المقالات

27 ديسمبر 2022

نمجد ميلادك غير المُدرَك

تجسد الله الكلمة من العذراء القديسة مريم، دون زرع بشر. ووُلِد ميلادًا بتوليًا، ويرى إيسيذورس الفرميّ أن التجسد الإلهيّ في بطن العذراء بدون زرع بشر، ليس أمرًا مستحيلًا، فحواء خُلقت من ضلع آدم، أي بدون زرع بشر، إذ يقول: [«فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ سُبَاتًاعَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلَأَ مَكَانَهَا لَحْمًا» (تك2: 21)، حيث أنه في الأول قد خُلِق آدم من تراب الأرض، إذًا ها أن الرجل من الأرض والمرأة من الرجل، والاثنان خُلقا بدون اتحاد جسديّ. فلأن المرأة كان عليها دَيْنٌ للرجل، لأنها صارت منه بدون زرع بشر (بذرة)؛ سدّدت له الدين بأن صارت أُمَّ الرب وأعطته جسدًا بدون زرع بشر. إذًا ليس من المستحيل على الطبيعة، لكن مثلما قد صار بالضبط بالفعل مع الأبوين الأولين، هكذا أكملَ بتدبير الرب، بالرغم من أن كل العجائب ترجع إلى هذا المولود ذاته] (رسالة إلى اليهود فيما يتعلق بالحبل الإلهيّ).يؤكد ذلك أيضًا القديس كيرلس الأورشليميّ (348 -386)، فيتسائل: [ كيف وُلدت حواء في بدء الخليقة؟ من هي الأم التي حملت بها؟ إن الكتاب يقول إنها وُلِدت من جنب آدم ... فهل تولد حواء من جنب آدم بدون أم، ولا يولد طفل من بطن عذراء بدون أب؟! إن هذا دَيْن للرجل على المرأة. لأن حواء وُلِدت من الرجل فقط دون أن تحبل بها أم. ولكن مريم العذراء أوفت الدَيْن وردت الجميل لأنها حبلت حبلًا بلا زرع رجل، بل حبلت بالروح القدس حبلًا بلا دنس] (الكلمة صار جسدًا).ويشرح القديس كيرلس الكبير هدف التجسد، موضحًا [لقد جاء الابن وصار إنسانًا لكي يحوّل طبيعتنا فيه هو، وابتدأ أولًا بالميلاد الذي جعله مقدسًا وعجيبًا، إذ جعله ميلادًا للحياة، لكي ننال نحن هذه النعمة وتصل إلينا منه لكي نولد «لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ» (يو1: 13)، وبالروح القدس تولد نفوسنا ميلادًا جديدًا روحيًا، مشابهًا لميلاد ذاك الذي هو بالطبيعة وبالحق الابن، وبذلك ندعو الله أبًا، ويؤهّلنا هذا الميلاد أن نبقى في عدم انحلال لأننا امتلكنا ليس طبيعة آدم الأول الذي فيه انحللنا، بل طبيعة آدم الثاني] (المسيح الواحد: 5).فحاجتنا لكي نصبح أبناء الله، أن يولد الكلمة المتجسد من عذراء دون زرع بشر، فالابن الوحيد، هو ابن بالطبيعة: لذلك نصلي في قانون الإيمان: [مولود من الآب قبل كل الدهور]، ونؤكد على ذلك أيضًا، أنه [مولود غير مخلوق]، فالمولود له نفس طبيعة الوالد، وله نفس خواصه وطبيعته، فلقب ابن غير مضاف إليه (حوار حول الثالوث 1)، في تجسده لم يخلق لنفسه جسدًا من خارج العذراء مريم، بل أخذ جسدًا حقيقيًا محْيِيًا بروح عاقلة من الطبيعة المخلوقة التى للعذراء مريم. بفعل الروح القدس اتخذ ناسوتًا خاصًا به جدًا، متحدًا به اتحادًا طبيعيًا وأقنوميًا، حقيقيًا، كاملًا، بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغير، فاحتفظ كلٌّ منهما بخصائصه، فالطبيعة الواحدة لها خصائص الطبيعتين معًا في آنٍ واحد، لذلك يُسمّى سر التجسد، وسر الاتحاد. مساوٍ لنا كالتدبير، من قِبَله أخذنا نعمة البنوة، وأصبحنا أبناء الله. لذلك ولُد الكلمة المتجسد من أم عذراء دون زرع بشر. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
26 ديسمبر 2022

لماذا التجسد؟

٢- لكي نعرف الله : يقول القديس أثناسيوس الرسولي : [ لأنه أية منفعة للمخلوقات لو أنها لم تعرف خالقها ؟ أو كيف يمكن أن تكون عاقلة لو لم تعرف كلمة الآب الذي به خلقوا ؟ لأنهم لن يتميزوا بالمرة عن المخلوقات غير العاقلة لو أنهم انحصروا فقط في معرفة الأمور الأرضية ( تجسد الكلمة ١١ : ٢ ) . الصورة الإلهية في الإنسان كانت كافية في حد ذاتها لكي تجعلنا نعرف الله الكلمة ، ونعرف الأب بواسطته . وبالخطيئة تشوهت صورة الله في الإنسان وأكل من شجرة معرفة الخير والشر وأصبحت معرفته بعيدة عن الله خالقه !! وعجزت الطبيعة - كما عجز الناموس- عن أن ترد الإنسان إلى المعرفة الحقيقية . لذا تجسد أقنوم الحكمة والمعرفة لكي يعرفنا الآب « الله لم يره أحد قط . الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر » ( يوحنا ۱ : ۱۸ ) . يقول القديس أثناسيوس : [ لكي عندما يرون تلك الصورة -أي كلمة الآب- يمكنهم عن طريقه أن يصلوا إلى معرفة الآب ... لأن كلمة الله صار إنسانا لكي يرفعنا نحن ، وأظهر جسد لكي تحصل على معرفة الأب غير المنظور ] ( تجسد الكلمة 11 : 3 ، 54 : 3 ) . معرفة الله أمر واجب ، فقد قال عنها السيد المسيح : « وهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته » ( يوحنا 17 : 3 ) ،والمقصود بمعرفة الله ليست المعرفة النظرية فقط ، ولكن المعرفة العملية والإيمان العملي بوجوده ، فعندما ندخل مع الله في حياة الإيمان ، ونعيش في وسائط النعمة ، نراه ونلمسه بالعين الروحية والحس الروحي . ليس المقصود بمعرفة الله المعرفة التامة ، لأن الله غير محدود ، وعقل الإنسان محدود ، فكيف يستطيع المحدود أن يحوي غير المحدود ، « أإلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي ؟ ... » ( أيوب ١١ : ۷-۹ ) . يقول القديس غريغوريوس النزينزي : [ لا تستطيع اللغة ( البشرية ) أن تعبر عن اللاهوت ، وهذا قد أثبت لنا ، ليس فقط بالحجة بل عن طريق أحكم حكماء العبرانيين ( كتاب العهد القديم ) ؛ الذين أعطوا صفات ذات كرامة لله ولم يسمحوا لأي اسم دون المستوى أن ينسب لله ، لأنهم يرون أنه ليس من اللائق إن الله يسمح لخليقته أن تعادله ، فبالتالي كيف يقرون بأن الطبيعة غير المنظورة وغير المنقسمة ( البسيطة ) أن نعبر عنها بكلمات ضعيفة ، فنحن نتصوره من خلال صفاته ، فجوهر الله لم يتمكن مخلوق ولا عقل من تصوره أو احتوائه بالكامل ، ولم تتمكن لفظة من احتواء حقيقته احتواء كاملا ، ولكننا نتخذ مما حواليه طريقا إلى تخيله في ذاته ، ونرسم لنا صورة غامضة وضعيفة وجزئية عنه ، إن أعظم لاهوتي ليس من اكتشف « الكل » ، إذ أن القيود التي نحن فيها لا تسمح لنا أن نعاين الكمال ، بل من تفوق على غيره في التصور ، ومن حقق في ذاته صورة الحقيقة أفضل من غيره ( The fourth theological oration , L17 : 30 ) . كذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : [ لقد رأى الأنبياء الله ، لكنهم لم يروا جوهره إنما بدا لهم ذلك قدر ما يستطيعون ، وقد أعلن ذلك النبي : وكلمت الأنبياء وكثرت الرؤى وبيد الأنبياء مثلث أمثالا ( هوشع ١٢ : ١٠) ، كأن الله يقول : لا أعلن جوهري ذاته ، إنما أتنازل ( في رؤى ) بسبب ضعف الذين يرونني ، فالله يتنازل ويجعل نفسه منظورا ليس كما هو ، بل بالقدر الذي به يقدر الناظر أن يرى ، أي حسب ضعف الناظرين في الرؤية ( ضد الأنومبين 3 : 15 ، 4 : 19 ) . القمص بنيامين المحرقى
المزيد
20 ديسمبر 2022

لماذا التجسد ؟

1 - حتى يستعيد الإنسان الصورة التي خلق عليها:- خلق الله الإنسان على صورته ( تكوين 1 : ٢٦ ، ٢٧ ) . يقول القديس أثناسيوس الرسولي : « الله صالح بل هو بالأحرى مصدر الصلاح . والصالح لا يمكن أن يبخل بأي شيء وهو لا يحسد أحدا حتى على الوجود ، ولذلك خلق كل الأشياء من العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا ، وبنوع خاص تحنن على جنس البشر . ولأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائما على الحالة التي خلق فيها ، أعطاه نعمة إضافية ، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض ، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته » ( تجسد الكلمة 3 : 3 ) . ويفسر القديس كيرلس عمود الدین معنی خلقتنا على صورة الله ، فيقول : « رغم أننا خلقنا على صورته ومثاله إلا أن الفارق بين الله والإنسان فارق شاسع .. فالله بسيط في طبيعته وغير مركب بينما نحن نملك طبيعة مركبة ، إذ أن طبيعتنا البشرية مكونة من أجزاء متعددة . ونحن من التراب فيما يخص الجسد وهذا يعني أننا معرضون للفساد والزوال مثل الأعشاب ، بينما الله فوق كل ذلك . والنفس الإنسانية عرضة لتقلبات كثيرة من الصالح إلى الطالح ومن الطالح إلى الصالح ، ولكن الله هو هو دائما ، صالح إلى الأبد ولا يتحول ولا يتغير من حال إلى حال . وعدم تغير الله ليس صفة عرضية بل يرجع إلى جوهره . وهكذا أصبح من الواضح أن البشر الذين أتوا إلى الوجود من العدم لا يتشابهون مع الله حسب الطبيعة ، بل يمكن أن يتشابهوا معه في نوعية الحياة الجديدة والسلوك المستقيم » ( حوار حول الثالوث ، الحوار الأول ) . بحسب خلقتنا على صورة الله كان يمكننا أن نقاوم الفناء الطبيعي مادمنا محافظين على الصورة التي خلقنا عليها . ولكن بسوء استخدامنا للحرية الممنوحة لنا سقطنا من الحياة الأبدية ، وأصبح « الإنسان العاقل المخلوق على صورة الله أخذا في التلاشي ، وكانت خليقة الله أخذه في الانحلال » ( تجسد الكلمة 6 : 1 ) . ما الفائدة من خلق الإنسان على صورة الله ، إذا كان سيعيش بعيدا عن الله في الخطيئة ؟ كان من غير اللائق أن تهلك الخليقة وترجع إلى العدم بالفساد ، تلك الخليفة المخلوقة على صورة الله . فيذكر القديس أثناسيوس أنه لذلك وجب أن يتجسد الكلمة ، الصورة الحقيقية لله الآب يقول القديس أثناسيوس : « ما هو الذي كان ممكنا أن يفعله الله ؟ وماذا كان يمكن أن يتم سوى تجديد الخليفة التي وجدت على صورة الله ، مرة أخرى ، ولكي يستطيع البشر أن يعرفوه مرة أخرى ؟ ولكن كيف كان ممكنا لهذا الأمر أن يحدث إلا بحضور نفس صورة الله مخلصنا يسوع المسيح ؟ كان ذلك الأمر مستحيلا أن يتم بواسطة البشر لأنهم هم أيضا خلقوا على مثال تلك الصورة ( وليس هم الصورة نفسها ) ولا أيضا بواسطة الملائكة لأنهم ليسوا صورا ( لله ) ولهذا أتى كلمة الله بذاته لكي يستطيع – وهو صورة الآب - أن يجدد خلقة الإنسان ، على مثال صورة الله « ( تجسد الكلمة 13 : 7 ) . لذلك تجسد الابن الوحيد صورة الآب يرد الإنسان إلى رتبته الأولى ، كما يقول القديس غريغوريوس « أخذت الصورة ولم أحفظها .فأخذ جسدى لكى يخلص الصورة ويهب الخلود للجسد »عظة على الثيؤفانيا. القمص بنيامين المحرقى
المزيد
27 أغسطس 2022

امتحان إيمانكم (يع 1: 3)

كلمة امتحان: تأتي في اللغة اليونانية πειρασμός، بمعنى تجربة ناجمة عن ضيقات من الخارج، مثل «مَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ» (مت5:10)، امتحان يهدف إلى غاية، محاولة، يُجرّب شخصٌ ما أي يقيس قوته. كذلك كلمة δοκίμιον وتأخذ معنى عملة أصيلة غير زائفة، نقية من كل زغل أو شوائب. فعندما تحقّق التجربة هدفها من تقدم طبيعيّ، يسمح بها الله لغرض نافع وصالح، يؤدي إلى التنقية والتطهير، مثل تجربة أبينا إبراهيم (تك22). كذلك لم يطرد الله الأمم الذين في أرض فلسطين، عندما جاء بنة إسرائيل «لِيَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ» (قض3:1). ما هو الإيمان؟ الإيمان هو «الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى» (عب11:1)، وهو شيء معنوي مرتبط بالنفس ارتباطًا كيانيًا. ولكننا نجد الكتاب المقدس يعبّر عنه كأنه شيء مرئي، فالذين حملوا المفلوج قيل عنهم: «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ» (مت9:2)، كما يضع درجات للإيمان: عدم الإيمان (مت13:58)، إيمان قليل (مت6:30؛ 8:26،14،31)، إيمان مثل حبة الخردل (مت17:20)، إيمان عظيم (مت15:28). فما هو مقياس الإيمان؟ مقياس الإيمان هو الأعمال: فالإيمان ليس مجرد فكر إطلاقًا، ولكنه حياتيّ، فإذا كنت تؤمن بوجود الله، هذا جيد، ولكن هل ممكن بعد ذلك أن تتجنّب القلق، وتعيش السلام والطمأنينة، لكون الله يدبّر مجرى حياتك؟في التجربة، علينا أن نكفّ عن التفكير بصورة سلبية: يحاول الكثيرون أن يكون كل رد فعلهم موجهًا لتبرير موقفهم، وآخرون يدخلون في كآبة وحزن قد يؤذي النفس، ويستسلم فيه الإنسان بخنوع. بينما يوصينا يعقوب الرسول «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ» (يع1:2). ليتنا نبحث عن الهدف المرجو من التجربة، ونفكر بصورة إيجابية. لماذا سمح الله بالتجربة؟ نتقبّلها بفرح وبشكر لا بحزنٍ وتذمر. يقول القديس أثناسيوس الرسوليّ: [لنفرح عالمين أن خلاصنا يحدث في وقت الألم، لأن مخلصنا لم يخلصنا بغير ألم، بل تألم من أجلنا مبطلًا الموت، لهذا أخبرنا قائلًا: «في العالم سيكون لكم ضيق»، وهو لم يقل هذا لكل إنسان بل للذين يخدمونه خدمة صالحة بجهاد وإيمان، أي الذين يعيشون بالتقوى].نُمتحَن فنجاهد، ننتصر فنُكافَأ: نُمتَحن فنجاهد، لكي نهزم التجارب، فينصحنا سليمان الحكيم، قائلًا: «إِنِ ارْتَخَيْتَ فِي يَوْمِ الضِّيقِ؛ ضَاقَتْ قُوَّتُكَ» (أم24:10)، نُمتَحن، فنصير أكثر نقاءً، وننمو ونسير أكثر نحو الهدف الذي حسب إرادة الله، فإن «الذهب يُمحَّص في النار، والمرضيين من الناس يُمحَّصون في آتون الاتضاع» (سي2:5)، فالشخص الذي يجاهد في التجربة، يصير أقوى وأكثر نقاء، هكذا قال أيوب الصديق: «إِذَا جَرَّبَنِي أَخْرُجُ كَالذَّهَبِ» (أي23:10). ننتصر فنُكافَأ: «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا» (2كو4:17)، و«مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللهِ» (رؤ2:7)، فأبناء الملكوت: «هُمُ الَّذِينَ أَتُوا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ الْحَمَلِ» (رؤ7:14)، هم الذين دخلوا من الباب الضيق (مت7:13). الصوم تكثر فيه التجارب، لذا لنكثر من تجاوبنا مع النعمة، لكي نسمع «أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي» (لو22:28). القمص بنيامين المحرقي
المزيد
20 أغسطس 2022

الإيمان في حياة العذراء: «لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو1: 38)

إن كلمة إيمان في اللغة العبرية nāma تعني "أن يكون أمينًا"، كما جاء في سفر التثنية: «فَاعْلمْ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ اللهُ الإِلهُ الأَمِينُ الحَافِظُ العَهْدَ وَالإِحْسَانَ لِلذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلى أَلفِ جِيلٍ» (تث7: 9). وكذلك: يؤتمن على. واُختُصَّ بها الله الذي هو الأساس والمصدر الحقيقيّ للأمن.وفي اللغة اليونانيّة ίστιϛπ تعني الثقة التي لدى الشخص في الله، أو في آخرين. وكان الإيمان في العهد الجديد يتضمن إدماج الإيمان بابن الله، والتوبة عن الأعمال التي تؤدي للموت، والمعمودية: «لِذَلِكَ وَنَحْنُ تَارِكُونَ كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ لِنَتَقَدَّمْ إِلَى الْكَمَالِ، غَيْرَ وَاضِعِينَ أَيْضًا أَسَاسَ التَّوْبَةِ مِنَ الأَعْمَالِ الْمَيِّتَةِ، وَالإِيمَانِ بِاللهِ» (عب6: 1). هكذا كانت العذراء القديسة مريم تحيا حياة الإيمان، الذي ظهر جليًا، إذ كانت تحيا حياة التسليم الكامل. لمشيئة الله، في هدوء، بدون جدال.السيدة العذراء آمنت وصدقت لكنها كانت تستوضح: «كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» (لو1: 34)، إنها طاعة واعية واثقة، في كل ما احتملته لم تتذمر اطلاقا. بالرغم من ذلك قالت للملاك: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو1: 38). يقول القديس أمبروسيوس: [لم ترفض مريم الإيمان بكلام الملاك، ولا اعتذرت عن قبوله، بل أبدت استعدادها له، أما عبارة: "كيف يكون هذا؟ فلا تنم عن الشك في الأمر قط، إنما هو تساؤل عن كيفيّة إتمام الأمر... إنها تحاول أن تجد حلًا للقضيّة... فمن حقِّها أن تعرف كيف تتم الولادة الإعجازيّة العجيبة]. أمام هذا الإعلان أعلنت العذراء خضوعها بالطاعة. إن طاعة العذراء مريم قد حلت محل عصيان حواء أمها. ونلاحظ أن العذراء كانت إجابتها كلها اتضاع، فهي قد علمت أن من في بطنها هو الله، لكنها ها هي تقول هوذا أنا أمة الرب. إنه في اللحظة التي قبلت فيها العذراء كلام الملاك وقدمت الطاعة لله، قبلت سرّ التجسد، فالله يقدس الحرية الإنسانيّة، وكان غير ممكنًا أن يتجسد المسيح منها وهي لا تقبل هذا.ففى قولها «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ» (أى عبدة أو جارية)؛ يعنى استسلام والتزام تام لمشيئة الله وحضوره غير المفحوص. هو في نفس الوقت تجاوب مع النعمة، واستسلام لعطية الله. فهى لم تسعَ لفحص كلام الله، ولم تضعه تحت مجهر العقل، بل كان كلامها وتجاوبها إعلان للإيمان والتسليم الكامل. فلم تطلب أن ترى دليلًا ماديًّا، بل ولم تسعَ لحظة بالشك، كما فعل بعض الأنبياء من العهد القديم، مثل موسى النبي، وجدعون (قض6)، وأيضًا حزقيا الملك (2مل20: 9). وكذلك هنا ظَهر الفرق بينها وبين زكريا الكاهن، العالم بالشريعة، والذي من المفترض أن يكون على علاقة شخصية حياتية مع الله، ولكن نجده يضع كلام الله تحت المجهر العقلي، فأجاب الملاك: «كَيْفَ أَعْلَمُ هَذَا لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟». (لو1: 18). ألم تعرف يا زكريا أنه «غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ» (لو18: 27)، ألم تقرأ يا زكريا كيف أعطى الله إبراهيم نسل، وغيره مما كتب في التوراة، وأنت العالم بالناموس والأنبياء؟عاشت العذراء حياة الإيمان والتسليم، رغم رحلة الصليب التي عانتها في الألم والمتاعبِ المتنوعة: شك يوسف.. الولادة في مذود حيوانات .. الهروب من وجه هيرودس إلى أرض مصر.. كما احتملت أن ترى آلام السيد المسيح وصلبه. في كل هذا عاشت «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ». وبذلك استمرت القديسة مريم العذراء في كل حين، تعيش بالإيمان والطاعة والتسليم المطلق، من يوم البشارة ليوم انتقالها. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
02 يونيو 2022

وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ (أع1: 9)

صعود السيد المسيح، الكلمة المتجسد، بجسده، الذي اتحد به في بطن العذراء مريم، وقَبلِ فيه جميع الانفعالات والآلام والموت والدفن، ليؤكد حقيقة الاتحاد الكامل بين اللاهوت والناسوت، وأنهما صارا طبيعة واحدة، وأقنومًا واحدًا، وأن هذا الاتحاد لا افتراق معه. وكما أكد لنا بقيامته من الأموات حقيقة القيامة العامة، كذلك أرانا بالفعل حالة قيامة الأجساد بطبيعة روحانية في اليوم الأخير، وهكذا صعد به إلى الأعالى، كما يقول القديس كيرلس: [إنه ارتفع إلى السماء، حتى يشترك في عرش الآب بالجسد، الذي هو متحد به، هذا هو الطريق الجديد قد صنعه الكلمة لنا بعد أن ظهر في الطبيعة البشريّة] (تفسير إنجيل لوقا: 154).صعد إلى أعلى السموات: إن صعود السيد المسيح إلى أعالي السموات [سماء السموات] وهي أعلى وأسمى، قال عنها مُعلمنا داود النبيّ: «الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ...» (مز11: 4)، وأيضًا «سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ» (مز148: 4)، وهى عرش الله، وعنها قال السيد المسيح في العظة على الجبل «لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ...» (مت5: 34، 35)، وهي التي صعد إليها وحده، وقال عنها معلمنا القديس بولس الرسول: «فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ» (عب4: 14)، اجتاز διελυθότα السموات، لا يعني أنه مر بها أو اخترقها، بل تجاوزها إلى ما هو أعلى منها، فقد «صَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ» (عب7: 26). أي تجاوز الأمور المنظورة. لذلك «أَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ» (أع1: 9). والسحابة لها مدلولات كثيرة، نذكر منها الآتي:† كان الله يُستعلن بمجده في السحاب: فكان علامة ميثاقه مع نوح: «وَضَعْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ» (تك9: 13). ويقول الله لموسى: «هَا أَنَا آتٍ إِلَيْكَ فِي ظَلاَمِ السَّحَابِ..» (خر19: 9). وقد صاحب حلول مجد الرب، سحاب ملأ المكان: «َإِذَا مَجْدُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي السَّحَابِ» (خر16: 10). وكذلك كانت السحابة في التجلي متصلة بوضوح مع حضور الله والصوت الإلهيّ (مت17: 5؛ مر9: 7؛ لو9: 34، 35).† كان عمود السحاب علامة على وجود الله وسط شعبه، وقيادته لهم في رحلاتهم إلى أرض الموعد، ويعتبره القديس مقاريوس في مقابل إرشاد الروح القدس للنفس البشرية، عندما يتأمل في حالة النفس البعيدة عن عمل الروح، فيقول: [وكيف أتقبل أقوال الشريعة الإلهية على ألواح قلبي؟ وكيف أرى عمود النور الحقيقي والسحاب الناشئ من الروح القدس؟] (عظة25: 6). وسوف يأتي ابن الإنسان على السحاب، فيقول: «حِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ» (مت24: 30؛ 26: 64؛ مر13: 26؛ لو21: 27). وسيأتي ثانية مع السحاب (رؤ1: 7). فالمسيح لن يأتي في الخفاء أو في غموض، بل كإله ورب بمجد يليق بألوهيته (القديس كيرلس، تفسير إنجيل لوقا139) هكذا تشير سحابة دخان البخور في الكنيسة، إلى أن الله محتجب وغير مرئيّ: «فَوَقَفَ الشَّعْبُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَمَّا مُوسَى فَاقْتَرَبَ إِلَى الضَّبَابِ حَيْثُ كَانَ اللهُ» (خر20: 21)، وإلى حلول مجد الله. ونتذكر أيضًا، ونحن شاخصين نحو المشرق، وسحابة البخور من حولنا، صعوده إلى السموات وجلوسه عن يمين أبيه، وانتظار مجيئه الثاني المخوف المملوء مجدًا. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
30 مايو 2022

الأساس الكتابي للظهورات

أود أن أوضح الأساس الكتابيّ للظهورات في الكتاب المقدس. كلمة εΐδος في اللغة اليونانية تعني: شكل – هيئة – ظهور خارجيّ. كما يؤكد معناها على الصلة بين الظهور المرئيّ والحقيقة. الكتاب المقدس يذكر ظهورات أقنوم الابن قبل التجسد، لكي يمهد أذهان البشر للتجسد. ومنها: قال الله لهرون ومريم عندما تكلما على موسى: «اسْمَعَا كَلامِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لهُ. فِي الحُلمِ أُكَلِّمُهُ. وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَليْسَ هَكَذَا بَل هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي فَمًا إِلى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلمُ مَعَهُ لا بِالأَلغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ» (عد12: 6- 8). فقد ظهر لإبراهيم ومعه ملاكان وأعطاه الوعد بميلاد إسحق (تك18)، كما ظهر له أيضًا حينما أطاع الأمر الإلهيّ بتقديم اسحق محرقة (تك22: 2). وظهر ليعقوب كإنسان وصارعه حتى مطلع الفجر (تك32). كذلك ظهر لموسى في العليقة المشتعلة (خر3). وظهر الرب لموسى ومعه سبعون من شيوخ اسرائيل (خر24)، كما ظهر ليشوع (يش5: 13-15). كذلك ظهر لجدعون (قض6: 14). وظهر لمنوح (قض13). وفي العهد الجديد الظهور الإلهيّ، حيث يقول القديس لوقا أن «الرُّوحُ الْقُدُسُ َنَزَلَ عَلَيْهِ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ εΐδος مِثْلِ حَمَامَةٍ» (لو3: 22). كذلك يستخدم القديس لوقا نفس التعبير في وصفه للتجلي «وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا» (لو9: 29).ظهورات الملائكة: هناك أمثلة كثيرة تدلنا ظهور الملائكة، منها: ظهور الملاك جبرائيل لزكريا الكاهن (لو1: 11). الملاك الذي ظهر لمريم العذراء ليبشرها (لو1: 26). الملاك الذي ظهر للرعاة ليبشرهم بالميلاد (لو2: 9). كذلك ظهرت ملائكة ليوسف النجار (مت1: 20؛ 2: 13). الملاك الذي كان ينزل من السماء ويحرك الماء في بركة بيت حِسْدَا (يو5: 4). وبعد قيامة السيد المسيح، دحرج الملاك الحجر عن باب القبر (مت28: 2)، كما ظهرت ملائكة للنسوة (مت28: 5، يو20: 12). الملاك الذي ظهر لفيلبس وطلب منه أن يذهب إلى غزة (أع8: 26)الملائكة لها أجسام روحانيّة نورانيّة لطيفة، لا تستطيع العين البشرية أن تراها، لأنها أجسام غير هيولية، فهم لا يحتاجون إلى اتخاذ جسم لهم بل لنا؛ لكي يظهروا للناس بما يألفونه وبما يتوقعونه، حتى يستأنسوا بهم ولا يخافوا منهم، لأن طبيعة الملائكة أرواح لا تُدركها الأبصار، ونورانيّة لا يتحملها الإنسان، حيث يُخبرنا سفر الرؤيا عن ملاك واحد ينزل من السماء فتستنير الأرض كلها من بهائه (رؤ18: 1). فظهور الملائكة للإنسان بصورتهم النورانيّة؛ تؤدي إلى حالة رعب أو خوف للإنسان ذاته، فالملاك الذي رآه يشوع بن نون ظهر بهيئة جبار قويّ، بيده سيف مسلول، وعندما أخبر يشوع أنه رئيس جند الرب حدث أن «سَقَطَ يَشُوعُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأرض وَسَجَدَ» (يش5: 14). لذلك تأخذ الملائكة شكلًا يتناسب مع الطبيعة البشريّة عند ظهورها للإنسان، فتأخذ أجسامًا مرئيّة بهيّة ليست حقيقية إلى حين، ويتكلمون بلسان بشريّ، حتى يتمكنوا من توصيل أوامر الله وتحذيراته ووصاياه إلى البشر، فيقول يوحنا الدمشقيّ: [يَأْخذونَ أشكالًا مختلفةَ حسب أمر الله سيدِهم، وهكذا يظهرون للبشر ويكشفْون لهم الأسرار الإلهية].كذلك هناك ظهورات للقديسين والأبرار في العهد القديم، مثل ظهور صموئيل (صم 6:28-7). وظهور رئيس الكهنة أونياس، وإرميا النبي ليهوذا المكابي: «وهذه هي الرؤيا قال: رأيت أونيا الكاهن الأعظم، رجل الخير والصلاح المهيب المنظر الحليم الأخلاق صاحب الأقوال الرائعة، المواظب منذ صبائه على جميع ضروب الفضائل باسطًا يديه ومصليا لأجل جماعة اليهود بأسرها، ثم تراءى لي رجل كريم الشيبة أغر البهاء عليه جلالة عجيبة سامية. فأجاب أونيا وقال: هذا محب الإخوة المكثر من الصلوات لأجل الشعب والمدينة المقدسة إرميا نبي الله. ثم ان إرميا مد يمينه وناول يهوذا سيفا من ذهب و قال. خذ هذا السيف المقدس هبة من عند الله به تحطم الأعداء» (2مكا15: 11 -16). وفي العهد الجديد ظهور موسى وإيليا على جبل التجلي (مت17: 3). ورؤيا يوحنا اللاهوتي.فإذا كانت الرؤيا والظهور من الطرق التي يخاطب الله بها البشر لتوصيل رسالة معينة أو للتعزية. والله «هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عب13: 8). فلماذا يستنكر البعض الرؤى اليوم؟! القمص بنيامين المحرقي
المزيد
23 مايو 2022

الإفخارستيا عطية القيامة

الإفخارستيا هي أسمى عطايا القيامة المقدسة للبشرية، فهي عطية الحياة والخلود. ففي بدء الخليقة خلق الله شجرة الحياة، لكي عندما يهب للإنسان أن يأكل منها يحيا خالدًا. ولكن كانت نتيجة الخطية؛ أن الله أخفاها عن آدم وحواء، ووضع «الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ» (تك3: 24). يقول مار أفرام السريانيّ عن شجرة الحياة إنها: [أُعلِنت بالصليب] (Hymn of Virginity).الإفخارستيا تمنح حياة من الموت: من رموز سر الإفخارستيا، منذ القرون الأولى للمسيحية، طائر البجع، فمن طبيعة هذا الطائر أنه في حالة عدم توفر الغذاء الكافي لفراخه، يطعن جنبه، ليطعم صغاره من دمه. صورة للحب والتضحية، يقوم بجرح نفسه وإطعام صغاره بدمه! يقدم دمه طعام لصغاره، هكذا قدم السيد المسيح نفسه بإرادته وسلطانه وحده، ذبيحة على الصليب، لكي يقدم لنا جسده المقدس ودمه لحياتنا. لقد أعطى الله المن النازل من السماء لشعب إسرائيل في العهد القديم، وكان إشارة ورمزًا للإفخارستيا. لأنه كان للشعب إسرائيل فقط، بينما الإفخارستيا للعالم كله. وأيضًا كان المن طعام للجسد فقط، فلم يمنح حياة، بينما الإفخارستيا «خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ» (يو6: 33). فالمن الحقيقي الطعام الحقيقي الذي [يُقسم عنكم وعن كثيرين .. ويُسفك عنكم وعن كثيرين] أي للعالم كله، فهو الابن المتجسد نفسه، ولأنه يملك الحياة له «حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ» (يو5: 26)؛ لذلك يمنح الحياة [حياة أبدية لمن يتناول منه]. الإفخارستيا تمنح غفران الخطايا: يصرخ الكاهن في القداس الإلهيّ: [يُعطى لمغفرة الخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه]. ويقول القديس يوحنا الإنجيليّ: «دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يو1: 7). مما هو جدير بالذكر أيضًا أن طائر البجع، يتغذى على الحيات والأفاعي، لذلك يستخلص من دمها مصل يستخدم ضد السموم. وإذا لدغت الحية أحد فراخ البجع، تقوم الأم بجرح صدرها، وتصب ما يسيل من دمها في فم صغارها لتخلصهم من الموت. والخطيئة أجرتها موت. الإفخارستيا توحّدنا: يُسمّى سر الإفخارستيا بسر الشركة، لأن فيه يشترك الكاهن والشماس والشعب، يقول القديس اكليمنضس الرومانيّ: [على كل واحد منكم، أيها الإخوة، كل بحسب ترتيبه، أن يشترك في الإفخارستيا، بتقديم صلوات الشكر بضمير صالح . كلٌّ بحسب قانون خدمته... فَلْيُسُرّ كل واحد منكم أيها الإخوة الرب بنقاوة ضميره، ولا يَخِلّ بالقانون الذى يحدّد الخدمة] (الرسالة الأولى41: 1) كما يتناول القديس أغناطيوس الأنطاكيّ الأساس اللاهوتيّ للوحدانية رابطًا بين الأسقف الواحد والمذبح الواحد وجسد المسيح الواحد (الإفخارستيا الواحدة) والشعب الواحد، الذين هم أعضاء فى جسد المسيح الواحد. فيسمِّي الكنيسة [مكان الذبيحة] (أفسس5: 2؛ تراليا7: 2؛ فيلادلفيا4)، ويوصي قائلًا: [اجتهدوا أن تشتركوا في إفخارستيا واحدة، ذلك أنه واحدٌ جسد ربنا يسوع المسيح، واحدٌ هو الكأس التي توحّدنا بدمه، واحدٌ هو المذبح، كما أنه واحدٌ الأسقف الذي تلتفّ حوله جماعة الكهنة والشمامسة، شركائي في الخدمة] (فيلادلفيا4). كذلك جاء في كتاب الديداخي، عند تقديس الخبز أنه كان حبات قمح مبعثرة في أنحاء المسكونة وجُمع، ويطلب أن تكون الكنيسة كذلك: [فلتجتمع كنيستك من أقاصي الأرض إلى ملكوتك]، الوحدانية ناتجة من تناول المؤمنين جميعًا؛ الذين هم أعضاء فى جسد المسيح الواحد من جسد ودم الرب الحقيقيّين. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
16 مايو 2022

قومي استنيري...

«قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ» (إش60: 1)كان خروج بني إسرائيل من أرض مصر، وتحررهم من عبودية فرعون، إشارة إلى تحررنا من عبودية الشيطان بصليب السيد المسيح وقيامته.كما كانت عودة اليهود من السبي، رمزًا للقيامة من الموت. فالسبعين عامًا التي قضوها في مذلة السبي، ترمز إلى ظلمة القبر، وبالعودة من السبي تمتعوا بنور الحياة والحرية. أمّا أورشليم الجديدة، فقد تمتعت بما هو أعظم من حرية العودة من السبي. فبالقيامة فُتِح لنا الطريق للحياة الأبدية، باتحادنا بالسيد المسيح الذي هو القيامة والحياة (يو11: 25). كذلك كانت شريعة تطهير الأبرص رمزًا للقيامة (لا14: 4 -76)، فالشفاء والتطهير مصدر للفرح والاستنارة.الله هو النور الحقيقيّ الأزلي (يو1: 9؛ 8: 12)، باتحادنا به نلنا قبسًا من هذا النور، بل وأصبحنا نحن نورًا للعالم (مت5: 14)، من قِبَل الاستنارة التي حصلنا عليها كنعمة وبركة من بركات القيامة «لأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُورًا» (مز36: 9). يقول القديس يوحنا ذهبي الفم في عظة فصحية: [الآن أضاءت علينا إشعاعات من نور المسيح المقدس، وأشرقت علينا أضواء صافية من الروح القدس وانفتحت علينا كنوز سماوية من المجد. لقد اُبتُلِع الليل الكثيف الحالك وانقشع الظلام الدامس، واختفى ظل الموت الكئيب... إنه الفصح العجيب، إبداع فضيلة الله وفعل قوته] (رسائل آباء الكنيسة4: 29). إن ما نعنيه بالاستنارة يختلف عن إعمال العقل، فالاستنارة من عطايا القيامة لنا. يقول القديس مقاريوس المصريّ: [الذي عنده استنارة، هو أعظم من الذي له عقل ومعرفة، لأن الإنسان المستنير قد نال عقله استنارة أكثر من الإنسان الذي له معرفة فقط] (عظة 7: 5).إن القيامة هي حجر الزاوية في الإيمان المسيحي «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ» (1كو15: 14)، فقد كانت الكنيسة الأولى تعيش بالفعل حالة يقين الإيمان بالقيامة، ليس فقط كمبدأ إيمانيّ أو مجرد عقيدة لاهوتية، لكنها كانت تعيش في حالة قوة القيامة كحقيقة مُعاشة. بقيامة السيد المسيح من الأموات، وتحطيمه لمملكة الشيطان، وهبنا حياة جديدة لن يغلبها الموت، بل وجعل من الموت جسرًا للحياة. لذا يدعونا القديس بولس الرسول أن نعيش القيامة «اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ بين الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ» (أف5: 14). إن المسيح القائم هو الطريق والمصدر الوحيد للاستنارة، إن الليتورجية الكنسية تجسد لنا ذلك، حينما تُطفَأ الأنوار، وتُصلّى "تمثيلية القيامة"، ويعقبها إنارة الكنيسة بالشموع، التي تًضاء جميعها من على المذبح من الشمعدانين المحيطين بالدفنة، أي أن مصدر استنارتنا مُستمَّد من المسيح القائم. وكما كان الطريق إلى القيامة هو الصليب، الذي عن طريقه ذاق السيد المسيح الموت بالجسد. هكذا السبيل للتمتع باستنارة القيامة، بعدما مشاركة رحلة الآلام والقيامة، عن طريق التمتع بالتمتع بالأسرار الكنسية: «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا اقِمْتُمْ ايْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي اقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ» (كو2: 12)، وبذلك صرنا خليقة جديدة (2كو5: 17) نلنا فيها استنارة سمائية جديدة. علينا أن نكمل في طريق الإماته لكي نحصل على نور القيامة عن طريق رفض العالم (لو14: 33)، ونكران النفس (لو9: 23)، والانفصال عن الخطيئة (كو3: 5). إننا لا نأخذ الاستنارة بصورة كاملة مرة واحدة، أو يحصل عليها الجميع بقدر متساوٍ، بل بقدر ما يجاهد الإنسان في حياة التوبة والنقاوة، بقدر ما تفتقد النعمة الإنسان، وذلك لكي تمتحن قصد الإنسان لترى مدى حفظه للمحبة الإلهية. لذلك نرتل في توزيع الخماسين المقدسة، كدعوة للإستنارة، قائلين: "أضيئي واستنيري يا أورشليم، لأنه قد جاء نوركِ. لأن ربنا يسوع المسيح، الحمل الحقيقي، قام من بين الأموات" (لحن كل الصفوف: 3). القمص بنيامين المحرقي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل