك كذلك ليكن مع سليمان، ويجعل كرسيه أعظم من كرسي سيدي الملك داود"... وأغلب الظن أن عيني داود في تلك اللحظة ومضتا بنور لامع، وارتسمت الابتسامة على شفتيه، ولعله رفع صوته إلى الله، ليقول آمين يا رب ليكن هكذا!!... وجاء سليمان ووسع، وفعل، وعمل، الكثير، وولد له الولد الذي على الأغلب كان جميلاً كجمال أمه، وأبيه،.. وأطلق عليه الاسم "رحبعام"، وهو يحلم له بالرحب والسعة، من كل جانب من جوانب حياته ونفسه،.. وقد كان من الممكن أن يكون الشاب هكذا، وقد كانت معه الإمكانيات الكثيرة التي تساعده على ذلك، إذ كان له السهم الذهبي، الذي وضعوه شعار لأمير ياباني قيل أنه كان سيتغرب عن بلده فترة من الوقت، وكان هذا السهم يذكره أينما يتجه ويذهب بالأصل الذي ينتمي إليه، والأسرة التي ينحدر منها، وسواء صحت القصة بالنسبة للياباني أم لم تصح، فإن رحبعام بن سليمان كان يمكن أن يعود إلى آبائه وأجداده ليرفع رأسه، كأعلى ما يكون الارتفاع، وأسمى ما يكون العلو والمجد، ولعله سمع عن جده داود من القصص والأحاديث ما يمكن أن يصنع منه بطلاً لو ترسم خطى هذا الجد أو سار في سبيله، أو سلك سلوكه، وكان يمكنه أن يتوفر على الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد التي خرج بها سليمان إلى العالم، لينهل منها البشر أروع الحكم وأمجد الأمثال، وكان من المتصور أن النبع وقد بدأ من بيته ليجري في تيار الإنسانية كلها، أن يكون هو أول من يرتاده وينهل منه،.. وأعظم من هذا كله، كان هيكل الله على قيد خطوات منه،.. وكان يمكنه أن يجد سبيله إلى هذا الهيكل وهو يغنى: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله"... "ما أحلى مساكنك يارب الجنود تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي، العصفور أيضاً وجد بيتاً والسنونة عشاً لنفسها حيث تضع أفراخها مذابحك يا رب الجنود ملكي وإلهي، طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك... لأن يوماً واحداً في ديارك خير من ألف، اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار"على أن رحبعام -رغم هذه الامتيازات كلها- لم يحتج سليمان إلى أن يموت ويضحك عليه في قبره، إن صح أن الموتى يضحكون في قبورهم، فإن سليمان الحكيم بكى في حياته، وهو يرى ابنه يأخذ سبيله إلى الشباب والرجولة،.. لقد خضع الشاب لعوامل أعتى وأقسى وأقدر على الهدم والتحطيم، وكان لسليمان اليد الطولى في كل هذه العوامل،.. لقد تزوج سليمان نعمة العمونية، وهي أميرة عمونية يقطن أهلها الصحراء الواقعة شرقي الأردن، ويبدو أنها كانت ذات جاذبية وتأثير عميق على الملك، حتى أنه بنى مرتفعة لمولك رجس العمونيين من أجلها،...، وإذا كانوا قد قالوا أن خلف كل ولد عظيم أم عظيمة، وإذا كان الأمريكيون في تقديرهم لهذه الحقيقة قد أقاموا نصباً تذكار ية لأم واشنطون، وأم ابراهام لنوكلن... فمن الجانب الآخر يمكن أن نقيم تمثالاً بشعاً للخراب والدمار لرحبعام بن سليمان، هو في الحقيقة نعمة العمونية الآتية من وراء الأردن تحمل معها ملوك رجس العمونيين، وعجز الشاب رحبعام عن أن يعرف السبيل إلى إله إسرائيل، لأن أمه أرضعته الوثنية على مرتفعة ملكوم رجس العمونيين!! وقد ضاعف النكبة والمأساة سلوك الأب تجاه ابنه، ولو سئل رحبعام الأحمق: لماذا جاء في حماقته على العكس من أبيه الحكيم الذي كان مضرب الأمثال في الحكمة؟ لربما جاء الجواب، كما ذكره ذلك الشاب الذي اقتيد إلى المحاكمة لارتكابه جريمة مروعة، وكان أبوه من أشهر القضاة في البلد، وإذ قيل له: كيف يمكن أن يرتكب مثل هذا الجرم، وأبوه من أعظم رجال العدالة والقضاء،.. قال: وهذه هي المأساة... لقد كان أبي غارقاً في كتب القانون دون أن يكون له متسع من الوقت لكي يعلمني ويهذبني وينبهني ويرعاني،.. لقد ترك سليمان الغلام، دون أن يعني به، لأنه كان مشغولاً عنه بالمهام التي تواجهه كل يوم في امبراطوريته العظيمة الواسعة،.. أجل وهذه هي المأساة المحزنة، لقد ترك الأب المجال والميدان للأم العمونية، لتصنع من ابنها الإنسان الوثني القلب، والجالس على عرش يهوذا،.. وهي مأساة تتكرر بهذه الصورة أو تلك في قلب البيوت المسيحية، حتى أن الناس تتعجب. كيف يحدث أن أبناء القادة المسيحيين والرعاة والخدام والشيوخ يكونون على النقيض تماماً من قصة آبائهم أو حياتهم أو سيرتهم،.. وقد نسى بيته وأولاده بالتمام،.. أو أنه لا توجد الأم التي يمكن أن تصنع التعويض، أو تملأ الفراغ في هذا المجال... كان سليمان يحلم لابنه بالأحلام العظيمة الوردية، وكان يمكنه أن يحول هذه الأحلام إلى الواقع، حتى ولو كان مشغولاً، بأن يفعل ما فعله أبوه فيه، عندما سلمه للنبي ناثان، ليتولى إرشاده ورعايته وتهذيبه وتعليمه،.. كان من الممكن أن يجد له المعلم الأمين الصادق الذي يتولى الصغير، بما يمكن أن يجعل حياته متمكنه الشركة والارتباط العميق بالله،.. ولكننا لا نعرف أن سليمان فعل شيئاً من هذا القبيل فإذا أضيف إلى ذلك ما يقولونه: "لقد تزوج سليمان ألف امرأة، وكان له ابن، وكان هذا الابن للأسف أحمق"... ويكفي أن ينشأ أي غلام في قصر فيه ألف امرأة، وهو محاط بالترف، والتنعم، والحياة الشهوانية الصاخبة،... وهو يطلب فيجاب طلبه في الحال، وهو يتكلم فيمتدح كلامه، حتى ولو كان أسخف كلام، وهو يشير بإصبعه، فيجد عشرات أو مئات الخدم والحشم تلبي النداء، مثل هذا الشاب الترف المدلل، كان أحوج الكل إلى ما قاله سليمان في أمثاله: "من يمنع عصاه يمقت ابنه ومن أحبه يطلب له التأديب" "لا تمنع التأديب عن الولد لأنك إن ضربته بعصا لا يموت تضربه أنت بعصا فتنقذ نفسه من الهاوية"... ولو أن سليمان مد عصاه إلى ظهر رحبعام، لربما تغير تاريخه وتاريخ المملكة بأكملها لكنه لم يفعل، فمهد له بحياته وتصرفاته وتدليله الطريق الرهيب إلى الضياع الذي وصل إليه فيما بعد!!.. ولا يمكن أن ينسى أخيراً في هذا المجال نكبة المعاشرات الردية، في ذلك المجموع الكبير من الزمان والصحاب الذين خالطوه وداهنوه وتملقوه، ووصفوا بالقول: "الأحداث الذين نشأوا معه ووقفوا أمامه"... هذه هي العوامل المتعددة التي أثرت في رحبعام، لينشأ فتى متكبراً أنانياً ضعيفاً ضيق الأفق، أو كما وصفه ابن سيرا: "وافر الحماقة ويعوزه الفهم!!.. رحبعام وسياسته:- هل كان رحبعام في الحادية والعشرين من العمر أم في الحادية والأربعين؟؟ لقد أورث هذا ارتباكاً عند البعض، مع أن هذا الارتباك في حد ذاته يعطينا تمسكاً بالكتاب أكثر، إذ الأرقام في اللغة العبرية كانت تكتب عادة بالحروف، والحرف الذي يشير إلى الحادية، هو حرف واحد في الحالين الألف في الأبجدية العبرانية، أما الحرف الذي يشير إلى العشرين، وهو حرف الكاف، والآخر الذي يشير إلى الأربعين وهو حرف الميم فإنهما في الكتابة العبرانية قريبان جداً من بعضهما، حتى أنه ليصعب مرات كثيرة أمام المخطوطات التي عاشت آلاف السنين أن تتبين في المخطوطة الفرق بين الحرفين، وحتى يكون الكاتب أميناً فإنه يرسم الحرف الذي أمامه دون أدنى تغيير، ويبقى الاحتمال الثاني ويشار إليه في الهامش،.. ومن المرجح لهذا أن رحبعام كان في الحادية والعشرين من عمره في السن التي يقال عنها في أيامنا سن الرشد،.. ولكنها في الحقيقة هي السن التي تحتاج أمام المشاكل والمتاعب، إلى أمرين أساسيين يخطيء الإنسان إذا تجاوزهما، ولم يتمسك بهما، تمسكه بالحياة نفسها،... وهما: الإرشاد الإلهي، وخبرة الذين جازوا الصعاب والمتاعب المشابهة من قبلنا، أو الذين حنكتهم الأيام، وأورثتهم الفطنة والحذر والتأمل... وإذا عجز الإنسان عن أن يملك الأمرين، وإذا قدر له أن يتخلى عن واحد منهما،... فعليه أن يطلب بكل إلحاح وإصرار مشورة الله،... وعلى وجه الخصوص، عندما يقف على مفترق الطرق، وأمام أقسى المخاطر، وأشد الأزمات، وأصعب السبل،... ولو أن رحبعام بن سليمان طلب من الشعب مهلة الثلاثة الأيام ليرجع فيها إلى الرب، ليعطيه التصرف الناجح الحكيم- لكانت بكل تأكيد النتيجة تختلف تمام الاختلاف عما وصل إليه،.. عندما اعتلت الملكة إليزابيث الثانية ملكة انجلترا الحالية عرش بلادها، قالت في حفل التتويج لشعبها: إن تتويجي هذا ليس رمزاً للقوة والأبهة التي ستذهب وتنتهي في يوم من الأيام، ولكنه إعلان عن آمالنا في المستقبل وعن السنين التي يتيحها الله لي برحمته ونعمته أن أحكم بينكم، وأخدمكم كملكة!!. كان رحبعام الملك في حاجة إلى مثل هذا الروح وهذا الأسلوب، عندما اتجه الشعب جميعاً إلى تتويجه في شكيم،... وكان في حاجة قبل أن يتحدث مع أحد، أن يتحدث مع الله، وقبل أن يأخذ رأي إنسان أن يأخذ رأي الله،... لقد ضاعت مملكة الرجل، بضياع الصلة التي تربطه بالله،.. وفي الحقيقة إنه كان في حاجة لسؤال الله، لسبب أعمق من ذلك كثيراً، لأن مصير المملكة كان يتعلق أساساً بموقفها من الله، وهذا الشرخ الرهيب الذي حدث فيها، لم يكن مرده الشكوى من معاملة سليمان للشعب، مع أن هذا هو السبب الظاهر، لكن السبب الحقيقي مدون بكل وضوح وجلاء: "ولم يسمع الملك للشعب لأن السبب كان من قبل الرب ليقيم كلامه الذي تكلم به الرب عن يد أخيا الشيلوني إلى يربعام بن نباط"... إن مصير المملكة يرتبط بتوبتها وعودتها إلى الله،... ولو عاد رحبعام إلى الله، بعد أن يحطم المرتفعات ويبدأ بمرتفعة ملوكم التي بناها سليمان خصيصاً من أجل نعمة أمه، ولو عاد ليقول ما قاله جده فيما مضى: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني".. لو عاد ليقول هذا، أو شيئاً يشبه هذا لوجد حنان الله ورفقه ورحمته، وجوده وحبه، لكنه للأسف نسى الله أو تناساه، أو جهل الطريق إلى بيته فلم يعرفه إلا شكلاً أو طقساً أو لماماً، ولم يعرف الأساس الصحيح لأية سياسة ناجحة في حياة الإنسان على هذه الأرض!!.. أيها الشاب الذي تقف على أعقاب الحياة، وقد تشعبت أمامك الطرق، واستبدت بك الحيرة واستغلق عليك السبيل، لا تخط في أي مجال خطوة واحدة دون أن تسترشد بالله، وتقف الموقف الصحيح منه في عالم الحياة!!... ربما نقول: أنا لست رحبعام، ولم أرث مملكة، ولا أظن أني سأكون ملكاً في يوم من الأيام،.. إنك إن تصورت هذا تخطيء أفدح الخطأ، وتصبح رحبعام الأحمق بعينه،.. كل واحد منا له مملكته. وكل واحد منا ملك بمعنى من المعاني، أنت ملك في مملكة نفسك، وأنت ملك في مملكة بيتك، وأنت ملك في مملكة الرسالة التي أعطيت أن تقوم بها على هذه الأرض، وليس المهم أن تكون مملكتك صغيرة أو كبيرة، إنما المهم أن تعلم أنك -كأي ملك- ممسوح من الله على هذه المملكة، وأنه لا يجوز لك أن تتصرف في أي تصرف إلا بالعودة إلى الله، ليرشدك إرشاده الصالح، ويعلمك كيف تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعاً مع إلهك!!.. على أن الإرشاد الإلهي، قد يأتينا مباشرة من الله بصورة متعددة على قدر ما نعي أو نتعلم أو نسمع الصوت الإلهي، وقد يأتي إلينا في المشورة الصادقة الصحيحة التي تأتي من الآخرين، ومهما كان الإنسان حصيفاً كيساً فطناً، فإنه من الحماقة ألا يستعين بمشورة الآخرين من غيره من الناس، وذلك لأن الإنسان بمفرده مهما كانت قدرته، فهو محدود النظرة، وضيق الاختبار، وأنه لابد له من المختبرين أو في تعبير آخر "الخبراء" ومن هنا نشأت في كل ممالك الأرض فكرة المشيرين المتخصصين الأكفاء، والذين قد يتنبهون إلى الزوايا المختلفة من الموضوع أو المشكلة، والتي ربما لا يستطيع أبرع الناس وأقدرهم من الانتباه إليها، أو الإحاطة بأعماقها وخباياها!!... على أن المشكلة في العادة في اختيار المشيرين وتقدير أفكارهم ومشورتهم، وقد استعان رحبعام بنوعين من المشيرين، هم الشيوخ، والشباب، وكان الاثنان على طرفي نقيض!!.. ولا سبيل إلى اللقاء بينهما على وجه الإطلاق، وهنا نتبين أهمية المشورة، وصعوبتها، ودقتها، والحاجة الماسة إليها، وأن الإنسان لا يستطيع كقاعدة عامة إهمالها أو التخلي عنها!!... ومع أننا لا نستطيع أن نقول إن كل شيخ لابد أن يكون حكيماً، وأن كل شاب لابد أن يكون نزقاً طائشاً، فما أكثر ما يتبادل الاثنان المواقع، لكن القاعدة العامة مع ذلك، أن الشيخ أميل إلى تحكيم العقل والتجربة والاختبار، في الوقت الذي يندفع فيه وراء لهيب المشاعر والأحاسيس والعواطف، ومن هنا كان لابد أن تتباعد المشورتان تباعداً كاملاً أمام عيني رحبعام!!... كان العظمة عند الشيوخ تقوم على أساس الخدمة والرفق والحنان والكلمة الحلوة، وأن الإنسان في أي مكان ومجال لا يمكن أن يهزه قدر الموادعة والاتضاع من أي إنسان آخر مقابلة، فهو يمكن أن يستعبد الآخرين عندما يبدو أمامهم عبداً لهم خاضعاً مطيعاً لرجائهم وانتظارهم، وكان الشيوخ -ولا شك- يدركون مدى المعاناة القاسية التي عاناها الشعب أيام سليمان، وأنه قد سلم رحبعام المملكة بركاناً يوشك أن ينفجر، وأنه وإن لم يكن سليمان قد وسع رقعة الأمة، وملأها بالفضة والذهب، وحول خيامها إلى قصور، وأعطاها مجداً لم تعرفه من قبل،... لكن صرخة الإنسان الدائمة في كل العصور هي الحرية، وأنك يوم تحصره أو تضعه في قفص، ولو من ذهب، فإنه لا يلبث أن يتحول وحشاً يحطم كل شيء، ولا يبالي بعد ذلك حتى ولو حطم نفسه وهو يبحث عن الخلاص والحرية، ولعل الشيوخ وقد عاصروا داود وسليمان، وأدركوا الفرق بين الرجلين، إذ كان داود خادم الشعب والمكافح والمغامر بحياته من أجله، والذي ساسه بالصبر واللين والحكمة والوداعة، فأحبه وخدمه والتف من حوله،.. على العكس من سليمان الذي ملأ بطنه طعاماً، وألهب ظهره بالسياط، فبذر بذور العداوة والحقد والفرقة والانقسام بين يهوذا وإفرايم، وقد جهل بغباء أن سبط بنيامين لا يمكن أن ينسى أن العرش كان له وتحول إلى سبط آخر،... وإذا أدركنا إلى جانب هذا كله أن طلبات الشعب لم تكن مغالية، بل كانت على العكس وديعة متواضعة، فهم لا يطلبون الشطط، وهم استعداد لخدمة الملك الجديد، متى خفف النير القاسي الموضوع على أعناقهم!!... كانت العظمة عند الشباب شيئاً يختلف تماماً عن هذا التصور أو هذا التعبير، إذ أن العظمة في عرفهم تقوم على التسلط والاستبداد، وأنه كلما أمعن الملك في الأمرين، كلما دانت له العامة، وسارت القافلة دون توقف لا تلوي على شيء... نرى هل كان رحبعام يؤمن بنظرية الحق الإلهي في حكم الشعوب؟؟ الحق الذي عندما أسيء استغلاله، في عصر شاول جلب الخراب والدمار على الأمة،.. وعندما أساءت أوربا استعماله في الكثير من الأوضاع والظروف حولها إلى بركة مليئة بدماء الملوك والعامة معاً،... قال أحدهم: إذا كانت رغبتك أن تملك أكثر مما تعطي، وإذا كنت تطمع في القوة لتأمر أكثر مما تبارك، وإذا كان ما تصبو إليه السيادة أكثر من المحبة، ورغبتك أن تكون الأعظم من أن تكون الأقل، الأول بدلاً من الأخير... فإنك بذلك تخدم العدو الأعظم الذي هو الموت، وستنال إكليله بالدود الذي يرعى جسدك ويتقبل مصيرك".. لقد جاء سيدنا ليلقن العالم كله الطريق الأمجد للعظمة: من أراد فيكم أن يكون عظيماً فليكن لكم خادماً ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن عبداً" كان رحبعام كما أشرنا -إلى جانب هذا كله- الملك الذي أضاع مملكته بلسانه، ومن الملاحظة أن تهديده كان أجوف أخرق لا معنى له، وأنه لم يكن في حاجة إلى أن ينتظر ثلاثة أيام ليعد الجواب، فيما لو كانت نظرية الاستبداد هي النظرية التي ستحكم عمله، لأن المستبد الفطن، لا يترك الشعب يتجهز للتمرد والثورة ثلاثة أيام، ويعد نفسه في حالة التصادم والرفض، كما فعل ياهو بن نمشي عندما أراد الفتك بأنبياء البعل، إذ لم يكشف عن رغبته، بل بالحري غطاها بالدعوة إلى حفل كبير للطعام، وكان حريصاً ألا يكون بينهم واحداً من أنبياء الله،.. أو كما فعل محمد على عندما أراد الفتك بالمماليك. إذ دعاهم إلى حفل كبير تختلط فيه لحومهم باللحم الوافر الشهي الذي أعده لها!!.. كما أن رحبعام لم يكن في حاجة إلى أن يثير الشعب، حتى بعد ذلك بالقول القاسي الذي قاله لهم، قبل أن يرتب أمره ويدبر خطته، ويعد جيشه لقمع الثورة في حال نشوبها،... وليس أدل على ذلك من عجزه في التصرف ومواجهة الثورة عند قيامها، إذ يرسل أدورام القائم على التسخير، ليزيد من انفعال الشعب الذي قام برجمه، وكان موشكاً أن يفتك بالملك نفسه، لولا أنه أسرع في مركبته هارباً إلى أورشليم، كان الملك في الواقع غراً أحمق، أقدر على الكلام منه على التصرف والفعل!!.. ومن المؤسف أن رحبعام لم يكن له من العقارب إلا عقرباً واحدة أطلت من لسانه، وويل للإنسان الذي يتحول لسانه عقرباً،.. لقد صور لهم أنه يملك قدرة محزة تعسة، قدرة العنف والقسوة، ولا يمكن أن تقارن هنا قدرة أبيه بقدرته، إذ أن أباه يبدو من هذا القبيل أصغر وأضأل، إذ أن خنصره أغلظ من متني أبيه، وإذا كان أبوه قد أدبهم بالسياط، فسيؤدبهم هو بما هو أقسى وأشر، إذ سيستعمل آلة تسمى بالعقرب، وهي عبارة عن سوط بعدة أطراف، وفي كل طرف قطعة من الحديد أو الرصاص، وعندما يضرب بها شخص يناله من الأذى كما لو أن عقرباً قد لدغته!!.. ما أبعد الفرق بين الكلمة الآسرة، واللفظ القاسي، ومن أجمل ما يتمتع به الإنسان، ضبط النفس، وحلاوة اللفظ، ولقد قيل أن قيصر لم يكن قائداً مغواراً فقط، بل كان ذا لسان حلواً آسر رقيق، وفي ذلك قالوا عنه: لقد كسب قيصر صداقة الكثير من الناس في روما بفصاحته في الدفاع عن قضاياهم، وقد أحبه الناس للطريقة التي كان يتحدث بها إلى كل إنسان.. كما قالوا أنه ذهب مرة إلى ضيافة صديق من أصدقائه، وأخطأ الخدم فوضوعوا في طبق السلطة زيتاً من زيوت الشعر بدلاً من الزيت العادي الذي يستعمل في الطعام، فأكل قيصر دون تأفف، ودون أن يكشف الأمر أمام صديقه مراعاة لعواطفه وشعوره!!... رحبعام ونهايته:- كانت نهاية رحبعام معلومة من البداءة، ولكن الله مع ذلك أعطاه أكثر من فرصة... لقد أعانه الله في السنوات الثلاث الأولى من حكمه فبنى مدناً وحصنها، وجاءه الكثيرون من الكهنة واللاويين الذين هربوا من يربعام، وما من شك بأن مجيئهم كان يحمل بركات مضاعفة لمملكة يهوذا، وكان للملك أن يبارك الله لأجل تحسن الظروف التي أحاطت به، لكنه للأسف، حدث العكس، إذ يقول الكتاب: "ولما تثبتت مملكة رحبعام وتشددت ترك شريعة الرب هو وكل إسرائيل معه".. وهذا ما يحدث -للأسف- مع الكثيرين إذ يتمسكون بالله إلى أن تضحى ظروفهم أكثر توفيقاً ويسراً، وعندئذ يتركونه!!.. وقد توالت عليه الكوارث فيما بعد، على قول النبي إرميا "أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون.. الحائدون عني في التراب يكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية!!".. وهل لنا بعد ذلك أن يمتد بنا القول: "اشفني يا رب فأشفى، خلصني فأخلص لأنك أنت تسبيحتي؟
المزيد
16 ديسمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس راعوث الموآبية

راعوث الموآبية شعبك شعبي وإلهك إلهي مقدمة راعوث قصة جميلة قال عنها جوتة شاعر الألمان: إنها أبدع أنشودة جاءتنا من الشرق القديم. سئل أحد الشعراء العظام، وقد نظم قصائد متعددة عن شخصيات الكتاب لم يلمس قصة راعوث؟ فأجاب: «خشيت أن أشوه جمالها وعذوبتها». قرأها مرة بنيامين فرانكلين حين كان سفير الولايات المتحدة بباريس على جماعة درجت على أعمال كتاب الله فصاحوا مدهوشين «إنها قصة رائعة! من أين جئت بها». فأجابهم: «إنها في كتاب قديم اسمه الكتاب المقدس». الحق أقول إنني أحسست وأنا أتأمل سفر راعوث بالحزن والخجل معا من نفسي، إذ كشف لي ضعفي بكيفية بارزة ظاهرة: لقد تعلمت من السفر مدى تأثيرنا في الآخرين.. كيف انتقلت راعوث من الوثنية إلى إله إسرائيل؟ أغلب الظن أنها لم تقرأ كتبًا عن يهوه قبل نعمى، كانت نعمى أستاذها وكتابها الخالد الذي أنار لها الطريق.. وكم أحس بتفاهة إيماني، وأنا أرى هذه الفتاة الموأبية تناضل بإيمانها الظلام والجوع والفقر والتعاسة والشقاء! كما أقف ازاءها لتأمل مكافأة الله العجيبة للنفس التي تمسك به بشجاعة وإخلاص وقوة.. كان عصر القضاة عصر شريرًا، عصرًا يتضح بالأثم والشر والرذيلة والأوجاع، فيه استراحت الطرق وعابرو السبل ساروا في مسالك معوجة، كل واحد عمل ما حسن في عينيه. في ذلك العصر بدت راعوث في اشراقها البارع، والناس يتحسسون الظلام، نجمة متألقة تضيء الظلمة الساخنة العميقة، وعلمتنا أن الزهر النضير قد ينبت في الوحل، وأن الإيمان الباسق قد يترعرع في أرض الجحود والألحاد، وأن شهود الله الأمناء سيعترفون به ويحفظون الشهادة له في أتعس الظروف وأمرها، ولا يقرون ما ذهب إليه المثل القديم: إذا كنت في روما فاعمل عمل الرومان والآن أريد أن نتأمل راعوث من نواح ثلاث: الفتاة وأمها الروحية: الفتاة الجسورة الإيمان: الفتاة التي نالت مكافأة عظيمة. الفتاة وأمها الروحية راعوث فتاة موآبية يظهر أنها كانت على حظ وفير من الجمال الذي يتيح لها فرصا متعددة للزواج، فنعمى كانت تعتقد أنها ستجد في موآب زوجًا آخر بعد وفاة زوجها محلون، وبوعز كان يؤمن أن حظها من الجمال سيتيح لها أن تجد بين شباب بيت لحم، الفقراء أو الأغنياء زوجاً، وهي فتاة على حظ وافر من الأخلاق، شهد أهل بيت لحم جميعًا لحلاوة سيرتها وتقاوتها، كما أنها شجاعة نادر المثال في شجاعتها، ألم تترك وطنها لتسير إلى أرض غريبة؟ وهناك تخلع عنها ثوب الراحة، فتناضل وتكافح لتجد لقمتها ولقمة حماتها، وهي أيضًا وديعة تنحني بكل تواضع أمام رقة بوعز وحنانه، كما ينبغي ألا ننسى أنها فتاة مخلصة ودود محبة، سنذكرها أبدا بتلك الصورة الخالدة التي أبدعتها أنامل فنان من أكبر فناني الغرب، والصورة تنطق بحب عميق هائل حزين نراه في عناقها لنعمى، لم تسمع راعوث عن أنتيجونا اليونانية، الفتاة التي تابعت أخاها حتى القبر، وظلت إلى جوار جثته حتى ماتت، ولم تقرأ عن بنلوب التي ظلت عشرين عاماً تحدق في الفضاء البعيد، تنتظر مجيء زوجها وسفنه الضائعة، ولكنها قرأت في أعماق نفسها قصة الحب الذي لا تغمره السيول، الحب الذي يتحدى الصعاب، ويقهر الأهل والبعد والموت. «حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بت أبيت، شعبك شعبي وإلهك إلهي، حيثما مت أموت، وهناك أدفن».. من هذه الفتاة العجيبة التي خلفت وراءها أرض مولدها وأباها وأمها، وسارت وراء إله إسرائيل، إلى شعب غريب لم تعرفه من قبل، وفعلت كل ذلك في وداعة واشراق ونور وجلال؟ أهي من صنع موآب! إن موآب يصنع الوثنية، وكموش آلهته تصنع القسوة والرذيلة، إذن من صنع راعوث؟ من أكسبها هذه الحلاوة؟ من أعطاها هذا الأشراق؟ أنها نعمى بحنانها ومحبتها وتضحيتها وإشفاقها وإيثارها، نعمى هي الكتاب الخالد الذي قرأت فيه راعوث الفصول القدسية الرائعة! هل تريد أن أقرأ عليك بعض سطوره الرائعة المبدعة العجيبة.. إذن سأقف بك بضع دقائق من الأم الأرملة الثكلى في ساعة مرارتها الكبرى، وهي تيمم وجهها شطر الوطن.. في تلك الساعة لم تكن نعمى إنسانًا يتمشى على الأرض، بل ملاكًا يسير بين الناس، لماذا أنت حزينة يا نعمى؟ أللمصائب الدافقة التي أنصبت عليك؟ التعاسة الهائلة التي وصلت إليها وبلغتيها؟ وإذا بالملاك يجيب: حقاً أن هذا فظيع ومخيف ومريع، ولكنني متألمة على ما هو أكثر من هذا وأشد وأنكى، أني حزينة لأن النار التي لدعتني لمست كنتي، كنت أود أن أجرع الكأس وحدي لا يشاطرني فيها مخلوق «لا يابنتي فاني مغمومة جدًا من أجلكما».. يا نعمي أننا نعطي وجوهنا في حضرتك، ونستحي أن نرفع أبصارنا إلى وجهك الرائع الرائق.. لقد أبصرنا أكثر منك محبته الهائلة على الصليب، ولكننا ما نزال نحبو إلى جانب خطواتك الواسعة القوية... من يقول إن هذا كلام حماة لكنتها! وقد تستأثر بمن تعده ملكًا خالصًا لها، الحماة التي احتضنت ولدها وربته وعاشت له، كيف تفرط فيه لشخص جديد يغزوه، وهذه الكنة تريد زوجها وقلبه وحبه وحياته، وهيهات أن تقر لأحد بنصيب فيه.. وهكذا نشأت تلك العداوة العميقة المريعة التي تركت أبشع الآثار في النفوس والعائلات ولكن نعمى ارتفعت فوق هذه الغريزة وعلت وسمت، فغنمت واكتسبت كل شيء.. اكتسبت راعوث بكل ما فيها، واكتسبتها لا لنفسها فحسب بل لله وللمجد وللخلود.ما أكثر ما نفعل لأجل الله بحياتنا، وما أعمق الآثار التي نتركها في الآخرين بتصرفنا ومعاملتنا،.. ذهب استانلي يبحث عن ليفنجستون في أدغال القارة الأفريقية، وهناك وجده وبقي معه سبعة شهور، لم يحدثه فيها ليفنجستون عن الأمور الروحية، ولكن حياته العظيمة، حياة الصبر والاحتمال الفائق الحد، حياة المحبة التي لا تموت للشعوب التعسة، تركت فيه أعمق الآثار، رأى ستانلي شخصًا يحترق من أجل المسيح فقال: «لقد ولدت من أبوين مسيحيين وعشت في وطن مسيحي، وكنت أستنشق كل يوم نسمات التعاليم المسيحية، ولكني لم أعرف المسيح في إنجلترا، بل عرفته هناك في تلك القارة المظلمة إلى جانب الرجل الذي عاش ومات للمسيح»... صاح الولد الصغير الذي أحب هويتفيلد: «يا إله هويتفيلد إنني أحبك!» إن المسيحي هو الإنجيل الذي تستطيع أن تفتحه كل يوم بابتسامتك وحبك وعطفك وحنانك، يحزننا أننا كثيرًا ما ننفر الآخرين بتصرفنا، إنهم يروننا شيئًا آخر خلاف عقيدتنا. ألم يقل غاندي: لولا المسيحيون لصرت مسيحيًا. الفتاة الجسورة الإيمان إنه فصل رائع من فصول الإيمان، فصل مجيد ذلك الذي كافح الظلام واليأس والفقر والتعاسة وانتصر، لو كان طريق راعوث مفروشًا بالورود لما دون الكتاب شيئًا عن إيمانها لكنه كان: الإيمان الذي انتصر رغم موت زوجها هي فتاة وثنية أخذ الله زوجها، وأخذه في ميعة الصبا وريعان الشباب، وتركها أرملة لم تهنأ بالحياة، فهل يستطيع الإيمان الصحيح أن يثبت؟ كاد إيمان جون برايت الخطيب الإنجليزي العظيم أن يضيع، وهو جالس إلى جانب زوجته المحتضرة، إذ عاد بذكراه إلى الأيام القصيرة الهانئة التي قضياها، وكيف أن الله سيحرمه من أجل سعادة تمتع بها،.. تينسون الشاعر الكبير، حين مات صديقه العزيز هتف به صوت محزن يدعوه إلى ترك الإيمان، لأنه يكاد يراها قسوة كبيرة من المولى أن يفقد صديقه... وكثيرون ضاع إيمانهم لأن يد القدير اشتدت عليهم وقصفت أعواد آمالهم من أبناء أو آباء أو أزواج، لكن راعوث فقدت زوجها، وفقدته شابًا، وعلاقتهما على ما يظهر من لغة الكتاب كانت صافية قوية حلوة. ومع ذلك لم ينحن إيمانها ولم يترنح أو يتبدد، ولعلها بذلك تنادي المحزونين جميعًا من أبناء الله وبناته ألا يفرطوا في أحزانهم بالكيفية التي تقلل من شركتهم مع الله. الإيمان الذي انتصر رغم الغربة إنها تترك أباها وأمها ووطنها، وتترك الصحاب الذين ألفتهم، تترك أرض موآب الغنية، وهل تظنون هذا سهلاً ميسورًا؟ أن ترك الوطن من أدق ما تضطرب له النفوس، وهل تنسون ذلك المرض الذي يدعي مرض الحنين إلى الوطن والذي يصاب به من يتركون بلادهم. هناك من يظلم عرفة كثيرًا، هناك من يحمل عليها دون ترو، هناك من ينظر إليها نظرة الارتداد القاسية العنيفة، لئن بدا في هذا بعض الحق، فلا ينبغي أن ننسى أنها كانت فتاة ودودا لطيفة المعشر، تألمت لحماتها، وبكتا ساعة الوداع، لكنها لم تستطع تحمل الغربة، فرجعت إلى أهلها... جلس بنو إسرائيل على أنهار بابل، وعلقوا أعوادهم على الصفصاف، وبكوا عند ذكر الوطن العزيز، وحين طلب منهم أن يرنموا أجابوا: «كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة، أن نسيتك يا أورشليم تنسي يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي»... حين طرد دانتي من فلورنسا وحرم عليه أن يراها حتى الموت، عد ذلك شوكته التي تضارع شوكة بولس، وكان الشاعر الشريد وهو يجوب في أرض الغربة يتمثل في الخيال شوارعها وأحياءها وبيته القديم... كان ألم الحنين إلى الوطن أقسى ما ذاق من عذابات.. والتاريخ يذخر بالكثيرين من الأبطال الذين خاضعوا معارك متعددة، دون أن تلين قناتهم أو ينثني عودهم أو تتطرق الهزيمة إلى قلوبهم، ولكنهم انهزموا في معركة الحنين إلى الوطن.. لكن راعوث انتصر إيمانها وهي تدلف في عزم وقوة مع حماتها نحو أرض إسرائيل. الإيمان الذي انتصر على الفقر ماذا ستلاقي في أرض إسرائيل، وهل ستجد لقمتها ميسورة؟ قد يهون علينا أن نترك الوطن والأهل والصحاب، متى أمكننا الاعتقاد أن نجد في أرض الغربة العيش الهنيء والسعة المريحة... لكن راعوث تعلم أنها ستواجه هناك الفقر والمغبة والجوع، فحماتها لا تملك حطام الدنيا شيئاً مذكورًا، وعليها هي أن تناضل من أجل الحياة نضالاً يشق على الرجل ويصعب.. في الواقع ليس هناك ما يزعزع الإيمان ويبعث الاضطراب في النفس ويعثر الشركة مع الله كما يفعل الجوع، وما أصدق أجور بن متقية مسا وأعظمه دراية بالنفس البشرية حين صاح: «لا تعطني فقرًا ولا غنى أطعمني خبز فريضتي لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب أو أفتقر وأسرق واتخذ اسم إلهي باطلاً» إن قصة البؤساء لفيكتور هوجو تدور حول أثر الفقر في إذلال النفس وإسقاطها والجنوح بها تجاه الفساد والجريمة والشر.. لكن راعوث رغم شبح الجوع المخيف خطت بشجاعة إلى أرض إسرائيل. الإيمان الذي انتصر على حياة الترمل إن أقوى دوافع المرأة جميعًا الحياة الزوجية، فهل فكرت راعوث أنها ستجد بعد وفاة زوجها رجلاً آخر في أرض إسرائيل؟ أغلب الظن أنها لم تفكر في ذلك، ونعمى في حديثها معها ومع عرفة، ساعة الوداع، أوصدت الباب بقوة أمام كلتيهما من هذا القبيل، لكن الفتاة كافحت هذا الدافع القوي، وآثرت حياة الترمل مع حماتها على الحياة الزوجية بين الأهل والأقارب والعشيرة. أظن أن هذه الفتاة وهي تسير في أرض الظلال والألم والظلام تكافح مالا يستطيعه إلا العتاه والجبابرة والأبطال صاحت من أعماق قلبها: «أيها الإله الذي جئت أحتمي تحت جناحيه: إن المستقبل مظلم قاس حالك أشد قتامًا من فحمة الليل، لا نجمة فيه أو نور أو رجاء... وأنت ملكي وإلهي وسيدي فلا تتركني! احفظني فأنا خائفة تعسة مشردة، لا أعرف في الدنيا سوى امرأة محطمة.. وإله إسرائيل العظيم الممجد. المرأة التي نالت مكافأة عظيمة تبدو أرض الإيمان أمام القدم التي تطأها حديثًا كأنما لا خضرة فيها أو ظل أو ماء، لكن ما أن يسير المرء فيها حتى يلمس الراحة والهدوء والغني والمجد... كانت الطريق في خطواتها الأولى أمام راعوث قفرا، ولكن ما أن بلغت بعضها حتى أحست كل شيء يتغير ويتبدل، وما أن انتهى بها المطاف إلى آخر الشوط حتى وقفت مشدوهة مذهولة.. إن راعوث اليوم في السماء تعرف عظم مكافأتها ومجدها.. وأظن هذه المكافأة ثلاثية: مكافأة الخلاص سارت عرفة شوطًا في طريق الخلاص ولكنها لم تتمه، إذ عادت إلى شعبها وإلهتها، تابعت النور مدى يسيرًا ثم عادت تغرق في الظلام والوثنية، ولعلها أقرب الكل إلى ذلك الشاب الغني الذي وقف على أبواب الملكوت ثم ارتد عنه حزينًا.. غير أن راعوث أتمت خلاصها، وركضت في السباق حتى بلغت جعالتها العليا.. وهل هو قليل أن ينتقل المرء من كوش إلى الإلة العلي، من الشيطان إلى المخلص.. من الحياة الباطلة الحقيرة إلى حياة النور والمجد والخلود. مكافأة الزوج تزوجت راعوث من بوعز، وبوعز فيما نعلم شخصية عظيمة جليلة، فهو رجل من أسياد قومه ينعته الكتاب بأجل النعوت وأبدعها.. فهو جبار بأس، ذو ثراء عريض، تقي، كريم، وديع النفس، واسع الحيلة... هذا الرجل ارتضى أن يقترن بالموآبية ليقيم نسلاً لقريبه الميت، ولاشك أن حياتها معه كانت نعيمًا مريحًا باذخا عريضًا.. ويكفي أن زواجهما أخذ منه الوعاظ مادة خصبة لاقتران المسيح بالكنيسة. مكافأة النسل ولدت راعوث عوبيد، وكان عوبيد جدًا للملك داود، ولسلسلة الملوك التي جاءت عنه، ولكن مكافأة راعوث لم تقف عند هذا الشأن فحسب بل تعدته إلى مدى سرمدي بعيد، إذ جاء من نسلها المسيح مخلص العالم. هذه هي الفتاة التي أدارت ظهرها لموآب، وسارت وراء إله إسرائيل، فكتب اسمها في سجل الخالدين، وهي الأممية الوحيدة التي أخذ سفرها مكانًا بين صفحات الكتاب... إنها تعلمنا أن أقل ما نقدم يصبح ثروة طائلة متى تسلمته يد الله، قال بطرس: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا، فقال لهم يسوع الحق أقول لكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضًا على إثنى عشر كرسيًا تدينون اسباط إسرائيل الأثنى عشر، وكل من ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل إسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية».
المزيد
09 ديسمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس راحيل

راحيل «وأحب أيضًا راحيل أكثر من ليئة....» مقدمة تدور قصة راحيل من أولها إلى آخرها، حول كلمة الحب، وقصة حب يعقوب لراحيل، يمكن أن ترتفع إلى مصاف أعلى قصص الحب التي عرفها الإنسان على هذه الأرض، فهو الرجل الذي أحبها منذ النظرة الأولى حبًا ملك عليه الفكر والخيال والمشاعر، ولم يشتغل من أجلها سبع سنوات فحسب - وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها - بل خدم أربع عشرة سنة - بعد أن خدعه خاله، اذ استبدلها يوم الزفاف بليئة أختها، وليس أدل على ذلك من قول هوشع: «وهرب يعقوب إلى صحراء آرام وخدم إسرائيل لأجل امرأة، ولأجل امرأة رعى».ومع أن يعقوب تزوج ليئة وبلهة وزلفة، لكن واحدة منهم لم تأخذ على الإطلاق مكان راحيل التي ملكت عليه شغاف قلبه، طوال حياتها أو حياته على هذه الأرض، فعندما ماتت لم يدفنها في طريق أفراته التي هي بيت لحم فحسب، بل خلد ذكرها بنصب أقامه في المكان وأطلق عليه عمود قبر راحيل، ليراه الغادون والرائحون كلما اقتربوا من المكان أو مروا به وانعكس حبه أكثر من ذلك على ولديه منها، فيوسف كان الابن الحبيب المدلل بين إخوته، على نحو ظاهر ملحوظ غير خفي، وبنيامين الصغير الذي احتواه في حضنه بعد غيبة أخيه، وكان من المحقق أن يموت، حزنًا وكمدًا لو أنه لم يعد من رحلته مع أخوته، أو أصيب بأذى في الطريق، وهكذا ظل حب يعقوب لراحيل دون أن يخمد أو يفتر أو يضعف حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وهو يعود بالذكرى إلى الأيام البعيدة القديمة الماضية ليقول ليوسف ابنه في مرض الشيخوخة الأخير وهو يبارك ولديه: «وأنا حين جئت من فدان ماتت عندي راحيل في أرض كنعان في الطريق اذ بقيت مسافة من الأرض حتى آتى إلى افراته فدفنتها هناك في طريق افراته التي هي بيت لحم...» ولعل هذا الحب بعينه هو الذي يكشف لنا شخصية راحيل وما امتازت أو بالحري امتزجت به حياتها من قوة أو ضعف أو خير أو شر على حد سواء. راحيل ولماذا أحبها يعقوب؟ للحب كما هو معلوم طريقان إلى القلب، فهناك الحب السريع المشتعل الذي يطلق عليه الحب الخاطف، أو الحب من النظرة الأولى، وهناك الحب الآخر البطيء الذي يأتي إلى النفس في هدوء وأناة وتأمل، وبعد طول عشرة أو اختبار، ولا يستطيع الإنسان أن يوازن بين الحبيبن إلا من ذلك الأثر أو الطابع، الذي يمكن أن يطبع به المحب أو المحبوب في السنين اللاحقة الطويلة بعد ذلك، فقد ينطفي الحب السريع بنفس السرعة التي اشتعلت بها ناره، وتتحول آثاره رماداً تذروها الأيام أو قد يتطور إلى ما هو أسوأ من ذلك، إذ يتحول إلى عداوة قاسية تأخذ مكان الحب القديم، بنفس الشدة والعنف والقوة والالتهاب، وقد يأخذ الحب البطيء من القوة والعمق والجلال مالا تستطيع أعاصير الحياة أو زوابعها أو أزماتها أن تنال منه قليلاً أو كثيرًا على وجه الإطلاق، غير أن حب يعقوب لم يكن واحداً من الاثنين بل كان كليهما معاً، فقد أخذ قوته من اللحظة الأولى على وجه غريب وعجيب وجنوني،. واستمر كذلك دون أن يضعف على مر الأيام أو مر السنين، ترى ما السر في ذلك؟ وما هي العوامل الخفية الدفينة والعميقة وراء جذوته الملتهبة المشتعلة القوية؟ لاشك أن جمال راحيل النادر والعجيب كان أول هذه الأسباب جميعها وأسبقها إلى قلب يعقوب، وعاطفته، وقد عرف لابان قدر هذا الجمال، وعرف كيف يستغل ابن أخته من ورائه، إلى هذه الدرجة الرهيبة الباهظة التي استخدم فيها يعقوب بما يقرب من الاستعباد ليلاً ونهاراً لمدة سبعة أعوام، قابلة للتكرار، بعد الخديعة التي خدعه بها إذ أعطاه ليئة عوضاً عن راحيل، بل لعل هذا الثمن الباهظ، كان في حد ذاته، ملهبًا لمشاعر يعقوب، إذ أن الممنوع مرغوب فيه، كما يقولون، لأنه يثير في الإنسان غريزة الامتلاك، التي لا تهدأ أو تستقر حتى تمتلك ما تطلب أو ترغب أو تريد! وربما كان الأمر أعمق من ذلك كما يتصور بعض الشراح، إذ أن حب يعقوب لراحيل كان نوعًا غريبًا من عقدة أوديب، الشاب اليوناني القديم، الذي أحب أمه، أو كما يصورها علماء النفس في العصر الحاضر، في رغبة بعض الشباب المفتونين بحب أمهاتهم، في أن تكون زوجاتهم صورة متكررة للأم العزيزة الجميلة المحبوبة، وكلما كانت الزوجة عند الشاب أقرب إلى أمه شكلاً وطباعًا كلما فتن بها إلى ما يقرب الهوس والجنون، ونحن نعلم أن يعقوب كان يتبادل مع أمه حبًا عميقًا قويًا غائرًا، وأنه وقد خرج للمرة الأولى، بعيدا عن بيته، حن إليها، وراح يفتش، يدري أولا يدري، على شكلها، وصورتها حتى عثر عليها مرة أخرى في ابنة خاله راحيل!! وفي الحقيقة أن راحيل تكاد تشبه رفقة تمام الشبه حتى يمكن أن تتعرف على الواحدة من الأخرى شكلاً وموضوعًا، فمن حيث الشكل كانت الاثنتان تتمتعان بجمال فائق مذهل للعقول، ومن حيث الأخلاق كانت مواطن القوة والضعف متقاربة عند الاثنتين، فكلتاهما كانت قوية في تأثيرها على زوجها، وكلتاهما لم تتحرر من الأثرة والأنانية والحزبية، في معاملة أقرب الناس إليها!! على أي حال كان حب يعقوب لراحيل نوعًا من الاستبدال والتعويض لحبه لأمه كما لا يجوز أن ننسى أن هذا الحب كان أعلى من حبه لليئة، لأن هذه الأخيرة أقحمت عليه إقحامًا، وفرضت عليه فرضًا، وكانت في تصوره نوعًا من الغش الذي لا يطيب له أو يقبله، ومع أنه فعل الشيء المماثل، عندما خدع أباه وغشه، ولكنها النفس البشرية التي لا يسهل عليها أن تكيل بكيل واحد، أو تزن الأمور بميزان واحد، فتقبل للآخرين، ما ترفضه لنفسها، وترضي للغير ما لا تتصوره لحياتها!.. ولعل هذه كلها ترينا لماذا أحب يعقوب راحيل إلى هذا الحد من الحب البشري العظيم القاهر القوي وما لاحق هذا الحب من مظهر فعكر ماءه الرقراق، وخدش صورته العظيمة وأرسل بعض النشاز إلى لحنه الموسيقي الجميل، وليس أدل على ذلك من أن لابان جعله من أول الأمر سوق متاجرة، ومصيدة ثراء، فالحب عنده يقوم أو يسقط على قدر ما يمنح أو يمنع من مال وعطاء.وليس أبشع في الوجود من أن تقاس المعنويات بالماديات، أو تشتري وتباع على الصورة التي ذكرتها راحيل وليئة بالقول عن أبيهما: «ألم نحسب منه أجنبيتين لأنه باعنا وقد أكل أيضًا ثمننا»... ومن ذا الذي يستطيع أن يعطي ثمناً لحنان أب أو قبلة أم أو عطف أخ أو تضحية جندي أو مواساة صديق! بل من ذا الذي يمكنه أن يعطي بديلاً لمحبة المسيح الباذلة على هضبة الجلجثة! على أنه إذا كان الحب قد فعل هذا مع لابان... فإنه قد كشف عن أثرة بالغة عند يعقوب وراحيل فقد أنساهما حب الذات حب الآخرين، فقد أعرضا كلاهما عن ليئة الزوجة والأخت، ومع أن ليئة أحبت، ولاشك يعقوب حبًا لا يقل بحال ما عن حب أختها راحيل، لكن يعقوب وراحيل حولا من هذا الحب ينبوعًا دافقا من الألم للمرأة التعسة المنكوبة، وكم أتصورها في ليال متعددة تسهر طوال الليل تجرع من مرارة الصد والإهمال والقسوة المنكرة البالغة في أقرب الناس إليها... بل لقد تحول هذا مع الأيام إلى نوع قاس من الصراع أو الحرب الخفية والمنظورة بينهما، فكل منهما تحاول أن تستأثر بيعقوب، وأن تأخذه على حساب الأخرى، أو تدفع الثمن في سبيل اجتذابه إليها، فإذا انصرف يعقوب إلى راحيل أحست ليئة أنها مكروهة، وإذا اقترب من ليئة لأنها تنجب وتعطيه أولاداً، غارت راحيل إلى الموت، وهكذا قامت المعركة لتستمر بين الاثنتين في بيت واحد! وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل أنه وضع بذرة الانقسام والحسد في الأسرة كلها، وبين يوسف وإخوته فيما بعد. راحيل وتدخل الله الموازن لهذا الحب على أن أبلغ منظر وأعظمه في مسرحية الحب القديم هذا، كان المنظر العلوي الإلهي، الذي يواجه على الدوام، لا ما يظهره الإنسان بل ما يبطنه أيضًا والذي يظهر الله فيه صديقًا للمحروم والمنكوب والتعس والمكروه، كانت الكفة تميل باستمرار ناحية راحيل المدللة المحبوبة وكانت الأخرى تعيش في عزلتها ونكبتها، لا لذنب جنته، بل لأنها كانت أقل جمالا وأضأل منظرًا، إذ كانت عيناها ضعيفتين، وفي الواقع إن اللوم لم يكن يوجه إليها، بقدر ما هو موجه إلى الله الذي خلقها هكذا، وهل يقبل السيد أن يذهب أحد ضحية لما عمل هو فيه، دون أن يمنحه من البدل أو التعويض ما يمكن أن يقلب الكفة أو يرجحها في الاتجاه الآخر!!... ورأى الرب أن ليئة مكروهة ففتح رحمها وأما راحيل فكانت عاقراً، فحبلت ليئة وولدت ابنا دعت اسمه راؤبين لأنها قالت أن الرب قد نظر إلى مذلتي أنه الآن يحبني رجلي وحبلت أيضاً وولدت ابنا وقالت إن الرب قد سمع أني مكروهة فأعطاني هذا أيضًا فدعت اسمه شمعون، وحبلت أيضًا وولدت ابنا وقالت هذه المرة يقترن بي رجلي لأني ولدت له ثلاثة بنين لذلك دعى اسمه لاوي، وحبلت أيضًا وولدت ابنا وقالت هذه المرة أحمد الرب لذلك دعت اسمه يهوذا ولعل الله قد قصد هذا، لا ليقلب الكفة، ويعيش المضطهد والمظلوم بل ليعيد للطرف الآخر الفكر والتأمل والعاطفة، وهو في محنة لم يكن يتصورها أو يحسب لها حسابا، ويرى في الضيق ما لم يكن يفكر فيه في السعة، ويرى في التعب، ما لم يكن يفكر فيه في الراحة، وهذا ما حدث على الأغلب مع راحيل التي تساقط زهوها أمام نفسها، وتناثرت كبرياؤها أمام عقمها، وعلمتها آلامها ومذلتها، أن تذكر آلام الآخرين وأحزانهم وتعاستهم ومدى ما يلاقون من ضيق وحرمان، وإذ تابت المرأة عما كانت عليه، وانحنت أمام الله في اتضاع وضراعة وأمل «ذكر الله راحيل وسمع لها الله وفتح رحمها» وجاءت بيوسف الابن الحلو الجميل، ثم تلته بابنها الثاني الأخير، وكان مولده بمثابة المصفاة الأخيرة من الآلام تطهرها من كل ما علق بها من شوائب وضعفات ونقصات!! فدعته وهي تجود بالنفس الأخير لتعسرها في ولادته بن أوني أي ابن أحزاني غير أن أباه أطلق عليه بنيامين أي ابن يميني.ومهما يحمل الإنسان من شتى المعاني أو المشاعر أو الأحزان، فمما لاشك فيه أن المرأة وهي تموت في سن الشباب وبكور الأيام تألق وجهها بهالة من نور سماوي عظيم، كان من المستحيل أن تصل إليه دون يد الله التي عملت على تصفية جمالها وتطهير حبها لتدخل في ركب الخالدين وموكبهم، وتضحى في كل عصر وجيل قصة تروى مع الزمن وتعاد مع الأيام.
المزيد
02 ديسمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس راحاب

راحاب «فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب» مقدمة قال واحد من القضاة لفتاة كانت تعمل في جيش الخلاص: لست أعتقد أن امرأة تزل يمكن أن تنهض مرة أخرى، ولا أستطيع أن أصدق أية قصة تزعم غير ذلك، ما لم أسمعها مباشرة من صاحبة الشأن ذاتها! وردت الفتاة وقالت له: ولكني أستطيع أن أحدثك بكل يقين عن وقائع فتاة تمرغت في الوحل، وأستطيع أن أقص عليك قصتها دون أقل ظل من مبالغة أو شك، وأستطيع أن أؤكد لك أنها انتقلت من حياة اللوثة والأثم والدنس والفساد، إلى حياة من أعظم ما يمكن أن يحياها الإنسان في ظل الله والحق والنعمة والقداسة، وأنا أعرف هذه الفتاة معرفة يقينه تامة، وهز القاضي رأسه في شك وهو يقول «ولكني مع ذلك لا أصدق، ان لم أسمع القصة من الفتاة نفسها، وأمحصها تمحيصًا!! وردت الفتاة بكل هدوء وأناه! وقالت: أنا يا سيدي القاضي هي الفتاة بعينها!! وذهل القاضي لما سمع وما رأى، اذ كان المعروف عن هذه الفتاة، أنها واحدة من أعظم العاملين في خدمة الله، وجيش الخلاص، ولعل قصة راحاب الوثنية الزانية القديمة، هي خير ما يمكن أن تروى أو تذكر من هذا القبيل، اذ كيف تحولت هذه المرأة التي أوغلت في الأثم بين عشية وضحاها، الى واحدة من أشهر القديسات والمؤمنات، وكيف أصبحت نورا مشعاً، ومصباحًا هاديًا لكل من ضل الطريق وانحرف، ليعود مرة أخرى إلى المخلص والفادي الذي لم يستح أن يدعونا أخوة بل رضى أكثر من ذلك، أن تأتي هذه المرأة في الطريق، في سلسلة أجداده وأنسابه، تأصيلاً وتأكيداً للقاعدة التي أعلنها بموته وصليبه، ليست هناك خطية على الإطلاق، أكبر من غفرانه، وأبعد من أن تصل إليها رحمته، إذا جاء صاحبها في روح التوبة ليقول: «اللهم ارحمني أنا الخاطيء...» حقًا قال الرسول العظيم: «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا»... ومن هذا المنطلق يمكن أن نبدأ في دراسة وتحليل شخصية راحاب الزانية. راحاب والنعمة المتفاضلة:- يكرر الكتاب في أكثر من موضع عن راحاب أنها كانت زانية، ولعله لم يكن في أريحا كلها من هو أشر أو أدنس أو أكثر فسادًا منها... ولقد حاول الكثيرون أن يخففوا من وقع التعبير، فقال بعضهم لعل التعبير لم يكن يقصد به سوى الماضي الذي فارقته قبل أن تقبل الجاسوسيين بسلام، وقال آخرون إن هناك تقاليد تقول إنها كانت صاحبة خان تستقبلا الوافدين إلى المدينة.. وقال غيرهم أن المعنى الشائع وقتئذ يختلف عن المعنى الذي نعرفه أو نراه الآن، وأن الحياة الوثنية كانت تنضج بالفساد، حتى أن الفسق أو الفجور كان شيئًا عاديًا في حياة الناس في ذلك الوقت، على أني أعتقد أن الكتاب كان يقصد العكس تمامًا اذ أراد أن يسجل قصتها كامرأة زانية، بل أراد أكثر من ذلك أن يأتي باسمها في الصفحة الأولى في الإنجيل في سلسلة أنساب المسيح، مع ثامار، وبثشبع، الخاطئتين الملوثتين، ليعلن بوضوح عن عظمة النعمة الإلهية، وكيف تصفح عن الإثم والخطية والدنس والفجور، بلا حدود أو قيود أو سدود أمام جميع الناس. وأن نهر النعمة يمكن أن يسبح فيه الجميع أو يغتسلوا بدون أدنى تفرقة أو تمييز، ولعل هذا ما كان يرن في ذهن الرسول وقلبه وهو يصرخ: «وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يحسب له براً».. أو ما قاله وهو يردد أنشودة عن نفسه: «أنا الذي كنت قبلاً مجدفًا ومضطهداً ومفتريًا ولكنني رحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان، وتفاضلت نعمة ربنا جدًا، مع الإيمان، والمحبة، التي في المسيح يسوع» ولعل هذا بعينه ما كان يقصده يوحنا نيوتن وهو يعرض قصة حياته، وكيف أخذ سبيله على ظهر سفينة تتاجر بالعبيد الذين تقتنصهم من أفريقيا، وكيف ترك وطنه ليغرق في الفجور أو على حد قوله: «لقد ذهبت إلى أفريقيا لأكون حرًا في ارتكاب الإثم كما يشتهي قلبي، وكنت كالوحش الطليق في الأرض الأفريقية حتى جاء السيد الذي أمسك بي وروضني وما أعظم ذلك اليوم: يوم 10 مارس 1748 الذي جاءني في السيد من الأعالي، وأنقذني من المياه العميقة القاسية الطافية فوقي...» وما أكثر الملايين من الأشرار والفاسقين والزناة الذين سيتم فيهم قول السيد الذي ذكره لرؤساء الكهنة وشيوخ الشعب عن اليهود عندما قال: «الحق أقول لكم أن العشارين والزواني يسبقوكم إلى ملكوت الله لأن يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به وأما العشارون والزواني فآمنوا به» وقد قال أحد الكتاب حقًا في عرض هذه الحقيقة: «إن الرجاء يتدفق في قلوبنا، ونحن ننظر إلى المرأة راحاب، بالنسبة لكل ضائع ومستهتر ومهمل ومنبوذ». راحاب وإيمانها المرتفع:- لعله من المناسب أن نلاحظ أن التغيير - أي تغيير - يحدث في الإنسان نتيجة إيمانه برأي أو فكر أو مبدأ ومعتقد، فاذا حدث انقلاب في حياة فرد أو جماعة، فلابد أن يكون لهذا الانقلاب ما يبرره من بواعث أو أسباب وقد رد كاتب الرسالة إلى العبرانيين كل ما حدث في حياة راحاب إلى الإيمان أو يقول: «بالإيمان راحاب الزانية»! فما هو يا ترى هذا الإيمان الذي أحدث مثل هذا الأثر الثوري في حياة المرأة القديمة!! لقد بدأ هذا الإيمان خوفًا من الله وقدرته الباطشة العجيبة، اكتسحت في طريقها كل الشعوب الآثمة الوثنية والتي كمل شرها وجاء يوم دينونتها والقضاء عليها... ولم تعد راحاب ترى في الأمر مجرد معارك عادية، يمكن أن يكون فيها الغالب أو المغلوب، بل بدا الأمر أمامها بوضوح لا شبهة فيه، أن يد الله تمتد لتقتص من الشرير والآثم والفاجر والطاغية!! وأنه اذا كانت هذه اليد القادرة، تأتي على الأشرار كجماعات على هذه الصورة المرهبة المفزعة، فإن الفرد لا يمكن أن يفلت بالضرورة من عقوبة آثمه وشره وخطيته، ولعل هذا ما أفزعها وروعها كزانية وفاسقة وخاطئة. والخوف في العادة قد يكون مرحلة أولى في اتجاه الإنسان أو عودته نادمًا تائبًا إلى الله إذ هو في الواقع عودة به إلى إدراك وضعه الصحيح كمذنب ضعيف عاجز أمام الله القادر العادل القدوس ولا بأس على الإنسان أن يخاف أو يرتعب إذا كان هذا الخوف دافعاً له للتأمل في المأزق القاسي الشديد الذي بلغه عندما وقع في الإثم أو أوغل في الخطية. على أن الخوف إذا توقف عند هذه النقطة، دون أن يحرك صاحبه خطوات أخرى في الطريق الصحيح إلى الله، انما ينتهي به إلى عذاب رهيب لا يوصف، ومن ثم فإن الإيمان الحق يتقدم بالمؤمن خطوات تالية متلاحقة فيكشف له لا عن جرم الخطية وبشاعتها وقسوتها فحسب بل ليظهر له شخص الله في عظمته وجلاله وجوده وإحسانه، وأغلب الظن أن راحاب رأت الله على هذه الصورة، فلم تعد تراه إلهاً صغيرًا محدودًا كهذه الآلهة المحلية الصغيرة التي كان يتعبد لها الوثنيون، بل رأته الإله الحي الحقيقي الذي يبس بحر سوف والقادر على كل شيء، وهو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت، هذا الخوف من الله واليقين بقدرته وعظمته قاداها في الطريق إلى خطوات أبعد، إذ قاداها إلى طرح الآلهة الوثنية، والتنكر لها والتمسك بالله وحده، والمجيء إلى حبه وحنانه وجوده ورحمته والإدراك الكامل بأن لا فرق عند الله بين إنسان وآخر، كل من يقصد بابه ليلوذ برحمته، ويستظل بجناحيه أو يأخذ حمايته، من دون ما تمييز بين يهودي وأممي، أو ذكر وأنثى، أو ساقط في الخطية أو غارق فيها إلى ما فوق الأذنين. على أن السؤال الجوهري الذي لا بد منه، ونحن بصدد هذا الإيمان، ولكن كيف وصل النور إلى راحاب بهذه الصورة وهل بلغها على مراحل متعاقبة، أو ومض أمام عينيها كما يسلك البرق أو يأتي الشهاب، إن الحقيقة كثيرًا ما تنبلج أمام الإنسان فجأة، كما جاءت إلى اللص التائب في لحظة، أو كما بلغت بولس عندما أبرق حوله نور من السماء، أو كما وصلت أوغسطينس عندما وقعت عيناه على الكلمات الأخيرة من الأصحاح الثالث عشر من رسالة رومية «قد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور...» أو عندما قرأ توماس بليني للمرة الأولى: «صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا». أو كما قال لاكوردير عن نفسه: «غير مؤمن في المساء، ومسيحي في اليوم التالي بيقين لا يتزعزع» على أنها مرات أخرى قد تأتي كما قال سليمان في سفر الأمثال: «أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل» أو تبلغ النفس في هدوء وأناة وعمق وتأمل.. إن الواضح أن راحاب استقبلت النور فجأة وكانت أقرب في إيمانها إلى سجان فيلبي الذي هزه الزلزال من الأعماق دون أن تكون كليدية بياعة الأرجوان التي فتح الله قلبها لتصغي إلى بولس!!.. وأيا كان الأمر، فإنها مثل السجان القديم قد تداعت أسوار نفسها وقلاع الشيطان المتمكنة منها لفتح الطريق أمام حق الله ليصل إلى قلبها!!.. فاذا كانت ثمة حقائق أخرى قد جاءتها بعد ذلك، فإنما جاءت لكي تمكن وتثبت ما آمنت به دون ريب أو شك أو تردد!!... راحاب وحياتها المقدسة:- ومن المناسب أن نلاحظ ههنا أن راحاب سلكت الخط العكسي تمامًا لما كانت عليه من حياة فاسدة فاسقة شريرة، إذ عادت تقطع جميع الربط التي كانت تربطها بالماضي البشع القديم، وقد بدأت أول الأمر بقطع الصلة التامة بديانتها الوثنية، فلم تعد هذه الديانة وممارستها وطقوسها وفرائضها وشعبها بذات صلة لها، ومع أننا لا نستطيع أن نقبل أو نقر، من وجهة النظر المسيحية، ما ذكرته من أقوال، أو لجأت إليه من وسائل تمويهية كاذبة، في سبيل حماية الرجلين الغريبين اللذين لجآ إليها ودخلا بيتها، إلا أننا لا ينبغي أن نغفل أو ننسى أن الحكم عليها بالمقاييس المسيحية الكاملة، أشبه بمن يحكم على الأطفال بما ينتظر من الرجال، أو الصغار بما يرضي من الكبار، أو الناشئين بما هو مطلوب من الأقوياء المتمرسين الناضجين!! ولعل هذا يشجع كما يقول الكسندر هوايت على الترفق بمن يأتي إلى المسيحية من غير المؤمنين وهم في مطلع معرفتهم وحداثة إيمانهم، حتى لا نقصف من بينهم من هو أدنى إلى القصبة المهتزة المرضوضة أو نطفيء فيهم من هو أقرب إلى الفتيلة المدخنة المرتعشة، بل بالحري نتعامل معهم على أكبر قدر من الحب والحنان والصبر والأناة لنقوم فيهم ما يمكن أن يكون لهم من أيد مسترخية أو ركب مخلعة، لكي لا يعتسف الأعرج، بل بالحري يشفى، ولا شبهة في أن هذا ما حدث بالتمام، مع راحاب الزانية، التي تغيرت حياتها وسيرتها، على نحو واضح أكيد ملحوظ، فلم تأخذ مكانها بين شعب الله فحسب، بل تزوجها سلمون لينجب منها بوعز، والسلسلة العظيمة التي جاءت فيما بعد من داود وأنساله المتعددين حتى مريم العذراء والمسيح سيدنا مخلص العالم، وهكذا نرى كيف فتح زوجها الباب أمام التائبة لتأخذ مكانتها العظيمة بين المكرمين والشرفاء، على أمجد الوجوه من المساواة، بدون عودة إلى تاريخ ذهب وانتهى أو ماض بغيض قبيح هيهات أن يرجع أو يعود...! ولا أحسب أن هناك كلمات يمكن أن ننهي بها قصتها أفضل من كلمات الملك آرثر التي نطق بها وهو يتحدث إلى زوجته التائبة على أبواب الدير التي لجأت إليه وختمها بالقول من قصيدة تينسون: والكل قد مضى... والخطية قد انتهت.... وأنا أنا!! أغفر لك.... نعم أغفر... كما غفر لنا... الله السرمدي!!..
المزيد
25 نوفمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس دبورة

دبورة «فأرسلت ودعت بارقا بن أبينوعم....» مقدمة في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، كانت الفتاة الفرنسية المشهورة «جان دارك» ترعى أغنامها في يوم من أيام الصيف، ولم تكن قد بلغت بعد الثامنة عشرة من عمرها وسمعت كما لو أن صوتًا سماويًا يناديها أن تذهب لإنقاذ فرنسا، التي كانت ترزح تحت النير الإنجليزي في ذلك الحين، وكانت الفتاة تؤمن بأن هذا صوت إلهي لا شك فيه، فسارت إلى حاكم المنطقة، وطلبت منه أو يرسلها إلى الملك، وسخر الحاكم بها في باديء الأمر، ولكنه اضطر إزاء إلحاحها أن يرسلها إلى الملك، وتردد الملك ورجال الدين في الاستماع إليها، ولكنهم ازاء إيمانها القوي لم يلبثوا أن أطاعوها، وجعلها الملك قائداً على الجيش الفرنسي، فإذا بالفتاة التي لم تكن تعرف الحرب تقود الجيوش الفرنسية بنجاح وتطرد الإنجليز وتتوج الملك على عرشه. ومع أن هذه الفتاة ذهبت. كما نعلم ضحية الحاسدين الذي أسلموها للبرغنديين، وهؤلاء بدورهم أسلموها لحلفائهم الإنجليز الذي اتهموها بتهمة السحر والشعوذة وحكموا عليها بالإعدام حرقاً وهي في التاسعة عشرة من عمرها، إلا أن السؤال الذي تطرحه هذه الفتاة - وطرحته من قبلها دبورة القاضية والنبية القديمة - على بعد التاريخ وتباين الأحوال والأوضاع والظروف، هو هل يجوز للمرأة أن تأخذ مركز القيادة والصدارة إلى الدرجة التي تقود فيها الجيوش وترأس الأمم، وتحكم البلاد، وتأخذ كافة المناصب القيادية اجتماعياً ودينيا، يقول البعض إن هذا جائز جدًا، وأن المسيحية لا يمكن أن تعترض عليه، وأنه اذا كان العهد القديم قد قدم لنا أسماء لامعة من هذا القبيل كمريم النبية، ودبورة، وراعوث، وأستير، وغيرهن، فإن العهد الجديد الذي حرر المرأة وأعطاها المساواة مع الرجل لابد يعطيها مركز أسمى وأعلى، ويمكنها من كافة المراكز القيادية في وقت غزت المرأة كل مكانة ومجال في الأرض، بل وأخذت سبيلها أيضًا في الفضاء، على أن البعض الآخر لا يرى هذا الرأى، ويرد عليه بأن التاريخ لا يعرف قط هذه القيادة النسائية إلا على وجه الاستثناء، وفي فترات متباعدة في التاريخ، ويوم يعز الرجال ويخرج ديوجين بمصاحبه المشهور في شوارع أثينا يفتش عن الرجل المنشود، وأن دور المرأة الصحيح أن تقف إلى جانب الرجل أو خلفه لتكون له بمثابة الملهم والمحفز والمعين كما فعلت دبورة عندما دعت باراق بن أبينوعم ليقود المعركة، واشترط أن تبقى إلى جواره حتى يصل إلى النصركم يكون من المفيد اذن أن نتعرض لهذه الدراسة لعلنا نصل إلى الرأى الأرجح ولذا سندرس دبورة باعتبارها:- قوية الشخصية:- إن الدراسة المتعمقة لشخصية دبورة كما جاءت في كلمة الله، تؤكد وتقطع بأنها شخصية نادرة غير عادية، أو إذا جاز التعبير على منطق الناس، فلته من الفلتات، أو نسخة من النسخ التي لا تتكرر سوى في عصور متباعدة في التاريخ قد تصل إلى المئات أو الألوف من السنين.. ولعل هذه الحقيقة تبدو بوضوح إذا أدركنا أن أية شخصية عادية، تبدو قوية في جانب من الجوانب على حساب جانب آخر، فالشخصية التي تملك عقلاً جبارًا مثلاً، قد يكون هذا على حساب العاطفة الرقيقة، أو المشاعر الحساسة التي تعوزها والعكس صحيح، فالشاعر الرقيق قل أن يكون محاربًا.. ولكن أن تكون الشخصية قاضية مفكرة وأما رقيقة، وأن تحمل في جنباتها عنف المحارب، وأغنية الشاعر، كمثل ما كانت عليه دبورة، فان هذا لا يحدث إلا على نحو نادر، وفي فترات متباعدة جدا وعلى الأغلب في عصور الأزمات والمحن القاسية والآلام الرهيبة في حياة الأمم والشعوب والممالك... كانت دبورة: جبارة التفكير:- وهذا يبدو من قدرتها كقاضية تجلس تحت نخلتها، ينتقل إليها المتنازعون من كل مكان للفصل بينهم، فيما استعصى عليهم حله من خصومه أو خلاف أو نزاع، ولا يمكن أن يذهب الرجال المتخاصمون إلى امرأة إلا لأن حكمتها فاقت جميع الرجال الموجودين في جيلها وعصرها، فهي من ذلك الصنف من النساء الذي يبرز في الأزمات كالمرأة التقوعية الحكيمة التي استعان بها يوآب في إرجاع أبشالوم من المنفى، أو الأخرى التي أنقذت مدينتها من الحصار عندما حاصر آبل بيت معكة، يوم فتنة شبع بن بكري، ولاشك أن شهرة أحكامها قد ذاعت في طول البلاد وعرضها وعرف عن أحكامها ما فيها من دقة وعمق وأصالة، وبعد عن التحيز والهوى والعاطفية التي جعلت بعض الدول تتردد في أن تجعل المرأة قاضية، أو على الأقل أن تجلس للحكم في ذلك النوع من القضايا الذي قد يخرج بها عن العدالة أو الإنصاف تحت تأثير العاطفة المفتعلة أو الشعور الوقتي. مرهوبة الجانب:- هذه الشخصية الحكيمة ولاشك مرهوبة الجانب محترمة من الجميع، وقد وصفها يوسيفوس المؤرخ اليهودي، أنها كانت موضع المهابة والاحترام، ليس في جيلها فحسب، بل في التاريخ اليهودي بأكمله، ولا يبدو هذا في قدرتها على وضع أحكامها كقاضية موضع التنفيذ، في عصر وصف أبلغ وصف بالكلمة التي جاءت في ختام سفر القضاة: «في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينيه». بل أكثر من ذلك في أنها وجهت الأمة ودعتها إلى الحرب، ورفض القائد أن يتحرك للقتال ألا اذا كانت هي على رأس الجيش، تسير إلى جواره خطوة فخطوة، والشيء العجيب في هذه المرأة أنها كانت تجمع بين قوة السكون، وقوة الحركة، كانت جالسة تحت نخلة دبورة، تحكم كما يحكم ملك من عرش، وعندما دعت باراق ابن أبينوعم إلى القتال، لم تذهب هي إليه، بل دعته ليأتي إليها، وفي هذا اعتزاز كبير بشخصيتها القوية، ولسلطانها الآمر، على أنها في قوة الحركة هي دبورة أو «نحلة» فهي أشبه بالنحلة المتحركة التي لا تستطيع أن تهدأ أو تسكن حتى تنفذ ما تريد، وتتمم ما ترغب!! فياضة الأنوثة:- على أن هذا كله لم يكن على حساب أنوثتها، أو مركزها كامرأة، لقد كانت هذه المرأة زوجة، وأما في ذات الوقت كان زوجها «لفيدوت» أو «مصباح» معروفًا ومذكورًا،.. كما أنها إلى جانب ذلك كانت أما، وأغلب الظن أنها كانت أما في بيتها، اذ كان لهما أولاد،.. ولكن أمومتها اتسعت لتشمل البلاد بأكملها، فإذا أضفنا إلى هذا كله أنها غنت شعرًا، والشاعر على الدوام إنسان مرهف الحس رقيق المشاعر، تبين إلى أي مدى كانت هذه المرأة دفاقة العاطفة، فوارة الاحساس مما يؤكد أن أنوثتها لم تذهب أدراج الرياح، وهي تفكر أو تقضي أو تعطي المشورة لشعبها. مفتوحة العينين:- كان عصرها عصر المأساة والنكبة، ومثل هذا العصر ليس من السهل على الإنسان أن يبصر فيه ما قد يحيط به الظلام من كل جانب، لكن هذه المرأة كانت «نبية» اخترقت عيناها الحجب الكثيفة، لترى رؤى الله، مفتوحة العينين، مكشوفة الحجاب، وقد وصلت إلى هذه الرؤيا لأنها كانت امرأة تقية، قريبة من الله، في أرض الاعوجاج والشر، ولعل من أكبر البركات في حياة الإنسان رجلاً كان أم امرأة، أن تكون له هذه الشفافية، فيرى خلف المنظور مالا يرى، ومن لا يرى، وطوبى للأتقياء القلب لأنهم يعاينون الله... شجاعة القلب:- ومن العجيب أن هذه المرأة، إلى جانب هذا كله كانت تحمل بين جنبيها أرق المشاعر وشجاعة الأسد، فهي لم تدع باراق إلى الحرب فحسب، لكنها سارت معه إلى الميدان، عندما طلب ذلك، ومع أنه ليس من السهل على الإنسان أن يتصور امرأة تقود أو تدفع جيشًَا إلى القتال، وأنها إذا سارت إلى ميدان القتال أو المعركة، فلكي تعمل على إيقاف نزيف الدم المنهمر بين المحاربين في أعمال الأغاثة والإسعاف والتمريض، إلا أن الذي يعنينا الآن في هذه المرأة، ونحن بصدد التعمق في تحليل شخصيتها مقدار ما كانت عليه من صلابة وشجاعة تستروح معها صيحة الحرب وقعقعة السلاح كانت دبورة في الواقع على حظ عال كبير من قدرة الفكر، والتهاب العاطفة، وجبروت الإرادة، وتكامل الشخصية غير العادية ونادرة الوجود!!.. دبورة وقضيتها:- كانت هذه المرأة قاضية في جيلها وعصرها، وكم حكمت ولاشك بين المئات أو الآلاف من المتنازعين الذين وفدوا لكي تفصل بينهم فيما أثاروا من شكاوي أو خصومات، لكنها تحولت هي فيما بعد إلى قضية عامة تنتقل من جيل إلى جيل، ومن بلد إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع، قضية المرأة، وهل من حقها أن تأخذ مكان القيادة أو الصدارة، وهل هذا الحق مطلق، وعام، وشامل!!؟ أم هو حق نسبي أو استثنائي لا يأتي إلا في أوقات خاصة، وظروف معينة!؟ ربما نكون أقدر على الأجابة أو أتيح لنا أن نمسك بها كقضية كتابية ندرسها بتأمل وعمق وإمعان في ضوء الحق الإلهي الظاهر من الوحي المقدس، وكلمة الله، وقضية دبورة على هذا الأساس تحمل الخصائص التالية:- قضية إقناع:- وهذه الظاهرة الأولى في هذه القضية، فان أول أوصاف دبورة أنها «نبية» وهي ثاني نبية يذكرها الكتاب المقدس بعد مريم النبية «أخت موسى وهرون»، وهي النبية الوحيدة خلال أربعة قرون بين قضاة إسرائيل، وكان من المستحيل أن تظهر على المسرح إلا بعد اقتناعها واقتناع الشعب بصوت الله الذي جاء إليها، وليس في الكتاب ما يفصح عن النبوات التي تنبأت بها، فيما خلا إعلانها لباراق عن دعوة الله له ليقود المعركة، غير أنه من الواضح أن الشعب آمن بأنها تحمل رسالة الله، وأن صوت الله في فمها، وأن قوتها الصحيحة والحقيقية، بل إن شجاعتها الفائقة لم تكن كلتاهما صادرتين عن مجرد استعداد طبيعي في كيانها البشري، بل ليقينها الكامل بأنها مدفوعة من الله لغاية مقدسة... هذا هو الأمر الذي نطلق عليه في لغة الإيمان المسيحي بالدعوة العليا ومع أنه كما قال أحدهم: لم يعد من طبيعة المرأة أو من عملها أن تدعو إلى الحرب كما فعلت دبورة دفعاً للاستعباد أو الطغيان الذي وقع فيه الشعب بعد أن أسلمه الرب لأعدائه نتيجة لشرهم وخطاياهم، إلا أن الدعوة العليا في الرسالات المفتوحة أمام المرأة هي أول ما ينبغي أن تتحققه على نحو أكيد قاطع، لا يستشار معه كما يقول الرسول بولس لحم ودم، بل تندفع إليها بكل حماس ودون أدنى تردد، وقد جاءت أعداد كثيرة من النساء بعد دبورة، وتحققن من الرسالة التي وضعت عليهن وسرن وراء إعلانها الخاص وندائها الإلهي،... كانت ماري ريد مرسلة كسائر المرسلات اللواتي يعملن في الهند، ولكنها يوماً ما وقع نظرها على أبرص، فامتلأ قلبها ألماً ورأت الله يدعوها لخدمة البرص، فكرست حياتها لخدمتهم، وانتقلت اليها العدوى، ولكنها لم تجزع بل خدمت، وفنيت في خدمتهم، إذ كانت هذه رسالتها الموضوعة عليها في الأرض،... أبصرت جين ادامز متسولاً فقيرًا يلتقط قطعة من الكرنب من القمامة ويأكلها في الحي الشرقي في لندن، حي الفقراء، فآلمها المنظر وكرست حياتها لخدمة الضائعين المتشردين،... وهل يمكن أن ننسى خدمة اليزابيث فراى مع المسجونين وفلورنس نايتنجيل مع الجرحي، وفرانسيس ويلارد مع المدمنين والسكيرين، وهاريت بيتشر التي كتبت قصتها المشهورة «كوخ العم توم» للخلاص من الرق والعبودية، ومدام كوري مكتشفة الراديوم، وأمثالهن اللواتي كن نبيات عصرهن والعصور اللاحقة، فيما أدركن من رسالة عشن لها علي نحو عظيم ونبيل، لمجد الله، وخدمة الإنسانية، ورفع الألم والعار والتعاسة عن أعداد لا تنتهي من المعذبين في هذه الأرض!!.. قضية بيت:- وبيت دبورة لم يضع في زحام قصتها العظيمة، إذ كانت زوجة «لفيدوت» ومعنى اسمه كما ذكرنا «مصباح» وهذا المصباح لم ينطفيء أو يخفت نوره خلف شخصيتها العظيمة، كما أن بيتها حيث ألفت أن تجلس تحت ظل نخلة دبورة كان بيتًا شهيرًا ومعروفًا، وأمومتها تؤكد ما قاله بصدق د.م. مكاي عندما وصفها بالقول: «ما هو الشيء العام الذي نلحظة على دبورة، هذا الأمر العام، أنها كامرأة عاملة لم تفشل في حياتها الخاصة، ونجاحها في حياتها العامة لم يبن على أنقاض حياتها البيتية، إذ لم تتلمس شهرتها ومجدها على أساس قذارة بيتها أو عدم المحافظة عليه أو على الشقاء أو عدم العناية التي يمكن أن تصيب زوجها وأولادها، وقد تقول كيف عرفت ذلك أجيبك أني عرفته من قولها أقمت أنا أما، وهل تظنون أن دبورة كانت تقول هذا لو أنها كانت فاشلة في حياتها البيتية كلا، بل أنها تقول: لا تحسبونني شاذة أو نبية بدوية، لأني وإن كنت نبية فأنا كغيري امرأة وادعة....» ولا شبهة عند هذا كله، أن نذكر أن المكان الأول للمرأة في كل العصور هو بيتها.. وأنها تستطيع أن تقدم أعظم الخدمات للحياة والكنيسة والمجتمع البشري، إذا استطاعت أن تبني بيتها، وتحسن معونة زوجها، وتربية أولادها تربية روحية دينية صافية، كانت زوجة لأحد خدام الله الإنجليز، وكان زوجها فقيرًا، وأنجبت أربع فتيات، أشرفت على تعليمهن وتربيتهن، وتزوجت الأولى بورن جونز الرسام العظيم، وتزوجت الثانية لورد بونيتير، وأصبحت أما للسير هوج بونيتير الكندي المشهور، وتزوجت الثالثة جون كبلنج وأنجبت أربع فتيات، أشرفت على تعليمهن وتربيتهن، وتزوجت الأخيرة رجلاً اسمه بولدوين الذي كان أبًا لبلدوين رئيس وراء بريطانيا في يوم من الأيام،.. وفي كل بلد ووطن تستطيع الأم الصالحة أن تخلق جيلاً ممتازاً لخدمة الله ومجد الأوطان والجماعات والشعوب. قضية قيادة:- والآن نأتي إلى السؤال الهام والحيوي، هل من حق المرأة أن تأخذ المراكز القيادية، على انفراد أو مشاركة الرجل في كل ميدان، وهل يشجع الفكر المسيحي مثل هذا الاتجاه؟ وهل تلقى قصة دبورة مزيداً من النور علي الرأى الصحيح من هذا القبيل؟ وأيا كانت الأفكار المختلفة والمتباينة في الإجابة على هذا السؤال، فمما لاشك فيه أن هناك ظاهرة تستدعى الالتفاف، أنه بدراسة الوحي والتاريخ، نجد أن الشخصيات غير العادية من النساء كن يظهرن في وقت الأزمات والشدائد وليس هذا بالغريب، سواء نظرنا إلى الظاهرة من خلال التفكير الديني أو الاجتماعي على حد سواء، فمن الوجهة الدينية هناك قاعدة أكيدة ثابتة، أنه إذا كان البشر يفاجأون لمحدودية أنظارهم وأعمارهم بهذه الصور أو تلك من أزمات الحياة، فحاشا لله أن يفاجأ على الإطلاق، بأية آزمة بل أنه في عنايته الشاملة يعد للأزمة أبطالها من الرجال أو النساء، الذين ينسجهم في بطن الزمن أو التاريخ ليظهروا في اللحظة المناسبة، وفي الوقت الدقيق، أليس هو القائل للشعب: أرسلت أمامك موسى وهرون ومريم، وأليس هو الذي أعد أستير لمواجهة المؤامرة التي كانت وشيكة الوقوع، كما سنشير في إفاضة الى ذلك، عند عرض قصة هذه الملكة القديمة، وأليس هو الذي أعد الكثير من البطلات والشهيدات، في أقسى عصور الاضطهاد والآلام ليكتبن أروع ما يمكن أن يكتب من سطور العظمة والمجد، أما إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة بتفسيرها الاجتماعي، فإننا نعلم أن الضغط يولد الانفجار، والآلام تصنع البطولة والشدائد تخلق أنبل الناس وأعظمهم وأقواهم على الأطلاق.ولعل عيون الكثيرات من أصحاب النفوس النبيلة، عندما تفتحت على تعاسة الآخرين وآلامهم كانت أشبه بعيني السامري الصالح، وهو يرى المنكوب الجريح على حافة الطريق الذي كان يسير فيه. وفي مثل هذه الأزمات لا يهم عند الله أن يستجيب لندائه رجل أو امرأة، فاذا لم يجد الله الرجل، سيجد المرأة التي تكون كما قال أحدهم: قريبة إلى إراداته وقلبه، وتتحرك للخدمة المقدسة، إذا كان الرجل غارقًا في هوانه أو ضعفه أو مشغولاً بالتافة أو الحقير من أوضاع هذه الحياة، وهذا ما كان عليه اليهود تماماً في عصر القضاة إذ تركوا الرب إلههم الحي الحقيقي ليعبدوا آلهة حديثة، وانحطوا إلى أبعد حدود الانحطاط دينيًا وأدبيًا واجتماعياً، فانفصل عنهم وتركهم، وباعهم، لينالوا ما وصلوا إليه من ضيق واستعباد وآلام وتعاسات.والأزمات بهذا المعنى لا يمكن أن تؤخذ قياسًا مطلقًا يبني عليه المبدأ أو يتوسع فيه، كما ينبغي أن نلاحظ أن دبورة لم تعمد حتى في قلب هذه الأزمة، إلى أن تنشيء جيشًا أو تقوده كما فعلت جان دارك في التاريخ الفرنسي، بل رأت أن تدعو رجلاً إلى مكان القيادة، وعندما رفض الرجل أن يذهب إلى المعركة بمفرده، رضيت أن تذهب معه، على أن يدرك الفارق الطبيعي بين الرجل والمرأة، فهي لم تخلق للقتال كما يفعل الرجل، لكن رسالتها أن تقف خلف المقاتلين لتقوى وتشجع وتحفز وتدفع إلى الأمام ومن ثم فمن الطبيعي أن ندرك أن الأزمات تضع تحفظًا مضاعفا على ما ينادون بمساواة المرأة والرجل في الأعمال أو الوظائف أو الخدمات العامة، وهي أكثر من ذلك في نظر الفريق الأخر، استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يجوز الأخذ به أو القياس عليه!! بل على العكس هو الضرورة التي لا يتجه إليها إلا في أضيق الحدود وأدق الأوقات فاذا طرحنا القضية في معناها الواسع، وليس فقط في حدود العهد القديم، بل ونحن نطل على المرأة في العهد الجديد، وفي التاريخ المسيحي على بعد أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنًا من المرأة القديمة، كان لنا أن ندرك باديء ذي بدء أن مبدأ المساواة في المسيحية بين الرجل والمرأة أمر لا خلاف عليه، وأن الحضارة العظيمة التي وصل إليها الإنسان كان من العسير أن تتحقق من غير هذه المساواة، وأن نظرة واحدة بين ما كانت عليه المرأة أيام الحضارة الأغريقية أو الرومانية وما هي عليه الان ترينا مدى ما وصلت إليه من حرية لم تكن تحلم بها على الاطلاق، وقد أشرنا إلى هذا، عند الحديث عن شخصية بريسكلا، ويكفي أن نذكر هنا أن المسيح حطم كل الحواجز بين المرأة والرجل، أو كما يقول الرسول بولس: ليس ذكر ولا أنثى، وأوضحها بالقول: «غير أن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب...» غير أن هذه المساواة لا تعني الاندماج العملي أو الوظيفي في كل شيء، بل أن هناك أشياء يعملها، في الأصل، الرجل، وليس من السهل أن تعملها المرأة، والعكس صحيح، والتنظيم الوظيفي أمر يلفت الرسول النظر إليه في معرض هذه القضية عندما يقول: «أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم أن الرجل ان كان يرخي شعره فهو عيب له، وأما المرأة ان كانت ترخي شعرها فهو مجد لها لأن الشعر قد أعطى لها عوض برقع...» فوظيفة المرأة أو تكوينها أو طبيعتها أو نوع حياتها كأنثى، شيء يختلف تماما عما للرجل، وقد وضع الله من هذا القبيل القيادة للرجل، اذ وضعه موضع الرأس من الجسد كما يقول الكتاب: «لأن الرجل رأس المرأة» ولا يعني هذا للحظة واحدة معنى السيادة أو السيطرة أو التسلط بل بالأحرى التحرك والعمل على نظام ثابت دقيق، فالرأس لا يستطيع الاستغناء عن الجسد أو الانفصال عنه، أو أخذه بأي أسلوب من الشدة أو العنف أو القسوة، دون أن يرتد هذا الأثر عليه هو أولا وقبل كل شيء، إن العلاقة بين الرأس والجسد كالعلاقة بين أي رئيس وأمته أو أي قائد وجيشه، علاقة وظيفة لا يمكن أن يتصور فيه سوى الرابطة التي تحكم الاثنين، على وجه التكامل والتناسق والترتيب.وقد أحكم السيد المسيح هذه القاعدة، وطبقها بالمعنى الكامل الدقيق، ففي الوقت الذي جمع فيه حوله من الأتباع الرجال والنساء على حد سواء، دون أدنى تفرقه، كان هناك التلاميذ، وكانت هناك النساء اللواتي كن يخدمنه من أموالهن، وفي الوقت الذي ظهرت فيه العلاقة بين الجميع على أرفع وأرقى لون حضاري عرفه الإنسان حتى يومنا الحالي، وطبقته الكنيسة المسيحية عندما كانت المرأة تسير جنبًا إلى جنب إلى جوار الرجل، في أورشليم واليهودية والسامرة، وفيلبي وكورنثوس وتسالونيكي وروما وسائر الكنائس التي ظهرت في آسيا وأوروبا معًا.. لم يمنع هذا من التمييز بين العلاقة الوظيفية والتنظيمية بين الرجل والمرأة سواء في داخل الكنيسة أو خارجها وعلى النحو الواضح الملحوظ في الإنجيل أو التاريخ!! فمثلاً لماذا لم يختر المسيح من بين تلاميذه الاثنى عشر أو السبعين امرأة واحدة أو أكثر ولماذا قصر هذا على الرجال دون غيرهم، ولماذا لم يختر للكنائس المختلفة امرأة لتكون أسقفًا أو شيخًا، أو لماذا لم يكن ملاك واحدة من الكنائس السبع من بين النساء، رغم وجود الكثيرات اللواتي كن من أعظم الشخصيات، وكان أثرهن في الكنيسة في بعض الأوقات أعمق وأقوى من أثر الرجال، كليدية وأفودية وسنتيخي في فيلبي، وبريسكلا التي كانت الكنيسة تنتقل في بيتها بانتقالها من مكان إلى آخر، وكانت على قدرة تعليمية، مكنتها من تعليم أبلوس العظيم طريق الرب بأكثر وضوح، ومع أن بولس في ختام رسالة رومية بعث بتحياته إلى مجموعة من النساء وصفهن في الخدمة والعمل بأجل الأوصاف، ومع أن يوحنا الرسول كتب رسالته الثانية إلى كيرية المختارة، فاننا لا نعثر في الكنيسة الأولى على وظيفة قيادية للمرأة، ما خلا فيبي التي ذكر أنها خادمة الكنيسة في كنخريا ويمكن أن تترجم الكلمة «شماسة» وتاريخ الكنيسة الأولى لا يتحدث كمبدأ عام عن استخدام النساء كشماسات، وحتى لو جاز هذا فان هذه الوظيفة، وقد أخذتها المرأة على هذا النطاق الاستثنائي، لا تؤخذ بالمفهوم الكتابي المطلق.. معنى الوظائف القيادية الكبرى في الكنيسة:- على أن البعض يقول إن المسيحية كان من العسير عليها أن تعطي المرأة مثل هذه الوظائف القيادية، في وقت كان فيه مركز المرأة عند الرومان أو اليهود على حد سواء في أدنى المستويات، ولم يكن العالم مؤهلا لأن يراها في مثل مركزها العتيد، وأنه كان لابد من التدرج في هذه الحركة، حتى تفهم على صحتها، وحتى تحرر من السلبيات أو الأضرار التي كان يمكن أن تنشأ فيما لو فقدت التوازن بينها وبين تقدم المرأة التدريجي في التاريخ، ومع أن الرأى يبدو سليما إلى حد ما فإن المسيحية لم تقطع صلتها البتة بالأجواء والظروف والبيئات المحيطة بها، وأن ما يصلح في مكان لا يصلح بالضرورة في مكان آخر، كما أنها تدفع الحركات التقدمية في كل التاريخ إلى الأمام، غير أن هذا الرأى ما يزال قاصرًا عن ملاحظة أن الموقف الحضاري بالنسبة للمرأة المسيحية ظهرت أضواؤه بوضوح كما أشرنا من الدقيقة الأولى للمسيحية في العالم، وأن الطليعة بين النساء من أيام مريم العذراء، والمجدلية وليدية، وبريسكلا، وفيبي، وغيرهن، كان لهن من الجلال والنفوذ والتأثير ما يشجع على أن يأخذن كافة المراكز القيادية أسوة بالرجل دون أدنى تردد أو اقحام؟ لكن المسيحية لم تفعل لأنها ما تزال تفرق بين المساواة والتنظيم الوظيفي للذكورة والأنوثة في حياة الناس، وأن مريم العذراء أم المخلص، والتي اصطفاها الله وفضلها على جميع النساء في العالم، هذه السيدة المباركة أمر الرب أن تضم إلى خاصة يوحنا دون أن يمس هذا مركزها المقدس في شيء،.. ولكنه التنظيم الوظيفي في الحياة بين الناس، ولا شبهة في أن الكثيرات من النساء، ممن ذكرنا وغيرهن فاقت الواحدة فيهن بالخدمات، مما يتعذر على عشرات من الرجال مجتمعين معا، دون أن ينال هذا من التنظيم الذي يأخذ فيه الرجل أصلا، وعادة، مكان الرأس أو القائد فإذا عدنا لوضع السؤال بصورة أخرى، نرى فيها إمكانية وضع المرأة موضع القيادة على كافة المستويات وتخيلنا ماذا يمكن أن تكون حال الدنيا لو أن المرأة هي القائد في البيت أو الكنيسة أو المجتمع أو الجيش أو العالم بأسره، منفردة في ذلك أو متبادلة مع الرجل في هذا الموقع أو ذاك. أو سيدة أو رئيسة في بعض المجالات أو الميادين!! أيكون حال الدنيا أقل أو أسوأ؟ أيمكن أن تكون البيوت أهدأ أو أشر؟ وهل تتقدم الكنائس وتنمو أو تتراجع وتفشل؟ وهل يطلب البشر ضروريات الحياة أو ينزعون إلى الترف والكماليات؟ وهل يسود السلام أم تعم الحروب؟ كل هذه وغيرها من الأفكار التي يمكن أن تنهض عن هذا السؤال، لست أظن أنه من السهل الإجابة عليها بمعزل عن الوحي والتاريخ وأحداث العصور والأجيال ولعل القراءة المدققة لكلمة الله، وملاحظة الطبيعة، وأحداث الحياة والتاريخ تؤكد أن مكان المرأة على الدوام خلف الرجل، حيث هناك عملها ونشاطها ومملكتها العظيمة، وأنه لا يجوز بحكم التنظيم الوظيفي الإلهي لها، أن تأخذ مركز القيادة إلا من قبيل الاستثناء حين يضيع الرجل، أو يهمل رسالته أو يفقدها، أو يخور تجاهها، فلا تثريب هنا علي المرأة كالإناء الأضعف أن تحل محله في مثل هذه الحالات ليعطي المجد خالصًا وكاملاً للإله العظيم وحده الذي يستطيع أن يتمجد في الأنثى كما في الذكر سواء بسواء. دبورة وأغنيتها:- وأخيراً نأتي إلى أغنية دبورة التي غنتها غداة نصرها العظيم مع القائد باراق، والأغنية من الشعر العبري الرفيع، وتعد واحدة من أعظم الأغاني وأصدقها في التعبير عن الجو الحربي والوطني الذي قد يعيشه المرء في وطن محتل وشعب معذب، ولا نستطيع أن ننظر إلى الأغنية من هذا القبيل، دون أن نتذكر، أن دبورة غنتها في القرن الرابع عشر قبل المسيح، وأن روح دبورة أو يا عيل التي قتلت الرجل النائم الآمن في خيمتها، هي أشبه الكل بتلك الروح التي انتفضت ذات يوم في ابني زبدي وهما يريدان نارا من السماء تأتي لتحرق قرية من قرى السامرة لأنها رفضت دخول المسيح أو إيوائها له، فانتهرهما وهو يقول: «من أي روح أنتما لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص...» على أن دبورة وهي تغني لم تنظر إلى وطنها كمجرد وطن، ولا شعبها كمجرد شعب، بل نظرت إلى هذا الوطن وهذا الشعب، كأداة واعلان لمجد الله في الأرض، ومن أجل ذلك فهي تقر في يقين بأن الخراب والضياع والمأساة التي عاناها الشعب، جاءت لأنه استبدل إلهه بآلهة أخرى حديثة وانحرف عن الله، واعوج في السبيل، كما أن المعركة التي خاضتها، كانت عندها ليست مجرد معركة وطنية، بقدر ما هي معركة إلهية، ولأجل ذلك فهي تسخر من الذين رفضوا الدخول في المعركة، وجلسوا على المساقي بين الحظائر لسمع الصفير لقطعان الأغنام، وهم يتشدقون بالفارغ من حديث أو كلام كما لعنت من وقف على الحياد! ولست أتصور أن هناك ما يمكن أن نختم به هذه الأغنية بأفضل من كلمات بروفسور مكاي عندما قال: «والآن أليس بينكم من يسمع الدعوة الإلهية كما سمعتها دبورة في القديم،.. فهناك بيوت خربة، ضائعة بينكم في هذه الأيام كما كانت أيام دبورة قديمًا، فالشهوة، والإدمان، والاغتصاب، والشر هي جيوش سيسرا القديمة التي ذبحت في طريقها عشرات الآلاف في أرضنا البهيجة فماذا أنتم فاعلون تجاه هذا الخراب؟ وهل لا يوجد بينكم من ينهض كدبورة لينضم إلى ذلك الجمع النبيل من الرجال والنساء، الجمع الذي لا يمكن أن يهدأ أو يستريح حتى يضرب ضربته القاضية لمجد الله، والإنسانية؟ ألستم تسمعون نداء المسيح أيتها الأخوات من النساء؟ أجل فإنه نفس الصوت الذي جاء قديمًا إلى بنات أورشليم عندما قال: «يا بنات أورشليم لا تبكين علي، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن...» ابكين بكاء الضراعة والحزن على غيركن من أخوات خاطئات.... ألا فانهضن من فراش تنعمكن، وهدوء جمودكن وسرن مع المسيح في «طريق الآلام» لتساعدنه بمساعدة إخوتكم من الرجال والنساء...».
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل