المقالات
25 نوفمبر 2024
قضية العفة من منطلق مسيحى (٤)
العفة والوسط الاجتماعي
هل تتأثر العفة بالوسط الاجتماعي ؟ وإذا كانت تتأثر بالأجواء الاجتماعية فما هو الحل ؟ هل يهرب الانسان من وسطه ؟ أم يغير أجواءه ؟ وإذا لم يستطع أن يغير الجو الاجتماعي الذي يحيا فيه فما التصرف إذن ؟ !
العفة لا تتاثر بالوسط الاجتماعي :
العفة اذا تأصلت في انسان روحي فانها لا تتاثر بالوسط الاجتماعي ، بل انها تؤثر فيه تشكله ولا تتشكل به ، تحكم عليه وتدينه ولا يحكم عليها من أحد العفة إذا ما تعمقت جذورها في حياة أولاد الله تصبح كالشجرة القوية التي على مجارى المياه تصد الرياح وتحطمها ولا تستطيع الأنواء أن تقتلع منها فرعا ولا أصلا العفة هي نمط حياة الانسان الذي تمرس في السلوك الروحاني وعرف المنهج المبارك وإختبر مسالك الطريق السماوى فلا إنحناء تدخله
في التيه ولا فخاخ تسقطه في العثرة والهلاك وعندنا في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة نذكر منها نوح كارز البر حفظه الرب وحده ، وجلب طوفانا على عالم الفجار كله .
لوط البار كان بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يوماً فيوماً،نفسه البارة بالأفعال الأثيمة . لقد أنقذه الرب من مدينة الدعارة ويعلم الرب أن ينقذ أتقياءه من التجربة ويحفظ الأئمة إلى يوم الدين معاقبين (۲ بط ۹:۲ ) ويوسف العفيف عاش في بيت العثرة وكانت الخطيئة تلح عليه يومياً ، وظل أميناً ، مفضلا بالأحرى أن يدفع إلى السجن عرياناً وهو لابس ثوب العفة أمام الله وسوسنة العفيفة في العهد القديم وبوطامينا العفيفة في تاريخ
الكتبسة وجاورجيوس ، وبربارة ، وألوف من شهداء العفة، إنما هم مشاعل تضيء درب القداسة لمن يريد أن يهتدى ويسير فيه على ذلك تستطيع أن نقول ان كثيرا من الاعذار التي يبديها الشبان والشابات عن سقطاتهم وعثراتهم ، انما هي أعذار واهية نحتاج في جيلنا هذا إلى أناس راسخين غير متزعزين ، ثابتين على الايمان ، أمناء في الشهادة ، أقوياء في القتال يتحدون الصعاب ،و يبطلون كل حروب العدو ، ويصعدون إلى قمم الفضيلة محمولين على أجنحة النسور والعفة تتأثر أحياناً بالأجواء الإجتماعية :
فالفتي المبتدىء فى حياته الروحية إذا عاش في جو كله مناظر معثرة وحروب جنسية شديدة ، قد يؤثر عليه المناخ الذي يحياه فيسقط والفتاة المبتدئة فى إختبار الحياة الجديدة ، إذا لم تقطع صلتها بالمعثرين ، وترفض العلاقات الشبابية ، قلما تستطيع أن تواكب الطريق الروحاني هنا يقول الكتاب "أما الشهوات الشبابية فاهرب منها ، واتبع البر والايمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقی "( ۲تی ۲ : ۲۲) كما يقول أيضاً :
"لا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم فتختبروا ما هى إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة " ( رو ۱۲ : ۲ ) وقد يقول قائل : إنى قوى ،والدعوة إلى الهروب هي دعوة للضعفاء، نقول له إن الخطية قد طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء وإن هناك ناموسا في داخل الانسان يسبيه إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائه (رؤ ٧ : ٢٣ ) لأجل هذا يعتبر الهروب قوة وجبروتا ونصرة ، لأنه انتصار على میدانين : أحدهما في الخارج ، والآخر في الداخل أما إذا كان الحروب مستحيلا ، بسبب بعدى الزمان أو المكان ،فهنا يأتينا القول الالهى و إسهروا - اثبتوا - كونوا رجالا . تقووا : (١كو ١٣:١٦ ) يحتاج الموقف إلى إيمان وصمود ، وكذلك إلى اتضاع مستمر . وهنا يصلح تدريب صلاة "اللهم التفت إلى معونتي يا رب أسرع وأعنى "صفوة القول انه ان امكنك تغيير الوسط التبعد عن العشرة ، فلا تتوان ، فهذا أفضل . ولكنه ان استحال التغيير ، فالأمر يتطلب معونة مستمرة وحيثما كثرت الخطية ازدادت نعمة الله وتفاضلت جدا
هنا اكليل كأكليل الشهداء . هذا ما يقوله أحد الآباء القديسين الاكليل يأخذه الشهداء في لحظة انتصار وأما مناضلو العفة ينالونه بعد جهاد زمن وعمر طويل والله لا ينسى تعب المحبة أيها الأحباء الرب آت قريباً تشددوا وتشجعوا وكونوا رجالا .
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الرابع الاربعون عام ١٩٧٥
المزيد
18 نوفمبر 2024
قضية العفة من منطلق مسيحى (٣)
العفة والنمو النفسي
السنوات الأولى وأثرها :
لقد أوضحت الدراسات النفسية أن السنوات الخمس الأولى من حياة الانسان لها دور فعال للغاية في تشكيل الجهاز النفسي للانسان . هذا ما يسميه رجال علم النفس بالاتجاهات أو المواقف النفسية Attitud والميول Tendencies انما تبدا جذورها الأولى في هذه المرحلة المبكرة ولان هذه الاتجاهات عميقة ولها قدرة ضخمة في التحكم في حياة الانسان الداخلية - وأنشطته المختلفة ، فإنه من السهل علينا أن ندرك خطورة هذه المرحلة على الحياة الجنسية عند الانسان . بل إن كثيراً من العقد النفسية ، وما يتصل بها من نواحي الجنس ، تكمن أصولها في المراحل المبكرة من حياة الإنسان .
المراهقة وفاعليتها :
وكما أن السنين الأولى من عمر الانسان لها أثرها في النمو النفسي الوجداني وبالتالى فى النمو الجنسي ، هكذا أيضاً لمرحلة المراهقة أثرها الكبير في قضية العفة . فالمراهق يشعر في قرارة نفسه برغبات غامضة توجه له نداءات قوية وخفية ، وهو يتذبذب بين الفرح والحزن وبين الياس والجمود، وبين الميل الشديد واللامبالاة، بين حركات الطفولة والتزام الرجولة .ويقع المراهق في صراع عنيف بسبب الاثارات الخارجية العنيفة ،المواجهة بين وسائل الاعلام واباحية الموضات وما يقابل هذه المثيرات
من قیم روحية ودينية تعلمها فى الكنيسة ومن الكتاب المقدس والمرشدين الروحيين بل وكثيراً ما يظل هذا الصراع عنيفاً ولا يعرف له مصالحة مزيده حدة توجيهات الكبار : فبعضها حرفى متزمت وبعضها متساهل وبعضها يركز على الداخل والبعض الآخر يهتم بالشكليات و الممارسات الخارجية وقد ثبت علميا أن للحياة النفسية أكبر الأثر على الحياة الجنسية . فالانسان عندما يقع فى الضيق والملل والحزن الشديد والفشل وخيبة الأمل، تثور عنده الغريزة الجنسية ولهذا تفسير نفسى معروف . ومما يؤكد هذا الاتجاه أن المراهقين الذين يعيشون فى حرمان شديد وقسوة وبعد عن الوالدين كثيراً ما يسقطون فى العادة السرية والشذوذ والانحراف وكما أن عقدة النقص تؤثر في عفة الانسان ، هكذا عقدة الكبرياء والعجب والخيلاء لها فاعليتها في هذا المضمار فالفتاة أو الشاب المعجب بجماله أو صوته أو قوامه أو مواهبه أو تفوقه ، يتمركز فى ذاته . وهذا يؤدى إلى ما يسمى بالنرجسية ( Narcissism ) التي تعبر عن نفسها أعمق تعبير في نفس الانحرافات التي يعاني منها أصحاب عقدة النقص .
عمل النعمة في الجهاز النفسي :
هل معنى هذا أن كل حزين لا بد أن يسقط ؟ وان كل معجب بنفسه لا بد أن ينحرف ؟
لقد أعطانا الرب يسوع علاجاً لكل متاعبنا النفسية . إذ يعلم هو بضعف و نقص البشرية . فقد أتى بنفسه ليدخل إلى متاعبنا الداخلية كما دخل العلية والأبواب مغلقة، وعندما دخل قال لتلاميذه سلام لكم ففرحوا إذ رأوا الرب هكذا نحن نحتاج إلى اللقيا والسلام كل الذين تدربوا على أن يسلموا حياتهم بكل ما فيها من متاعب وآلام لكي يعمل فيها الرب يسوع ، وبروح الطلبة والتضرع تذللوا أمام الله لكي يملا حياتهم الداخلية أمكنهم أن يتجاوزوا انفسهم ويعيشوا في اختبار النصرة والفرح سلام الله الذى يفوق كل عقل يحفظ عقولنا وقلوبنا وأفكارنا وجميع أجهزتنا في المسيح يسوع والفرح الذي لنا في الرجاء ،والبهجة التي لنا فى الخلاص ، والنعمة الغنية التي لنا في الأسرار الإلهية ،تزيل عقد النقص والكبرياء وبصمات الطفولة ولهب المراهقة . ويملا الرب حياتنا بوعده الأمين ها أنا أصنع كل شيء جديداً .
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الثالث الاربعون عام ١٩٧٥
المزيد
11 نوفمبر 2024
من واقع مشكلات الشباب
( التحديات الثلاث )
أود أن أحدثكم عن ثلاث قضايا شبابية ، تعتبر بمثابة أهم التحديات العصرية التي يلزم مواجهتها بمنهج متعمق وبأسلوب عصري سليم :
۱ - مشكلة السطحية .
٢ - مشكلة القلق
٣- مشكلة الاندفاع والعنف .
السطحية :
العمق مرتبط صميمياً بالتفهم الواعي للكيان والصورة الإلهية والسطحية مرتبطة أيضاً بضياع هذا الوعي اللاهوتي ان يعتبر الانسان نفسه حلقة من حلقات التطور المادي فحسب هبوط بالبشرية الى المادة الصرفة وانزلاق نحو السطحية في فهم أمور الحياة أما ان اتاكد اني مخلوق على صورة الله ومثاله ، فهذا يلقى على تبعة الأصالة والعمق، والدخول الى اعماق الكيان، لتحقيق
مقاصد الله في ذاتي وفي البشرية كلها الشباب في أمريكا - كما رأيتهم - لا يعبأون بأصالتهم الروحية ، ويكتفون بواقعهم المادى وتشجعهم على هذا وسائل الإعلام والابحاث العلمية المادية الصرفة وكأن نظرية أصل الانواع لدارون هي انجيل العصر الحديث وكأن المادة هي محرك الحياة كما ادعى ماركس !!
وبات الانسان تائها وسط هذه النظريات ، يبحث عن نفسه الأصيلة فلا يجدها ، فيغرقها في العمل والتلهي معاً ....
انني لست هذا الجسد المادي من قال اني اجهزة معقدة تعمل في انسجام ،لأجل لقمة العيش وانجاب النسل ؟ !
إنى وإن كنت مأخوذاً من التراب حقاً، وإن كنت مرتبطاً كيانياً بالكون المادى لاني مأخوذ منه . ولكني أنا أيضاً نفخة إلهية ، وخلق فريد ، وكيان يحمل السمائي والأرضى معاً إنسانيتي على صورة الله ومثاله وأنا مدعو لتحقيقها في كياني وفي الأرض كلها من مثل الإنسان، على صورة الله في الإرادة والحرية والعقل والانتاج ..؟
ان أهملنا كياننا هذا ، فنحن في ضياع وهبوط ، في دوامة السطحية والقلق والسام وضلال في التيه والاغتراب أن أعمل بعمق فهذا لأن الله أمرني أن أخضع الكون وأسوده
أن أعمل بأصالة ، فهذا لأنى كاهن الخليقة كلها والمسئول عنها أمام الله أن أعمل بذكاء ، فهذا لأني مدعو إلى هذه الحياة في كياني وعقلي وقدرتي فالأمر إذن جد خطير ، والهدف من الحياة ووضوح الرؤية وتبيان الرسالة ، هي بالحقيقة إلهامات العمق ومصادره الأصيلة إن كنت مسيحياً حقاً ، فإني مدعو أن أشارك إلهى في عمله الخلاصي ان كنت ابنا للكنيسة بالروح والحق فرسالتي ان احول العالم الى كنيسة إن كنت منفعلا برسالة الانجيل
وبشارة الملكوت ، فلن أكون بعد سطحياً في كلامي و نظراتي وإتجاهاتى ولن أذهب وراء اللذة السطحية ، بل أحيا في الفرح الأصيل الذي قيل عنه إنه فرح لا ينطق به ومجيد والعمق مرتبط بالهدوء والتأمل ومحاسبة النفس لأجل هذا حرص العلماء والفلاسفة واللاهوتيون والرهبان أن يعيشوا بعيداً عن الصخب والضجيج ومشتتات الفكر والحياة.كان لا بد من الصعود على جبل طابور ليحدث التجلى وكان لابد من الارتفاع إلى جبل الموعظة لسماع التطويبات الخالدة وكان لابد من السجود بروح الخشوع والهدوء والصلاة لتنزل ألسنة نارية يوم العنصرة انها دعوة الى شبابنا أن يقاوم سطحية العصر ، بالتفهم الواعي لكيانه ، وتحقيق دعوته ورسالته ، والتأمل الدائم في مسيرة حياته.
القلق :
في نظر أهل العالم الوجود الانساني نسيج من التوتر والقلق لأنه يجمع بين المتناقضات أبدية وزمنية ،مخاطرة وكسب ، حياة وموت ، اتصال و صراع توتر دائم بين المتناهي واللامتناهي وعند كير كجورد الفيلسوف الوجودي أنه لا تستطيع أية حياة إنسانية أن تفلت من القلق ، والقلق عنده كاليأس علامة من علامات الوجود . أما الأول فيسبق الحرية وأما الآخر فيأتي في أعقابها .
بل قد وصل الأمر عند الوجوديين ، أنه لا شيء يستطيع أن يقوى الشعور بالوجود كالهم والقلق ، وأن الانسان وهو في الأسى يشعر أنه موجود، أكثر بكثير مما يشعر بذلك وهو في السرور هذه القسوة في النظرة الفلسفية مرجعها ضياع مفهوم الحزية الأصيل والتركيز على حرية الإختيار فحسب كما أكد سارتر ولكن الحرية عند المؤمن هي حرية الفعل أنتم عبيد للذي تطيعونه إما للخطية للموت أو الطاعة للبر ( رو ٦ : ١٦ ) لما كنتم عبيد الخطية كنتم أحراراً من البر وإذ اعتقتم من الخطية صرتم عبيداً للبر . وصار لكم ثمركم القداسة والنهاية حياة أبدية الحرية عند الشاب المسيحي هي أن يتحرر من عبودية الذات والخوف من الموت. وهو يعلم انه اذا حرره المسيح فبالحقيقة يكون حرا ويرتبط القلق أيضا بضياع انجيل
الخلاص الشباب يستعبد للخطية ولا يريد أن يواجه نفسه لقد كلمنا اللاهوتي شمعان في مقاله عن الاعتراف قائلا : انه عندما كان كاهنا للارثوذكس في فيلادلفيا ، لم يتقدم إليه طيلة مدة خدمته الطويلة شاب يطلب الخلاص من الخطية ولكن تقدم كثيرون يطلبون الارشاد لحسن التكيف مع المجتمع لهذا يصرخ قائلا :على الكنيسة الأرثوذكسية أن تحمل رسالة الخلاص ، وتواجه بها ضمير العالم الميت » . فالانسان الخاطيء ميت ، وبدون الصليب لا حياة أبدية . وإنه إن تبررنا بالايمان فلنا سلام مع الله . وهذا السلام يفوق كل عقل في المسيح يسوع ، ويرفع عنا
كل قلق وكل حزن ردىء ووجع القلب فاختفاء بشارة الفرح وبشرى الخلاص ، تؤدى الى حزن النفس الداخل وقلقها ودورانها حول ذاتها . المسيحي المؤمن فرح لأن بهجة الخلاص تملأ قلبه ، ونعمة بشارة الملكوت تغطى حياته وفرح الأبدية قد غطاه وملاه ، كما ينحدر الطيب من لحية هرون إلى جيب قميصه ، وكما ينحدر الندى
الطيب على جبل حرمون حيث أمر الرب بالبركة والحياة إلى الأبد .
٣- - الاندفاع والعنف :
العنف في حياة الشباب قد يتخذ صورة فكرية عندما ينحرف الشباب نحو الشكوك والنظريات والأيديولوجيات السلبية والالحادية وقد يتخذ طابعاً نفسياً عندما يعيش الشاب حياة التعصب والتحيز التعصب اندفاع نفسى منغلق، والمسيحية ترفضه لأنها تؤمن بالحق والحق يملك قدرته على إثبات وجوده دون انغلاقية حركات العنف والتهور السائدة بين شباب العالم في الخارج تكشف عن فشل المجتمع في استخدام طاقات الشبيبة ولهيب حماسهم ، تجاه ما هو حق وجليل وطاهر وصيته حسن .
العنف الاجرائي يحمل كبرياء و احتقارا للآخرين الوديع يصنع حواراً ويجرى وراء الحق أينما كان العنيف يتعامل مع الآخر كأنه شيء يعصف به ، وليس كشخص مخلوق على صورة الله يستحق الاحترام، مهما كان فكره أو مذهبه أو دينه الاندفاع عندما يتقدس بالحياة الروحية وعمل النعمة ، يتحول إلى غيرة وحماس إيجابي والغيور خادم صالح للجميع مأساة الانسان الجسدى أنه :
فقد الوحدة مع الله ، فعاش في السطحية.
وفقد الوحدة مع نفسه . فعاش في القلق.
وفقد الوحدة والحب مع الآخرين، فعاش في الاندفاع والعنف وليس من علاج يقدم سوى أن يعود الإنسان إلى أصالته في :
حياة الشركة مع الله بالصلاة والأفخارستيا وحياة السلام مع نفسه بالإيمان والمصالحة مع الله وحياة الحب مع الآخرين بالخدمة والود وبذل الذات وهذا هو عمل الكنيسة تجاه التحديات الثلاث .
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الثانى الاربعون عام ١٩٧٥
المزيد
04 نوفمبر 2024
قضية العفة من منطلق مسيحى
الجسد والعفة
عندما نقول كلمة الجسد فنحن نعنى مفهومين .. الجسد بمعنى البدن والجسد بمعنى الإنسان العتيق الفاسد .. وكلا الجانبين لهما علاقة وثيقة بقضية العفة .
العفة والبدن :
والبدن يؤثر في العفة ويتأثر بها . يؤثر فيها من خلال الحواس والغدد الصماء وافرازات الهرمونات إن أي اختلال في الهرمونات يؤثر على الدافع الجنسي تأثيراً كبيراً كما أن الأبحاث العلمية أثبتت أن الطعام له علاقة كبيرة بالجنس الافراط في الأكل والنهم يثير الدافع الجنسي والجوع الشديد جدا يثير الجهاز العصبي وبالتالي التناسلي للطعام تأثير على الجهاز العصبي اللا إرادي .. هذا الجهاز الذي يقوم بوظيفتين متقابلتين : إحداهما بناءة ، تبنى أنسجة الجسم خلالها ، والأخرى إستهلاكية ، تستهلك المواد الغذائية . فالوظيفة الأولى تجمع تحتها العمليات الحيوية التى تؤدى إلى هذا البناء ، ومنها الراحة والاستجمام وتناول الطعام وهضمه ، وأيضاً العملية الجنسية التناسلية ،حيث أنه بها يبدأ بناء كائن حي جديد وهو الجنين فحيث أن هذه الثلاث تخدم غرضاً واحداً هو بناء الجسم، لذلك لا عجب أن نجد ترابطاً وتناسقاً كبيراً بينها . فكل عملية تؤدى إلى الاثنتين الأخريين ، أو تمهد لهما الطعام الدسم جدا مثلا يثير الرغبة الجنسية ، بينما يعقب العملية الجنسية شعور بالجوع وهكذا ومن هنا تتضح أهمية اليقظة والاعتدال
في كل من الطعام والراحة وهذا ما أوصى به الآباء القديسون في - تعليمهم عن العفة قبل أن تظهر الأبحاث الحديثة والعناية بالنظافة وسلامة البدن صحياً وممارسة الرياضة والوقاية من كافة الأمراض الجسمية أمور تسهم بدور إيجابى فى قضية العفة حيث هنا يكون الإنسان الطبيعي سوياً كى يتلامس مع النعمة ليكون إنساناً جديداً في كل شيء ومن أكثر الأمور الخاطئة شيوعا أن ينظر المسيحي إلى جسده وبدنه نظرة عداء وكراهية واحتقار .
فالرسول يعطى الكرامة للجسد عندما يقول "ولكن الجسد ليس للزنا بل للرب والرب للجسد ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية" (١ كو ٦: ١٣)
إن الجسد مسيحياً هو مجال لإظهار مجد الله ويعبر عن هذا المغبوط بولس "لانكم اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هى الله" ( ١ کو ٦ : ٢٠ ) ويتأثر الجسد بالعفة والطهارة تأثرا واضحا فجسد المؤمن الروحي التقى شيء ، وجسد الساقط في بالوعة الزنا جسد آخر الاول جسد نورانى ، والثانى جسد كثيف شهواني يتسم بالغضب والدنس معاً وجه القديس فى الايقونة توضع عليه هالة من النور والمجد إشارة إلى فاعلية العفة في حياة القديس وأوجه الخطاة الاشرار
تثير الخوف والشفقة معاً .
العفة صلب للانسان العتيق :
يقول الكتاب : « ان اعثرتك عينك فاقلعها » الهدف اذن هو ضبط الحواس ، وحماية الانسان الداخلي من الاثارات الجنسية المنحرفة ويقول الكتاب : "من نظر إلى إمرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه" والهدف هنا أيضاً هو الحرص على نقاوة القلب وطهارته وإذا كانت الإرادة الهابطة لا تزال عاملة فينا ، وستظل كامنة حتى تنعدم بالموت ، فان المسيحى اليقظ يحرص على صلب هذه الأهواء والشهوات حتى يصبح الداخل عرشاً نقياً للرب ومدينة مقدسة للملك العظيم وقد تكون الارادة البشرية عاجزة عن مواجهة الانسان العتيق الفاسد ، هنا تتدخل النعمة باعتبارها عملا فائقا للطبيعة ، وتمنح الحياة الباطنية قوة لغلبة الإثارة ونعمة لتهدئة الأعضاء ، وعزاء
تجاه الحرمان والمعاناة وكلما جاهد المؤمن جهاداً أميناً لغلبة الجسد ، كلما كان الإكليل المعد عظيما وهذا ما يفسر لنا إستماتة القديسين في الحفاظ على طهارة أجسادهم وأعضائهم ولقد أثبتت الدراسات النفسية الحديثة أن الانفعال الجسدي وحده لا يشبع النفس البشرية ، بل يزيدها عزلة وانقساما وفراغا كما قال الرب يسوع فى حديثه مع السامرية « الذي يشرب من هذا الماء يعطش ، يقول أحد المفكرين المسيحيين و إن الجنس من الأسباب الرئيسية للعزلة الانسانية ، إنه يحدث انقساماً عميقاً في الأنا التي هي بطبيعتها ثنائية الجنس فهي ذكر وأنثى ووجود الجنس يقتضى الانفصال ، والحاجة والشوق والرغبة في أن يجد المرء نفسه في الآخر بيد أن الاتحاد الجسدى للجنسين - وهو الذي ينهي الشهوة الجنسية - ليس فى حد ذاته كافياً للقضاء على العزلة بل إنه على العكس من ذلك قد يزيد من شدة شعور الانسان بعزلته ... ذلك لأن الجنس باعتباره ظاهرة بيولوجية واجتماعية له طابع موضوعى ، ومن ثم فهو عاجز عن الانتصار على العزلة انتصاراً كاملا. أما المحاولة الحقيقية للتغلب على العزلة فلا تكون الا بالاتحاد الروحي فالحب هو أمل الانسان الوحيد في الانتصار على العزلة والحب هو أفضل الوسائل لبلوغ هذه النهاية لأنه هو وحده الذى يستطيع أن يحقق الاندماج الكامل مع كائن آخر أليس هذا متفقاً مع اتجاهات الكتاب المقدس، التي تدعو الانسان أن يحيا في ملء الحب نحو الله ، ونحو أخيه الانسان ؟.. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم في عظة ٣٣ في شرح رسالة كورنثوس الأولى ( الحب الحقيقي فقط هو الذي يستطيع أن يجعل كائنين كائناً واحداً ) هذا المقال نداء الى الشباب الا يجعلوا الجسد هدفا لاسعاد حياتهم، فالانفعال الجسدي ان انفصل عن الاتصال الروحي الحقيقي، لا يحقق الوحدة ، ولا يشبع النفس . ان الحب يفرح بالتلاقي في الانفعال الجسدى ولكنه لا يتحقق اطلاقا الا بالانفعال الروحي.
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الاربعون عام ١٩٧٥
المزيد
28 أكتوبر 2024
قضية العفة من منطلق مسيحى
لماذا العفة ؟
مفهوم العفة مسيحياً :
نقصد بالعفة هذا امتناع الانسان عن الشهوات الجسدية المنحرفة وكل انواع النشاط الجنسي الذي يتعارض مع السلوك الروحي حسب وصايا المسيح.
والعفة بالمنظار المسيحى ليست فضيلة سلبية كما يبدو من مفهومها اللغوى ولكنها في المسيحية فضيلة إيجابية لانها مرتبطة بالمحبة .. لذلك فهي تقوم على البذل والتضحية ، وحب المسيح هو سر القدرة على البذل والتضحية بشهوات الجسد. فشخص المسيح هو حجر الزاوية في حياة العفة ، والرب هو الذي يلهب بروحه القدوس قلب المؤمن بحب العفة وهو الذي يهدى الأعضاء
ويلهم البذل ويهون الاحتمال . . وطنا حب المسيح هو منطلق العفة ، فبالتالي حب الآخر أساس من اسس العفة المسيحية ،فالفتاة تحتشم وتتعفف لأجل للمسيح الذي أحبها وأعطاها وصية القداسة ؟ ولأن أخاها في الكنيسة أو المجتمع قد يعثر بسبب ملبس أو سلوك غير محتشم . والمحبة تضع تحاشى العثرة في المرتبة الأولى في السلوك الإنساني والعفة المسيحية أذن ليست فضيلة اجتماعية مصدرها التنشئة والتربية المنزلية فقط، وانما هي أولا وقبل كل شيء عمل من أعمال النعمة ومفاعيل الروح القدس هي ثمرة من ثمار الحياة الجديدة التي يقبلها الانسان في اطار الولادة التي من فوق .
سمات العفة المسيحية :
العفة المسيحية تتسم بالشمول، فهي ليست منحصرة في الدافع الجنسي فحسب ، وإنما تتعلق بكل ما يختص بالجسد من دوافع وميول واستعدادات وحواس وملبس ومأكل والعفة المسيحية عميقة فهي لا تقف عند حدود تعفف السلوك . وانما تتعداه إلى طهارة الوجدان وقداسة الفكر الداخل ، يكفى أن تشتهي في قلبك فتجرح العفة جرحاً عميقاً ، وتلوث الهيكل ، وتصبح ملوماً ومداناً أمام وصية المفة والعفة المسيحية حياة مستمرة لا تتوقف. إنها ليست متعلقة بسن معين وإنما هي حياة المؤمن طيلة جهاده على الأرض وهي نامية تزداد عمقاً بقدر ما يزداد الإنسان أمانة لروح الله وخضوعاً لمشيئته وطاعة الوصاياه وكلما دخل المؤمن في أعماق العغة كلما استراحت نفسه واستقرت حياته الداخلية إنه بها يتلامس مع الحق الذي فيه ، ويكتشف النور الذي في داخله ويتحسس الملكوت المعد له والخلود الذي خلق لأجله .
لماذا العفة إذن ؟
العفة أولا وقبل كل شيء وصية من وصايا الرب .يكفى أن الله أمرنا ان نكون قديسين كما هو قدوس . واعلن أنه بدون القداسة لن يعاين أحد الرب وإذا كانت الوصية في العهد القديم تملأ اليهودى رعباً ومخافة فكم بالحرى نحن الذين صولحنا مع الله بموته ، وأعطانا الخلاص بدمه ، ووهبنا الحياة الأبدية بحياته كيف لا نطيع من أحبنا وبذل ذاته لاجلنا ؟
يتكلم القديس العظيم الأنبا الطونيوس من أهمية الحقة فيقول" يا أولادي الأحباء فلنجاهد من أجل الطهارة حتى الموت . لنسع بالطهارة يا أخوتى ، فإن ثمر الطهارة هو نور وحق واستيقاظ . فلا تصيروا عبيداً للأوجاع الردينة المرذولة واللذات الشريرة النجسة أمام الله واكتبوا اسم الله على قلوبكم ليصرخ في داخلكم قائلا أنتم هيكل الله الحي ، وموضع راحة للروح القدس أما الذي يسعى في النجاسات فهو ممثلى بالمكر والغضب والمرارة، هو يشبه البهائم الفاقدة لكل معرفة أمام الله يا أولادى لنغض تلك العين الشريرة ونسعى في طلب الطهارة لأنها فخر ملائكة الله وأما القديس الناسيوس الرسول فيرفع حياة العفة الى درجة شهادة بقوله وقد يعرض أن يقول أحد أين هو زمان الاضطهاد حتى لكنت أصير شهيداً .. فأقول له الآن يمكنك أن تكون شهيداً ، إن أردت ... مت عن الخطية . امت اعضاءك التي على الأرض وبذلك تصير شهيدا باختيارك ، فأولئك الشهداء كانوا يقاتلون ملوكا ورؤساء جسديين أما أنت فإنك تقاتل ملك الخطية محتالا عنيداً وكما أن العفة وصية روحية فهي متطلب نفسى واجتماعي أيضا هي تلبية لحاجة عميقة في الإنسان، وملائمة لمقتضيات طبيعته الأساسية، وإسهامه في تحقيق ملء إنسانيته التي لا تكتمل إلا في الشركة والعطاء وإذا كان الإنسان الطبيعي يعجز عن تحقيق تكامل شخصيته لإن استعباده لاحدى الغرائز أو الدوافع الأولية يسقطه في النهم أو الإدمان أو العبودية ، فإن المسيحى الحقيقي تجرى كل غريزة عنده في مجراها ، لتسير بقوة تيارها الطبيعي ، فتخصب وتغنى الواحدة الأخرى ، دون أن تسيطر واحدة على المجال كله دون تضارب أو إنقسام أو عقد أو كبت فالعفة تسهل الحياة النفسية السوية على عكس ما يقوله الاباحيون من أن العفة كيت وانحصار وضيق وفي الحياة الاجتماعية ذاتها نجد العفيف ملجأ وحصنا لكثيرين إليه يلجأ كل متعب ليجد عنده حلا وإجابة لا يجدها في برية العالم التي يسرى فيها تيار الإثم العفة نور وكيف يوقد سراج ويوضع تحت مكيال ؟!
ان العقة المعاشة شهادة وكرازة حية في هذه الأيام تستطيع الكنيسة أن تواجه تحديات العالم ، إن كان أولادها قديسيين ، كتب أحد المدافعين المسيحيين في القرن الثاني الميلادي يقول : " إن وجدتم واحداً من المسيحين زانياً أو سارقاً أو سجيناً فخذونا كلنا لحما وعظماً " الكنيسة الطاهرة كالشمس مرهبة كجيش ذي ألوية.
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الثامن والثلاثون عام ١٩٧٥
المزيد
21 أكتوبر 2024
فلسفة العمل بين أسر الشباب
الشباب هو العصر مكثفا ، وحياة العصر في الضجيج والعمل السريع والتوتر الدائم ، لذلك كثيرا ما تنزعج النفس وتحتاج الى مكان الخلوة والهدوء والراحة ومثل هذه الأماكن تعطى فرصاً للتأمل ومحاسبة النفس ، إنها بمثابة وقوف على ربوة عالية لإستكشاف معالم الطريق وأحوال المسيرة على الدرب خشية حدوث إنحراف أو إغتراب أو إنزلاق اود ان أركز على أربعة نقاط أساسية في العمل الشبابي :
١- إننا نستهدف نمواً متكاملا للشباب .
٢ - إننا نمى توازنا بين أبعاد الثنائيات روحياً واجتماعياً .
٣- إننا نستخدم الطرائق العصرية والتقليدية معاً . ٤- إننا نتعرف على احتياجات الشباب والمجتمع وتمتد بها إلى الأصالة والعمق .
أولا : النمو المتكامل :
في نهاية الإصحاح الثانى من بشاره معلمنا لوقا يتحدث البشير عن الرب يسوع قائلا "وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمه والقامة والنعمة عند الله والناس " لو ٢ : ٥٢
هذا النموذج الذى ينبغى أن يوضع أمامنا ، يعطينا فكرة عن النمو المتكامل ، من كافة الوجوه وسمة العصر تلح علينا بفكرة التكامل ، كما أن لاهوتنا الارثوذكسى يحتم التكامل أيضا الأرثوذكسية هي الاستقامة ، استقامة في السيرة والمنهج، في الخارج والداخل ، في الجسد والروح معاً فيما هو بشرى ، وما هو سماوى أيضاً كيف يمكن أن يكون هناك شاب متقدم في الروحيات ،ولا يعرف كيف يحيا وسط الناس ؟!
وكيف يمكن أن يكون هناك شاب يريد أن يكون مسيحياً ،
ويكتفى بالعلاقات الاجتماعية دون الحياة الباطنية ؟!
فمبدأ التكامل اذن فلسفة وسياسة ونمط حياة ، تلتزم به الخدمة بين أسر الشباب إن فقدان أي جانب من جوانب النمو ، يضعف تكامل الشخصية ،ويشوه خليقة قال عنها الكتاب إنها على صورة الله ومثاله على أنه يلزمنا أن نوضح أن مبدأ التكامل لا يعنى أن الحياة الروحية مجرد جانب من جوانب الشخصية ، وإنما يعنى أن لها مركزاً هو البؤرة ، والمحور ، والمركز الذي تدور حوله كل الأنشطة فنحن نرفض الانجيل الاجتماعي الذي يسود البلاد الغربية الآن ، عندما اكتفت بالخلقيات والفضائل الاجتماعية ، والقت وراء ظهرها رسالة الصليب والخلاص الطرق التربوية التقدمية قد تنشىء إنساناً ، ونحن نحترم إنسانية الإنسان . ولكن الحياة الروحية تخلق قديساً ،ونحن نسعى أن تمتد بالمولود من الجسد ومشيئة الرجل ، إلى أن يحيا وفقاً للميلاد الجديد بالماء والروح قد رأيت بعينى رأسى الكنائس الغربية في الخارج تبذل جهداً جباراً ، وقد نجحت في كل شيء إلا أن توصل المسيح إلى الناس !!
إن كثيرا منها يفتقر إلى شخص الرب يسوع وعمل الروح القدس ان لم تكن أسر الشباب الجامعي هادفة نحو خلاص الانسان ،و تحريره من الخطيئة والذات والخوف من الموت ، فان عملها خارج عن متن رسالة الانجيل وبشارة الملكوت نحن نستطيع أن نقيم جميع أنشطتنا على هذا المعيار ؟ هل عملنا هذا متكامل ومكثف نحو الأبدية هادف إلى خلاص النفس أم لا ؟ !
ثانياً : التوازن بين الثنائيات :
تحفل جميع البلاد الغربية بجميع أنواع الثنائيات لاهوتيا
واجتماعيا فالفكر اللاهوتى عندهم يفصل بين الطبيعتين الإلهية والناسوتية للسيد المسيح . أما نحن فعندنا وحدة اللاهوت والناسوت البلاد الغربية متأثرة إلى يومنا هذا بالفكر الأفلاطوني الذي يقوم على ثنائية المادة والفكر . لهذا تجد الفلسفة الغربية تنحو نحو الديالكتيك والتضاد ، لا إلى التكامل والتصالح لنعرض لبعض الأمثلة على تطبيق هذا المبدأ في عملنا وسط الشباب.
الله والانسان : .واحد يقول العمل هو إلهى فقط "وبالنعمة أنتم مخلصون". . آخر يقول العمل بشرى إلى أبعد حد ، والإنسان يجاهد ليخلص الأول أوغسطيني والثاني بيلاجي والأرثوذكسي يؤمن بالتناغم بين ما هو الهى وما هو انساني النعمة والجهاد معا الايمان والأعمال معا الالهى والانساني معا .
الفرد والجماعة :
واحد يركز على فردية الخلاص . والحياة المسيحية عنده
ديانة شخصية آخر يركز على فكرة شكلية الانتماء إلى الجماعة الكنسية هذا متطرف ، وذاك متطرف أيضاً . أما الأرثوذكسى فهو يؤمن بأن الحياة الروحية شخصية وكنسية معا فالرب عندما صنع الفصح صنعه مع تلاميذه والروح القدس يوم الخمسين ، حل على جماعة الرسل
والمريمات معاً .فالأرثوذكسية إذن تؤمن بتجاوز الفوارق، وتتعدى الحواجز أيضاً مفهوم الكنيسة اذن هو شركة Communion ، والشركة هي شركة - مؤمنين ، مجاهدين معاً بنفس واحدة ، على حد تعبير المغبوط بولس في رسالته إلى أهل فيلبي .
الحرية والسلطة :
هناك أناس عصريون بطريقة جسدية ، يركزون على الحرية بمعنى الإباحية وهناك أناس متزمتون ، يرفضون العصر بكل ما فيه وسلاحهم في هذا السلطة ضد كل ما هو تقدمى البعض يفهم السلطة في الكنيسة استبداداً والبعض يفهم الحرية في الإنجيل تحرراً من الضوابط والجهاد والنسك أما الأرثوذكسيى فيؤمن أن الحرية عنده هي ان يخضع لسلطان الحق بملء ارادته ، والحق يحرره من ذاته وحرية مجد أولاد الله تعطيه انطلاقا في التصرف الى أن يصبح غير مستعبد للناموس، بل يتجاوزه
إلى العبادة بالنعمة والفرح ، لا بالعبودية والخوف ، أي من منطلق جيل التجلى ، وليس من منطلق جيل سيناء
الجسد والروح :
هناك إنسان يرفض كل ما هو جسدى ، ويحتقر المادة المنظورة الأول مقطوع مع مانى والغنوسية المنحرفة ، ومجمع غنغرا وهناك من لا يعطى للروح اهتماماً ، وعينه دائماً على الأمور أعطى للجسد كرامته التي له في الكتاب المقدس كهيكل للروح القدس ومحب للعالم، والكتاب يحذره بالقول الألهى والثاني إنسان مبيع للجسد لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم أما الأرثوذكسى فهو روحي في كل تصرفاته المادية والروحية والقديس يوحنا ذهبي الفم يقول :" ما ليس هو روحاني في جسدياته ، هو جسدي في روحياته ".
المادة والفكر :
هناك إنسان يحب التأملات والأفكار ، ويحتقر الأعمال وخاصة اليدوية وهناك آخر يهزأ بكل الأنشطة، فيما عدا ما هو عملى و يدوى فقط أما الأرثوذكسى فهو يؤمن أن المادة والفكر تصالحا ، كما ان الجسد والروح اتحدا ، كما أن السماء والأرض اقتربتا ، كما أن الرحمة والعدل تلائما الكاهن يأخذ مادة (خبزاً )،ويقول صلاة [ أخذ خبزاً على يديه الطاهرتين ] الفكر والنطق مع المادة الإنسان مع الروح لم تعد هناك ثنائية في الأرثوذكسية .
الزمن والأبدية :
هل هدفنا أن نربى شبابنا ليعيشوا زمانهم فحسب ؟ : . هل هدفنا أن نربى شبابنا للابدية ،رافضين الحياة ،مترفعين
عن مأساة الإنسان ومعاناته ومشكلاته على الأرض ؟ ! الأرثوذكسى يرى أنه في القداس اتحاد بين الزمن والأبدية ، وفي الصلاة وحدة الأمور الحاضرة مع الأخروية . بهذا يحيا ابديته في واقع زمنه الأبدية حاضرة الآن : تأتى ساعة وهي الآن " والأبدية الآتية ، تمنح المؤمنين صبراً في الجهاد، وتهون المعاناة والآلام . في العالم سيكون لكم ضيق ، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم.
ثالثاً : نستخدم الطرائق العصرية والتقليدية معاً :
لا ترفض العصرى لأنه عصرى ، كما لا ترفض التقليدي لانه
تقليدي الطريقة التقليدية في الخدمة هي العظة الكلمة والسر هما أساس الكنيسة لا بد لأولادنا أن يمارسوا حياة الشركة من خلال التناول وممارسة الأسرار وحياة الخدمة في الكنيسة الوظائف الثلاث "الليتورجيا والكينونيا والدياكونيا" متكاملة العمل ونحن أيضاً يلزمنا أن نربى الشباب على ممارسة هذه الثلاث من الطرق العصرية الفيلم - الندوة - المعسكر - الموسيقى والفن والمعرض هذه طرائق ضرورية ، ومفيدة معاً ولكن يلزمنا أن نربي أولادنا على أن يمارسوا عصريتهم بروح آبائية . فالفنان يكون روحياً وليس دنيوياً Secular فهناك ما يسمى بلاهوت الايقونة واللاهوتى بول افديكيموف يقول هناك فارق بين صورة يرسمها فنان عالمى جسدى و اخرى يرسمها راهب قديس الأولى قد تحمل فنا ولكن الثانية تحمل أبدية وعمقا وهناك فارق بين انشودة يرنمها شبان دنیویون و أخرى يرنمها خورس من العابدين الأولى قد تحمل نغما منسجما ولكن الثانية تحمل سر الصمت
والقداسة عصريتنا لا علاقة لها بالعقيدة والايمان ولكن بالأسلوب وطريقة التعبير . رابعا : نمتد بالحاجات إلى الأصالة :
قد نتعرف على الحاجات بالطرق السيكولوجية والتربوية كالاستفتاءات والمقاييس والاختبارات والدراسات المسحية ولكن الكنيسة يلزمها أن تبقى فوق كل هذه الاحتياجات ، تحمل سر القوة لتنتشل كل غريق ، وتسند كل ضعيف، الكنيسة التي تتنازل عن أصوامها وصلواتها مثلما حدث في الغرب ، تفقد عمقها ، ثم تفقد أيضا وجودها يلزمنا أيضاً أن نقدم للشباب ابعاد تمتد به إلى الإتجاهات السائدة وما سيحدث فى العالم من تيارات . أى أن نسبق العصر لا أن نقف عند حدود ما هو حادث وفوق كل دراسة والهامات تبقى الأصالة الحقيقية والحل الجدري لمشاكل الانسان ، أن يحيا الفرد في شركة حب مع الله والناس نسأل الثالوث القدوس حكمة وقوة وسنداً لتكمل رسالة آبائنا ولربنا المجد أمين ؟
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الثالث والثلاثون عام ١٩٧٥
المزيد
14 أكتوبر 2024
الحياة الروحية على مستوى الناموس أو النعمة
التهود ليس مرحلة تاريخية فقط، ولكنه مرحلة سيكولوجية وروحية فجبل سيناء يمثل بالنسبة للبشرية غطا من العلاقة بين الانسان والله ، الانسان ونفسه ، الانسان والآخرين تبنى أسس هذه العلاقة على خوف الانسان من الله ،وفشل الانسان في تحقيق الارتباط بينه وبين الله ،وعجزه عن المحبة الأصيلة التي توطد علاقته مع الآخرين بسيده لقد عاش شعب إسرائيل فى العهد القديم لا يتواجه مع الله إلا من خلال موسى والأنبياء وكانت العلاقة التي تربط الشعب بالله منحصرة في عدة وصايا أدبية وطقسية ( الناموس ) يلزم ممارستها بكل دقة وخوف والذي يخالف واحدة منها موتاً يموت قال الشعب لموسى "تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم الله معنا لئلا نموت" فقال موسى للشعب "لا تخافوا ، لأن الله إنما جاء لكي يمتحنكم ،ولكي تكون مخافته أمام وجوهكم ، حتى لا تخطئوا فوقف الشعب من بعيد وأما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الله " ( خر ۲۰ : ١٩- ٢١)
على أن الناموس لم يستطع أن يمنح الانسان قوة بها يغلب ذاته ويتجاوزها ، بل كل ما فعله هو أنه كشف خطيئة الانسان وأدانه " لما جاءت الوصية ، عاشت الخطية فمت أنا " (رو ٧ : ٧ - ٩ ) فللناموس دور يتشابه مع المربى الذى يؤدب الطفل لينضج ويصبح رجلا إنه يهذب النفس وبعدها لتتقبل الحياة حسب الروح ، الحياة
الجديدة التي يحيا فيها سر المسيح ، وليس بر الانسان
سمات الحياة حسب الناموس :
الخوف من الله وممارسة العبادة لا عن حب بل عن خوف
ورعب .
إتباع مستوى الحرام والحلال . تماماً مثلما كان يعمل اليهودي عندما يلجأ إلى الفريسي في مجتمعه، ليعطيه فتاوى تحلل له، أو تحرم عليه .
فالحياة حسب الناموس هي حياة أولاد الجارية العبدة، وليس أولاد الأم الحرة - على حد تعبير المغبوط بولس - فالجارية والحرة هما العهدان، أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية، والآخر هو أورشليم العليا التي هي أمنا جميعاً فهي حرة ونحن لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة
( غلا ٤ : ٢١ - ٣١ ) .
والتدين حسب الناموس غالبا ما يكون سطحيا وشكليا في نوعيته يخلو كثيرا من المضمون والجوهر والعمق الروحي حقيقة أنه في العهد القديم كان هناك رجال الله الأنبياء الجبابرة ولكن هؤلاء كانوا مشاعل على الطريق ،وإشراقات إلهية لظلمة الحياة المغلقة ،ولكنهم لا يمثلون الشعب في أبعاد تدينه وكثيراً ما نجد فى كنائسنا أناساً يعيشون على هذا المستوى، يؤدون الممارسات ، ويحضرون العبادة، ويتممون الطقسيات ، ولكن القلب بعيد عن الله ، والخوف يملأ الداخل وليس من سلام ، مثل هذه العبادة مكروهة عند الرب وليس العيب هنا في الطقس والشكل ،وانما العيب كل العيب في ان الانسان يتحجر عند الشكل، ويتجمد ويتوقف عند الظاهر ،ويفرغ الشكل من المضمون والجوهر والعمق الذي هو النعمة والحق والرحمة .
سمات الحياة حسب المسيح :
الله بعد تجسد ابنه يسوع المسيح لم يعد قطباً خارجاً عن الإنسان، بل ملكوتاً فى قلبه ،ونوراً في حياته الباطنية "و أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد " ( يو ۱۷ : ۲۳ ) فالرب يسوع نقل الانسان من المستوى الموسوى ، الى الحياة حسب النعمة والحق ( لأن الناموس بموسى أعطى ، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا ، ( يو ۱۷:۱ ) فالمؤمن بالنعمة يتبرر من الخطية ، ويتقدس بالروح ، ويصبح ابنا ووريثاً للملكوت "إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته ، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب ، الذي فيه لنا الفداء ، بدمه غفران الخطايا ، حسب غنى نعمته التي أجزلها لنا ، بكل حكمة وفطنة إذ عرفنا بسر مشيئته، حسب مسرته التي قصدها في نفسه لتدبير ملء الأزمنة ، ليجمع كل شيء في المسيح ، ما في السموات وما على الأرض لنكون لمدح مجده نحن الذين سبق رجاؤنا في المسيح " ( ١ تس ۱ : ۳ - ۱۲ ) فإن قدرة الله قد وهبت لنا كل ما للحياة والتقوى بمعرفة الذى دعانا بالمجد والفضيلة، اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة ، لكى نصير بها شركاء الطبيعة الإلهية (١ بط ٣:١ و ٤ ) ويمكن تركيز سمات الحياة الجديدة حسب الروح فيما يلى : الحياة على مستوى النعمة والحق ، وليس وفقاً للتهود والحرام والحلال . كذلك الحياة بالحرية ، وليس بعبودية الجسد والناموس .
الحياة وفقاً لبشارة نعمة إنجيل ربنا يسوع ، وليس حسب فرائض ووصايا خارجية ، تمثل عبئاً على كاهل الإنسان .
الحياة من خلال الشركة مع المؤمنين ، وليس على مستوى الانفرادية وكان الجمهور الذين آمنوا قلب واحد ، ونفس واحدة ، ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له ، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً .
أيها القاري العزيز :
ان كنت لا تزال تعيش حسب الناموس : لا تمس ، لا تجس ، لا تدق فهذا التهود لا يصلح لشيء سوى أن يبرر ذاتك أمام نفسك ولكنه لا يمنحك البر الذي في المسيح وإن كنت قد اختبرت فاعلية الولادة الثانية [ المعمودية ] ، وقوة التثبيت [ الميرون ] ، وشركة الافخارستيا ، فتمسك بالذي عندك، وجاهد وثابر ، واحتمل مع أخوتك ،مجاهدين معاً بنفس واحدة .
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الثانى والثلاثون عام ١٩٧٥
المزيد
07 أكتوبر 2024
اطلالة على المجتمع الغربي بعين راهب قبطى
كانت فرصة اقامتي في الولايات المتحدة ، ككاهن لكنيسة مارجرجس والأنبا شنوده بجرسی ستی ، وكطالب للدكتوراه في احدى جامعاتها الكبرى، مجالا للبحث والدراسة والمقارنة ، بين الثقافتين الشرقية والغربية ، وتأثير كل من المجتمعين على الشباب بصفة خاصة وليس من اليسير التعرف على اتجاهات الشباب العميقة ، وطرق تفكيره الداخلية، وبخاصة إذا كان الشرقي يعيش في دائرة محدودة الاتصالات والتفاعلات مع المجتمع الجديد ولكنه من حسن الحظ أنه على الرغم من وجودى في بيئة قبطية مصرية تماماً ، وهي شعب الكنيسة ، إلا أن إقامتى بعض أيام الأسبوع في الجامعة ، أعطاني فرص الحوار والدراسة والتحليل والمقارنة والذي تمرس في البحث العلمي ، لا يستطيع أن يقول من أول وهلة ان مجتمعنا الشرقي أفضل من الغربي ، أو أن الغربي أفضل لأن المقارنة يجب أن تكون وفقاً لمعايير وتجارب ودراسة عميقة وإلا كانت الأحكام سطحية لا تفيد كثيراً وإذا كان الإنسان خاضعاً للقوى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية،
وإذا كان جانب كبير من حياته ، تشكله ظروف المجتمع الذي يحياه ،أدركنا أن كل ما نراه من عادات وطبائع الشباب الغربي ، له أصوله ومصادره في البيئة التي يحياها لأجل هذا يلزم أن تكون الأحكام موضوعية غير متحيزة .
بين الروحانية الغربية والشرقية :
أول ما استرعى نظرى أن روحانية الشباب الأمريكي تختلف جذرياً عما ألفناه في بلادنا فالشاب المتدين الأمريكي لا يرفض التدخين أو شرب قليل من الخمر بين الحين والحين . كما أنه يتخذ له صديقة يستريح لها ،وتستمر العلاقة العاطفية بينهما ، وتنتهى في أغلب الأحيان بالخطبة أو الزواج . وهو لا يمانع في اتخاذ جميع القرارات المصيرية في حياته ، دون اللجوء الى الكبار وأخذ مشورتهم بينما كل هذه المظاهر تعتبر في بلادنا من الأخطاء ،وقد ينظر إلى بعضها كأخطاء جسيمة يضاف إلى هذه أن المجتمع الرأسمالى مجتمع فردى ، يقوم على حرية الفرد ، وإطلاق كل رغباته وطاقاته ، وعدم تقييده . وليس للسلطة أن تتدخل في الحياة الشخصية ، وإنما هدفها فقط الحماية من طغيان هذه
الحياة على حريات الآخرين وقد يكون لهذه الأنماط أثرها على اللاهوت الغربي ، كما أنه قد يكون للاهوت الغربى أثره في تشكيل أنماط حياة الناس فاللاهوتيون الغربيون لا يركزون على موضوع الخطية والسقوط والعقوبة والدينونة ،وانما يعطون الأهمية لمحبة الله ولطفه ومغفرته لضعفات الانسان واللاهوتيون الغربيون لا يركزون كثيراً على القيامة ، بقدر اهتمامهم بالتجسد الإلهى . وقد انعكس هذا على أعيادهم . فعيد الفصح لا تشعر به إطلاقاً في كل بلاد الغرب ، بينما عيد الميلاد ( الكريسماس ) له بهجته وروعتة ، وإن كان غالباً ما يأخذ الطابع الإنساني [ بابا نويل - هدايا - زيارات - حفلات - مهرجانات ] فالغربي يقدس الانسان والانسانية، والتجسد الالهى أعطى للانسان والانسانية مركزا ساميا . ولهذا يعتز الشاب الغربي بانسانيته ولا يوافق كثيرا على أن خطية آدم تورث ، أو حتى الضعف البشرى ينحدر من جيل إلى جيل بل على العكس يعتز ببشريته ، ويفتخر بانجازاته . واللاهوت يخدم اعتزازه هذا ، ويشجعه على هذا النمط من التفكير أما القيامة فهي مرتبطة بإنهاض المائت الساقط . وهو لا يرى في القيامة إلا مزيداً من تدعيم إنسانية الإنسان والمجتمع الغربي مجتمع الرفاهية ، والسعى نحو اسعاد الانسان بكافة وسائل الراحة المادية ، لهذا لا تجد للنسك مكانا في كل كتب اللاهوت الغربية حتى إنى لم أسمع من أحد أساتذة اللاهوت كلمة صلب الذات ، أو الفقر الاختيارى ، أو الأصوام الطويلة ، أو الإماتات ، أو الصمت ،أو التذلل ، أو الدموع ... الخ
هذه كلها فضائل شرقية ، ليس لها مدلول عند الذين يدخلون الكنيسة نيفاً وساعة في الأسبوع، ويسرون بالكورال الكنسى، والعظة الشيقة المرتبة منطقياً ، والجو الاجتماعي، والأنشطة غير الروحية التي التي ترتبها الكنيسة الغربية لشعبها .
بين الحرية الغربية والشرقية :
يعتز الغربي بحريته بكافة أبعادها والحقيقة أنه ليست هناك حرية بمعناها الحقيقى الا فى اطار قيود تحددها وقد تكون هذه القيود دينيه أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية . ولكن المجتمع الرأسمالي ، وإن كانت تتحكم فيه قيود كثيرة ، أهمها المضاربات والمنافسات ، وسيطرة رجال رأس المال على الفكر الإنساني بوسائل الدعاية والإعلام ، إلا أن الغربى يشعر شعوراً مختلفاً عن شعور المواطن في المجتمع الشيوعي مثلا فالغربي يستطيع أن يحاكم نيكسون على الرغم من أنه قد يوجد كثيرون أسوأ من نيكسون يفلتون من الحكم والإدانة والغربي يستطيع أن يكتب ما يريد ، وينشر ما يشاء ، ويعبد بالطريقة التي تريحه وعندما سالت المصريين في استفتاء علمى ، وجدت أن نفسية الشرقي تستريح الى الحرية المضبوطة أكثر من الحرية التي بلا قيود فالشرقي يحب أن يكتب بحرية . ولكنه لا يحب أن يرى كتابة تطعن في قيم مجتمعه السائدة . والشرقي يحب أن يعبد ، ولكنه لا يحب
أن يجد من يجاهر باحتقار دينه لقد كنت أجد الأطفال الأمريكان ، بل والأقباط في أمريكا ، يناقشون ويعترضون وهذه ظاهرة صحية تأخذ بها بلادنا الآن ، مع أخذها بوجوب استخدام السلطة لاحترام حرية الآخرين .كذلك فإن تشجيع الجو الديني للشباب على الحوار والدراسة والبحث ، وإقامة تدينه على أسس من الحرية الشخصية ، أمر واجب .
النظرة إلى الحياة في المجتمعين :
يعتز الشاب الغربي بواقع حياته ، ويقبل على يومه برضى ، مهما كانت المعوقات وقد يرجع هذا إلى غنى البلاد وتقدمها المادى ، وتنافس الحكومات في تسهيل سبل الحياة للمواطنين ، وتركيز اللاهوت على الفضائل الاجتماعية ولكن يعيبه أن الغالبية لا يفكرون في الحياة الأبدية حتى المتدينون منهم ، يقولون إننا نستطيع أن نقابل الله ونتمتع به في ظروف حياتنا اليومية أما الشاب الشرقي فإنه يعتز بالأبدية والحياة الأخرى ولها آثارها الكبرى على حضارته وتفكيره وتدينه . ولكنه يحتاج إلى أن يستدين من الغربي كيفية مواجهة يومه بإيجابية وفرح وشكر . كما يحتاج الغربي إلى أن يستعير من الشرقى اهتماماً بالأمور التي لا ترى لأنها أبدية .
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الحادى الثلاثون عام ١٩٧٥
المزيد
30 سبتمبر 2024
الروحانية الارثوذكسية
عندما عشت مع الغربيين في جامعاتهم ، وتأملت في روحياتهم ، أدركت أن الروحانية الأرثوذكسية تختلف جذرياً عن تلك التي في الغرب وقد يكون للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية اثرها على حياة الناس وتفكيرهم وتدينهم ولكن اللاهوت أيضا له أثره الأكبر في تشكيل انماط الناس وعلاقاتهم .
فاللاهوت الغربى يقوم على الدراسة والتحليل والبحث والنقد ، حتى اني وجدت طلاب الدكتوراة ينتقدون القديس بولس فيما كتبه عن الرجل والمرأة في كورنثوس الأولى ،وينتقدون نظرة الانجيل نحو الطلاق ويعللون نقدهم هذا بأنه دراسة علمية للظروف الثقافية التي كتب فيها الانجيل ، والتي يظنون أنها قد أثرت على عقلية من كتب ، دون أن يدروا أن ما كتب انما كتب بوحي من الروح القدس فمنهج الكنيسة الأرثوذكسية منهج روحي نسکی اختیاری ، بینما منهج الغرب عقلى تحليل .
هدف الحياة الروحية :
هدف الحياة الروحية عند الغرب ،هو اسعاد الانسان على الأرض ويفسرون الآية و جئت لتكون لهم حياة ، ويكون لهم أفضل بأن الحياة الأفضل هى الحياة الأرضية المتحضرة والمتقدمة اجتماعياً وثقافياً وليس فى تفكيرهم أن الحياة الأفضل هي الحياة الابدية الحاضرة في "الآن"، كما قصدها الرب أما الحياة الروحية عند الارثوذكسيين فهي حياة تبدأ هنا وتمتد في الابدية لهذا يعطيها الأرثوذكسى كل اهتمامه فصلواته ونسكه وعبادته وخدماته هي من أجل أبديته ، التي يترجاها بالايمان ، ويتوقعها بالصبر الغربيون يركزون على عقيدة أن الله صار انسانا ، ليصير الانسان الها ، فيؤلهون الانسانية ويتنافسون فى استعاد آدمية الانسان والأرثوذكسيون يركزون على عقيدة ان الله صار انسانا ثم صلب ومات وقام لكى يحررنا ويبررنا ويقدسنا ويفتح لنا أبواب الفردوس لم أجد استاذاً واحداً غربياً في الجامعات اللاهوتية ، قد اهتم بالنسك والرهبنة والتكريس ولكن الغالبية تهتم بالانسان في حواره مع الله ،وفي حواره مع نفسه ، وفي حواره مع الآخرين والروحانية الأرثوذكسية تركز على جهاد الإنسان ، والغربيون متأثرون بالقديس أوغسطينوس في تركيزه على النعمة الإلهية ولكن الأرثوذكسى لا يتجاهل عمل النعمة في جهاده ، ولكنه يرى أنه لا نعمة بدون جهاد ، ولا جهاد مقبول إلا بعمل النعمة .
يسوع أم الرب يسوع ...؟
والغربيون يكتبون دائما عن « يسوع » ؛ ويكاد اسم الرب يسوع في الكتابات الغربية يقترب من اسم أى شخص عادي ولكن الارثوذكسى عندما يتحدث عن المسيح يقول « ربنا والهنا وتخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد دائما الى الابد امين » ذلك أن تعالى الغربى واعتزازه بإنسانيته تجعله يتصور أن الله الذي صار إنساناً يقترب منه تماماً ، متجاهلا الأقنوم الإلهى المخوف المملوء مجداً والأرثوذكسى يمجد الثالوث القدوس في كل صلواته وتسابيحه وأحاديثه ، لأنه يعلم أن المسيح قبل تجسده كان مع الآب والروح القدس في شركة الحب والمجد والفرح وإنه بعد صعوده جلس عن يمين الآب في المجد الذي له قبل كون العالم عندما سألت أحد أساتذة اللاهوت في أمريكا : لماذا لا تركزون على الثالوث القدوس ، وتكتفون بذكر كلمة الرب أو الله ؟ قال لى ان موضوع الاقانيم موضوع دراسة وبحث وجدل والاسهل أن نقول
الله وكفى ولقد حزنت كثيراً عندما وجدت غالبية الابحاث اللاهوتية الغربية تغفل عمل الآب . مع أن المسيح له المجد عندما جاء أعلن أنه قادم من عند الآب ، وأنه يريد الكل أن يسأل الآب ، لكي يتمجد الآب مع إبنه .
روحانيتنا روحانية ثالوثية فيها اختبار الآب ومحبته ، ونعمة الابن و خلاصه ، وشركة وموهبة وعطية الروح القدس وفاعليته يقول اللاهوتي فلاديمير لوسكي :
Trinitarian theology is thus a theology of union, a mystical theology which appeals to experience, and which presupposes a continuous and progressive series of changes in created nature, a more and more intim-ate communion of the human person with the Holy Trinity "Mystical Theology p 67."
روحانية شركة ، وليست روحانية فردية :
المجتمع الغربي مجتمع فردى بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، وقد أثر هذا على الروحانية نفسها فالغربي يركز على خلاصه الشخصي وتأملاته وأبحاثه ، بينما
الأرثوذكسى يهتم كثيراً بحياة الشركة : Koinonia ، فوظائف الكنيسة: اللتيورجيا، الدياكونية، الكينونيا - هي وظائف جماعية وليست فرديةيقول اللاهوتي فلورفسكي :"ان الكنيسة هي شركة اخوة وانها تجمع القديسين ، انها جماعة متحدة مترابطة . انها تجمع المؤمنين ، وليست بعض الافراد المبعثرين" فالرب صنع فصحه مع التلاميذ ، وفي صلاته الشفاعية طلب من الآب أن يوحد الجميع فى واحد . وأسرار الكنيسة تغرس الفرد في وحدة الألفة والمحبة وشركة العلاقة مع أهل بيت الله أي الكنيسة والمؤمن يخلص من خلال الكنيسة وليس خارجها . والعلاقة الشخصية بين الأرثوذكسى والرب ، موضوعة في إطار وحدة المؤمنين المرتبطين برباط الكمال الذي هو رباط المحبة ووحدانية الروح والوحدة ليست بين الاكليروس والعلمانين فقط ، وانما هي وحدة السمائيين مع الأرضيين . فالعلاقة القوية التي تربط المنتصرين الذين كملوا في الايمان مع المجاهدين الذين لا يزالون يركضون نحو الجعالة ، هي محور من أهم محاور الروحانية الارثوذكسية والكنيسة الأرثوذكسية تنظر إلى السماء والأرض وقد اتصلتا بعضهما البعض ، في اتحاد لا ينفصل . ففي القداس الإلهى عندما تبدأ الصلاة ، يفتح ستر الهيكل ، ويصير كل شيء مكشوف ، وتكون الصلاة علانية . لأن المسيح قد جعل الاثنين واحداً ، أى السمائيين والأرضيين . وتصلى الكنيسة قائلة : ( عندما نقف أمامك وقت الصلاة نحسب كالقيام في السماء ) . وفى القداس الاغريغورى تصلى قائلة " الذي أعطى الذين على الأرض تسبيح السيرافيم . اقبل منا نحن أيضاً أصواتنا مع غير المرئيين ، واحسبنا مع القوات السمائية "
تكامل دون ثنائية أو تضارب :
تبرز في الروحانية الغربية ثنائيات كثيرة مثل: ثنائية الله والانسان الجهاد والنعمة ، الفرد والجماعة ، المادة والفكر ، الجسد والروح ،الزمن والأبدية ولكن في الارثوذكسية لا توجد هذه الثنائيات لأن الكنيسة الأرثوذكسية لم تتأثر بالأفلاطونية التي تعتبر المادة ضد الفكرو الروح . وإنما هي متأثرة بالتجسد الإلهى الذى جعل الكون والمادة والجسد مجالات لتمجيد الله وتقديس اسمه فمنذ أن اتحد اللاهوت بالناسوت فى الله الكلمة ، لم تعد المادة نجسة بل صارت مجالا مباركا تجرى الكنيسة نعم ومواهب الروح القدس من خلالها فالماء والزيت والخمر والخبز ، وسائط ضرورية المارسة الاسرار والجسد هيكل للروح القدس ، والمضجع غير نجس ، وأجسادنا نفسها سوف تقوم في مجد عندما يأتى الرب في مجده ومجد أبيه ، لاننا أبناء نور ، وأبناء قيامة وستسطع أجساد القديسين بالنور والبهاء بعد القيامة والجسد نفسه سيشارك الروح بركات الدهر الآتى ، كما شاركها أتعاب الجهاد في أرض الغربة وعندنا ليس من تضاد بين الزمن والأبدية ، بل هناك تلاحم واتصال لأجل هذا أصبح الزمان داخلا في أعتاب الأبدية ، وأصبحت الأبدية هابطة على تاريخنا ، ساحبة أياه في تخومها اللانهائية .
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الثلاثون عام ١٩٧٥
المزيد