المقالات

24 يوليو 2021

صلاة القديسين من أجلنا

القديس يوحنا الذهبي الفم يحسن بنا الإعتماد على صلاة قديسي الله ولو كنا نشيطين بتتميم الواجب، وربما تقول: ما الحاجة الى صلاة الآخرين، إذا كنت أتمم واجباتي بنشاط؟ فأنا لست بحاجة إليها! لم يقل القديس بولس الرسول: لا حاجة الى صلاة الآخرين. مع أن الذين صلّوا لأجله لا يُضاهونه بشيء. فكيف تقول انت ما حاجتي الى صلاة الآخرين عني؟ والقديس بطرس الرسول لم يقل ما الحاجة الى هذه الصلاة، بل قيل: "وكانت الكنيسة تصلي الى الله من أجله بلا انقطاع" (أعمال ٢:٥) وأنت تقول ما الحاجة الى صلاة الآخرين؟ إنها تلزم، وخاصة لأنك لا تعترف بالحاجة إليها. إنك في حاجة الى صلاة الآخرين، ولو كنت معادلاً للرسل المتقدمين على غيرهم.إنني أكرر القول أن صلاة الغير من أجلنا نافعة لنا إذا كنا نتعب بتأدية واجباتنا. أما شهد رسول المسيح بقوله :"لأني أعلم أن هذا يؤول الى خلاصي بصلاتكم وبإعانة روح يسوع المسيح" (فيلبي ۱:۱٩) "والذي ينقذنا الآن بمعونة دعائكم لنا حتى أن كثيرين يودون الشكر على الموهبة" (٢كور ۱:۱٠و۱۱) ولكن لا أحد يستطيع أن يساعدنا بصلواته إذا كنا متهاملين. فما الفائدة التي حصل عليها النبي إرميا لليهود؟ ألم يصرخ الى الله ثلاثاً ويسمع ثلاثاً: "وأنت فلا تصلي عن هذا الشعب ولا ترفع صراخاً ولا صلاة لأجلهم ولا تشفع إليّ فإني لا أسمع لك" (إرميا ٧:۱٦) وما المنفعة التي قدّمها النبي صموئيل للإسرائليين؟ ألم يهلكوا جميعاً غير ناظرين إلى نبي الله الذي شهد عن نفسه: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ الى الرب وأترك الصلاة من أجلكم" (ملوك الأول ۱٢:٢٣) لذلك يجب أن نعلم أن صلاة الآخرين من أجلنا تعود علينا بالنفع العظيم إذا قمنا بواجبات الصلاة نحن أيضاً. إن الصلاة تعمل وتساعد من يتمم واجباته، أما إذا كان متكاسلاً فلا تعود عليه بفائدة. ألم يصلِّ القديس بولس الرسول من أجل العالم بأسره؟ ألم نصلِّ نحن من أجل خلاص الجميع؟ فلماذا لا يصير الأشرار أبراراً؟ لأنهم لا يهتمون لنفوسهم! فالصلاة من أجلنا تفيدنا إذا أتممنا ما يجب علينا. أتريد أن تعرف أيها المسيحي كيف تكون الصلاة نافعة لنا؟ اسمع ما يقول يعقوب للابان: "ولولا أن إله أبي ابراهيم ومهابة اسحق معي لكنت سرحتني فارغاً" (تك ٣۱:٤٢) واسمع أيضاً ما قال الرب الإله: "فأحمي هذه المدينة وأخلّصها من أجلي ومن أجل داود عبدي" (الملوك الرابع ۱٩:٣٤) لكن متى يكون هذا؟ كان بواسطة حزقيا الذي كان صديقاً. ولكن إذا كان للصلاة قوة أثناء الشدائد العظيمة فلماذا أسلم الرب المدينة الى نبوخذنصر عند هجوم البابليين؟ لان الفساد ازداد في تلك الأيام، وهكذا النبي صموئيل من أجل الإسرائليين، نجح لما أرضى الإسرائلييون العلي. وربما تقول ما الحاجة الى صلاة الآخرين من أجلك إذا كنت عائشاً في طاعة الله؟ فهذا لا يجوز لك أن تقوله مطلقاً بل اسمع ما قاله السيد الرب عن أصحاب أيوب: "إن عبدي أيوب يصلي من أجلكم فتترك لكم خطاياكم" (أيوب ٤٢:٨) لأنهم قد خطئوا ولكن خطيئتهم لم تكن عظيمة، وهذا الصديق نفسه الذي خلّص اصدقاءه لم يقدر أن ينقذ اليهود من الهلاك لأن "إثمهم كان عظيماً" (حزقيال ۱٤:۱٤). وقد قال السيد الرب بواسطة أنبيائه: "ولو كان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة نوح ودانيال وأيوب إنهم لا ينقذون لها بنين ولا بنات والأرض تصير مستوحشة" (حزقيال ۱٤:۱٥) "لو أن موسى وصموئيل وقفا أمامي لما توجهت نفسي الى هذا الشعب" (إرميا ۱٥:۱) وعندما صرخ النبي حزقيال: "آه أيها السيد أتهلك جميع بقية إسرائيل". عرَّفَه الرب أن عدم مساعدته للاسرائليين لم تكن لأنه توسط لهم بل "لأن إثم اسرائيل ويهوذا عظيم جداً" (حزقيال ٩:٨ و٩). فبتذكرنا أيها الاحباء كل هذا يجب ألا نحتقر صلاة القديسين أو نعتمد عليها وحدها، بل لنحافظْ على الشرط الثاني أي ألاّ نتكاسل، ونصرف حيلتنا في البطالة، حتى لا نُحرَم من الخيرات العظيمة. لنسألْ سكان السماء القديسين أن يساعدونا بصلواتهم لنقضي حياتنا في الصلاح حتى نحصل على الملكوت الأبدي. عن كتاب "منهج الواعظ" للمطران أبيفانيوس زائد مجلّة التراث الأرثوذكسي
المزيد
10 يونيو 2021

عظة على عيد الصعود

بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد يا مَن صعد إلى السماء جسدانياً، وهو يملأ الكل بلاهوته، أيها المسيح إلهنا، أَصْعِد هِمَمنا من تنازُل الأرضيات إلى اشتياق السمائيات. يا مَن شرَّف جنس البشر بارتفاع الجسد المأخوذ منهم إلى حيث مجد لاهوته الأزلي، أيها السيد، ارفع عقولنا من تنازُل رذائل هذا العالم إلى ارتقاء ذلك الدهر المستأنف (الآتي).يا مَن عظَّم الإنسان الترابي وجعله أهلاً أن يصير سمائياً، اقبلنا إليك أيها الرب الإله الذي يعلو الكل وهو فوق كل رئاسة وسلطان. وهَب لي أنا - أيها القدوس - قولاً لأتكلَّم على كرامة صعودك إلى (الموضع) الذي لم تَزَل فيه أزلياً.يا مَن وهب للأرضيين أن يبلغوا رتبة السمائيين، أعطني نطقاً يا عمانوئيل إلهنا، الذي أعطى قوةً للجسدانيين أن يصيروا روحانيين، لأنطق على جلالة ارتفاعك العجيب بالجسد إلى السموات التي أنت فيها باللاهوت لم تَزَل.امنحني معرفةً يا مَن وهب فضلاً وخلاصاً وارتفاعاً لجنسنا الذي كان ساقطاً في هاوية الهلاك، وصيَّره فوق ملكوت السماء الباقية، لأُخبر بحُسْن بهائك وأنت صاعد إلى علو سمائك، وأُرتل مع داود المزمِّر وأقول: «صعد الله بالتهليل. الرب بصوت القَرْن. رتلوا لإلهنا، رتلوا لملكنا، لأن الله هو ملك الأرض. رتلوا بفهم لأن الرب هو ملك على كل الشعوب. جلس الله على كرسي مجده» (مز 47: 5-8).أُعلنُ معه أيضاً بدخولك في أبواب المجد الدهرية وأقول: «ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية، ليدخل ملك المجد. من هو ملك المجد؟ رب القوات هو ملك المجد» (مز 24: 9-10).وأُخبر معه أيضاً بالسبي الذي اقتلعه من يد الشيطان بصعود الجسد الذي اتَّحدْتَ به وأَفضْتَ مواهبك على البشر وأقول: «صعد إلى العُلا، وسبى سبياً، وأعطى الناس مواهب» (مز 68: 18). ونسجد لك ونسبح جميعاً معه قائلين: «يا جميع ملوك الأرض سبِّحوا الله، رتلوا للرب الذي صعد إلى سماء السماء في المشارق» (مز 68: 33). ونرسل لك أيضاً معه تسبيحاً جديداً، لأن الأشياء العتيقة قد زالت وكل شيء قد تجدَّد بك أيها المسيح الرب، الذي جدَّد الخليقة بقيامته وأعلى رتبها بصعوده. ونقول جميعاً باتفاق واحد: «سبِّحوا الرب تسبيحاً جديداً، سبحوا الرب (يا) جميع الأرض، باركوا اسمه، بشِّروا يوماً فيوماً بخلاصه. قولوا في الشعوب إن الرب قد ملك» (مز 96: 1-10)، أعني غلبة الشيطان، وأن الجسد قد ظفر بالمُلك الأبدي كما قال لرسله بعد قيامته: «أُعطيتُ كلَّ سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 28: 18). وإن كان السلطان له لم يَزَل، وإنما أعني الجسد الذي أُعطي كرامةً وسلطاناً لم يكن (له) باتحاده باللاهوت وإقامته من بين الأموات. وهكذا تفهَّم في نوع الصعود والجلوس والمُلْك مثل ذلك كقول داود: إن «الرب ملك، سحاب وضباب حوله، بالعدل والحكم أتقن كرسيه» (مز 97: 1-2)، هذا هو المُلك الذي يعنيه جبرائيل الملاك للسيدة مرتمريم البتول قائلاً: «ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لمُلْكه انقضاء» (لو 1: 33).وداود أيضاً يقول: «قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك تحت موطئ قدميك، عصا قوة يُرسل لك من صهيون وتملك في وسط أعدائك إلى الأبد» (مز 110: 1-2). وهذا الموضع فسَّره الرب في الإنجيل. وهكذا اسمه القدوس قد ملك في وسط أعدائه وليس إلى وقت ينقضي بل إلى الأبد بلا انقضاء. وعَنِيَ بأعدائه الشياطين المَرَدَة واليهود الكفرة والذين لم يُذعنوا للإيمان باسمه، كما قال: «أعدائي الذين لم يشاؤوا أن أملك عليهم، ائتوني بهم واذبحوهم قدامي» (لو 19: 27)، أعني انتقامه منهم في استعلانه الثاني.بحقٍّ، أيها الإخوة الأحباء، إن كرامة هذا العيد الشريف جليلةٌ جداً، أعني عيد صعود ربنا يسوع المسيح إلى السماء، لأن فيه كمال التدبير بالتجسُّد العجيب. اليوم صعد الرب إلى السموات بالجسد وهو فيها باللاهوت لم يَزَل. وإنما ذكر نزوله أي أنه تجسَّد وذكر صعوده أنه أصعد الجسد الذي اتحد به إلى فوق كل رئاسة وسلطان. اليوم صعد الرب إلى سماء السموات وخضعت له الملائكة والرؤساء والقوات. اليوم صار (الجسد) الذي كان تحت الكل ساقطاً في التراب والبلوى، فوق الكل في سماء السموات. ولما نظرت البشر إلى الجسد الذي كان ساقطاً في الهاوية، أنه قد علا إلى سماء السموات فوق كل ما يُرى وما لا يُرى، علموا أن الهلاك قد مضى والأشجاب قد ذهب وانقضى، ومجد حرية البنوة قد استنار بربنا يسوع المسيح. لأن كيف تستطيع الأرض الصعود إلى السماء لو لم يتحد بها رب السماء بالتجسُّد العجيب، ويصعد إلى حيث مجده غير المُدْرَك. كيف يقدر الجسدانيون (أن) يصيروا روحانيين، لو لم يتجسد منهم رب الأرواح وإله كل ذي جسد، ويصلح كل شيء كما يليق به. كيف يقدر المسجونون تحت حكم الموت والفناء أن يبلغوا رتبة الذين لم يوجب عليهم حكم الموت، أعني الملائكة، لو لم يخالط طبيعتهم البار غالب الموت ويصعدها فوق الكل، وكل شيء خضع تحت قدميه. لم تصر لنا النعمة بمقدار الزلَّة، بل عظمة نعمة ربنا يسوع المسيح فاقت كل زلَّة وهفوة، وبلغت في العلو حتى نفذت سماء السموات فوق كل الملائكة والرؤساء والقوات.أليشع النبي يعلِّمنا سرَّ صعوده، وذلك أنه مكتوب في أسفار الملوك أن بني الأنبياء أتوا إلى أليشع النبي وسكنوا عنده، فقال لهم يا إخوة ليس في المكان بسعة لنا جميعاً، فاقطعوا لكم خشباً من على شاطئ نهر الأردن واصنعوا لكم محلات لتأووا فيها وتجدوا سكناً جيداً. ولم يكن عندهم سوى فأس واحد. فأخذوه ومضوا يقطعون به، فانقلعت العصاة من الفأس وسقط الحديد في نهر الأردن. وكان الموضع مهبط مياه قوي التيار جداً. فأتوا وأعلموا أليشع النبي بذلك. فأخذ عصا جديدة غير تلك الأولى وأتي إلى الموضع الذي سقط فيه الفأس، وألقى العصا الجديدة في النهر. فنزلت العصا إلى قعر النهر ودخلت في الفأس وأصعدته إلى فوق أعلا النهر. فمد النبي يده وأخذ الفأس (2مل 6: 1-7). وكان هذا مثالاً بروح النبوة على البشرية التي سقطت في بحر العالم ورسبت مثل حديد ثقيل، ولم تقدر (أن) تصعد إلى الشرف الفاضل. فتحنن الرب السماوي واتحد بجسد طاهر لم يُعتَّق بالخطية، بل أخذه من البتول مرتمريم بغير زرع بشر، ثم أصعده بغير مانع كما يليق به، وأعطى لجنسنا القوة على الصعود معقولاً إلى حيث مجده، كما يقول الرسول: «نتمسك بالرجاء الذي وعدنا به، الذي هو بمنزلة المرساة التي تمسك أنفسنا لئلا نزول، وندخل حتى نجاوز حجاب الباب، حيث سبق فدخل بدلنا يسوع («حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا») وصار حبراً دائماً» (عب 6: 18-20). وقال أيضاً: «فلنقترب الآن بوجوه مُسْفرة (مكشوفة) إلى كرسي نعمته لنظفر بالرحمة ونستفيد (ونجد) النعمة ليكون لنا ذلك عوناً في زمان الضيق» (عب 4: 16-17).يعقوب إسرائيل تقدم فأبصر كيفية صعود الرب، حيث أبصر سُلَّماً مرتفعاً من الأرض إلى السماء، وملائكة الله نازلين وصاعدين عليه، والرب فوق أعلا السُّلَّم (تك 28: 12-13). يدل هذا على تدبير الرب الذي أكمله بالجسد البشري، وارتقى من واحدة إلى أخرى كنوع السلم حين التجسد إلى حين الصعود والملائكة خادمون له. في ذلك باشره من حين البشارة إلى حين القيامة والصعود.هَلُمَّ في وسطنا اليوم أيها الإنجيلي القديس لوقا لنأخذ منك سياقة القول على صعود الرب، وكيف كتبتَ الإنجيل بتأييد الروح من ابتداء الجسد وأكملته بالصعود؛ ثم ابتدأت أيضاً بالصعود في كتاب الإبركسيس وجعلته فاتحة القول (أعمال الرسل - الأصحاح الأول)؛ ثم ذكرتَ كيف كان كمال الإنجيل، وجمعت الاثنين في حال الصعود وقلتَ: «قد كتبتُ كتاباً يا ثاوفيلا»، أعني الإنجيل المقدس. قال: «في جميع الأمور التي ابتدأ يسوع في فعلها وتعليمها»، أعني سياسة تدبير الرب وأنه عمل أولاً وعلَّمنا أن نتبع أثره. ولكي ما يظهر بهذا أن كل ما عمله إنما كان لأجل تأديبنا وتعليمنا، وليس حاجة به إلى ذلك، أعطانا بهذا مثالاً أن نعمل ونعلِّم. قال: «حتى اليوم الذي صعد فيه»، أعني أن الصعود الكريم (هو) كمال بُشرى الإنجيل، وفيه انتهى القول في نوع تدبير الله. قال: «إن من بعد ما أوصى رسله الذين اصطفاهم بروح قدسه»، أعني الوصية التي ذكرها في الإنجيل. قال: «أولئك الذين أراهم نفسه أنه حي»، أعني القيامة المقدسة التي هي أربون (أي عربون) قيامتنا. قال: «من بعد ما تألم بآيات كثيرة»، أعني بالآيات شهادات الأنبياء التي تقدمت لأجله، (وهي) تُظهر كيفية علامات آلامه المُحيية مع الآيات التي كانت وقت الصلبوت علانية، من تغيُّر وجه السماء والأرض واضطراب العناصر. قال: «في أربعين يوماً كان يتراءى لهم ويقول على ملكوت الله»، أعني أنه أربعين يوماً بعد القيامة المقدسة يظهر لهم حيناً بعد حين. فحيناً يظهر لهم ليُفرِّح قلوبهم ويُسرُّوا بمشاهدته، وحيناً يختفي بقوة لاهوته عنهم لكي يشتاقوا إليه ويحفظوا ما أوصاهم به ويتذكروه بينهم. وقوله: «يقول على ملكوت الله»، أعني كل تعليمه لأجل ملكوت السموات التي هو صاعد إليها بالجسد وهو باللاهوت حالٌّ فيها.قال: «فلما أكل معهم خبزاً أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم»، وهذه الوصية فقد تقدم ذكرها في الإنجيل، وهي وصيته لهم أن لا يبرحوا من أورشليم حتى يتدرعوا القوة من العلاء (لو 24: 49)، وها هنا أيضاً نبَّه على ذلك. قال: «بل ينتظروا ميعاد الآب». قد تقدم ووعدهم بأن يُرسل إليهم موهبة الروح، وهو والآب واحدٌ في الفعل والقوة، فلهذ ا قال: «ميعاد الآب» لكي يثبت لهم وحدانية اللاهوت بغير تجزُّء ولا افتراق. قال: «ذلك الذي سمعتموه مني»، أعني أنهم سمعوا منه ذلك، وهو والآب واحدٌ، كما قال لليهود، وأيضاً قال لفيلبُّس: «مَن رآني فقد رأى الآب» (يو 14: 9)، قال: «يوحنا عمَّد بالماء وأنتم تُعَمَّدون بالروح القدس». ذكر هاهنا شرف المعمودية التي هم مزمعون أن يقبلوها بحلول الروح القدس عليهم عندما تعطيهم موهبة الكمال، وأن يوحنا شُرِّف بالعماد لكن بالماء، وأنتم تُعمَّدون بعماد الروح، ثم تكونون أئمةً لكل المسكونة في المولد من فوق. قال: «ليس بعد أيام كثيرة»، أعني كمال الخمسين. فلما سألوه عن مُلك بني إسرائيل الجسداني، نزع هذا التشاغل العالمي من عقولهم، ثم عرَّفهم أن الروح إذا أقبل عليهم يملأهم معرفةً ويَعْلَمون كل شيء، وليس هذا فقط بل ويقبلون قوةً فاضلةً حتى يكونوا له شهوداً وليس في مكان واحد، بل قال: «في أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقاصي الأرض».فلما أكمل لهم هذه الأشياء بأسرها وثبَّتهم على انتظار الموعد الذي من السماء، يهبط عليهم ويكون لهم مرشداً ومعزِّياً ومعلِّماً، باركهم حينئذ الربُّ الإله معدن كل البركات وصعد إلى السماء أمام أعينهم وهم ينظرون إليه. ثم قبلته سحابة ليتم المكتوب: «استوى على السحاب ومشى على أجنحة الرياح» (مز 104: 3)، أعني الجو غير المحسوس والرياح غير المضبوطة صعد فيها بقوة لاهوته بغير مانع، كأن لها أجنحةً خادمةً لباريها. وأيضاً مكتوبٌ: «سحابٌ وضبابٌ حوله، بالعدل والحكم أتقن كرسيه» (مز 97: 2). وأيضاً مكتوبٌ: «ركب على الكاروبيم طار، طار على أجنحة الرياح» (مز 18: 10). ذكر أولاً ركوبه على الكاروبيم، ثم ذكر طيرانه على أجنحة الرياح، ليُعلن قوة لاهوته وأنه غير محتاج إلى شيء من البرايا، بل هو أصعد الجسد المتحد به بقوة إلى أعلى المراتب الروحانية فوق كل القوات العقلية.ولما شاهدوا خضعوا جميعاً الملائكة والرؤساء والقوات، أعني كافة الروحانيين الذين فوق السموات. «فأما الرسل فبقوا قياماً متفرِّسين نحوه وهو صاعد وهم متعجبين، فيما هو كذلك إذ وقف بهم رجلان بلباس يلمع أبيض»، أعني ملاكين ظهرا لهم بشبه البشر لكي يقدروا على مخاطبتهم، ولكي ما يعلمونا أن السمائيين قد صاروا واحداً مع الأرضيين بالرب الذي أصعد الجسد المتحد به إلى السماء. لأن (القديس) لوقا جرت عادته (أن) يذكر الملائكة أنها تظهر بشبه أناس، كما ذكر في الإنجيل لأجل الملاكين اللذين بشَّرا النسوة بهذا المثال بعينه. فقالا: «أيها الرجال الجليليون»، يعني أن الرسل من الجليل. قال: «لماذا أنتم قيام تتفرَّسون في السماء»، يعنيان أن هذا ليس أمراً غريباً، صعود الرب إلى السماء. ثم قالا: «هذا يسوع الذي صعد عنكم إلى السماء، هكذا يأتي كما رأيتموه صاعداً إلى السماء»، عَنِيَا يسوع المخلِّص، لأنه سُمِّيَ بهذا الاسم لأجل التجسُّد، فأعلنا لهم كرامة صعوده ثم أثبتا مجيئه في استعلانه الثاني من السماء التي صعد إليها، لأنهم مزمعون أن يأتوا معه كما قال الرب أنه يأتي في مجده مع ملائكته القديسين (مت 16: 27).ثم إن الرسل الأطهار رجعوا إلى أورشليم مسرورين بما شاهدوا من المجد والكرامة ولأجل الموعد الإلهي. فلما دخلوا صعدوا إلى العلِّية المقدسة التي كانوا مجتمعين فيها أولاً مع الرب، وفيها دخل عليهم والأبواب مغلقة، كمثل عبيد يتذكرون المكان الذي كانوا فيه مع سيدهم منتظرين رجاء الموعد وهم فرحين. وقد كانت سيدتنا مريم أيضاً مع نسوة تقيات وأولاد يوسف النجار مواظبين مع الرسل على الصلاة والطلبة، بنفس واحدة، منتظرين جميعاً موعد الروح القدس، وهم مشتاقون لِمَا سمعوه من الرب أن له الغاية في معرفة الكمال، وهو المرشد إلى الحق، وأن به يُعطَوْن قوة علم البُشْرَى في أقطار الأرض كلها.نعظِّم الآن، يا أحبائي، صعود الرب يسوع المسيح، ونُعيِّد له بكل الوقار والإكرام، لأن به شرَّف وأعلا طبيعتنا الأرضية الهالكة وجعلها فاضلة سمائية. كما يقول الرسول: «إن الله الغني برحمته، من أجل كثرة محبته، لمَّا كُنَّا أمواتاً بخطايانا أحيانا بنعمته، وأحيانا وأقامنا وأجلسنا مع يسوع المسيح» (أف 2: 5-6). نسجد ونمجِّد الذي خضعت له الملائكة والرؤساء والقوات. نخرج مع رسله معقولاً خارجاً عن المدينة، الذي هو الخروج عن سيرة العالم الحسي، ثم نصعد إلى الجبل الذي هو ارتقاء العقل من الرذيلة إلى علو الفضيلة، ليباركنا مع خواصه الأطهار الأفاضل. ونسجد له معهم، ثم نرتل مع النبي المزمِّر داود قائلين: «عظِّموا الربَّ إلهنا واسجدوا في جبله المقدس، فإن الربَّ إلهنا قدوس» (مز 99: 9). وأيضاً نقول: «ندخل إلى مظلته ونسجد في موضع قدسه» (مز 132: 7)، ثم بعد ونصعد إلى العلِّية ونمكث منتظرين نحوه، وله مترجِّين، لكي يمنحنا موهبة روح قدسه، ليرشدنا إلى البر والحق؛ إذ الرسول يُعلِّمنا مثل ذلك قائلاً: «إن كنتم مُتُّم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، واهتموا لِمَا فوق لا لِمَا في الأرض» (كو 3: 1-2). فإذا سمعت بالجلسة عن يمين الله، فلا تظن أنه يمين محسوس، لأن داود يقول: «يمين الرب رفعتني يمين الرب صنعت القوة» (مز 118: 16)، فلا تفتكر في شيء محسوس ولا يمين ضد الشمال، بل يعني باليمين القوة والرِّفْعَة، وأن الجسد الذي كان أسفل الكل صيَّره فوق جالساً يعلو الكل. وبولس يفسر هذا قائلاً: «إنه أجلسه عن يمينه فوق السموات، فوق الرؤساء والملائكة والمُسلَّطين، وفوق كل اسم يُسمَّى وكل شيء أخضع تحت قدميه» (أف 1: 20-22)، أعني باليمين الرِّفْعة والقوة والشرف الذي أُعْطِيَ للجسد المتحد به، لأنه باللاهوت هناك لم يَزَل.فلنرفض عنا الآن دنس العالم ولنطلب الشرف الذي صار إلينا، لئلا نكون نحن السبب في هلاك نفوسنا وحدنا. نحفظ أجسادَنا نقيةً وأرواحنا طاهرةً مرضيةً لأجل الذي اتحد بحبه بالبشرية ورفعها إلى السماء العلوية. نصنع صُلحاً وسلامة مع بعضنا لأجل الذي صعد إلى السموات وصيَّر الأرضيين واحداً مع السمائيين. نرحم أهل الفاقة من أجل الذي رحمنا وأعطانا كل شيء بتوسعة غناه لحاجتنا. نسلك أمامه في سبيل مستقيم لكي يجعلنا مستحقين الارتقاء إلى السبيل العلوية السمائية، التي تقدَّمنا فيها رئيسُ الحياة الأبدية مخلِّص كل البرية. نحب النقاوة والطهارة ونجاهد على حفظها، لكي نستحق التسبحة مع الملائكة الروحانيين. نتلو الصلوات في كل حين لكي يشرق فينا نور نعمته في علِّية نفوسنا ويملأنا من موهبة روح قدسه. ننطق بمجده ونتكلَّم بعجائبه ونخبر بقوة خلاصه وعِظَم ذراعه، ونتلو ما صنع من أجلنا، لكي نستحق الشركة مع رسله الأطهار، الذين كرزوا باسمه بين الملوك والسلاطين وكافة الشعوب باجتهاد ومحبة كل أيام حياتهم، إذ الرسول يفتخر بذلك ويتلو في هذه الألفاظ قائلاً: «وحقاً إن سرَّ هذا اللاهوت لعظيم، الذي ظهر بالجسد، وتبرَّر بالروح، وتراءى للملائكة، وبشروا به في الأمم، وآمن به العالم، وصعد بالمجد» (1تي 3: 16).ونحن نسأل ربنا يسوع المسيح الذي صعد إلى السموات أن يُصعدنا بقوته من بحر هذا العالم المُهلك، ويثبِّت في السبيل المستقيم أقدامنا، ويغفر ما تقدَّم من قُبح أعمالنا، ويساعدنا على العمل برضاه وحفظ وصاياه، ويرحم كافة بني المعمودية الذين رقدوا على رجاء الإيمان باسمه القدوس، بشفاعة سيدتنا الطوباوية البتول مرتمريم والدة الخلاص، وكافة الرسل الأطهار والشهداء والقديسين والسواح والمجاهدين، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين وأبد الآبدين، آمين. تمَّ وكمل ميمر صعود ربنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح الذي له السُّبْح دائماً أبدياً، آمين، آمين الأنبا بولس البوشي أسقف مصر في القرن الثالث عشر الميلادي
المزيد
23 يناير 2021

روحانية القديس أنطونيوس

لا يوجد مصري واحد معروف و مشهور فى تاريخ المسيحية كلها أكثر من القديس أنطونيوس. ورغم وجود كثير من البطاركة و معلمو الإسكندرية المشهورين، فإن اسم هذا الراهب البسيط الذى اختلى فى الصحراء، هو الذى جذب أكبر انتباه خلال ال1600 عامًا الماضية. إن سيرة حياته كانت ولا تزال واحدة من أكثر الكتب المقروءة انتشارًا فى كل التاريخ المسيحي .و قد ألهمت سيرته ليس الرهبان فقط من كل أنحاء العالم، بل ألهمت أيضاً مؤلفين مشهورين ورسامين مشهورين مثل ماتياس جرينوالد M. Gruenwald، هيرونيموس بوسكس Hier. Boschs، جوستاف فلاوبرت، لارز جايللينستن Lars Gyllonsten. إن صورة القديس أنطونيوس كما وصلتنا فى كتاب " حياة الأنبا أنطونيوس " بقلم القديس أثناسيوس، بطريرك الإسكندرية الشهير فى القرن الرابع، قد صارت على مدى التاريخ النموذج القياسي للدعوة الرهبانية، وهى بالنسبة لكثيرين، افضل شرح لـ : ماذا يعنى أن يكون الإنسان مسيحيًا ؟ وفى مشروع بحث تموله الحكومة النرويجية يحاول 20 عالمًا من السويد والنرويج حاليًا أن يكتشفوا وأن يصفوا ماذا كان يعنى فعلاً و حقًا بالنسبة للناس و المجتمع فى القرنين الثالث و الرابع أن المسيحية صارت هى ديانة الإمبراطورية. وما هى التأثيرات التى حدثت، وكيف تغيرت طرق التفكير. إن عنوان هذا البحث هو : " المسيحى . صياغة هوية جديدة فى التاريخ القديم المتأخر Late Antiquity " . وبدون نقاش كثير فقد صارت " حياة أنطونيوس بسرعة فى بؤرة التركيز into Focus . ما هى الشخصية المسيحية وكيف كانت تفهم، وكيف كانت تختلف عن الشخصية الوثنية. وربما تبدو هذه أكثر وضوحًا فى هذه "الحياة " (السيرة) من أى نص آخر من نصوص ذلك العصر. و لكى نمسك بروحانية القديس أنطونيوس، من الضروري أن نبدأ بالحديث عن " حياة أنطونيوس "، وهى السيرة التي كتبها القديس أثناسيوس. فروحانية هذا الكتاب " الحياة " قد كان لها أكبر الأثر و صارت مرادفة لشخص أنطونيوس نفسه. و طوال المائة سنة الأخيرة فإن باحثون كثيرون قد حللوا هذا النص من جميع زواياه. هل الذى كتبه هو القديس أثناسيوس؟ وهل اعتمد على أية مصادر؟ وهل يُعتمد عليه (يوثق به) تاريخيًا historically reliable ؟ وهل نحن نلتقى فى هذا الكتاب بأنطونيوس نفسه، أم أن ما نقرأه هو الصورة المثالية التى رسمها البطريرك أثناسيوس؟ و بالمقارنات مع النصوص الأخرى التي كتبها أثناسيوس وكذلك الإشارات إلى المراجع التاريخية، فقد اقتنع كل الباحثين تقريبًا أن نسبة هذا الكتاب للقديس أثناسيوس، هى صحيحة. والنص الآخر الذى يعتمد عليه فى هذا المجال هو " رسائل القديس أنطونيوس ". و التى سأعود للحديث عنها بعد ذلك. و الآن نحتاج أن نفحص بعمق " سيرة حياته " نفسها، و نحاول أن نفهم منها كيف ترسم لنا روحانية القديس أنطونيوس، وكيف تريد هذه السيرة لنا أن نفهم حياته الموضوعة أمامنا كنموذج " لحياة مسيحية حقيقية "، كما ورد فى مقدمة الكتاب. و لكى نكتشف أين يوجد تشديد الكاتب نفسه، يلزمنا أن نلاحظ كيف يبدأ النص وكيف ينتهى هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن أمكن أن نجد أية تعبيرات أو أفكار متكررة. و لكى يمكننا أن نحقق هذه الناحية الثانية الخاصة بالتعبيرات المتكررة ينبغى فى جميع الأحوال أن نفحص بعناية تامة كيفية تركيب النص، وكيف تبدأ أجزاءه الصغيرة وكيف تنتهى. و فى كل الكتابات يتم التأكيد على بعض الأفكار بوضع تعبيرات معينة فى بداية الجملة أو فى نهايتها، أو فى بداية كل فصل أو فى نهايته أو فى بداية الكتاب أو فى نهايته. فالقارئ يتأثر دائمًا اكبر تأثرًا بالبدايات والنهايات. كان أنطونيوس رجلاً زاهدًا فى الحركة و زاهدًا فى الشهرة، فهو لم يكن يريد أن يصير معروفًا على الإطلاق. و منذ البداية قيل عنه إنه اشتاق أن يمكث بالبيت بكل بساطة، واشتاق أن لا يتعلم، وقد قيل فى الفصل الأخير إن معجزة قد حدثت حتى أن ذاك الذى تحاشى كل علانية و عاش منفردًا فى جبل قد صار مشهورًا فى العالم كله. وهذا الأمر يتكرر فى مواضع عديدة . فحينما دخل أنطونيوس تدريجيًا إلى الصحراء تؤكد السيرة دائمًا أنه كان يعيش وحده، وأن كل ما حدث له إنما أثناء اعتزاله فى مكانه الخاص. وفى الفصول ال15 الأولى من الكتاب نجد أن أنطونيوس ليس عنده شئ يقوله (للآخرين)، وأنه لم يكن له تلاميذ، ولا أصدقاء. وإنه حينما استقر فى البرية الداخلية وجد سلامًا فى عزلته.وعلى مستوى أعمق سوف نجد أن هذا التأكيد على العزلة والخلوة يرتبط بفكرة هامة أخرى: وهى فكرة المحافظة على الطبيعة الأصلية. أما كون أنطونيوس لا يذهب إلى المدرسة فكما أوضحت فى كتابى فإن هذا لا علاقة له بمعرفة القراءة أو عدم معرفتها، إنما هذا يدل على أن روحانيته لم تُكتسب من الخارج، أى ليست من صنع الإنسان، بل هى موهوبة له من الله خالقه. ومرة تلو مرة يستعمل المؤلف كلمات وتعبيرات تشير إلى الحماية والحفظ فى مقابل الاضطراب والتغير. وتوصف أهمية ما هو طبيعى بصورة حية جدًا فى فصل 14 حينما يخرج أنطونيوس من صومعته التى قيل عنها إنه عاش فيها 20 سنة فى عزلة كاملة. ويُقال هنا إنه لم يتغير بالمرة، فهو لم يصر نحيلاً من الصوم ولا صار بدينًا من قلة التمرن. كان فى توافق كامل بحسب حالته الطبيعية والأصلية. وبالنسبة للمؤلف، فإن جسده هو علامة تدل على الثبات الداخلى الكامل. وفى أحد الفصول الأخيرة يتكرر نفس الحديث فيُقال هذه المرة إن أنطونيوس البالغ من العمر 105 سنة والذى كان على وشك الوفاة، قد احتفظ بصحة جسمية كاملة، فعيناه لم تكلاً ولم يفقد ولا سنّة واحدة من أسنانه ويداه ورجلاه كانت كلها فى صحة كاملة. لقد كان فى حالة أفضل من أولئك الذين يحاولون أن يحسّنوا ما قد أعطاه الله بأنواع من الأطعمة والحمامات المترفة. وكما قلت، فقد كان جسد أنطونيوس علامة تشير إلى شئ روحانى. فحفظ الجسم وصحته إنما هى العلامة الخارجية فقط لفكرة تتخلل كل سيرة الحياة: فمعرفة الله مرتبطة بمعرفة النفس معرفة حقيقية. فمعرفة الله لا تأتى من الخارج بالتعلّم، بل من الداخل، بأن يكون الإنسان أمينًا لخلقته الأصلية. وفى المجادلات مع الفلاسفة التى يحاول المؤلف فيها أن يشرح الصفات المسيحية لفلسفة أنطونيوس، أى يشرح طريقة معيشته، نجد أن أنطونيوس يخبر الفلاسفة، أن اليونانيون يتعبون باطلاً بأسفارهم فى كل مكان لأجل الحصول على المعرفة فى حين أن المعرفة الحقيقية إنما توجد فى داخل الإنسان. والقراءة المدققة لعظة أنطونيوس الموجهة للرهبان تظهر نفس التشديد ولكن من منظور آخر. نجد هنا أن أنطونيوس يحاول أن يخبر تلاميذه كيف يعرفون إن كانت الرؤى أو الأفكار آتية من الله أم من الشياطين. فالقديس أنطونيوس يقول إن الشياطين يسببون القلق على الدوام، إنهم يحاولون أن يقسّموا ويمزقوا؛ بينما الملائكة يسببون السلام والهدوء ويقودون إلى الوحدة بدلاً من التفرق. ولكن هل هذا يعنى أن روحانية القديس أنطونيوس بحسب كتاب سيرته هى روحانية ترفض وجود أية علاقات مع الآخرين، أو مع المحتاجين؟ كلا . فالسيرة تنقسم إلى قسمين متميزين تمامًا. القسم الأول يصف خلوة أنطونيوس وتكوينه الروحي فى حياة الوحدة ويسجل عظته الطويلة التي يلخص فيها تعليمه. وينتهى القسم الأول بالقول إن أنطونيوس صار مثل الشهداء بسكناه فى البرية الداخلية. أما القسم الثاني فيخبرنا عن اهتمامه بالعالم. وفى هذا القسم يلتقى أنطونيوس أولاً بمجموعة من الناس يطلبون المساعدة، ويلتقى بعد ذلك بمجموعة من الفلاسفة، وأخيرًا بمجموعة من ممثلى الدولة. ليس هناك شك أن المؤلف يريدنا أن نرى فى أنطونيوس، راهبًا يشفى المرضى، ويصنع السلام بين المتخاصمين ويتشفع لأجل الفقراء، ويدحض الهرطقات ويقاوم ذوى السلطان. والنظرة الفاحصة إلى هذه الفصول من الكتاب تكشف أنها قد كُتبت بطريقة واعية تمامًا. وفى كل هذه الفصول نجد أنها تحتفظ بمسافة معينة. فحينما يأتي المرضى إلى أنطونيوس، فهو يخبرهم أن يعودوا إلى بيوتهم لينالوا الشفاء هناك. إنه لا يلمسهم، حيث إنه ليس هو الذى يشفى بل "الرب". فهو يظل فى عزلته ويشفى من بعيد. وفى لقائه مع الهراطقة يضع نفسه خلف رؤساء الكنيسة ويتحاشى أية مقابلات عن قرب. والأمر ذو الدلالة العظيمة. فإن علاقاته مع السلطة العليا مع الإمبراطور رغم أنه إمبراطور مسيحى، ومع الحاكم المُعين منه، إنما تتم فقط بواسطة الرسائل. وفى كل معاملاته مع العالم فإن أنطونيوس لا يترك خلوته الداخلية، لا يتخلى عن سلامه وهدوئه. ولكى نلخص روحانية القديس أنطونيوس كما وصفتها سيرة حياته، فيمكننا أن نقول إن أنطونيوس كان مبتعدًا بطريقة ما عن حدود المكان والزمان فهو كما لو كان موضوع خارج القيود التى يختبرها البشر. فهو كما تؤكد السيرة فى النهاية حاضر فى كل مكان حيث إنه مختفى عن كل إنسان هو غير مرتبط بأي شئ، وغير متأثر بأي شئ ولا معتمد على أي شئ حصل عليه من العالم أى من الناس ومن حضارتهم. فهو كما يقول المؤلف متعلم من الله فقط وتنبع قوته من السلام الداخلي ومن الانسجام الداخلي المتأصل فى طبيعته الروحية الأصلية. والأمر الضروري بالنسبة لسيرة حياة أنطونيوس أن يظل الإنسان على الحالة التي خُلق عليها.إن روحانية أنطونيوس هى روحانية تجد أصولها فى الاقتناع الأكيد بأن الإنسان مخلوق على صورة الله، وأن الفضيلة لا تُكتسب، بل تحتاج فقط أن نحافظ عليها.والآن، بعد أن حصلنا على هذه النظرة لروحانية "سيرة أنطونيوس"، يمكن أن ننتقل إلى رسائل القديس أنطونيوس لنسأل إن كانت تحمل إلينا نفس الروحانية ولكى نركز الحديث على روحانية هذه الرسائل، فإنى لن أتحدث عن محتواها ولن أناقش كل المشاكل اللاهوتية التى تنتج من تحليل محتواها، و لكنى أشير فقط إلى نقطتين هامتين فى تكوين روحانية هذه الرسائل النقطة الأولى هى، وحدة المعرفة :- فالتشديد على المعرفة هو أحد الملامح البارزة للرسائل. فكاتب الرسائل يؤكد مرة تلو أخرى على أهمية المعرفة والفهم. وكل الرسائل تقريبًا تختم باقتباسين من سفر الأمثال 9: 9 ومن رسالة كورنثوس الأولى 15: 10 والاقتباسان يتحدثان عن أهمية الحكمة. فبدون أن يعرف الإنسان نفسه أو كما يعبر القديس أنطونيوس بدون أن يعرف الإنسان جوهره الروحي، فإنه لا يستطيع أن يعرف الله، لا يستطيع الإنسان أن يدرك أعمال الله الخلاصية. فالإنسان، بإدراكه لنفسه تمامًا يستطيع فقط أن يعرف زمانه و بالتالى أن يعرف كيف يعبد الله عبادة لائقة. ورغم أن الإشارات إلى المعرفة متنوعة جدًا وموضوعات المعرفة تختلف عن بعضها، إلاّ أن الرسائل تشدد دائمًا على أن كل أنواع المعرفة مرتبطة ببعضها؛ فمعرفة الله ومعرفة النفس ومعرفة الزمان، ومعرفة الخلاص، كل هذه تعتمد كل منها على الأخرى.و لكى ندرك أهمية المعرفة فى روحانية أنطونيوس ينبغى أن نعرف، ما الذى يعنيه أنطونيوس عندما يتحدث عن المعرفة، وذلك لكى نعرف مفهوماته الأساسية . إن القراءة المدققة للرسائل تكشف أن أنطونيوس يمثل نفس النظرة الأساسية عن المعرفة مثل مدرسة الإسكندرية بميراثها الأفلاطونى، فهذه النظرة ترى أنه: "أن تعرف" هو أن تصير جزءً من شئ . فالمعرفة ليست أن تملك معلومة عن شئ، بل أن تشاكله وتتوافق معه. وأكثر من ذلك فإنك تستطيع فقط أن تعرف ذلك الذى يملك ميلاً طبيعيًا نحوك أنت الذى تعرفه. الإنسان يستطيع أن يعرف الله حيث إن الإنسان له صلة بالله، ليس فقط بأن تكون عنده معلومات عن الله ؛ بل أن يكون له نصيب حقًا فى طبيعة الله، ولذلك فالمعرفة لا تحصل بجمع المعلومات والتعاليم، بل أن نأتى لنعرف، نأتى لنقترب منه ولكى نحيا معه. المعرفة تفترض وجود المحبة. لذلك من السهل أن نفهم أنه رغم أن أنطونيوس يتكلم عن أنواع مختلفة من المعرفة، إلاّ أن المعرفة واحدة. وإضافة إلى ذلك، فمن الواضح أن المعرفة التي يكتب عنها أنطونيوس هى المعرفة الروحية، وهى معرفة تأخذ أصولها من الجوهر الروحي للإنسان . والتقدم فى المعرفة هو الاقتراب أكثر إلى الله، أن يصير الإنسان أكثر فأكثر إدراكًا لذاك الذى يتجاور كلماتنا. المعرفة تختلف عن العقيدة . فكلمات الإنجيل، وتعاليم الكنيسة هى نقطة انطلاق، أما المعرفة الحقيقية فتكمن فى الالتصاق بالله التصاقًا حميمًا بالحب. وحدة كل أنواع المعرفة لا توجد فى العقائد بل فى قلب الله. النقطة الثانية فى روحانية رسائل أنطونيوس هو وحدة الكيان :- وكما سبق أن ذكرنا، فإن أنطونيوس يرى أن الشرط المسبق لكل معرفة حقيقية هو فى الجوهر الروحي للإنسان، وهو جوهر متصل بالله اتصالاً وثيقًا . وفى محاولاته أن يشرح هذا، فإن أنطونيوس يعكس تحليل أوريجينوس عالم مدرسة الإسكندرية العظيم. وبحسب الرسائل، فإن جوهر الإنسان الداخلي هو جزءه الروحاني، أى عقله . كل البشر يشتركون فى نفس الجوهر الروحي، وينتمون إلى بعضهم البعض فى أرواحهم، وفى الواقع فإن كل ما هو روحى يشترك فى نفس الكيان، بل حتى إبليس و الشياطين أيضًا يشتركون فيه . و لكن عند السقوط تحطمت هذه الوحدة الروحية . والله لكى يخلص الإنسان، فإنه خلق العالم وأعطى للإنسان جسدًا وهو ما لم يحصل عليه الشياطين، ولذلك هم يحسدون الإنسان. وبواسطة الجسد يستطيع الإنسان أن ينمو فى الفضيلة وفى المعرفة، ولكن فى الوقت نفسه فإن الجسد يجذب الإنسان إلى أسفل ويضع حدًا لحياته. الجسد يخلص عن طريق التجسد، وهكذا تُستعاد الوحدة ويستطيع الإنسان أن يرجع إلى الله وإلى جوهره الروحى الأصلى، ولكن بجسد القيامة. وبدون الاستطراد أكثر فى هذه الأفكار اللاهوتية يمكننا أن نرى بسهولة أنها هى روحانية أنطونيوس. فوحدة الوجود تجعل محبتنا بعضنا لبعض جزءً من محبة الله. وأن يعرف الإنسان نفسه هو أيضًا أن يعرف جاره. أو كما يقول أنطونيوس فى الرسالة 6: " لذلك ينبغى أن نحب أحدنا الآخر بحرارة، لأن من يحب أخاه يحب الله والذى يحب الله يحب نفسه " . و هكذا، فإننا فى روحانية أنطونيوس نجد تشديدًا قويًا على العلاقة بالآخرين، والحاجة إلى أن نعتنى كل منا بالآخر. و يصير واضحًا فى كل الرسائل كم هو هام خلاص الاخوة لأجل خلاص أنطونيوس نفسه. وهنا يصير فهم تعليم يسوع المسيح، عنصرًا هامًا . و المقطع الذى يتحدث فيه الرسول بولس فى رسالته إلى فيلبى عن إخلاء الابن لنفسه صائرًا فى هيئة عبد، عادة يُربط بكلمات يسوع فى الإنجيل التي يقول فيها، إنه لا يعود يسمى التلاميذ عبيدًا بل أحباء . فيسوع بصيرورته عبدًا استطاع أن يجعلنا أحباء له، وهكذا عن طريق صيرورتنا عبيدًا كل منا للآخر، يمكننا أن نربح بعضنا بعضًا كأصدقاء . وهكذا فالفرح والبكاء لأجل خلاص الآخرين هو جزء جوهرى من الحياة الروحية . خاتمة : وحينما ننظر إلى سيرة حياة أنطونيوس وإلى الرسائل، يمكننا أن نرى أننا نجد نفس الروحانية رغم التعبير عنها بطريقتين مختلفتين تماما . ففى سيرة حياته، تُرسم روحانية أنطونيوس بواسطة شخص آخر كأنما يرسم أيقونة . وفى عظة أنطونيوس فقط نجد تشابهًا كبيرًا مع ما ذُكر فى الرسائل . ولكن هنا فى العظة يحل الصراع مع الشياطين محل التأملات الشخصية الموجودة فى الرسائل، وفى السيرة نجد أن قصص اختلاء أنطونيوس تجعل نفس التشديد على وحدة الكيان والجوهر مفعمة بالحيوية مثل الرسائل، ولكن بعكس الرسائل فإن الجسد فى " السيرة " ليس أساسًا الذى تهاجمه الشياطين بسهولة، بل بالحرى تجعل منه " السيرة " صورة للنفس . الرسائل تقدم أنطونيوس كأحد الرهبان الذى يصرخ من أجل خاصته ولأجل خلاصهم. أما فى " السيرة " فلم يعد ظاهرة فى الصورة، بل نجده فى وضع متميز كنموذج يُقتدى به . فى "الرسائل" نراه مثل أب اعتراف يمكنك أن تتحدث إليه، أما فى "السيرة" فهو إيقونة تقف أمامها لكى تتأمل . ولكن بصفة جوهرية، فمن الواضح أن كلا الكتابين تقدم نفس الروحانية الأساسية، ونفس التشديد على الحاجة إلى الثبات الداخلي والهدوء، والحاجة إلى المعرفة الحقيقية للنفس، وإلى المحبة للغير . ويمكننا أن نعتبر "السيرة " بمثابة مقدمة رائعة عن كيف نقاوم بها الفساد، وكيف نحفظ الكمال والسلام، أما "الرسائل" فتلمس القلب، وتفتح طريقًا صاعدًا نحو سر الالتصاق الحميم مع الله.و نعود أخيرًا إلى مشروع البحث عن " الشخصية المسيحية (Christian Identity) كما صيغت فى المسيحية الأولى"، فأنى أظن أن هذا المشروع وثيق الصلة بموضوعنا . وبقدر ما أستطيع أن أرى، فإن أوربا بل العالم كله حصلت على ذلك الفهم للكائن البشرى، الذى يضع الشخص كل شخص قبل أى شئ آخر. فبدون مفهوم سلامة وقيمة كل شخص لا نستطيع أن نتكلم عن حقوق الإنسان بصورة حقيقية. بدون مفهوم السلامة الشخصية و المسئولية الشخصية التي تظهر مفعمة بالحيوية فى سيرة القديس أنطونيوس، لن يكون عندنا أية أسلحة حقيقية لمحاربة الفساد. فلأجل مستقبل التقليد المسيحي بل ولأجل مستقبل مجتمعاتنا، ينبغى أن نعطى انتباهًا أكبر و اهتمامًا أشد بروحانية القديس أنطونيوس. بقلم صموئيل روبنسون أستاذ بجامعة لوند بالسويد ترجمها عن الإنجليزية د. نصحى عبد الشهيد بطرس
المزيد
21 يناير 2021

الميمر 167على تلك الآية التي صنعها ربنا في قانا الجليل الذي الّفه مار يعقوب

المقدمة ايها الابن الذي كان قد كثّر الخمر الجيد في الوليمة، اعطني لاشرب السيول الحلوة الموجودة في تعليمك،ايها المدعو الذي اثرى من موهبته من دعوه، صبّ هنا ايضا خمر محبتك ليسعدنا، يا ابن الملكوت الذي كان قد دُعي الى الوليمة، لا تتاخر عن المجيء عند نقصي،ها قد دعوتُكَ ليس الى قانا لكن الى فكري، ربي هلّم وضع فيّ سيول تراتيلك الحلوة،بيعتك هي اعظم من الوليمة التي دعوتُك اليها كثّر عليّ المادة التي تسكرها وتشبعها، قادوك وذهبتَ الى مائدة الاشياء الزائلة، هلّم لانني دعوتُك الى الاتقانات الروحية،هناك اتكأتَ في الوليمة مثل حقير ولم يعرفوك، اسكب موهبتك هنا لانهم يعرفونها،هوذا لساني يمزج في عرس البيعة المقدسة، اثلم واجرِ فيّ الشراب الروحي الذي يسعده،كثّرت الخمر بين الناكرين وهم لا يستحقون لانهم شربوا وتعجبوا ولم يمجدوا كما يجب، ساعدني لاتكلم عن هذه الآية العجيبة لكي اسقي بيعتَك خمر تعليمك الجديد،جعلتني ساقيا في عرس الشريفة، فلا تنقص بسببي اجانة المواضيع من امتلائك. دعوة المستمعين الى شرب التعليم وشكر الرب اقتربوا ايها السامعون وارضعوا الحلاوة من التعليم، واشكروا النعمة كما يجب،بكم يهان الذين شربوا ولم يسبّحوا لانكم سمعتم خبر الآية فقط وتعجبتم به،الرؤيا الواضحة لم تكن شيئا بالنسبة الى الناكرين، هذه هي العظمة لما جعلكم سماع الاذن تصدّقون،هولاء الذين راوا لم يفهموا بالعجائب، لكم الطوبى لانكم اعطيتم التسبيح وانتم لم [تشاهدوا،النبع العظيم الذي اجرى سيوله بين ظالميه،ومن موهبته فجّرت الارض كل المساعدات،ابن الباري نزل الى البرية ليسير عليها ولم يبيّن لها عزته لئلا تفنى،مُثري الكل اتى الى العالم في الفقر، ليصير رفيق الفقراء ويثريهم،رب الاعالي مشى في المسكونة مثل الغريب ليقودنا نحن الضالين معه الى الملكوت، شبل الاسد صار حملا بارادته، ليصير ذبيحة بدل القطيع حتى [ يتحرر،نسر الطيور والملك السامي احنى جناحه ليجمع فراخ آدم الذين كانوا مبددين،طار من العلى وحلّ في العمق ولم ينتقل ليخلط العلويين مع السفليين. يسوع كان سيذهب الى قانا سواء دعوه او لم يدعوه ولما كان يتردد في ارض اليهودية مثل الفقير، صارت وليمة في احدى المدن القريبة منه، ولما ارسل الختن الى المدعوين وجمعهم، اراد الجبار ان يذهب ايضا مع الضعفاء، انحدرت ارادته وحثت الذين يدعون ليدعوه هو ايضا مثل البقية الى الوليمة،نخسهم امرُه وايقظهم لياتوا عنده، وبعدما يدعونه لا يتاخر من الذهاب،كان سيذهب حتى ولو لم يدعوه، لكي يصنع الآية ويحس العالم بلاهوته،حتى ولو لم يرسل الختن وراءه لئلا يذهب، لما ترك العمل الذي باشر به،كان قد صمم ان يصنع الآية في الوليمة، حينئذ ارسل الختن ودعاه وهو لا يعلم،كان قد دُعي بارادته قبل ان يذهب، وبعدئذ دعاه اولائك القادمون من بيت الختن،اراد الحكيم ان يُدعى وبعدئذ يذهب، ليعرفوا بان الذي دعوه هو يسوع،تعارفوا عليه بالكلمات وهم يدعونه، لئلا يتشككوا بعد الآية (ويقولوا) ليس يسوع،دعوه وقادوه مثل المحتاج وذهب ايضا لانه كان قد تهيأ ليسلك طريقه العظيمة. يسوع يبدأ آياته في قانا ليبرهن بان الزواج طاهر كان يليق ان يبدأ بالقوات في العرس، وفي بيت الزواج يمدّ اليد للقداسة،ركض ووقف على الباب الذي يُدخِل الجنسَ لكي ينشر التعليم لكل من ياتي الى العالم،اتى ليخطب عروس النور بصلبه، فتوجه اولا حيث كانت توجد العروس الزمنية، كان يجمل به ان يصنع الغلبة في العرس، ليتتلمذ كل المتكأ بتلك الاعجوبة، المسيح ايضا كان ختنا قديم الاجيال، وقد اتى ليخطب بيعة الشعوب بذبيحته،وبما ان عرسه كان بعيدا بعض الوقت، فقد اخذ الهدية وذهب ليجلبها مثل القريب،القى التقليد على ذلك الختن الذي دعاه، بحيث لما يصنع عرسَه يُقبلون اليه،دعوه وذهب حتى لما يدعوهم يذهبون معه، واتكأ عندهم ليُتكئهم على مائدته،ابان هناك بان طريق الزيجة طاهرة، والزواج مُتقن جيدا من قبل الله. اين هم الذين يقولون انه ابن الغرباء وينكرون لاهوته؟ اين هم اولائك الذين يقولون: انه ابن الغرباء، لتحتقرهم تلك الوليمة التي اتكأ فيها،لو لم يكن من جوهر القدرة العاملة، لماكان يوافق ليدخل ويتكيء في بيت الزواج،لو هو ابن الغرباء كما يقولون، لما كان يحب اتقان القدرة العاملة. الله يتقن الزواج ويعقد خدر العرسان لو كان [ الزواج ذاته والشركة[5] مدنسَين، لما كان يدخل ويختلط في وليمته،لو لم تكن طريق الختن جميلة، لما كان يحل في مريم بقداسة،خاب الكذب الذي كان يُعلن عن الغريبَين لان [ الكائن[6] واحد، والولد الذي منه خلص البرايا،الآن لم نقم لنتكلم بجدال [ لانه واضح بان المسيح قد اتى[7] وهو ابن الباري،دخل الى العرس وهو يحمل الهدية بخفاء، واتكأ في الوليمة ليبارك سرير الشركة،[8]راى بان الزواج متقن جيدا بواسطة ابيه، وعقد خدرا للعروس الزمنية بالطهر، راى بان العرس لا يقترب منه الدنس، فاراد الرهينة (المدعو) ان يبدأ منه بالعجائب،كان قد وجد بان الختن لم يكن يشترك في الخطايا، فاخذ الهدية من موهبته ليقدمها له، وجد بان التعليم يجمل في الوليمة، فاشتاق ليشرق هناك كرازته، قام امرُه ليخدم في الوليمة، ليعمل الاعجوبة امام المتكئين، اراد الحكيم ان يصنع آية العجب بالخمر، ليفيض هناك التعليم مع الوليمة،انحنى رمزُه على الاجاجين وافرغها ليصير المجال لتلك الاعجوبة التي ستُصنع. خمر يسوع والخمر الطبيعي نفذ الخمر الطبيعي الذي لم يكن ينفع، /486/ ليفسح المجال لخمر يسوع الذي يفيد، نفذت المادة البسيطة التي انجبتها الجفنات، لكي يبين ابن الباري قوة قدرته العاملة، نفذ الشراب من بين ايدي السقاة، ليشرب الجمع خمر بشارة ابن الله. البرية مصورة بوليمة قانا: العريس هو آدم والعروس هي البيعة كل البرية كانت مصوّرة بتلك الوليمة لان خمر كل واحد كان قد نقص من الاتقان،كان الختن يشبه آدم بالعوز لان خمره نفذ كما كان قد نقص صِدق آدم،تلك العروس كانت تشبه بيعة الشعوب التي نفذ خمرها (كما نفذ) التعليم قبل المجيء،حينئذ دخل خمر يسوع عند المعوزين كما اتى يسوع ذاته عند الفقراء،هذه الاسرار حدثت في تلك الوليمة حيث بدأ ابن الله بالكرازة. مريم تقول ليسوع ليس لهم خمر (يوحنا 2/3) رأت مريم الطوباوية بان الخمر قد نفذ، وكانت قد عرفت بانه صار مجال للتعليم،حينئذ وشوشت النعجة البتول لشبل الاسد (قائلة): ربي، لا يوجد خمر لآل الختن،[9]قالت الذكية فقط: لا يوجد خمر، غير انه في فكرها كانت تُقال مثل هذه الامور بيّن قوتَك بالمعجزات لانك ابن الله، /487/ هوذا الوقت قد حان ليحسّ العالم بقدرتك العاملة،الجمع العظيم سيرى قوتك ويؤمن بك، يكفي توقّفُك عن الآيات وانت الجبار،بيّن قليلا سلطة قدرتك البارية، لماذا تسير بالبساطة وبالسذاجة،؟انت ابن الله فبيّن قوتك بالحقيقة وادعُ الارض لتؤمن بانك الاله،الى متى تصغّر نفسك بينما انت اله،؟ قم وبيّن الهيا بأسك للعالم، يا مثري الكل لماذا تسلك بالفقر،؟ افتح خزائنك ووزع ثرواتك بين المحتاجين،تفقد بحنانك الختنَ الذي تتكيء على مائدته، لئلا ينتشر اسم العوز في البيت الذي دعاك، كانت هذه الغاية موضوعة في فكر مريم لما قالت لابنها: ليس لهم خمر.[10] يسوع يردّ على مريم: ما لي ولكِ يا امرأة لم تحِن بعدُ ساعتي (يوحنا 2/4) ولما اسرعت على فعل ليس خاصتها، اجاب الحكيم وكأنه تركها ووضعها في البعد كان يقول لها: ما لي ولكِ يا امرأة، بينما هي امه كما لو قال احد بجسارة:[11]لا تخصكِ القدرة الآمرة، فانا مستعد لاصنع العجب [ هذه المرة[12] حتى وإن سكتتِ،وبدون كلمتكِ هانذا اشرق قوة جوهري، لم تأت الساعة لاصمم تنفيذ الفعل، لما اريد، الرمز فقط سيصنع القوات، ارادتي لا تحتاج الى الاستعداد قبل الوقت،بنفخة صغيرة يسهل علي ان افعل بسرعة، ولما يُرسل امري لا يوجد فيه التاخير،طرفة العين ليست سريعة مثل قدرتي الفاعلة، فلماذا التفكير بالاعجوبة قبل الوقت.؟ قول مريم هو ثمرة ايمانها، وجواب يسوع اظهر قدرته العاملة الرمز ينحني ويتحقق العمل بدون تاخير: قالت مريم وقولها حسن لانها كانت واثقة،بانه حكيم العالمين بالحقيقة ومن السهل عليه العمل، ولهذا حثته ليبين الاعجوبة،ابان بانه لا يفعل القوات بكلمتها، لانه كان قد قصد ان ينفذ الفعل قبل ان يذهب،بكلمتها كان قد اشرق ايمانها، وبكلمته كانت قد بانت قدرته العاملة كانت تعرف بان الابن الذي اتى بدون زواج يقدر ان ينجب الخمر الجيد بدون الجفنات، كان مستعدا ليعمل الآية في الوليمة، ولو سكتت لما كان يتاخر من (تنفيذ) فعله،كانت تعرف بانه كما اتى المجوس لاكرامه، ستُصنع ايضا الاعجوبة بارادته،كانت متيقنة بانه كما سكب الحليب في ثدييها، يقدر ان يملأ الاجاجين شرابا جديدا استنادا الى هذه الامور التي راتها مريم قالت له: لا يوجد خمر حتى يصنع الآية.[13] مريم تقول للخدام: اعملوا ما يقوله لكم (يوحنا 2/5) في نفس الوقت اقتربت وقالت للخدام: اسمعوا وافعلوا بسرعة ما يقوله،[14] الحكيم اطال اناته على الفعل حتى ينفذ الخمر ويحس كل واحد بما سيُصنع،ولما صخب الشعب وكان الختن قريبا من الهرب، قام الجبار ليفعل ما هو خاصته مثل آمر الكل. يسوع يامر الخدام ان يملأوا الاجاجين ماء حوّلته قوته الى خمر (يوحنا 2/7-8) اخذ ليبرهن بانه ابن العامل بالحقيقة، لئلا يتشككوا من مجيئه ويقولوا: ليس ربا،اراد ان يعرّف بانه ليس غريبا عن القدرة البارية، فامر الجمعَ ان يسكبوا الماء في الاجاجين،[15]وصنع الخدام كما قال وملأوها، حينئذ انحدرت خفيةً قوة لاهوته، وبدّلها وصارت خمرا بسرعة..،[16]احنى ارادةَ قدرته العاملة على الاجاجين، وسكب فيها مادة سليمة ليس من العنب،الرمز كان قد كمّل المياه التي سقطت هناك، /490/ وبدّلها الى الخمر الجيد،تحير المشاهدون من اللون والرائحة التي اقتنتها المياه، وطعم الخمر السليم ادهشهم. خمر يسوع يسمو بجودته على الخمر الطبيعي (يوحنا 2/10) الى هنا صلحت المياه التي صارت خمرا، واحرجوا الختنَ وذمّوه بسببه،حيرهم الشراب الجديد الذي اكتسب طعما حتى انهم ذموا (الشراب) الاول (قائلين): ليس بشيء،خفّت قيمة الخمر الطبيعي الذي يملكه الختن، وخمر يسوع كان ينتصر في الوليمة،صارت مادة الجفنات سخرية امام المدعويين، وهذه المياه التي صارت خمرا ادهشت كل واحد،خمر العنب كان بسيطا جدا مقارنةً بذلك الشراب الافضل [ برائحته[17] وبشربه. المسيح يعمل مثلما يعمل الآب المسيح ابان قدرته البارية بهذه المياه، لانه ابن العامل وهو المسلط على الكل مثل والده،مَن هو الذي يصغّر الابنَ عن مرسله ليأتِ ويرَ بان القوة هي واحدة ولا تتجزأ،؟الى الآن ابي يعمل مثل الباري، وهانذا اعمل كما هو (يعمل) ايضا،[18] قوة واحدة، وامر واحد، وفعل واحد، ورمز واحد، وارادة واحدة، وسلطة واحدة،[19]ذاك الامر الذي صاغ الاثمار في الاشجار كان جالسا في هذه المياه التي صارت خمرا،ذاك الحِرفي الذي نحت العنب بحكمته، ظهر بمهارته عند الاجاجين،ذاك المهندس الذي بنى وشيد الاثمار في الاغصان، سكب هناك طعما حلوا بخلاف الطبيعة. جزء من قوة المسيح صنع الاعجوبة في قانا الآية التي صارت حيرت المشاهدين كثيرا، بالنسبة الى المسيح ان ما جرى كان لا شيئا،تلك الاعجوبة التي صارت هناك كانت بسيطة بالنسبة الى قوة قدرته العاملة المخفية فيه،عملُ الابن كان صغيرا جدا بالنسبة الى سلطاته، وقد بدأ في مسيرة العجائب ليس بحسب قوته،ذاك الجبار لم يرفع الكتلة كما كان يقدر، انما صنع امرا صغيرا في العرس ليبهجهم،لم تنحنِ ارادتُه حسب قوته ليصنع العجب اذ صنع انتصاره ليس حسب شدة عزته،جزء من قوته انحنى قليلا على الاجاجين، واعطى التغيير لتصير المياه خمرا جيدا،ارادة القدرة العاملة وصلت هناك وصار الفعل بدون تاخير امام المدعويين،رؤيا رمزه خففها ونشرها بلذة وسكب السيول من ينبوع قدرته البارية،لم يغصب نفسه لما عمل الاعجوبة بل ابان خصوصيته في الوليمة بدون تعب، في ذلك الوقت لم يصلّ مثل الناقص، لان قوته وقوة ابيه كانت واحدة في المعجزات،حيث شاء صنع الانتصار بدون طلبة، لئلا يعدّه احد ناقصا حيثما صلى،[20]رمز خفيةً وصار العمل بدون تاخير لانه ابان قوة لاهوته بالظواهر،كان قد استعمل حِرفة القدرة العاملة، ليؤمن كل العرس بانه ابن الباري.الآب يبدل الماء في الجفنات طبقا لنظام الطبيعة، الابن بدّل المياه في قانا برمز صغيرامر المياه لتصير خمرا، كما حبس ابوه ايضا (الماء) من السيول في الجفنات بحكمة،واحدة هي معرفة الآب وابنه بالنسبة الى البرايا، وواحدة قوة القدرة البارية بكل اشكالها،انظروا ايها المتميزون: يبدل الآب ايضا المياه، وبمهارته منها وبها يصنع الخمر،يجريها في الجذور حسب معرفته، ويسيّرها في الاغصان حسب ارادته،ويحبسها في حضن الجفنات كما لو كان في القنوات وبواسطة الشمس ينضجها ويسجرها ويسخنها،ويصوغ العنبات ويُخرجها ويعلّقها في [ الاغصان،[21] ويفرش الاوراق على البهيات ويبرّدها، تجري المياه في احضانها وهي غير مفتوحة، وينزل الفيض الى افواهها وهي غير مثلومة، المياه الممجدة متجمعة وقائمة في الاثمار المختومة، وتسجرها الريح والشمس لتنضجها، الآب يبدّل المياه في الجفنات خلال مدة طويلة وتبدّلها الى مادة الخمر قدرته العاملة، هذا الفعل لا يكمل الا في مدة شهور، اما الابن الحقيقي فقد كمّل ارادتَه برمز صغير،المياه لا تقتني الطعم الحلو من الكرمات، قوة الباري تملّحها بالاذواق الابن الذي اراد ان يبدلها بدون مدة زمنية لم يجعلها تحتاج الى نظام الايام والشهور.[22] اين هو مَن ينكر لاهوت الابن؟ اين هو الذي ظلم الابنَ (وقال): ليس الها،؟ ليأتِ ويرَ بان قوته لا تنقص عن والده،يا من يتشكك بخصوص الوحيد (ويقول) ليس الها، انظر فان القدرة البارية ظهرت في العرس، 142 اتكأ في الوليمة لئلا يكفر بجنس امه، وبدّل المياه ليكرز هناك جنس ابيه، 143 اقام صورة للاهوته ولناسوته، وكان يتصرف حسب العظمة والصغر، 144 انه متكيء مثل الحقير، ويصنع القوات مثل القوي /494/ ليبرهن بانه كان الها وكان انسانا. الخاتمة 145 ابان مجدَ لاهوته بالعجب الذي اجترحه، مبارك الذي بخمره اكسب طعما للبشر. كمل ميمر الآية التي صنعها ربنا في قانا الجليل الذي الّفه مار يعقوب الطوباوي
المزيد
18 يناير 2021

ميمر عيد الغطاس المجيد للأنبا بولس البوشي أسقف مصر في القرن الثالث عشر الميلادي،

يفتتح القديس بولس البوشي، أسقف القاهرة في القرن الثالث عشر، ميمر عيد الغطاس المجيد قائلاً:[المجد لقدوس القديسين الذي قدَّسنا بالميلاد الثاني وحلول الروح القدس، عندما حل في نهر الأردن بالعماد. المجد للذي لم يزل (الأزلي الدائم)، الذي وُلد جسدانياً ليلدنا روحانياً بالمعمودية المقدسة عندما تعمَّد من عبده يوحنا، وصار لنا طريقاً للبر والإرشاد (القيادة في الطريق). المجد للذي تواضع وأتى إلى نهر الأردن ليكمل كلَّ البرِّ، الذي ببرِّه تبررَّنا من الأشجاب (الاتهامات). المجد للذي أظهر لنا سرَّ الثالوث على نهر الأردن بإعلان]. يرى الأنبا بولس البوشي أن ما تمَّمه الرب يسوع على نهر الأردن كان لحسابنا نحن، لأنه لم يكن محتاجًا لأيٍّ منها، وهكذا أخذنا نحن عربون القداسة والولادة الروحانية والتبرير، عندما اعتمد الرب في نهر الأردن.[المجد للذي طهَّر المياه بحلوله فيها، وقدَّس العناصر وكل الأرض بمشيه عليها… اليوم رضَّ الربُّ رأس التنين على المياه، كنبوة داود (مز 74: 13)].كانت المياهُ في البدء عُنصرَ خلقٍ، حسب قول الكتاب: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ… وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» (تك 1: 1-2). لكن بعد سقوط الإنسان، صارت المياه عنصر موتٍ، كما حدث في الطوفان. ولكن بمعمودية الرب في نهر الأردن طهَّر المياه، إذ أباد الموت الذي صار فيها: اليوم رضَّ الربُّ رأس التنين، كناية عن الشيطان الذي كان له سلطان الموت، ومن ثم أصبحت المياهُ عنصر خلق من جديد، وصار لها القوة أن تلد الإنسان جديدًا في المعمودية المقدسة.ثم يعطي بولس البوشي المجد للرب يسوع، مبيِّنًا عظمة تدبيره على نهر الأردن:[المجد لك أيها المسيح الرب، الذي تواضع من أجل محبته للبشر، وجدَّد الخليقة بمولدٍ ثانٍ، لا يبلى، من فوق من عند أبي الأنوار. لك أبارك وأقدِّس يا من نزع عنا العار وجعلنا بني نور ونهار. لك أعظِّم وأرفع يا من هو فوق كل رئاسة وقوة وسلطان، شاء أن يتواضع ويعتمد من عبده يوحنا، وعلَّمنا سيرة الاتضاع الذي نخلص به من مكيدة الشيطان. أعطني معرفة يا من بغيره لا أقدر على شيء، لأتكلم من أجل أعمالك التي تفوق كل حسن وبهاء، هَب لي فهماً يا معطياً كلَّ فضل لأنطق على تدبير أعمالك التي أعلنتها. امنحني موهبةً يا مَن مِن امتلائه تفيض كلُّ النعم الروحانية، لأخبر بتواضعك أيها القدوس علانية].بعد ذلك يبين سبب تسمية هذا العيد باسم: عيد الظهور الإلهي:[عظيمةٌ هي كرامة هذا العيد المجيد اليوم، أيها الإخوة الأحباء. وهو يسمَّى عيد الظهور، لأن فيه ظهر سرُّ الثالوث القدوس. الذي كان رمزاً في كتب الأنبياء، ظهر لنا اليوم علانية باستعلان لأجل أن الابن متجسدٌ وأعلن كلَّ ما كان مستتراً. والمثال صار حقاً وكمالاً، والأشياء التي كانت مخفية عن الحكماء والفهماء ظهرت الآن للأطفال. أول ذلك عظمة القدوس الواحد في اللاهوت، مبتدأ الأشياء ورأسها وكمالها، استُعلن لنا اليوم. الابن في الأردن اعتمد، والآب في السماء يشهدُ له قائلاً: «أنت ابني الحبيب الذي بك سررت»، والروح القدس نازل شبه حمامة ليدل أن الروح كاملٌ بأقنوم].هذا (هو) الثالوث القدوس الذي به آمنَّا، وباسمه اعتمدنا على المثال الذي كان في الأردن، كما أمر الربُّ رسلَه الأطهار قائلاً: «امضوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19)، «فمن آمن واعتمد خَلَصَ، ومن لم يؤمن يُدَن» (مر 16: 16). وقال أيضاً: «الحق الحق أقول لكم: إن من لم يولد من الماء والروح لا يعاين ملكوت الله» (يو 3: 5). ثم عرَّفنا أنه غير هذا الميلاد الجسداني، فقال: «لأن المولود من الجسد فهو جسد، والمولود من الروح روح هو» (يو 3: 6).ولأجل شرف هذه الولادة المقدسة، يوحنا الإنجيلي يعلِّمنا قائلاً: «الذين آمنوا به أعطاهم سلطاناً أن يصيروا بني الله، وليس هم من دم ولا من هوى لحم ولا من مشيئة رجل، بل وُلدوا من الله» (يو 1: 12-13). هذا الذي به بحق نرث ملكوت الله، لأن لحماً ودماً لا يرثها، كما قال الرسول (1كو 15: 50)، بل الذين ولدوا بالروح. ولذلك لمَّا أراد الرب أن يستعلن للشعب بعد كمال ثلاثين سنة لمولده بالجسد، ابتدأ أولاً باستعلان الثالوث الواحد في اللاهوت. ثم أرانا الطريق الكاملة فوق كل كمال، وهو كيفية الميلاد الثاني مبتدأ الإيمان وعربون إرث البنوة التي بها صار العتق والحرية… يقول الكتاب: «حينئذ جاء الربُّ يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد من يوحنا» (مت 3: 13). يا لهذا الاتضاع الذي لا يُقاس ولا يستطيع لسانٌ بشري ترجمته. كيف (أنّ) الرب الذي يأتي إليه كلُّ البشر، كما هو مكتوب (مز 65: 2)، جاء إلى الأردن ولم يأنف من ذلك، وقدوس القديسين جاء ليعتمد من الذي قدسه هو، باركه واصطفاه وأعطاه موهبة روح قدسه، وأرسله بشيراً أمامه. وليس أنه كان محتاجاً إلى ذلك، بل من أجلنا نحن المحتاجين، ولا لأجل قبول الروح القدس أيضاً، لأنه لم يزل معه أزلياً في الجوهر الواحد اللاهوتي، بل لكي يعطينا نحن موهبة الروح القدس بالمعمودية على الإيمان باسمه المقدس. هذا الذي طهر المياه بحلوله فيها وقدسها، وطهرنا نحن أيضاً بهبوط روح القدس نازلاً عليها (يقول الكتاب: اسمح الآن لأنه ينبغي أن نكمل كل بر). فأما يوحنا حيث لم يقدر على الاستعفاء، ولا وجد له مفراً، ولم يقدر (أن) يعاند أمر سيده، حينئذ تركه. وأن الربَّ لما اعتمد «صعد للوقت من الماء»، لكي ما يرينا سرعة اهتمامه بنا، «فانفتحت له السموات»، لأنه ملك كل شيء، «وظهر روح الله نازلاً شبه حمامة آتياً إليه»، لنعلم أن الروح كاملٌ ذو أقنوم، وأنه استُعلن لأجل استعلان الابن، ليكون فاعلاً في كل التقديسات. وحيث هو غير متجسد، تمثّل شبه حمامة دون غيرها من الطير لأجل دعتها.«وإذا صوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». وبهذا سُمي هذا العيد عيد الظهور كما تقدم القول، لأنه فيه ظهر سرُّ الثالوث القدوس، الابن في الأردن، والآب يشهد له، وروح القدس نازلاً عليه.ولماذا لم يحلّ على الرب وهو في نهرالأردن؟ وذلك لئلا يُظنَّ أنه حل على يوحنا المعمداني، لأن اسمه كان ذائعاً. ولهذا لما صعد الربُّ من الماء واعتزل من يوحنا، حلَّ عليه خاصة، وإن كان الروح معه لم يزل في وحدانية اللاهوت جوهراً واحداً. بل صنع هذا لكيما كل من اعتمد بهذا المثال على اسم الثالوث القدوس الواحد في اللاهوت يقبل موهبة الروح القدس، لأن الربَّ صار لنا مثالاً في كل شيء. فأما يوحنا الإنجيلي فإنه جعل فاتحة إنجيله في المولد الأزلي الذي ليس له ابتداء قائلاً: «في البدء كان الكلمة، ولم يزل الكلمة عند الله، وإله هو الكلمة»، وما يتلو ذلك. فلما تقدم لم يترك تدبير التجسد والمعمودية المقدسة لأجل فضلها، بل أكد ذلك جيداً بحلول الروح على الأردن وقول المعداني: «إني عاينتُ وشهدتُ أن هذا هو ابن الله» (يو 1: 34).ولم يقتصر بهذا (القول)، بل زاد ذلك ظهوراً وتأكيداً بأن الربَّ إنما صنع ذلك لأجلنا خاصة. يقول الربُّ لنيقوديموس: «إنه ينبغي لكم أن تولدوا من ذي قبل، لأن المولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح فهو روح» (يو 3: 3، 6). وقال: «من لم يولد من الماء والروح فلا يعاين ملكوت الله» (يو 3: 5). هذا الذي به جدَّدنا وجعلنا بنين للآب في الحياة المؤبدة. كما يقول الرسول: «إنه أحيانا بغُسل λουτρόν الميلاد الثاني وبتجديد موهبة روح القدس» (تي 3: 5)، أعني عن الروح الذي نزعه من آدم عند المخالفة، جدَّده فينا بالمعمودية مجاناً بنعمته. قال: «الذي أفاضه علينا من غناه وفضله بتأييد يسوع المسيح محيينا، لنتبرر بنعمته ونكون وارثين لرجاء الحياة الدائمة (تي 3: 6-7).فلذلك يا أحبائي، كرامة هذا العيد جليلة جداً، ويجب علينا أن نوقرها لأن فيها استعلن لنا سرُّ الثالوث.اليوم أعطانا الابنُ سلطاناً أن نولد من ذي قبل، ونصير بنين لله الآب بالروح. والروح يشهد لأرواحنا إننا بنون لله (رو 8: 16).اليوم رض الربُّ رأس التنين على المياه، كنبوة داود (مز 74: 13).اليوم عَتَقَنَا الابنُ من العبودية المرة، وصيرنا أحراراً عندما جعل فينا موهبة روح قدسه، ذاك الذي نزعه من أبينا آدم عند أكله من عود المعصية.اليوم كمل المكتوب في يوئيل النبي: «إني أفيض روحي على كل جسد، يقول الرب» (يؤ 2: 28).فلنصنعه الآن عيداً نقياً طاهراً كما يليق به، لأن فيه طهرنا الربُّ بحلول روح قدسه، وولدنا ميلاداً جديداً، وليس من زرع يبلى كما كان أولاً، بل مما لا يبلى لإرث ملكوت أبدية لا زوال لها (1بط 1: 23). إذ الصوت الصارخ نسمعه اليوم قائلاً: «أعدوا طريقَ الربِّ واصنعوا سبله مستقيمةً». وإن كان هذا قد صار إلى يوحنا وصرخ به في المسامع جسدانياً، فقد أكمل آباؤنا الرسل الأطهار كنائسياً في إنذار البشرى وبنيان الكنيسة، كما تقدم القول. فإنه يأتي إلى اليوم قائماً ثابتاً صائراً إلينا روحانياً، يصرخ في مسامع نفوسنا، التي صارت كمثل برية خالية من عمل البر، لترك الاهتمام بها، فأمرنا أن نسهل طريق الرب ليحل فينا بالروح عندما نحفظ وصاياه، كما قال: «إن الذي يحفظ وصيتي أنا والآب نأتي ونتخذه مسكناً» (يو 14: 23).فما الذي يكون أشرف من هذا أن الإنسان الحقير الترابي يصير مسكناً للرب الإله العظيم السمائي بعمل وصيته. وحينئذ تمتلئ الأودية التي في تلك النفس، وهي ضعف القلب، وقلة الأمانة (الإيمان)، وعدم الرجاء؛ تمتلئ إيماناً وقوة ورجاءً صالحاً في الله. ثم الآكام التي فيها تتضع، أعني الكبرياء والافتخار والعصيان لناموس الله، وتصير متضعةً من أجل الرب الذي اتضع من أجلنا، خاضعةً لناموسه بمحبة واجتهاد، حافظةً وصاياه بشهوة، حتى إن النفس التي كانت وعرة في مسلكها تصير سهلةً في انقيادها، وكانت أولاً وحشية (أي برية) خشنة في طباعها، تصير لينة سهلة في تصرفها، قد رُسم فيها وطُبع ناموس الروح، ليس في ألواح حجرية، بل في قلوب لينة لحمية، كما يقول الرسول (2كو 3: 3). وهكذا يعاين كل ذي جسد (أن) هذا فعله خلاص الله (لو 3: 6).ويجب علينا أن نذكر العهد الذي عاهدنا به الربَّ وقت المعمودية كالأوامر الرسولية، بأن نجحد الشيطان وكل أعماله، ونتبع ناموس الرب وكل أفعاله. وإن كنا قد زللنا وعملنا بالضد من ذلك، فنتجدد بنار التوبة التي من تلقاء الروح، وننهض من السقطة ونرجع عن توعر الهلاك، إذ الرب يدعونا على فم إشعياء النبي قائلاً: «ارجعوا إليَّ فأرجع إليكم يقول الرب، ولو كانت خطاياكم قد صارت كالدم، جعلتُها كالثلج، ولو كانت كصبغ القرمز، رددتُها كالصوف الأبيض النقي» (إش 1: 18). فإن تهاونا في ذلك، يكمل علينا قول الرسول: «أن ليس عهد ولا وفاء لهم». اللفظة قيلت للمؤمنين خاصة، فقال: «أولئك الذين يعرفون حكم الله أنه مستوجب الموت على الذين يعملون هذه القبائح، وهم لا يقتصرون على العمل بها فقط، بل ويلتمسون مشاركة من يعملها أيضاً» (رو 1: 31-32). فالآن نرجع للربِّ بتوبة نقية لكي نَطْهُر من هذه القبائح، ونغتسل من وسخ دنسها، لأن الربَّ يعلِّمنا على فم إشعياء النبي قائلا: «اغتسلوا وتطهروا وانزعوا الشَّرَّ والخبثَ من قلوبكم أمام عيني، يقول الربُّ» (إش 1: 16). ثم إن النبي يثلبُ قوماً يدومون على خطاياهم وجهلهم قائلاً: «الويل للذين يسكرون من باكر، ويدومون على سكرهم إلى حين المساء» (إش 5: 11)، أعني الذين يتهاونون بنفوسهم في دنس الآثام من صباهم إلى كمال حياتهم، فيدركهم المساءُ الذي هو الموت، الذي لم يبقَ فيه عمل، ولا يُقبل فيه توبة.فلنسعَ الآن في عمل البر حسب قوتنا، مادام لنا زمان ومهلة، قبل أن تدركنا الوفاة، لكي نجد منه معونة ونظفر عنده برحمته، والرب يحفظنا أجمعين من مكائد العدو ومناصبه (أي معاداته)، ويؤهلنا لسماع ذلك الصوت الفرح القائل: «تعالوا إليَّ يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم» (مت 25: 34). بشفاعة سيدتنا البتول مرتمريم والدة الخلاص، وشفاعة القديس البار مار يوحنا المعمداني، وشفاعات آبائنا الرسل والشهداء والقديسين آمين.
المزيد
15 يناير 2021

في الظهور الإلهي

في الظهور الإلهي بقي عيد الميلاد مقترناً بعيد الظهور الإلهي، في الكنيسة الأولى، حتّى القرن الرابع. وبعد أن صارت المسيحيّة ديانة رسميّة، في الإمبراطوريّة الرومانيّة، ومن ثمّ ديانة الدولة، جعلت الكنيسة لميلاد الربّ بالجسد عيداً خاصّاً، وفصلته عن عيد الظهور الإلهي، وحدّدته في يوم عيد الشمس، الذي كان عيداً وثنياً شعبياً، ترافقه احتفالات لا تليق بالمسيحيّين. عمّدت الكنيسة العيد الوثني، ونقلت مركزه، من الشمس المنظورة، إلى المسيح “شمس العدل”، كما تسمّيه ترتيلة عيد الميلاد. في الكنائس الشرقية يتركّز الاهتمام، لاهوتيّاً، على عيد الظهور الإلهي، أكثر منه على الميلاد. وأهميّة عيد الظهور اللاهوتيّة تجعله في المرتبة الثالثة، بعد الفصح والعنصرة.يُدعى عيد الظهور الإلهي، شعبيّاً، بعيد الغطاس. وفعل “غطّس” موازٍ، في المعنى، لفعل “عمّد”، في اللغة اليونانيّة. من هنا، يكون معنى لفظة “المعموديّة” الحرفي، في اللغة اليونانيّة، “تغطيس”. ولذلك اعتاد شعبنا على اعتبار هذا العيد، عيداً لكلّ من كان اسمه “غطّاس”. وجرى التقليد، في البلدان الأرثوذكسيّة، أن يخرج الكاهن مع الشعب المؤمن، بعد القدّاس الإلهي، صبيحة العيد، إلى بحيرة، أو شاطىء البحر، أو نهر، حيث يلقي صليباً معدنيّاً؛ فيتسابق الشباب في الغطس، من أجل العثور عليه، وإعادته إلى الكاهن. هذه العادة ما تزال حيّة حتّى اليوم.غير أنّ الاسم الرسمي هو الظهور الإلهي، لأنّ أقانيم الثالوث القدّوس انكشفت للبشر، بوضوح، للمرّة الأولى، في أثناء معموديّة المسيح. فسُمع صوت الآب، قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب، الذي به سُررت”، والابن كان حاضراً يعتمد، والروح القدس ظهر على شكل حمامة، نزلت عليه. توضح ترتيلة العيد المعروفة “باعتمادك يا رب…” هذا الأمر بجلاء. أمّا ترتيلة التهيئة للعيد، فتتكلّم عن ظهور المسيح وسببه، فتقول: “المسيح ظهر مُريداً أن يجدّد الخليقة كلّها”.كذلك، دُعي، في التقليد اليوناني القديم، بعيد “الأنوار”، لأنّ المعموديّة، بحسب الإيمان المسيحي، استنارة بنور الله. يسمّي تقليدنا الليتورجي الذين يتهيؤون لاقتبال المعموديّة ب “المستعدين للاستنارة”. ونصلي من أجل أن “ينيرهم الربّ بنور المعرفة وحُسن العبادة”. وقد جمع قنداق العيد الاسمين معاً: “اليوم ظهرتَ للمسكونة يا ربّ، ونوركَ قد ارتسم علينا”.هيّأ القدّيس يوحنّا المعمدان الطريق للمعموديّة المسيحيّة. وكانت دعوته إلى التوبة هكذا: “هيّئوا طريق الربّ، اجعلوا سُبُلَه قويمةً”(مر1/3). لقد كانت معموديّته إعلاناً للتوبة، ودعوةً لترك حياة الخطيئة، بينما المعموديّة المسيحيّة هي لغفران الخطايا، واكتساب نعمة البنوّة الإلهيّة. أمّا السيّد فقد قبل، وهو البريء من الخطيئة، إتمام معموديّة يوحنّا اتضاعاً، “لكي يتمّم كلّ برّ”(مت3/15)، ويقدّم نفسه نموذجاً، للذين أتى من أجل خلاصهم.يقول إنجيل متّى أنّ “السماء انشقّت” للحال بعد معموديّة يسوع. إنّها المرّة الأولى، التي يرد فيها هذا التعبير. فقد أُغلقت السماء في وجه الإنسان، بعد سقوط آدم وحواء منه، وها هي تنفتح، ثانية، بمجيء المسيح، الذي سيعيد للإنسان المجد الإلهي، الذي خسره، عندما رفض العيش في كنف الله ورعايته. كذلك، عند انشقاق السماء، سُمع صوت الآب، ونزل الروح القدس. يُظهر الله سرّه الثالوثي للبشر بوضوح. لأنّه، منذ تلك اللحظة، لم يعد يكتفي بدعوتهم إلى معرفته، وإنّما سيمنحهم، بالمسيح، الخلاص المنشود، ويفتح الطريق لهم ثانية. ما عادت السماء بعيدة؛ صار الله بيننا.هذا العيد مناسبة لكي يسائل المؤمن نفسه، حول تفعيل نعمة المعموديّة، على مستواه الشخصي. فيوم معموديّتنا هو يوم ميلادنا الحقيقي، كوننا اكتسبنا فيه البنوّة لله، ولبسنا المسيح، كما تقول الترتيلة الشهيرة: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم”. فبعد المعموديّة، يصير المعتمد شبيهاً بالمسيح؛ وعليه تالياً أن يحفظ هذه النعمة، ويحافظ عليه، لا بل أن ينمّيها وينمو فيها، حتّى يصل إلى قامة ملء المسيح.يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: “كما أنّ الطفل يأخذ من والديه إمكانيّة أن يصير رجلاً، ويرث الأملاك الوالديّة، عند بلوغه السن المناسب، لكنّه يخسرها إذا مات في أثناء ذلك، فإنّ المسيحي يحصل، بالمعموديّة، على القدرة لكي يصير ابناً لله، ووارثاً للخيرات الأبديّة، إن لم يمت في أثناء حياته الموت العقلي، الذي هو الخطيئة”. الخطيئة تجعلنا نخسر النِعَم التي حصلنا عليها بالمعموديّة. هذا التعليم مدعاة للتأمّل بعظمة سرّ المعموديّة، وأهميته للمسيحيّين. يدعونا هذا العيد، إلى مراجعة أنفسنا ومسلكنا، بخصوص أمرين:- الأوّل هو المحافظة على نِعَم المعموديّة، وتنميتها فينا، لئلا نخسرها. إنّه مناسبة للعودة إلى معنى المعموديّة، وشحذ الهمّة، لحفظها فينا، وعيشها بملئها. أمّا الثاني، فهو تقويم ممارستنا لإتمام سرّ المعموديّة. وأوّل هذا التقويم الكفّ عن اختيار العرّاب أو العرّابة، بسبب صلة القرابة، أو الصداقة، أو الرغبة في “تبييض الوجه”. يجب أن نختار الشخص التقي المؤمن، الذي سيأخذ مسؤوليّته هذه على محمل الجد، ويكون أباً روحيّاً (أو أمّاً روحيّة) حقّاً. تقويم إتمام السرّ، يعني إخراجه من الفولكلور السائد في طريقة تعاطينا معه، واعتباره عملاً في غاية الجديّة والأهميّة. فنتهيء له بالصلاة والصوم، ونتمّمه بروح التقوى والتخشّع، ولا نعتبره مناسبة اجتماعيّة، ولا نؤخره لأسباب اجتماعيّة أو شخصيّة. إنّه حدث ولا أهمّ، يأخذ فيه ابننا أو ابنتنا أهمّ ما يمكن للإنسان الحصول عليه، ألا وهو نعمة أن يلبس المسيح ويصير ابناً أو ابنة لله. تبقى قضية مباركة بيوتنا وتكريسها لله، بعد قداس العيد. إنّها تقليد شريف أصيل عند المسيحيّين. فالماء المقدّس سبيلٌ لاستجلاب البركة الإلهيّة للبيت، ولا يجب أن نخسرها. يتعرّض هذا التقليد الأصيل، اليوم، لعوائق كثيرة، خاصّة في المدن، بسبب توسّعها، وظروف المعيشة فيها، وعمل الزوجين. ممّا يحتّم على المؤمنين والكهنة معاً، السعي الجدّي لإيجاد الطريقة الفضلى، التي تؤمّن تحقيقه. كأن يبادر المؤمنون إلى الاتصال بالكاهن، من أجل تحديد الوقت المناسب لكليهما، لإتمام تبريك البيت، وأن يحثّ الكاهن المؤمنين، على إتمام هذا الأمر، بملاحقتهم والتواصل الدؤوب معهم.لا نجعلنّ هذه الأعياد تمرّ دون الاستفادة منها روحيّاً. إنّها لأجلنا وُضعت. المطران سابا (إسبر)
المزيد
14 يناير 2021

عيد ختان المسيح

في اليوم الثامن بعد ميلاده، خُتِن المسيح بحسب ناموس العهد القديم اليهودي. فلأنّه وُلِد وعاش في بيئة معيّنة، قد حفظ كل قوانينها وعاداتها. ومع ذلك يجب تفسير ختانه ضمن لاهوت إفراغ الذات (Kenosis) الذي ارتضى به لخلاص الجنس البشري.بما أنّ الآباء قرّروا التعييد لميلاد المسيح في الخامس والعشرين من كانون الأوّل، فطبيعي أن يُعيَّد للختان، الذي تمّ بعد ثمانية أيام، في الأوّل من كانون الثاني، أي بعد ثمانية أيام من الميلاد. لهذا تظهِر طروبارية هذا اليوم أهمية الختان اللاهوتية: “… إنّك وأنتَ إله بحسب الجوهر قد اتّخَذتَ صورةً بشرية بغير استحالة، وإذا أتممتَ الشريعة تقبّلت باختيارك ختانة جسدية…” فكما أنّه بسبب محبته وتحننه قبل أن يلّف بأقمطة، كذلك قبل المسيح الختان بالجسد. تنظر الكنيسة إلى تذكار هذا التنازل العظيم وإفراغ الذات من قِبَل المسيح كعيد كبير من أعياد السيّد.الختان هو قطع جزء “من طرف العضو الذكري”. هذا يجري لكلّ مولود صبي بحسب وصية الله المُعطاة لإبراهيم في البداية. يرد النص التالي في العهد القديم: “وهذا هوَ عهدي الذي تحفظونَه بَيني وبَينكُم وبَينَ نسلِكَ مِنْ بَعدِكَ: أنْ يُختَنَ كُلُّ ذَكَرٍ مِنكُم. فتَختِنونَ الغُلْفةَ مِنْ أبدانِكُم، ويكونُ ذلِكَ علامةَ عَهدٍ بَيني وبَينَكُم. كُلُّ ذَكَرٍ مِنكُم اَبنُ ثمانيةِ أيّامِ تَختِنونَه مدَى أجيالِكُم، ومِنهُمُ المَولودونَ في بُيوتِكُم أوِ المُقتَنونَ بِمالٍ وهُم غُرَباءُ عَنْ نسلِكُم” (تكوين 10:17-12). الوصية نفسها تكرّرت لموسى: “وفي اليومِ الثَّامنِ يُختَنُ المولودُ” (تثنية 3:12). وفي محادثته مع اليهود، ذكّرهم المسيح بأنّ الختان أُعطي بموسى لكنّه كان موجوداً من قبله: “أمَركُم موسى بالخِتانِ، وما كانَ الخِتانُ مِنْ موسى بل مِنَ الآباءِ، فأخَذتُم تَختُنونَ الإنسانَ يومَ السَّبتِ” (يوحنا 22:7).لقد ارتبط الختان بالصلاح والتقوى وإطاعة الناموس، وهو يُشير إلى الإسرائيلي الطاهر، بينما أُشير إلى الإنسان غير الطاهر غير التقي بأنّه غير مختتن. إذاً الخِتان وعدمه هما مفهومان وممارستان متناقضتان، تشير الأولى إلى اليهود والثانية إلى الأمم الوثنيين.إن طقس الختان كان جرحاً مؤلِماً وخاصةً بالطريقة التي كان يجري فيها في تلك الأيام. الوسائل المُستَعمَلة كانت سكيناً وموسى وحجراً حادّاً. استعمال سيفورة لحجر حاد لختان ابنها كما يرد في خروج (25:4) “فأخذَت صَفُّورَةُ اَمرأتُه صَوَّانَةً فختَنَتِ اَبنَها ومسَّت بِها رِجلَي موسى وقالت: «أنتَ الآنَ عريسُ دَمِ لي»” هي حادثة مميزة. معروف أيضاً أنّ يشوع “فصنَعَ يَشوعُ سكاكينَ مِنْ صَوَّانٍ وختَنَ بَني إِسرائيلَ عِندَ جبعَةَ هاعَرلوتَ” (يشوع 3:5).إنّه لجلي بأنّ الختان كان عملاً مؤلِماً يسبب النزف. وإذا فكّرنا بأنه كان يُجرى لمولود جديد يمكننا أن نفهم ألَمَه وأيضاً ألَم أهله الذين أتمّوا الختان ورأوا تمزيق طفلهم.في أي حال، لقد كان للختان محتوى لاهوتي عميق ومعنى جوهري ولم يكن يتمّ لمجرّد التطهير. وبهذا المعنى هو يختلف عن الختان عند الشعوب الأخرى كالمصريين والمسلمين وغيرهم. بعضهم، كالمسلمين، أخذ الختان من العهد القديم وناموس موسى ولكن أعطي له محتوى آخر. يقول القديس أبيفانيوس القبرصي أن الشعوب الأخرى عرفت الختان، كالوثنيين وكهنة المصريين والعرب والإسماعيليين والسامريين واليهود والحميريين، لكنّ أغلبهم لم يختتنوا لناموس الله بل لعادات “غير عاقلة”.كلمة الله لإبراهيم التي بها تأسّس الختان أيضاً تُظهِر السبب الأساسي. قال الله: “وهذا هوَ عهدي الذي تحفظونَه بَيني وبَينكُم وبَينَ نسلِكَ مِنْ بَعدِكَ: أنْ يُختَنَ كُلُّ ذَكَرٍ مِنكُم” (تكوين 11:17). بكلمات أخرى، إنّه اتفاق بين الله وشعبه الخاص، إنه عهد. هذا الاتفاق يجب أن يُثَبَّت بالدم. نحن نرى هذا أيضاً في العهد الجديد حيث يُثبَّت اتفاق الله مع البشر بدم المسيح.الختان كان علامة للتعرّف على أنّ حامله ينتمي إلى شعب الله. بحسب المفسّرين، الختان بحدّ ذاته لم يكن عهداً بل علامة على العهد والاتّفاق. هذه الممارسة خدمت أيضاً لتذكِّر الإسرائيليين بأنّ عليهم أن يثابروا في تقوى أسلافهم فلا يأتوا إلى احتكاك غزلي مع الوثنيين والشعوب الأخرى. بهذه الطريقة تلافوا الزيجات المشتركة وبالطبع تلافوا نتائجها أي التغرّب عن الإيمان المعلَن. يخبرنا القديس أبيفانيوس أنّ الختان اشتغل كَخَتْم على أجسادهم، مذكِّراً لهم وضابطاً إياهم ليبقوا “على إيمان آبائهم”. إذاً الإسرائيليون بعد ختانهم عليهم أن يبقوا في أمّتهم وعلى الإيمان بالإله الحقيقي. إلى هذا، الختان كان إشارة مبكرة إلى المعمودية التي سوف تُمنَح في الوقت المناسب من خلال تجسّد ابن الله وكلمته، إذ في الحقيقة المعمودية هي ختان القلب كما سوف نرى لاحقاً.المسيح أيضاً حفظ هذه الممارسة المؤلِمة، مباشرةً بعد ميلاده. يتطرّق الإنجيل بحسب لوقا إلى طقس الختان بكلمات قليلة فيقول: “وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيُخْتَنَ الطِّفْلُ، سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا كَانَ قَدْ سُمِّيَ بِلِسَانِ الْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ يُحْبَلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ” (لوقا 21:2). من هذا التقديم الضئيل لطقس الختان في حياة المسيح، نرى أنّه مرتبط بشدة بإعطاء الإسم، لأن آنذاك أُعطي له اسم يسوع الذي تفسيره المخلّص. ما يقوله القديس ثيوفيلكتوس مميَّز، بأن هذا الجزء الذي قُطِع بختان المسيح، حفظه هو سالماً واتّخذه مجدداً من بعد قيامته. إلى هذا، ما جرى للمسيح يظهِر أيضاً الطريقة التي بها سوف يتمّ في أجسادنا. إنّ تعليم آباء الكنيسة هو بأنّ أعضاء الجسم البشري التي تأذّت بطرق مختلفة سوف يعيد الله ربطها بالجسم وتغيير شكلها حتّى يدخل الإنسان ملكوتَ الله كاملاً مركباً من النفس والجسد. على الأكيد، في هذه الحالة سوف يكون الجسد روحياً لا لحمياً كما هو اليوم.إن طقس الختان الذي جرى في اليوم الثامن مرتبط أيضاً بإعطاء الاسم، وقد ضُمَّ إليه في الفترة المسيحية احتفال “ختم الولد متّخذاً اسماً في اليوم الثامن من بعد ميلاده”. إنّ محور الاحتفال هو صلاة رائعة يقرؤها الكاهن على الولد عند أبواب الكنيسة. القابلة أو أحد الأقارب، وليس الأم التي سوف تأتي إلى الكنيسة في اليوم الأربعين، يحمل الولد ويُقدَّمه.في أي حال، أنّ المسيح، بعد أن صار إنساناً، اختبر ألماً عظيماً خلال طقس الختان، هو حقيقة تُظهِر الاعتبار المفرِط الذي يكنّه الله للجنس البشري.بعد أن رأينا المعنى اللاهوتي الذي اشترعه الله للختان في العهد القديم، وأن المسيح أيضاً خُتِن علينا أن نشير إلى أسباب ختانة المسيح. بالدرجة الأولى، بإتمامه الختان أظهر المسيح أنّه هو بنفسه كان معطي الناموس في العهد القديم، وبالتالي ينبغي احترامه. لم يأتِ المسيح ليبطِل الناموس بل ليحفظه وبالواقع ليرفعه. هذا يعني، المسيح رفع الناموس من دون أن ينتهكه. بهذه الطريقة أظهر أنّه علينا نحن أيضاً أن نحفظ ناموس الله الذي يهدف إلى الخلاص. إذاً، الختان كما أكّدنا، يظهر أيضاً محتوى إفراغ الذات. على الأكيد، يكمن إفراغ الذات، عند ابن الله وكلمته، في التجسّد، أي في حقيقة أنّ الإله غير المخلوق اتّخذ طبيعة بشرية مخلوقة. لكنّ هذا الإفراغ وهذا التنازل الهائل يظهران أيضاً في الختان لأنّه قبِل هذه التجربة الصعبة بأكملها.علاوة على ذلك، قبِل المسيح الختان لكي يظهِر أنّه اتّخذ طبيعة بشرية حقيقية. هذا مهمّ جداً، إذ في كنيسة القرون الأولى ظهرت هرطقة الدوسيتيين التي قالت بأنّ المسيح لم يتّخّذ الطبيعة البشرية الحقيقية وجسداً بشرياً حقيقياً، بل أنّ جسده كان جسداً ظاهرياً خيالياً. هذا قاد إلى الاستنتاج بأنّ المسيح لم يُصلَب على الصليب إذ لم يكن له جسم حقيقي. لكنّ هذه النظرة لا تخلّص الإنسان. كيف يخلُص الإنسان إن لم يتّخذ الربّ الطبيعة البشرية؟ لهذا، كما يقول القديس أبيفانيوس، المسيح خُتِن لكي يظهر أنّه “بالحقيقة اتّخذ جسداً”. هذا القول مرتبط أيضاً بحقيقة أن ختان المسيح اثبت أن الجسد الذي اتّخذه لم يشترك في نفس جوهر الألوهة. في المسيح اتّحد غير المخلوق بالمخلوق. الجسد، بما أنّه تألّه بألوهة الكلمة، صار إلهاً على نحو متطابق، لكنّه ليس من جوهر الله. هذا يعني أنّ المسيح هو أيضاً مصدر نعمة الله غير المخلوقة، لكنّه ليس من نفس جوهر الألوهة. خُتِن المسيح ليعلّم الناس أنّ الختان، الذي أعطاه هو لليهود، خدم البشرية وهيأ الأرضيّة التي هيّأها لحضوره. لم يكن الطقس عقيماً. بالختان بقي اليهود مخلصين لناموس الله وانتظروا المسيح. وأخيراً، لم يظهر فقط أن الختان كان يهيء الجنس البشري لحضور المسيح، بل ايضاً هو مثال، تصوير مسبُق للختان الذي لم تقم به أيادٍ بشرية، أي المعمودية المقدّسة. بحسب القديس يوحنا الدمشقي، الختان كان صورة للمعمودية. وتماماً كما أن الختان يقطع من الجسد جزء لا نفع فيه، كذلك في المعمودية المقدسة نحن نعزل الخطيئة التي ليست حالة طبيعية بل براز. عندما نتحدّث عن الخطيئة التي نعزلها، نحن نعني الشهوة، وبالطبع ليس الشهوة النافعة الضرورية بل الرغبة التي لا نفع فيها واللذة. المعمودية هي ختان لا يتمّ بالأيدي البشرية، ولا هو يعزل المرء من أمّته، بل هو يفصل بين المؤمن وغير المؤمن الذي يعيش في الأمّة نفسها. بعد العنصرة، انشغلت الكنيسة كثيراً بسؤال ما إذا كان ينبغي ختان المهتدين إلى الإيمان المسيحي. أرضية هذا السؤال كانت أنه ينبغي بالوثنيين الآتين إلى الإيمان المسيحي أن يحفظوا ناموس العهد القديم بما فيه الختان، بما أنّ العهد القديم سبق الجديد. للتعامل مع هذا الموضوع، انعقد المجمع المسكوني الأول المسمّى الرسولي، وقرّر في هذا الأمر كما هو مدوّن في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل. نشأت المشكلة عندما كان المسيحيون اليهود “يُعَلِّمونَ الإخوةَ، فيَقولونَ: «لا خَلاصَ لكُم إلاَّ إذا اَختَتَنتُم على شريعةِ موسى” (أعمال 1:15). بالواقع، لقد كان هناك نزاع والكثير من المناقشات، كما يرد، وبعض الذين أتوا من طائفة الفريسيين أصرّوا على أن يختتن المهتدون ويحفظوا ناموس موسى (أعمال 5:15). تكلّم في المجمع الرسولي كلٌ من الرسل بطرس وبرنابا وبولس ويعقوب أخو الرب. قرار المجمع كان بأن الذين يأتون إلى الإيمان المسيحي من الأمم يجب ألاّ يختتنوا، بل عليهم أن يحفظوا أنفسهم أنقياء، ممسكين عن تقدمات الأوثان والدم والمخنوق والفجور الجنسي. يقول القرار الذي نُقل لاحقاً برسالة إلى المسيحيين: “فالرُّوحُ القُدُسُ ونَحنُ رأينا أنْ لا نُحَمِّلَكُم مِنَ الأثقالِ إلاَّ ما لا بدَ مِنهُ، وهوَ 29أنْ تَمتَنِعوا عَنْ ذَبائِحِ الأصنامِ، وعَنِ الدَّمِ والحيوانِ المخنوقِ والزِّنى. فإذا صُنتُم أنفُسَكُم مِنها، فحَسَنًا تَفعَلونَ. والله مَعكُم” (أعمال 28:15-29).حجّة هذا القرار كانت أنّه لا غنى عن الختان كونه صورة ومثال للمعمودية المقدّسة ومهيِئ للشعب لحضور المسيح. شروط ناموس العهد القديم التي كانت مرتبطة بالجهاد من أجل طهارة الجسد والنفس من الخطيئة، وخاصةً عندما كان الأمر يتعلّق بحرية الإنسان الشخصية، يجب الحفاظ عليها. أمّا الختان الذي لا علاقة له بالامتناع عن الخطيئة وطهارة النفس، يمكن الإعفاء منه لأنّه استُبدِل كلياً وأُكمِل وتُمِّم بسرّ المعمودية.تولّى الرسول بولس إظهار قرار مجمع الرسل ولاهوته للأمم، في تعليم من ضمن هذا الإطار. علينا أن ننظر إلى بعض النقاط في هذا التعليم حول هذا الموضوع.في مجابهة وضع المسيحيين اليهود الذين طالبوا المسيحيين من الأمم بأن يختتنوا، قال أنّهم يقومون بذلك لكي يمدحهم اليهود الآخرون فلا يُضطَهَدوا من أجل صليب المسيح، أي من أجل إيمانهم بالمسيح المصلوب والقائم من الموت (غلاطية 12:6-13). في أي حال، يوضح الرسول أنّه يفتخر بصليب المسيح الذي به وُجِدَت خليقة جديدة. “فلا الخِتانُ ولا عدَمُهُ يَنفَعُ الإنسانَ، بَلِ الذي يَنفَعُهُ أنْ يكونَ خَليقَةً جَديدَةً” (غلاطية 15:6).إلى جانب هذا، الختان لا قيمة له بحد ذاته، إلاّ إذا ارتبط بالإيمان وحفظ وصايا الله. بقدرة مذهلة على التفسير يشدد الرسول بولس على أنّ هذا الختان عديم النفع لأيٍ كان ما لم يتمّم الناموس. بطريقة مماثلة، الشخص غير المختتن إذا حفظ متطلبات الناموس سوف يُنظَر إليه وكأنه قد اختتن (روما 25:2-26). يشير الرسول أيضاً على الذين يأتون من الختان لكنّهم موسومون بأهواء كثيرة فيقول بشكل مميز “فهُناكَ كثيرٌ مِنَ المُتَمَرِّدينَ الذينَ يَخدَعونَ الناسَ بِالكلامِ الباطِلِ، وخُصوصًا بَينَ الذينَ هُم مِنَ الختان” (تيطس 10:1). فالرسول على عكس الذين يتفاخرون بختانهم يتفاخر بصليب المسيح، وبالحقيقة بعلامات المسيح التي يحملها في جسده: “لأنِّي أحمِلُ في جَسَدي سِماتِ يَسوعَ” (غلاطية 17:6).إن الإصحاح الثاني من غلاطية هو أحد المقاطع الأساسية التي فيها تُحلّل الحقيقة اللاهوتية لنعمة الله بالارتباط بأعمال الناموس، وللختان فيها موقع غالب. سوف نقوم بتحليل أوسع لكي نرى فكر الرسول بولس في موضوع الختان.يقدّم الرسول بولس تحليلاً لاهوتياً للموضوع في إشارته إلى حادثة مع الرسول بطرس الذي أُسيء فهمه لأنّه حاول أن يتصرّف بلباقة ولا يصدم لا المختتنين ولا المهتدين. يقول أولاً أن الله عمل فيه ليحمل البشارة إلى الأمم، والإله نفسه عمل في الرسول بطرس ليحمل البشارة إلى المختتنين. فهو يكتب: “بَل رأَوا أنَّ الله عَهِدَ إليَ في تَبشيرِ غَيرِ اليَهودِ كما عَهِدَ إلى بُطرُسَ في تَبشيرِ اليَهودِ، لأنَّ الذي جعَلَ بُطرُسَ رَسولاً لِليَهودِ، جعَلَني أنا رَسولاً لِغَيرِ اليَهودِ” (غلاطية 7:2-8) وهو يستنتج بعد عرض الحادثة بينه هو والرسول بطرس في أنطاكية: “نَحنُ يَهودٌ بالوِلادَةِ لا مِنَ الأُمَمِ الخاطِئينَ كما يُقالُ لهُم. ولكنَّنا نَعرِفُ أنَّ الله لا يُبرِّرُ الإنسانَ لأنَّهُ يَعمَلُ بأحكامِ الشَّريعَةِ، بَل لأنَّهُ يُؤمِنُ بيَسوعَ المَسيحِ. ولذلِكَ آمَنا بِالمَسيحِ يَسوعَ ليُبرِّرَنا الإيمانُ بِالمَسيحِ، لا العَمَلُ بأحكامِ الشَّريعَةِ. فالإنسانُ لا يتَبَرَّرُ لِعمَلِهِ بأحكامِ الشَّريعَةِ.” (غلاطية 15:2-16)الناموس وأعمال الناموس لا يساهمون في تبرير الإنسان. التبرير في مجمَل فكر الرسول بولس وحياة الكنيسة مرتبط بتجدد الإنسان، استنارة النوس، والتألّه. وهكذا، ليست القضية قضية تبرير بشري عاطفي، بل قضية تألّه. بهذا المعنى يستعمل الرسول عبارة “التبرير” ويظهر معناها مما يتابعه “معَ المَسيحِ صُلِبتُ، فما أنا أحيا بَعدُ، بَل المَسيحُ يَحيا فـيَّ.” (غلاطية 20:2).الناموس وأعمال الناموس، كالختان مثلاً، لا يؤلّهون الإنسان كون التألّه يحصل فقط بالمسيح. إن خلاص الإنسان وتألّهه يتمّان عِبر تجسّد المسيح. إلى هذا، كل الشريعة وأعمال الناموس في العهد القديم أُعطيَت بعد سقوط الإنسان، ليتهيأ البشر لتجسّد كلمة الله. لهذا، الناموس هو إرادة الله اللاحقة وليس الأولى. لا يتمّ التألّه خلال الحفظ الخارجي بناموس الله، بل من خلال الشركة مع شخص، هو شخص المسيح الإله الإنسان. لو كان بإمكان الناموس أن يخلّص لما كان هناك حاجة للتجسّد.نحن نقول هذه الأمور لا لكي نضع الناموس جانباً، ونحن لسنا ضد الناموس، لكن ينبغي التشديد على أنّ الناموس وأعماله، كالختان مثلاً، هيأوا الشعب لتجسّد المسيح، وشكّلوا طبّاً لقلب الإنسان طهّره من أهوائه. إذاً، الناموس يعمل بطريقة مُطَهِّرة. في أي حال، مَن بلغ الاستنارة والتمجيد يحتاج أن يكون عنده إيمان بيسوع المسيح أي شركة مع المسيح الإله الإنسان. بناءً عليه يسأل الرسول بولس: ” هَلْ نِلتُم رُوحَ الله لأنَّكُم تَعْمَلونَ بأحكامِ الشَّريعَةِ، أمْ لأَنَّكُم تُؤمنونَ بالبِشارَةِ؟” (غلاطية 3:2).النقطة إذاً هي أن أعمال الناموس لا تخلِّص ولا تؤلّه لكنّها تهيؤ الإنسان لتقبّل إيمان يسوع المسيح أي أنّه يتّحد مع المسيح ويتقبّله كهدية. وهكذا كلّ مَن تطهّر وحصل على المسيح، كلّ مَن، بنعمة الروح القدس، صار عضواً في جسد المسيح لا حاجة له بالختان. إلى جانب هذا، حصل المسيحيون على الختان غير المصنوع بيد. “وفي المَسيحِ كانَ خِتانُكُم خِتانًا، لا بالأيدي، بَل بِنَزعِ جِسمِ الخَطايا البَشَرِيِّ، وهذا هوَ خِتانُ المَسيحِ. فأنتُم عِندَما تَعَمَّدتُم في المَسيحِ دُفِنتُم معَهُ وقُمتُم معَهُ أيضًا، لأنَّكم آمَنتُم بِقُدرَةِ الله الذي أقامَهُ مِنْ بَينِ الأمواتِ.” وفي مكان آخر يتحدّث الرسول عن ” وإنَّما اليَهوديُّ هوَ اليَهوديُّ في الباطِنِ، والخِتانُ هوَ خِتانُ القَلبِ بالرُّوحِ لا بِحُروفِ الشريعةِ. هذا هوَ الإنسانُ الذي يَنالُ المَديحَ مِنَ الله لا مِنَ البشَرِ” (روما 29:2).يقدّم الآباء القديسون حقائق لاهوتية رائعة في تفسيرهم المقاطع الكتابية حول الختان الروحي الحقيقي، الذي هو المعمودية المسيحية.يعلّم القديس أبيفانيوس أن ختان الجسد حضّر الإنسان وخدمه إلى حين المعمودية، التي هي الختان الأعظم، لأنّ من خلالها نحن نتحرّر من الخطايا ونُختَم باسم الله. الختم مع اسم الله هما معرفة أننا ننتمي للمسيح. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه إذا كان ختان الجسد فصل اليهود عن الأمم هذا بالأغلب الوضع مع المعمودية المقدسة، لأنّ من خلالها يتميّز المؤمنون عن غيرهم. هنا يظهر أن المدعوين معمّدين هم كلّ الذين اعتمدوا وكل الذين أعادوا إضرام نعمة المعمودية.بحسب تعليم القديس كيرللس الإسكندري، ختان العهد القديم لم يبطِل الموت الذي أبطله ختان العهد الجديد. بالواقع، الشخص الذي يدخل الكنيسة بالمعمودية يصبح عضواً في جسد المسيح القائم. بهذا يبطل الموت الروحي وتتأمّن قيامة الأموات، لأنّ الموت الجسدي يبقى بعد المعمودية بقصد قطع الخطيئة.يعلّم القديس يوحنا الدمشقي أن الاختتان هو التخلّي عن اللذة الجسدية وكل الشهوات غير الضرورية العقيمة. هنا نرى أن المعمودية مرتبطة بالحياة النسكية التي بها يتحرّر الإنسان من سلطة الأهواء. ليست القضية قضية قصاص أو انتقاص للجسد، بل قضية تقليل وتحويل لشهوات النفس.في تعليم القديس مكسيموس المعترِف نرى أن الختان هو اسمٌ لقطع العلاقة الانفعالية بين النفس والجسد. فهما بينهما علاقة ووحدة. والمسألة ليست مسألة هذه الوحدة بل مسألة العلاقة الانفعالية التي تتمّ عِبر الأهواء.إن أقوال الآباء تظهِر أن ختان العهد القديم داخلي وروحي، إنّه شركة الإنسان مع الله وجهاد للحفاظ على هذه الشركة. في العهد القديم أعطى الله ناموسه لكي يهيء الشعب لتقبّل المسيح. يقول يوحنا الإنجيلي في مطلع إنجيله “لأنَّ الله بِموسى أعطانا الشريعةَ، وأمَّا بِـيَسوعَ المسيحِ فوَهَبَنا النِّعمَةَ والحقَّ” (17:1). إن الكلمة غير المتجسّد هو الذي أعطى الناموس لموسى لكي يشفي الشعب المتهيء لتقبّل الحق والنعمة اللذين أتيا إلى العالم بتجسّد كلمة الله المسيح. الناموس الموسوي، كما الختان، كان فيهما نعمة لكنها كانت قوة الله المطهِّرة ونعمته، لكنها ليست القوة المنيرة المؤلِّهة.نحن نكتسب ولادة روحية وبنوة حقيقية بالمسيح. يركّز يوحنا الإنجيلي: ” أمَّا الذينَ قَبِلوهُ، المُؤمِنونَ باَسمِهِ، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناءَ الله. وهم الذين ولدوا لا من دم ولا مِنْ رَغبَةِ جسَدٍ ولا مِنْ رَغبَةِ رَجُلٍ، بل مِنَ الله.” (12:1-13).بالختان يصير البشر إسرئيليين، أي شعب الله المختار. بالمعمودية وحياة العائلة بالمسيح يصبح البشر أبناء الله، يبلغون البنوّة بالنعمة ويغلبون الموت.وهكذا، إن ختان المسيح يوحي إلينا بختان القلب. بالحياة الأسرارية والنسكية نصبح اعضاء جسد المسيح ويصبح تنازل المسيح مرتقانا. الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس تعريب الأب أنطوان ملكي
المزيد
11 يناير 2021

قتل أطفال بيت لحم - ماريعقوب السروجي

لما بدأ هيرودس باهلاك اطفال البلد اخذ يقتلهم من عمر سنتين وما دون، صنع الجبان حربا جديدة وصار سخرية لانه دعا الى المعركة بني سنة ليقتلهم،سحبت قرعة الصبيان في ارض اليهودية، وكانوا يقتلون بدل الملك الآتي الى العالم،لما قتلوا صاروا شهودا جددا للابن، وبآلامهم مهدوا درب قتل الابن،صرخت الامهات لانهن رأين فضاعة موت اولادهن المقتولين بامر الملك الغاشم،ولولت الجفنات على عناقيدها الباكرة لان الخنزير دخل وعصرها وهي على اغصانها،راحيل بكت على بنيها لانهم غير موجودين، وفي الايحاءات انصت ارميا وسمع صوتها، كان النبي قد سمع صوت بكاء عظيم في الرامة: راحيل تبكي ولا تريد ان تتعزى، ترك هيرودس جميع الملوك الموجودين في المنطقة وشن حربا ليتقاتل مع الاطفال وقف امامه صبيان صهيون ليمنعوه، واستل سيفه على الجميلين وذبحهم،الاثيم اباد فوج الملك ولم يؤذه شخصيا، لقد طعن جيشه لينجو هو من السكين،اصطف الاطفال وقاتلوا هيرودس وغلبوه لانهم لم يستسلموا لقائد الجيش،اصطف ومات جميعهم في المعركة، ولم يكشفوا عن موضع الملك لئلا يلحق به ضرر،يا هيرودس بماذا اذنب اطفال الشعب ضدك، معركتك هي جريمة لانك تحارب مع الاطفال،؟تفتخر بالانتصار على رضع الحليب، وجيشك انكسر في الحرب لان الملك لم يمت، انتصر الاطفال وغلبوك لتصير سخرية، لان قائد الجيش لم يقطعه السكين،مات الشباب ولم يمت الختن لان وقته لم يحن، طعن المتكئون وصاحب العرس لم يهن،ذهب الختن ليدعو مصر لتأتي عنده، وتسلط السيف على جميع شبابه قبل عودته، جاء ليصنع عرس الدم في ارض اليهودية، فدعي اطفال البلد الى الذبح،الانقياء قتلوا لاجل النقي دون ان يذنبوا ليمهدوا الدرب للدم الطاهر الذي سيسكب،كان الملك قد امر ان يخرج السيف ويقتل ابناء سنة وسنتين الموجودين في تخومه،استل السيف لقتل الاطفال، وكانوا يقتلون بدون اذْن حيثما وجدوا،يوجد من قطع رأسه وهو نائم في كنف امه، ومن النوم انتقل الى الموت بصمت عظيم، يوجد من اخذوه من ركبتي امه التي كانت تحمله، وسكبوا دمه وزالت انغامه الحبيبة،خرج الاطفال الاحباء ليمهدوها بعذاباتهم الى ان ياتي ملك الآلام ليمشي عليها،صار صبيان البلد رهائن مقتولين لاجل الابن، وارسلهم ليهيئوا مكان الصلب. [المسيح يكلم الأطفال:] لما قتلوا ارسلهم الى موضع الموت، ليسمعوه بان الملك سياتي عند الموتى، قيلت مثل هذه الامور من قبل المخلص للصبيان الذين بدأوا المسيرة في درب الصلب قبله: اذهبوا وقولوا للملك الغاشم، هانذا آت، تكفى دعوتك السريعة لي الى موضع رئاستك، سآتي في طريق الآلام الذي صممُته، وساحّلك من سلطة رئاستك، لي وقت قصير للعمل من بعد ارسالي، وبعدئذ سآتي بجبروت عندك،اذهبوا ايها الاولاد وامكثوا هناك في موضع الشيول، الى ان آتي وسافرغها من الموتى،بعد قليل سادرككم في الظلمة، وساشرق عليكم نورا عظيما لتفرحوا به،اذهبوا وامكثوا في المحصنة المليئة بالموتى، فلن اتاخر وساقلعها لئلا تقوم بعد،ناموا عن العالم، واستريحوا من سرير كل الاجيال، ولما انقضها ساوقظكم مع الكثيرين، اسبقوني قليلا في سبيل الآلام الى ان آتي، وساختمها بالصلب حتى ابعثكم،ادخلوا وانتظروني في الهوة العظمى مدينة الطغمات، ولما اتالم اصرخ فيها وستسقط كلها،اذهبوا الى السبي مع الكثيرين الذين قادهم الموت، وهانذا آت لاحطم قوسه واعيدكم. [قوة الأطفال:] سخر الاطفال من السيف لما ُقتلوا، لان طريق الملك كان يمهد بآلامهم،ضحكوا على الموت لانهم لم يعرفوا ما هو طعمه، ولم يحزنوا لما جذبوا نحو السكين،قام الاولاد ولعبوا بالافعى، والصبيان (لعبوا) بالموت ولم يشعروا بانه مر، من صبيان بيت لحم ظفر السيف اكليلا للملك المسجود له الذي اتى ليموت ويبعث الكل،اخذوا دمهم كباكورة، وادخلوه قدامه، ليكرم الدم الزكيء بالدم الطاهر. (ميمر "على الكوكب الذي ظهر للمجوس وعلى قتل الاطفال" لماريقعوب السروجي: بهنام سوني. ترجمة من السريانية إلى العربية ودراسة على ميامر الملفان مار يعقوب السروجي. الجزء الأول. بغداد، 200).
المزيد
06 يناير 2021

عظة على عيد الميلاد للأنبا بولس البوشي أسقف مصر في القرن الثالث عشر الميلادي، نقلاً عن المخطوطة م 18

بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد المجدُ لك أيها المولود من الآب قبل كل الدهور، الذي وُلد اليوم جسدانياً من البتول للخلاص. المجدُ لك يا شمسَ البرِّ، الذي أشرق علينا اليوم بشعاع لاهوته، وأضاء المسكونة. المجدُ لك أيها المسيح الملك، مالك السموات والأرض، الذي أخذ صورة العبد، لكي يُعطي عبيده الحرية التي تليق به.المجدُ لك أيها الخالق السماوي الذي افتقد خليقته الترابيين، وتعاهدهم بالصلاح، لكي يصيروا واحداً مع السمائيين.المجد للذي أضاء شعاعُ لاهوته بالمولد البتولي في أقاصي الأرض، حتى أتوْا إليه المجوس ساجدين.المجد للذي فحصوا لأجل مولده في الناموس والأنبياء، وأقرُّوا له عابدين.المجد للذي سبَّح لمولده السمائيون، وسجد له الأرضيون.أنا أسأل صلاحك، يا مَن رفع عنا العار والخزي بمولده من البتول.أطلب إلى محبتك، يا مَن تواضع وصار معنا على الأرض وهو في السماء لم يَزَل.أصرخ إليك، يا من صار إنساناً، لم يترك عنه شرف لاهوته الكائن له قبل الدهور.أشرِقْ شعاع لاهوتك في مخادع نفسي، يا شمس البر، لأتكلَّم بمولدك العجيب.أرشدني يا نور الحق الذي أرشد المجوس لمعرفته، لأُخبر بتواضعك وإتيانك إلينا.هب لي فصاحة القول، يا مَن وَهَبَ الخلاص للعالم مجاناً، وبتواضعه صار معهم على الأرض كالإنسان، وهو بلاهوته حالٌّ في كل مكان، لكي ما أفتح فمي وأنذر بمجيئك الذي صار بكل العلانية.لك المجد أيها المسيح الذي وُلد اليوم من البتول بالجسد. أسبِّح لك مع الملائكة، وإليك أُسرع مع الرعاة، ولك أسجد مع المجوس، ومن أجلك أفحص (الكتب) مع كتبة الناموس، ولإتيانك الكريم أترنَّم مع الأنبياء، وأُحضِر شواهدهم (من النبوَّات)، وأُبشِّر بك مع الإنجيليين، وأُقدِّم في الوسط مقالاتهم، وباسمك القدوس أفتح فمي، وبذكرك المجيد تتهلل شفتاي، وأصرخ بصوت أفضل من (صوت) القرن، وأفرح وأسرُّ في هذا العيد المجيد اليوم، وأذكر ما نطق به النبيُّون، وكرز به المُرسَلون.هَلُمَّ في وسطنا اليوم يا يعقوب إسرائيل، أبو الأسباط ورأس القبائل، وأخبرنا بمجيء سيدنا المسيح الحق إلينا. قال: «لا يزال رئيسٌ في يهوذا، وأقدام بني البشر، حتى يأتي الذي له المُلك وعليه تتوكَّل الشعوب، وإيَّاه ترجو الأمم» (تك 49: 10).بحقٍّ، إن هذه النبوَّة واضحةٌ جداً لا يحتاج معها إلى نبوَّة أخرى، وذلك أن المُلك قد كان في بني إسرائيل من قبيلة يهوذا، إلى سبي بابل، وأيضاً أقاموا عليهم رؤساء من قبيلة يهوذا أيضاً إلى مجيء المسيح. فلما كان مولد المسيح الرب، ملكت عليهم الأممُ وكتبوا أسماءهم في الجزية. كما شهد بذلك الإنجيلي المغبوط لوقا قائلاً: «وفي تلك الأيام»، أعني مولد الرب بالجسد، قال: «خرج أمرٌ من أوغسطس قيصر بأن يُكتتب جميع المسكونة». وبيَّن لنا أن في الزمان الذي قد مضى لم يكن كذلك، فقال: «وهذا الاكتتاب الأول في ولاية قيريانوس على الشام» (لو 2: 1-2)، أعني أن هذا أول اكتتاب كان على اليهود ليؤخذ منهم الجزية، فكان الأمر من قيصر ملك الروم برومية، ليُعلمنا أن الروم قد ملكوا عليهم، والمتولِّي من قِِبله قيريانوس منتدبٌ على الشام لكتابة الأسماء وأخذ الجزية.لأن هيرودس الكبير أبا أرشلاوس، قد كان في ذلك الزمان (متولِّياً) على الخِراج (الجزية). فقد صحَّ أن عند مولد المسيح نُزع منهم المُلك والرئاسة معاً، وأقاموا (في عهد) ذمَّة تحت يد ملوك الأمم. لأن الله عَلِمَ بغلظ قلوبهم، وكذلك أبطل مجيء الأنبياء أيضاً، «لأن الناموس والأنبياء إلى يوحنا»، كما قال الرب، «ومنه يُبشَّر بملكوت الله» (لو 16: 16)، الذي هو مجيء الرب الكريم إلينا. حتى أن اليهود إلى اليوم لا يقدرون (أن) يزيدوا على هؤلاء الأنبياء المعروفين، الذين كانوا قبل تجسُّد المسيح، وهم أربعة وعشرون نبيّاً. فقد صح بهذه العلامة أن المسيح قد جاء لأنه نزع منهم المُلك والرئاسة، وأبطل مجيء الأنبياء، ونزع من أيديهم البيت المقدس أيضاً، الذي كانوا يخدمون فيه بالسُّنة (أي الناموس) العتيقة، وهي ضحايا الحيوان ودم الجداء، وتطهير الزوفا، وأكمل ذلك بجسده ودمه وتطهير المعمودية. فمَن أطاع منهم الإيمان، قَبِلَه؛ والذين لم يطيعوا، بدَّدهم في آفاق الأرض تحت يد ملوك الأمم يسودونهم بغير تعاهُد.اليوم، يا أحبائي، كَمُلت نبوَّات الأنبياء في مولد الرب من البتول مرتمريم. إشعياء (النبي) يُعلن ذلك قائلا: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويُدعى اسمه: عمانوئيل» (إش 7: 14)، «الذي تفسيره: الله معنا» (مت 1: 23).حزقيال النبي يُعلِّمنا بسرٍّ عجيب قائلاً: «إني رأيتُ في المشارق باباً مُغلقاً مختوماً بخاتم عجيب، لم يدخله أحدٌ غير رب القوات، فإنه دخل وخرج ولم يُفتح الباب ولا تغير الخاتم» (حز 44: 1-2). وهذا سرُّ نبوَّةٍ على الميلاد البتولي من الطاهرة مريم من غير زرع بشر. يُخبرنا بأن المولود منها هو ربُّ القوات، ولهذا حفظ بتوليتها في تجسُّده، وفي ولادته منها، وبعد ولادته أيضاً، لأن له الاستطاعة في كل شيء.إشعياء (النبي) يقول: «وُلد لنا ابنٌ، وأُعطِيَ لنا غلامٌ، الذي سلطانه على منكبيه، وهو الإله القوي السلطان، ملاك المشورة العُظمى يُدعى» (إش 9: 6). حقَّق لنا النبي ميلاده بالجسد، ثم بيَّن لنا أنه الإله القوي السلطان في القِدَم والأزلية.إرميا (النبي) يُخبرنا بأن الإله سوف يكون مع الناس على الأرض بالتجسُّد العجيب، قائلاً: «إن الله سوف ينزل على الأرض، ويمشي بين الناس» (إر 14: 8؛ 23: 5).حزقيال (النبي) يُعلِّمنا بمِثل ذلك قائلاً: «سيعلمون أني أنا الرب إلههم، إذا ظهرتُ بين الناس، وكلَّمتُهم بإعلان» (34: 23-30).وعلى مثل هذا أيضاً تنبَّأ داود قائلاً: «إله الآلهة يظهر في صهيون» (مز 50: 1-3)، أعني أن أولئك إنما سُمُّوا (أُطلق عليهم) آلهة، لأن كلمة الله صارت إليهم، فأما هذا الذي يظهر بصهيون فهو إلهُ الآلهة بحقٍّ، وربُّ الأرباب وكل الكافة، بشرف اللاهوت وليس بالاسم المستعار.ومثل هذا قال إشعياء النبي: «تظهر كلمة الله في أورشليم، ومن صهيون تخرج السُّنة (الشريعة)» (إش 2: 3). وداود يُعلِّمنا أن المولود من الآب قبل كل الدهور هو المولود من البتول بالجسد، قائلاً: «الرب قال لي أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك» (مز 2: 7)، أعني الميلاد بالجسد. وقال: «من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك» (مز 110: 3 سبعينية). وقال: «يأتي الله جهراً وإلهنا لا يصمت» (مز 50: 3). وقال: «الرب أرسل لك عكَّاز قوة من صهيون، وتملك في وسط أعدائك» (مز 110: 2). وقال: «صهيون الأُم تقول: إنسانٌ حلَّ فيها، وهو العليُّ الذي أسَّسها» (مز 87: 5).وقال عوزيا (هوشع Wch) النبي: «يأتي الربُّ حقاً، ويظهر على الأرض» (هو 6: 3). وقال ناحوم النبي: «هوذا آتي وأسكن فيكِ، قال الرب الضابط الكل». وقال صفونيا النبي: «تعزِّي يا صهيون ولا تسترخي يداك، فإن الرب إلهنا قوي، يأتي ويحلُّ فيكِ ويُنجِّيكِ» (صف 3: 16). قال زكريا: «يا ابنة صهيون، هوذا أنا أجيء وأسكن فيكِ، قال الرب» (زك 2: 10). قال ملاخيا النبي: «هوذا الرب يأتي ويُشرق لأتقيائه، وشمس البر اسمه» (ملا 4: 2).بحقٍّ، يا أحبائي، إن شمس البر قد أشرق لنا اليوم بالميلاد من البتول. المولود من الآب قبل كل الدهور، ميلاداً أزلياً بلا ابتداء لا يُدرَك ولا يحدُّ له زمان، وُلد اليوم للخلاص. الذي لا يُحوَى ولا تُدركه العقول، استُعلِن اليوم متجسِّداً. المرهوب من القوات العقلية، ويعلو كل رئاسة وسلطان، ويفوق شرفُ لاهوته كلَّ البرايا، شاء أن يتنازل ويُخالط طبيعتنا المسكينة. الذي هو جالسٌ على كرسي مجده فوق أعلى السموات، ظهر بين البشر ولم يترك عنه علو شرفه، بل هو يملأ الكل ببساطة (جوهر) لاهوته غير المُحتوى عليه.عظيمةٌ هي جداً كرامة هذا العيد المجيد اليوم، أيها الأحباء، ويجب علينا كلنا إكرامه وتشريفه، و(أن) نبتهجَ فيه ونُسرَّ؛ لأنه إن كان (يوم) مولد رؤساء هذا العالم وملوك الأرض (الذين) يموتون وتزول رئاستهم، تجدهم يكرمونه ويذكرونه بينهم مع خواصهم في كل عام - كما كُتب أنْ وافى مولد لهيرودس الملك، فصنع وليمةً لعظمائه ومقدِّمي الجليل ورؤساء مُلكه (مر 6: 21) - فكم أحرى يحقُّ علينا من الفرح والمسرة، أن نُعيِّد بكل اهتمام حسن، في يوم تذكار مولد ملك الملوك ورب الأرباب وسيد السادات، الذي يسود بجبروته كل البرية، ولا سيما أن تجسُّده ومولده لم يكن من أجله، بل من أجلنا نحن، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسَّد من مريم العذراء، ووُلد جسدانياً، لكي يولدنا نحن روحانيين. تواضع لكي يرفعنا. اتحد بطبيعتنا الحقيرة لكي يُعطينا نحن موهبة الروح القدس. سمَّى ذاته ابن البشر، لكي يُسمِّينا نحن بنين لله الآب.وليس هذا المجلس الجليل اليوم خُلواً من خواصه ورؤساء مملكته الأبدية، بل هم حاضرون معنا متكلِّمون، وبيننا ناطقون، لكي يفرحوا بأقوالهم التي من تلقاء الروح. ومَن هم أولئك؟ هم أنبياؤه الأطهار، ورسله الأفاضل، خواصه الأبرار المطَّلعون على سرِّه (مز 25: 14)، الذين منحهم موهبة روح قدسه.أما الأنبياء فقد تقدمتْ دعوتُهم، أولئك الذين أنبأوا بالروح على مجيئه الكريم (أع 3: 22-24). وهوذا بنداء، بدعوة الرسل المَوَالي السادات رؤساء أئمة كل المسكونة، أنهار ماء الحياة، كما تنبأ حزقيال النبي قائلاً: «الجميلون في إنذارهم»، كما تنبأ ناحوم النبي قائلاً: «ما أجمل أقدام المبشِّرين بالخيرات» (نا 1: 15)، «الذين خرجت أصواتهم في كل الأرض، وبلغ كلامهم أقطار المسكونة» (مز 19: 4؛ رو 10: 18).هلمُّوا الآن أيها الإنجيليون المبشِّرون بالحياة، لكي ما نأخذ منكم سياقة (مضمون) القول، لأنكم مُعاينون الإله الكلمة وخَدَمه وخواصه، وبكم نزيِّن القول. متى الرسول الإنجيلي يشرح لنا قائلاً: «لما وُلد يسوع في بيت لحم يهوذا» (مت 2: 1)، أراد بذكره بيت لحم ليُبيِّن أن كُتب الأنبياء ذكرت أنه (في) بيت لحم يولد. لأنه خاصة دون الإنجيليين كتب إنجيله عبرانياً. وكذلك ذكر النسبة (سلسلة الأنساب) وبدأ بها من إبراهيم، لأن إليه خاصة تنتهي النسبة في تناسل العبرانيين لا غير.فأما لوقا، لمَّا كتب إنجيله يونانياً، لم يَرَ أن يُحزن الأمم الذين آمنوا بالمسيح، بأن المسيح ليس منهم تجسَّد، ولذلك أخذ (في ذِكْر الأنساب) من أسفل (أي ابتداءً من اسم يسوع) وهو طالع. فلما بلغ إلى إبراهيم، لم يقتصر على ذلك، بل أوصل النسبة إلى نوح، لأنه صار أباً لكل القبائل والألسن. ثم زاد ذلك فلسفة بتأييد الروح، فانتهى إلى آدم، لكي يشرح لهم نسبة التوراة بتلخيص، ويُفرِّحنا نحن كافة المؤمنين بأن المسيح تجسَّد من نسل آدم أبينا كلنا، ودعا (يسوع المسيح) آدمَ ثانياً ليكون أباً ورئيساً لكل الأحياء، كما يُلائم لاهوته، والمُقدِّم كل الخيرات، والسابق في البعث من بين الأموات.ومتَّى لما كتب إنجيله عبرانياً ببيت المقدس (أي بأورشليم)، شرح الأمور لليهود الذين آمنوا على ما في الناموس. ثم ذكر في النسبة (أي في سلسلة الأنساب) امرأتين من الأمم، وهما ثامار وراحاب، ليُبيِّن لهم أنهم اشتركوا مع الأمم في التناسل، وأن جنسهم منهم، فلا يأنفوا أن يشاركوهم في الإيمان ويُخالطوهم، ولا سيما أن المعمودية قد طهَّرت الجميع.ثم بدأ يتكلَّم على شيء بشيء، ويأخذ عليه الشهادة من الأنبياء، فقال: «لما وُلد يسوع المسيح في بيت لحم يهوذا، في أيام هيرودس الملك»، أراد بذكر هيرودس لِمَا جرى له مع المجوس، وبحثه عن المولود، وقتله الأطفال. قال: «إذا مجوسٌ وافوا من المشرق إلى أورشليم، قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ لأننا رأينا نجمه في المشرق، ووافينا لنسجد له».يا لهذا السر العجيب والسياسة الإلهية، وكيف دبَّر الله الأشياء بلطف، واجتذب إليه هؤلاء المجوس من الجانب الذي هم متمسكين به، فلهذا اجتذب إليه هؤلاء المجوس من صنعتهم التي فيها تربوا وهم بها مغتبطون. وذلك أنهم كانوا من بلاد فارس من جنس بلعام العرَّاف (عد 22: 5)، وكان عندهم كُتب تعليم منه، وكانوا يرون مع هذا علم تسيير الكواكب. إلا أنهم قرأوا وفهموا لأجل المسيح الملك الحقيقي. ولم تكن قلوبهم مائلة لغواية عبادة الأوثان. ولما علم الله صحة يقينهم، وأنهم يُذعنون للحق إذا ظهر لهم، أظهر لهم قوةً سمائية شبه نجم. ولم يكن يتقدَّم مثله شيء في كافة الكواكب، يدلُّ (على) أن الذي يُولد في ذلك الحين يسود كل الممالك جميعاً والرئاسات، ولا يكون لمُلْكه انقضاء.والدليل أن (النجم كان) قوةً من الله، ولم يكن من هؤلاء الكواكب الظاهرة، أن أفعاله مختلفة عن سائر النجوم. أول ذلك أنه كان يظهر لهم نهاراً ويختفي ليلاً، يدلُّ (على) أن المولود هو نهارٌ وشمس البر. ثم كان يسير من الشمال إلى اليمين منحرفاً قليلاً إلى الغرب، وهو من أرض فارس إلى بيت المقدس، يدلُّ (على) أن كماله يكون بأورشليم (لو 13: 32). وكان يسير بسيرهم ويقف لوقوفهم، يدلُّ على أن الربَّ يُلاطف البشرية ويُكمل الأشياء الجسدية. وكان سيره عجيباً أسفل بالقرب منهم، يدل على اتضاع الرب المولود بالجسد، وكونه قد صار معنا على الأرض وهو يعلو الكل بلاهوته. وكان قُرْبه منهم لكي يتقدَّمهم، كمثل مرشد لهم، إلى الموضع الذي يريدون نحوه مستقيمين بلا اعوجاج، ليدل أن المولود هو الذي يتقدَّم لنا في كل الخيرات، ومرشد لنا إلى أورشليم العليا، ملكوت السموات، كما قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو 14: 6). ومع هذا بأسره لم يقدر ضوء الشمس أن يخفيه، ليدل (على) أن المولود يعلو ويفوق كل بهاء وحُسْن، ويفضُل على كل اسم مما يُرَى ومما لا يُرَى. وكما تنبأ عنه داود قائلاً: أنه «بهي في الحُسْن أكثر من بني البشر» (مز 45: 2). أعني وإن كان ظهر بالجسد ووُجد بالشكل كالإنسان، فهو يفوق الكل ببهاء لاهوته.لما أوصل النجم المجوس إلى أورشليم، اختفى عنهم بالتدبير، لكي يُبشِّروا بميلاد المسيح الرب لأولئك الذين كانوا منتظريه، أعني بني إسرائيل الجسداني، ليدل (على) أن الشعوب تفوقهم في الإيمان وتَفْضُلُ عليهم، وأن المجوس (كانوا أكثر استحقاقاً) لكثرة اجتهادهم ومحبتهم لنظر المسيح المولود. فلما اختفى عنهم النجم، لم يصبروا، بل أذاعوا ذلك كمثل رسل مُبشِّرين قائلين: «أين هو المولود ملك اليهود»، وذلك لأنهم حقَّقوا أمره جيداً. وبهذا سعوا (احتملوا) هذا البعد والعناء الكبير. ولِِمَ ذلك؟ قالوا: «لأننا رأينا نجمه في المشرق». ولم يقولوا أتينا لننظره، بل قالوا: «أتينا لنسجد له». أعني أن النجم ظهر لهم أولاً من مشرق السماء، وأقبل نحوهم، لأنهم كانوا بأرض فارس، كما تقدَّم القول، ناحية الشمال مُنحرفاً إلى ناحية المشرق، يدل أن المولود من السماء أشرق علينا، وردَّنا من الشمال إلى اليمين. ثم أقرُّوا أنهم أقبلوا إليه ساجدين، ليدل على معرفتهم به باليقين.قال الكتاب المقدس: «فلما سمع هيرودس اضطرب»، وذلك لقلة فهمه، ظنَّ أنه ملك أرضي ينزع منه المُلك ويبيده هو وجنسه بأسره. ولم يفهموا أنه الملك الأبدي الرب من السماء القائل: «لم آتِ لأهلك نفوس الناس بل أحييهم» (لو 9: 56)، وقال أيضاً: «نفسي أُعطي دون خرافي» (يو 10: 15). وكذلك أورشليم اضطربت بأسرها، لما سمعوا أن المسيح المنتظر قد وُلد، وأن الفُرس أقبلوا إليه ساجدين. ثم إن هيرودس جمع رؤساء الكهنة وكتبة الناموس، الذين درسوا الكتب جيداً، ثم استخبر منهم «أين يولد المسيح؟». يا لهذا التدبير الإلهي، كما جذب إليه المجوس من الأشياء التي بيدهم، كذلك أراد أن يجتذب بني إسرائيل أيضاً من الذي بيدهم، وهو كُتب الناموس والأنبياء، الذين هم بها مؤمنون، كما قال لهم الرب: «فتِّشوا الكتب التي تظنون أن لكم بها حياة الأبد، فهي تشهد من أجلي» (يو 5: 39). وبهذا أخفى النجم عن المجوس حتى يذيعوا ذلك.فلما فحص رؤساء الكهنة جيداً، أقروا بالحق، ليكون ذلك شهادة عليهم، قائلين: «في بيت لحم يهوذا يولد المسيح». كما هو مكتوب في ميخا النبي: «وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا، ألستِ بصغيرة في ملوك يهوذا، منكِ يخرج المدبِّر الذي يرعى شعبي إسرائيل» (مي 5: 2). انظروا إلى إيضاح هذه النبوَّة، وكيف عظَّم بيت لحم مع صغرها. ولِمَ ذلك؟ قال: «لأن منها يخرج المدبِّر راعي إسرائيل». هذا الذي صرخ إليه داود النبي قائلاً: «يا راعي إسرائيل الذي هدى يوسف كالخروف انظر، الجالس على الكاروبيم استعلن، قدَّام أفرايم وبنيامين ومنسَّى، أظهِر قوتك وتعالَ لخلاصنا» (مز 80: 1-2). وهذا الفحص قد كان عند اليهود متواصلاً بمثابرة، كما شهد بذلك يوحنا الإنجيلي قائلاً: «إن قوماً منهم قالوا هذا هو المسيح، وآخرين قالوا لعل المسيح من الجليل يأتي، أليس قد قال الكتاب إن من نسل داود، من بيت لحم خاصة قرية داود، يأتي المسيح» (يو 7: 41-42).حينئذ هيرودس لأجل خبثه، دعا المجوس سراً وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم، وذلك مكر منه. ثم أرسلهم إلى بيت لحم، كما شهد بذلك كتبة الناموس وأحبار الشعب، وقال لهم: «امضوا وافحصوا عن الصبي باجتهاد، فإذا وجدتموه فأخبروني لآتي أنا وأسجد له». أراهم في الظاهر كأنه موافق لهم، وساواهم في كل شيء، أما ما كان في الباطن فكان شراً منه وخبثاً فهو يروم قتله. كما ظن أن ذلك يَكْمُل له، جهلاً منه.فأما المجوس لما سمعوا أن كُتب الأنبياء شهدت بأن المسيح يولد ببيت لحم، صدَّقوا ذلك بعِظَم إيمان، ومضوا قاصدين الموضع. وأن الله أراد أن يثبت لهم ذلك يقيناً بالعيان، ليعظم إيمانهم، فأظهر لهم النجم على هيئته الأولى. كما شهد الكتاب المقدس قائلاً: «ولما ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدَّمهم، حتى جاء ووقف حيث كان الصبي». أَنظرتَ الآن أنه قوة من الله أظهرها لهم، وكيف هو يسير أمامهم قريباً منهم، مرشداً لهم، حتى جاء ووقف فوق البيت الذي كان المولود نازلاً فيه!«ولما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً»، لثبات يقينهم وزوال التوهُّم منهم. فلم يحيدوا يمنة ولا يسرة، بل دخلوا البيت الذي كان الصبي فيه، ولا تقصَّوْا من أحد. «فلما رأوه مع مريم أُمه، خرُّوا له ساجدين»، من غير شك فيه، من حيث (إنهم) لم يَرَوْا حوله حشوداً ولا جيوشاً، لذلك الملك العظيم الذي تعبوا من أجله وقطعوا هذه المسافة البعيدة. (ولم) يشاهدوا زخارف كما قد يوجد عند رؤساء العالم؛ بل خرُّوا له ساجدين لما قد ثبت عندهم بصحة اليقين أنه المسيح بالحقيقة مخلِّص العالم بعدة دلائل. أحدها: بما عندهم من النجوم؛ والثانية: بالكوكب الذي كان يسير أمامهم، ووقوفه على المكان الذي هو فيه؛ والثالثة: بشهادة الأنبياء، كما أخبروهم كتبة الناموس.«ثم قدَّموا إليه الهدايا: ذهباً ولبانا ومرّاً»، لأنهم اختصروا على هذه الثلاثة أصناف بإشارة لأجله. لأنه لم يَقُل الكتاب المقدس إنهم قدَّموا له ثياباً فاخرة، ولا شيئاً من كل ما يُهدَى إلى الملوك. وإن كانوا قادرين على ذلك، بل أضمروا قائلين: إن قَبِلَ الذهب فهو ملك، وإن قَبِلَ اللبان فهو إله، وإن قَبِلَ المُر فهو علامة أنه قابل الموت من حيث لا يقهره الموت. لأنهم رأوا أن مُلكه لا ينقضي، كما قالوا اليهود للرب: «إنَّا سمعنا في الناموس أن المسيح يدوم إلى الأبد» (يو 12: 34)، فقَبِلَ منهم الرب الثلاثة أصناف جميعاً. فآمنوا أنه المسيح الملك، وآمنوا أنه الإله مخلِّص العالم، وآمنوا أنه يقبل الموت، من حيث لا يقهره ولا تقوى عليه شوكة الموت، بل هو غالب لم يَزَل.«وإن ملاك الرب ظهر للمجوس ليلاً، وأوصاهم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، وأشار إليهم بالذهاب في طريقٍ أخرى إلى كورتهم». لأن الرب إنما أرشدهم إلى أورشليم ليكونوا مُبشِّرين بمولده الكريم. فلما أكملوا ذلك، أمرهم أن يذهبوا بسلامة في سكون، ويكونوا له أيضاً مُبشِّرين في أرضهم.أما لوقا الإنجيلي فإنه ذكر يوم مولد الرب نفسه، وكيف وُلد في مغارة، ووُضع في مذود البهائم، ليردَّ عقلنا البهيمي إلى معرفة لاهوته الأزلي. ثم ذكر كيف ظهر ملاك الرب للرعاة ليلاً وبشَّرهم قائلاً: «هوذا أنا مُبشِّركم بفرح عظيم يكون لكم ولكل الشعوب، لأنه قد وُلد لكم اليوم مخلِّص الذي هو المسيح الرب في مدينة داود» (لو 2: 10-11). فشهد أن هذا الفرح عام لكل الشعوب. ولِمَ ذلك؟ لأن المخلِّص صار اليوم مع البشر على الأرض، لكي ينقل رتبتهم إلى ملكوت السموات.«وللوقت بغتة تراءى مع الملاك أجنادٌ كثيرة سماويون، يُمجِّدون الله ويقولون: «المجد لله في العُلا، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة» (لو 2: 13-14). فمجَّدوا مَلكهم السماوي، لأنه حيث يكون، فهناك يكون خدَّامه العلويون. وأوضحوا بهذا التقديس تمجيداً واحداً مساوياً للثالوث القدوس الواحد في اللاهوت، إذ أوصلوا المجد للآب الكائن في العلاء، والابن ملك السلام الذي صار على الأرض بالمولد من البتول، وهو في السماء بلاهوته لم يَزَل، ومسرَّة موهبة روح القدس الذي هو مزمع أن يحلَّ على المؤمنين بالمولد الثاني. فأسرعوا الرعاة وشاهدوا راعي الرعاة الأعظم لرعيته، كما قيل لهم. كما قد أسرعوا الملوك أيضاً وسجدوا للملك السمائي الأبدي.أما يوحنا الإنجيلي فإنه أخبر بالأنواع (أي نوع هذا) الاتحاد العجيب قائلاً: «والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا» (يو 1: 14)، أعني أنه لم يَصِر جسداً من حيث الاستحالة (أي لم يتحوَّل إلى جسد)، بل من حيث الاتحاد، بقوله: «وحلَّ فينا»، ثبَّت بهذا تجسُّده أنه مِنَّا تجسَّد. ثم قال: «ورأينا مجده مجداً مثل الابن الوحيد الذي من الآب، الممتلئ نعمةً وحقاً» (يو 1: 14)، أعني وإن كان وُلد بالجسد وحلَّ في بشرنا (أي جسدنا)، فلم يترك عنه مجد لاهوته، بل قد عاينَّا مجده المملوء من نعمة لاهوته وحق ربوبيته، كما قد عاينَّاه متجسِّداً أيضاً، هذا الذي سُرَّ أن يُستعلَن ويُكلِّمنا شفاهاً.أما بولس الرسول فإنه أوضح المعنى قائلاً: «بأشباه كثيرة وأنواع شتَّى كلَّم الله آباءنا على ألسن أنبيائه في قديم الدهر، ولما كان في هذه الأيام الأخيرة كلَّمنا بابنه» (عب 1: 1-2)، أعني أن أولئك كلَّمهم بمثال شِبه ما هو مزمع أن يكون، وها هنا الحق نفسه استُعلِن. وإذا سمعتَ «الأيام الأخيرة» لا تظن فروغ العالم وكمال الأزمان، بل إنما عَنِيَ آخر أيام العتيقة (أي العهد القديم، الناموس)، لأن غايتها المسيح وهو كمالها. ثم بدأ بناموس جديد لا يكون له انقضاء كما يُلائم واضعه والقيِّم به.ثم إن الرسول بيَّن أنه ابنٌ خاص مولود من الآب، أزلي لا يُحَدُّ له ابتداء، مساوي الآب في الجوهر. فقال: «الذي جعله وارثاً لكل شيء، وبه خلق العالمين، وهو ضياء مجده، وصورة الأزلية، ومُمسك الكل بقوة كلمته» (عب 1: 2-3).انظروا إلى قوة فهم الرسول المتكلِّم بالحق بالروح، كيف لم يُبقِ شيئاً يليق باللاهوتية إلا وقد أوجبه للكلمة المتجسِّد: من الخلقة، وضياء مجد اللاهوت غير المُدرَك، وصورة الأزلية، وضبط الأشياء والاحتواء عليها. هذا الذي من أجلنا خاصة تجسَّد وُولد من البتول. فليخزوا الآن الذين يُنكرون لاهوت المسيح، وليخزوا أيضاً الذين يُنكرون تجسُّده، أعني ”ماني“ و”مرقيان“؛ إذ الرسول يُعلن تجسُّده قائلاً: «إنه لم يأخذ من الملائكة ما أخذ (أي الجسد)، بل من زرع إبراهيم» (عب 2: 16). وقال أيضاً: «إنه صار شبيهاً بنا في كل شيء خلا الخطية» (عب 2: 17).طوباكِ أيتها الطاهرة البتول مرتمريم، كمثل صوت نبوَّتك القائلة: «إنه من الآن يعطونني الطوبى جميع الأجيال» (لو 1: 48). وبحقٍّ استحقيت كل الطوبى والإكرام لأنك تُسمِّين أُم الذي هو كائن قبل الدهور، المولود أزلياً من الآب، بلا ابتداء، وُلد منك بالجسد للخلاص. يا خادمة الرب ومعايِنتُه ووالدته، أنتِ أرفع من السمائيين وأجلّ من الكاروبيم، وأفضل من السارافيم، وأعظم من طغمات الملائكة الروحانيين، وممجَّدة أكثر من رؤساء الآباء والنبيين، وزائدة في الكرامة على التلاميذ الأفاضل المُرسلين. أنتِ فخر جنسنا، بك تفتخر البتولية، وبك تُكرَّم الطهارة والعفة. أنت تابوت العهد الذي فيه العشر كلمات، المُصفَّح بذهب إبريز نقي، التي هي كرامة اللاهوت الحال عليك. أنت الإناء الذهب المملوء من المنِّ المُخفَى النازل من السماء. أنت هي عصاة هارون التي أورقت من غير غرس ولا سقي ولا حرث، الذي هو تجسُّد الكلمة منك من غير زرع بشر. أنت هي القضيب الذي نبت من أصل يسَّى، وأنبع الزهر الذي تفوق (رائحته) كل عطر وطِيب. أنت هي صهيون الأُم التي حلَّ فيها الإنسان بالجسد، وهو العلي الذي أسَّسها، كما شهد داود (مز 87: 5). أنت هي السحابة الخفيفة التي هبط عليها الرب إلى مصر، كما تنبَّأ إشعياء (إش 19: 1). أنت هي الباب المغلق بخاتم البتولية، الذي منها وُلد رب المجد، وحفظ بتوليتها دائماً، كما عاين حزقيال النبي (حز 44: 2). أنت هي صهيون التي حلَّ فيها الرب الإله القوي، كما أوحي إلى صُفونيا (صف 3: 16). أنت هي السماء الجديدة التي منها أشرق شمس البر لأتقيائه، كما أعلن ذلك ملاخيا (ملا 4: 2).وقد يقصر بي الزمان أن أتكلَّم بكرامتك التي تفوق كل كرامة. أنت تفضَّلت على كل الخلائق التي تُرى والتي لا تُرى، لأجل عظمة كرامة الرب الإله المسجود له، الذي اصطفاك ووُلد منك. لأن الذي تتعبد له كل البرايا، سُرَّ أن تُدعى له أُماً، من أجل هذا كرامتك جليلة جداً. وشفاعتك زائدة في القوة والإجابة كثيراً. إلا أنني لعِظَم فضل كرامتك، وحيث لم أقدر (أن) أبلغ في مدحك إلى الغاية، أرغب إلى الاختصار.عظيمة هي، يا أحبائي، كرامة هذا العيد الشريف اليوم، حتى أن تذكاره في كل عام يُفرِّح القلب ويُسرُّ المؤمنين بإتيانه، لأن فيه اسُتعلِن لنا شمسُ البر، وأشرق علينا من البتول بالمولد الجسداني. فيجب علينا أن نعيِّده بكل نقاء، لنُشارك المولد البتولي المقدَّس، ونعلم فضل الطهارة وكرامتها عند الله. لأن من طهارة البتول مرتمريم سُرَّ الآب أن يتجسَّد (الابن) منها، ولم يأنف أن تُدعى له والدة. فلهذا يجب علينا أن نتحفظ حسب قوتنا لأنه قدوسٌ ومحبٌّ للأطهار. لأنه مكتوب: «كونوا أطهاراً (قديسين) فإني طاهر (قدوس)، يقول الرب» (لا 11: 44). وفي القديسين يحلُّ، كالمكتوب أيضاً (حكمة 7: 27). ولحافظي وصاياه يتخذهم مسكناً، كما شهد بذلك (يو 14: 23)، وعلى المتضع الخائف منه ينظر بعين التحنُّن، كما تكلَّم على فم النبي قائلاً: «على مَن أنظر، يقول الرب، إلا على المتضع الخائف من كلامي» (إش 66: 2). والطالبون إليه بأمانة يسمع بإجابة، كما شهد بذلك قائلاً: «سَلُوا (اسألوا) تُعطَوْا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم» (مت 7: 7).فلنحفظ أجسادنا طاهرةً من أجل الرب الذي وُلد من البتول القديسة. نحفظ نفوسنا عفيفةً من الفكر الرديء، من أجل وقار الذي اتحد بجسدنا، لكي يُقرِّبنا إلى مجد لاهوته الأزلي غير المدرك. نحفظ حواسنا سالمةً من المعايب، التي هي النظر والسمع والنطق والشم واللمس، لأجل كرامة الذي طهَّر البشرية جسداً ونفساً وعقلاً، باتحاده بها. ولأجل كثرة تواضعه الذي لا يُحدُّ، لم يأنف أن يُسمِّينا إخوته كما هو مكتوب: «إني أُبشِّر باسمك إخوتي» (مز 22: 22؛ عب 2: 12).فلهذا يجب علينا أن نعرف الكرامة التي صارت إلينا، ولا نتهاون بهـا، ليكـون لنا أفضل مـن ذلك بأضعاف شتَّى. لأن مَن له يُعطَى ويزداد. فلا يكون الآن عيدنا باللهو والبذخ العالمي، بل الأشياء التي تليق بالأطهار، ولا سيما إنَّا قد حفظنا نسك الصوم الذي مضى قبل هذا العيد الشريف، فنكمل ذلك بورع وخوف الرب، بمد أيدينا لمواساة الضعفاء حسب ما يمكننا، نتعاهد الذين في السجون، نسد فاقة المُقلِّين، نصنع صُلحاً وسلامة مع إخوتنا، من أجل الرب الذي أتى وصنع صُلحاً بين السمائيين والأرضيين، لكي الذي وُلد بالجسد يُقرِّبنا إليه، ويجعلنا بني الآب السمائي بالروح.ونحن نسأل الرب يسوع المسيح، بشفاعة السيدة الطاهرة مرتمريم، الذي وُلد منها بالجسد لأجل خلاصنا، أن ينظر إلينا بعين الرحمة، ويغفر خطايانا، ويسامحنا بهفواتنا، ويحرس ما بَقِيَ من حياتنا، وأن يحفظ جماعتكم ويرزقكم أعمالاً مرضية وأكاليل مضيئة، ويجعل لنا أجمعين حظاً ونصيباً مع كافة قديسيه في الملكوت الأبدية والحياة الدهرية، ويُنيِّح نفوس كافة بني المعمودية. بصلوات الرسل الأطهار، وكافة الشهداء والقديسين الأبرار، والسواح المجاهدين، وكل من أرضى الرب بأعمالهم الصالحة، من الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين وإلى أبد الآبدين آمين. ? (تم وكمل ميمر الميلاد المجيد الذي لربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بسلام من الرب. آمين الأب المكرم القس بولس البوشي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل