المقالات

12 نوفمبر 2024

نبت حالاً..!

في مَثَل الزارع، وأثناء حديث السيّد المسيح عن سقوط البذار على الأرض المُحجِرة، نلاحظ في هذا النوع من الأراضي أنّه يكون سريع التفاعُل مع البذرة، كما يقول السيِّد المسيح في المثل أنّه نبت حالاً، ولكن بعد فترة قصيرة عندما أشرقَت الشمس جفّ واحترق..! لماذا نبت بسرعة؟ في الحقيقة أنّ هذه ليست علامة صِحِّيَّة بل علامة مَرَضِيَّة.. كيف؟ لنشرح هذا ببساطة: 1- البذرة الصغيرة يكون مُختَزَنًا بها طاقة قليلة.. وعندما تُزرَع البذرة وتبدأ في الإنبات، تنمو الجذور أوّلاً إلى أسفل، ويَستخدِم الجذر الطاقة البسيطة المُختَزَنة في البذرة لكي ينمو بها إلى أسفل؛ حيث يبدأ في امتصاص الطاقة من التُربة العميقة الرطِبة ويقوم بتغذية النبات بها، فيبدأ النبات في تكوين الساق والصعود به إلى أعلى.. معنى هذا أنّ الطاقة المُختزَنة في البذرة بالكاد تكفي لتكوين الجذر، ثمّ بعد ذلك يكون الجذر هو وسيلة إمداد النبات بالطاقة من أجل حياته ونموِّه..! 2- إذا كانت الأرض مُحجِرة أو صخريّة، فسيكون الطريق مسدودًا أمام الجذور، وبالتالي فالطاقة المُختَزَنة في البذرة ستذهب لتكوين الساق بسرعة، ليصبح لدينا حالاً نباتًا جميلاً بدون جِذر، أي بدون مصدر لإمداده بالطاقة.. وهنا الخطورة لأنّه سيجفّ بسرعة ويموت لانقطاع طاقة الحياة عنه..! 3- لذلك فإنّ الإنبات السريع ليس علامة نشاط أو حيويّة، بل هو حالة مَرَضيَّة تكشف عن أن الجذور ضامرة وطريقها مسدود.. فاتّجه النبات إلى أعلى وظهر على وجه الأرض بشكل جميل، حتّى استهلك كلّ الطاقة التي كانت مُختَزَنة في البذرة.. ثمّ جفّ ومات..!! 4- هكذا يكون هذا النوع من الناس الذين تسكن الصخورُ قلوبَهم عندما يسمعون الكلمة يقبلونها حالاً بفرح.. مثل إنسان ينفعل بعظة سمعها أو بمقالٍ قَرَأَهُ، ولكن الطاقة التي أخذها من الكلمة التي سمعها أو قرأها، لم يستثمرها في صناعة جذر عميق لحياته، من خلال إعادة الاهتمام بالمخدع في جلسة هادئة لمحاسبة النفس، واكتشاف الصخور والأحجار التي في القلب، وصلوات صادقة بتوبة وانسحاق، ثُمّ لقاء مع أب الاعتراف.. بل يتّجه بالطاقة الروحيّة التي أخذها للخارج؛ في كلام مع الناس أو نشاط اجتماعي أو خدمة تحت الأضواء.. ويستمرّ في هذا قليلاً حتّى تنفذ الطاقة التي كان قد أخذها، وبعدها، ولأتْفَه مشكلة أو ضيقة ينتكس ويرتدّ ويذبل مرّة أخرى..! لذلك في هذا النوع من الأرض بالذّات تظهر أهميّة تقوية الجذور والحياة الداخليّة، إن كُنّا نريد نموًّا روحيًّا حقيقيًّا ومُفرِحًا في حياتنا..! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
05 نوفمبر 2024

العِلم.. هل يجلب الغَمّ؟!

يتساءل البعض عن معنى الآية الموجودة في سِفر الجامعة، التي تقول: "لأن في كثرة الحِكمة كثرة الغمّ، والذي يزيد علمًا يزيد حُزنًا" (جا1: 18) فهل الحِكمة والعِلم يُزيدان الإنسان غَمًّا وحُزنًا؟ أَمْ ما هو المقصود بهذه الآية؟!! في الحقيقة إنّ سِفر الجامعة يُقدِّم صورة واقعيّة للبشرية البائسة التي انفصلت عن الله بالخطيَّة، ففقد كلُّ شيء معناه وصار باطلاً ففي البداية كان كلّ شيء حسنًا جدًّا، بحسب شهادة الله نفسه (تك1)،ولكن بعد أن سقطت الخليقة في قبضة الشيطان الذي أفسد كلّ شيءٍ،وصار يتلذَّذ بمعاناة الإنسان، ويتفنّن في ابتكار أمور الشرّ التي تجعله يتألّم باستمرار، صار العالم الجميل الذي خلقه الله مشوّهًا بالكثير من الصراعات والكوارث والأحداث المُفجِعة وأخذ الموت يبتلع الجميع في جوفه الواحد تلو الآخر ولهذا كان مجيء السيّد المسيح بالتجسُّد والفداء بداية جديدة للبشريّة، فأنار الحياة والخلود مرّة أخرى،وأعاد لكلّ شيء معناه الأصيل المُفرِح فصار هو رأس الخليقة الجديدة التي دخلَتْ بالمعموديّة في عضوية جسده وملكوته المَجيد ما يقوله سليمان الحكيم في سِفر الجامعة، هو لسان حال البشريّة بعد السقوط وقبل مجيء المخلِّص..! الحكمة هنا في هذه الآية المقصود بها الحكمة الأرضيّة،والمعرفة الأرضيّة المُنفصلة عن شركة الله،وهي التي وصفها الإنجيل بـأنّها "ليست هذه الحكمة نازلة مِن فوق بل هي أرضيّة نفسانيَّة شيطانيَّة" (يع3: 15) فهذه الحكمة تولِّد غمًّا وحزنًا إذ أنّ فيها "غيرة وتحزُّب وتشويش" (يع3: 16) وهذا ما نراه باستمرار عندما نتعرّف من وسائل الإعلام على أخبار ومشاكل وصراعات العالم، وكيف يدبِّر الناس شرورًا لبعضهم، وكيف يستعملون الحيلة والدهاء والعنف فهذه الأمور تزيدنا غَمًّا وحُزنًا أمّا الأخبار السارّة فهي في انفتاح قلوبنا على محبّة المسيح الصادقة والتلذُّذ بها، والتمتُّع برعايته، والتأمُّل في كلماته الحيّة العِلم في هذه الآية ليس هو معرفة الله ومعرفة الخير والخِبرات الروحيّة، بل هو خبرات الشرّ والمعلومات التي تُعكِّر سلام النفس وتشوِّش الفكر وتُحزِن القلب والعجيب أنّ بعض الناس يسعون نحو المزيد من هذه المعرفة الضارّة، فيقضون ساعات طويلة لمتابعة أحداث العُنف والكراهية والدمار، أو يسألون بشغف عن أخبار وأمور شخصيّة لا تخصّهم، أو يحاولون معرفة أسرار وتفاصيل لا تفيدهم بل تُحزِنهم، وأحيانًا تُعثرهم وتؤذي علاقتهم بالله ونقاوة قلوبهم وتفكيرهم وقد يندمون أنّهم عرفوا مثل هذه المعلومات، ويتمنّون أن يعودوا إلى بساطتهم ونقاوتهم الأولى، ولكن بعد فوات الأوان..! يقول القديس مار إسحق السرياني أنّ "محبّة العِلم غير المُمَلَّحة بحُبّ يسوع وفِعل الروح القدس، هي غريبة عن العالم الجديد، وهي ليست لها القُدرة على قطع الآلام (إزالة الخطيّة) من النفس" لذلك هي تضرّ الإنسان وتُتعِبُه ولا تكون سببَ فرحٍ له بل تنحرف به بعيدًا عن الحياة الحقيقية ولعلّ هذا ما يوضّحه القديس بولس الرسول عندما قال: "العِلم يَنفُخ ولكنّ المحبّة تبني" (1كو8: 1)،بمعنى أنّ معرفة الأمور الأرضيّة قد تتّجه لتغذية الذات، فينتفخ الإنسان ويتكبّر،وبالتالي يتعطّل عمل الروح القدس فيه أمّا المحبّة فهي التي تبني حياة المؤمنين في الكنيسة من أجل هذا لنسعى بكلّ قلوبنا في طلب المحبّة وممارستها، أفضل من جَمع المعلومات والأخبار التي قد تُحزِن قلوبنا وتعكِّر صَفو شركتنا مع الله. القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
24 سبتمبر 2024

بيننا مُصالِح

هناك آية شهيرة قالها أيّوب عن الله، أثناء ضيقته وحيرته من التجربة العنيفة التي أصابته وهي تَصلُح أن تُقال بِلِسان البشريّة كلّها: "لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ، فَنَأْتِي جَمِيعًا إِلَى الْمُحَاكَمَةِ لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا" (أي9: 32-33). فقد كان أيّوب يحاول أن يتواصَل مع الله، ليفهم ماذا يَحدُث؟ ولماذا توالَت المصائب عليه؟ ولكنّه لا يستطيع الوصول إلى الله، إذ ليس هو إنسانًا مثله، وبالتالي لا يوجَد مُصالِح يستطيع أن يوفِّق بينه وبين الله..! لقد كان هذا هو وضع البشريّة بعد السقوط، عندما فقدت شركتها مع الله ولكنّ كان تدبير الله أن يتجسّد الابن الوحيد الكلمة، لكي يكون هو المُصالِح الذي يَضَع يدَه على كِلَينا، أي الله والبشريّة، فهو ابن الله وابن الإنسان في نفس الوقت، مساوٍ لله بلاهوته ومساوٍ للإنسان بناسوته، في شخصه الواحد الفريد وبالتالي فقد كان هو المُصالِح المثالي الذي يستطيع أن يضع يده على كلينا، ويصالحنا معًا فنستعيد نحن البشر الشركة مع الله ونحيا إلى الأبد في أحضانه..! من أجل هذا، فالآن "بيننا مُصالِح"..! القدّيس بولس الرسول يشرح كيف أنّ الخطيّة صنعت حاجزًا من العداوة مع الله،والمسيح بتجسّده وفدائه هَدَمَ هذا الحاجز فيقول: "الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ (اليهود والأمم) وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ. فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ. لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ. فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ" (أف٢: ١٣-١٩) لعلّنا نلاحظ أنّ الله هو دائمًا صاحب مبادرة التصالح، إذ أنّ الإنسانَ عاجزٌ.. ولكن يبقى دور الإنسان أن يتجاوب بفرح مع نداء التوبة الذي يقدّمه له الله، بل ويصير حاملاً لنفس رسالة الله له بالمصالحة، وتوصيلها للعالم كلّه لكي يتصالح الناس مع الله مثله وهذا يوضّحة القدّيس بولس الرسول بشكل جميل ومُركَّز، عندما يقول:"اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ" (٢كو٥: ١٩-٢٠) ماذا نحتاج لكي نتصالح مع الله؟ نحتاج لثلاثة أمور على الأقلّ: أوّلاً: نفهم إيماننا الثمين: أنّ الله هو أبونا وأنّه بذل ابنه الوحيد من أجلنا،وأنّه أعطانا روحه ليسكن فينا،وأنّ محبّته لنا لا تتغيّر أبدًا، ولا تنقص بسبب سوء أفعالنا نؤمن أنّنا في المسيح قد صِرنا أبناء الله بالتبنّي، وأعضاء أهل بيته، ولسنا بعد غرباء عنه فالعودة للمصالحة مع الله، والارتماء في حضنه، هو الوضع الطبيعي لكلّ الأبناء. ثانيًا: نواجه أنفسنا بصدق.. كما يقول مار إسحق السرياني: "اصطلح مع نفسك تصطلح معك السماء والأرض" لحظات صدق مع النفس، هي كفيلة بوضع الإنسان في مواجهة حقيقيّة مع الله، واكتشاف حُبّه الهائل لنا مع إدراك مدى الانحدار والمهانة التي أصابتنا نتيجة البُعد عن الله فنعود إليه بسرعة، قارعين باب تعطّفه، وملتمسين مراحمه، مِثل الابن الضال والعشّار، فيأخذنا في أحضانه ويغمرنا بحبّه وقبلاته وتبريره وسلامه فنفرح معًا..! الصلاة هي باب التوبة فهي ارتماء في حضن الله و"الذي يظنّ أنّ له بابًا آخَر للتوبة غير الصلاة، فهو مخدوع من الشياطين" كما يقول مار إسحق أيضًا لذلك فالمواظبة على الصلاة بكلّ القلب، تجعل توبتنا حيّة باستمرار، فنحيا في سلام مع الله. ثالثًا: نتّخذ خطوات عمليّة للتوبة: الخطيّة تُشكِّل حاجزًا بيننا وبين الله، لذلك لا مَفَرّ من التخلُّص منها بالتوبة، لكي تتمّ المصالحة، واستعادة الشركة معه وذلك يتمّ باتّخاذ خطوات داخل أنفسنا وخارجها أيضًا الخطوات الداخليّة: تَشمَل محاسبة النفس والندم على الخطيّة، ثمّ التصميم على تغيير الوضع وعدم العودة مرّة أخرى إلى ما قد تركناه، مع ثقة في حبّ الله وقوّة الغفران التي في دمه، أي قوّة الحياة الجديدة الغالبة للموت التي في دمه الثمين. الخطوات الخارجيّة: تشمل الاعتراف أمام الشخص الذي أخطأت في حقّه، مع الاعتذار، ومحاولة إصلاح الخطأ بقدر المستطاع. ثُمّ الاعتراف أمام الله والأب الكاهن لنوال التحليل والإرشاد الروحي. نقطة أخيرة:يلزمنا أنّ ننتبه إلى أنّ "الذّات" هي أكبر عائق للمصالحة مع الله ومع النفس ومع الآخَرين.. فهي عدو مُزعِج يَرفُض الاعتراف بالخطأ، ويتهرّب من الاعتذار، ولا يقبَل الخضوع للتأديب.. لذلك فالتواضع وإنكار الذّات هما أساسيّان لإتمام أيّة مصالحة حقيقيّة مع الله أو مع الآخَرين..! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو
المزيد
27 مايو 2024

القيامة الأولى

"مبارك ومقدّس كل مَن له نصيب في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنةً لله والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة" (رؤ20: 6) جاءت هذه الآية في سِفر الرؤيا، لتكشف حالة ومصير الذين لهم نصيب في القيامة الأولى فما هي القيامة الأولى؟ وما هو الموت الثاني؟ وما هو أصلاً الموت الأول؟! وهل هناك قيامة ثانية؟!! أحاول في هذا المقال تقديم إجابات مبسّطة ووافية لكلّ هذه الأسئلة: القيامة الأولى (رؤ20: 4-5) هي القيامة مع المسيح من موت الخطيّة، وهو ما بدأ بقيامة المسيح من الأموات، ويتحقَّق للمؤمنين في المعموديّة "مدفونين معه في المعموديّة، التي فيها أُقِمتُم أيضًا معه، بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات" (كو2: 12) "قد مُتُّم مع المسيح" (كو2: 20) "قد قُمتُم مع المسيح" (كو3: 1) "كل مَن اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعموديّة للموت، حتّى كما أُقيمَ المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جِدّة الحياة لأنه إن كُنّا قد صِرنا متّحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته فإن كُنّا قد مُتنا مع المسيح نؤمِن أنّنا سنحيا أيضًا معه" (رو6: 3-8)وهذه القيامة يلزمنا أن نعرف أنّها ليست حدَثًا محدودًا تمّ في الماضي أثناء معموديّتنا، ولكنها حدَث مُمتَدّ نعيشه كل يوم بمعنى أنّنا أخذنا في المعموديّة قوّة موت عن الخطيّة، وقوّة قيامة وحياة جديدة، لنعيش بهذه القوّة في حياتنا كل يوم وكل ساعة ولهذا يُكمِل معلِّمنا بولس الرسول حديثه بالروح القدس قائلاً "احسِبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيّة، لكن أحياءً لله بالمسيح يسوع ربنا لا تُمَلِّكَن الخطيّة (مرّة أخرى) في جسدكم المائت (الذي مات في المعموديّة) لكي تطيعوها في شهواته ولا تُقَدِّموا أعضاءكم آلات إثم للخطيّة بل قدِّموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات، وأعضاءكم آلات برّ لله" (رو6: 12-13) والقيامة الأولى تشمل أيضًا ما يحدث بعد المعموديّة، عندما نُرشَم بمسحة الروح القدس (سِرّ الميرون)، فنصير كهنة لله، أي ممسوحين ومكرّسين لله، وكل حياتنا تكون ملكًا له فيصبح كل واحد فينا "مسيح الرب" وهذا هو "الكهنوت العام" الذي يشترك فيه جميع المسيحيين من رجال ونساء وأطفال وشيوخ أنّنا جميعًا بالميرون نكون كهنة الله (رؤ20: 6) وهذا بالطّبع غير "الكهنوت الخاصّ" الذي هو "سرّ الكهنوت" والذي يتمّ بوضع اليد [(أع8: 14-21)، (أع13: 3)، (1تي4: 14)، (1تي5: 22)، (2تي1: 6)] ونفخة الروح القدس (يو20: 20) فيصير الشخص وكيل سرائر الله (1كو4: 1) أمّا عن الألف سنة فهي تشير إلى الحياة السماويّة الممتدّة مع المسيح فرقم 1000 يشير دائمًا للحياة السماويّة الأبديّة التي لا تنتهي مع الله ولا ننسى أنّ الإنجيل يُخبِرنا أنّ "يومًا واحِدًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيومٍ واحِد" (2بط3: 8). فمُلك الألف سنة يُشير إلى ملكوت دائم مع المسيح يوم واحِد لا ينتهي هو يوم الأبديّة! بهذا نكون قد فهمنا معنى القيامة الأولى والموت الثاني هو الهلاك الأبدي، والعذاب في بحيرة النار المُعَدَّة لإبليس وملائكته، كما هو واضح في [(مت25: 41)، (رؤ20: 14)]. أمّا الموت الأول فهو مفهوم ضِمنًا في شرح معنى القيامة الأولى فلا تأتي القيامة الأولى مع المسيح إلاّ بعد الموت الأول الذي يتمّ في المعموديّة، ويمتدّ في حياتنا كل يوم، بأن نموت عن الخطيّة وعن الشرّ الذي في العالم وهو ما وضَّحَهُ أيضًا معلِّمنا بولس الرسول بالروح القدس حينما قال "حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا" (2كو4: 10) وهذا الموت الأوّل هو أساسيّ للقيامة الأولى، وبدونه لا يكون لنا نصيب فيها! وأخيرًا ما هي القيامة الثانية؟! يُحَدِّثنا السيد المسيح عنها في أكثر من موضِع، فيقول مثلاً "تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصّالحات إلى قيامة الحياة، والذين صنعوا السّيِّآت إلى قيامة الدينونة" (يو5: 28-29) بمعنى أنّ القيامة الثانية تحدُث في يوم الدينونة عند مجيء المسيح الثاني، وتكون بالنسبة للأبرار حياةً أبديّة في ميراث الفرح والمجد والنور، أمَّا بالنسبة للأشرار فتكون هلاكًا أبديًّا أو ما يُسَمَّى بالموت الثاني خُلاصَة الكلام، أنّنا كمسيحيين نعيش الآن القيامة الأولى ليس فقط في فترة الخمسين المقدَّسة، بل كل يوم من أيام حياتنا بعد المعموديّة نموت عن محبَّة العالم، مُتَحَرِّرين من رباطاته الرديئة ونحيا بقوّة قيامة المسيح فينا، ثابتين في وصاياه، شاهدين لمحبّته، مُثمرين لمجد اسمه هذه هي القيامة الأولى "مبارك ومقدّس كل مَن له نصيب في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنةً لله والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة" (رؤ20: 6). القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
04 مارس 2024

ذبيحة الصوم

ما هو تعريف الصوم؟ الصوم هو انقطاع عن الطعام لفترة من الزمن، وبعد ذلك نأكل أكلاً بسيطًا خاليًا من الدسم الحيواني من هذا التعريف البسيط يتّضح لنا أنّ الصوم ليس مجرد تغيير بعض الأطعمة الحيوانيّة بأخرى نباتيّة، ولكنّه أولاً انقطاع عن الأكل، وإمساك البطن جيّدًا، وضبط شهوة الطعام فينا. لماذا نُسمِّي الصوم ذبيحة؟! لأنّنا كما أنّنا نقدِّم في عبادتنا لله ذبائح روحيّة مثل الصلاة والتسبيح والعطاء وطاعة الوصيّة، فإنّ الصوم أيضًا هو ذبيحة حُبّ روحية، فيها تضحية عظيمة المقداربمعنى أنّه: 1- في الصوم يذبح الإنسان إرادته الشهوانية ناحية بعض الأطعمة المُحبّبة اللذيذة، التي تجعله أحيانًا يغرق في الجسديات. 2- في الصوم يقدّم الإنسان جزءًا من لحمه ذبيحة للمسيح، فمثلاً: قد يبدأ الصيام بوزن معيّن لجسده، وينتهي من الصيام بوزن أقلّ! فكأنّه من أجل محبته للمسيح يكون قد قدّم له بعضًا من لحمه كذبيحةٍ له! 3- الصوم يساعد على ضبط الجسد؛ فتستطيع الروح أن تنطلق، وتنتعش، وتنمو. ما هي فوائد الصوم في حياتي؟! 1- يدرّبني على ضبط النفس، وهي صفة هامة ومفيدة، إذ تحميني من كثير من الأخطاء والأخطار، وتجعلني محبوبًا، قويًّا، متعفِّفًا، وناجحًا في أعمالي. 2- يعلمني الصبر وهي صفة أساسية ولازمة للخلاص، فالذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص (مت13:24)، والذين يصمدون في الإيمان، ومحبة المسيح إلى النهاية هم الذين سينالون الفرح، والمجد الأبدي. 3- يحفظني من الشَرَه، والنَهَم، وهي عادات مُضِرَّة، ومكروهة. 4- هو شركة آلام مع المسيح.. فألم الجوع والحرمان هما تَقدِمَة ومشاركة حُبّ بسيطة مع الربّ يسوع في آلام صليبه وإن كنا نتألم معه فبالتأكيد سوف نتمجّد معه (رو17:8). 5- يعطيني الفرصة أن أنطلق بروحي مع ضبط جسدي بالصوم وعندما تنطلق الروح بالصلاة والقراءة والتأمُّل تتمتع بالمسيح أكثر فيمتلئ قلبي بالسعادة إذ تتحقق فيّ كلمات الإنجيل؛ أنّ "اهتمام الجسد هو موت ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام" (رو6:8). 6- يمنحنّي قوّةً وانتصارًا على عدو الخير فالصوم مع الصلاة قوّة ضاربة ضدّ الشيطان وحروبه كما علّمنا ربّنا يسوع المسيح أنّ جنس الشياطين لا يتمّ التغلُّب عليه إلاّ بالصوم والصلاة (مت17: 21). كيف أقدم ذبيحة الصوم؟ 1- المحبة هي الأساس أضع محبّة المسيح أمام عينيّ، وأحتمل من أجله الجوع، والعطش، وأقدّمهما ذبيحةً له. 2- فترة الانقطاع هي عنصر رئيسي في الصوم أحتاج أن أتفق عليها مع أب اعترافي، وألتزم بها. 3- من المهم الانتباه لصوم الفم واللسان والفكر والحواس عن الخطيّة وليس فقط صوم البطن. 4- الأصوام الكنسية بركة كبيرة لا ينبغي أن أهملها أبدًا بأيّ حُجّة تافهة. 5- من الضروري أن يكون الصوم مصحوبًا أيضًا بالصلاة، والتغذية الروحيّة بوجه عام، من قراءة وقُدّاسات وتسابيح.. الصوم والصحّة الجسديّة: مؤكَّدٌ إنجيليًا وعِلميًا أن الصوم ليس عملاً من أجل الصِّحّة الجسدية! فداود النبي يقول"ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمي هُزِلَ عن سِمَنٍ" (مز24:109) "أَذللتُ بالصوم نفسي" (مز13:35) "أبكيتُ بصوم نفسي، فصار ذلك عارًا عليَّ" (مز10:69). ومعروفٌ عِلميًا أن الطعام الصيامي يفتقر إلى بعض الأحماض الأمينية الأساسية Essential Amino Acids التي لا توجد إلاّ في البروتين الحيواني.وعلى هذا فالصوم حقيقةً يُضعِف الصحّة بمقدارٍ ما، ويجب أن نكون على وعيٍ بهذا ولكن، هذا الأمر يكون مُزعِجًا فقط للجسدانيين، الذين ينظرون للصوم كعمل جسدي فقط، وليس عملاً روحيًا وذبيحة حُبّ نقدّمها للمسيح الصوم هو عمل محبّة من الدرجة الأولى، وجانب لذيذ من تذوُّق الصليب في حياتنا فنحن نصوم ونقدِّم أجسادنا كذبيحة طاهرة، لكي نُحسَب أهلاً أن نَحمِل في جسدنا إماتة الربّ يسوع، وبالتالي تظهر حياة يسوع مُشرقةً في جسدنا المائت (2كو4: 10-11) لذلك ما أجمل أن ينتهي الصوم بالتناول من الأسرار المقدّسة، فبالشّركة في الجسد والدم الطاهرين تَكمُل ذبيحتنا ويُتوَّج بذلنا، بهذه الشركة المجيدة مع المسيح المذبوح لأجلنا، الذي ذُبِحَ واشترانا لله أبيه (رؤ5: 9) ما أروع أن يكون الحُبّ متبادَلاً بهذه الصورة! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
23 يناير 2024

بمناسبة عيد عُرس قانا الجليل

مقتطفات من تعليقات بديعة للقديس كيرلّس الكبير على معجزة: تحويل الماء إلى خمر في عُرس قانا الجليل + يأتي الربّ في وقت مناسب جدًّا ليبدأ المعجزات، رغم أنّ الذين دعوه لم يكُن لديهم هذا الهدف..! + عندما دُعِيَ هو، جاء مع تلاميذه، لكي يصنع المعجزة، لا لكي يتمتّع بالاحتفال معهم، ولكن بشكل خاصّ جاء لكي يقدّس بداية ميلاد الإنسان، وأنا أعني ميلاده حسب الجسد. لقد كان يليق بمن جاء لكي يجدّد طبيعة الإنسان، وأن يعيدها إلى ما هو أفضل، ليس فقط أن يبارك الذين كانوا موجودين قبلاً (الحاضرين)، وإنّما أيضًا أن يهيِّئ نعمةً مُقدَّمًا للذين سوف يولَدون (كثمرة لذلك الزواج)، ويجعل مجيئهم إلى العالم مقدّسًا. + المخلّص هو محبّ البشر.. هو فرح وسعادة الكلّ.. أَكرَمَ الزواج بحضوره، لكي يزيل اللعنة القديمة الخاصّة بإنجاب الأولاد. + جاء مع تلاميذه إلى العُرس. لقد كان ضروريًّا حضور مُحبِّي المعجزات مع صانع المعجزات، لكي يسجّلوا معجزاته، فتصبح كطعام يغذّي إيمانهم. + لم تأتِ ساعتي بعد.. هو لا يريد أن يتسرّع في القيام بشيء، لأنّه لا يريد أن يَظهر كصانع المعجزات من تلقاء ذاته، بل ينتظر حتّى يدعوه المحتاجون، وليس الفضوليّون. فهو يعطي النعمة لمن يحتاج، وليس لمَن يريد أن يتمتّع فقط بالمشاهدة..! + يريد المسيح أن يؤكِّد على الإكرام العميق للوالدين، فقد قبل طلب أمّه إكرامًا لها، رغم أنّه لم يكُن يريد القيام بالمعجزة في تلك الساعة. + كان لأمّه تأثير عظيم في القيام بهذه المعجزة، وقد تمّت إرادتها، لأنّها طلبت من الرب ما يليق بها كأمّه وهو كابنها. وبدأت تعمل بأن هيّات الخدَم لكي يجتمعوا، لإطاعة ما سيأمُر به. + لقد نزل كلمة الله من السماء، لكي يصير عريسًا للطبيعة الإنسانيّة، فأخذها وجعلها خاصّة به، لكي يجعلها تلد ثمار الحكمة الروحيّة. ولذلك دُعِيَت الطبيعة الإنسانيّة العروس، والمُخَلِّص دُعِيَ العريس.. + لم يأتِ المُخلِّص إلى العُرس من تلقاء نفسه، بل بدعوة، وإلحاح أصوات القدّيسين. ولكنّ الخمر فرغَت، ولم يعُد لدى المحتفلين منها أيّ شيء، لأنّ الناموس لم يكمّل شيئًا، إذ أنّ الوصايا الناموسيّة لم تهب الفرح، ولم يستطِع الناموس الطبيعي المغروس فينا أن يخلِّصنا. ولذلك من الصواب أنْ نقول أنّ عبارة "ليس عندهم خمر" قد قيلَت عنّا نحن أيضًا. ولكن صلاح الله وغِناه لا ينضُب، ولا يمكن أن يعجز أمام احتياجاتنا.. + لقد أعطانا "خمرًا" أفضل من الخمر الأوّل "لأنّ الحرف يقتل ولكنّ الروح يُحيي" (2كو3: 6). فالناموس لم يكمّل شيئًا، ولم يُعطِ الخيرات، ولكنّ التعليم الإلهي للإنجيل يُعطي البركة الكاملة. [عن تفسير إنجيل يوحنا للقدّيس كيرلّس السكندري - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد وآخرون] القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
16 يناير 2024

تأملات ومعاني في عيد الختان

تحتفل الكنيسة كل عام بعيد ختان ربنا يسوع المسيح، في اليوم الثامن لميلاده (6 طوبة).. وقد قبل السيِّد المسيح الختانَ في جسده، لكي يتمِّم الناموس عن الإنسان الذي عجز عن تنفيذ أغلبيّة وصايا الناموس.. وهكذا خاض المسيح بنجاح كلّ خطوات المسيرة التي كان على الإنسان أن يجتاز فيها، لكي يبارك هذه المسيرة للإنسان، ويعاونه على اجتيازها بنجاح.. + إذا عُدنا بالتاريخ إلى الوراء، نجد أنّ بداية الختان كانت مع أبينا إبراهيم.. إذ أمرَه الربّ أن يُختَتَن وهو في التاسعة والتسعين من عمره (قبل ميلاد إسحق بسنة).. ليكون هذا العمل عهدًا بالدم في لحمه ولحم نسله من الذكور.. فختَنَ إبراهيم نفسه، وختَن إسماعيل، وختن كلّ عبيده.. ثم ختن إسحق بعد مولده.. تنفيذًا لقول الرب: "هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك، يُختَن منكم كل ذَكَر، فتُختَنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم.. ابن ثمانية أيام يُختَتَن منكم كل ذكَر في أجيالكم.." (تك17).. وهنا يظهر أيضًا بوضوح أنّ عمليّة الختان كانت تخصّ الذكور فقط، ولا توجَد أدنى إشارة لما سُمِّيَ فيما بعد بختان الإناث. + نعود لشريعة الختان.. ونلاحظ أن عمليّة الختان هي عهد (وقد تكرّرَت كلمة "عهد" في ذلك الأصحاح 10 مرّات).. فالله دائمًا يريد أن يدخل معنا في عهد.. عهد محبّة وعهد حياة. ولأنّ الدمّ يشير إلى الحياة، فكانت عهود الله مع الإنسان دائمًا بالدم.. كما أن الختان يتمّ بقطع غُلفة لحميّة من على عضو التناسل، الذي ينقل الحياة من جيل إلى جيل.. فمن اختيار الله لهذه العملية لتكون هي علامة العهد، نتأكَّد أن الله يريد يكون العهد بيننا وبينه هو عهد حياة، يهبها لنا، لنتمتّع بها معه.. + ونلاحظ أيضًا أن الختان كان يتمّ في اليوم الثامن لمولد الصبي، كما أنّه في هذا اليوم يأخذ الطفل اسمه الجديد.. واليوم الثامن يشير إلى الحياة الجديدة، فبعد اكتمال أيام الأسبوع السبعة يأتي الأسبوع الجديد في اليوم الثامن.. وفي اليوم الثامن أيضًا قام المسيح من الأموات، ليهبنا حياة أبديّة فيه.. وهنا إشارة واضحة أنّه بالختان يبدأ الإنسان حياة جديدة وعهدًا جديدًا، باسم جديد وعلاقة جديدة مع الله. + مبكِّرًا جدًّا في العهد القديم، لفت الله نظر شعبه إلى المعنى الروحي العميق للختان، وهو إزالة الخطيّة التي تفصلنا عن الله.. فالخطيّة هي الغرلة أو الغُلفة التي تحجز الإنسان عن التواصُل مع الله والانسجام معه.. ولذلك فإنّ إزالة هذه الغُلفة أمر واجب وأساسي، لاستعادة الشركة مع الله..! قد تكون الغُلفة على العين فلا ترى الله ولا الأمور الروحيّة، وقد تكون على الأُذُن فلا تسمع صوت الله، وقد تكون الغُلفة على القلب فلا يحسّ بالله ولا يتلامس مع محبّته.. وهناك نصوص كثيرة جميلة في العهد القديم تؤكِّد هذا المعنى، منها: * "اختنوا غرلة قلوبكم، ولا تُصَلِّبوا رقابكم بعد" (تث10: 16). * "..ويختن الرب إلهك قلبك وقلب نسلك، لكي تحبّ الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك لتحيا" (تث30: 6). * "أذنهم غلفاء فلا يقدرون أن يصغوا..." (إر6: 10). * "كل بيت إسرائيل غُلف القلوب" (إر9: 26). لذلك يؤكِّد معلّمنا بولس الرسول بالروح القدس أنّ "ختان القلب بالروح.. هو الختان" (رو2: 29). + على المستوى المسيحي في العهد الجديد، نجد أنّ الختان الجسدي لم يعُد له أيّة قيمة دينيّة.. لأنّه كان رمزًا للعهد الذي تحقّق كاملاً بدم المسيح على الصليب.. ومن هنا فقد بطلت كلّ الرموز القديمة باستعلان الحقيقة في المسيح.. ولكن بقِيَ المعنى الروحي للختان. وتؤكِّد هذا المعنى نصوص عديدة في الإنجيل، منها: * "ليس الختان شيئًا، وليست الغرلة شيئًا، بل حِفظ وصايا الله" (1كو7: 19) * "في المسيح يسوع، لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبّة" (غل5: 6). * "في المسيح يسوع، لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة" (غل6: 15). + من المهم أن نعرف أيضًا أنّ الختان في العهد القديم كان رمزًا للمعموديّة في العهد الجديد، وهذا ما شرحه بوضوح القديس بولس الرسول بالروح القدس في رسالته إلى أهل كولوسي: "وبه (بالمسيح) أيضًا خُتِنتم ختانًا غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشريّة بختان المسيح. مدفونين معه في المعموديّة، التي فيها أُقِمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات. وإذ كنتم أمواتًا في الخطايا، وغَلَفِ جسدكم، أحياكم معه مُسامحًا لكم بجميع الخطايا" (كو2: 11-13).. فبالمعموديّة قد خلعنا عنّا غُلفة الخطايا ولبسنا برّ المسيح..! + إن كان الختان في العهد القديم هو دخول في عهد وشركة مع الله، وبدون الختان لا يمكن التمتّع بمزايا هذه الشركة.. هكذا في العهد الجديد بدون المعموديّة لا يمكن الدخول لبقيّة الأسرار، والتمتُّع بشركة الروح القدس.. فنرى مثلاً أنّه في أحداث خروف الفصح كانت وصيّة الله: "كل عبد رجل مبتاع بفضّة تختنه ثم يأكل منه... أمّا كلّ أغلف فلا يأكل منه" (خر12: 44، 48).. هكذا لا يمكن لمَن لم يدخل في عهدٍ مع الله بالمعموديّة أن يتقدّم للتناول من الأسرار المقدّسة، التي هي خروف الفِصح الحقيقي المذبوح لأجل خلاص العالم (1كو5: 7). + على المستوى الروحي الشخصي.. ختان القلب بالروح (رو2: 29) هو جرح القلب بمحبّة المسيح، عن طريق الروح القدس، فتصير النفس مجروحة بالحُبّ الإلهي.. إذ أنّ الختان يتمّ عن طريق جرح يُعمَل في الجسد..! + عندما ناول السيّد المسيح الكأس، قال لهم: هذا هو العهد الجديد بدمي، أو هذا هو دمي الذي للعهد الجديد.. وهذا يعني أنّ تناولنا من الدم الإلهي كفيل بأن يجرح قلبنا بمحبّة المسيح الذي سفك دمه من أجلنا، حتّى أنّ القديس بولس الرسول يقول أنّ محبّة المسيح قد أنسكبت (سُفِكَت) في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا (رو5). + إذا كان الختان في العهد القديم بجرح صغير في الجسد، لخلع غُلفة صغيرة، من أجل الارتباط بالله.. فإنّ ختان المسيح في العهد الجديد بالمعموديّة يتمّ فيه خلع جسم الخطيّة بالكامل عن طريق الموت مع المسيح، أو الشركة في موت المسيح، فنقوم معه في خليقة جديدة، ونحيا للبِرّ (رو6).. ولذلك في احتفالنا بعيد الختان، يلزمنا أن نجدِّد عهد المعموديّة بالتوبة.. فنقطع من حياتنا كل خطيّة تفصلنا عن الله، أو تحجز النعمة عن التدفُّق لحياتنا.. ونصلِّي من الأعماق أن يستخدم الله سِكِّين كلمته ليختن قلوبنا وحواسّنا، فتعود لها براءتها ونقاوتها الأولى، وتصير مؤهَّلة للتمتُّع بالشركة مع الله. + أخيرًا.. جاء في نبوءة إرميا (ص31)، التي استشهد بها ق. بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين: "هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. لا كَالْعَهْدِ الَّذِي عَمِلْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُ بِيَدِهِمْ لأخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا فِي عَهْدِي، وَأَنَا أَهْمَلْتُهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا" (عب8: 8-11). وهنا تأتي كلمة "أكتبها" حرفيًّا "أحفرها".. فهذا هو مضمون العهد الجديد، أن تكون الشريعة محفورة في قلوبنا، وهذا يتمّ بدم المسيح الذي للعهد الجديد.. فدم المسيح هو الذي يحفر الشريعة الجديدة داخل قلوبنا.. وما هي الشريعة الجديدة سوى وصيّة المحبّة التي أعطاها لنا المسيح، أن نحبّ بعضنا بعضًا كما أحبّنا هو، وبذل نفسه لأجلنا..! + من أجل هذا يقول ق. بولس الرسول: "لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ، فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لا لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ" (2كو5: 14-15). فمحبّة المسيح قد جَرحت قلوبنا، فلا نستطيع بعد الآن أن نعيش لأنفسنا، بل لمن أحبّنا وحاصرنا بحبّه.. لذلك في عيد الختان، نذكُر حُبّ المسيح الذي جرح قلوبنا، فتعلّقنا به، وأحببناه، ونجري وراءه مسبّحين إيّاه إلى الأبد..! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
09 يناير 2024

ترتيب أحداث الميلاد

حفلت الفترة الأولى لحياة السيّد المسيح على الأرض، بداية من ميلاده في بيت لحم حتّى سُكناه في الناصرة، بمجموعة متتالية من الأحداث.. أحاول في هذا المقال ترتيبها بحسب توقيت حدوثها ومكانها في عشرِ محطّات، بحسب نصوص الإنجيل (لوقا2، ومتّى2)، وهي أهمّ مرجع لنا، وبالاستعانة أيضًا ببعض الأحداث المُثبَتَة في التاريخ: 1- ميلاد السيّد المسيح ليلاً في المذود في قرية بيت لحم. 2- زيارة الرعاة للرب يسوع ليلاً في المذود، بُناءً على ظهور الملائكة لهم في نفس ليلة الميلاد. 3- ختان السيّد المسيح بعد ثمانية أيّام من ميلاده، وهذا حدث غالبًا في أحد البيوت التي انتقلوا إليها بقرية بيت لحم. فبعد أن سمع الناس كلام الرعاة العجيب عن المولود المسيح المُخلّص وظهور الملائكة، قامت إحدى الأُسَر في بيت لحم باستضافة العائلة المقدّسة.. حيث أنّ المذود أيضًا لم يكُن مكانًا مهيّأً بالمرّة لإقامة أي أسرة أكثر من يومٍ أو اثنين..! 4- دخول السيّد المسيح الهيكل بأورشليم بعد أربعين يومًا من ميلاده. ونلاحظ هنا أنّ العائلة المقدّسة لم تعُد سريعًا إلى الناصرة حيث مكان إقامة وعمل القديس يوسف النجّار لأنّ المسافة كبيرة بينها وبين بيت لحم (حوالي120 ميل - 192 كم)، فبدلاً من الذهاب للناصِرة ثمّ العودة في وقت قصير مرّة ثانية للهيكل بأورشليم، فَضَّلوا الانتظار في ضيافة الأُسرة المباركة التي كانوا يقيمون لديها في بيت لحم حتّى يتمّ طَقس التطهير في أورشليم القريبة من بيت لحم (حوالي 6 أميال - 9 كم) وبعد ذلك يعودون نهائيًّا للناصرة. 5- حضور المجوس لزيارة الرب يسوع والسجود له في بيت لحم، بعد أن أرشدهم النجم إلى مكان البيت الذي كان الطفل يسوع يقيم فيه. ويبدو أنّ العائلة المقدّسة بعد انتهائها من إتمام طقوس التطهير في الهيكل بأورشليم، عادت لتجمع متعلّقاتها التي تركتها في بيت لحم، وتنتظر مرور يوم السبت، ثمّ تسافر إلى الناصرة.. وهنا كانت زيارة المجوس لهم في هذا التوقيت، أي مباشرةً بعد أربعين يومًا من ميلاد السيّد المسيح. 6- الذهاب إلى أرض مصر في نفس ليلة زيارة المجوس، بحسب أمر الملاك للقدّيس يوسف. 7- قتل أطفال بيت لحم الذكور من ابن سنتين فما دون بواسطة هيرودس الملك. وعددهم كان أقلّ من مائة طفل، إذ أنّ عدد سكّان قرية بيت لحم في ذلك الزمان لم يكُن يتجاوز عشرة آلاف نسمة على أقصى تقدير. 8- موت هيرودس الملك في فصل الربيع بعد أسابيع قليلة من قتله للأطفال.. وهذا معروف ومُسجَّل في كُتُب التاريخ. 9- العودة من أرض مصر بحسب أمر الملاك للقديس يوسف بعد موت هيرودس. وبهذا تكون العائلة المقدّسة قد قَضَتْ في مصر أيّامًا ليست بالكثيرة، ولكنّها كانت كافية لمباركة ربوع أرض مصر الطيّبة، وتهيئتها لتسكُن فيها خميرة الإيمان والقداسة والبركة للعالم كلّه. 10- الذهاب إلى الناصرة، بحسب أمر الملاك أيضًا للقديس يوسف النجّار، حيث عاد القديس يوسف إلى بيته وعمله هناك. * تعليقات وتوضيحات: جاءني مجموعة استفسارات حول الموضوع يسعدني أن أجيب عليها.. * حول النقطة الأولى: + البعض يتساءل لماذا نفترض أنّ ميلاد المسيح كان ليلاً.. والإجابة أنّنا نفهم هذا من إنجيل معلّمنا لوقا الأصحاح الثاني، عندما جاء الملاك للرعاة وهم يحرسون حراسات الليل (لو2) فليس من المنطقي أن يولَد المسيح بالنهار، ثم ينتظر الملاك عِدّة ساعات ليأتي ويبشِّر الرعاة في منتصف الليل!! + هناك من يتساءل من أين عرفنا أنّ ميلاد السيّد المسيح كان في فصل الشتاء.. والحقيقة أنّ هذا تقليد مُسلّم منذ بدء المسيحيّة وموجود في جميع الكنائس التقليديّة. + تقول بعض الآراء أنّ رعي الأغنام يتمّ في الصيف وليس في الشتاء.. ولكن الحقيقة أنّ رعي الأغنام هو عمل منتشر جدًا في أرض إسرائيل، ولا يتوقّف طول العام صيفًا أو شتاءً، والأغنام التي تتربّى في الشتاء هي التي يتمّ تجهيزها لموسم الفصح الذي يأتي في فصل الربيع. * حول النقطة الرابعة: + يتساءل البعض، لماذا وَضعتُ في ترتيب الأحداث زيارة المجوس للطفل يسوع المولود بعد ذهاب العائلة المقدّسة للهيكل؟ وليس قبل ذلك؟ والإجابة أنّه في نفس يوم زيارتهم للطفل يسوع مساءً، جاء الملاك ليوسف في حلم وأمره بالذهاب لمصر، فقام في نفس الليلة وسافر لمصر.. فإذا كانت زيارة المجوس قبل ذهاب العائلة المقدّسة للهيكل فمتى سيذهبون للهيكل؟! + نلاحظ هنا نقطة هامّة؛ أنّ العائلة المقدّسة لا تستطيع المكوث في بيت لحم لفترة طويلة، إذ ليس لهم فيها بيت خاص بهم، أو عمل يمكن أن يكون موردًا للرزق.. فبيت يوسف وعمله في الناصرة، وهم ضيوف في بيت لحم.. بالتالي لم يكُن من المناسب أن يمكثوا في بيت لحم مُدّة أكثر من الأربعين يومًا سوى أيّام قليلة.. بل الطبيعي أن يغادروا إلى الناصرة في أسرع وقت بعد تقديم المسيح للهيكل وتتميم شريعة التطهير.. ولا يوجَد أي سبب منطقي للمكوث في بيت لحم لمدّة أكثر من ذلك. + هذا يقودنا بسرعة إلى التفكير في أنّ زيارة المجوس، التي تمّت في بيت لحم، لابد أن تكون في خلال هذه المدّة، وليس بعد سنة أو سنتين. + يستشهد البعض بكلمة "الصبيّ"، التي ذُكِرت عن الطفل يسوع عندما زاره المجوس، ويقولون أنّ هذا يوحي بأنّه لم يكُن طفلاً رضيعًا.. وأن زيارة المجوس قد حدثت بعد أكثر من سنة من ميلاد السيّد المسيح.. ولكن الحقيقة أنّ كلمة "الصبي" هي كلمة تصف أي طفل مولود ذَكَر، وقد قيلت عن الرب يسوع عند ختانه بعد ثمانية أيّام (لو2: 21)، وعندما دخل الهيكل بعد أربعين يومًا (لو2: 27)، وقيلت نفس الكلمة عن يوحنا المعمدان في اليوم الثامن لميلاده (لو1: 59، 66، 76).. + مغادرة العائلة المقدّسة لبيت لحم كانت باتجاه أرض مصر، ثمّ عادوا من مصر إلى الجليل، بدون المرور على منطقة اليهوديّة (مت2: 22)، بل عَبر طريق شاطئ البحر المتوسّط. وهناك مغارة على جبل الكرمل بالقرب من حيفا عل البحر المتوسِّط، مكثت فيها العائلة المقدسة بعض الوقت، بحسب التقليد المحلّي للمنطقة، قبل اتجاههم لمدينة الناصرة. * حول النقطة الخامسة: + هذه من أكثر النقاط المثيرة للتساؤلات بسبب معلومات غير دقيقة أو خاطئة كثيرة تمّ تلقينها لأجيال متتابعة، دون قصد، بخصوص زمان حضور المجوس ومكان لقائهم بالمسيح. + نحن في البداية أمام عِدّة حقائق إنجيليّة: المجوس حضروا لبيت لحم وليس الناصرة (مت2: 4-12) - المجوس وجدوا المسيح في بيتٍ وليس في مذودٍ (مت2: 11) - زيارة المجوس جاءت بعد إتمام طقوس التطهير في الهيكل (لو2: 22-38) - أنّ العودة للجليل إلى مدينتهم الناصرة جاءت بعد أن تمّموا كلّ الطقوس (لو2: 39).. ونلاحظ هنا أنّ القديس لوقا لم يذكر حادثة قتل أطفال بيت لحم ولا الهروب لأرض مصر، وقد يعني هذا أنّ المدّة التي مكثتها العائلة المقدّسة في أرض مصر لم تكُن مدّة طويلة، فأغفلها وهو يسرد الأحداث. مع الوضع في الاعتبار أنّ المرجَّح أنّه استقى معلوماته بالتفصيل من السيّدة العذراء شخصيًّا.. + نحن أيضًا أمام حقائق تاريخيّة: أنّ هيرودس الكبير مات في ربيع سنة 4 قبل الميلاد، وهذا ما جاء في كلّ المراجع التاريخيّة، ومرفق رابط لأحدها (https://en.wikipedia.org/wiki/Herod_the_Great) - أنّ السيّد المسيح وُلِدَ في أواخر عام 5 أو أوائل عام 4 قبل الميلاد، وهذا ما جاء في معظم المراجع وأبحاث العلماء والدارسين، ومرفق رابط لأحدها (https://bible.org/article/birth-jesus-christ) وأيضًا (https://st-takla.org/.../01.../050-When-Was-Jesus-Born.html). + الأرجح بعد فهم الحقائق السابقة أنّ زيارة المجوس هي كانت بعد ٤٠ إلى 45 يوما من الميلاد، في أحد المنازل ببيت لحم. + بخصوص موعِد ميلاد السيّد المسيح وحياته.. فقد تمّ تحديد ذلك تبعًا لتاريخ الدولة الرومانية، التى كانت تسيطر على الأمة اليهودية فى ذلك الوقت، ومنها حدّد المسيحيون تاريخهم ابتداءً بمولد السيد المسيح.. وكان التقويم الرومانى يبدأ بتاريخ تأسيس مدينة روما بعد انتهاء الاضطهاد الروماني حاول المسيحيون أن يجعلوا بداية عدّ السنين من سنة ميلاد المسيح، ونجحت دعوة الراهب الروماني «ديونيسيوس اكسيجوس» إلى ذلك، وهو راهب من أوربا الشرقيّة عاش في روما بدأ العمل بالتقويم الميلادي منذ عام ٥٣٢ «رومانية»، واعتَبر ديونيسيوس أنّ المسيح وُلِدَ في عام 753 لتأسيس روما.. ولكنّه للأسف أخطأ في أربع سنوات.. وللاستدلال على صِحّة التاريخ، نذكُر أنّه حسب إنجيل القديس لوقا فإنّ السيد المسيح بدأ خدمته الجهارية التبشيرية في السنة الخامسة عشرة من حكم «طيباريوس قيصر» الذى حكم الدولة الرومانية سنة ٧٦٥ رومانية ، حيث كان عمر السيّد ثلاثين سنة وقتئذ، فيكون ميلاده سنة ٧٥٠ رومانية أي ٤ ق. م. وبعض المؤرّخين القدامى أيضًا يؤكدون أنّ ميلاد السيد المسيح كان قبل مقتل الإمبراطور الرومانى "يوليوس قيصر" باثنتين وأربعين سنة، وهو الحدَث الذي وقع في عام ٧٩٢ رومانية، فيكون ميلاد الرب يسوع أواخر عام 749 رومانيّة، أو أوائل سنة ٧٥٠ رومانية، أي أربع سنوات قبل التاريخ الذي وضعه ديونيسيوس. * حول النقطة السابعة: + السؤال المتكرّر أنّه إذا كان المجوس قد أتوا بعد ميلاد المسيح بأقلّ من شهرين، فلماذا يقتل هيرودس الأطفال الذكور حتّى سِنّ عامين؟ والإجابة في تقديري وفي تقدير الكثير من الباحثين أنّه فعل هذا من فرط انزعاجه عندما سمع من المجوس أخبار ميلاد ملك اليهود الجديد، فحاول أن يتأكّد تماما أنّه قضى على الطفل الرضيع، فأمر بقتل جميع الأطفال الذكور حتى سِنّ سنتين ليضمن بكلّ تأكيد أنّه قتل المسيح وسطهم، مع أنّ المسيح وقتها لم يَكُن قد أكمل شهرين.. كما لا ننسى أنّه كان شخصيّة شرسة وعنيفة، وقتل ثلاثة من أبنائه الأربعة قبل موته. (راجع الرابط في النقطة السابقة). + بخصوص عدد الأطفال، فيرجِّح جميع الدارسين أنّهم كانوا بين عشرين وستّين طفلاً، ولم تُذكَر حادثة قتلهم في أيّ مرجع سوى الإنجيل. * حول النقطة التاسعة: + هذه أيضًا نقطة مثيرة للتساؤلات، بسبب تداول بعض المعلومات غير الموثّقة حول المدّة التي مكثتها العائلة المقدّسة في مصر.. + هناك حقيقة تاريخيّة، وهي موت هيرودس في بداية ربيع عام 4 قبل الميلاد (مارس/إبريل). + السفر من بيت لحم إلى مصر يستغرق حوالي سبعة إلى عشرة أيّام. + التحرك داخل مصر غالبًا ما يكون عن طريق نهر النيل وفروعة التي كانت كثيرة في ذلك الوقت.. ففروع النهر كانت حتّى القرن التاسع عشر هي بمثابة الطرق في أرض مصر، وينتقل عن طريقها الناس والبضائع وكلّ شيء. مع ملاحظة أنّ المناطق المأهولة بالسكان في مصر ليست في مساحات شاسعة، بل فقط حول نهر النيل وفروعه. + بخصوص المخطوطة أو البرديّة المُكتَشَفة حديثًا والتي تذكر أنّ العائلة المقدّسة مكثت في مصر نحو ثلاث سنوات ونصف، فالحقيقة أنّها هي المخطوطة الوحيدة التي تقول هذا، ولكننا لا نعرف كاتبها أو مدى صحّة ما تقوله.. والواقع أنّ ما تذكره البردية من الصعب تصديقه لأنه يصطدم بحقائق تاريخية وإنجيلية أخرى كثيرة.. وتعليقي عليها هو: ١- معلومة الثلاث سنوات ونصف بدأ ترديدها منذ حوالي خمسٍ وعشرين عاما، وقبلها كنا نسمع أنّ العائلة المقدّسة مكثت عِدّة شهور.. وكلّها معلومات غير مؤكّدة. ٢- بحسب المنطق لا داعي للوجود في مصر بعد موت هيرودس، الذي حدث في ربيع عام 4 قبل الميلاد. ٣- القديس لوقا في إنجيله أغفل الذهاب لمصر، وقال أنّهم عادوا لمدينتهم الناصرة بعد أن تمّموا كلّ شيء، وهذا معناه أن الذهاب لمصر كان رحلة سريعة انتهت بموت هيرودس، فلم تأخذ وقتًا كثيرا. وكما ذكرتُ من قبل أنّ القديس لوقا عرف من السيدة العذراء الكثير من التفاصيل الدقيقة ودوّنها، ولكنّه لم يذكر شيئًا عن رحلة مصر. ٤- من الناحية العِلميّة، لا نستطيع أن نعتمد على مخطوطة هنا أو هناك، لأنّ كاتبيها لم يكونوا شهود عيان.. وأحيانا نجد في المخطوطات غرائب ليس لها أيّ أساس من الصحّة. ٥- من الطبيعي أن يوجد في المصريين مَن يحاول تطويل المدّة ليفتخر بهذا كمصري.. ولكنّ أولاد الله يهمهم بالأكثر توضيح الحقيقة، وليس الافتخار من هذا النوع.. فافتخارنا الأعظم هو أنّنا أولاد الله الآب وأعضاء في جسد المسيح وهيكل للروح القدس. ٦- ترديد الكلام بدون فحص هو ثقافة تحتاج إلى تغيير.. فليس من المفيد أبدًا ترديد أيّ شيء نسمعه بدون تدقيق في صحّته. 7- الأماكن التي عبرت عليها العائلة المقدّسة هي أماكن مباركة بحسب تقليدنا القبطي المحلّي.. ولكنها لا تحتاج لسنوات للمكوث فيها أو العبور عليها، بل فقط لأيّام أو أسابيع..! 8- أنا لا أتعرّض في حديثي عن خَطّ سير الرحلة، فهذا موضوع آخَر، بل أقول أنّ مدة الإقامة بمصر لم تكن طويلة، لأن هيرودس مات في أبريل في حين أن الهروب لمصر يُرجّح أنّه حدث في أوائل فبرايركلّ عام والجميع بخير وفرح وسلام،، القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو.
المزيد
08 أغسطس 2023

السلام للإناء المستور

نقول في التمجيد الجميل للسيّدة العذراء:"السلام للإناء المستور، قبل كَوْنِ العالمين، المحتوي نور من نور، في حضن الآب كلّ حين."كلمة مستور تعني مُخفَى أو غير معروف، وقد تعني أيضًا أنّه مَحفوظ ومُصَان..أمّا كلمة "إناء"، فهي في المفهوم الإنجيلي تعني هيكل الجسد، فقد جاء في حديث القدّيس بولس عن القداسة "هَذِهِ هِيَ إِرَادَةُ ٱللهِ: قَدَاسَتُكُمْ. أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ ٱلزِّنَا، أَنْ يَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَقْتَنِيَ إِنَاءَهُ بِقَدَاسَةٍ وَكَرَامَةٍ" (1تسا4: 3-4).مِن هنا نفهم أنّ المعنى المقصود في المديحة بالإناء المستور، أنّه جسد السيّدة العذراء، الذي أخذ الله منه طبيعته البشريّة، وسكن فيه تسعة أشهر.. فهذا الجسد أو الإناء الإنساني، هو مستور في ذهن الله قبل كون العالمين، وفي ملء الزمان جاء هذا الجسد للوجود. وبعد أن حلّ عليها الروح القدس أخذ منها الابن (الكائن في حضن الآب كلّ حين) عجينة البشريّة، واتّحد بها لكي يشفيها ويرتقي بها. ولكن ما معنى أنّ هذا الإناء كان مستورًا قبل كون العالمين؟ هل كانت القدّيسة مريم موجودة قبل كون العالم؟! بالطبع لا، فهي إنسانة مخلوقة في الزمن.. ولكن يعلّمنا آباء الكنيسة أنّ كلّ الخليقة هي موجودة ومرسومة في ذهن الله منذ الأزل، ثمّ ظهرَتْ كمخلوقات في الوقت المناسب.. إذ أنّ الله يحوي في داخله كلّ شيء، ولا يتغيّر، ولا يستجدّ فيه شيء.. فالكلّ مرسوم في حكمته الأزليّة..والحقيقة التي ينبغي أن نفهمها جيِّدًا أنّ السيّدة العذراء مريم ليست هي وحدها التي كانت إناءً مستورًا قبل كون العالمين، بل كلّ واحد فينا أيضًا، بحسب ما كشف لنا الروح القدس على فم القديس بولس الرسول؛ أنّ الله "ٱخْتَارَنَا فِيهِ (في المسيح) قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلَا لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ" (أف1: 4-5).هذا يعني أنّنا مختارون في المسيح قبل تأسيس العالم، لكي نكون قدّيسين.. وقد عيّننا الله للتبنّي، أي نكون أبناء بالتبنّي للآب عندما نتّحد بالمسيح الابن الوحيد، ونُغرَس في جسده بالمعموديّة.. فهذا هو قصد الله من خلقتنا، بحسب تعليم القدّيس أثناسيوس الرسولي (296-373م) في كتاباته ضدّ الأريوسيّين (2: 75-76): إنّ هذه هي النعمة التي أُعِدَت لنا من قبل أن نوجَد، بل ومن قبل تأسيس العالم، والتي تحدّث عنها الرسول بولس أيضًا قائلاً: "بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطِيَت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزليّة" (2تي1: 9). نحن مختارون من قَبلِ أن نَخرُج إلى الوجود، لأنّنا كُنّا مرسومين سابقًا في المسيح (الذي هو حكمة الله) من قَبْلِ أن نوجَد.. والنعمة التي أُظهِرَت لنا، كانت مذّخَرة لنا في المسيح منذ الأزل..! لذلك كشف لنا الربّ يسوع نفسه أنّه سيقول في يوم الدينونة: "تعالوا إليّ يا مباركي أبي، رثوا الملك المُعَدّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت25: 34). فكيف إذن أُعِدّ لنا الملكوت من قبل أن نوجَد؟ إلاّ في الربّ الذي جُعِل قبل الدهور أساسًا لنا، حتّى نصير مبنيّين عليه كحجارة متناسقة، فننال منه الحياة والنعمة التي فيه.. وهذا لم يكُن في إمكاننا أصلاً، حيث أنّنا بشر من تراب، لو لم يكُن رجاء الحياة والخلاص قد أُعِدَّ في المسيح من قبل الدهور.من هنا نعرف أنّه كمّا أَعَدّ الله أمّنا العذراء، من قبل كون العالم، لتكون الإناء المختار الذي سيأخذ منه طبيعته الإنسانيّة، ويسكن فيه.. وقد كانت أمينة جِدًّا في المهمّة التي كُلِّفَتْ بها.. هكذا اختارنا نحن أيضًا لأعمال صالحة سبق فأعدّها لنا كي نسلك فيها (أف2: 10)، كلّ واحد بحسب موهبته..! فكم ينبغي أن نفرح بأنّنا آنية مختارة (أع9: 15)، قد نلنا نعمة التبنّي في المسيح يسوع، وصِرنا مسكنًا للروح القدس، فنتمّم مشيئة الله بكامل إرادتنا.. لكي نصير آنية مقدّسة للكرامة والمجد (2تي2: 21)، مِثل أمّنا العذراء..! القمص يوحنا نصيف كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاجو
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل