المقالات
12 فبراير 2025
قراءات صوم و فصح يونان
يأتي صوم يونان قبل الصوم الأربعيني المقدس بأسبوعين، القراءات خلال هذا الصوم وفصحه عن التوبة كالتالي:
(+) اليوم الأول دعوة للتوبة وهي دعوة للفرح بالرب وخلاصه كهدف للتوبة هلموا فنبتهج بالرب ونتهلل لله مخلصنا» (مزمور عشية ١:٩٤-٢) ، أما إنجيل العشية فمن (لوقا ۱۳: ١-٥) «إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون " وهذا يوضح أهمية التوبة.بخور باكر النبوة من (يونان ۱) وفيه دعوة يونان لكرازة نينوى داعيا إياها للتوبة، وهروب يونان ، ثم دخوله للحوت ليبدأ توبته عائدًا إلى نينوى .. ثم مزمور باكر الرب رءوف رحيم طويل الروح للتشجيع على بداية التوبة دون تأخير .. وإنجيل باكر (متى (٦:٧-١٢) يطمئن من يطلب التوبة أن كل من يسأل يأخذ وكل مَنْ يطلب يجد ومَنْ يقرع يفتح له .
البولس (رومية ٦: ١٧-۲۳) مَنْ يسمع ويطيع يتحرر من الخطيئة وتكون أعضاءه آلات بر لله للقداسة، والكاثوليكون (يهوذا ۱:۱-۱۳) دعوة للجهاد للخلاص بالتوبة لأجل الإيمان، وفي الإبركسيس( أعمال ۳۸:۲-٤٨) دعوة بطرس للشعب أن يتوبوا ويعتمدوا لمغفرة الخطايا، ثم توسل في المزمور إن كنت للآثام راصدًا يارب من يثبت لأن من عندك المغفرة»، والإنجيل من (متى (٣٥:١٢-٤٥) عن آية يونان النبي.
(+) اليوم الثاني إحساسات التوبة النبوة من (يونان ۲) صلاته من جوف الحوت بخوف ورعدة ورجاء الاستجابة بصلاة حارة، ومزمور باكر: اذكر يارب أننا تراب - الله لا يعاملنا حسب خطايانا (مز ۱۰۲)، والإنجيل مثل التينة التي تفسد الأرض بدون ثمر وتركها لتأتي بثمر وإحساسات الغربة على الأرض تقود للتوبة والتصالح مع الله بعد التغرب عنه (كولوسي (۲۱:۱) ، وتوعية بكفاية ما مضى من زمن لنترك الخطية وننتقل للفضيلة (۱ بطرس ٣:٤-١١)، والتوبة تتغاضى عن أزمنة الجهل (أع ۳۰:۱۷)، ومزمور القداس فيه طلبة الغفران وستر الخطية كمشجع للتوبة (مزمور ٢:٨٤) ، والإنجيل يحدثنا عن آية يونان والاستفادة منها كرمز للسيد المسيح ليتحقق نور العين واستنارة النفس بطهارة الجسد (لوقا ۲۹:۱۱) ..
(+) اليوم الثالث نتائج التوبة النبوة (يونان ٣ ،٤) وتجديد دعوة الله ليونان والبداية الجديدة، ومزمور باكر كما يترأف الأب على البنين هكذا يترأف الرب على خائفيه» (مزمور ۱۰۲)، وفي الإنجيل الفوز بالراحة من القائل: تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت ۱۱)، وكذلك الفوز بالرحمة (أفسس ۲)، وطمأنة يوحنا لأولاده أنهم أقوياء وغلبوا الشرير وغفرت خطاياهم ( ١ يوحنا ١٢:٢) ، وتأكيد عمل الله وتحقيقه الوعد القائل : سأرجع وأقيم خيمة داود الساقطة وأبني ردمها» (أعمال ۱۲:۱۵)، ومن أهم النتائج «طوباهم الذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم» (مزمور ۳۱).. والإنجيل الشبع كنتيجة حتمية للتوبة (مت ١٥) ...
(+) فصح يونان فرح الله بالتوبة: «سمع الرب فرحمني» (مزمور باكر ، والإنجيل (مرقس ۸) الرب يكمل كل الاحتياجات ليشبع الجميع، والنتيجة الوصول لبر المسيح الذي بالإيمان، وما أجمل أقدام المبشرين بالسلام (رومية ۱۰)، ونوال الخلاص المفرح بضمير صالح (۱ بطرس ۳)، وبالتوبة نرى عمل الرب والبركة الممنوحة لإبراهيم ونسله (أعمال ۲۲:۳) .. ثم الحديث عن الاستجابة صرخت في ضيقتي فاستجاب لي الرب» (مزمور ۱۱۷) ، وكنتيجة حتمية للفرح بالتوبة أن هو جسدنا فنمتلئ من غيرة القلب نفرح بتطهير الهيكل الذى . كما نوه الرب عن ذلك. في (يو ١٢:٢) .
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
17 سبتمبر 2024
كلمة شهادتهم
في عيد النيروز (رأس السنة القبطية) الكنيسة تخلد ذكرى الشهداء القديسين الذين عبروا عن محبتهم المسيحنا القدوس الذي أحبنا حتى الموت موت الصليب، وكما غلب الشيطان بالصليب هم أيضًا غلبوه بكلمة شهادتهم، وأحب أن نتكلم عن ما المقصود بكلمة شهادتهم؟
هل المقصود ما قالوه من كلمات شهدوا بها للإيمان المسيحي أمام الملوك والولاة حين وقفوا أمامهم؟ أم المقصود أن دماءهم صرخت أمام الله تشهد لمحبتهم وصدق إيمانهم القلبي كما قال الله عن دم هابيل «صوت دم أخيك صارخ إلى مِنَ الأرض» (تك ١٠:٤ ) .
أم المقصود أن دم الشهداء هو بذار الإيمان الذي ينتشر بالاستشهاد، لأن الإنسان لا يمكن أن يموت لأجل شائعة غير حقيقية بل يسفك دمه من أجل حقيقة إيمانية راسخة بحب حقيقي من كل القلب، فيكون دمهم كلمات تدخل القلوب وليس فقط العقول، فتعمل في جذب الناس إلى الإيمان الحقيقي والمحبة الكاملة.
حقيقة أن تعبير كلمة شهادتهم مرتبطة بدم الحمل كلمة الله لذلك تقول الآية : وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم» (رؤ ۱۲ : ۱۱). وهذه الغلبة ظهرت في أمور عديدة كلها تعبر عن كلمة الشهادة كما في: (رؤ ٢:١٤-٣) "وسمعت صوتا من السماء كصوت مياه كثيرة وكصوت رعد عظيم. وسمعت صوتا كصوت ضاربين بالقيثارة يضربون بقيثاراتهم، وهم يترنمون كترنيمة جديدة أمام العرش وأمام الأربعة الحيوانات والشيوخ . ولم يستطع أحد أن يتعلم الترنيمة إلا المئة والأربعة والأربعون ألفا الذين اشتروا من الأرض». لا شك أن هذه الأصوات التي تحمل كلمات شهادة من نفوس بارة ارتبطت بالحمل الحقيقي (الخروف ) الذي ذبح واشترانا بدمه. ومن كل ذلك نستنتج ما يلي من أمور روحية هامة ننتفع بها :
١- الشهداء هم شهود بدمهم المسفوك ، يصرخ شاهدًا على إيمانهم وحبهم الحقيقيين لله .
٢- الشهادة قبل الاستشهاد فيها كلمات الإيمان بالمسيح المخلص والمعبرة عن المحبة القلبية لله .
٣- والشهادة بعد سفك الدماء، في الدماء الصارخة أمام الله بقوة شاهدة بأقوى شهادة .
٤- والشهادة الدائمة في السماء هي بالتسبيح الدائم الذي يحكي عن المخلص كذبيحة حية دائمة .
٥- وتمتد هذه الشهادة لتصير شاهدة على قوة المخلص الظاهرة في الطبيعة في الرعد والمياه الكثيرة، وصوت القيثارات القوية الشاهدة بالترنم والتسبيح لحب ذاك الذي بمحبته يخلص كثيرين من محبة العالم المهلكة ومن النجاسات التي هي إرادة الجسد الخاضع لتيار الإثم.
٦- الذي جعلهم يجتازون من الموت إلى الحياة. ويوضح سفر الرؤية ترنيمة الخلاص في (رؤ ٣:١٥-٤) "عظيمة وعجيبة هي أعمالك ، أيُّها الرب الإله القادر على كل شيء! عادلة وحق هي طرقك ، يا ملك القديسين من لا يخافك يا ربُّ وَيُمَجدُ اسْمَكَ؟ لأنكَ وَحدَكَ قدوس ، لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدونَ أمامَكَ، لأن أحكامك وهي شهادة علي النصرة والغلبة علي العالم بالإيمان قد أظهرت".
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
18 يونيو 2024
عمل الروح القدس في النفس البشرية
قال السيد المسيح من آمَنَ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ" (يو ۷ :۳۸)وهكذا ترتوي النفس البشرية بعمل الروح القدس وبدونه تجف وتموت روحيًا، لأنه كالماء للأرض العطشانة. وبالطبع هذا الماء الحي مختلف عن ماء العالم الذي يُغرق الإنسان ويهلكه، كما حدث في الطوفان، لذلك قالت المرأة السامرية للسيد المسيح يا سَيِّدُ أَعْطِنِي هَذَا الْمَاءَ لِكَيْ لَا أَعْطَشَ" (يو ٤: :١٥) وقد وصفه المزمور (۷۲: ٦) "يُنْزِلَ مِثْلَ الْمَطَرِ عَلَى الْجُزَازِ، وَمِثْلَ الْغُيُوثِ النَّارِفَةِ عَلَى الْأَرْضِ"حقا إنه عمل الروح القدس الذي يُنهي البوار، ويُميت الآفات، ويحطم الصخور، ويلغي المستنقعات، ويهيئ التربة للزراعة. إنه ماء الحياة الذي يغسل وينقي الروح الإنساني، ويُجدد الشباب الروحي ويغسل الإنسان من عتيقه بالمعمودية، ويخلق القلوب الجديدة، والنفوس المستقيمة الخاضعة للوصية. "وَأَرْشِ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِرًا فَتُطَهَّرُونَ مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أَطَهِّرُكُمْ. وَأَعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ. وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي، وَتَحْفَظُونَ أحكامي" (حز ٣٦: ٢٥-٢٧) .
أول عمل للروح القدس إنه يبكت على خطية:حتى لا تغشى الظلمة على حياة الإنسان من قلبه وحواسه وأفكاره. وكمثال: حديث الرب مع ملاك كنيسة اللاودكيين الفاتر الذي قال عن نفسه إنه غني وقد استغنى ولا حاجة له إلى شيء ولم يعلم أنه الشقي والبنس والعريان (رؤ۳ :۱۷). لذلك من محبة الله أنه يُبكت الإنسان على خطيئته، لأنه يريد له النقاء والطهارة والعودة لطريق الله. وهذا التبكيت يمنع خداع النفس كما ورد في (غل ٦: ٣) "إنَّ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَغُضُّ نَفْسَهُ". وقليل من الناس يفرحون بالتبكيت لفوائده الروحية، والأكثرية يجهلون فائدته فيتضايقون منه كثيرا.
وحين يبكت الروح القدس فإنه بإيجابية يكشف عن حلاوة حياة القداسة وثمارها وقوتها، إذ يغسل جروح الخطية فيبرأ الإنسان منها. لذلك فرق كبير بين تبكيت الروح القدس والندامة البشرية الضعيفة، إذ يعطي روح الله الفرح الداخلي بالتوبة والنصرة على الخطية والعزاء القلبي والرجاء مع الدموع والسلام الذي يتم بالمصالحة مع الله، مثل داود النبي الذي تاب وانجذب للقداسة حتى قال الله عنه: وَجَدْت دَاوُدَ بْنَ يَسْى رَجُلًا حَسَبَ قلبي" (أع ۱۳ :۲۲) إنه عمل الروح القدس الذي جعل داود يقول: تسمعني سرورًا وفرحا فتبتهج عظامي المنسحقة، رد لي بهجة خلاصك"( مز ٥٠). هذا عكس يهوذا الذي ندم فيئس فشنق نفسه وصار هالكا. لذلك قال الرب: "وَمَتى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرِّ وَعَلَى دينُونَةٍ" (يو (١٦: (۸)لذلك يقول معلمنا بولس في (عب٣ : ۷-۸) "اليوم إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلَا تُقَسُوا قُلُوبَكُمْ.
حقا ما أحلى عمل روح الله فينا بأنات لا ينطق بها (انظر رو ٨ :٢٦). إنه سُلَّم روحاني يقود خطواته روح الله، حتى يصل بالنفس إلى كمال التوبة بالعتاب الرقيق كما حدث مع بطرس الرسول فبكى بكاء مرا نخس في قلبه فقاده للتوبة، وقول الرب طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لَا يَفْنَى إِيمَانُكَ" (لو ۲۲ :۳۲). هكذا كلمة الله تنخس القلب كقول الرب: "أَلَيْسَتْ هَكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطَّمُ الصَّخْرَ" (إر ۲۳: ۲۹)لذلك لَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَالُوا مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإخْوَة" (أع ۲: ۳۷). نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
11 يونيو 2024
عيد الصعود المجيد
السبب الأول: تمجيد المسيح
تمجيد المسيح في صعوده كان لابد أن يسبق تمجيد الكنيسة بحلول الروح القدس اختفاء السيد المسيح سابق للحلول لكي يتحول الرب من كائن معنا إلى كائن فينا، كائن معنا محدودة لكن كائن فينا غير محدودة نتيجة عمل الروح القدس. "ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" بفعل الروح القدس طبعًا.
السبب الثاني: كرازة التلاميذ:
قبل أن يصعد أوصاهم أن يكرزوا وقال لهم "دُفع إلى كل سلطان ما في السماء وما على الأرض فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر". التلاميذ لم يعيشوا كل الأيام لكن كان مقصود الكنيسة. كرازة التلاميذ على مر الأيام، أي مع الكنيسة فالأشخاص تنتهي لكن الكنيسة تدوم إلى الأبد(أع 1: 4-9) "أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منى لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير". (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ولذلك يوم الصعود يوم الخميس بينما الأعياد الُكبرى تتم يوم الأحد مثل القيامة والعنصرة وقبلهما الشعانين. لذلك فدورة الصعود تتم يوم الأحد لربط الصعود بالأحد.
السبب الثالث: إعلان مجيئه:
إنه سيأتي كما صعد، لذلك انتظار مجيء المسيح عقيدة "وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى آمين" نعلن انتظارنا لمجيئه الثاني.
طقس العيد:
تُصلى صلاة الثالثة والسادسة ثم يُقدم الحمل، وهناك مرد خاص بالإبركسيس يُقال حتى عيد العنصرة لارتباط الصعود بحلول الروح القدس القراءات كلها تهدف في ذلك اليوم أنها تبرز حقيقة التبني، "صاعد إلى أبى وأبيكم وإلهي وإلهكم" لذلك القراءات تتكلم عن المجد الذي نناله والتبني الذي يصير لنا.
نيافة الحبر الجليل الانبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
عن كتاب الأعياد السيدية في الكنيسة القبطية
المزيد
21 يناير 2024
أوجه الشبه بين الميلاد والغطاس
عاشت الكنيسة فترة لا تقل عن ثلاثة قرون كانت تحتفل بميلاد السيد المسيح وبعماده في يوم واحد تسميه "عيد الإبيفانيا" أي الظهور الإلهي، باعتبار أن الميلاد تجسد فيه ابن الله الكلمة ورآه المجتمع اليهودي، إذ رأوه في الهيكل يقرأ في الناموس حين بدأ خدمته، وسبقهم الرعاة بظهور خاص للملاك لهم مُبشِّرًا قائلًا: «ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لكم ولجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم فى مدينة داود مخلص هو المسيح الرب» (لو2: 11)، وقادهم الملاك لرؤية الطفل يسوع موضوعًا في مذود مقمطًا مثل الحملان «وهذه لكم العلامة: تجدون طفلًا مقمطًا مضجعًا في مذود» (لو2: 12).
وفي الغطاس ظهر الثالوث القدوس إذ انفتحت السماء وشهد الآب للابن وهو في الماء والروح القدس حالٌّ على الابن لتتم النبوة (إش61: 1) «روح السيد الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق، لأنادي بسنة الرب المقبولة».
وهكذا في كلا الميلاد والغطاس حدث ظهور إلهي متنوع، وفي كلا المناسبتين أعلن أنه مخلص كما أعلن الملاك للرعاة، والنجم للمجوس، ويوحنا المعمدان عن السيد المسيح في عماده إذ قال: «وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هوذا حمل الله الذي يحمل خطايا العالم كله» (يو1: 29)، فهو المخلص الذي التفّ حوله المحتاجون إلى الخلاص، سواء من المرض فشفى الأعمى والمفلوج والمطروحين والمطرودين والذين ليس لهم أحد يذكرهم. كما أنه المتألم لأجل البشر: ففي الميلاد وُضِع في مذود للخراف الذي يشبه عربة الطفل وليس مذود البقر العالي، ولكن وسط تبن وليس على سرير فيه ترف وتنعُّم، فلقد أختار الألم لأنه حمل الله الذي سيُذبح على الصليب لخلاص العالم كذبيحة منذ الطفولة. وحين نزل في نهر الأردن كالخطاة الذين اعتمدوا ليغسلوا خطاياهم، وكأنهم يتركونها في الماء لينزل ابن الله الكلمة المتجسد ليحمل هذه الخطايا. لذلك أشار إليه يوحنا المعمدان كحمل الله الذي يرفع خطايا العالم على الصليب.. وهكذا تألم في الميلاد كحمل مولود في التبن في المذود، وتألم في العماد إذ تعرّى كآدم الثاني نيابة عن آدم الأول، وفيه كل من سيأتي من بشر عبر الأزمنة والأمكنة ومن يؤمن ويعتمد يخلص كما أعلن يوحنا المعمدان والسيد المسيح نفسه.
البركات التي نلناها بميلاد الرب يسوع وعماده: لقد رسم لنا طريق خلاصنا في هذه المناسبات السيدية الهامة، إذ شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها بميلاده وتجسده ليفدي حياتنا من الهلاك الأبدي إلى الحياة الأبدية، وأعطانا بعماده الولادة من فوق، حيث بالماء والروح بدأت الخلقة الأولى إذ كان على وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفّ على وجه المياه (تك1: 2)، وبالماء في نهر الأردن وابن الله الكلمة نازل في الماء وروح الله حالٌّ على ابن الله ليُعلن كمخلص العالم من خلال القديس يوحنا المعمدان.. إنه العريس للكنيسة عروسه في العهد الجديد، فقال: «من له العروس فهو العريس، وأمّا صديق العريس فيفرح» (يو3: 29).. وهكذا بدأت خلقة العهد الجديد، فإن كان آدم الأول هو رأس البشرية القديمة حسب الجسد، فآدم الثاني رأس البشرية الجديدة والخليقة الجديدة..
وهكذا نري كيف شابهنا الرب يسوع بتجسده لكي نشابهه في المعمودية كأبناء بالتبني للآب السماوي من خلال الابن الكلمة المتجسد رأس البشرية الجديدة... حقا إنها بركات مفرحة للمناسبات السيدية.
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
07 أبريل 2023
رحلة الالام
اعتادت الكنيسة ربط الصوم الأربعيني المقدس بأسبوع الآلام كرحلة مكملة للصوم والنصرة على الشيطان لاسترداد كرامة الإنسان كرأس للخليقة ... وهذه حكمة الكنيسة المقودة بالروح القدس والتي تكمل تفعيل الخلاص الذي أتمه الرب بآلامه من خلال الأسرار المقدسة . ويبدأ أسبوع الآلام بسبت لعازر ( قيامة الجسد بعد أن أنتن ) ، وينتهي بقيامة السيد المسيح بجسد الحياة الأبدية الروحاني النوراني . ونعيش أحداث أسبوع الآلام بروح القيامة والنصرة على الموت .. كيف ؟ هذا ما نود الحديث عنه ، فالأم تمنح الحياة الأبدية « لأعرفه ، وقوة قيامته ، وشركة آلامه ، متشبها بموته » ( فيلبي ٣ : ١٠ ) .
( ۱ ) عشية أحد الشعانين : يحدثنا الإنجيل عن سكب الطيب من مريم أخت لعازر على السيد المسيح ، إشارة للحب المنسكب في القلب للرب المتألم ، فتتلاقي مشاعر الحب الأعظم بين كل من السيد المسيح الذي وضع نفسه لأجل أحبائه ( يوحنا ١٥ : ١٣) ، وبين النفوس الأمينة مثل مريم التي أحبت الرب ووثقت فيه وأقام أخاها ، وهكذا يعلن الطيب المسكوب عن الحياة التي تغلب الموت .
( ۲ ) في أحد الشعانين : يقدم الرب نفسه كملك متضع يركب على أتان وجحش بن أتان معلنا أنه خروف الفصح الحقيقي ، والتلاميذ والأطفال ينادون أمامه : « مبارك الآتي باسم الرب .. مبارك هو الرب في الأعالي .. مباركة هي مملكة أبينا داود » ، وداود رمز للسيد المسيح . وهكذا نرى السيد المسيح يدخل أورشليم لكي يخلص البشرية ويعبر بها من الموت إلى الحياة ، ويطهر الهيكل من الباعة ويطرد الحيوانات الموجودة في الهيكل ويقلب موائد الصيارفة التجار .. والكل يصرخ : « هوشعنا – أوصانا - خلصنا » من الخطية والموت بقوة القيامة التي في لاهوته .
( ۳ ) وفي خميس العهد : يأتمن الرب كنيسته على دم العهد الجديد ، ويقول لتلاميذه القديسين « من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية ، وأنا أقيمه في اليوم الأخير » ( يوحنا ٦: ٥٤ ) ، لأن العهد الجديد بدأ بدم المسيح على الصليب يوم الجمعة ، لكن قبل أن يسفكه استودعه للكنيسة لكي تمنحه لأولادها المؤمنين في سر الإفخارستيا لينالوا الحياة الأبدية به وقوة القيامة القاهرة للموت .. وصار سر الإفخارستيا يحمل قوة القيامة لمن يتناول من الجسد والدم الأقدسين ، لأن بدمه تم الغفران إذ دفع الدين الذي على البشرية على الصليب بسبب الخطية ، وبجسده القائم من بين الأموات يقدم الحياة للمتناولين ليشتركوا في حياة المسيح التي قدمها على الصليب .
( 4 ) وفي الجمعة العظيمة : يعلن عن نفسه أنه مخلص العالم الذي يصنع بالضعف ما هو أعظم من القوة لأنه انتصر على الموت ، لذلك نتغنى باللحن : [ قدوس الذي بالموت داس الموت ، والذين في القبور أنعم لهم بالحياة الأبدية ، ففيما هو يموت على الصليب انشق الحجاب من فوق إلى أسفل ، وتشققت الصخور ، وتفتحت القبور ، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين ( متی ٢٧ : ٥٤ ) .. حقا ما أروعه أسبوع يعلن خلاص الإنسان من سلطان الخطية والموت معلنا الحياة الأبدية.
نيافة الحبر الجليل الانبا بنيامين مطران المنوفيه وتوابعها
المزيد
29 أغسطس 2022
قوة الإيمان
لا شك أن الإيمان قوة تنقل الجبال كما قال الكتاب: «فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ» (مت17: 20)، وهو الإيمان العملي الموضوعي والشخصي في المواقف التي نتعرض لها. وهذا الإيمان هبة «لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (في1: 29). والإيمان يهب لمن يقتنيه قوة إبصار للطريق الروحي إذ يشعر بملكية الله على قلبه، فيعيش حياة حقيقية مع المسيح وشركة السمائيين وصداقة القديسين فيصل للحب الحقيقي.
+ فالإيمان فوق المعرفة: إذ يصل بالمؤمن إلى حب الله كما ورد في (1كو8: 3) «إن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا عن الله فإنه لم يعرف شيئًا بعد كما يجب أن يعرف، ولكن إن كان يحب الله فالله معروف عنده». وإذا بدأنا بالإيمان، نصل إلى المحبة كما ورد في (2بط1: 5-8) «قدموا في إيمانكم فضيلة، وفي الفضيلة معرفة، وفي المعرفة تعففًا، وفي التعفف صبرًا، وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودة أخوية، وفي المودة الأخوية محبة.. لمعرفة ربنا يسوع المسيح».
+ الإيمان الفطري: هو ذلك الذي يربط بين النفس البشرية والله بعمق طبيعي في القلب، لأنه يكشف عن كيان أعظم من كيانه البشري المحدود، فيعطي رجاءً بلا حدود نحيا داخله.
+ والإيمان هو أساس البرّ: لذلك يقول «أما البار فبالإيمان يحيا» (رو1: 17)، لأن الإيمان فيه اعتراف بقدرة الله الفائقة، إذ هو قادر على كل شيء لأنه خالق كل الأشياء، فيعتمد عليه بطريقة تفوق حدود المحسوس والملموس والمعقول، بمعنى أن العقل يعطي للإنسان أقصى مجد بشري، أمّا بالإيمان فيرى مجد الله «إن آمنتِ ترين مجد الله» (يو11: 4). وكما قيل عن أبينا إبراهيم: «ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوّى بالإيمان مُعطيًا مجدًا لله» (رو4: 20). من هنا كان الإيمان فائقًا للعقل، لأنه ليس مجرد استجابة منطقية لمطالب الله بل هو قبول أمر من الله يستحيل عمله بواسطة الإنسان. إذًا فالإيمان لا يتوقف على قدرات الإنسان العادية ولكنه يتعداها، فالإيمان يُزكّي الإنسان لما هو فوق الطبيعة العادية بعمل إلهي عجيب. هكذا تكون الحياة الروحية تفوق الطبيعة، فتحرّر النفس من الخطية، والانعتاق من سلطانها من خلال الإيمان بعمل دم المسيح وفاعليته في حياتنا.
من هنا نستطيع أن نقول أن الصلاة تفتح مجالًا بالإيمان للشركة مع الفادي الحبيب، لبناء النفس وعمارها بعد تخريبها بالخطية، لذلك قال الرب: «إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو8: 24)، وهذا واضح أيضًا في عبور الملاك المهلك على بيوت العبرانيين بدون موت أحدهم لإيمانهم وتصديقهم بالفداء وذبح خروف الفصح عنهم. وما أقوى ما قاله القديس بولس: «فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وسَلّمَ نفسه لأجلي» (غلا2: 20)، وبناء على ذلك صار السيد المسيح ليس مجرد شخصية تاريخية وإنما قوة حياة لا تزول تعمل فينا بفدائه وبدمه، يطهرنا بتوبتنا واعترافنا، فيحوِّل ما فينا من موت إلى حياة. لذلك فنحن ضعفاء كبشر ولكن أقوياء بإيماننا، إذ نتقدم إلى الله ونطرح أنفسنا بثقة أمامه فننال مراحمه ونتمسك بصدق مواعيده ووعوده الإلهية، وهذا ما اختبره موسى الأسود ومريم المصرية وأغسطينوس وغيرهم كتائبين عبر الدهور وإلى نهاية الدهور.
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
22 أغسطس 2022
الحديث الروحي
تميزت العذراء مريم ضمن صفاتها الرائعة بالحديث الروحي مع الملاك الذي بشرها إذ قالت: «هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك» (لو1: 38)، وكذا في حديثها مع أليصابات حين زارتها، وقولها في التسبحة الجميلة: «تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى أتضاع أمته...» (لو1: 46-56).ونود ونحن في صوم العذراء -الذي صامه التلاميذ الاثنا عشر لكي يروا صعود جسدها إلى السماء بعد نياحتها- أن نتعلم من العذراء كيف نتكلم مع الله والناس، ولا شك أن المصدر هو الروح القدس الذي يقودنا حين نتكلم كلامًا روحيًا لائقًا بالسيرة الروحية، وأما سمات هذا الحديث الروحي:1- الكلام الإيجابي: بمعنى أن يكون مُفْعَمًا بالفضيلة، مثل المحبة وطول الأناة والرحمة والرغبة في الاحتواء والتهدئة وامتصاص متاعب الآخرين وحل مشاكلهم، وروح المغفرة للإساءات من الآخرين، وكذلك اللطف مع الوداعة تقدم حديثًا هادئًا موضوعيًا خاليًا من الغضب والانفعال السلبي.2- التعلُّم من القدوة الصالحة: فالسيد المسيح هو المثل الأعلى لنا في أحاديثه وكلماته الرائعة جدًا، ففي حديثة عن التطوبيات وتركيزه على فضائل هامة مثل المسكنة بالروح (الاتضاع) والرحمة والوداعة وصنع السلام واحتمال الإساءات كالطرد والتعيير والاتهامات زورًا والفرح بالإهانات لأن الأجر عظيم في ملكوت السماوات، وتقديم الأنبياء كأمثلة في كل هذه الفضائل، دليل أنها عملية ويمكن تنفيذها في الحياة.3- المواقف العملية: حين أتوا إلى المسيح بالخاطئة التي أُمسِكت في ذات الفعل قال لهم: «مَنْ منكم بلا خطية فليرمها بأول حجر»، وجلس يكتب خطية كل مَنْ يتقدم بحجر ليرجمها حتى انصرف الجميع وألقوا بالحجارة بعيدًا، ولم يبقَ سوى المرأة في خجل شديد من الموقف، ولكن الرب قال لها في رفق وحنو «اذهبي ولا تخطئي..."، بعد أن قال لها: «ولا أنا أدينك»، وهنا الأمثولة الرائعة. وفي موقف آخر حين تقدمت له أم غريبة الجنس تطلب شفاء ابنتها بإيمان، قال لها: «ليكن لك ما تريدين»، فشُفِيت أبنتها في تلك اللحظة.. ما أروع هذه المواقف المملوءة محبة قوية علوية.4- روح الخدمة التلقائية: فكل محتاج ذهب للسيد المسيح قدم له احتياجه، سواء فرد أو مجموع. فحين تقابل مع الجموع: قبلهم وتكلم معهم بكلام الحياة الأبدية ساعات طويلة، ثم قدم لهم طعامًا بالبركة في خمس خبزات وسمكتين حتى شبع الجميع وفضل عنهم اثنتا عشرة قفة مملوءة. وحين ذهبت إليه مرثا ثم مريم أختا لعازر حين مرض ومات، أتى وأقامه بعد أن أنتن في القبر. وفي لقاء المرأة الخاطئة في المدينة أتت إليه من ورائه وأمسكت برجليه (مشطي القدم) وغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها، فمدحها السيد المسيح ووصف محبتها الفائقة أنها رغبة في التوبة والمغفرة وقال عنها «هذه أحبت كثيرًا» لذلك غُفِر لها كثير، وحين أدانها الفريسي، بل أدان السيد المسيح لأنه سمح لها أن تلمسه، يقول لوقا البشير «فَلَمَّا رَأَى الْفَرِّيسِيُّ الَّذِي دَعَاهُ ذلِكَ، تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قِائِلًا: لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ» (لو7: 39).حقًا كان الرب المتجسد مثالًا في الخدمة، مقدِّرًا النفس البشرية التي اعتبرها الهدف من كل ما فعله الله من إعطاء للوصية أو الفداء على الصليب بعد التجسد، وهذا يكشف عن كرامة الإنسان عند الله لأنه مخلوق على صورته ومثاله وموضوع اهتمامه دائمًا. يا ليتنا نتعلم من مخلصنا الصالح روح الخدمة بالحديث الروحي والمواقف العملية وروح الخدمة التلقائية، ووضع كل الإمكانيات لخدمة كل نفس سواء المال كوسيلة أو مباني الخدمة التي تقيمها الكنائس كمجمعات الخدمة ومرافق كثيرة للحضانات والخدمة الريفية وباقي الخدمات.
نيافة الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
15 أغسطس 2022
الطاعة والقداسة
ارتبطت فضيلة الطاعة بحياة القداسة والقديسين، إذ ظهرت كفضيلة هي الأبرز في حياة كل مَنْ هم قدوة لنا، وأولهم السيد المسيح الذي أطاع الآب السماوي حتى الموت موت الصليب، وكذلك العذراء التي أطاعت في أمر يصعب استيعابه حين بشرها رئيس الملائكة غبريال المبشر بأنها ستحبل وتلد ابن الله الكلمة متجسدًا منها، وقالت «هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك» (لو1: 38)... ومن هنا صارت الطاعة مرتبطة بالقداسة.(1) هي دليل الإيمان القلبي: كما ظهر في حياة أبينا إبراهيم إذ قيل: «بالإيمان إبراهيم لما دُعي أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذه ميراثًا، فخرج وهو لا يعلم إلي أين يأتي، وبالإيمان تغرّب في أرض الموعد كأنها غريبة» (عب11: 8)، فطاعة أحد رجال الإيمان جعلته يسير وراء الله وهو واثق أنه سيصل، حتى وان كان لا يعلم إلى أين يذهب، وبذلك يتضح أن فضيلة الطاعة ترجمة قوية للإيمان القلبي في عمل الله وقيادته له ولأسرته في كل أموره الحياتية...(2) هي دليل الحرية الحقيقية الداخلية: فالطاعة هي الشكل الأكمل للحرية القلبية الداخلية من تسلط الأهواء الخاطئة والرغبات الشريرة، والشهوات القلبية التي توقع الإنسان في المعصية، وقمتها في انغلاق الذات على نفسها فلا تسمع لصوت الله ولا تصدق وعود الله ولا تريد حتى الاتصال بالله... من هنا كانت الطاعة دليلًا قويًا على التحرُّر من المشيئة الذاتية التي تكمن وراءها كل الأخطاء والشهوات. ولعل هذا هو دور الروح القدس الذي يقود المؤمن إلى خطوات الطاعة الإرادية التي تدل على حرية قلبية من شهوات أو أخطاء أو قيود يضع فيها الإنسان نفسه نتيجة عدم الطاعة أو رفض الاستماع القلبي الداخلي الذي تحدثنا عنه في فضيلة الطاعة الإرادية.(3) دليل رفض المشورات الشريرة: يتلقى الإنسان طوال حياته الزمنية كثيرًا من المعارف والأفكار من مصادر عديدة، بعضها صالح أو غير صالح، وهنا تظهر أهمية فضيلة الطاعة في إنقاذ المؤمن من أي مشورة شريرة، لذلك جاءت الوصية الإلهية «أطيعوا مرشديكم واخضعوا لهم لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يُعطون حسابًا، لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنّين لأن هذا غير نافع لكم» (عب13: 17). وهنا نرى أن الطاعة تهب المؤمن الإنقاذ من الشر من خلال إرشاد روح الله له. لذلك يقول ذهبي الفم: "كيف يثبت ما يقدمه الخورس إذا أُلغي دور قائده؟ وكيف ينتصر جيش إذا أُبعد قائده؟ وكيف تصل سفينة إلى البر إذا عدمت مديرها؟ وكيف يستمر قطيع الخراف إذا اختفى الراعي عنه؟ وهكذا واضح أن الطاعة تُنجي المؤمن من الشر والأشرار".(4) الطاعة ذبيحة حب تقدس النفس: فمجرد استعداد الإنسان لتنفيذ مشيئة الله في طاعة حقيقية، يقود إلي تقديس المشيئة كما في قول الكتاب: «ولكم محبه واحدة بنفس واحده مفتكرين شيئًا واحدًا... حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم. فلا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو للآخرين أيضًا» (فيلبي2: 2، 3). ويؤكد القديس بولس: «إذًا يا أحبائي كما أطعتم كل حين، تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة» (في2: 12). وهكذا تقود الطاعة إلى القداسة بكل ما تحمله الطاعة من فضائل الإيمان والحرية ورفض الشر وتقديس الحب لإتمام الخلاص للنفوس الساعية للفضيلة.
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية
المزيد