المقالات

02 أبريل 2024

مفاهيم غريبة عن معنى الصوم

١-ليس الصوم إذلالاً للبدن يظن البعض أن الصوم هو لإهلاك الجسد وإضعافه وسر هذه النظرة الخاطئة عدم تفهم بعض أقوال الكتاب المقدس مثل " أقمع جسدى وأســــــــتعبده " ، الجسد يشتهى ضد الروح والروح يشتهى ضد الجسد " ، والحقيقة أن مفهوم الجسد هنا لا يعني البدن أو الهيكل الجسدى وإنما يعنى الإرادة الفاسدة والإنسان العتيق ، والذي أدخل إلى التصوف المسيحى مفهوم النسك الخاطئ القائم على منهج الثنائية بين الجسد والروح العقيدة الأفلاطونية التى تسربت إلى المسيحية وكانت تنادى بأن العالم المادى ليس من أعمال الله وأن كل ما هو مادى إنما هو حقير وكل ما هو مجرد فهو راقي ، هذا الاتجاه لا يوافق مقاصد الله من الإنسان وإنما هو فكر أفلاطوني ينظر إلى الجسم كسجن للعقل وللجسد كمقبرة للروح ، أما الكتاب المقدس فهو دائما أبدا يرفض نظرية الثنائية تماما ويؤكد مبدأ وحدة الجسد والنفس " السيكوفسيولوجي " . وقد علمنا الأباء أن النسك لا يجب أن ينحرف إلى الدرجة التي نقسو فيها على أجسادنا فتعاق عن تأدية واجبات الحياة بنشاط ، وأن التركيز كله ينبغى أن يكون داخليا موجها إلى الإرادة التي تسوقنا إلى الشهوة والخطية . إن الصوم ليس نوعا من الكبت والحرمان وليس هو فريضة ثقيلة مفروضة على النفس من الخارج وإنما هو حب وانتعاش للروح وتخلية إرادية عن شهوة الطعام للإعلاء بها نحو حب الله . الصوم إذا ليس إذلال للبدن وإنما هو إذلالا لشهوة الجسد وليس هو إضعافا للجسد وإنما هو إماتة للجموح والانحراف والإرادة الفاسدة التى تسكن الجسد . ٢- ليس الصوم تكفيرا عن الخطايا يظن البعض أن الصوم تكفيرا عن الخطايا ، وأنه يمحو الذنوب والآثام ، ولكن الحقيقة أنه ليس من وسيلة للغفران إلا دم يسوع المسيح وحده إذ يقول الكتاب متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذى قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله "( رو ٣ : ٢٤ ، ٢٥ ) ، ويقول أيضا " هذا هو حمل الله الذى يرفع خطيئة العالم "(يو ۱: ۲۹).فليس في المسيحية من وسيلة لمحو الخطيئة إلا دم يسوع المسيح وحده ، ولذلك يلزمنا لكي ننال الغفران أن نتوب ونعترف بخطايانا ثم نتقدم للمذبح لنأكل الجسد المقدس ونشرب الدم الكريم ومن خلال هذا الاتحاد ننال الغفران والخلاص الأبدى أما الصوم فهو أحد وسائط النعمة ، إنه واسطة ، إنه وسيلة فقط ، إنه مجال ، إنه مناخ ، إنه تهيئة لكى تنتعش النفس ويتوب القلب وتندم الإرادة ، الفكرة الشائعة أن الأصوام تمحو الخطايا فكرة غير مسيحية وتتناقض مع عقيدة أساسية هي أنه لا غفران إلا بدم المسيح وحده . ولكن إن كان الصوم مقترناً بالصلاة والتوبة وعمل الرحمة ومكملا بسر الأفخارستيا فهنا تكمن المغفرة وترفع عن النفس الدينونة لأن الصوم مهد إلى التوبة ، والتوبة مهدت إلى الاتحاد بالمسيح الذي فيه ننال خلاصنا وتبريرنا وتقديسنا وفرحنا وأبديتنا . ٣- ليس الصوم للصحة يرى البعض أن الصوم مفيد للصحة ويرجعون هذا إلى أن البقول أنفع لصحة الأبدان وأدعى لإطالة الأعمار كما يستندون إلى الكتاب المقدس الذي يؤيد أن البقول كانت الطعام الأصلى للإنسان وليس اللحوم ( تك ۱ : ۲۹ ) ، وأن متوشالح عاش ٩٦٩ على هذا النوع من الطعام بينما انخفضت الأعمار إلى ۱۲۰ عاماً بعد التصريح بأكل اللحم ( تك ۹ : ۳ ) ثم إلى ٨۰ سنة حسب قول مرنم إسرائيل " أيام سنيننا هي سبعون سنة وإن كانت مع القوة فثمانون سنة أفخرها تعب وبلية "(مز ۹۰: ۱۰).وبالرغم من صحة هذا القول في جوانب كثيرة إلا أنه يلزمنا أن نشير إلى أمرين : الأول هو أن بعض الأجساد حالياً لا تحتمل أكل البقول وخاصة من تعانى من أمراض الجهاز الهضمى ، وأنها تهزل بشدة لو صامت فترة طويلة ، والثاني هو أن الصوم لم يكن هدفه تحسين صحة الأجساد بقدر ما هو مجال لانتعاش الروح وممارسة الفضائل التي سبق ذكرها فى هذا المقال .أما بالنسبة لضعاف الأجساد فينصح آباء الاعتراف بتحديد معقول لفترات الانقطاع وأن يتعاونوا مع أطباء أتقياء فى تدبير الجسد بأسلوب لا يجعله هزيلاً وفي نفس الوقت لا يعطل طاعتهم لوصية الصوم ، وينصح الآباء المختبرون عدم التطرف في الأصوام حتى لا يصاب الجسد بالهزال الشديد والأنيميا ويعطون في نصائحهم نموذجاً للاستنارة والاعتدال شخصية أب الرهبان وكوكب البرية الذي خرج من اعتكافه الذي دام عشرين عاماً لا هزيلاً من شدة النسك ولا بدينا من الترهل وكثرة الأطعمة والكسل .إننا عندما نعلل الصوم بالعامل الصحى نفرغ الصوم من جماله الروحي وقوته الخلاقة بهذا التبرير المختلق وننسى أنه متعة ، لأنه عودة إلى الحياة الفردوسية التي فيها عاش آدم لا يأكل لحما وكانت الحيوانات تخضع له . نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين عن كتاب الصوم الكبير لاهوتيا و كنسيا وروحيا
المزيد
26 مارس 2024

كيف نصوم الصوم الأربعيني ؟

نود أن نجيب على هذا السؤال فى اختصار وتركيز مشيرين إلى العناصر الهامة الآتية :- 1- بجدية وإخلاص قلب ليس الصوم مجرد شكليات، إنه مضمون قبل أن يكون شكلا ، إنه حياة قبل أن يكون طقسا وترتيباً ، فالامتناع عن اللحم والشحومات والتسليات هو الجانب السلبي للصوم ، وأما الجانب الإيجابي فهو الحياة الروحية النشطة التي فيها التوبة وقرع الصدر والندم والمطانيات، فيها الصمت والهدوء ، وفيها النسك والتقشف ، فيها فحص النفس والتأمل الباطني وفيها أيضا التعمق في كل ما يختص بالحياة الداخلية إنه من الأيسر للإنسان أن يحول كل ما هو روحى إلى ما هو شكلى ثم يبحث بعد ذلك عن الروحانية وراء الشكليات ، أما الصوم الكبير فهو قوة روحية ونبع فياض لكل من تلامس مع جوهره ومضمونه السرى . إن الكنيسة الكاثوليكية والهيئات البروتستانتية فى الغرب اختصروا الصوم ثم تخلصوا منه نهائياً فى أماكن كثيرة من العالم وقد نعيب عليهم هذا الضعف والهزال الروحي ، ولكن إذا كانت الأرثوذكسية تفتخر بعدم تعديلها مواعيد الأصوام فإنها تحتاج في هذه الأيام أن تتمم التزام الصوم بجدية وعمق إن أخطر ما يهدد الجدية في الصوم المظهرية والشكلية والفريسية والاكتفاء بما هو خارجي دون التعمق في الداخل يقول الرب يسوع " وأما أنت فمتى صمت فـادهن رأسك واغسل وجهك لكى لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذى فى الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية " ( مت ٦ : ١٧، ١٨) .أن نأخذ الصوم بجدية هذا يعنى أن ننظر إليه على أنه تحد روحى يستلزم تهيئة واستعداداً وصلاة ثم فحصاً وعزيمة وتصميما ثم نضالاً ودأبا وجهادا للنصرة على أعداء المؤمن الثلاث الشيطان والعالم والذات ٢ بتوبة وتذلل مع فرح داخلى يقول الوحى على لسان يوئيل النبى " ارجعوا إلى بكل قلوبكم وبالصوم وبالبكاء والنوح ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف ورحيم " ( يوئ ۲ : ۱۲ ، ۱۳ ) ، ويقول داود النبي " أذللت بالصوم نفسى (مز ٢٣:٣٥) وعندما تاب أهل نينوى وقدموا صوماً وتذللا قبلهم الرب ، وعندما صام آخاب الملك الشرير وقدم توبة وندما رضى الرب عنه . فالصوم الكبير هو مجال متسع للتوبة ، لهذا نجد قراءات الكنيسة في أغلب مناسبات هذا الصوم تقدم نصوصاً وشروحات عن حياة التوبة الأسبوع الأول دعوة إلى احتقار أباطيل العالم ورفض لمحبة المال ،والأسبوع الثاني دعوة إلى الصلاة والأمانة وعدم الريـاء ومواجهة العدو في كل تجاربه ، والأسبوع الثالث سيرة الابن الضال كأحسن مثال لحياة التوبة ، أما الأسبوع الرابع فأننا نقابل السامرية التي قدمت توبة مذهلة وتغيرت حياتها بفعل الكلمة وإنجيل الخلاص ، وفى الأسبوع الخامس تبرز لنا الكنيسة أهمية الإيمان في التجديد وخطورة النكسة الروحية فى التوبة عندما تقدم لنا نموذج المخلع ، وأما أحدالتناصير فهو أسبوع توبة ، وأما أحد التناصير فهو أسبوع توبة المعمودية والتوبة المقصودة هنا هي التغير الكامل في الداخل والأعماق والأهداف ويقول اللاهوتي شممان إن أعمق تغير يحدثه الصوم الكبير في النفس البشرية هو أنه يغير اتجاه الشخص واتجاه الجماعة فبدلاً من أن يكون الخبز ولقمة العيش محور اهتمامهم يصبح الكلمة هو مصدر حياتهمولكن يلزمنا أن نشير إلى أن التوبة فى المسيحية خالية من الحزن المرير وفي هذا يقول المطران جورج خضر : " إن التوبة والتذلل يلزم أن يرفع عنها الحزن المرير لأن المسيح رفع عنا حزن الخطية وعقوبتها ، فالصوم في المسيحية ليس تكفيرا ولا قصاصاً ولا نحيباً وإنما هو وسيلة وطريقة صلاة واستدعاء للروح وحنين إلى الفردوس ومنطلق من قيامة المسيح ومرتقب لهذه القيامة لأجل هذا طلب منا المسيح ألا نكون عابسين بل أن ندهن رؤوسنا ، أن نمتلئ من بهجة الخلاص وفرح الروح ، فرح العريس الذي يحضر مع أبيه بفعل روحه القدوس ، يكفينا في توبتنا أن نمتلئ فرحاً وعزاء وسلاماً عندما نسمع مع المرأة الخاطئة القول الإلهى " مغفورة لك خطاياك اذهبي بسلام " . ٣- باعتكاف وصمت وهدوء وتقشف الصوم أسلوب حياة ، إنه سعى نحو الحياة الباطنية متخلصة من كل مشتت خارجي ، المجتمع الخارجي يسعى إلى تبديد قوانا الجسمية والنفسية والعقلية والروحية ، والحياة الروحية هي سعى نحو تجميع هذه القوى وإخضاعها للروح ، بدون تفهم ، معنى الصوم الكبير أنه رحلة إلى أعماق الإنسان فإن الصوم يفقد معناه ويبتعد كثيرا عن جوهره الأصيل الصوم الكبير مجال واسع للتأمل والتعمق واكتشاف سطحيتنا وزيف علاقاتنا مع الناس والأشياء ، فالابتسامات السطحية والحياة القائمة على " معلهش ، صهين ،کله زى بعضه ، الدنيا ماشيه كده وغيرها من الشعارات التي نتبعها في حياتنا وتشير إلى النفاق والغش والدبلوماسية والخلو من العمق والصدق والالتزام . هذه كلها لا تنكشف إلا فى الهدوء " بالرجوع والسكون تخلصون ، بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم " ( أش ٣٠ : ١٥ ) الصوم الكبير زمن للنسك والتقشف ورفض للمسرات مثل الملاهي والمأدب والزيارات الكثيرة للمجاملات وسعى نحو الانضباط الداخل لكي تفحص الحياة الباطنية فحصاً دقيقاً ، ومن خلال هذا الفحص تكتشف كل الصفات وتقدم النفس التوبة وتطلب النعمة للتغير والتحول ، في الصوم الكبير مجال للسيطرة على كلامنا وثرثرتنا إن ألفاظنا في طوفان الأحاديث قد فقدت معناها وبالتالى قوتها المسيحية تعيد إلى الكلمة قدسيتها وسلطانها ، إن الصوم يضبط اللسـان حتى لا ندان " بكلامك تتبرر وبكلامك تدان " ، الثرثرة غالباً ما تأتى من العجب والزهو الباطل والرغبة في مديح الناس ، الثرثرة تفتح أبواب النفس وتجعل الحرارة والخشوع يهربان من القلب " الثرثرة تفتح أبواب النفس وتجعل الحرارة والخشوع يهربان من القلب ، الثرثرة تخرج الإنسان عن نفسه والأحاديث الباطلة تغرس الخصومات والنزاع وتجلب البلادة ، وكثرة الكلام لا تخلو من معصية ، الصمت كما علمنا آباؤنا . القديسون هو قوة عظيمة نستعين بها فى محارباتنا الروحية ، هو سلاح للنصرة وعلامة الحكمة الروحية وسر الحياة الباطنية فى الصوم الكبير نتذوق ثمرة الصمت الشهية فنتدرب على التجمع الداخلي وبطلان التمزع والتشتت، العالم الآن يحتاج إلى شهادة لا بالوعظ والكلام الكثير بل بقديسين يحملون نورا وفرحا وعمقاً وجدية وحبا ولهم سر الصمت وقوة الهدوء كدلالة أكيدة على حضور الله فيهم ٤- بعطاء وبذل تقول مديحة الصوم الكبير الشهيرة " طوبى للرحماء على المساكين ، فإن الرحمة تحل عليهم ، والمسيح يرحمهم فى يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم " وليس غريباً على الصوم أن يقترن بعمل الرحمة ، في هذا يقول زكريا النبي : " هكذا تكلم رب الجنود قائلا احكموا حكم الحق واصنعوا الرأفة والمراحم كل إنسان إلى أخيه ، لا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا البائس ولا تفكروا شرا الواحد على أخيه " ( زك ٧ : ٨ ) . وهناك قول رائع لأشعياء النبى وإيضاح جميل لمعنى الصوم وفهم أصيل لارتباطه بالرحمة والبذل : " أليس هذا صوماً أختاره : حل قيود الشر، فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير ؟ أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك ، إذا رأيت عريانا أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك " ( اش ٥٨ ، ٣ - ٧ ) وقديما كان آباؤنا يصومون ليعطوا أكثر للفقراء والمحتاجين لأن " الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم " ( يع ۱ : ۲۷ ) ، والرسول بولس يعبر عن العطاء للفقير بالذبيحة المقبولة إذ يقول : " ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأن بذبائح مثل هذه يسر الله " ( عب ١٣ : ١٦ ) فإذا كان الصوم بذلاً داخلياً فإن الرحمة والعطاء تعبير أكيد عن الحركة الروحية الداخلية الحادثة بفعل الصوم والنسك المسيحي الأصيل . ماذا يحدث لو لم أصم ؟ المسيحى الحقيقى عضو في جسد المسيح السرى الذى هو الكنيسة ، وهو لا يشذ عن الجماعة لأن العضو إذا خرج عن الجسد يفسد ويسبب للجسد آلاماً مبرحة المؤمن يصوم لأن الكنيسة تصوم ، فهو منها ومعها وفيها ، الذى لا يصوم الصوم الأربعيني يخطئ إلى نفسه ويخطئ إلى الكنيسة أيضا لأن الروحانية الأرثوذكسية ليست روحانية فردية وإنما هي روحانية شركة ، وقديما كانت كنيسة الرسل تحيا حياة الشركة هذه إذ كان المؤمنون يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات ، وإذ هم يكسرون الخبز فى البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب ، وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس " افرزوا لى برنابا وشاول ولما صلوا تزعزع المكان وامتلأ الجميع من الروح القدس " ( اع ٢ ، أع ٤ ) .في هذا يقول المطران جورج خضر " إن الكنيسة بأسرها كجسم واحد يجب أن تكون مصلوبة عن أهواء الجسد عن طريق قمع جموحه وشراسته وأن تأخذ بعين الجد قضية آلام ربها " . ويعلمنا الرسول بولس عن الجماعة في الجهاد الروحي قائلاً : " فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح حتى إذا جئت ورأيتكم أو كنت غائباً أسمع أموركم أنكم تثبتون في روح واحد مجاهدين معا بنفس واحدة لإيمان الإنجيل " ( فی ۱ : ۲۷). من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم أهمية الشركة فى الصلاة ، والصوم ، والتناول ، والعبادة كلها ، ذلك لأن الاختبار الروحى أرثوذكسيا وإن كان له البعد الشخصي الذي يركز على العلاقة الشخصية بين المؤمن والله ، ألا أنه يتميز بالطابع الكنسى الذى في إطاره لا يستطيع المؤمن أن يخلع نفسه عن وحدة المؤمنين العابدين الذين يصلون عنه ويصلى هو معهم وعنهم والجميع يلفهم جو روحى وجهاد مشترك. نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين عن كتاب الصوم الكبير لاهوتيا و كنسيا وروحيا
المزيد
19 مارس 2024

لماذا صام المسيح أربعين يوما ؟

في بداية العهد القديم كان صوم ، وفى بداية العهد الجديد كان صوم أيضا. في الجنة كانت وصية الصوم والامتناع عن شجرة معرفة الخير والشر وفيها سقط آدم كاسراً هذه الوصية ، وبمعصيته طردنا من الفردوس حتى جاء آدم الثاني وصام ليكسر شوكة الموت ويعيدنا إلى الفردوس الذى فقدناه ، وفى هذا يقول اللاهوتى شممان Schmemann " إذا كان الإنسان قد رفض الحياة المقدمة له من الله وفضل الحياة المعتمدة فقط على الخبز فإنه لم يعصى الرب فقط وإنمـا هوفي الحقيقة غير العلاقة الوطيدة التي بينه وبين العالم إن العالم قد قدم له كطعام ، والطعام كان مقوماً أساسياً للحياة ، والحياة قد قصد بها الشركة مع الله ، فلم يكن الطعام هدفاً فى حد ذاته وإنما وسيلة للشركة مع الله الذى فيه الحياة والحياة نور الناس العالم والطعام خلقا كوسائط للشركة مع الله ، فإنهما إذا أخذا من يد الله فإنهما يصبحان وسائط حياة حقيقية ، ولكن الطعام فى حد ذاته ليس فيه حياة ولا يمكنه أن يعطى حياة ، الله وحده هو الحياة سر الحياة إذا ليس في الطعام وإنما في العمل الإلهى الذى فيه ، إن أكلنا من يد الله فإننا نحيا من خلال شركتنا معه ، ولكن مأساة آدم إنه أكل بعيداً عن الله ، أنه آمن بالطعام كما لو كان هدفا فى حد ذاته فأضحى الطعام والعالم إلها له وصار آدم عبدا لهذا الإله قد يدعى الإنسان الجسدى أنه يؤمن بالله، ولكنه لا يستطيع أن يدعى أن الله هو كل حياته ، غذاؤه ووجوده وكيانه ، هذه هى مأساة الإنسان وخطيئته الكبرى أنه لم يجعل الله حياته ، فجاء أدم الثانى ليصلح الفساد الذي ابتليت به حياة آدم ، جاء ليعيد للإنسان الحياة الحقيقية . لهذا بدأ بالصوم وجاع بعد أن صام أربعين يومـا ، عندما أجوع فإني أكشف ما في داخل نفسي.إما إني أخشى الموت جوعا وإما أن أكون مستقرا مكتفياً بما في داخلي . إنه الوقت الذى فيه أواجه السؤال الحتمى ، على ما تعتمد حياتي ؟ لقد جاءت التجربة لأدم الأول ولأدم الثاني ، وكان كل منهما جائعاً ، وقال الشيطان لهما كلاما حتى يجعل حياتهما من الخبز ، آدم الأول وافق على أن يجعل الخبز مصدر حياته ، وآدم الثانى رفض الإغراء وقال " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ، إنه رفض الأكذوبة التي خدع بها الشيطان آدم ثم ألقى بها على العالم كله ، وهى لا تزال إلى الآن طابع الحياة الإنسانية في العلم والفن وكافة الأنشطة الصوم عند المسيحيين إذا هو مدخل وإسهام فى خبرة المسيح نفسه التي بها يحررنا من اعتمادنا الكلى على الطعام والمادة و العالم ، إننا لا نزال نحيا في عالم آدم الأول ، ولا نزال نعتمد على الطعام، لهذا عبر الابن الكلمة المتجسد وادى ظل الموت ليعطينا الحياة التي يحياها مع الآب ، حياة المجد والفرح والحب الإلهى ، لقد أعطى الرب بغلبته على الشيطان في البرية قوة نصرته لكل من يؤمن به ، وصار لكل من يحيا بالإيمان بالمسيح قوة الغلبة على شهوة الخبز وتجربة الاعتماد والاتكال على لقمة العيش ، المسيحى يتجرد بالصوم من الحياة حسب الجسد ليحيا حسب الروح ومن ثم يصبح الله كل غذائه وشبعه وحياته إنه الصوم الذي يصنع هذا التحول ، إنه الصوم الذي يعطينا فرصة التأكد من رفضنا الاعتماد على المادة والطعام ويبقيان مجرد وسيلة ومجال لنيل البركة والنعمة الإلهية بالصوم نستعيد طبيعتنا الروحية الحقيقية ونتحدى الأكذوبة والكذاب الذى خدعنا في أن نعتمد على الطعام في حياتنا ونبني على قاعدة لقمة العيش معارفنا وعلومنا ووجودنا كله ، الصوم هو فضح لهذه الأكذوبة ، أنه كشـف للوهم والغش والخداع إنه المعركة الحقيقية ضد الشيطان لأنه تحد لقانونه ومنهجه الذي به يترأس على العالم فإذا صام المؤمن وجاع واكتشف أنه بالحقيقة راض ومستقر رغم هذا الجوع ثم حول هذا الجوع إلى طاقة روحية وانتصار فإن شيئاً لا يبقى من الأكذوبة الكبرى التي سرت من بدء الخليقة حتى الآن ، ولكن يلزمنا أن نشير إلى أنــــــه ليــس كـــل جـــوع هو حالة روحية ، فهناك جوع لأجل إنقاص الوزن، وجوع لأجل الانتحار ، ولكن الجوع في كنيسة الله هو جوع لأجل الله ، من أجل هذا يلزم أن يرتبط الصوم بالصلاة لأجل الانتعاش ، فبدون أن تتغذى نفوسنا على الحق وبدون ارتباطنا بالطاقة الروحية من خلال الصلاة والقراءات الروحية فلا معنــى للصوم إطلاقاً وإذا كان السيد المسيح قد انتصر على الجوع ليعطينا الغلبة على تجربة الخبز فإن الرب وهبنا أيضاً جسده ودمه الأقدسين كخبز سماوى ووعدنا بأن كل من يأكل جسده ويشرب دمه يثبت فيه وينال الحياة الأبدية ، فمن خلال سر الأفخارستيا نتحد بالرب الظافر وننال قوته ونصرته ، وهذا هو سر حرص الكنيسة على أن تجعل صوم أبنائها مقترناً بالتناول حتى تتقدس ذبيحة صومنا في ذبيحة الأفخارستيا وننــال من خلالها قوة ونصرة وشبعاً وضماناً لعدم العودة إلى الخبز كمصدر وعماد للحياة .أى ألا ننتكس ونرتد إلى خطيئة أبينا آدم الأول في الصوم الأربعينى تطلب الكنيسة من أبنائها أن يجاهدوا كمـا جــاهد المسيح في البرية وانتصر ، تطلب منهم أن يجوعوا معه لينتصروا على جوعهم ويصعدوا طاقتهم إلى صعيد روحى ويفضحوا الأكذوبة القائلة إن الإنسان يأكل ليحيا ، ويؤكدوا حقيقة أن الله وحده هو الخبز الحقيقى والحياة الحقيقية، وكل من يأكله يحيا به إلى الأبد. نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين عن كتاب الصوم الكبير لاهوتيا و كنسيا وروحيا
المزيد
12 مارس 2024

الصوم الكبير لاهوتيا كنسيا روحياً

الكنيسة والصوم الكبير يعتبر الصوم الكبير ربيع الحياة الروحية فى الكنيسة كلها فيه تنمو الاشتياقات الروحية وتزدهر ، وتمتلئ البيعة بموجة نسكية ويسود جو العابدين مسحة من التقشف والاعتكاف والصلوات الممتدة والصمت والتأمل العميق والصوم الكبير يمتد تاريخه إلى العصر الرسولى ، فالمؤمنون يصومون فيه على مثال صوم الرب ، ويختمونه بأسبوع البصخة وعيد الفصح ، وقد جاء في تعاليم الرسل بخصوص الأربعين المقدسة ما نصه " فليكن عندكم جليلا صوم الأربعين تذكارا للفضائل والحسنات التى للرب ، وليكمل هذا الصوم قبل الفصح ويكون بدؤه من يوم الاثنين الثانى من السبوت وكماله يوم الأحد الذي قبل الفصح ، وبعد هذا اهتموا أن تكملوا أسبوع الفصح المقدس وتصوموا كلكم بخوف ورعدة " (دسقولية ١٨ ف ۱۰ ) والكنيسة توصى أبنائها بالصوم الأربعيني لأنها تسير فى إثر خطوات الرب نفسه وتهتدى بهديه وتختط نفس الدرب الذي سار عليه عندما كان في الجليل والناصرة ، إن الكنيسة هي امتداد التجسد ، لهذا تحرص على أن تكون حياة الرب المتجسد نموذجاً يتبعه كل عضو في الجسد ، فقد جاء تاركاً لنا مثالاً لكي نتبع خطواته ، والصوم هو أحد أركان الحياة التي عاشها الرب على الأرض إذ صام أربعين يوماً وأربعين ليلة بسر لا ينطق به ، ، وهكذا رسم للكنيسة أن تصوم معه لكى تتم من خلال هذه الحياة النسكية مقاصده الإلهية وتدابيره المقدسة في هذا العالم فطاعة الكنيسة لمنهج الرب أمر يفسر لماذا حرصت الكنيسة طيلة عصورها علـى عدم التنازل عن حياة الصوم والتقشف، وبالأخص هذا الصوم الذي قدمه الرب نموذجا يحذى وليس الصوم هدفاً فى حد ذاته ، وإنما هو مجال لممارسة الفضائل الروحية من صلاة وخلوة واعتكاف وصمت وهدوء وتأمل ونسك وبذل ورحمة واحتقار لأباطيل العالم ، هذه هى الترجمة العملية لمنهج الرب الذى عاش مصلوبا منذ تجسده حتى موته بالجسد فالصوم هو أحد قسمات الصليب الذى حمله الرب وأوصى الكنيسة أن تحمله معه " إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني ( مت ١٦ : ٢٤ ) ، وفى هذا يقول الرسول بولس " إني حامل في جسدى سمات الرب يسوع " (غلا ٦ : ١٧).وإذا كان الرب قد أخلى نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب فليس العبد أفضل من سيده ولا التلميذ أفضل من معلمه فالمؤمن مطالب أن يجحد ترف الحياة وأباطيلها الفارغة ومباهجها الزائفة ليحيا مع المسيح في منهجه النسكى ليغلب كما غلب هو ، والرب وعد أن يعمل في الكنيسة بروحه القدوس طالما الكنيسة أمينة في شهادتها مصلوبة لأجل عريسها وتهدف الكنيسة من الصوم الأربعينى - فضلاً عن بركات الصوم الروحية - أن تعد المؤمنين لاستقبال أسبوع البصخة المقدسة بعد ضمه إلى نهاية الصوم ، فهذا الأسبوع هو قمة الحياة الروحية وعمق حياة الشركة المقدسة ومنتهى السمو للنفس المكرسة الخاضعة الهادفة أن تتحد مع المسيح فى آلامه وموته وقيامته ، فيكف إذا لشعب لاه أن يستقبل أسبوع الآلام ؟ وكيف يمكن لجماعة متخمة بالأطعمة والموائد وخمار هذا العالم أن تتبع المسيح فى أحزانه وآلامه المقدسة، وكيف يمكن لشعب منهزم لخطايا وشهوات عدة أن يعيد عيد النصرة والغلبة والقيامة المجيدة ؟ الصوم الأربعيني هو المجال الذى تتدرب فيه النفس الروحانية على الانطلاق والتحليق في السماويات وتقديم عهود التوبة والانسحاق وعربون النية الحقيقية للموت مع ذاك الذي مات لأجلنا وقام . نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين عن كتاب الصوم الكبير لاهوتيا و كنسيا وروحيا
المزيد
19 فبراير 2024

كيف يتحقق هذا النمو المتكامل ؟

ولا يمكن أن يتحقق هذا النمو المتكامل المسيحي لا يعى رسالته ولا يدرك مسئوليته ، إذ يلزم بادىء ذي بدء أن يثق المسيحي أنه ليس ترساً في آلة ، وليس نقطة في محيط واسع ، وإنما هو كاهن الخليقة وتاجها ، وقد حمله الرب مسئولية تنفيذ مقاصده الإلهية في دائرة حياته الخاصة مهما كانت بسيطة وصغيرة وتافهة في نظر الناس ولا يمكن أن يتحقق هذا النمر المتكامل إلا من خلال الارشاد والتوجيه النير السليم والطاعة الحقيقية للروح فى كافة المجالات فكما أن الآباء الجسديين يهتمون بنمو أولادهم في الجسد وفي العلم والمعرفة ، فإن الآباء الروحيين الحقيقين يهتمون بالتدبير السليم المتكامل الواعى الذى يحرص على تقدم كل جانب من جوانب الشخصية وكلما كان المسيحى مطيعاً للحق الذي في كتابه المقدس والذي في مرشده الروحى وأبيه فى الاعتراف ، كلما كان مستعداً لتقبل النضج في كافة مجالاته ، والأمانة في حفظ الوصية ، والاختبار السليم المحبة المسيح ؛ والانفتاح الصادق للمسات الحب الإلهى هذه كلها تجعل الشخصية خصبة نامية ، لها القدرة على العمق كما تغوص الجذور في التربة ، ولها القدرة على العلو كما يعلو النخيل في الهواء ، ولها القدرة على الاتساع كما تتسع الأغصان الحمل مئات العناقيد والأثمار إن الشخصية كفاح مستمر وجهاد دائم وانتصار مستمر على استعباد الذات وليس فى إستطاعة الانسان أن يحقق امكانياته إلا بالجهاد واحتمال المعاناة والسيطرة على الأهواء والشهوات ويرى الفيلسوف برديايف أن العلامة الحقيقية لنمو الشخصية هي تخلصها من الإنفرادية وقدرتها على البذل والتلاحم مع الآخرين إسمعه يقول إن أشر أنواع العبودية هي إستعباد الإنسان لنفسه ، تقوقعه في الأنا المغلقة ودورانه حول ذاته الميتة يفرق برديايف بين الشخصية والفردية، فالرجل الفردى يعنى بالتعبير عن رغبانه وشهواته ويستشعر دائماً أنه في عزلة عن سائر الناس ،ولكن صاحب الشخصية يرى أن له رسالة ،وأن عليه أن يقوم بنصيبه في خدمة الانسانية والشخصية تنمو فى كنف الحب والعطف والعمل الخلاق الموجه إلى الخير العام الشامل إن الوجود الحق عند هذا الفيلسوف هو وجود الشخصية الحرة، والحرية هنا هي ما قصده الرب يسوع الحرية الباطنية التي تقفز بالإنسان خارج سجن ذاته ، وتعطيه القدرة على الانفتاح الآخرين ومحبة الغير و خدمته وقد شرح الرسول بولس هذا الاتجاه في إلهام عجيب عندما بين أن أعضاء الجسد الواحد تستمد كيانها من خلال عضويتها الحية ، وأن المواهب الشخصية ليست الأنانية وإنما لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح ، كما أوضح أن الهدف النهائي من جهادنا سوياً ونمونا سوياً أن تنتهى جميعنا إلى وحدانية الايمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح ، (أفسس ١٣:٤). نيافة المتنيح الانبا بيمن اسقف ملوى وأنصنا والاشمونين عن كتاب المسيحية وبناء الشخصية
المزيد
12 فبراير 2024

النظرة التكاملة للشخصية

ويقول معلمنا لوقا البشير عن الرب يسوع له المجد « وأما يسوع فكان يتقدم فى الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ، ( لو ٢ : ٥٠ ) . ومن خلال هذه الآية المقدسة نستطيع أن نتبين نظرة الله إلى الإنسان، هذه النظرة التكاملية التى بدأ علماء النفس في العصر الحديث بالتكلم عنها بينما سبقهم الرب يسوع في إختبارها بالآف السنين كان ينمو في الحكمة هذا ما يسميه العلماء النمو العقلى كان ينمو في القامة وهذا ما يسمى بالنمو الجسمى كان ينمو في النعمة وهذا ما ندعوه بالنمو النفسى عند الله و هذا ما نطلق عليه النمو الروحي وعند الناس وهذا هو النمو الاجتماعي فالمسيحية تهتم بتنمية القدرات العقلية كي تستخدم في مجالها لسيطرة الإنسان على الطبيعة وإداء رسالته في الحياة ، ولكنها تعطى للعقل إستنارة وحكمة إلهية تجعله خاضعا لكلمة الله بعيداً عن كل تمرد فكرى وإنحراف ذهنى شيطاني والمسيحية تهتم بتنمية الطاقات النفسية فيحيا المسيحى مبتهجاً سعيداً له نفسية مدوية إيجابية خالية من كل كبت وحرمان وشعور بالنقص أو شعور بالنفوق أو كل ما يعطل النمو النفسي السليم من عقد نفسية وإنفعالات مكبوته .والمسيحية تهتم أيضاً بالنمو الجسمى وتقدر قيمة الجسدكوزنة هامة في حياة الإنسان وكهيكل للروح القدس وكأداة تستخدم لتنفيذ مقاصد الله وكإناء مبارك سيحمل النور والبهاء متجلياً في مجد لا ينطق به عند المجىء الثانى للرب يسوع والمسيحية تهتم أيضاً بالنمو الإجتماعي وتقدر العلاقات الإنسانية والتفاعل الإجتماعى وأهمية الدور الذي يؤديه المؤمن في حياته مع الناس والآخرين والجماعات بكافة أنواعها وأبعادها وهى ترى في هذا النمو برهانا على صدق الايمان ونقاوة المحبة وسلامة الرجاء المبارك الداخلي والمسيحية تهتم أيضاً بالنمو الروحي السليم لأنه هو قمة النمو المتكامل ، فالروح هي التي تقود كل نمو داخلي ، وهي التي توجه كل الطاقات نحو السماء ، وهى التى تعطى القدرة على البذل وتهون المعاناة وتنمى و تخصب الكيان ، ولها عين بسيطة نقية تعاين الله وترى ما لا يرى، ولها أذن مختونة تسمع الأصوات القادمة من الأبدية ، هذه التى لا يسمعها أهل العالم في ضجيجهم وصخبهم، ولها قلب يحس بأمور لا يحسها غير المؤمن . كيف يتحقق هذا النمو المتكامل ؟ ولا يمكن أن يتحقق هذا النمو المتكامل المسيحى لا يعى رسالته ولا يدرك مسئوليته ، إذ يلزم بادىء ذي بدء أن يثق المسيحى أنه ليس ترساً في آلة ، وليس نقطة في محيط واسع ، وإنما هو كاهن الخليقة وتاجها ، وقد حمله الرب مسئولية تنفيذ مقاصده الإلهية في دائرة حياته الخاصة مهما كانت بسيطة وصغيرة وتافهة في نظر الناس .ولا يمكن أن يتحقق هذا النمو المتكامل إلا من خلال الارشاد والتوجيه النير السليم والطاعة الحقيقية للروح في كافة المجالات فكما أن الآباء الجسديين يهتمون بنمو أولادهم في الجسد وفى العلم والمعرفة ، فإن الآباء الروحيين الحقيقين يهتمون بالتدبير السليم المتكامل الواعى الذى يحرص على تقدم كل جانب من جوانب الشخصية وكلما كان المسيحى مطيعاً للحق الذي في كتابه المقدس والذي في مرشده الروحى وأبيه فى الاعتراف ، كلما كان مستعداً لتقبل النضج في كافة مجالاته ، والأمانة فى حفظ الوصية ، والاختبار السليم لمحبة المسيح ؛ والانفتاح الصادق للمسات الحب الإلهى هذه كلها تجعل الشخصية خصبة نامية ، لها القدرة على العمق كما تغوص الجذور فى التربة ، ولها القدرة على العلو كما يعلو النخيل في الهواء ، ولها القدرة على الاتساع كما تتسع الأغصان حمل مئات العناقيد والأثمار إن الشخصية كفاح مستمر وجهاد دائم وانتصار مستمر على استعباد الذات وليس فى إستطاعة الانسان أن يحقق امكانياته إلا بالجهاد و احتمال المعاناة والسيطرة على الأهراء والشهرات ويرى الفيلسوف برديا يف أن العلامة الحقيقية لنمو الشخصية هي تخلصها من الإنفرادية وقدرتها على البذل والتلاحم مع الآخرين. إسمعه يقول : إن أثر أنواع العبودية هي إستعباد الإنسان لنفسه ، تقوقعه فى الأنا المغلقة ودورانه حول ذاته الميتة ، . يفرق برديا يف بين الشخصية والفردية، فالرجل الفردى يعنى بالتعبير عن رغبانه وشهواته ويستشعر دائماً أنه في عزلة عن سائر الناس ، ولكن صاحب الشخصية يرى أن له رسالة ، وأن عليه أن يقوم بنصيبه في خدمة الانسانية والشخصية تنمو فى كنف الحب والعطف والعمل الخلاق الموجه إلى الخير العام الشامل . إن الوجود الحق عند هذا الفيلسوف هو وجود الشخصية الحرة، والحرية هناهى ما قصده الرب يسوع .. الحرية الباطنية .. التي تقفز بالانسان خارج سجن ذاته ، وتعطيه القدرة على الانفتاح الآخرين ومحبة الغير و خدمته وقد شرح الرسول بولس هذا الاتجاه في إلهام عجيب عندما بين أن أعضاء الجسد الواحد تستمد كيانها من خلال عضويتها الحية ، وأن المواهب الشخصية ليست الأنانية وإنما لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح، كما أوضح أن الهدف النهائى من جهادنا سوياً ونمونا سوياً أن ننتهى جميعنا إلى وحدانية الايمان ومعرفة إبن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة مل. المسيح ، (أفسس ١٣:٤). نيافة المتنيح الانبا بيمن اسقف ملوى وأنصنا والاشمونين عن كتاب المسيحية وبناء الشخصية
المزيد
05 فبراير 2024

قيمة الشخصية عند الله

خلق الإنسان على صورة الله فى الحرية والإرادة والقداسة والنطق ، ليكون نموذجاً مباركاً للعمل الإلهى ، إذ يتمجد الله بما في خليقته وعمله من حسن وما فى صنعه جمال . والإنسان قد خلق على أعلى مستوى من الحسن ، وإلى أعمق أبعاد الملء قد دعى إلى الوجود والكيان . وسر عظمة الإنسان أن لديه أبعاداً لا تتوفر لأى خليقة أخرى . إذ له البعد الداخلي وله البعد الخارجي، له الحياة الباطنية وله الحياة الاجتماعية أيضاً عنده العمق وعنده الإنساع أيضاً . فيه الروح وفيه الجسد ، فيه الحياة الروحانية السماوية الملائكية ، وفيه الحياة المادية المرتبطة بالكون وتراب الأرض . فيه العقل والنطق ، وفيه العاطفة والحواس ، فيه الإرادة والحرية ، وفيه الحركة والحيوية. وبإختصار فيه كل ما تتطلبه الحياة السماوية والحياة الأرضية معاً هذه الأبعاد المجتمعة فى إنسجام عجيب هي التي تعطى الإنسان قيمة تجعله تاج الخليقة المنادية كلها . وفى هذا يقول كاتب رسالة العبرانيين مستشهداً بما رنم به داود النبي وضعته قليلا عن الملائكة ، بمجد وكرامة كلته ، وأقته على أعمال يديك . أخضعت كل شيء تحت قدميه .. ( عب ۲ : ۸،۷ ) ولقد بين الله لنا عظم محبته للإنسان أنه نزل من المجد ليحتضن الطبيعة البشرية ويقتبلها فى أقنومه متحدا بها صائراً في شبه الناس مساوباً لنا فى كل شيء فيما عدا الخطية وحدها . ومن خلال تجمد المسيح أصبح الإنسان ذا رتبة أعظم من مركزه الأول إذ صار الإنسان شريكا لرب المجد ، وصار الرب بكراً بين إخوة كثيرين ولقد احتفظ الرب بجسده بعد القيامة ليكون شفيعاً ووسيطاً وحيداً لجنس البشرية أمام الآب السماوى . وأصبح الله حاضراً في العالم وليس مشاركاً لتاريخه فقط بل الجوهره أيضاً ، وأصبح الإنسان المختوم بالروح القدس حاملا المسيح وصار الجسد المعمد ميكلا للروح القدس وعضواً في جسد المسيح الحى أى الكنيسة و كما خلق الله آدم وجعله في الجنة متمتعاً بالمجد والفرح والنور والبهاء الذى يعيش فيه الثالوث الأقدس ، فإن الله أعطى للإنسان أن يشاركه في عملية الخلق ، إذ أمر الله آدم و حـواء أن يكثرا وينسلا ويملأ الأرض. فالرجل والمرأة يقدمان جسدهما في ذبيحة الحب والإتحاد ، والله ينفخ فى الجنين المتكون نفخة حياة وهذا الجسد المستقل وهذه النفخة الفريدة هما اللذان يكونان الإنسان فى كيان شخصى والله يعطى إهتمامه لكل واحد في أبوة عجيبة لا يمكن تصورها وقد كشف لنا الرب يسوع عن هذا السر الأبوى المذهل إذ يقول عن نفسه أنه هو راعى الخراف لهذا يفتح البواب والخراف تسمع صوته فيدعو خرافه الخاصة بأسماء و يخرجها ومتى أخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها والخراف تقبعه لأنها تعرف صوته . و إنى أنا الراعى الصالح ، وأعرف خاصتي وخاصتى تعرفنى ، كما أن الآب يعرفنى وأنا أعرف الآب ، ( يو ۱۰ : ١٤،٨ ) . ومن هذا القول الألهى يتبين لنا أن الله يتعامل مع أولاده معاملة خاصة وله علاقة سرية هي علاقة المعرفة الاختبارية الباطنية ، أعطاها الرب نموذجاً وصعيداً هی العلاقة الفريدة التى بينه وبين أبيه الصالح لأجل هذا نقدم الشكر والسجود للرب يسوع لأنه خلقنا بشراً على صورته ، ولأنه تجد وأخذ طبيعتنا ، وصار واحداً منا ؛ ولأنه يعرف كل منا معرفة خصوصية ... كل ما يمسنا يمس حدقة عينه إذ قد نقشها على كفه بل وضعنا في جنبه المطعون ، وصار ضامناً لنا ومسئولا عنا وإذا كان رئيس الكهنة في القديم يكتب أسماء الأسباط الإثنى عشر على سترته عندما يدخل إلى قدس الأقداس ليخدم ، فما كان هذا إلا رمزاً لما يعمله الرب يسوع معنا إذ يحمل شخص كل واحد فينا في قلبه وعلى منكبيه مبارك أنت يا رب فى محبتك. مستحق كل شكر وتمجيد إلى أبد الابدين آمين نيافة المتنيح الانبا بيمن اسقف ملوى وأنصنا والاشمونين عن كتاب المسيحية وبناء الشخصية
المزيد
31 يناير 2024

بمناسبة عيد الأنبا انطونيوس

عظيم هو هذا القدوس سطح نجم هذا القدويس العظيم حتى أصبح أبا الجميع الرهبان ، ليس فى مصر فقط بل في العالم كله وتطلق الكنيسة القبطية عليه لقب العظيم ، ونود أن نشير إلى بعض ملامح العظمة في سيرته * عظيم في دعوته : من كان يصدق أن فلاحا أميا من قرية فمن العروس من أعماق الواسطى ، يصير ناسكا ذا شهرة مسكونية ذاتية ؟! + كان عظيما في دعوته . لان عوائق كثيرة كانت أمامه ، تخطاها بقوة إيمانه + كان عينا ، انتصر على محبة المال .. حقا ما أعسر دخول الأغنياء إلى ملكوت السموات ولكن عظمة الانبا انطونيوس جعلته يبيع كل ماله ويودعه على الفقراء بل ويعيش حياة الكفاف والنسك والزهد كان أميا ، إستنار بالمعرفة الألهية : إستطاع أن يمتلىء من روح الحكمة وتتدفق كلمات النعمة من شفته ، ونتصر على فلاسفة عصره مظهراً كيف أن الله إختاروا جهالة العالم لتجزى بهم الحكماء + كان مسئولا عن أخته ورعايتها . فأودعها بيتا العذارى المكرسات وخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب وما الذي يعمله ، إذ ليس من دير أو مرشد أو منهج سابق وهذه هى قوة الايمان التي تجاوز أبعاد الزمان والمكان والكيان . عظيم في نسكه وجهادة كان يأكل مرة واحدة فى اليوم بعد الغروب وفي كثير من الاحيان مرة كل يومين ، وفى بعض الأحيان مرة كل أربعة أيام ، أما طعامه فكان الخبز والملح ، وكان يكفيه أن ينام على حصير خشنة ولكن نسكه هذا لم يكن سلبياً كنوع من الحرمان والتعذيب ، وإنما كن ثمرة إيجابية للحب الإلهى فى القلب، وإشتعال داخلى يلهب الروح القدس ولم يكن هذا القديس متطرفاً فى نسكه ، بل كان يتميز بالإعتدال والإفراز ؛ فبعد عشرين عاماً في محبسته ، خرج ، لا هزيلاً من شدة النسك ولا مترهلا قلة التدريب والجهاد ، كما كانت نفسه أيضاً لا منقبضة عابسة ، ولا مطلقة العنان منسابة كان جهاده عنيفاً الأرواح الشريرة ، كثيراً ما الحب ظهره بالضرب المبرح حتى القته فاقد النطق ، ولكنه كان صامداً قوياً تارة يحرقهم بإشارة الصليب، وتارة يتضع أمامهم فيهربون ، وكثيراً كان إذا قابل شخصا عليه روح شرير يفرع هذا الروح من المقابلة ويخرج للتو وفى بدء حياته النسكية حاول الشيطان أن يغريه بالذهب ويلقى . أمامه أكواماً من الذهب ، فما كان يعيرها التفاتاً. ذلك لأن النفس التي ماتت حقاً عن العالم لا يحركها إغراء . ويتميز جهاد انطونيوس بالحرارة والتجدد والشبوبية الدائمة فكان يقول لأولاده . « يا أولادى فى كل صباح جددوا عهد رهبانيتكم كأنكم قد ترهبنتم جديداً هذا اليوم » عظيم في قيادته وخدمته : لقد ملأه الروح ، فجعله إناء مختاراً لقيادة آلاف الرهبان . فكان يعظهم ويرويهم بالتعاليم الإنجيلية المستنيرة ، وكان إرشاداته تتسم بالإستنارة والحكمة والأبوة الجانية. فلم يكن مستبداً متسلطاً ، ولم یکن رخواً متساهلاً ، لهذا كانت جماعته تنموا أينما ذهب ولم يكتف بخدمته فى البرية ، بل كان إيجابياً في خدمة الكنيسة في العالم فأثناء الإضطهاد نزل إلى ساحة الإستشهاد ، وأخذ يشدد المعترفين ، فكان وجوده فى الإسكندرية بركة وعزاء وقوة وإلهاماً ، وعندما إدعى الأريوسيون أن آراء أنطونيوس تتفق مع آرائهم ، نزل من الجبل إلى الأسكندرية وشجب بدعتهم ، وعلم بأن الابن الكلمة مساء للآب في الجوهر . ففرح شهب الاسكندرية. وعاد إلى الإيمان كثيرون من المخدوعين بالآراء الأريوسية ، كما أنه أفحم أصحاب الفلسفات الوثنية دون علمه باللغة اليوناينة وثقافتها . وقدم لهم إجابات رزينة مع روح وديعة رقيقة ... طوباك أيها القديس العظميم . كنت في حياتك كشجرة مخصبة على مجارى المياه . تتلمذ على يديك الألوف « وملأت البرية بالملائكة الأرضيين وبالبشر السمائيين » نيافة مثلث الرحمات الانبا بيمن اسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
المزيد
04 يناير 2024

أهداف التجسد كما ذكرها أثناسيوس الرسولى

هو الكلمة وحده الذى يليق بطبيعته أن يجدد خلقة كل شيء ، وأن يتحمل الآلام عوضا عن الجميع ، وأن يكون نائباً وشفيعاً عن الجميع لدى الاب . لكي يبطل الناموس الذى كان يقضى بهلاك البشر إذ مات الكل فيه ،ولكي يعيد البشر إلى عدم الفساد ويحييهم من الموت بجسده و بنعمة القيامة . لإمكان تقديم ذبيحة عن الأجساد أخذ الكلمة جسداً مشابهاً ( اشترك هو أيضاً في اللحم والدم لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس ) فبذبيحة جسده وضع جداً لحكم الموت الذي كان قائماً ضدنا" . ليعرفهم شخص الآب السماوى لأن الإنسان بعد سقوطه هوى إلى العبادة الوثنية واتبع السحر والشعوذة . بتجسده جدد الخليفة التي كانت في صوره الله إذا انحط فكر البشر نهائياً إلى الأمور الحسية فقد توارى الكلمة بظهوره في الجسد لكى يستطيع كإنسان أن ينقل البشر الى ذاته ويركز احساساتهم في شخصه أنى ليحمل عنا اللعنة الموضوعة علينا وبموته صار كفارة عن الجميع ونقض حائط السياج المتوسط واذ رفع جسده على خشبة الصليب طهر الهواء من خبث الشيطان .ليحقق النبؤات التى ملأت الكتب الالهية عن ميلاده و آلامه وموته . جاء في شكل بشرى وليس في شكل اسمى لأنه جاء ليخلص ، لا ليبهر الأنظار ويؤثر على الألباب ، ولان الانسان وحده هو الذى أخطأ دون سائر المخلوقات . ( لا يقصد ان نكون الها في الجوهر أو الأقنوم وإنما ان يكون لنا امكانية مشاركته في طبيعة مجده وفرحه وحبه الإلهى المجيد ) . مثلث الرحمات نيافة الحبر الجليل الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين عن كتاب التجسد الإلهى لاهوتيا .روحيا.كنسيا. طقسيا
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل