المقالات
18 نوفمبر 2020
العولمة مرة أخرى، ومناقشة تأثيراتها
نتابع ما ذكرناه في المقال السابق فنقول من أهم عناصر العولمة: الحضارة وانتقالها من بلد إلى بلد:
وكلمة الحضارة واسعة جدًا في معناها, فهي تشمل الثقافة والرقى وسائر القيم والعادات السائدة.
أما عن الثقافة, فلا ننسى مطلقًا فضل العولمة في نشر العلم والمعرفة, مع الوضع في الاعتبار بعض أنواع المعرفة المبنية على الشك كالفلسفات الملحدة وكالأفكار الاقتصادية التي تميل إلى الشيوعية أو إلى التطرف بوجه عام.
أما من جهة العادات والطباع والقيم, وأمثال ذلك مما يسمونه في الغرب Culture, فإن فيه اختلافًا كثيرًا بيننا وبينهم. ونحن نلاحظ أن الذين يقيمون فترة طويلة في بلاد الغرب متغربين عن أوطانهم, يعودون بشخصيات وعادات مختلفة عما كان لهم من قبل, بل حتى لكنة ولهجة صوتهم تتغير, وكذلك طريقة تفكيرهم أيضًا...
وهنا نسأل ماذا يكون وضع المرأة الشرقية في ظل العولمة, حيث وصلت المرأة في بعض بلاد الغرب إلى منصب رئيس الوزراء, وتنافس على منصب رئيس الدولة أيضًا. ونحن نشكر الله أن بلادنا مصر قد أفسحت المجال السياسي والإداري والاجتماعي أمام المرأة. فيوجد لدينا أكثر من وزيرة, وكذلك وكيلة مجلس الشعب امرأة. وعدد كبير من النساء في رتبة وكيل وزارة, ورتبة مدير عام. كما تم تعيين ثلاثين امرأة في القضاء... ولكن هل ستقبل بلاد الشرق العربي أن تصل المرأة إلى هذا المستوى أو أكثر؟ بينما في بعض البلدان العربية تجاهد النساء لكي يكون لهن مجرد حق الانتخاب في بعض المجالس!
ثم في ظل انتشار العولمة ستعود مناقشة موضوع الحجاب والنقاب بالنسبة إلى المرأة. وكذلك ربما تظهر مشكلة الزواج المشترك ما بين طرفين مختلفين في المذهب.
تدخل مشكلة أخرى في محيط الأسرة وهى مدى احترام وطاعة الوالدين والكبار عمومًا. فنحن في الشرق نوقّر الكبار غاية التوقير, ونطلب رضى وبركة الوالدين, بينما في الغرب توجد الاستقلالية في الشخصية كلما وصل السن إلى مرحلة الشباب, ولا يجد الأبوان الفرصة الكافية لتأديب أبنائهم. ويمكن للابن أن يطلب تدخل الشرطة رسميًا للحد من سلطان أبيه أو تدخله في شئونه الخاصة...!وعلى الرغم من اعترافنا بفضل العولمة في انتشار العلوم ورقيها, إلا إننا نجد بعض نواحي العلم- وبخاصة في موضوع الإنجاب- قد سارت في تيار لا يتفق كثيرًا مع قيمنا ومع بعض مبادئنا الدينية من ذلك وجود بنوك البويضات المخصبة...حيث يمكن للمرأة أن تختار النوع الذي تريد أن يُولد به ابن لها: من جهة طوله أو لون بشرته أو لون شعره أو درجة ذكائه. وتختار البويضة المخصبة التي تناسب طلبها, بغض النظر عن كيف أخصبت, وما شرعية ذلك, وما مدى تحكم علماء تلك البنوك في الجينات البشرية وتوفيقها بأسلوب خاص لتأتى بالنتيجة المطلوبة يضاف إلى هذا التطور الواسع في موضوع الاستنساخ, الذي بدأ بتطبيقه على الحيوانات, ثم تطور إلى مجال البشر أيضًا. نحن لا نقف ضد العلم, ولكن من المفروض أيضًا أن تكون للعلم حدود لا يتعداها إلى الدخول في المشيئة الإلهية!نحن لا ندعى إطلاقًا بتدخل العلماء في القدرة على الخلق, وهم لا يدّعون ذلك, لأن الخلق هو الإيجاد من العدم, وهذا خارج نطاق العلم, ولكن تصرفهم في الخليقة حسب هواهم أو فكرهم الخاص هو موضوع من المفروض أن تكون له ضوابط وحدود.
نقطة أخرى وهى استئجار الأرحام, حيث يمكن نقل بويضة لأم معينة إلى رحم امرأة أخرى. ثم يُولد طفل له أم طبيعية وأم استأجروها ليولد منها!! وإلى أيهما ينتسب؟!
العولمة أيضًا لها تأثيرها في محيط التجارة والصناعة:-
إذ توجد بلاد يمكن أن تقدم صناعات بسعر أقل, وتسوّقها في بلاد أخرى, فتؤثر على ميزانها الاقتصادي, وعلى صناعتها المحلية, وبالتالي على وضع العمالة فيها. وربما هذا الأمر يوجد جوًا من التنافس في مجال الإنتاج ووفرته وجودته وسعره. ولكن ليست كل الدول تقدر على مثل هذا التنافس وكمثال واضح اختبرناه في مصر, انتشار الصناعة الصينية في نواح متعددة, وبأسعار أقل من السوق. بل عن طريق العولمة انتشرت صناعاتها أيضًا في بلاد أخرى غربًا وشرقًا.
لا ننسى أيضًا تأثير العولمة على اللغة:-
ويظهر هذا واضحًا في كثير من العلوم. فنحن نستعمل العديد من الألفاظ اليونانية, مثل كلمات: فلسفة, جغرافيا, جيولوجيا, إستراتيجية, تليفون, تلغراف تكنولوجيا. ونستخدم أيضًا عبارات في الطب والدواء ليست عربية مثل الكوليسترول, والفيتامينات. وعمومًا فإن تعريب الطب غير ممكن من جهة, وضار من جهة أخرى, إذ يوقف الصلة بالبحوث العلمية, والمؤتمرات العلمية, والمجلات والكتب التي عن الطب والصيدلة. وغالبيتها بلغات أجنبية.إننا تعودنا أن نستخدم عبارات ليست عربية), مثل درجة الماجستير وهى كلمة لاتينية, ومثل كلمة (مايسترو) عن معلم الموسيقى, وهى كلمة إيطالية, ومثل كلمة كيمياء وهى هيروغليفية الأصل أو قبطية. بل أن كلمة (لغة) نفسها ليست عربية, وإنما أصلها يوناني.أما في العربية فنستخدم عبارة (لسانًا عربيًا فصيحًا). ومن أقدم وأشهر القواميس في العربية كتاب لسان العرب لابن منظور وليس لغة العرب.
ختامًا, لا خوف من العولمة على ثوابتنا العقيدية, فهي أعمق من العولمة, أما الحضارة والثقافة فهي ملك الجميع.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
11 نوفمبر 2020
العولمة: فوائدها وتأثيرها وأضرارها
العولمة هي انفتاحنا على باقي بلاد العالم, وانفتاحها هي علينا, وكسر الحواجز الفاصلة مع احتفاظنا على قدر الإمكان بما للشرق من مبادئ وقيم وطبيعي إننا لا نستطيع أن نفصل أنفسنا عن العالم ونصبح كجزيرة منفردة بذاتها في المحيط. فالعالم الآن قد صار مختلطًا وممتزجًا, بحيث أنه في تفصيلات حياته يأخذ ويعطى وليس العولمة جديدة عليه, بحيث يمكن قبولها أو رفضها. فقدت بدأت فعلًا. والمهم الآن هو ما مدى الانتشار الذي يُسمح به لها؟ وما مدى الفائدة العائدة منه أو الضرر.
أول انتشار هو عالمية الأخبار:
فقد أصبحت أخبار كل جهات العالم متداولة, وفي معرفة كل ما يريد. وذلك عن طريق الصحف والإذاعة والتلفزيون وكثرة الفضائيات التي انتشرت وباقي وسائل الإعلام. بحيث يمكن لأي شخص أن يستخدم الانترنت مثلًا, ويستخرج ما يشاء من المعلومات والأخبار, عن أي بلد, أو أي شخص, أو أي علم. ويعرف بذلك تفاصيل التفاصيل, بلا مانع ومع ما في هذا الأمر من فائدة, إلا أن له أضرارًا فالانترنت ينشر كل شيء, ما ينفع وما يضر, ينشر الصدق وكذلك الكذب والأخبار المبالغ فيها. وكل من يريد أن يسجل فيه منهجه وفكره. فتجد فيه الهجوم والدفاع, والهجوم المضاد. ومن يأخذ كل تسجيلات الانترنت كقضية ثابتة, إنما يشوش أفكاره. فيحتاج الأمر إلى فحص وإلى تحقيق, ومقارنة الأخبار. وليس هذا بإمكان الكل.
الأمر الثاني في العولمة هو انتشار العلم بكل فروعه:
لم يعد العلم حكرًا على بلد معين, أو عالم محدد بالاسم, إنما هو للكل. فعلوم الطب والصيدلة والدواء وطرق العلاج أصبحت متداولة بين باقي الشعوب, سواء عن طريق البعثات العلمية, أو ما ينشر عنها في الكتب أو المجلات العلمية. وينطبق هذا أيضًا على ما ينشر عنها في الكتب أو المجلات العلمية. وينطبق هذا أيضًا على كافة العلوم من هندسة وزراعة واقتصاد وغير ذلك وكل هذا مفيد ونافع. وعلى كل دولة أن تنتفع بما وصلت إليه باقي الدول من حضارة ورقي وتقدم. ولا تتخلف عن الركب.
من الأمور النافعة في العولمة أيضًا كافة المخترعات المفيدة:
فبعد أن تخطينا زمن اختراع الطائرات ووسائل الميديا Media, بدأ انتشار الريكوردر, والكمبيوتر, وتليفون السيارة, والتليفون المحمول, وأدوات التصوير الحديثة, والفاكس, وغير ذلك من المخترعات في مجال الهندسة, والنقل, والريّ بالرش, وأنواع من الماكينات, ووسائل البناء الحديثة. وكل ذلك لم يكن معروفًا من قبل. ونشرته العولمة, حتى إننا نجد في أمريكا نفسها سيارات يابانية, وصناعات دقيقة من الصين ومن وكوريا.وعن طريق العولمة بدأ أيضًا استخدام الذرة, وتخصيب اليورانيوم Uranium. وهنا تبدو الخطورة في تنافس كثير من الدول على إنتاج القنبلة الذرية, والصواريخ الموجهة البعيدة المدى, وباقي أصناف الأسلحة الفتاكة, المهلكة للشعوب والحضارات وإن كانت العولمة باختراعاتها, كان من نتائج ذلك تسهيل كل أنواع الاتصالات. فلعل من أضرار ذلك سوء الاستخدام سواء من جهة الأسرار أو الأخبار أو بعض أمور الأمن. وحتى الأطفال حاليًا ينشغلون بالكمبيوتر والانترنت كلون من التسلية وحب الاستطلاع. ويكون لذلك ثأثيره على تحصيلهم الدراسي, بل وعلى أخلاقهم أيضًا, إذ يفتح أذهانهم على أمور تضرهم, أو ينشغلون بروايات وأفلام جنسية تثيرهم وتتعبهم. أو عن طريق هذه الاتصالات السهلة يقعون في علاقات معينة وتتفتح أمامهم أبواب للانحراف ويرى جيل الانترنت والكمبيوتر أن آبائهم على درجة من الأمية إذ ليست لهم نفس معرفتهم ومقدار معلوماتهم. وهكذا لا يوجد تواصل بين الأجيال المتتابعة وإن كان العلم حاليًا في تطور للوصول إلى التليفون الذي ينقل الصورة أيضًا بين المتخاطبين, فما أسهل أن يكون لهذا الأمر ضرره أيضًا من حيث الخوض في خصوصيات من الخطر أن تُعرف...
ومن تأثير العولمة أيضًا تطور الآلات:
وعلى الرغم من فوائد النمو في صناعة الآلات, إلا أن القاعدة المعروفة هي أنه كلما ازداد استخدام الآلة, كلما ازدادت البطالة, إذ أن الآلة توفر عددًا كبيرًا من العمالة. وهذا له ضرره من الناحية الاجتماعية, وإن كان يفيد من جهة سرعة ووفرة الإنتاج. ولكنه يفيد الرأسمالية بوجه خاص..!
وكمثال لذلك: بعد أن كان ريّ فدان من الأرض الزراعية يحتاج إلى ستة من الفلاحين, أصبح استخدام الري بالرش يلزمه حوالي ثلاثة عمال فقط لري عشرين فدانًا. ونفس الأمر في وسائل البناء والنقل...
كان استخدام الآلة هو بدء الانقلاب الصناعي في أوروبا. وبكثرة استخدام الآلات انتشرت البطالة في أجزاء كثيرة من العالم. وبدأت تقوم الاصطدامات بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال بقى أن نتكلم عن تأثير العولمة على الحضارة, وتفاعل الحضارات أو اصطدامها. وتأثيرها على الثقافة واللغة, وعلى المبادئ والأخلاقيات والقيم. وتأثيرها على الحرية والديموقراطية, وعلى الأسرة والمجتمع ووضع المرأة سياسيًا واجتماعيًا. وثأثيرها من جهة الإنجاب وبنوك الأعضاء, وموضوع الاستنساخ وتطوره, وموضوع الاستثمار, وكل ما يتعلق بالهجرة فإلى اللقاء في المقال المقبل, لنكمل حديثنا هذا, إن أحبت نعمة الرب وعشنا.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
04 نوفمبر 2020
من حيل الشياطين
للشياطين حيل كثيرة, صارت بعضها معروفة, ومنها:
تقديم خطيئة باسم فضيلة:
الشيطان خبيث. ويرى أن بعض الناس يرفض ضميرهم الخطيئة إن كانت مكشوفة. فلا مانع عنده من أن يعرض خطايا معينة بغير أسمائها, بأسلوب يسهل قبوله, بحيث تلبس الخطايا ثياب فضائل فالتهكم على الناس والاستهزاء بهم, يقدمه على اعتبار أنه لطف وظرف, ومحبة ودالة, وخفة روح ومحاولة للترفيه والدهاء أو الخبث يسميه باسم الذكاء! أما الكذب فيمكن للشيطان أن يقدمه باسم الحكمة, كنوع من حسن التصرف أو إنقاذ للموقف. والطبيب قد يكذب على المريض مرات, ويسمى ذلك "حفظ معنويات المريض" وحمايته من الانهيار. والبعض قد يسمى أنواعًا من الكذب باسم الكذب الأبيض. وربما يعتبره في أول أبريل دعابة وفكاهة والقسوة على الأبناء يقدمها الشيطان للآباء باسم الحزم والحرص على تأديبهم وتربيتهم ومنعهم من الانحراف, وربما تقودهم هذه القسوة إلى الانحراف للهروب من قسوة الآباء. وهذا ما يريده الشيطان والتزين الذي يصل إلى التبرج, يُقدم باسم الأناقة والنظافة وقد يقدم للبعض جريمة القتل باسم آخر. فقتل الأخت الخاطئة يسميها غسل عار الأسرة. وقتل آخر يطلق عليه اسم الدفاع عن الوطن أو الدفاع عن الدين أو تطهير الأرض من المخطئين أو من الطغاة لا مانع عند الشيطان من الدخول في خداع المسميات. إذ يرى أنه ليس من (الحكمة) أن يسمى الخطية بأسمائها المنفرة, ففي ذلك كشف لأوراقه. وعدم الوصول إلى هدفه. البخل مثلًا لا يسميه بخلًا لأن هذا الاسم غير مقبول. إنما يسميه "حسن تدبير المال" أو عدم الإسراف وعدم التبذير. أو حفظ المال لحاجة المستقبل... وهكذا العلاقات الشبابية غير الطاهرة يسميها باسم الحب, بينما هي شهوة وليست حبًا وإعطاء الخطية اسم الفضيلة, يساعد الخطاة على الاستمرار فيها. كما يوقف تبكيت الضميرفلا يزعج الإنسان أو يقوده إلى ترك الخطية.فليحترس إذن كل أحد من هذه المسميات الزائفة, ولا يسمح للشيطان أن يخدعه. فالخطية هي الخطية مهما اختفت وراء اسم آخر.
ومن حيل الشيطان أيضًا التدرج الطويل:
إن وسائل الشيطان تتعدد, وقد يبدو بينها أحيانًا شيء من التناقض بين أسلوب وآخر, ولكن يجمعها هدف واحد وهو إسقاط الفريسة فالشيطان في بعض الأحيان قد يضربه ضربة سريعة فجائية, بحيث لا يكون الشخص مستعدًا لها. وأحيانًا يعمل في تدرج طويل لا يشعر به صاحبه. والتدرج يلزمه وقت قد يطول. ولكن الشيطان لا يهمه الوقت, بل يهمه السقوط. والتدرج يصلح غالبًا للأشخاص الذين لا يقبلون خطية معينة بسهولة. ولكن الشيطان يوصلهم إليها تدريجيًا في هدوء, بجرعات قليلة أو قليلة جدًا, تزداد بالوقت حتى تقضى عليهم. وقد يقسّم الخطية إلى مراحل, كل مرحلة تثبت أقدامها بالوقت إنه يحب -حينما يضرب الضربة- أن تصيب مقتلًا. وهذا يتطلب منه أحيانًا تمهيدات طويلة المدى. بحيث حينما يدخل القلب يجده مزينًا مفروشًا مهيئًا لعمله, ويجد الضحية جاهزة بلا مقاومة. وحتى إن قاومت تكون بلا قدرة على الإطلاق, فتسقط أمامه بسهولة وفى خطة التدرج, كل خطوة يقترب فيها الشخص إلى جو الخطية تجعله يعتادها, وتضعف إرادته أمامها. وبمرور الوقت يألفها ولا تصبح غريبة عليه. وبالتدريج تدخل إلى فكره ثم إلى مشاعره ومن أمثلة التدرج الطويل, تأتى العادات. وكل عادة مسيطرة على الإنسان, أتبدأ هكذا مطلقًا. ربما كان هو المسيطر عليها أولًا ويستطيع تركها. ولكنه بالتدرج الطويل فقد سيطرته, ثم سيطرت العادة عليه. وربما قال له الشيطان في أول خطوة: "جرّب أو اختبر.. الحياة كلها خبرات, والأمر بيدك تستطيع أن تمتنع وقتما تشاء". وظل به هكذا إلى أن أتى الوقت الذي فيه سلّم إرادته بالتمام, ولم يعد يقاوم, بل لا يشاء أن يقاوم ونصيحتنا لمقاومة سياسة التدرج هذه التي ينتهجها الشيطان, أن يبعد الشخص عن الخطوة الأولى بكل حزم, مهما بدت بريئة أو حاول الشيطان أن يقنعه بأنها بريئة احترس من كذب الشيطان إن قال لك إنها خطوة واحدة ولن تتكرر أو لن تتطور. فالشيطان لا يقبل على خطته أن يتركها عند حدود الخطوة الواحدة, دون أن يتقدم بها باستمرار نحو هدفه البعيد. إذن احترس حتى من الخطوة الأولى, وليس فقط من تطورها, مهما بدت هذه الخطوة في نظرك من الأمور الصغيرة...
من حيل الشيطان أيضًا, (الأمور الصغيرة)!
إنه يحارب بها, لأن الشخص قد لا يهتم بها, ولا يحترس منها... بل يقول لنفسه: "وهل مثلى يخاف من هذه الأمور الصغيرة. إنها قد تتعب المبتدئين. أما نحن فقد كبرنا عن أمثال هذه الأمور..!"حقًا إن شيطان الأمور الصغيرة يمكن أن يهلك الإنسان. فيمكن أن تغرق سفينة من ثقب صغير في قاعها. والإنسان لا يشترط أن يكون موته بواسطة وحش خطير يفترسه, إنما يكفى لموته ميكروب لا يُرى بالعين المجردة أو مجر فيروس والأمور الصغيرة قد لا تكون صغيرة فعلًا, ولكن الشيطان يسميها هكذا. والله -تبارك اسمه- قد يختبر إرادتنا بأي اختبار مهما كان بسيطًا, ولكن تنكشف به نفسيتنا من الداخل هذه الأمور الصغيرة قد تكون مثل قليل من التساهل مع الحواس أو القراءات أو السماعات, أو عدم التدقيق في الكلام, أو تمسك الإنسان برأيه, وعدم استشارية لأحد, أو عدم لوم النفس على أخطائها, أو التقصير في الصلوات وطريقة الخلاص من شيطان الأمور الصغيرة هي في حياة التدقيق.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
28 أكتوبر 2020
الشيطان: صفاته وحيله
أول وأهم صفة للشيطان أنه شرير, يحب الشر ويعمل على نشره بكافة أنواع الطرق. ويكره الخير والخيرين ويقاتلهم. وهوايته هي إسقاط الآخرين. وهو في قتاله للبشر, لا يهدأ مطلقًا ولا يملّ ولا يستريح. هو مشغول بالجولان في الأرض والتمشي فيها, يبحث عن فريسة لكي ينقضّ عليها والعجيب أنه قوى في عمله. استطاع في الأجيال القديمة أن يلقى غالبية العالم في الوثنية, وفي تعدد الآلهة, وفي إغرائهم بألوان من الخطية والدنس. بل إنه صرع أشخاصًا كثيرين وسيطر عليهم. ولكن ليس معنى هذا أن نخافه, بل نحترس منه, طالبين معونة الله للتغلب عليه والنجاة من حيله...
والشيطان خبير بالحروب, وخبير بالنفس البشرية إنه يحارب الإنسان منذ أكثر من سبعة آلاف سنة, منذ أبوينا الأولين آدم وحواء. فأصبحت له خبرة طويلة في حربه مع البشرية. وقد صادف في قتاله أنواعًا شتى من نفوس البشر. فصار أقدر مخلوق على فهم النفس البشرية وطريقة محاربتها, إذ قد درسها جيدًا واختبرها, وعرف نواحي القوة والضعف فيها, ومتى تقاومه ومتى تستسلم له. وتحرّس في أسلوب محاربتها فهو إذن عالم نفساني, وعلم النفس عنده ليس مجرد نظريات, إنما هو خبرات على المستوى العملي, وبنطاق واسع جدًا, شمل البشرية كلها. لذلك فهو يعرف متى يحارب وكيف يحارب؟ ومتى ينتظر؟ ومن أي الأبواب يدخل إلى الفكر أو إلى القلب؟وهو في كل ذلك ذكى وصاحب حيله, ويتميز بالخبث والمكر والدهاء.ومن مظاهر ذكائه أنه قد يغيّر خططه وأساليبه لتوافق الظروف المتاحة له ومن صفاته الكذب والخداع والأضاليل, ليصل بذلك إلى غرضه لذلك لا يصح أن نصدق الشيطان في كل ما يقوله وما يقدمه من إغراءات يمكن للشيطان أن يستخدم الكذب والخداع فيما يقدمه من رؤى وأحلام كاذبة. وما أكثر الأحلام الكاذبة التي يضل بها الناس, أو يظهر لهم في هيئة ملاك أو أحد القديسين, ويرشدهم بطريقة مضللة!وكذب الشيطان يظهر أيضًا في ما يضعه على أفواه السحرة والعرافين وأمثالهم. وما يقوله على أفواه المنجمين ومدعى معرفة الغيب مثل المشتغلين بقراءة الكف, أو ضرب الرمل, أو قراءة فنجان القهوة أو معرفة البخت والطالع بأنواع وطرق شتى. ولما كان من الثابت دينيًا أنه لا يعرف الغيب سوى الله وحده, لذلك كل من يضع الوصول إلى معرفة الغيب لا يكون صادقًا في ادعائه ويظهر كذب الشيطان كذلك في استشارة الموتى أو تحضير الأرواح فقد ينطق في أمثال تلك الجلسات, مدعيًا أنه روح فلان من الناس. ويقول للحاضرين بعض معلومات تخدعهم مما يعرفه عن أخبار ذلك الشخص أو أسرته. فإذا صدقوه يبدأ بالتدريج بقول ما يضللهم وإغراءات الشيطان كلها ألوان من الكذب. حيث يصور للإنسان سعادة تأتيه من وراء الخطية, سواء في لذة أو سلطة أو مكسب أو جاه أو مجد... ثم يجد الإنسان أن كل ذلك سراب زائل وأشياء فانية. وهذا أسلوب الشيطان باستمرار: أنه يزخرف طريق الخطيئة, ويضفى عليه أوصافًا من الجمال تغرى من يقع في حبائله.
وأيضًا أحلام اليقظة التي يقدمها لضحاياها, كلها أكاذيب:
ولكنه يقدمها لهم كنوع من المتعة بالخيال, تخدرهم عن العمل الإيجابي النافع, فيعيشون فترة في وهم هذه الأحلام, يبنون قصورًا من رمال, ومتعة وأفراحًا من الخيال. ثم يستيقظون لأنفسهم فلا يجدون شيئًا. ويكون الشيطان قد أضاع وقتهم, وعطلهم عن العمل المجدي, وأراحهم راحة كاذبة!ومن أكاذيب الشيطان أن يوهم المنتحر بأن الموت سيريحه من متاعبه! ويظل يركز على هذه النقطة: إنه لا فائدة له من هذه الحياة, ولا حلّ لمشاكله إلا بالموت, حيث يتخلص من كل تعبه ويستريح. وإذ ينخدع المنتحر بهذا الفكر ويقتل نفسه, لا يجد تلك الراحة الموهومة. بل يجد نفسه في الجحيم, في تعب لا نجاة منه, ولا تقاس به كل متاعب الدنيا. ويكتشف أن الموت ليس هو نهاية لحياته المتعبة, بل بداية لحياة أخرى أكثر تعبًا وألمًا وتقريبًا غالبية الخطايا, يضع الشيطان وراءها أكذوبة من أكاذيبه: فهو يوحى للسارق بأن سرقته سوف لا تُكتشف. ويوحي ذلك أيضًا لكلٍ من المرتشي والمهرّب والغشاش. وهو في ذلك يكذب, لأنه حتى إن كان أحد لا يرى هؤلاء, فالله يرى وكل شيء مكشوف أمامه. وكذلك فإن الشيطان يوحى للقاتل أن من ينوى قتله يستحق القتل, أو أنه بقتله يغسل العار الذي يلوث شرفه, أو أن قتله يريح نفس قريب له.ولعل أخطر أكذوبة قدمها الشيطان لبعض البشر, هي الإلحاد كما أنه كذب على الوجوديين حين صوّر لهم أن وجود الله يعطل وجودهم. وكذب على بعض الشيوعيين زاعمًا أن الله يعيش في برج عال لا يهتم بالمجتمع الإنساني, تاركًا الظالم يظلم, والغنى يستعبد الفقير!من صفات الشيطان أيضًا أنه لحوح لا يملّ من الإلحاح وربما يعرض الفكر الواحد مراتٍ ومرات. ومهما قوبل بالرفض, يستمر في عرضه. فربما بكثرة الضغط والإلحاح, يستسلم الإنسان له ويخضع.. وهو لا يخجل أبدًا من الفشل, بل يعود ويستمروالشيطان في إلحاحه على الناس، لا يعترف بالعقبات، ولا تهمه درجة الإنسان الروحي الذي يهاجمه, ولا مركزه. إنما يضرب ضربته, وليحدث بعد ذلك ما يحدث. إنه يلقى سمومه في كل حين على كل أحد. وربما الذي لا يهلك بها اليوم, يهلك غدًا, أو بعد سنة أو أكثرفالشيطان مثابر نشيط لحوح, دائب على العمل, لا يثنيه الفشل عن الاستمرار, ولا ييأس من علو قدر الناس. هو ماضٍ في خطته. والذي لا يستطيع أن يدنس جسده, فعلى الأقل يدنس فكره ولما كانت باقي صفات الشيطان وكل حيله, أوسع من هذا المقال, فإلى اللقاء في مقال آخر إن أحبت نعمة الرب وعِشنا.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
21 أكتوبر 2020
اليأس من إمكانية التوبة
حدثتكم في مقالنا السابق عن بعض أنواع من أفكار اليأس التي يغرسها الشيطان في نفوس الناس. وكان موعدنا اليوم أن نطرق موضوع اليأس من إمكانية التوبة، وهذه محاربة شيطانية شائعة وأفكارها معروفة طالما أتعبت الكثيرين وفي هذه المناسبة، أتذكر أنني منذ حوالي أربعين عامًا وصلني خطاب من أحد الشبان، قرأته فتأثرت كثيرًا جدًا... ثم أرسلت له ردًا قلت له في مقدمته "وصلني خطابك يا أخي المحبوب، ويُخيلّ إليَّ أنني قرأته مرارًا قبل أن أراه... إنه قصة قلوب كثيرة..".
إن اليأس من التوبة هو أكثر خطورة من السقوط في الخطيئة، لأن أي شخص يمكن أن يخطئ ثم يتوب. أما في حالة اليأس فإنه قد يندمج في الخطيئة بالأكثر، ويتدرج من السيئ إلى الأسوأ. وربما تكون مقدمة اليأس بعض سقطات متتالية يوقع فيها الشيطان ضحيته بلا هوادة، حتى يصرخ الخاطئ قائلًا "لا فائدة فيَّ. فمن المستحيل أن أنجو مما أنا فيه"! وربما تكون مقدمة اليأس سقطة كبيرة أو خطيرة، يُشعره الشيطان بعدها بأنه لا مغفرة..! أو قد لا تكون السقطة بهذه الدرجة، ولكن الشيطان من عادته أنه يضخمّ في الأخطاء ليوقع صاحبها في اليأس إن الشيطان ماكر جدًا في هذه الناحية: فهو قبل السقوط يسّهل موضوع الخطية جدًا حتى لتبدو شيئًا عاديًا، ويضع لها مبررات... أما بعد السقوط، فإما أن يستمر في سياسة التهوين حتى تتكرر. أو أنه يدخل في أسلوب التهويل ليقع صاحبها في اليأس قائلًا له "هل من المعقول أن يغفر الله كل هذا الجرم؟!"وقد يجرّه إلى اليأس بإشعاره أنه لن يتوب... فيقول له: "هل من المعقول أنك ستترك الخطية؟! مستحيل. لقد صارت تجرى في دمك. عزيمتك انتهت، وإرادتك انحلت. بل حتى مجرد الرغبة في التوبة لم تعد موجودة عندك... كم مرة حاولت من قبل أن تتوب وفشلت؟ كم مرة ندمت على خطاياك، ثم رجعت إليها وربما في حالة أسوأ مما كنت؟!". وهكذا يحطم معنوياته، حتى يستسلم له، ويتوقف عن المقاومة!!يقول له: "قد صرت كلك في يديّ، فكرًا وقلبًا وعملًا. بحيث أنى أنقلك من هذه اليد إلى الأخرى، بكل سهولة كما أشاء. فلا داعي إذن لصراع فاشل لا تكتسب منه شيئًا وطبعًا كل هذه تخاويف لا أساس لها، وتهديدات زائفة.. فإن الله قادر أن يمنح الإنسان التوبة، مهما كانت حالته سيئة. والتاريخ يحكى لنا عن قصص كثيرة لتوبة أشخاص كانت سقطاتهم كثيرة ومريرة يا أخي، لا تركز تفكيرك في عجزك عن القيام من سقطاتك. بل تذكرّ أن نعمة الله قادرة على إقامتك. وحيث تعمل النعمة فلا مجال لليأس. فاطلب إذن معونة من الله، وقل له في صلاتك "توّبني يا رب فأتوب. أنت يا رب تريدني أن أعيش حياة نقية بلا خطية. فامنحني هذه الحياة. وأعطني الإرادة والعزيمة، وابعد عنى كل مجالات السقوط. وامنحني قوة لكي أسلك كما ينبغي، وأصمد أمام كل الإغراءات"ولعل الشيطان يحاربك قائلًا "من غير الممكن أن تتوب وقد تعودت على الخطية وأصبح قلبك يحبها! وكيف ستعيش طول عمرك بعيدًا عن هذه الخطية التي تشتاق إليها؟! فلو أنك تبت عنها إلى حين، لابد سترجع إليها".. ولا شك أن هذه مغالطة من الشيطان لكي يلقيك في اليأس، زاعمًا انك ستعيش في التوبة بنفس القلب الذي يحب الخطية!! كلا، فإن الله سوف يعطيك قلبًا جديدًا، وينزع منك محبة الخطية. وحينئذ لن تفكر أن ترجع إليها... بل على العكس سوف يجعلك الله في توبتك تكره الخطية وتشمئز منها ويستمر الشيطان في حربه، فيقول لك "حتى أن تبت، ستبقى أفكارك ملوثة بصور قديمة"! لا تخف، ففي التوبة سوف ينقى الله فكرك ويمحو منه صور الماضي. وثق أن الخطاة الذين تابوا كانوا في حالة أقوى بكثير وأنقى.وربما من حيل الشيطان أن يحاول إقناعك بأنك لن تفلت مطلقًا من العدل الإلهي، وان الله لن يغفر لك كل ما فعلته...! كلا، فإن الله كثير المغفرة، ورحمته تشمل الكل. وكل جند السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب لذلك لا تيأس مطلقًا. وتأكد أن اليأس هو من حروب الشيطان. وإن كنت ماشيًا في الطريق الروحي ووقعت، لا تظن أنك لا تحسن السير، بل قم في رجاء المؤمن وأكمل مسيرتك.إن الشيطان يحسد رغبتك في التوبة، ويريد أن يعرقلها. ذلك لأنه هو نفسه لا يعرف التوبة ولا يؤمن بها. واعلم أنه لولا صفاء نيتك، ما كان يحاربك. لأنه دائمًا يحارب الراغبين في حياة البر، ويخاف جهادهم ضده لذلك كن قوى القلب مهما كانت حروب الشيطان شديدة ومهما استمرت. كن راسخًا ولا تتزعزع ولا تقلق. ولا تيأس مهما سقطت، ومهما فشلت في تنفيذ وصية الله بل شجّع نفسك، وقل: لابد أن اثبت وارجع إلى الله مهما حاول الشيطان تعطيلي. سأسير نحو الله، حتى إن كنت أجرّ رجليّ جرًا إليه. ومهما سقطت في الطريق، سأقوم مرة أخرى وأكمل طريقي، وسوف تسندني نعمة الله وقوته...
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
14 أكتوبر 2020
الشك واليأس من حروب الشياطين
الشك:
يعمل الشيطان على زرع الشكوك في كل مجالات الحياة. لأن الإنسان في حالة الشك يكون ضعيفًا, فيتمكن الشيطان من الانتصار عليه وما أسهل عليه أن يغرس الشك في كل العلاقات الاجتماعية: كالشك في إخلاص الزوج أو الزوجة, أو في علاقة الصديق بصديقه, أو الشريك بشريكه في العمل. الشك في صدق الناس وفي أمانتهم وفي حسن نواياهم. وفي نياتهم ومقاصدهم. كل ذلك لكي يزعزع صلة الناس ببعضهم البعض, ويحولها إلى انقسامات ونزاع, ويضيّع الحب الذي هو عماد الحياة الروحية والاجتماعية كلها حتى الأمور التي يمكن أن تمر ببساطة, يعقدها الشيطان بشكوك عديدة, وقد يخلق منها مشاكل عويصة إنه يشكك التلاميذ في موسم الامتحانات... الشك في صعوبة الأسئلة, وفي القدرة على النجاح. وإن أمكن النجاح يثير الشك في إمكانية التفوق والالتحاق بكلية مرموقة. وإن نجح الطالب وتخرج, يقدّم له الشك في إمكانية الحصول على وظيفة كذلك الشك في الأخبار سواء التي تنشر في الصحف, أو التي ترد في كل وسائل الإعلام: هل هي فعلًا حقيقية أم أن وراءها غرضًا معينًا يقصده الكاتب أو المذيع. ويزداد الشك كلما تضاربت الأخبار أو تنوعت أساليب عرضها وقد يتطور الأمر فيشك الإنسان في ذاته, وفي مدى قدرته. وربما يشك في حالته الصحية, وهل هو مريض بالمرض الفلاني, أم أن الأطباء والأقرباء يخفون الأمر عنه أو يهونون عليه وقع الخبر..! وربما فتاة يأتي شاب ليخطبها فتشك في قبوله لها. وهل سيمضى ثم لا يعود.؟!بل أن الشك قد يصل إلى الإيمان أيضًا والعقيدة. مثلما حدث في نشر الشيوعية, وبعض الكتابات الإلحادية, أو في قيام بعض البدع والملل والنحل. ويتساءل العقل في حيرة وفي شك: أين الحقيقة؟وقد يكون الشك في إمكانية الحياة مع الله، وهل هي سهلة أم صعبة؟ والى أي مدى يمكن السلوك بالمبادئ السامية في مجتمعات أنتشر فيها الفساد، وأصبحت الفضيلة فيها محاطة بعقبات وأشواك!والشك عمومًا يحتاج إلى علاج، والى بحث ورويّة واقتناع. وفي العلاقات الاجتماعية ربما يلزمه أحيانًا شيء من المواجهة أو من الصراحة، أو العقاب. وهنا ينبع شك آخر: هل المواجهة أو العتاب تأتى بنتيجة سليمة أم تؤول لها حالة أكثر سوءًا؟! وهل الذي ستواجهه أو تعاتب سيقبل ذلك. أم يغضب ويثور ويهدد؟!
اليأس
أخطر ما في الشك أنه قد يزداد حتى يتحول إلى يأس. على أن اليأس إذا زاد، وإذا سيطر على مشاعر إنسان، فقد يجعله ينحرف أحيانًا ويلجأ إلى حلول غير سليمة فإنسان قد يقع في مشكلة ويحاول أن يصل إلى حلها فلا يعرف. وأخيرًا إن طال الوقت ولم يجد للمشكلة حلًا، قد يلجأ إلى وسائل لا يرضى عنها الضمير مثل الكذب أو الغش أو التحايل مركزّا على الرغبة في الوصول أيًا كانت الوسيلة خاطئة! وإن وبخه ضميره، يرد قائلًا: ماذا افعل! ليس أمامي طريق آخر، لقد يئست هذا الإنسان ينقصه الصبر أو الحكمة، أو على الأقل المشورة أو إنسان آخر تواجهه مشكلة، فيصلى إلى الله كثيرًا أن ينقذه منها. وإذ يمرّ الوقت وتبقى المشكلة قائمة، ربما يدركه اليأس من حلها. ثم يوسوس له الشيطان أنه لا فائدة من الصلاة ولا منفعة، وأن الله لا يسمع أو لا يرحم... ويبدأ إيمانه أن يهتز ولا يعود يصلى من أجل هذه المشكلة ولا من أجل أي سبب آخرشخص آخر تقابله في متاعب في حياته الزوجية، أو خلافات بينه وبين زوجته، ويحاول أن يقنعها بفكره فلا تقتنع، فتبدأ محبته لها أن أن تفتر، ويعمل على استعادة الحب القديم فلا يستطيع... وأخيرًا ييأس من استمرار حياته معها، ويبدأ في التفكير في تطليقها. ويتم الطلاق نتيجة لليأس، ويكون مأساة للأسرة وللأولاد شخص آخر يزداد الخلاف بينه وبين بعض أصدقائه، ويصطدم بحقيقة تزعجه وهى خيانة من البعض، وعدم أمانة من البعض الآخر، فيشك في الصداقة والأصدقاء، وتنحرف نفسيته، فييأس من كل هذه العلاقات، وينعزل بعيدًا عن أي صديق خوفًا من أن تتكرر المأساة. ولا يعود يأتمن أحدًا أو يتحدث بأسراره لأحد!! أو إنسان كان طيب القلب متسامحًا مع الكل، فوجد أنهم يستغلون طيبته ويمتهنون كرامته. ويجد أن الوداعة والتواضع يعتبرهما البعض دليلًا على الضعف. ويتكرر هذا الأمر، فيدركه اليأس من حياة السمو والفضيلة والهدوء، وينقلب إلى صورة عكسية تمامًا في معاملته مع الآخرين.. فلا يعود يغفر أية إساءة لأحد، بل يقابل السيئة بما هو أسوأ منها وإنسان آخر تكثر عليه المشاكل والضيقات ويحتمل على قدر طاقته، ثم يضيق صدره أخيرًا بكثرة الاحتمال. وإذ تزداد آلامه يومًا بعد يوم، ولا يجد معونة من أحد، ولا حلًا لكل ما يكابده، حينئذ يدركه اليأس ويعصره، ويفكر في التخلص من هذه الحياة كلها بالانتحار، نتيجة ليأسه أو شخص آخر يقع في الخطيئة ثم يتوب أو يحاول التوبة، ولكنه يعود للخطيئة مرة أخرى وثانية وثالثة، فيدركه اليأس من حياة التوبة وينغمس في الخطيئة على أنى أري هذه النقطة بالذات من الوقوع في اليأس، تحتاج منا إلى شرح وتفصيل أكثر، بل إلى مقال خاص. فإلى اللقاء في المقال المقبل إن أحبت نعمة الرب وعشنا.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
07 أكتوبر 2020
الذين يجرفهم التيار
يقول أحد الأمثال "من عاشَرَ قومًا أربعين يومًا، صار منهم". وسواء صحّ هذا المثل أو لم يصح، فإنه يدل على مدى تأثير التيار الخارجي على شخصية الإنسان. وفى نفس المعنى قال أحد الأدباء الكبار "قل لي من هم أصدقاؤك، أقول لك من أنت"... وهذا أيضًا يدل على تأثير الصداقة والعشرة في تشكيل طبيعة الشخص. وهذا ما نلاحظه في من يعيشون سنوات طويلة خارج بلادهم -في الغرب مثلًا- فإذا بهم قد تغيروا كثيرًا عما كانوا قبلًا، واستطاع التيار أن يجرفهم... سواء في طباعهم أو عاداتهم أو طريقة تفكيرهم وكثير من السيدات يتأثرون بما يسمونه (الموضة) المنتشرة، من جهة ملابسهن أو زينتهن، أو حتى في أسلوب الحفلات، أو في لكنة الألفاظ... كما أن بعض الشباب تصبح طباعهم بنفس نوعية أصدقائهم. وربما يتعلمون منهم التدرب على التدخين أو ما هو أكثر، وعلى ألوان من اللهو أو الطياشة، أو السهر خارج المنزل. وترى المجموعة كلها بنفس الأخلاق... كل أولئك قد جرفهم التيار ولم يقاوموه التيار المحيط له تأثيره. وقد يكون خاطئًا. وفي نفس الوقت يكون ضاغطًا ويدعو إلى الخضوع له، هامسًا في الأذن "الكل هكذا. فلماذا تشذ أنت، ويكون لك أسلوب خاص، كنشاز في لحن؟!ولا شك أن الشخص القوى يمكنه أن يرد على ذلك قائلًا "يجب علىّ أن أتبع الحق أيًا كان موقعه. حتى إن كانت أغلبية المحيطين بي على خطأ، فإنني لا أسير في تيارهم. فإنه في أيام أبينا نوح، كانت غالبية الناس أشرارً وبقى هو بارًا مع أسرته. وكأن شعاره قول الشاعر:
سأطيع الله حتى لو أطعتُ الله وحدي
على أن الشيطان قد يدفع البعض دفعًا وراء التيار الخاطئ بطرق شتى: أحيانًا يجعل الناس يجارون الخطأ من باب المجاملة، أو من باب الخجل، أو عن طريق التقليد، أو خوفًا من تهكم الناس ومن تعييرهم، أو نتيجة لضغط الظروف الخارجية وإلحاح الآخرين. أو يقول الفكر "هذه المرة فقط ولن تتكرر"! ثم تتكرر طبعًا... وربما شخص يجارى التيار خضوعًا لسلطة أقوى منه. وقد يندفع مع التيار جهلًا أو قد يقول له الشيطان "هل من المعقول أن يكون كل الناس مخطئين، وأنت الوحيد على صواب"؟! هل من المعقول أن كل هؤلاء لا يعرفون أين يوجد الخير والحق، وأنت الوحيد الذي تعرف؟! لذلك اتضع يا أخي.. (ويتضِع الأخ) وينجرف في التياروقد يسير في التيار نتيجة لصداقة أو صحبة خاطئة استطاعت أن تؤثر عليه وتجذبه إلى طريقهاوقد يخضع الإنسان للتيار نتيجة لضعف شخصيته، أو بسبب أن إرادته شبه معدومة أو لا إرادة له. وهكذا لا يقدر على المقاومة، أو يقاوم قليلًا ولا يثبت. بعكس الإنسان القوى الإرادة.. ألسنا نرى أن كتلة ضخمة من الخشب -إذا أُلقيت في البحر- يجذبها تيار الماء في أي اتجاه له. بينما سمكة صغيرة جدًا تستطيع أن تقاوم التيار وتسبح حيثما شاءت، لأن لها إرادة وحياة والعجيب أننا نشاهد خطاة عديدين يكونون أقوياء في دفاعهم عن طريقهم الخاطئ، وفى سخريتهم من الأبرار الذين يرفضون أسلوبهم. ويظلون ينعتون الأبرار بشتى النعوت حتى يضعف أولئك أمامهم ويخضعون! فالفتاة التي ترفض أن تلبس نفس الملابس الخليعة، يهزأون بها، ويصفونها بأنها (فلاحة)! والشاب الذي لا يسير في نفس التيار، يقولون عنه أنه (دَقّة قديمة) أي إنسان غير متمدن! بينما يجب أن يكون الأبرار أقوياء في شخصياتهم، لا يشتركون في الأعمال الخاطئة بل بالحري يوبخونها... فإن لم يستطيعوا توبيخ أولئك، فعلى الأقل لا ينجرفون في تيارهم إن موسى النبي عاش في مصر زمنًا وسط العبادات الفرعونية الكثيرة، ومع ذلك احتفظ بنقاوة إيمانه. ويوسف الصديق عاش فترة في بيت وضغطت عليه الخطيئة من الخارج، ولكنه قاوم ولم يستجب، لأن قوة العفة التي كانت في قلبه، كانت أقوى من الإغراءات التي من الخارج.. وبنفس الروح عاش مؤمنون في أجواء وثنية أو ملحدة -وكانت ضاغطة- ولكنهم احتفظوا بإيمانهم سليمًا لهذا كن شجاعًا وصاحب مبادئ قوية، ولك قيم تتمسك بها. وقاوم التيار المحيط بك إذا أخطأ. ولا تخضع للشيطان وكل نصائحه، بل وكل مخاوفه التي يلقيها في قلبك إن رفضته. وابعد عن الخطأ حتى إن رأيت كبارًا يقعون فيه، أو إن رأيت الشر يهددك... وذا ما وجدت الذين يسيرون في طريق الحق قليلين، فلا يضعف قلبك بهذا السبب. بل اعرف أن هذه هي القلة المختارة أو هي الصفوة ولو وقع غالبية المحيطين بك في خطأ، فإن هذا لا يجعل الخطأ صوابًا. فإن الخطأ هو الخطأ، ووقوع الكثيرين فيه لا يبرره. والمعروف أن الصواب طريقه صعب، وقد لا يستطيعه كل الناس. بل تسير فيه القلة المتميزة بمبادئها وقيمها إن وجدت الذين يعيشون في الفساد قد نموا وارتقوا وارتفع شأنهم، فاحذر أن تقتدي بهم. وإن جذبوك إليهم فابتعد. وإن رأيت غيرك قد استخدموا أسلوب التملق والرياء، واستطاعوا أن يصلوا به إلى ما يريدون، فلا تسايرهم أنت، ولا يقنعك أسلوبهم ولا نجاحهم الذي وصلوا إليه بطريق خاطئ. وإن بدا أن الناس قد تغيروا عن ذي قبل، وقيل لك إن هذه هي لغة العصر، فقل: أما أنا فلغتي التي أتمسك بها هي لغة الضمير الصالح، وهى لغة الحق.وإن ضعفت مقاومتك للتيار، فاطلب معونة من الله. وثق أنه سوف يقويك، ولا يتركك تجاهد وحدك.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
30 سبتمبر 2020
لا تكتسب فضيلة بتحطيم فضيلة أخرى
إن الشيطان يتضايق من فضائلك الثابتة التي صارت وكأنها من طبيعتك، لذلك يحاول أن يحطمها بكافة الحيل. ومن بين هذه الحيل أن يقدم لك فضيلة أخرى جديدة عليك ليست لك بها خبرة، لكي تحل محل الفضيلة الأولى الثابتة. ومن أمثلة ذلك:
1- إن كنت تحيا في وداعة وهدوء ودماثة خلق وسلام قلبي. ويريد الشيطان أن يفقدك كل هذا. فماذا يفعل؟ أنه لا يستطيع أن يذم الرقة والوداعة، أو أن يقول لك "أترك طبعك هذا المحبوب من الكل"... ولكنه يصل إلى غرضه عن طريق الإحلال، ويقدم لك فضيلة بديله، دون أن يشعرك أنها بديلة.. وكيف ذلك؟
يدعوك باسم الحماس في نشر البر، أن تساهم في إصلاح المجتمع، وأن توبخ وتنهر، وتكشف أخطاء الآخرين لكي يخجلوا منها ويتركوها! وتظل تفعل هذا بغير حكمة. وأنت لا تعرف قدر من تتناوله بالنقد، ولا الأسلوب المناسب، ولا ما هي ردود الفعل، ولا بأي سلطان تفعل ذلك. وهكذا تسلك في طريق القسوة والتشهير بالآخرين، وفي أسلوب السب والقذف. وتسودّ صورة الغير في نظرك، وتتحول إلى قنبلة متفجرة تقذف شظاياها في كل اتجاه وهكذا تفقد وداعتك ورقتك. وتكره الناس ويكرهونك. ثم ما تلبث أن تتعب من هذا الأسلوب الذي لا يتفق مع طباعك، وتحاول أن تعود إلى حالتك الأولى، ولكنك لا تجد قلبك نفس القلب، ولا فكرك نفس الفكر. بل ترى أنك قد فقدت بساطتك ونقاوة فكرك، كما فقدت حسن علاقتك بالآخرين وفقدت أمثولتك الصالحة التي كان ينتفع بها غيرك.. وإذا بالشيطان قد أطمعك في فضيلة لا تعرف كيفية السلوك فيها، وأفقدك فضيلتك الأولى! فما احتفظت بالأولى، ولا ربحت الثانية. وصرت في بلبلة ينبغي أن تدرك تمامًا أن أعمال الخير لا يهدم بعضها بعضًا، وأن كل إنسان له شخصيته التي قد تختلف عن غيره، وقد لا يناسبه ما يناسب غيره. وليس كل أحد له سلطان أن يوبخ وينتقد. كما أنه ليس للكل معرفة كيف يستخدم حسنًا فضيلة جديدة عليه.
2- مثال آخر للفضيلة التي يحاول بها الشيطان أن يضيع فضيلة أخرى:
إنسان يعيش في نقاوة القلب، بعيدًا عن العثرات الجسدية. فهو محترس تمامًا، لا يقرأ قراءات ولا ينظر إلى أية مناظر تُعثِره. ولا يختلط بأية خلطة خاطئة، ولا يستمع إلى أية أحاديث طائشة. بل يحتفظ بأفكاره نقية لا تُدخل إلى قلبه شيئًا غير طاهر.. هذا الإنسان يريد الشيطان أن يحاربه، ولا يستطيع أن يقدم له شهوة مكشوفة، لأنه لابد أن يرفضها. فماذا يفعل؟
يفتح أمامه الباب ليكون مرشدًا روحيًا يقود الشباب إلى الطهارة. إذ كيف يعيش في حياة الطهارة وحده، ويترك أولئك المساكين يسقطون كل يوم دون أن يقدم لهم مشورة صالحة تنقذهم مما هم فيه! ويقنعه بأن مَنْ رَدَّ خَاطِئًا عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ، يُخَلِّصُ نَفْسًا مِنَ الْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا (رسالة يعقوب 5: 20). ويظل يثير الحماس في نفسه لكي يقبل هذه الخدمة الروحية الحيوية، وأن يرشد الذين يأتون إليه ثم تأتى الخطوة التالية وهى أنه لكي يكون إرشاده عمليًا، لابد أن يستمع إلى مشاكلهم وأخطائهم. ويظل أولئك يصبّون في أذنيه أخبارهم وقصص سقوطهم. وقد يقولون كل شيء بالتفاصيل. وربما يكون في ما يحكونه ما يعثر.. ويستمع (المرشد) الطاهر إلى كل ما كان يبعد قبلًا عن سماعه، ويعرف ما كان يجب مطلقًا أن يعرفه. وكل واحد من أولئك يقدم صورة جديدة أو صورًا عديدة من الخطأوعن طريق الإرشاد يجد صاحبنا عقله وقد امتلأ بصور دنسة. وأصبح يعرف أشياء صارت تشوّه طهارة تفكيره، وتدنسه بأخبار وقصص مجرد ذكرها قبيح. وإن لم تعثره وتغرس فيه انفعالات خاطئة، فعلى الأقل تنجس فكره، وكأنه قد قطف أثمارًا غريبة من شجرة معرفة الخير والشر..!
فإن حاول أن يبتعد، يُقال له: وما ذنب هؤلاء الشبان؟!وقد يكونون قد تعلقوا به واستراحوا إلى إرشاده. وربما يتعبون ضميره بأنهم -إن تخلى عنهم- قد يرجعون إلى خطاياهم! ويلحّون عليه أن يظل يسندهم حتى يقفوا على أرجلهم.. ربما هو يكون قد رسبت في ذهنه -ولو بالسمع- صور لم ينظرها من قبل، وربما يسقط بالفكر، ويكون الشيطان قد نجح في إسقاطه وافقده نقاوته الأولى.
3- وقد تأتى حيلة الشيطان في عرض الإرشاد بصورة أخرى، يقدّم فيها -لا أخبارًا تدنس القلب- بل شكوكًا تتعب العقل إذ يكون القلب في بساطة الإيمان، وتكون قراءاته كلها روحية تعمّق صلته بالله. ثم يأتي من يطلبون معونته وإرشاده في شكوك عقيدية أو إيمانية تتعبهم. وتتوالى الشكوك من هنا وهناك لكي تجد لها حلًا، ويبدأ إيمان هذا (المرشد) أن يتحول شيئًا فشيئًا من القلب إلى الفكر والبحث العلمي. وقليلون من يتقنون الأمرين معًا ويجد أن الشكوك تتكاثر عليه، وليست له موهبة الرد عليها وينبغي أن نعرف أنه ليس كل أحد له القدرة على الإرشاد. فالذين لهم هذه الموهبة، لا يصيبهم ضرر سواء من المشاكل الروحية وسماع الخطايا الجسدية، أو من المشاكل العقائدية وسماع الشكوك.ولكن حيلة الشيطان الماكرة هي أنه يقدم الإرشاد للذين ليست لهم الموهبة، فيصيبهم منه ضرر. كما انه يقدم لهم ذلك بأسلوب ضاغط، يشعرهم به أنه ضرورة ملحة وأنه واجب مقدس وما أسهل على القلب المتضع أن يرد قائلًا "ولكنني لا أعرف. أنا الذي لم أستطع أن ارشد نفسي، كيف يمكنني إرشاد آخرين؟!
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
23 سبتمبر 2020
الوداعة ودماثة الخُلق
من هو الإنسان الوديع؟ وما صفاته وبناء شخصيته؟
الإنسان الوديع هو الشخص الطيب المسالم. وكثير من الناس يستخدمون صفة الطيب بدلًا من صفة الوديع. وهو عمومًا إنسان هادئ بعيد عن العنف. هو هادئ في طبعه. هادئ الأعصاب، وهادئ الألفاظ والملامح، وهادئ الحركات فالهدوء يشمل كله من الداخل والخارج. فهو هادئ في قلبه ومشاعره، وهادئ أيضًا في تعامله مع الآخرين، ويتصف بالحلم فهو حليم في أخلاقه وقد قيل عن السيد المسيح في وداعته إنه "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ". فهكذا يكون الوديع بعيدًا عن الصخب والضوضاء. لا يصيح. بل حينما يتكلم، يتصف كلامه بالهدوء واللطف، يختار ألفاظه بكل دماثة وأدب. لا يجرح بها شعور إنسان أيًا كان. حتى إن كان ذلك الشخص مثل فتيلة مدخنة، لا يطفئها، فربما تمر عليها ريح فتشعلها يعمل كل ذلك -لا عن ضعف- وإنما عن لطف يذكرني هذا الأمر بقصيدة كنت قد نظمتها منذ حوالي 56 عامًا في يوم الأربعين لأستاذ وديع كنت أحبه، وقلت فيه:
يا قويًا ليس في طبعه عنفٌ ووديعًا ليس في ذاته ضعفُ
يا حكيمًا أدّب الناس وفي زجره حبّ وفي صوته عطفُ
لك أسلوب نزيه طاهر ولسان أبيض الألفاظ عَفٌ
لم تنل بالذمّ مخلوقًا ولم تذكر السوء إذا ما حلّ وصفُ
إنما بالحب والتشجيع قد تصلح الأعوجَ، والأكدرُ يحنو
الإنسان الوديع يكون أيضًا بعيدًا عن العنف وعن الغضب هو إنسان هادئ لا يثور ولا يثار. لا يحتد ويغضب بسرعة ولا يبطئ. ولا ينفعل الانفعالات الشديدة، ولا تغلبه النرفزة (العصبية)، لأنه هادئ باستمرار، يتصف بالطيبة والبشاشة. لا ينتقم لنفسه، ولا يحلّ مشاكله بالشدة. بل إن حدث وأساء إليه أحد، يقابل ذلك بالاحتمال والصبر والإنسان الوديع لا يقيم نفسه رقيبًا على الناس وتصرفاتهم. إنه لا يقيم نفسه قاضيًا، ولا يتدخل فيما يفعله غيره. ولا يعطى نفسه سلطة مراقبة الآخرين والحكم على أعمالهم. وإن اضطرته الضرورة إلى الحكم، لا يقسو في أحكامه وقد يغلبه الحياء، فلا يرفع بصره ليملأ عينيه من وجه إنسان. إنه لا يفحص ملامح غيره ليحكم على مشاعره ماذا تكون، أو ما مدى صدق الغير في كلامه.. وإن حورب بذلك يقول لنفسه: "أنا مالي، خلّيني في حالي". هو بطبيعته الوديعة لا يميل إلى فحص أعمال الناس..
وإن تدخّل في الإصلاح، يُصلح بهدوء ووداعة ورقة.والإنسان الوديع يكون دائمًا سهل التعامل مع الغير. يستطيع كل شخص أن يأخذ معه ويعطى... إنه سهلّ في نقاشه وحواره. لا يحتد ولا يشتد. ولا يستاء من عبارة معينة يقولها من يحاوره. بل يشعر المتناقش معه براحة مهما كان معارضًا له. يعرف أنه سوف لا يغضب عليه، وسوف لا يحاسبه على كل لفظ مما يقوله الإنسان الوديع بشوش، لا يعبس في وجه أحد. له ابتسامة حلوة محببة إلى الناس، وملامح سمحة مريحة لكل من يتأملها. لا تسمح له طبيعته الهادئة أن يزجر أو يوبخ أو يحتد أو يشتد، أو أن يغير صوته في زجر إنسان ومهما عومل، لا يتذمر ولا يتضجر ولا يشكو. بل غالبًا ما يلتمس العذر لغيره، وفى ذهنه يبرر مسلكه، ولا يظن فيه سوءًا، وكأن شيئًا لم يحدث. فلا يتحدث عن إساءة الناس إليه، ولا يحزن بسبب ذلك في قلبه. وإن حدث وتأثر بسبب ذلك أو غضب، سرعان ما يزول تأثره. ولا يمكن أن يتحول حزنه أو غضبه إلى حقد، بل ما أسرع أن يصفوإنه إنسان بطئ الغضب. لا يغضب لأي سبب. أما إذا غضب الوديع، فلابد أن أمرًا خطيرًا قد دعاه إلى ذلك. وغالبًا ما يكون غضبه لأجل الخير ولأجل الغير، وليس لأجل نفسه أو بسبب كرامته أو حقوقه الشخصية... وإذا غضب الوديع فإنه لا يثور ولا يفقد أعصابه، إنما يكون غضبه هو مجرد تعبير عن عدم موافقته وعدم رضاه عما يحدث. فهو عمومًا أعصابه هادئة. وإذا انفعل لا يشتعل والإنسان الوديع هو بطبيعته مسالم، لا ينتقم لنفسه. لا يقابل الشر بمثله، ولا يرد على السيئة بما يشبهها. إنما هو كثير الاحتمال. لا يدافع عن نفسه. بل غالبًا ما يدافع عنه غيره، موبخين من يسئ إليه بقولهم "ألم تجد سوى هذا الإنسان الطيب لكي تسئ إليه؟!". فالوديع لا يؤذى أحدًا، ويحتمل أذى المخطئين والوديع له سلام في داخله، فلا ينزعج ولا يضطرب. فكل المشاكل الخارجية لا تستطيع أن تعكر صفوه الداخل. وكما قال أحد الآباء "سهل عليك أن تحرّك جبلًا من موضعه. وليس سهلًا أن تثير إنسانًا وديعًا"والوديع لا يصطنع الهدوء. إنما كما خارجه، هكذا داخله أيضًا. إنه كصخرة أو جندل في نهر، مهما صدمته الأمواج لا يتزعزع والوديع بعيد عن المجادلة والمحارنة. أو ما يسميه العامية (المقاومة في الكلام). لأنه لا يجاهد لكي يقيم كلمته أو لكي ينتصر في المناقشات. إنما هو يقول رأيه ويثبته، وليقبله من يشاء ومتى يشاء، دون أن يدخل في صراع جدلي يفقده هدوءه والوديع لا يوجد في تفكيره خبث ولا دهاء ولا تعقيد... لا يقول شيئًا وفي نيته شيء آخر. بل الذي في قلبه هو الذي على لسانه. وما يقوله لسانه إنما يعبر عن حقيقة ما في قلبه، فليس عنده التواء، ولا يدبر خططًا في الخفاء. بل هو إنسان واضح، يتميز بالصراحة، يمكن لمن يتعامل معه أن يطمئن إليه تمامًا. فهو شخص بسيط، لا حويط ولا غويط إنه يمر على الحياة، كما يمر النسيم الهادئ على سطح الماء.. فهو لا يُحدث في الأرض عاصفة ولا زوبعة، ولا يُحدث في البحر أمواجًا ولا دوامات. فهو لا يحب أن يحيا في جو فيه زوابع ودوامات لأن كل ذلك لا يتفق مع طبعه، ولا مع هدوئه ولا لطفه، ولا مع أسلوبه في الحياة. لذلك كل من يعاشر يلتذ بعشرته. فهو إنسان طيّب لا يصطدم بأحد، ولا يزاحم غيره في طريق الحياة. وإن صادف في طريقه مشاكل، فإنه يمررها، ولا يدعها تمرره...
وأخيرًا هناك نوعان من الودعاء: أحدهما وُلد هكذا، والثاني اكتسب الوداعة بجهاد وتداريب وبعمل النعمة فيه على أن في حديثنا عن الوداعة، لا يفوتنا أن ننسى ما يعطلنا. فأحيانًا تقف ضدها الإدارة والسلطة. فالبعض إذ يمارس الأمر والنهى، والتحقيق والمعاقبة، ويكون من واجبه مراقبة الآخرين وتصريف أمورهم، قد يفقد وداعته أحيانًا، ويرى في الحزم والعزم والحسم ما يبرر له العنف في بعض الأوقات. ولكن مغبوط هو الذي يحتفظ بوداعته فيما يمارس عمل السلطة... وهنا يبدو أن موضوعنا هذا يحتاج إلى تكملة...
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد