المقالات

18 نوفمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس دانيال

دانيال " يا دانيال، أيها الرجل المحبوب "" دا10: 11 " مقدمة كانت حياة دانيال، من أولها إلى آخرها، حياة حافلة بالأزمات، ولقد شاء له اللّه أن يؤخذ وهو غض صغير، ربما لم يكن يتجاوز السابعة عشرة من عمره، إلى السبى منذ السنة الأولى ليقضى فى بابل عمره بأكمله هناك، أو مدة سبعين عاماً أو تزيد، حتى أيام كورش وداريوس المادى مما جعل البعض يعتقد أنه بلغ التسعين من العمر، أو حول ذلك، حين انتهت حياته ورسالته على الأرض،... ولم تكن حياة السبى هينة يسيرة سهلة، بل هى الحياة التى امتلأت بالأزمات بكل ألوانها وصنوفها، من إغراء أو تهديد، ما بين أطايب الملك وجب الأسود،... وكان من الواضح أن قصد اللّه من دانيال أو من زملائه الثلاثة الفتية، أن يكونوا صورة ومثالا للمسبيين، وكيف يعيش الإنسان فى أسوأ الظروف، وأدق الأوقات، مرتفعاً منتصراً على التجارب والمآسى، التى يمكن أن تعترض طريقه، دون أن تفتنه حدائق بابل المعلقة، أو يفزعه أتونها المتقد سبعة أضعاف، أو زئير أسودها فى جب الأسود.ولعله من المناسب أن نشير ههنا إلى أن دانيال من الشخصيات القليلة الذى - رغم التجارب التى أحاطت به - لم يدون عنه كتاب اللّه خطأ معينا أو سقطة ظاهرة، فهو من هذا القبيل أشبه بيوسف، ويشوع، وصموئيل، ممن لا تعرف عنهم إنحرافاً فى جانب من جوانب الحياة، وليس معنى ذلك أنهم كانوا معصومين، فالمعصوم هو الواحد الأحد الذى قال: « من منكم يبكتنى على خطية » " يو 8: 46 " غير أن الأسماء المشار إليها، شاء لها اللّه أن تكون أنوار عصرها، بل أن تعيش فى التاريخ نماذج رائعة تهدى العابرين السبيل، والمنعطفين هنا أو هناك فى مساء الحياة المتعبة القاسية الشديدة المنكوبة!!.. ولعلنا نرى دانيال بعد ذلك فيما يلى:- دانيال ومن هو:- الاسم « دانيال » يعنى « اللّه قاضى » ولقد عاش هذا الرجل طوال حياته على الأرض، وهو يتطلع إلى اللّه القاضى العادل، وهو يتصرف فى الحياة دون أن يبالى بالناس، لأنه يعلم أن قضيته ليست فى يد بشر، بل فى يد اللّه الذى يحكم بعدل،... كان من أعلى الطبقات فى بلاده ومن النسل الملكى كما هو واضح فى سفره، ونحن لا نعلم شيئاً عن أبيه وأمه، لكننا يمكن أن نتصور أنه تربى فى سنواته الأولى تحت يدى معلمين عظيمين، البيت، والألم،.. ولا يمكن أن أصدق أن شاباً يتصرف هكذا، فى أرض غريبة، بعيداً عن كل رقابة أو ملاحظة من أحد، دون أن تكون نشأته، وبيته، وتربيته مرتبطة ارتباطاً عميقاً باللّه،.. إنه أشبه الكل بموسى، عندما حصنه البيت، قبل أن يدخل داخل أسوار قصر فرعون، وقبل أن يحاط كصبى بأقوى عوامل الإغراء التى يمكن أن يتعرض لها صبى فى الحياة،... وربما كانت أم دانيال أشبه بيوكابد التى جعلت ابنها يعيش، فى كل شئ داخل أسوار القصر، ولكن قلبه كان على الدوام فى مكان آخر، وبصورة أخرى!!.. كان البيت هو المعلم الأول لموسى، ولدانيال، وكان الألم هو أيضاً المعلم الثانى - والألم فى العادة يهبط بالإنسان إلى القاع أو يرفعه إلى مصاف الأبطال، وقد صنع من دانيال بطلا عظيماً، فأنت ترى نفسك فى العادة وأنت تقرأ قصته، أنك أمام إنسان ممتاز غير عادى، عاش منكوباً فى وطنه وشعبه، وعاش منكوباً فى وسط التجارب المتعددة التى لاحقت حياته، ولكنه كان أشبه بالمعدن النفيس يزداد بالاحتكاك جمالا ولمعاناً،... كان جميل الوجه حسن المنظر، وربما كان كموسى أو يوسف فى فتنة المظهر، إذ أنه والثلاثة فتية اختيروا ليدخلوا الأكاديمية العلمية التى أنشأها نبوخذ ناصر، وليدرسوا فيها ثلاث سنوات، وكان من الشروط الأساسية أن يجتازوا ما يطلق عليه فى وقتنا الحاضر « كشف الهيئة » « من الشرفاء فتيانا لا عيب فيهم حسان المنظر حاذقين فى كل حكمة وعارفين معرفة وذوى فهم بالعلم، والذين فيهم قوة على الوقوف فى قصر الملك فيعلموهم كتابة الكلدانيين ولسانهم» " دا 1: 3 و4 " وكان القصد من هذه الأكاديمية جذب خلاصة الطبقات القائدة من الشعوب المغلوبة، وكلدنتهم إذا صح التعبير، وتغيير منهج حياتهم، إلى الدرجة التى ينسون معها أسماءهم القديمة، ويعطونهم أسماء كلدانية، حتى أن دانيال أعطوه اسم « بلطشاصر » أو « أثيربيل » أو المفضل من بيل.. وكان الهدف، كما هو واضح، زحزحتهم عن قومياتهم الأولى، وإدماجهم فى القومية الكلدانية مع إغراقهم بالإمتيازات والإغراءات، حتى يصلوا إلى نسيان أصولهم الأولى!! غير أن دانيال مع ذلك، لم يكن جميل الوجه فحسب، بل كان يملك الجمال المثلث على نحو فائق ممتاز، إذ كان جميل الوجه، والعقل، والإرادة. له، إلى جمال المظهر الخارجى، الذكاء الحاد الأريب، مع إرادة قدت من فولاذ، تعرف أن تقف إلى جوار اللّه والحق والحياة السليمة دون أدنى تردد أو شبهة أو خوف!! كانت شجاعة دانيال خارقة للعادة، تلك الشجاعة التى لازمته طوال حياته، والنابعة من مبادئه وتقاليده، وأن أعظم شجاعة فى الحياة، أن يكون الإنسان نفسه كما يعتقد ويريد، لا أن يكون ممسوخاً فى وسط الآخرين، يحاكيهم ويشاكلهم، ويسير على دربهم فى الصواب والخطأ على حد سواء، فإذا خلا إلى نفسه أنكر ما فعل أو برر قصته بأن ضغط الظروف أكرهه على ذلك،... كان دانيال شجاعاً فى السابعة عشرة من عمره وكان شجاعاً فى التسعين من العمر، كان شجاعاً أمام الإغراء، وكان شجاعاً أمام التهديد والوعيد،... كان شجاعاً وهو يرفض مائدة الملك، وكان شجاعاً وهو يواجه عطايا الملك، أو جب الأسود،... لم يتذبذب قط فى شجاعته أو يتراجع عنها، أو يغطيها بما يقال إنه الحكمة أو ما أشبه من تعليلات الناس!!... كان شجاعاً عندما وضعت أمامه أطايب الملك، وهو صغير فى وسط مئات الشباب، ممن يحلمون بمجد العالم، وممن يسرعون إلى محاكاة بعضهم البعض، أو ممن يستطيعون أن يعتذروا أمام أنفسهم، بأنهم مكرهون، ولا حرية لهم فى القول أو الاختيار كما يفعل آلاف الشباب على وجه الأوض! وكان شجاعاً فى مواجهة بيلشاصر الملك، وهو ممتلئ من الغضب والسخط المقدس، عندما ادخل إليه فى حفله الذى صنعه لقواده وعظمائه، وكان الحفل ماجناً معربداً، وقد صنعه - على الأرجح - لسببين، يقصد من ورائهما تقوية روح قواده وجنوده المعنوية. إذ أن عاصمته كانت فى ذلك الليلة محاصرة بقوات مادى وفارس، وكان لابد لذلك أن يفعل شيئاً فى مواجهة الحصار فجمع العظماء والقادة إلى حفل كان فى واقع الأمر حفلاً دينياً يطلب فيه معونة الآلهة لشد أزره إزاء الجيوش المهاجمة، وقد أراد أن يسترض آلهته هذه بأن يجعلها فوق جميع الآلهة والأديان. وفى الوقت نفسه أراد أن يثبت شجاعته، ففعل الشئ الذى لم يجرؤ نبوخذ ناصر على فعله، إذ تحدى إله إسرائيل بأن أمر بإحضار الآنية المقدسة التى أحضرها نبوخذ ناصر من الهيكل واستعملها فى الشرب واللهو والمجون.... وعندما ظهرت له اليد التى تكتب على مكلس الحائط إزاء النبراس، وفسر دانيال له الكتابة،... وأراد الملك مكافأته، كان جواب دانيال: « لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيرى » " دا 5: 17 " وهو جواب خشن خال من الزلفى والتملق، وأكثر من ذلك وبخ الملك توبيخاً صارخاً إذ ذكره بما حدث مع نبوخذ ناصر، وكيف أنه لما تكبر ولم يتعظ، وارتفع قلبه وتعالى أمام اللّه، أسقطه القدير على الصورة المفزعة، إذ جعله حيواناً مثل أدنى الحيوانات!!.. ولم تتذبذب شجاعة دانيال قط، وهو فى التسعين من عمره أو ما يقرب من ذلك وهو يواجه جب الأسود، ويأبى أن يقفل كواه لمدة شهر، ليصلى فى سره، وقد كانت صلاته علنية أمام الجميه،... كان الرجل من أشجع الناس الذين ظهروا على وجه الأرض، فى عصره وعلى مر التاريخ أيضاً!!.لم تكن هذه الشجاعة نوعاً من الإندفاع، أو الحماقة، أو التهور، أو التعصب، أو ما أشبه - بل كانت تستند إلى المبدأ الصحيح المرتبط باللّه،... كان دانيال يؤمن بأن المؤمن إنسان يعيش فى العالم، ولكنه ليس من العالم.... وهو إنسان يحيا مع الناس، ولكنه لا يعيش كما يعيش الناس،.. بل أنه لابد أن يحيا نوعاً من العزلة النبيلة التى لا تجرى مع تيار الأيام، واندفاع العالم،... فإذا كانت أطايب الملك امتيازاً فى نظر غيره من الشباب، فهى نجاسة عنده، لقد كانت هذه الأطايب فى العادة نوعاً من اللحوم المحرمة على اليهودى، أو التى كانت تقدم للآلهة الوثنية، ويؤخذ منها الطعام فى القصر الملكى، فليأكل غيره من الشباب منها ما طاب لهم، ولو أكل جميع الشباب، فإن هذا لا يغير من نجاستها وإثمها، والتى تجعله ينفصل عن الجميع بالعزلة النبيلة، وقد كان هذا الشاب عظيماً، لأنه لم يحاول أن يسكت ضميره، أليس له حرية الاختيار، وإذا كان رئيس الخصيان يخشى على رأسه فيما لو غير نظام أكلهم، فكم بالحرى يكون الأمر بالنسبة للشاب نفسه أو زملائه الفتية الثلاثة؟!!... لقد أدرك دانيال أن النجاسة لا يمكن أن تعطيها اسماً آخر، فهى نجاسة مهما يصورها الآخرون أو يعطونها من أسماء أو صور،.... وهو أهون عليه أن يموت نبيلاً مقدساً، من أن يعيش حيواناً منجساً،... وهو واثق تماماً من أن طعامه العادى أفضل وأجمل، وأنه يعطيه من القوة أو الصحة، مالا يمكن أن يجرها عند الآخرين!!.. وقد نجح دانيال منذ القديم فى هذا الامتحان!!.. والشجاعة عند دانيال لا يمكن أن يسكتها الجاه أيضاً، فالجاه الحقيقى من اللّه، وليس من ملك أو إنسان، فإذا كافأه الملك بيلشاصر بأن « « يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب فى عنقه وينادوا عليه أن يكون متسلطاً ثالثاً فى المملكة »... فإن جاه هذا الملك لن يأتى الليل قبل أن ينتهى ويذهب، بمصرعه هو فى الأرض، وهكذا الذين يبحثون عن جاه الملوك أو نفوذهم، وهم لا يعلمون أن هذا الجاه - طال أو قصر - لابد سيذهب مع الريح، إذ هو فى الحقيقة قبض الريح، فى قول سليمان المشهور: « باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح ». والشجاعة الصحيحة ألا يرضى الإنسان بالجاه المزيف حتى ولو تدثر بالأرجوان أو جمل وساماً أو قلادة ذهبية مهما يكن منظرها ومظهرها أمام الناس!! فإذا عجز الإغراء، سواء فى الأطايب أو فى المركز، عن إسقاط الرجل، فإن الامتحان القاسى يكون فى الجب مع الأسود، ويكون فى الشيخوخة أمام ضعف الجسد ووهنه،... وهنا تصل الشجاعة إلى ذروتها الحقيقية، وتحكم العزلة النبيلة الرجل،. كان ديموستينيس أخطب خطباء اليونان، وقد عجز الأعداء عن أن يسكتوا فصاحته بأية صورة من الصور، فما كان منهم إلا أن رشوه، وإذا به يتلعثم، وعندما سأل البعض عن سر لعثمته هذه،... قال آخرون: لقد بح صوته من الذهب،... أما صوت دانيال فقد ارتفع فوق صوت الذهب، وزئير الأسود،... لقد وقف دانيال ضد الفساد والرشوة: « ثم أن الوزراء والمرازبة كانوا يطلبون علة يجدونها على دانيال من جهة المملكة، فلم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنباً لأنه كان أميناً ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب، فقال هؤلاء الرجال لا نجد على دانيال هذا علة ألا أن نجدها من جهة شريعة إلهه » " دا 6: 4 و5 " كان هؤلاء الرجال يرفعون ملوكهم إلى درجة العبادة، كما فعلت روما فيما بعد، إذ كان الاعتقاد أن الآلهة تسكن الملوك، ومن ثم فهم جديرون بالعبادة، ومن لا يعبدهم فإنما يحتقرهم ويحتقر الآلهة التى يمثلونها، وكان هذا هو الشرك الذى نصب بذكاء ودهاء لداريوس الملك، وسقط فيه، وهو لا يعلم،... ولكن دانيال وإن كانت علاقته بالملك قوية وكريمة، إلا أنها تقف عند حد لا يمكن أن تتجاوزه، فهو يعطى لداريوس ما هو لداريوس، ويعطى للّه ما هو للّه،.. وهو يعلم طوال حياة السبى ما بين السابعة عشرة، والتسعين من العمر، أن اللّه جعله بين المسبين قوة ومثالاً،... وهو لا يمكن أن ينحرف قيد أنمله عن هذه الحقيقة كانت عادته الدائمة التى لا يمكن أن يقلع عنها هى الصلاة ثلاث مرات يومياً والكوى مفتوحة تجاه أورشليم حيث هناك قلبه وعقيدته ودينه وإيمانه، وهو لا يستطيع أن يغلق النافذة، وقد جعله اللّه شاهداً، ولا مانع عنده من أن يكون شهيداً، وخير له أن يموت دون أن يجدوا فيه علة إلا من جهة شريعة إلهه، من أن يعيش وقد سقطت شجاعته ومثاليته أمام الكلدانيين والمسبيين على حد سواء!!... لقد عاش الرجل فى جاهه منعزلا عن أسلوب الأخرين من القادة،... وكان أميناً ونبيلاً فى هذه العزلة أيضاً!!... إن قصته على الدوام تذكرنا بقول الرسول: « لا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم » " رو 12: 2 " « لأنه أية خلطة للبر والإثم. وأية شركة للنور مع الظلمة وأى اتفاق للمسيح مع بليعال. وأى نصيب للمؤمن مع غير المؤمن. وأية موافقة لهيكل اللّه مع الأوثان. فإنكم أنتم هيكل اللّّه الحى كما قال اللّه إنى سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً. لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم، وأكون لكم أبا وأنتم تكونون لى بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شئ» " 2 كو 6: 14 - 18 " على أن العزلة عند دانيال لم تكن نوعاً من التصوف، بمفهوم الزهد أو الامتناع عن الطعام، كما يفعل المتصوفون، لأن الزهد عند دانيال كان دائماً مصحوباً بغرض معين، فهو زاهد أو متصوف بالنسبة لكل ما ينجس النفس، حتى ولو سال له لعاب الآخرين،... ويعتقد « كلفن » أن دانيال عندما كان ينصرف من القصر الملكى أو يبعد عن الحفلات، كان يأكل ما يحلو له من طعام أو شراب، لأن الأكل فى ذاته لا يقدم ولا يؤخر، إلا بالقدر الذى يعطى للّه مجداً، أو يعثر الآخرين، أو يقودها إلى عبادة الجسد، والانصراف عن الروح التى هى أعلى واسمى من الجسد، بما لا يقدر أو يقاس،... وهو يمكن أن يتذلل فى وقت الأزمات والنكبات والضيق والحيرة والنوح، كما جاء فى الأصحاح العاشر من سفره: « فى تلك الأيام أنا دانيال كنت نائماً ثلاثة أسابيع أيام لم آكل طعاماً شهياً ولم يدخل فى فمى لحم ولا خمر ولم أدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع أيام » " دا 10: 2 و3 " ومن المستفاد بمفهوم المقابلة، إنه كان يأكل ويشرب ويدهن فى الأوقات العادية، إلا أنه هنا كان نائماً وهو يبحث عن مصير شعبه والمستقبل، وكان ولا شك مشغولا بالصلاة إلى أن جاءته رؤيا السماء!! ومن اللازم أن نشير أيضاً إلى أن الرجل كان مشهوراً بالحكمة الفائقة، التى جعلت حزقيال فى مطلع الأصحاح الثامن والعشرين من سفره، وهو يتنبأ عن رئيس صور الذى ظن أنه أوتى من الحكمة مرتبة الآلهة، وإذا باللّه يوبخه: « ها أنت أحكم من دانيال، سر مالا يخفى عليك » "حز 28: 3 " ودانيال دائماً كان يواجه المعضلات والأسرار بذهن حكيم بارع فى الرأى والمشورة والحكمة، وقد رآه نبوخذ ناصر بالمقارنة بالحكماء والمجوس وعلماء الإمبراطورية عشرة أضعاف فى الحكمة والفهم ولا شبهة فى أن هذه الحكمة كانت فى أسمى صورها هى ما يطلق عليه الشفافية، أو الإلهام، أو الحكمة النازلة من فوق،... ومن المعتقد أنه فى الأكاديمية العلمية فى مطلع الشباب، كان وأخوته الفتيان الثلاثة من المنكبين على الدرس، المجتهدين فى التحصيل، الباذلين أقصى جهد فى المعرفة والعلم،... لكن دانيال كان يعلم علم اليقين أن اللّه يلهم الإنسان، ويرشده وينصحه بكل ما يتجاوز حدود المعرفة والإدراك البشرين وذلك لأن « سر الرب لخائفيه وعهده لتعليمهم »، " مز 25: 14 "، ومن واجبنا ونحن نذكر قصة الرجل، أن نذكر شبابنا المقبلين عن المعرفة والآخذين بأسباب العلم، أن اللّه لا يسر كثيراً بمجرد الدراسة أو التعلم، بل أكثر من ذلك بالتفوق فيها!!.. دانيال وكواه المفتوحة :- على أنك لا تستطيع أن تعرف هذه الشخصية على حقيقتها، إلا إذا صعدت إلى علية الرجل وأدركت عادته العظيمة اليومية التى لا تتغير: « فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة فى عليته نحو أورشليم فجثا على ركبتيه ثلاث مرات فى اليوم وصلى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك » " دا 6: 10 " ونحن نرى الرجل، فى ولائه وإيمانه، وتعبده،... أما الولاء، فمن الواضح أنه كان مركزاً فى أورشليم، وهو لا يستطيع أن يصبح أو يمسى دون أن يتطلع إلى مكان أحلامه، وأشواقه، إلى المدينة التى فارقها منذ سبعين عاماً، ولكنها لم تفارق قلبه وإحساسه، ومشاعره، هى حبيبته العظمى، التى تملك عليه كل المشاعر والحنين والعواطف، منذ تركها صبياً يافعاً طوال سنى السبى القاسية، هى عصارة الأمل والألم، والحزن والحب، والشوق والحياة: « إن نسيتك يا أورشليم تنسى يمينى... ليلتصق لسانى بحنكى إن لم أذكرك إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحى ».. " مز 137: 5 و6 " ولعله غنى هذا المزمور آلاف المرات وهو يمد خياله إلى المكان البعيد البعيد، من هناك من بابل، من كواه المفتوحة كل يوم، نحو أورشليم،.. وما هى أورشليم بالنسبة لى ولك؟.. هى كنيسة اللّه العلى، عمود الحق وقاعدته، عروس المسيح، وحبيبتنا المفضلة على كل حب فى الأرض!!... فهل نحبها ونتطلع إليها، ونحلم بها، ونفكر فى مجدها، كما كان يفعل الرجل القديم تجاه مدينة أحلامه أورشليم!!؟.على أنه، وهو يفعل هذا، لم يكن ولاؤه مجرد حنين إلى تراب الوطن، أو اتجاه إلى مدينة تحولت أطلالاً وخرباً،... لقد كانت المدينة رمز إيمانه باللّه، وحبه لسيده العلى،... وما حبه لها، إلا حباً للّه نفسه، وإتجاهاً إليه، والإحساس بمعنى الوجود مرتبطاً به،... فإذا كان لغيره أن يتصور القبة الزرقاء فوقه ولا تزيد عن الصحن المقلوب، فإن دانيال كان يراها - على العكس - تحدثه عن جلال اللّه ومجده وعظمته وجوده: « السموات تحدث بمجد اللّه. والفلك يخبر بعمل يديه » " حز 19: 1 " ومن هنا نرى الرجل فى العادة المتأصلة فيه والتى أضحت كيانه اليومى، يظهر به واضحاً للجميع فى العبادة ثلاث مرات كل يوم!!... وهل لنا أن نقف هنا، أمام صورة من أجمل الصور وأعظمها لهذا المتعبد وهو يبدو أمامنا فى صورة المتعبد الوديع الذى يركع مهما عظم شأنه فى حضرة اللّه،... عندما سئل الأمبراطور قسطنطين على أى وضع يمكن أن يصنعوا تمثاله، أجاب: إصنعوا تمثالى وأنا راكع على ركبتى!!... فى حفل تتويج الملكة فيكتوريا قيل لها أن تظل جالسة على عرشها، ولو وقف جميع الحاضرين، بينما ترنم الجماهير معزوفة المسيا لهانول، فلما بدأوا الترنيم وقف النواب والأشراف والإكليروس بروؤس مكشوفة، وبقيت الملكة الشابة جالسة على عرش القوة والسلطان، تمييزاً لها عن الشعب كله، ولكن لما تقدم المرنمون إلى الدور الثانى، ظهر التأثر على وجه الملكة، ولما وصلوا إلى قولهم: « وملكه من الآن وإلى الأبد ».. ارتعشت وعندما هتفت الأصوات محمولة على أجنحة الرياح: « ملك الملوك ورب الأرباب » أنتصبت الملكة واقفة على قدميها ورفعت التاج من فوق رأسها لأنها شعرت أنها فى حضرة اللّه الذى ملكه إلى أبد الآبدين، وهو يسود على لكل!! ولعل البعض يذكر تلك الأسطورة القديمة التى تتحدث عن الملك الذى شغف بالبحث عن صليب المسيح، والذى قيل إنه خرج ليبحث عنه، وحصل عليه بعد حروب طويلة،... وعاد فى موكبه الظافر إلى مدينة أورشليم، ليجد فى الحلم الأبواب مغلقة أمامه..، وتقول الأسطورة إن ملاكاً ظهر له وقال: ها أنت أحضرت الصليب فى موكب حافل، ولكن صاحبه لم يحمله وهو خارج من المدينة هكذا،... لقد خرج به يحمله على ظهره العارى!!.. وعند ئذاك خلع الملك ثيابه وحمل الصليب، والقصة تقول إن المدينة فتحت أبوابها فى الحال أمامه!!.. كان العامل الفقير يركع فى حضرة اللّه،... وأبصر إلى جواره من يركع، فتزحزح كثيراً، إذا كان الراكع إلى جواره دوق ولنجتون الذى هزم نابليون فى معركة ووترلو... على أن الدوق قربه إليه وهو يقول: نحن أمام اللّه سواء!! وكان دانيال المتعبد الشاكر، ومن العجيب أن الرجل فى صلاته كان يصلى ويحمد، وهو أمام خطر جسيم،... لقد كانت له الشركة العميقة مع اللّه، التى علمته الحمد والشكر حتى ولو كانت عواصف الحياة القاسية تحيط به، والزوابع تلفه من كل جانب، لقد أدرك أمانة اللّه فى كل سنوات سبيه وأسره، وهو لن يكون جحوداً تجاه إله لم يتخل عنه قط طوال هذه السنين وكان المتعبد الظاهر الذى لم يخجل قط من المجاهرة بإيمانه أمام الكل، لقد عرفه خصومه بأنه الرجل الذى لا علة فيه إلا من جهة شريعة إلهه،... وعرفه داريوس الملك بدانيال: « ياعبد اللّه الحى هل إلهك الذى تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسود » " دا 6: 20 " دعا أحد ملوك الشرق الأقصى قائداً بحرياً من بلاد الغرب ليتناول طعام الغداء معه، وإذ جلسا على المائدة انحنى القائد المسيحى وشكر اللّه على الطعام، فاندهش الملك وقال: ولكن هذا لا يعمله إلا المرسلون!؟؟ فأجاب القائد: وأنا أيضاً مرسل!!؟.. لم يحاول دانيال قط أن يغير من عادته، ويغلق ولو لمدة ثلاثين يوماً كواه المفتوحة!! وكان المتعبد الطاهر النظيف القلب واليدين،... لقد كان عفا أميناً فى عمله، لم يستطيع جميع الوزراء أو المرازبة أن ينسبوا إليه فساداً أو شراً، فى بلاد امتلأت بكل ألوان المفاسد والشرور،... لم يكن دانيال مزدوج الشخصية يحيا حياتين، أو يعيش أسلوبين، أو يتقمص شخصيتين، إنه لم يكن مثل رجل قال عنه أحد الشباب للواعظ المشهور هنرى دراموند: ياسيدى هل ترى الشخص الواقف هناك؟ فأجابه دراموند: نعم.. قال الشاب: إن هذا الشخص هو رئيس نادينا المشهور بالإلحاد... فذهل دراموند إذ كان الرجل أحد الشيوخ فى كنيسة من الكنائس، ومن الغريب أن يكون شيخاً فى الكنيسة وشيخاً فى الإلحاد!! وكان دانيال آخر الأمر، المتعبد المصلى... إذ كان يؤمن بالصلاة وفاعليتها، وهو يعلم أنه يستطيع أن يواجه كل أوضاع الحياة بالصلاة،... عندما قبض النازى على أسقف هانوفر، أخذوه إلى برلين، ووضعوه فى زنزانه فى أعلى السجن فى مركز الشرطة وهناك وعندما صب الحلفاء غاراتهم القاسية على برلين، كان النازيون يتركونه هناك بعد أن يغلقوا عليه الزنزانه، ويهرعون هم إلى المخابئ، فكان الرجل القديس يفتح الكوة ويصلى للّه، وقد أنقذته العناية، لأنه وضع رجاءه فى النافذة المفتوحة التى تطل نفسه منها على اللّه!!... وهكذا كان الرجل القديم دانيال رجل الصلاة!!. دانيال والجزء الإلهى :- عندما تحدث كرس موريسون، والذى كان رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، عن السبعة الأسباب العلمية التى تجعله يؤمن باللّه، كان السبب السادس فى نظريته هو التوازن بين القوة والمقاومة فى الحياة،... وأورد لذلك قصة « التين الشوكى » والذى زرع من سنوات فى استراليا بدافع الرغبة فى التحصين الوقائى من الأعاصير وما أشبه، ولما لم تكن الحشرات المعادية لهذا النوع من الأشجار معروفة فى تلك البلاد، فقد أخذ الشجر ينمو ويتكاثر من تلقاء ذاته بكيفية مذهلة عجيبة حتى أنه غطى مساحة من الأرض تقرب من مساحة إنجلترا طولا وعرضاً، وأفسد بذلك مساحات شاسعة من الحقول والمزارع، وإذ فشلت كل مقاومة فى الحد من نموه وتكاثره، لم يجد العلماء بدا من البحث عن الحشرات التى تعيش فقط على هذا الشجر، وأطلقوها عليه، وعندئذ توقفت الأشجار عن الانتشار والغزو، وبذلك أمكن القضاء على الخطر الداهم الناجم عنها،.. وأوضح كرس موريسون ما أسماه « التوازن والتعادل بين القوة والمقاومة فى الطبيعة » وهو مالا يمكن أن يصنعه سوى عقل مدبر عظيم!! هذه الظاهرة تبدو بوضوح من الجانب الروحى، فيمن يصنعهم اللّه من أبطال، يظهرون فى أحلك الأيام والليالى، مزودين بالقوة الإلهية العظمى، حتى أنهم يبدون كالنجوم اللامعة فى الليل البهيم، وكلما ازداد الظلام، كلما تلألأوا بالنور بالباهر يعكسونه على أجيالهم، وربما على أجيال أخرى عديدة لاحقة،... وهذه الظاهرة ليست صماء بالنسبة لمن يقرأون الكلمة الإلهية، إذ أن اللّه يعمل بنشاط أعظم وأكمل وأسمى، عندما ينشط عمل الشر والفساد والشيطان فى الأرض،... ووعصا موسى القديمة التى ابتلعت عصى العرافين، ما تزال تتكرر بهذا الأسلوب أو ذاك فى كل العصور والأجيال، وسيبقى الحق الإلهى أقوى وأفعل مهما استشرى الفساد والطغيان فى الأرض!!... وقد ظهر هذا فى قصة دانيال وصحبه بأكثر من مظهر ووجه،... فإذا ظهر الشر يريد أن ينجس الفتى بالأطايب، وإذا رفض الشاب أن يتنجس وقد وضع ذلك راسخاً فى قلبه، حتى ولو تعرض للموت، وإذا عجز رئيس الخصيان عن أن يجد حلا، وبدا خائفاً من الملك، إلا أن دانيال مع ذلك سيجد نعمة فى عينيه، وسيجد الحل مع رئيس السقاة الذى ولاه رئيس الخصيان على دانيال والفتية الثلاثة،... فهى النعمة الإلهية التى تلاحق المتضايق والبائس والمأزوم عندما يضع أمره بين يدى اللّه، والتى لا يستطاع تفسير ظاهرتها، عندما تبدو حناناً يصدر مرات متعددة عن أقسى الناس وأشرهم وأبعدهم عن الرقة واللطف والإحسان،... وأليس من الغريب أن عيسو وقد طوى نفسه على حقد مبيت لمدة عشرين عاماً، وجمع أربعمائه رجل حوله ليضرب أخاه يعقوب ضربة قاضية، يتحول فى لحظة واحدة، إلى الرجل الذى يعانق أخاه بقبلات الشوق والحنان والمحبة؟.. أليست هى النعمة التى لاحقت يوسف المضطهد فى الغربة والاستعباد والسجن بل والمجد أيضاً؟... وأليست هى النعمة التى لم تصاحب دانيال فى صدر الشباب، وأمام مائدة الملك فحسب، بل صاحبته الحياة كلها، والسبى كله فكانت له نعمة أمام الملوك المتعددين والمختلفى الميول والاتجاهات والمشارب؟!.. ولم يعطه اللّه النعمة فحسب، بل اعطاه الحكمة والمعرفة والشفافية والإعلان، مما تجاوز أبعد حدود الإدراك البشرى، وعلى وجه الخصوص عندما حلم نبوخذ ناصر حلمه، ولعله نسيه، وأراد من حكماء بابل على وجه غير معروف أو مألوف أن يقصوا عليه الحلم، ويخبروه بتفسيره، الأمر الذى لا يملكه بشر على الإطلاق، ولكنه أعطى لدانيال، ومن الواضح أن شهرة النبى بلغت الافاق كأحكم إنسان فى عصره، وعلى ما يقول حزقيال لا يخفى عليه سر!وعلى أن الأمر، كامل أكثر من ذلك، إذ كانت له النجاة من الأخطار المتراكمة المتلاحقة، فإذا ذكرناه على وجه المثال، مطلوباً للموت مثل سائر حكماء بابل فى مطلع أيامه دون أن تكون هناك قوة على الأرض تمنع موته أو البطش به، بعد أن صدر أمر نبوخذ ناصر الغريب والمستحيل على العقل البشرى،... وإذا ذكرناه فى آخر الأمر فى جب الأسود الجائعة، والملك لا يستطيع - وقد قضى بالأمر - أن يرجع عن شريعة مادى وفارس التى لا تنسخ، ولكن اللّه هو المنقذ أولا وأخيراً ودائماً على وجه عجيب معجزى، يسمو على كل فهم أو قدرة بشرية!!.. ومع هذا كله، فإن الجزاء الإلهى يتسامى ويعلو فوق كل خيال أو تفكير، إذ أن الشاب الغريب المسبى يرتفع إلى أعلى مراكز المجد والقوة، عند الكلدانيين كما عند الفرس على حد سواء،... فهو يوسف آخر يخرج من السجن إلى المجد، وكما عاش يوسف رئيساً للوزراء مدة طالت إلى ثمانين عاماً متوالية،... عاش دانيال فى أعلى القمم طوال مدة السبى بأكمله، مما يشهد بالحقيقة الواضحة أن من يباركه اللّه لا يستطيع أحد أن يلعنه، وأن من يحرسه اللّه، لابد أن يخرجه سالماً من جب الأسود بعد أن يكم أفواهها، ولعله ذكر ما قاله إشعياء من قبل: « لا تخف لأنى معك. لا تتلفت لأنى إلهك. قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين برى. إنه سيخزى ويخجل جميع المغتاظين عليك. يكون كلا شئ مخاصموك ويبيدون. تفتش على منازعيك ولا تجدهم يكون محاربوك كلا شئ وكالعدم. لأنى أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك لا تخف أنا أعينك » " إش41: 10 - 12 " « وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك، وأطعم ظالميك لحم أنفسهم ويسكرو ن بدمهم كما من سلاف فيعلم كل بشر أنى أنا الرب مخلصك وفاديك عزيز يعقوب ».. " إش 49: 25 و26 ". دانيال والفكر اللاهوتى فى سفره :- ليس من السهل الإفاضة فى تفسير الروئ التى جاءت فى السفر، واختلفت حولها الأفكار والنظريات، غير أننا نود أن نمر فى عجالة على ارتباط هذه الروئ بالمستقبل، إن الستة الأصحاحات الأولى فيه تاريخية، والستة الأخرى نبوية،... والسفر كله تاريخ يرتبط بالنبوة، وونبوات تمد جذورها فى التاريخ، وقد اعتقد البعض أن السفر كتب متأخراً بعد زمن طويل من دانيال، لأنه أورد حقائق تاريخية لاحقة لدانيال، كمثل حديثه عن التيس العافى ملك اليونان، أو الإسكندر ذى القرنين، وقد نسوا - أو تناسوا - أن النبوات ليست إلا إعلاناً عن مسرحية التاريخ الواضحة الرؤية أمام عين اللّه حتى آخر الأيام!!... وقد قال يوسيفوس المؤرخ اليهودى، إن الإسكندر كان غاضباً على اليهود،.. ولكنه عندما أحضروا نبوة دانيال، واروه حديث النبوة عنه، تحول فرحاً مبتهجاً بالنبوة، وغير معاملته لهم، وأحسنها إلى حد بعيد،... وليس فى وسعنا الآن أن نناقش هذه النبوات، التى اختلفت حولها الشروح والتفاسير، ولكنها من الواضح كانت حول الممالك الأربع العالمية التى سبقت المسيحية: البابلية، ومادى وفارس، واليونان، وروما بقرونها العشرة - حتى جاء المسيح، الحجر الذى قطع بغير يدين ليسحق هذه الممالك، ويقيم مملكة اللّه التى سترث الأرض وما عليها وتملأ كل مكان فيها، إذ يتحول الحجر إلى الجبل العظيم،... « فى أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبداً وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك، وهى تثبت إلى الأبد » " دا 2: 44 "ومن الواضح أن النزاع الفكرى قد امتد وتشعب، إلى درجة أن بعضهم يصر على أن المملكة الرابعة ليست هى الرومان، بل هى اليونان،... وأن النزاع كله يقوم حول حقيقة المملكة الرابعة، وهل انتهت وانقرضت، أم أنها قامت فى صور أخرى صورها البعض فى البابوية، وغيرهم فى أديان أخرى، كما يقول ابن عزرا. ووقف آخرون ليناقشوا التفاصيل المتعددة المختلفة، غير أنه مهما كان من خلاف، فمن الواضح أنه مرت سبعة أسابيع سنين، وأربعمائة وتسعون سنة ما بين النبوة ومجئ المسيح وصلبه، وأن الدولة الرومانية كانت آخر دولة عالمية وثنية قبل مجئ المسيح،.. وكما يقول اسحق نيوتن: « إن الذين ينكرون نبوات دانيال، ينكرون المسيحية التى قامت وتأسست على مسيحها الذى تنبأ عنه دانيال بكل وضوح » وقال آخر: لقد حاول شرلمان وشارل الخامس ونابليون، إقامة الامبراطورية العالمية الخامسة عبثاً، وكل الحركات أو الموجات التى جاءت بعد ذلك، لا يمكن أن تغير من الحقيقة التى قالها السيد: « ابنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقوى عليها »... " مت 16: 18 "فإذا جئنا إلى آخر السفر، فنحن نقف أمام واحد من أقدم وألمع الأحاديث عن القيامة من الأموات،... ومع أن الأصحاح الحادى عشر كان يشير على الأغلب إلى انتيوخس أبيفانيس، والاضطهاد المرير الذى سيوقعه باليهود،... لكن اللّه لن يتركهم بين يديه، بل سيقف فى مواجهته ميخائيل الرئيس العظيم لينجى الشعب، كل من يوجد مكتوباً فى السفر، ومن المسلم به أن اليهودى الحقيقى كان يؤمن بسفر التذكرة أمام اللّه الذى تكتب فيه قصته وحياته وأعماله، وقد قال موسى: « والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحنى من كتابك الذى كتبت، فقال الرب لموسى من أخطأ إلى أمحوه من كتابى » " خر 32: 33 " وفى المزمور التاسع والستين والعدد الثامن والعشرين: ليمحوا من سفر الأحياء ومع الصديقين لا يكتبوا »... وقد كتب ملاخى يقول: « حينئذ كلم متقو الرب كل واحد قريبه والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمفكرين فى اسمه " ملا 3: 16 " وجاء فى سفر الرؤيا: « ثم رأيت عرشاً عظيما أبيض والجالس عليه الذى من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لها موضع، ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام اللّه وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات مما هو مكتوب فى الأسفار بحسب أعمالهم. وسلم البحر الأموات الذين فيه وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ودينوا كل واحد بحسب أعماله، وطرح الموت والهاوية فى بحيرة النار. هذا هو الموت الثانى. وكل من لم يوجد مكتوباً فى سفر الحياة طرح فى بحيرة النار " رؤ 20: 11 - 15 ".ومع أن الفكرة عن القيامة فى العهد القديم، لم تكن تلمع بذات الوضوح الذى جاء به « المسيح الذى أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل »، " 2 تى 1: 10 " إلا أن دانيال أعطى بحياته ونبوته لمعاناً رائعاً لها فى الأصحاح الأخير من سفره،... وهو لا يتحدث عن المجد الأبدى فحسب، بل أكثر من ذلك يتحدث عن العذاب الأبدى، وهو يعطى ذات الصورة التى أعطاها المسيح فى قصته الغنى ولعازر، وهو يتحدث بنفس الأسلوب الذى ذكر فيه السيد وهو يفرق بين الأخيار والأشرار: « فيمضى هؤلاء إلى عذاب أبدى والأبرار إلى حياة أبدية!!... " مت 25: 46 " ولعل من أجمل ما تسمعه الاذان البشرية، ما قاله اللّه لدانيال، وهو يتجه فى أيامه الأخيرة صوب الغروب: وكثيرون من الراقدين فى تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدى. والفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور »... " دا 12: 2 و3 " أجل لقد عاش الرجل المحبوب حياة امتلأت بالتعب والألم والمشقة والضيق، والعظمة والانتصار إلى أن جاءه الصوت الأخير المبارك: « أما أنت فاذهب إلى النهاية فتستريح وتقوم لقرعتك فى نهاية الأيام »..!!.. " دا 12: 13 ".
المزيد
11 نوفمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس حواء

حواء «لأن آدم جبل أولاً ثم حواء» مقدمة لا أعلم ان كانت هناك شخصيات كثيرة تعرضت لها أقلام الكُتّاب والأدباء والشعراء والفلاسفة ورجال الدين في حقب التاريخ المتعددة كما تعرضت لشخصية حواء، ولا أعلم أن هناك شخصيات كشخصية هذه المرأة، فمنهم من سار وراء أفلاطون، الذي نبه الأذهان، في معرض حديثه عن الحب، إلى أنها وقد جاءت به إلى الأرض قد أمدت الحياة البشرية، بما ليس له مثيل أو ضريب بين الناس، وأن الحب الذي تزرعه فينا ليس الا شعاعًا من نور حب الآلهة في السماء.. ومنهم من قفا أثر خطوات شوبنهور عدوها الألد، فنعتها بكل شر وصب عليها كل سخط وحملها كل رذيلة، وعدها مأساة الوجود المفزعة المنكرة الرهيبة التي تركت أبشع الآثار في التاريخ البشري، ومنهم من لم يؤمن بأفلاطون أو شوبنهور، وبما ارتآه فيلسوف اليونان القديم أو الفيلسوف الألماني المحدث كل على حدة، بل رآها مزيجًا من كل شيء، وسار وراء الأسطورة الهندية القديمة التي تقول: إن الخالق أودع في حواء «استدارة القمر، وعمق البحر، وتدافع الأمواج، ولمعان النجوم، وشعاع النور، وقطرات الندى، وتقلب الريح، وعطر الورد، ورقة النسيم، ونشوة الراح، ونضارة الذهب، وقسوة الماس، وحكمة الحية، وتلون الحرباء، وشرود الغزال، وزهو الطاووس، وشراسة الأسد، وغدر الزمان، ومكر الثعلب، ولدغة العقرب، ونغمة اليمامة، وهذيان الببغاء» ومنهم من أعياه هذا الجد المزيج بالعبث، وهذا التعقيد المتشح بالبساطة، فنفض يديه وتجنب الحديث عنها، وتبع الأسقف مارتنسن الذي اعتقد أن العقل الإنساني والزمن لم يبلغا بعد من القوة والنضوج، ما يعينها على التكلم بطلاقة دون ذلل عن هذه الشخصية المدثرة بالأسرار، وما أحاط بها من ظروف، تعد أعوص ما جابه الوجود البشري من أعماق..!! على أنني مع ذلك أحس أننا سننال غنى كثيرًا ونحن نتأمل هذه الشخصية العجيبة التي وقفت على رأس التاريخ البشري لتكون أمه، ولتوجهه هذا التوجيه الهائل الأبدي: من هي؟ لم خلقت؟ وكيف خلقت؟ كيف جربت وسقطت وعوقبت ونهضت؟ واني ارجو في نور كلمة الله أن تتمكن من دراستها دراسة صائبة منصفة، بل أرجو أن تنير لنا هذه الكلمة مناحي الضعف أو القوة في كل ما كتب عنها. حواء: من هي؟ في أغلب الديانات القديمة، من بابلية، وأشورية، ومصرية، وهندية، ويونانية، نجد ذكرا للمرأة الأولى وزوجها، بصور تقرب أو تبعد عن قصة الكتاب، ولئن لم تبلغ هذه الأقاصيص جمال القصة الأخاذة التي دونها موسى في سفر التكوين، ولئن لم ترق إلى سموها ونقاوتها وبساطتها، فانها مع ذلك تقف شاهداً على اعتراف جميع الأجيال والشعوب بحقيقة شخصيتها، كالأم الأولى التي جاءت منها الأجيال البشرية قاطبة، وأن ما ذهب إليه دارون وأشياعه من أصحاب النشوء والارتقاء، مردود واه ضعيف.. على أننا ونحن نتلمس صفحات الوحي، لا ندحة لنا عن الاعتراف، بأنها شخصية صعبة التحليل، وذلك لأن موسى حين عالج قصتها لم يضعها، قصة تاريخية خالصة أو رمزية خالصة بل وضعها قصة اتشح فيها التاريخ والحقيقة ثوبًا من الأموز، فأنت أذ تقرأ عن المرأة التي بنيت من ضلع رجل، وشجرة معرفة الخير والشر، وشجرة الحياة، والحية المغرية لابد تحس أن هناك معاني كثيرة متعددة تستتر وراء هذه الأسماء والعبارات الرمزية، وأن هذه المعاني تكلفك أشق الجهد وأضناه في سبيل بلوغها، والوصول إليها، أضف إلى ذلك أن موسى وهو يتحدث عنها، لم يقصد أن يرينا من هي حواء، بقدر ما آثر أن يرينا ما رسالتها ولذا نراه يمر مروراً سريعًا على طريقة تكوينها، ليقف بنا فقط عند تجربتها، وأثر هذه التجربة في نفسها وزوجها والكون بأجمعه، وقد سار الناس وراء موسى، فلم يعنوا بالنظر إلى حواء كامرأة، تاريخية لها شخصيتها وطباعها وخصائصها التي تنفرد بها عن غيرها، بل عنوا بالنظر إليها كامرأة رمزية مثالية، تعد عنواناً وصورة للمرأة في كل الأجيال، ومن المؤسف أن كثيرين من الذين اجتهدوا في تحليل شخصيتها الخاصة لم يستطيعوا التخلص مما لصق بأذهانهم من صور عامة عن المرأة، أو بما كان لهم من ظروف خاصة في حياتهم، فهناك مثلاً ذلك التقليد اليهودي الطريف الذي يقول إن حواء أعطت زوجها ليأكل معها حتى يموت لئلا يتزوج بامرأة أخرى تأتي بعدها، وهي محال أن تستريح في قبرها ومعه أخرى تأخذ مكنها، ولا أخال القاريء في حاجة إلى أن يدرك أن هذا التقليد أملاه الشعور العام بما يعتقده الكثيرون عن غيرة المرأة وشدة أنانيتها، وملتون الشاعر الانجليزي الضرير الذي يعد أبدع من كتب عن حواء في الفردوس المفقود والمردود، لماذا يصورها لنا أثرة، متكبرة، شديدة الاعتداد بذاتها؟ أغلب الظن أنه فعل ذلك تحت تأثير الحياة الزوجية المعذبة التي عاناها، لقد كان هذا الشاعر نفسه بائسًا في حياته الزوجية، ولقد ألقت زوجته - وهو لا يدري - ظلا عميقًا عنيفًا على ما كتب.على أننا مع ذلك يمكننا أن نقول، ونحن في أمن من الزلل أن حواء كانت تتمتع بحظوظ ثلاثة: «الجمال، والسذاجة، وقوة العاطفة».. الجمال أما أنها كانت جميلة فهذا مما لا ريب فيه وقد حرص الفن على أن يبرزها دائمًا رائعة الحسن وضاحة الجبين، مشرقة المحيا وما نظن أن صورة واحدة لرسام ما شذت عن ذلك، والتقليد اليهودي يقول إن آدم بهر بجمالها، واستقبلها أحر استقبال، مشدوها صائحًا بالقول: «هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي» وهل يمكن أن تكون غير ذلك، وقد خلقها الله لتكون ختام عمله في الجنة والتاج الذي يضعه على مفرق الرجل.. ان الكلمة بني التي استعملها موسى وهو يصف عملية خلقها كلمة غنية في الأصل بالمعاني التي تشير إلى دقة وروعة وقدرة ونشاط الحكمة الإلهية في إبداعها، لم تكن حواء جميلة فحسب بل كانت، فيما أعتقد آية ونموذجًا للجمال، لم تبلغه امرأة أخرى من بناتها بعدها.... وذلك لأن جمالها خلق قبل أن تعرفه الخطية ويمسخه الشيطان، وما تبقى لها بعد ذلك منه إن هو إلا مسحة رائعة متكسرة تشهد بعظمة تلك الأصول القوية الأولى التي عصف بها السقوط، وهوى بها ما تبعه من أمراض وأوجاع وأحزان ودموع وتعاسة وشقاء وشر وآثم هي المعاول القاسية الهدامة لكل حسن وجمال، ألا ما أفظع الخطية وأبشعها أثرًا في خلقة الإنسان وخلقه، فالخطية أعدى أعداء الجمال، وأشدها تنكيلاً بروعته، وفتتنه وحسنه، ولن يعود الجمال إلى عرشه الضائع، ومجده السليب، ولن يسترد ما ولي عنه من أنوار أخاذة قديمة، حتى تتحرر الأرض من الآثم، وتغسل من الفساد، وتتطهر من الشر، ويقف ذلك الجمع الهائل الذي أبصره الرائي القديم من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة أمام العرش، وأمام الخروف، متسربلين بثيابهم البيض، وفي أيديهم سعف النخل، حين ترجع حواء وأبنائها وبناتها المخلصون إلى الفردوس الأبدي المردود!! السذاجة كانت حواء اذن من الناحية البدنية ذات جمال كبير، على أنها من الناحية العقلية كانت ساذجة قاصرة غريرة ضيقة التفكير محدودة الإدراك، وقصة عدن فيما اعتقد تشجعنا كثيراً على هذا الاستنتاج، فهي كما وصفها جورج ماثيسون «قصة الطفولة في أدق ما في الكلمة من معنى، طفولة الطبيعة الإنسانية التي لم تلف وراءها السنين الطوال من المعرفة والاختبار والمران والتجربة، الطفولة التي لم تكن قد اشتبكت بعد في نضال الحياة، وجابهت ما فيها من تنوع واختلاف وتلون وصعوبة توقد العقل وتشحذ التفكير».. بدأت حواء حياتها في الجنة وكانت أمامها أيام طويلة، قبل أن تبلغ مرتبة الوعي والإدراك والنضوج الكامل، وما الجنة في الواقع إلا روضتها ومدرستها التي كانت ستستعين بها على النمو والرقي والتقدم الفكري، كما أن المجرب اتجه إليها دون آدم لأنه أدرك أنها أقل فطنة وذكاء وتحذرًا. قوة العاطفة على أن ما فاتها من هذه الناحية قد عوضته في وقدة الشعور وحدة الإحساس والتهاب العاطفة، وأظننا جميعًا نتفق مع ما ذهب إليه أفلاطون وفيلو والكنيسة في العصور الوسطى من أنها تمثل الجانب العاطفي والإحساسي في الرجل وأن منطقها يسكن بين جنبيها، أكثر مما يرتفع إلى عقلها، وأن حجتها تأتي دائمًا من وراء حواسها أكثر منها من وراء النقاش المنطقي العقلي الرتيب، ولقد ورثت بنات حواء عن أمهن هذه الخلة العاطفية وكانت سلاحهن الجبار في الخير أو الشر على حد سواء، فقد استطعن بالضعف والابتسامة والحنان والدموع أن يهززن العالم ويوجهن التاريخ البشري بأكمله على مدى الأجيال!! حواء: لم خلقت!! لا يحتاج المرء إلى كبير عناء، وهو يتأمل ما كتب موسى في سفر التكوين عن حواء حتى يدرك أن الله خلقها لتؤدي رسالة مزدوجة: حواء الزوجة وحواء الأم. حواء الزوجة كان كل شيء في جنة عدن حسنًا، جميلاً، ظليلاً، ولكن آدم أحس مع ذلك أن قلبه موحش فارغ، وأن شيئًا غير يسير من الإحساس الكئيب بالانفراد والعزلة يتمشيء بين ضلوعه، أنظر إليه، أنه يكاد يودع جميع الحيوانات والطيور والبهائم التي جاءت إليه ليسميها بعين نهمة مشوقة، لقد جاءته أزواجًا وأزواجًا، أما هو فلم يجد معينًا نظيره، كان في حاجة صارخة إلى حواء.. إلى حواء التي ستهز حياته هزا عنيفًا بل ستخلق هذه الحياة خلقًا رائعًا فذا جديدًا. لا أود أن نسير مع أفلاطون في خياله العنيف: إن المحبة الكائنة بين الرجل وامرأته هي الخير الوحيد الحقيقي الأبقى في الأرض وأن المحبة الزوجية هي العربون الأمثل الصافي لمحبة السماء، ولا أريد أن نجنح كثيرًا مع العقيدة الخيالية التي أخذ بها المفسر الإنجليزي البارع يعقوب بهن: «إن آدم بمفرده كان في طريقه إلى السقوط، وأن الله جاءه بحواء لتنقذه من الانحدار الذي أوشك أن يتردي فيه وحين قال: «ليس جيدًا أن يكون آدم وحده» كان يبصر في أغواره البعيدة عناصر السقوط والهدم».. ولكني مع ذلك أود أن أقول دون تردد: أن أثر حواء في حياته كزوجة كان أثرًا هائلاً منقطع النظير.. لقد كانت قيثارته الشجية المبدعة التي علمته أعذب ألحان الحياة، والسحر الذي نثر حوله جوا من النور والدعة والإشراق والجمال، لقد كانت له بمثابة الرجع العميق لصوته الذي يهتز في أرجاء الجنة، والصدى الحلو الذي يتردد إليه كلما تحدث أو فاه أو ترنم كانت صديقه الحنون الذي يأنس إليه، كلما أخذه تعب أو كلال، والمؤنس الذي يناجيه ويناغيه في ظلال الشجرات السادرة ساعة الهدوء، وبالجملة لقد علمته كيف يحب، ويتذوق، ويبتسم، ويتغنى، ويرضى، ويناضل، ويبتكر ويتقدم... لقد علمته كل شيء. أليست هذه هي رسالة المرأة دائمًا للرجل؟ من علمه المحبة، والفن، والشعر، والموسيقى، والأدب. والابتكار، وغيرها؟ من أوقد فيه العبقرية، والذكاء، والحمية، والنضال، والانتصار سواها؟ من ذا الذي ينسى أن «التاج محل» إحدى عجائب الدنيا العظيمة بناها وفاء رجل لزوجته العزيزة؟ ومن ذا الذي يجهل أن دانتي كتب آيته الخالدة من أجل بياتريس؟ ومن ذا الذي يغفل وهو يذكر هوبر السويسري من أبرع أساتذة الحشرات في التاريخ الحديث أن يحنى رأسه بإعجاب لزوجته العظيمة الزوجة التي أحبته، وأصرت على زواجه رغم فقدانه البصر، ودرست له وأعانته في بحوثه وتجاريبه حتى أخرج للعالم كنوزه الخالدة في علم الحشرات؟ إن ما تقدمه المرأة لزوجها يعجز القلم مهما اقتدر عن الالمام بأثره؟ حواء الأم كانت رسالة حواء الثانية السامية والرفيعة التي بلغت مستوى رسالتها الأولى: رسالة الأمومة لقد خلقها الله لتكون أمًا، وليملأ بأبنائها وبناتها الأرض، وقد خلفت حواء قايين، وهابيل، وشيثا، وأبناء، وبنات كثيرين، ولكنها خلقت فيهم ومعهم غريزة من أسمى وأقوى غرائز المرأة إطلاقًا، غريزة الأمومة، ولعل حواء وهي تخلع على بنيها الثلاثة أسماءهم، قد كشفت في الحين نفسه عن العناصر الثلاثة لهذه الغريزة المضطرمة في أحشائها، وبين حناياها، ففي قايين نرى الأمومة في ولعها وشوقها، وفي هابيل تبصرها في حزنها وألمها، وأما في شيث ففي انتظارها ورجائها. دعت حواء ابنها الأول قايين أي «اقتناء» وهذا الاسم إن دل على شيء فانما يدل على أول ما تحس به الأمومة إزاء الأبناء: الولع والشوق والفرح والبهجة بمجيئهم.. الولع الذي جعل سارة تدعو ولدها اسحق أو الضحك «قد صنع إلى الله ضحكًا، كل من يسمع يضحك لي» والذي حدا براحيل أن تقول ليعقوب: «هب لي بنين. وإلا فأنا أموت» والذي دفع باليصابات أن تخفي نفسها خمسة أشهر قائلة: «هكذا فعل الرب في الأيام التي فيها نظر إليّ لينزع عاري بين الناس». أما الثاني فكان هابيل أي «نفحة» أو «بطل» وهو يشير إلى الناحية الحزينة من الأمومة التي تبكي أبناءها الحزانى أو المتألمين أو الصرعى، كما بكت حواء ابنها هابيل، الأمومة التي تدفع أقسى الضرائب من الدم والدموع والألم في سبيل أولادها، كما دفعت هاجر المصرية التي طرحت ابنها في ظلال الشجر وجلست بعيدًا عنه تبكي لأنها لا تستطيع أن تراه يموت وكما هبت راحيل منتفضة من قبرها تصيح في وحي النبي مذعورة على أبنائها القتلي: «صوت سمع في الرامة، نوح بكاء مر، راحيل تبكي على أولادها، وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين». وكا قيل عن الأم العظيمة النموذجية: «وأنت أيضًا يجوز في نفسك سيف».. قد ينسى الشاب في الحرب أو الغربة أو الفشل أو المرض أو الجوع أن يبكى ولكن أمه هيهات ومن المحال أن تنسى».. أما الثالث فهو شيث أي «عوض» وهو الناحية الانتظارية أو الرجائية في الأمومة، وماذا تنتظر لابنها ومنه؟ تنتظر المجد والحب!! أنها وهي تهدهد سريره الصغير تحلم له أعز الأحلام وأروعها، تريده لو استطاعت ملكًا جليلاً، حتى ولو بنى عرشه ومجده على أنقاضها كما كانت تتمنى أم نيرون لولدها... وماذا تنتظر منه؟ أنها تريد فقط رجع محبتها، وصدى حنانها، تريده أن يبتسم لها ويقدر عطفها ألا ليتنا مثل ليفنجستون الذي وقف أمام قبر أبيه وأمه يبكى وهو يضع الرخامة المنقوشة: «تحية ابن إلى والديه العظيمين الفقيرين» ولما طلب منه أن ينزع كلمة «فقيرين» أجاب: كلا؟ فلولا فقرهما لما استطعت أن أدرك تمامًا عظمة نبلهما وحياتهما الباذلة التي خلقتني، ودفعتني من بين أنياب الحرمان ومرارته،.. أيها الأبناء: ما أثقل الدين عليكم تجاه الأبوة والأمومة!! حواء: كيف خلقت؟ في إبداع حواء وخلقها أرجو أن لا يغيب عن ناظرينا أمران ظاهرا الوضوح: إن حواء خلقت أثناء نوم آدم، وإنها أخذت ضلعًا من أضلاعه. خلقت أثناء نومه هذه هي العطية العظيمة، جاءته في شبه مفاجأة ومباغته «فأوقع الرب سباتاً على آدم فنام» والكلمة «سبات» تعني في أصلها نومًا ثقيلاً، كان آدم غائبًا عن نفسه ووعيه وإدراكه حين جاءته نفسه الثانية، كان نصيبه منها نصيب المستلم المتقبل، وقام الله بالتدبير والتكوين والإبداع والخلق، وهذا في نظري أساس كل زواج سليم، الزواج الذي يستسلم الإنسان فيه للإرادة الإلهية الحلوة، الزواج الذي ينام فيه الرجل نوم الرضيع الهانيء، الزواج الذي يغضي فيه عن كل الأغراض الأنانية الضعيفة.. ألا ليتنا نعرف كيف ننام عن تلك الشروط البغيضة التي كانت وما تزال أساس الشقاء البيتي والتعاسة الزوجية!! أيها الشاب يا من تريد أن تختار زوجتك: حذار أن تثور فيك تلك الطباع الضعيفة الممقوتة، فتطلب ما ألف الكثيرون أن يطلبوه دون ارادة الله - مراراً يصر المرء على الجمال وينسى ذلك القول الحكيم الكريم: «الحسن غش والجمال باطل. أما المرأة المتقية الرب فهي تمدح» فكأن الجمال مقبرة سعادته وهدوء باله، ومراراً يبحث المرء عن الثروة جلاده ومعذبه الفظيع، وكم مرة بحث عن الجاه وما أشبه فعاش حياة تعسة شقية.. أيها الشاب أتعلم كيف نام اسحق عن هذه كلها؟ أنظر إلى هذا الزواج النموذجي تعلم كيف تتزوج! لقد أودع اسحق الأمر كله بين يدي الله وخادمه الأمين، ولم يسع هو مع ذلك الخادم. ولو ليبصر فقط الزوجة التي ستشاركه الحياة، الأمر الذي يعد من أبسط البديهيات في عصرنا هذا... فكافأ الله تسليمه برفقة الجميلة المعينة المدبرة. أخذت ضلعًا من أضلاعه هذا هو الأمر الثاني الترتيب في خلقها، وأظننا نذكر قولة متى هنري المشهورة بهذا الصدد: «إن الله خلقها ضلعًا تطوق قلبه ليحبها تحت إبطه ليحميها، ولم يخلقها من قدمه لئلا يدوسها، أو من رأسه لئلا تسيطر عليه» ولعل الاضطراب الذي عانته البشرية قديمًا وحديثًا يرجع إلى رغبة الرجل أو المرأة في الشذوذ عن هذا الوضع، والخروج عليه. فاذ نسى الرجل أن المرأة نظيره، وأنه رأس لها وليس رئيسًا عليها إذ: «الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب» وأن الرأس مهمته في الجسد القيادة فقط وليس السيطرة والاستبداد، اختل كل تعاون سليم محمود بينهما، واذا نسيت المرأة أنها لم تخلق لذاتها بل خلقت من أجل الرجل لتصبح مجده، ورامت أن تستقل عنه وتناهضه لضاعت وأضاعته.. هذه خلاصة حكمة الرسول العظيم، الحكمة التي ما تزال اختبارات الأجيال البشرية تضفي عليها كل يوم وضوحًا وتألقًا ونورًا. حواء: كيف جربت وسقطت وعوقبت ونهضت؟ أظن أنه ليس من المستحب كثيرًا ونحن نستعرض قصة السقوط أن ندخل في شكليات عقيمة لا جدوى لها: بأية صورة جاءت الحية إلى حواء؟ هل هي ذات الحيوان المعروف لدينا، أم أن هذا صورة ممسوخة عن الأصل القديم؟ وكيف استطاعت أن تتكلم وبأية لغة؟ وإنما يغنينا حقًا أن التجربة قد حدثت وأن المجرب الحقيقي كان الشيطان وأنه سعى إلى المرأة عن طريق الحية، وفي ثوبها، لأن هذا المخلوق أحيل الحيوانات وأصلحها في الإغراء والسقوط. فهو الحيوان الوحيد الذي يؤثر على ضحاياه بتأثير رائع من عينيه، كما أنه يسعى إليها في هدوء ودون جلبة، واذ يدنو منها يقترب إليها في بطء وعلى غرة، وهي لا تعرف من أية جهة يباغتها فهو يدور حولها ويلف كأنما يسعى إليها من كل جانب وهو يصرعها بأية ناحية من جسمه لأنه لا يملك كغيره من الحيوانات سلاحًا خاصًا كقرن أو مخلب أو أنياب وهو يسكن في جحره عدة شهور، ولكنه ما أن يخرج حتي يضحى أكثر من القرد تسلقًا، وأقدر من السمكة سباحة، وأسرع من الغزال عدوًا، وأشد من النمر انقضاضًا!!.. كيف أسقطت الحية حواء؟ هل كشفت لها عن وجه الخطية البشع المريع؟ وهل حدثتها عن التعدي والعصيان والتمرد والموت والهلاك؟ كلا! لقد دثرت كل هذا وأخفته وراء ملمس ناعم ومظهر خلاب وهمست في أذنها بكلمات مداهنة معسولة عن شجرة جميلة وثمرة حلوة وإدراك واتساع كالله في معرفة الخير والشر: «فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر»، «لأن كل واحد يجرب اذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة اذا حبلت تلد خطية والخطية اذا كملت تنتج موتًا» بذا قال الرسول يعقوب وقد سار وراءه، وفي أعقابه الرجل الذي أحسن التأمل في هذه العبارة وكان له من ظروفه الخاصة ومن الأحداث التي تحيط بعصره ما أعانه على تصوير مراحل التجربة تصويرًا دقيقًا بارعًا قال توما الكمبيسي: «أن التجربة تأتي إلينا أولا فكرة غامضة لا نستطيع أن نتبينها، ثم تأخذ هذه الفكرة صورة معنية واضحة مجلوة لا تلبث أن تظهر لها حلاوة ندية غريبة تتساقط قطرة فقطرة على القلب حتى تخدره. ومن ثم تتحول إلى قوة مدمرة تعصف به». كان خطأ حواء أنها أصاخت الأذن، فنظرت فاشتهت فمدت يدها وأثمت، وكان يجمل بها أن تفزع وتهرب... ألا ليتها في تلك الساعة قد ذكرت كلمة الله الأبدية المحذرة بالموت! ألا ليتها وهي تقترب من الشجرة شعرت بالذنب وألم الضمير!! إلا ليتها مدت بصرها حينئذ عبر القرون، ورأت الأجيال الغارقة في الدم والدموع والعار والتعاسة والشقاء! بل ألا ليتها رأت أرهب المناظر وأخلدها عن جبين الدهر، منظر ابن الله الحزين يركع بين أشجار الزيتون وعرقه يتصبب كقطرات دم نازلة على الأرض!! ألا ليتها فعلت هذا! إذن لارتدت مصعوقة عن قطف الثمرة.. لكنها لم تفعل فسقطت وعوقبت، وكان عقابها أشد من عقاب آدم لا لأنها أسبق في التعدي فحسب، بل لأنها قادته إليه، وإن كان ايرانيوس يجتهد كثيرًا أن يذكرنا أن العقاب من حيث الوضع البشري هو أهم ما تتشوق إليه المرأة وتنتظره، فلا أنزع إليها ولا أرغب من ولادة الأولاد والحياة الزوجية: «بالوجع تلدين أولادا وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك» ولكن، ألا نحتاج أن تتذكر أيضًا أن هذا العقاب أضحى فيما بعد تجربة بنات حواء، إن لم تحفظهن عناية الله؟ بل ألا نحتاج أن نقول مع صديقنا هوايت «أيها الأزواج: أيها الشباب الذي تخضع له النساء، ألا ليت الله في عونهن حتى لا يكون عقابهن سبب هلاكهن الأبدي لنصل لنا ولهن بكل حرارة ويقين: «بنفسي أشتهيتك في الليل يا الله... تلذذ بالرب فيعطيك سؤال قلبك.. لأنه تعلق بي أنجيه أرفعه لأنه عرف اسمى. من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي.. أما أنا فالبر أنظر وجهك أشبع اذا استيقظت يشبهك»؟ لم يكن العقاب هو المرحلة النهائية الأخيرة في قصة أمنا حواء وهيهات أن يكون، ووراءها تلك المحبة السرمدية العلية، التي سبقت فأعدت خلاصها، وخلاص بنيها قبل تأسيس العالم، في نسلها العظيم الذي يسحق رأس الحية، هذه المحبة التي طوقتها بالحنان والعطف والجود غداة السقوط فصنعت لها ولزوجها أقمصة من جلد وألبستهما لتغطي عريهما.. ولقد أدركت حواء بعد سقوطها أنها خدعت: «الحية غرتني» ومن ثم كانت شديدة اللهفة والشوق إلى مجيء الولد المخلص الذي أخطأته فظننته قايين يوم قالت: «اقتنيت رجلاً من عند الرب». ولما أنجبت هابيل دعته «البطل» ولعلك تدرك أن هذه التسمية لا تمليها إلا نفس شديدة الحساسية بالندم والحزن والتوبة والإدراك بأن: «كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضي وشهوته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» وإني من أشد الناس إيمانًا وأجزمهم يقينًا أن حواء سعت بكليتها في أيامها الأخيرة إلى هذه المشيئة الحلوة وصنعتها بذا قال موسى في سفر التكوين وقال بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس، وقال ملتون في خياله البديع في الجزء الأخير من الفردوس المفقود.دعنى إذن أغنى لحواء ومعها ومع بنيها جميعًا هذه المقطوعة القديمة لمرنم إسرائيل الحلو: «الرب رحيم ورؤوف. طويل الروح وكثير الرحمة لا يحاكم إلى الأبد، ولا يحقد إلى الدهر، لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا، لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفية، كبعد المشرق عن المغرب، أبعد عنا معاصينا، كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن «الإنسان مثل العشب أيامه. كزهر الحقل كذلك يزهر لأن ريحًا تعبر عليه فلا يكون. ولا يعرف موضعه بعد. أما رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه وعدله على بني البنين، لحافظي عهده وذكرى وصاياه ليعملوها».
المزيد
04 نوفمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس حنة أم صموئيل

حنة وأما حنة فلم يكن لها أولاد مقدمة لعبت قصة حنة بخيال الكثيرين من الأدباء والشعراء والكتاب والرسامين ورجال الدين، وأثرت فيهم أبلغ تأثير وأقواه، فهي القصة التي لم يكن لوثر يمل قراءتها أبدا، بل كان شديد الحنين إليها، عندما تهم به المتاعب والأحزان والمضايقات، كان يرى فيها قوة رائعة مغرية بالانتصار على جميع تجاربه، وهي القصة التي فاض سحرها على جون فيسك الكاتب الأمريكي، ولما يزل يافعاً بعد، فوجهت ميوله كلها لمحبة التاريخ وكتابته، وهي القصة التي أوحت إلى المصور الإنجليزي البارع يشوع راينولدز بصورة صموئيل الصغير الحلوة وهو يصلي.. في قصة حنة الكثير من نواحي الجمال الفذ والتعاليم الصالحة، لكنها قبل كل شيء، هي قصة نادرة في تصوير طباع الناس وغرائزهم، أنها معرض بديع لإدراك الأخلاق الخفية المستورة، أتريد حقًا أن تعرف الإنسان على حقيقته؟ أتريد أن تكشف خباياه وسريرته التي أضمرها في أغوار قلبه؟ أتريد أن تتعرف عما هو عليه من قسوة أو احتمال أو مصانعة أو رياء أو نبل أو حنان أو جود أو إشفاق؟ إذن قف منه في لحظة الألم أو الحزن، ترى معدنه الحقيقي، ومدى ما في هذا المعدن من سمو أو صلابة أو انحطاط أو ضعة... حول حنة المحزونة البائسة التف ثلاثة أشخاص - فننة وألقانة وعالي - ورفع الوجه البائس نظرته في ثلاثتهم، وتساقطت أنواره الشاحبة الحزينة عليهم، فعرفناهم جميعاً - بما فيهم حنة - وأدركنا أيا فيهم صاحب المعدن الخسيس أو الصلب أو الممتاز. أما فننة فقد بدت في صورة النفس البشرية الوضيعة التي تسخر من آلام الآخرين وأحزانهم، بل يسرها أن تنكل بهم وتزيدهم شقاء فوق شقاء، وبؤسا على بؤس، بينما يبدو ألقانة في صورة النفس الحانية العطوفة التي تروعها آلام البؤساء، وتجتهد ما أمكن في الترفيه عنهم والتخفيف من أثقالهم، وإن كانت، مع الأسف، لا تبلغ من ذلك إلا بعض النجاح اليسير المحدود، هذا في الوقت الذي يعبر فيه عالي عن النفس التي تقسو، لا لأن القسوة بعض طباعها، بل لأنها رغم ما تشتمل عليه من حدب وعطف وحنان، تعوزها العين البصيرة المدركة لمنابع الألم وأعماقه.. أما حنة صاحبة الألم ذاتها - فهي في ألمها وفي موقفها من الألم - درس إلهي إنساني رائع، خصيب بالفسلفة والبطولة والكفاح والمجد... دعنا إذن لحظات من هذه المرأة في علاقتها بمن معها من أشخاص القصة، لننتقل بعدها إلى تحليل شخصيتها العظيمة ومعدنها الممتاز. حنة وفنة:- هذه هي المرأة وضرتها، أو المتألمة والساخرة من ألمها، أو الحزينة والتي أضافت إلى حزنها حزنًا،.. وإنها مسرحية محزنة حقًا تلك التي مثلتها فننة على مسرح التاريخ في علاقتها بحنة، مسرحية تحزن الخالق والمخلوق، مسرحية تؤلم الخالق وتدمي القلب الإنساني الرقيق. لقد فعلت فننة أمرين محزنين: عيرت الخالق: وأهانت المخلوق. عيرت الخالق:- يضحكني وشر البلية ما يضحك - في فننة ومنها - أنها لم تتغيب سنة عن الذهاب إلى شيلوه، وحتى في الوقت الذي لم تذهب فيه حنة ذهبت هي، أليس هذا أمرا مثير للقلب؟ لمن تذهب هذه المرأة لتصلي؟ وكيف تستطيع أن تقترب من الإله العلي؟ لقد كانت فرصة ذهابها مأساة ومهزلة قاسية تروع النفس! هناك ضايقت ضرتها، وشهد المذبح المقدس امرأة متمتعة تسخر من أخرى محرومة. لم أسمع أنها صلت، وكنت أود أن أسمع منها صلاتين: صلاة الشكر: وصلاة التشفع أما أنها تشكر فهذا ما ننتظره من امرأة أعطيت ما حرم منها غيرها، ولم تكن العطية سوى فضل النعمة المتنازلة السابغة عليها، كنت أودها، وهي ترى بنيها وبناتها كالزهور الملتفة حولها، أن تأتي واياهم عند قدمي الله، وتصرخ صرخة ذلك الخادم المدعو «كرمي» الذي كان يترجم اسمه «لماذا أنا» وكان يصيح كلما انحدرت عليه بركة من بركات الله: لماذا أنا يارب؟ لماذا خصصتني بهذه النعمة التي حرم منها كثيرون ولست أفضل منهم؟ «صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك» إن إحساس الشكر أوفنه يزداد عندنا متى كانت لنا عيون تدرك ظروفنا وظروف الآخرين حولنا. هل فكرت أن تشكر الله على صحتك بين المرضى، وعلى شبعك ساعة الجوع، وعلى حريتك في أرض الاستعباد، وعلى خيرك حين يتربص الشقاء والألم والتعاسة والحرمان والمذلة بملايين من أفاضل الناس من بني البشر؟ كان يمكن لفننة أن تدرك أنها ليست أفضل من حنة، وأن الله إذ يمنحها لا يمنحها لأجل شيء فيها أو استحقاق لديها، بل لأجل جوده هو..، ذاك الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين.. لو ذكرت هذا لعرفت كيف تحمد الله وتشكره كثيرًا على أني كنت انتظر منها ما هو أكثر.. كمت أنتظر أن يتسع قلبها فتقول لله: أعذرني يارب إذا أحسست شيئًا يشوب فرحي رغم عطاياك الغامرة!! اعذرني إذا حبست في فمي صيحة الفرح والابتهاج، فإني لا أستطيع أن أفرح، وحنة دامعة، لا يمكن أن أبتهج وأختي متألمة، لا يمكن أن أسر ومن معي في الألم ومرارة الحرمان: يارب إن فرحي ناقص! يارب أعطها كما أعطيتني! أعطها يارب أولادا.لو فعلت فننة هذا لأضحت أية خالدة على جبين الدهر، ولا نكسفت أنوار حنة في ضوء نورها القوي الباهر، ولأضحت مزاميرها الحزينة تراتيل خالدة في مسمع الله والإنسان، ولباركها الله. وجعل من أحد أولادها صموئيل آخر، بل ربما أسمى وأعظم، لو فعلت هكذا لتغيرت القصة، وكانت بطلتها فننة لا حنة، لكنها للأسف لم تفعل بل غيرت. ومن عيرت؟ إنها قبل أن تعير المخلوق عيرت الخالق، أليس من يعير يائسًا أو فاشلاً، أو مسكينًا يعير خالقه؟... جاء الولد الصغير يستعطي، وكان بائسًا بكل ما في الكلمة من معنى، به لثغة في لسانه تعثر تعبيره، وتخرجه كلامًا مضحكًا مشوشاً، ووقفت الأم وأولادها حول هذا الولد يضحكون إلا البنت الصغرى التي صاحت وعيناها مغرورقتان بالدموع: يا أمي! هل الله هو الخالق لهذا الصبي؟ نعم يا بنتي إن الله هو الذي خلقه! إذن لماذا تضحكون عليه؟ لقد كان درسنا اليوم: «المستهزيء بالفقير يعير خالقه». أهانت المخلوق:- لم تعرف حنة للحياة أو العيد أو الطعام مذاقاً، لأن ضرتها سممت عليها كل شيء، وسقطت المرأة التعسة تحت ثقل ظروفها، وثقل مغيظتها.. ألا ويل للإنسان من الإنسان، إن عواء الذئاب وحفيف الأفاعي وزمجرة الأسود قد لا تروعه كما يروعه لسان سليط، وقلب ينفث الحقد والسم والضغينة... ألم يقل النبي: «استرني من مؤامرة الأشرار، من جمهور فاعلي الأثم، الذين صقلوا ألسنتهم كالسيف، فوقوا أسهمهم كلامًا مرًا، ليرموا الكامل بغته، يرمونه ولا يخشون».لقد ضاعت من فننة رسالتها العظيمة، الرسالة التي وضعها الله أمامها وفي طريقها، رسالة تشجيع المحروم، ومعونة المعوز، وتعضيد الباكي، بل لقد أجرمت هذه المرأة ضد الشعور الإنساني الرقيق الذي يجمل بالأنثى أن تتحلي به قبل الرجل، أي فننة: إنك مثل تعس موجود لفريق هائل من بني الإنسان الذين كانوا لأخوتهم، وبكل أسف، مرارة وضغتا على إباله. حنة وألقانة:- يبدو ألقانة أمامنا رجلاً حزينًا ملتاعًا، فياض الشجن، مكتئب الروح، يستدر الدموع، وأكاد أرى دموعه ترجع إلى منابع ثلاثة أليمة:- دموع الندم:- نحن لا نعلم لماذا تزوج هذا الرجل بامرأتين؟ ولا نعلم أيهما كانت الأولى والأسبق؟ هل يرجع ذلك إلى الضعف العام الذي استولى على الكثيرين من الرجال في طفولة الحياة البشرية، الضعف الذي كان لامك أبو المزاوجين أول من خضع له، وسار في أعقابه الكثيرون من بني البشر، الوثنيين والإسرائيليين على حد سواء، الأمر الذي لم يكن في شريعة الله الذي خلقهما ذكرا وأنثى، ولكن القلب البشري القاسي أجازه؟ أم يرجع الأمر لأن ألقانة لم يعقب أولادا من حنة فجاء بفننة من أجل النسل؟ أيان كان هذا أو ذاك، فالذي لاشك فيه أن الرجل كان شديد الأسى والألم لهذا النزاع القائم في بيته، وأن الرجل جنى على هذه المرأة الوديعة، وهو يتركها في مخالب امرأة قاسية، كان الرجل وهو يذكر هدوءه المنزلي الطريد يبكي دموع الندم لأجل الحياة المزاوجة التي عاشها. ونحن نشكر الله أننا لا نعرف في البيوت المسيحية هذا الضرب من التعب والضيق والمعاناة، ولكن قصة التاريخ، واختبار الآخرين في هذا الشأن يؤكدان لنا مبلغ الحياة التعسة الشقية في بيت توجد فيه امرأة وضرتها.ورغم خطأ الرجل فلا ينبغي أن ننسى أنه كان ذا طبيعة سمحة حلوة محبة كريمة، لقد أحب زوجته حنة، وكلما أشتد احساسها بالألم، وازداد شعورها بالحرمان، ازداد حبه لها وعطفه عليها، لقد أيقظ بؤسها في نفسه الإنسانية الرقيقة أنبل ما فيها من حب وجود وحنان، لم يذكر الكتاب أن عيني الرجل ذرفتا دموعًا هادئة أو سخينة، ولكننا نستطيع أن نقرأ من وراء ما سجله الوحي أن نفسه كانت باكية متألمة، وأن بكاءها كان عميقًا وكان جميلاً، إذ كان له في نفس زوجته أثر قدير نبيل.ما أحوجنا ساعة الظلمة ولو إلى كلمة رقيقة رفيقة عطوفة، أو دمعة هادئة مترقرقة، أو نظرة صامتة آسية، أو شعور يظهر بكيفية ما يدل على المشاطرة والمشاركة والمؤاساة، إن مولانا لم يطلب في جثيماني من بطرس ويعقوب ويوحنا إلا أن يسهروا معه ساعة واحدة، كان في حاجة إلى شعورهم المؤنس، وعطفهم الرقيق، كانت نفسه الصادئة الظامئة تنتظر منهم المعونة والتقوية والتشجيع في ساعة انصبت فيها مرارة الأجيال في نفسه،.. قالت عجوز للرئيس لنكولن في لحظة قاتمة من لحظات الحرب الأهلية الأمريكية: أيها الرئيس لا تخف!! تشدد وتشجع، إنك لن تهزم فنحن معك، والله معك، ونحن نصلي من أجلك، وقد هزت هذه الكلمات البسيطة الرئيس الأمريكي، ورفعت قلبه الغائص في أعماق اليأس. دموع العجز:- ولكني لا أدعي أن هذه الحقيقة تنسيني أن هذه الدموع رغم جمالها كانت دموعًا عاجزة،.. كان كنفوشيوس يقف بنيل أمام آلام الإنسان ويقول: «أستطيع يا صديقي أن أبكي معك ولكني عاجز عن أن أخلصك من الكثير من أسباب شكواك لأن الألم في أغلب حالاته أقسى من قدرة البشر»... كان نعمان محبوبًا من الجميع، من بيته، وملكه، وشعبه، ولاشك أن دموعًا كثيرة زرفت على نعمان المتألم، ولكن هذه الدموع لم تخلصه من برصه، كان ألقانه صورة للنبل الإنساني... في جماله، وفي حدوده. حنة وعالي:- كان موقف عالي من حنة موقفًا يشوبه الكثير من الضعف وإن كان الرجل قد جلله في الختام بما كفر عنه، بتمنياته وصلاته من أجلها، كان عالي: الناصح المتعجل:- تحرك الألم والغيظ والضيق والاضطراب في قلب حنة صلاة حارة ملتهبة، لم تلفظ بشفتيها كلمات تسمع لكن صلاتها كانت صرخة مكتومة أمام الله، ورأى عالي شفتيها تتحركان في شبه دمدمة السكران، فلم يرقه هذا المنظر، وخاصة في بيت الله فصاح بها: «حتى متى تسكرين انزعي عنك خمرك» فالتفت المرأة المحزونة إليه وقالت: «لا ياسيدي. إني امرأة حزينة ولم أشرب خمرا ولا مسكراً بل أسكب نفسي أمام الرب. لا تحسب أمتك ابنة بليعال لأني من كثرة كربتي وغيظي قد تكلمت إلى الآن». وكأنما تقول المرأة: إن كنت تحسبني ياسيدي سكري، فأنا سكري ولكن ليس من الخمر بل من الألم، لقد جرعت كأسه حتى الثمالة، أنا أمرأة مضطهدة مظلومة تعسة، أنا امرأة تجمعت عليها النوائب، وتكاد صلابتها تخور، ويقينها يتزعزع، لا ياسيدي غير فكرك عني ترى أنني في حاجة إلى الرثاء لا إلى التوبيخ! وأحس عالي بالألم في نفسه، لأنه آذى بتسرعه وتعجله نفسًا مكسورة، وأحسست معه بذات الألم والخجل، لأنني كثيرًا ما تمشيت في أثره، وفعلت ما فعل.. إن أول واجبات خدام الله أن تكون لهم العين الحادة المبصرة، التي تستطيع أن تميز للنظرة الأولى، المتألم من غير المتألم، المحزون من مدعي الحزن، البائس المتضايق من السكير المخمور، ولكننا كثيرًا ما نقسو بأنانيتنا وتعجلنا وبطء ادراكنا وسوء معرفتنا على من كان يجب أن نعاملهم بكل أناة ولطف وحنان ورحمة! الناصح الذي نسى نفسه:- لم يكن عيب عالي أنه قدم نصيحته بتعجل وتسرع فحسب، بل كان عيبه الفاضح أنه، وهو ينصح الآخرين، نسى أن بيته كان في أمس الحاجة إلى هذه النصيحة، كان ابناه حفني وفينحاس في حاجة إليها من عشرين عامًا سابقة، كان هذان الرجلان كتلتين من الشر والعربدة والفساد، كانا مثلين شريرين للحياة الماجنة الخليعة، ورأى عالي سكر ولديه وشرهما وعربدتهما، وصمت ولم يردعهما حتى استهان شعب الله ببيت الله والتقدمة، ما أحوجنا أن نذكره بقول معلمنا العظيم: «لا تدينوا لكي لا تدانوا لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك. وها الخشبة في عينك. يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيدًا أن تخرج القذى من عين أخيك» أو ما قاله الرسول بولس: «لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين. لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلوه مثل هذه».. ذكرني يارب قبل أن أنتقد الآخرين أن أبصر نفسي، وقبل أن أتحدث عن بيوت الناس، أن أتأمل بيتي، عرفني يارب عيوبي، وقدرني أن أصلحها حتى يكون لي من الشجاعة والإخلاص والصراحة والمحبة ما يعينني على إصلاح عيوب غيري... ليت هذه تكون صلاة كل واحد منا. الناصح المعتذر المصلي:- وكأنما أراد عالي أن يعتذر ويكفر عن خطئه فحول توبيخه إلى أمنية وصلاة: «اذهبي بسلام وإله إسرائيل يعطيك سؤلك الذي سألته من لدنه».. وهنا يسبقنا عالي في ضرب من الخلق كريم.. سرعة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، كثيرًا ما نحس تعجلنا وعدم تبصرنا في أمور كثيرة تؤلم الآخرين وتؤذيهم ومع أننا نعترف بهذا بيننا وبين أنفسنا، فاننا نتناسى الاعتراف والاعتذار أمامهم بدافع من الأنانية والذاتية وكبرياء النفس، لكن كم يكون جميلاً أن نعترف ونبسط في اعترافنا كل رجاء وتمن حسن!!. حنة أو بطلة القصة:- والآن لنعد إلى بطلة القصة، وأرجو أو تسترعي أنوارها أبصارنا بكيفية أبهر وأقوى وأدق وأظننا حين ندركها على حدة ازاء الألم سنخرج من دروسنا بعدة دروس صالحة فهي:- المرأة التي تكشف لنا شيئاً من لغز الألم:- تعد قصة الألم من أعقد ألغاز الحياة البشرية، ومن غير الميسور لنا نحن الضعفاء القاصري الفكر أن نغوص إلى أعماقه ومسبباته، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نبصر إلى حد كبير بركاته الثمينة، فليس هناك ما هو أقدر من الألم على كشف الحياة البشرية عارية على حقيقتها، بل وإبراز الخطوط الأصيلة من نسيجها، فهذه امرأة لم يكتب قصتها سوى الألم ولم يظهر مقدار ما فيها من تحمل وشجاعة وصبر وثقة وتسليم غيره. إنك لا تستطيع أن تكتشف الصبور الا في لحظة المحنة، والشجاع إلا في وسط المخاوف، والمتسامح في غير ساعات الحقد، إن الألم يلقي دائمًا أنواره الكاشفة على ما فينا من أخلاق وطباع، بل أن هذه الأخلاق لا ينميها ولا يذكيها ويقويها سوى الألم... لم تختبر الملكة ماري انطونيت مرارة الجوع والحرمان، فلما جاءتها النساء الفرنسيات الجائعات صارخات في طلب الخبز قالت: يا لهن من بائسات، ولكن لم لا يأكلن بقلاوة إن لم يجدن خبزًا.. قد تكون هذه عبارة تهكمية نسبت إلى ملكة فرنسا، ولكنها إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن الجائع وحده، هو الذي يحس ألم الجياع ويدركه ويعطف عليه، أتذكرون ذلك الرجل الذي قيل إنه تعود أن يبتاع الطيور، ثم يطلقها من أقفاصها، ولما سألوه عن السبب أجاب: لقد آليت على نفسي أن أحرر ما استطعت كل أسير طيرًا أو حيوانًا أو إنسانًا، لأني عانيت مرارة السجن والأسر والاستعباد، اني أؤمن أن حنة صارت بعد آلامها أرهف الشعور وأدق احساسًا، وأكثر عطفًا، وأن الألم أضفى على طبيعتها جمالاً لم تكن قد عرفته من قبل!! المرأة التي أمسكت بالله ساعة الألم:- «لا ياسيدي لا تحسب أمتك ابنه بليعال» ما أرق هذه الكلمات تفوه بها المرأة العظيمة.. كثيرون يمسكون بالله طالما كانت حياتهم ضاحكة، وخيرهم موفورًا، وبركاتهم غامرة. يرنمون له ويعيشون معه إذا كان جوهم صافيًا، وشمسهم مشرقة.. أما إذا كشرت لهم الأيام عن ألم أو تعب أو خطب فما أسرع ما يبتعدون، ويفصمون معه كل علاقة.. جرى كثيرون وراء المسيح حين قدم لهم الخبز، ولكنهم انفضوا من حوله حين لوح لهم بالتعب والألم والصليب.لعل أجمل ما في حياة قديسي الله تمسكهم به في ساعة التجربة والظلمة والضيق. المرأة المصلية:- لم يكن عجزها، وعجز الآخرين معها، وصعوبة انتظارها سببًا في ركونها إلى اليأس واستسلامها للواقع، كلا لقد صارعت مع الله، صلت فأطالت الصلاة، وانبعث صلاتها حارة ملتهبة، وحين باركها عالي آمنت بالإجابة قبل حدوثها.. السؤال والإلحاح والإيمان، هذه أركان الصلاة الناجحة.. ألا ليتنا نتعلم في صلواتنا أن نعبر أرض الصعاب والفشل والمستحيلات، ألا ليتنا نقول في لحظات اليأس مع يهوشافاط: «ونحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا» وعند الإعياء مع يونان: «حين أعيت في نفسي ذكرت الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك» وعند الشدة والضيق والاضطهاد والجوع والعري والخطر والسيف مع بولس: «لكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا». المرأة التي أوفت نذرها:- في ضيقها نذرت للرب أفضل ما ينتظر أن تملك، العطية التي يعطيها الرب إياها.. ولما أعطاها لم تنس الوفاء، ولم تبخل بالتقدمة، بل بفرح قدمت ابنها العزيز لله ولخدمته، كثيرون في لحظات الضيق يتعهدون بإعطاء الرب كل شيء، وما أن يحل الفرج حتى ينسوا ما وعدوا وما نذروا.أيها الأصدقاء لا تخشوا أن تتعهدوا لله وتنذروا ولكن في يقظة وتأمل وضبط نفس، والله يحسن دائمًا مكافأة الناذرين وأقد أحسن مكافأة هذه المرأة ففضلاً عن أن نذرها قد كتب الخلود والمجد لوالدها فان الله قد أعطاها عوضًا عنه ثلاثة بنين وبنتين. المرأة المغنية للرب :- بدأت قصتها بالدموع، وانتهت بالترنم، بدأتها بالرأس الخفيض وانتهت بالرأس المرتفع، بدأتها بالمذلة والحرمان، وانتهت بالرفعة والشبع، بدأتها مع الإنسان، وانتهت مع الله.. تأمل هذه الأغنية البديعة التي رنمتها حنة تجدها أغنية فياضة الحساسية بقدرة الله وعنايته وحكمته ومعونته ودينونته وسيادته، ولطالما قرأت هذه الأغنية لأتعلم منها ألا أهتم كثيرًا بما يشغل الناس من فقر أو غنى، أو سيادة أو استبعاد، أو راحة أو تعب، لأني أبصرت من وراء هذه جميعًا يده المعينة الممسكة بي، أيها الإنسان البائس الفقير المحتاج، حين يشتد عليك التعب، وتحيط بك المخاوف، وتتزلزل تحت قدميك الأرض وتميد، لا تخف!!.. أذكر الله، وأرفع الرأس، وسر إلى الأمام تنته ظلمتك، وتشرق شمسك، ويمتليء قلبك بالهتاف والفرح والترنم فتقول مع حنة: «فرح قلبي بالرب. ارتفع قرني بالرب، اتسع فمي على أعدائي لأني قد ابتهجت بخلاصك، ليس قدوس مثل الرب، لأنه ليس غيرك، وليس صخرة مثل إلهنا، الرب يميت ويحيي. يهبط إلى الهاوية ويصعد. الرب يفقر ويغني، يضع ويرفع. يقيم المسكين من التراب، يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء. ويملكهم كرسي المجد لأن للرب أعمدة الأرض وقد وضع عليها المسكونة، أرجل أتقيائه بحرس والأشرار في الظلام يصمتون، لأنه ليس بالقوة يغلب الإنسان، مخاصمو الرب ينكسرون. من السماء يرعد عليهم الرب يدين أقاصي الأرض ويعطي عز لملكه ويرفع قرن مسيحه».
المزيد
28 أكتوبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس حزقيال

حزقيال " فجئت إلى المسبيين عند تل أبيب الساكنين عند نهر خابور وحيث سكنوا هناك سكنت "حز 3: 15 مقدمة كان فرانك جانسيليوس، راعياً لإحدى الكنائس الكبرى فى مدينة شيكاغو، وفى يوم أحد وهو يستعد للخدمة، إنسابت الدموع من عينيه، وهو يطل على حى الفقراء البائسين فى المدينة، وقد بدت بيوتهم أكواخاً تنبئ عن الفقر العميق والبؤس المضنى، ونسى والدموع الغزيرة تهطل منه، أنه يتأهب للخدمة، ودخل عليه فى تلك اللحظة شماس الكنيسة، وقد روعه المنظر، فقال له: إن الساعة الآن قد تجاوزت الحادية عشر يا سيدى، وهو الوقت الذى يلزم أن تصعد فيه إلى المنبر..، وقال الراعى: أشكرك لأنك نبهتنى إلى ذلك، وقد كدت أنساه!!؟. وقال له الشماس: ولكن لماذا تبكى؟،... فقال الراعى العطوف: لقد جلست أنظر إلِى هذه الأكواخ، وما من شك أن حياة من فيها، مخيفة ومفزعة،... فقال الشماس: نعم هذه حقيقة قاسية، ولكن هون عليك الأمر، فبعد فترة من الزمن ستعتاد هذا المنظر!!.. وقال الراعى بألم وحزن: وهذا هو ما يدعونى إلى البكاء..!!.عندما ذهب حزقيال إلى المسبيين فى تل أبيب، عند نهر خابور، جلس بينهم صامتاً متحيراً سبعة أيام، كما صمت أصدقاء أيوب، وهم يتطلعون إلى نكبته المهولة،... وهناك عاش حياتهم المعذبة، وأدرك رسالته فى السبى، لقد وقعت هذه الرسالة، من الوجهة الزمنية بين إرميا ودانيال،... وكانت من الواجهة النفسية والروحية، فى قلب المأساة وصميمها!! وكان هذا صليب الرجل، حتى جاء المسيح ينادى كل واحد أن يحمل صليبه، ويتبعه،.. حمل حزقيال صليبه القاسى، كأشجع وأنبل ما يكون، يسير فى طريق الأشواك والآلام فى الأرض!!.. وأضحى مثلا رائعاً للراعى الذى ينحنى على آلام شعبه وتعاساتهم ويحملها معهم ويرفع أمامهم مصباح النور والرجاء فى أحلك لياليهم!!.. هل لنا كرعاة ومؤمنين أن نتعلم درساً رفيعاً من المعونة والموآساة، فى قصة الرجل المسبى القديم؟ حزقيال ومن هو!!؟ الاسم حزقيال معناه « الرب يقوى »، وقد كان كاهناً من سبط لاوى، ويعد من أعظم الأنبياء الذين ظهروا فى العهد القديم، وقد دعى للنبوة فى السنة الثلاثين، ويعتقد البعض أن هذا التاريخ إشارة إلى السنة التى قام فيها نبو بولاصر بتحرير بابل من سلطان آشور، أى أنها محسوبة من تاريخ تحرير بابل.. وإن كان آخرون يعتقدون أنها السنة الثلاثون من حياته، باعتبار أن الكاهن يبدأ عمله فى الثلاثين من عمره، وعلى أية حال، فمن المرجح أنه بدأ النبوة عام 395 ق.م. إذ أنه كان واحداً من المسبيين الذين سبوا مع الملك يهوياكين عام 895 ق. م. وربما كان فى الخامسة والعشرين من عمره فى ذلك الوقت،... ولعله من اللازم أن نشير إلى الأحداث التى أحاطت به فى ذلك التاريخ، وهذا يقتضينا العودة إلى الوراء قليلا إلى أيام يهوياقيم الملك الذى عمل الشر فى عينى الرب، فأنهض عليه نبوخذ ناصر ملك بابل، الذى استعبده ثلاث سنوات، وإذ حاول التمرد أرسل إليه الغزاة التابعين له لتحطيمه وإذلاله،... فمات وملك ابنه يهوياكين عوضاً عنه، وسار فى طريق الشر كما سار أبوه، غير أنه لم يبق فى ملكه أكثر من ثلاثة أشهر، إذ صعد نبوخذ ناصر إلى أورشليم، وسبى الملك، ومعه حزقيال، وأفضل الناس فى الأمة، وكان فى ذلك الوقت يبنى بابل، ويسخر فى بنائها أفضل الصناع والعمال،.. وقد بقى يهوياكين سجيناً ستة وثلاثين عاماً طوال حكم نبوخذ ناصر، حتى جاء أويل مرودخ فأخرجه من السجن وكلمه بخير وجعل كرسيه فوق كراسى الملوك الذين معه فى بابل... ووفى خلال هذه الفترة تمرد الملك صدقيا على نبوخذ ناصر، فعاد إلى أورشليم وخربها ودمر الهيكل، بعد أحد عشر عاماً من غزوها السابق حوالى 587 ق.م.ولعله من الازم أن نعرف أن حزقيال، وإن كان قد ذهب إلى السبى، لكن رسالته ونبوته كانت لإسرائيل كله، والشطر الأول من النبوة يتجه فى أغلبه، حتى الأصحاح الرابع والعشرين، إلى التهديد والوعيد، قبل أن تدمر أورشليم والهيكل التدمير الرهيب وتأتى أفواج أخرى من المسبيين إلى بابل، واتسمت النبوة فى الشطر الثانى، إلى آخر الأصحاح الثامن والأربعين، بالرجاء والأمل لشعب مسحوق، طحنه الغزو، وسيبقى فى أسره المدة سبعين سنة كاملة، وأغلب الظن أن حزقيال عاش النصف الأول من هذه المدة، كالراعى الذى يخدم بين البؤساء والمطحونين والمعذبين، بما تحفل به حياتهم من الضياع والقسوة واللامبالاة والأنانية وفقدان الرؤية والانتهازية واليأس، فإذا جاز لنا أن نتصور الشعوب المغلوبة على أمرها فى أعقاب الحروب، وقد قسا عليها الاستعباد والجوع والعرى والحاجة والألم والتشريد، فلنا أن نتصور حزقيال بين المسبيين، ورسالته بينهم!!.كان ولا شك، محباً عظيماً لشعبه ومواطنيه وبلاده، وكانت آلامهم آلامه، وعذاباتهم تملأ قلبه ومشاعره، وكان صورة للراعى المحب الذى قال له الرب: « يا ابن آدم ها أنذا آخذ عنك شهوة عينيك بضربة فلا تنح ولا تبك ولا تنزل دموعك، تنهد ساكناً. لا تعمل مناحة على أموات. لف عصابتك عليك واجعل نعليك فى رجليك ولا تغط شاربيك ولا تأكل من خبز الناس. فكلمت الشعب صباحاً وماتت زوجتى مساء. وفعلت فى الغد كما أمرت » " حز 24: 15 - 18 "... كانت وفاة زوجته الفجائية آية ومثلا لبنى إسرائيل، وإذ توفيت، ذهب إلى رسالته بقلب مكسور، ولكن بغرض غير مكسور،... كان أشبه من هذا الجانب بوليم الصامت الذى لا يتكلم، ولكنه أحب هولندا وآلامها حباً يفوق الوصف، وجاء عنه: « لقد سار فى الحياة يحمل آلام شعبه على كتفيه بوجه مبتسم، كان اسمهم آخر ما تردد على شفتيه، وقد أسلم نفسه، فى ضجعة الموت فى يقين الجندى الذي عاش من أجل البر طوال حياته، بين يدى قائده الأعظم المسيح، وكان الشعب متحمساً ووفياً له إذ وثق به ودعاه الأب وليم، ولم تستطع كل غيوم الدسائس التى تجمعت، أن تطفىء من عيونهم بريق الثقة فى عقله الرفيع، إذ كانوا يتطلعون إليه فى أحلك المآسى والليالى، ولقد كان طوال حياته النجم الهادى لأمة شجاعة، وعندما مات كان الأطفال يصرخون فى الشوارع »... على أن حزقيال لم ينس قط أن السبى لشعبه وأمته جاء نتيجة الشر والخطية، وقد ظهرت هذه الخطية واضحة فى حياة المسبيين، التى امتلأت بالشرور، كما أشرنا، أو كما وصفهم اللّه له، قائلا: « يا ابن آدم إنا مرسلك إلى بنى إسرائيل إلى إمة متمردة قد تمردت علىّ. هم وآباؤهم عصوا على إلى ذات هذا اليوم والبنون القساة الوجوه والصلاب القلوب أنا مرسلك إليهم... لأنهم قريس وسلاء لديك وأنت ساكن بين العقارب. من كلامهم لا تخف ومن وجوهم لا ترتعب لأنهم بيت متمرد » " حز 2: 3 و4 و6 " وما أقسى أن يخدم إنسان بين جماعات القريس، والسلاء، والعقارب، فالقريس هو ذلك العشب البرى الخشن الذى ينبت مكان الأزهار والأشجار المثمرة، أو هو الحقل المجدب الذى لا ثمر فيه أو إنتاج... وهو، أكثر من ذلك، الحقل الممتلئ بالأشواك،.« والسلاء » الحقل الذى لا يصلح فيه الكفاح العادى بل يحتاج إلى المزيد من الجهد والعرق والتعب،... وإلى جانب هذا كله هو الحقل المؤذى « وأنت ساكن بين العقارب » وهنا الخطر، بل الطامة الكبرى... ويمكن أن نتصور هذا كله فى كنيسة ما، تمتلئ بالقريس أو بمن لا يعملون، وإذا كان لهم من عمل فهم سلاء لا هم لهم إلا زرع الأشواك والمتاعب، ويتحولون مع الأيام، يدرون أو لا يدرون، إلى عقارب تلذع وتضر!!.كان حزقيال محباً عظيماً، لكنه فى الوقت نفسه، مع جماعات كهذه الجماعات، لم يكن قصبة تهزها الريح، بل كان صلباً فولاذياً يواجه صلابتهم وشدتهم، ولا شبهة فى أنه كان يملك إرادة جديدية، وشجاعة خارقة لا تنحنى أو تنثنى، وقد صنعه اللّّه هكذا: « ها أنذا قد جعلت وجهك صلباً مثل وجوههم، وجبهتك صلبة مثل جباههم. قد جعلتك جبهتك كالماس أصلب من الصوان فلا تخفهم ولا ترتعب من وجوههم لأنهم بيت متمرد » " حز 3: 8 و9 "..وكان حزقيال أيضاً بليغاً فصيح البيان، ومع أن رسالته كانت فى مطلعها كالسوط اللاذع، إلا أنها بعد دمار أورشليم، اتسمت بالرجاء والأمل، واكتسبت حلاوة وجاذبية، أسرت آذان السامعين، وإن كانت أبعد من أن تمتلك قلوبهم التى شغلت بحب المكسب، شأن اليهود إلى اليوم فى العالم كله: « ويأتون إليك كما يأتى الشعب ويجلسون أمامك كشعبى ويسمعون كلامك ولا يعملون به لأنهم بأفواههم يظهرون أشواقاً وقلبهم ذاهب وراء كسبهم. وها إنت لهم كشعر أشواق الجميل الصوت يحسن العزف فيسمعون كلامك ولا يعملون به. وإذا جاء هذا. لأنه يأتى. فيعلمون أن نبياً كان فى وسطهم » " حز 33: 31 - 33 "!!..ومن الواضح أن حزقيال أيضاً كان الرجل الواسع الخيال، القادر على استخدام المجاز والرموز والأمثال فى تأدية رسالته، وقد وصفه جورج ماثيسون قائلا: « لكى تفهم إنساناً، إعرف مثله العليا بين الناس ». وقد كان أبطال حزقيال فى نظره نوحا وأيوب ودانيال وهؤلاء الثلاثة فقدوا عالمهم، ولكن نوحاً أوجد عالماً جديداً، ورأى أيوب اللّه فى العاصفة، وصنع دانيال أشياء عظيمة لمواطنيه فى مكانه الجديد... وكان حزقيال مسبيا ولكنه فى السبى كان قوة هائلة رافعة لمواطنيه المسبيين!!..كان حزقيال رائياً عظيماً، والحاجة ماسة لرجال الرؤى فى أوقات الظلام، إذ أنهم يستطيعون اختراق الحجب، واكتشاف مالا يستطاع اكتشافه، وقد استطاع حزقيال تقوية موطنيه ببعث روح الرجاء والأمل فيهم... كان الرجل قريباً من اللّه، وكانت عليه يد الرب، وقد أسمعه الرب ما لم يستطيع غيره أن يسمعه، إذ أن أذنه كانت أرهف وأرق وأقوى سمعاً وقد كشف له الرب ما لم تستطع عيون الآخرين رؤياه، ومثل هؤلاء الرجال قوة هائلة فى لحظات المحن والمآسى والدموع.كان حزقيال فى جوهر رسالته رقيب الأمة ومرشدها، وكان لباب حديثه على الدوام: التوبة: « من أجل ذلك أقضى عليكم يا بيت إسرائيل كل واحد كطرقه يقول السيد الرب. توبوا وارجعو عن كل معاصيكم ولا يكون لكم الإثم مهلكة. إطرحوا عنكم كل معاصيكم التى عصيتم بها، واعملوا لأنفسكم قلباً جديداً وروحاً جديدة، فلماذا تموتون يابيت إسرائىل؟ لأنى لا أسر بموت من يموت يقول السيد الرب. فارجعوا واحيوا » "حز 18: 30 – 32 ". حزقيال والفكر اللاهوتى فى سفره:- ومع أنه ليس من السهل الإلمام بسفر حزقيال فى سرعة وعجالة، إلا أنه يحسن أن نمر بأهم أصحاحاته مروراً سريعاً، والسفر على الأغلب ينقسم إلى جزءين: أولهما قبل خراب أورشليم وتدميرها، والثانى بعد هذا الخراب، وكان القصد من الجزء الأول كشف الخطية، والتنبيه إلى عقابها الرهيب، وإذا لم يتب الشعب ويرجع إلى اللّه،... ولما لم تحدث التوبة، ووقعت الواقعة الرهيبة، وسوى نبوخذ ناصر أورشليم بالأرض التى أقيمت عليها، وحولها إلى أنقاض وخرائب، ودمر الهيكل تدميراً تاماً، إذل الشعب إذلالا رهيباً، وعلق المسبيون أعوادهم على الصفصاف فى بابل، وانقطع بينهم شدو الأغنية، واستبد بهم الحزن واليأس العميق، كان على حزقيال، كما سنرى، ان يخرجهم من بالوعة اليأس التى طوتهم، ويقيمهم على أقدامهم ليتطلعوا، فى أعماق الليلى، إلى النجم الذى يلمع بالرجاء فى وسط ماسيهم وأحزانهم!!... وكان حزقيال - كما أسلفنا الإشارة رائياً عظيماً، وها نحن نرى روأه فيما يلى: حزقيال والرؤى الأولى:- كان الدرس الأول الذى يحتاجه حزقيال والشعب، أن يدركو ا أن الله يسود ويحكم، وأنه ليس موجوداً فحسب فى أورشليم وإسرائيل، بل أنه أيضاً فى بابل وتل أبيب ونهر خابور، حيث يعيش المسبيون وكان لابد أن يظهر مجد اللّه بصورة جليلة ورهيبة فى أرض الضيق والشدة والتعب والمعاناة، وظهر الكروبين كإعلان عن هذا المجد الإلهى العظيم!!... والسؤال: من هم هؤلاء الكروبيم المرموز إليهم فى الكتاب بالخلائق الحية ذوى الوجوه الأربعة، وجوه الإنسان والأسد والثور والنسر؟؟ وقد اختلفت الأراء حولهم كثيراً،... فهناك من ذهب إلى أنهم يمثلون الحكمة الإلهية والقوة والعلم والخليقة،... وآخرون أنه المسيح المتجسد كما هو مصور فى الأناجيل الأربعة..، فمتى يشير إليه فى صورة الأسد، ومرقس فى صورة الذبيحة الممثلة فى الثور، ولوقا فى صورة المتجسد الممثل فى الإنسان، ويوحنا فى صورة اللاهوت الممثل فى النسر، ومن الآخذين بهذا الرأى أوغسطينس، وجيروم، وأثناسيوس، وايرانيوس، وغريغوريوس، وأمبروز، ووردثورث،... ووجد من قال إنهم إشارة إلى كنيسة العهد القديم والجديد،... ووجد من اعتقد إنهم أعلى طبقة من الملاائكة،... ومن الواضح أن الصورة التى رآها حزقيال كانت مهيبة ورهيبة وجليلة، وتعلن على أية حال مجد اللّه العظيم،... وإذا كان محرماً على اليهودى أن يرى اللّه أو يتصوره فى صورة منظورة، لئلا يحولها تمثالا أو نصباً يتعبد له، ومن ثم جاءت الوصية: « لا تصنع لك تمثالا منحوتاً ولا صورة ما مما فى السماء من فوق وما فى الأرض من تحت وما فى الماء من تحت الأرض » " خر 19: 4 " فإنه على هذا الأساس جاءت رؤيا حزقيال رهيبة وعظيمة ولا يسهل وضعها فى صورة نصب أو تمثال، وهى رؤيا، إن تحدث، فإنها تتحدث عن غير المنظور الذى تنفتح عنه السماء، وفى الحقيقة أن غير المنظور هو دائماً الأقوى والأعلى والأسمى، وأن المنظور هو الأبسط والأصغر والأضأل، والعالم كله يكتشف يوماً وراءه يوم ما لم يكن يدور بخلده، فالقوى المغناطيسية، ونواميس الجاذبية، والكهربائية، هى قوى غير منظورة فى الأساس لكنها تتحكم فى الكون،... وخلفها علة العلل، اللّه غير المنظور فى الأرض، وهو سر الوجود، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته،... والكروبيم المحاط بالعاصفة والريح والنار والسحابة وقوس قزح إعلان عن قدرة اللّه وعنايته المسيطرة على كل شئ، بالحكمة التى تظهر فى وجه الإنسان، والقوة التى تبدو فى وجه الأسد، والإحتمال الذى يرمز إليه وجه الثور، والإرتفاع الذى يشير إليه النسر،... وهما قدرة وعناية مسيطرتان لا تخضعان قط لمشورة إنسان أو رأيه أو اعتراضه إذ هما أعلى منها جميعاً، ومصير المسبين وغير المسبيين بيدهما العلوية.... وقد وصفت هذه الرؤيا فى الأصحاح الأول من السفر،... ولحق بها فى الأصحاح الثانى والثالث، رؤيا الدرج الذى أكله، وصار فى فمه حلواً كالعسل!!.. « وقال لى يا ابن آدم أطعم بطنك وأملأ جوفك من هذا الدرج الذى أنا معطيه. فأكلته، فصار فى فمى كالعسل حلاوة » " حز 3: 3 " على أنه يبدو أنه تحول إلى مرارة كما فى " رؤ 10: 3 " إذ جاء القول: « فحملنى الروح وأخذنى فذهبت مرا فى حرارة روحى ويد الرب كانت شديدة على " حز 3: 14 "... والدرج يشير إلى كلمة اللّه المرسلة إلى إسرائيل، وكان على حزقيال أن يبلغ هذه الرسالة للشعب، فما هى الكلمة بالنسبة له، أو بالنسبة لأى متكلم بها أرسله اللّه هادياً وبشيراً ونذيراً،... إن الكلمة كما أسلفنا الحديث فيما سبق من شخصيات، ليست مجرد ألفاظ أو عبارات ينطق بها المتكلم، بل هى الحق الإلهى مضاف إلى الواعظ نفسه، الذى أكل الكلمة فأضحت جزءاً من كيانه، فهو إذ يتكلم، إنما يتكلم محمولا بروحه وكيانه وشخصه، وقد اندمج فى الكلمة، واندمجت الكلمة فيه،... وقد كانت الكلمة عند حزقيال، كما هى عند أى واعظ إلهى ينادى بها، أمينة نقية صادقة قوية، ولذا تصبح كالعسل فى حلاوتها... على أنها وهى كلمة مخيفة تحمل الدينونة للشعب والعقاب الرهيب، أضحت مريرة على نفسه، قاسية وشديدة فى نتائجها، لمن يرفضها أو يقبل الاتعاظ بها،... ومن ثم يحتاج المنادى بها إلى الشجاعة والصلابة: « قد جعلت جبهتك كالماس أصلب من الصوان فلا تخفهم ولا ترتعب من وجوههم لأنهم بيت متمرد ».. " حز 3: 9 "..كانت رسالة حزقيال رسالة الرقيب: « يا ابن آدم قد جعلتك رقيباً لبيت إسرائيل » " حز 3: 17 "... والرقيب هو الإنسان الذى يقف على المرصد فى أعلى الحصن يراقب الأفق، ويرى الخطر المقترب، ويحذر منه وواجبه واضح، فإذا نام الجندى فى نوبة حراسته، فالموت مصيره دون أدنى شفقة،... أما إذا أدى واجبه، فقد تجاوزته المسئولية، مهما كانت النتائج التى تحدث،... وهذه رسالة الخادم الذى عليه أن يسهر لتأديتها ليلا ونهاراً، ولا يكف عن التنبيه والتحذير والزجر!!..وقد صور حزقيال حصار مدينة أورشليم فى صورة نموذجية أمامه، وأقام حولها البرج والمترسة والجيوش والمجانق، والصاج والسور الحديدى، نموذجاً مصغراً لما فعله نبوخذ ناصر، عندما حاصرها ودخلها مدمراً إياها، كما كان عليه أن ينام على جنبه الأيسر ثلاثمائة وتسعين يوماً، ثم أربعين يوماً على جنبه الأيمن، يوماً عن كل سنة قضاها إسرائيل فى الإثم والفساد، وعلى الأغلب من أيام بربعام وعجول الذهب، منذ ثلاثمائة وتسعين سنة وأربعين عاماً قضاها يهوذا فى الارتداد الشامل قبل خراب أورشليم. وليس معنى النوم على الجانب الأيسر أو الأيمن إنه لم يكن يتحرك إطلاقاً من على جنبه طوال هذه المدة، لكنها كانت عادته اليومية المنتظمة التى لوحظ عليها من الجميع، كان عليه أن يكون آية، الأمر الذى فعله سمعان الخراز، والذى جلس على عمود ثلاثين عاماً قرب إنطاكية يعظ الناس الذين يفدون لكى يروه، وهو يحتج بجلوسه هذا على شرورهم وعالميتهم،... وكان على حزقيال أن يصور مجاعة المدينة فى حصارها، بالطعام القليل الموزون بالميزان والذى يتعين عليه أن يأكله،... كما أنه حلق رأسه ولحيته، وأحرق ثلث شعره المحلوق، رمزاً للذين سيحرقون أو يموتون بالمجاعة والوباء داخل المدينة، والثلث الثانى ضربه بالسيف رمزاً للثلث الذى سيمون قتلا بالسيف، والثلث الثالث الذى سيسبى ويشرد فى كل مكان... وفى الأصحاح الثامن سفره، يؤخذ بالروح فى الرؤيا إلى مدينة أورشليم، ليبصر الوثنية البشعة التى انتهى إليها شيوخ إسرائيل، وفى التاسع يرى اللّه يميز بين من يعبد اللّه ومن لا يعبده، ليقضى على الأشرار والفساد بصورة رهيبة. وفى الثانى عشر يبدو كما لو أنه يتأهب للجلاء، إعلاناً ورمزاً لذهابهم إلى السبى، وفى الثامن عشر يقضى على حجة المشتكين بأن آباءهم أكلوا الحصرم، وأسنانهم هم التى ضرست، وبين أن عقوبة كل إنسان تأتى نتيجة أفعاله هو!!... وفى الرابع والعشرين ماتت زوجته بضربة مفاجئة وكان عليه أن يحزن حزناً عميقاً وقلبياً، رمزاً للضربة التى ستترك إسرائيل فى حزن يحل عن الوصف أو التعبير!! حزقيال والرؤى الأخيرة:- كانت الرؤى الأخيرة لحزقيال، بعد خراب أورشليم، تختلف عن الأولى اختلاف الوقاية عن العلاج،... كان هدف حزقيال فى الرؤى الأولى أن يقف فى طريق الكارثة، محذراً الشعب من السقوط فى الهاوية، حتى ولو فى اللحظات الأخيرة من النهار، ولكن الشعب لم يسمع، وسقطت المدينة المحبوبة، ودمرت تدميراً رهيباً، وأخذ المسبيون بأعداد كبيرة مرة أخرى إلى بابل، وقد بلغوا هناك من اليأس ما أحسوا معه، بأن الظلمة قد بلغت منتهاها، وأن ليلهم الطويل لن يكون له آخر،... وقد تنبأ إرميا بأن مدة السبى ستكون سبعين عاماً، وكان على حزقيال أن يومض أمام المسبيين بالرجاء، وكان عليه أن يكشف لهم عن شعاعات من النور خلف الليل البهيم، ولعل هذا هو الذى جعلهم يذهبون إليه، كلما عانوا من التعب والمشقة واليأس، وبدا لهم كشعر أشواق لجميل الصوت يحسن العزف، " انظر حز 33: 32 "، وفى الحقيقة أن عزف الرجل لم ينقطع، وهو يرى الشاب دانيال، والثلاثة الفتية وإضرابهم، الذين وقفوا يمدون عيونهم إلى الأفق العظيم،... مؤمنين أن الشمس لابد ستعود، وأن ليلهم الطويل المرير لابد أن ينجلى،... ومع أن رؤى حزقيال بدت أساساً لرفع المسبيين فوق آلامهم ومقاساتهم،... لكنهم تحولت مع الأجيال مناراً عالياً مرفوعاً على جبل لكل عابر فى ظلمة الحياة، وها نحن نراها الآن فيما يلى: أولا: رعاية الراعى الصالح، وإذا قرأنا الأصحاح الرابع والثلاثين تبدى لنا رعاة إسرائيل القدامى - وهم الملوك الذين كانوا أشبه بالرعاة للأغنام لكن الراعى الصالح رأى بشاعة إعمالهم، إذا رعوا أنفسهم دون أن يرعوا الغنم، لقد أكلوا شحمها ولبسوا صوفها، وذبحوا السمين فيها: « المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه والضال لم تطلبوه، بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم، فتشتت بلا راع وصارت مأكلاً لجميع وحوش الحقل وتشتت. ضلت غنمى فى كل الجبال وعلى كل تل عال. وعلى كل وجه الأرض تشتت غنمى ولم يكن من يسأل أو يفتش » " حز 34: 4 - 6 ".. ليت كل مؤمن وراع يقرأ هذا الأصحاح العظيم، يرى الراعى الصالح الذى جاء إلى عالمنا حياً فى الخراف، وبذل نفسه لأجلها،... ويرى كيف يهتم هذا الراعى العظيم بخرافه إلى الحد الذى فيه يقيس حب بطرس له برعاية خرافه،... والذى يجزى كل محب، ويطرح كل أنانى وشرير يبدد هذه الخراف!!.. إن من واجبنا أن نقرأ هذا الأصحاح فى ضوء الأصحاح العاشر من إنجيل يوحنا، حيث تصلح المقارنة، ونرى الصورة وقد اكتملت بالتمام: « لذلك هكذا قال السيد الرب لهم: ها أنذا أحكم بين الشاة السمينة والشاة المهزولة، لأنكم بهزتم بالجنب والكتف ونطحتم المريضة بقرونكم حتى شتتموها إلى خارج. فأخلص غنمى فلا تكون من بعد غنيمة وأحكم بين شاة وشاة، وأقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها عبدى داود هو يرعاها وهو يكون لها راعياً »، " حز 34: 20 - 23 " « السارق لا يأتى إلا ليسرق ويذبح ويهلك. وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل. أنا هو الراعى الصالح، والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف، وأما الذى هو أجير وليس راعياً، الذى ليست الخراف له، فيرى الذئب مقبلا ويترك الخراف ويهرب. ويخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالى بالخراف، أما أنا فإنى الراعى الصالح وأعرف خاصتى وخاصتى تعرفنى " يو 10: 10 - 14 ". ثانيا: القلب الجديد والروح الجديد،... وقد كان على المسبيين أن يدركوا أن أهم ما ينشده اللّه فى الإنسان هو تغيير القلب، والقلب فى اللغة الكتابية هو مركز نشاط الإنسان كله،... هو أداة التفكير، والعاطفة، ومركز الحب، والاختبار.. « يا ابنى أعطنى قلبك ولتلاحظ عيناك طرقى » " أم 23: 26 " وهذا القلب لابد أن يتغير: « وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة فى داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحى فى داخلكم وأجعلكم تسلكون فى فرائضى وتحفظون أحكامى وتعملون بها »"حز 36: 26 و27 ".. وليس هذا - بالتأكيد - إلا ما قاله السيد المسيح لنيقوديموس: « الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله... الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللّه، المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح، لا تتعجب أنى قلت لك ينبغى أن تولدوا من فوق " يو 3: 3 - 7 " ولعلنا نلاحظ أن الصورة، كما رسمها حزقيال، وكما جاءت على لسان السيد المسيح، ليست جهداً بشرياً على الإطلاق، بل هى عطية اللّه، وهبة السماء من فوق،... وهى التغيير الذى يتم بدخول روح اللّه قلب الإنسان البشرى الخاطئ، فيغيره بالتمام!!.. ثالثاً: القيامة من الأموات، وهذا يأتى بنا إلى رؤيا العظام اليابسة، وكانت الأمة اليهودية كلها كمن دخل إلى قبر وأغلق عليه، ولم يعد هناك أدنى رجاء فى حياته وبعثه، ويبدو أن هذا الخاطر لم يسيطر على الشعب فحسب بل لعله راود النبى أيضاً،... ولأجل هذا أخذه اللّه إلى بقعة واسعة، لعلها كانت مكاناً لمعركة أو مقتلة عظيمة، ورأى هناك عظاماً كثيرة، وأكثر من ذلك، يابسة، مما يدل على أنه قد انقضى عليها وقت طويل، تحولت معه العظام إلى رميم، وسأل اللّه النبى: أتحيا هذه العظام؟.. ووقع النبى فى حرج كبير، إذ أنه حسب فهمه البشرى لا يمكن أن تقوم هذه العظام وتنهض مرة أخرى، إذا كانت مرثا قد صرخت فيما يشبه الاحتجاج » عندما قال المسيح أمام قبر لعازر.. إرفعوا الحجر، وهى تقول: « ياسيد قد أنتن لأنه له أربعة أيام »!!.. " يو 11: 39 " فكيف يمكن لحزقيال أن يرى العظام اليابسة تعود إلى الحياة مرة أخرى؟!!... على أنه إذ انتهى إلى هذا الرأى وقبله فكأنما هو يحد من قدرة اللّه وسلطانه العظيم،... ومن ثم قال: « ياسيد الرب أنت تعلم » " خر 37: 3 " وجرت القصة بأن اللّه طلب من النبى أن يتنبأ على العظام فتحيا، - ومن الغريب أن اللّه ما يزال اليوم يفعل معنا - نحن الوعاظ وخدام اللّه الأمر عينه، عندما يطلب إلينا أن نكلم الموتى بالذنوب والخطايا، ونناديهم بالحياة بقوة اللّه وأمره،... على أن اللّه يريد أن يؤكد - مع ذلك - أن الوعظ فى ذاته، لا يعطى الحياة،... وأن الواعظ المقتدر البليغ قد يبلغ وعظه الأذن، وقد يحدث فى السامعين رعشاً، وقد تقارب العظام بعضها إلى بعض، وقد تكتسى باللحم والعصب،... ولكنها مع ذلك لا تأخذ الحياة،... وما أكثر ما يحدث هذا فى الاجتماعات الكبيرة التى يتأثر فيها الحاضرون، وتأخذهم الرعشة من جراء الكلمة الإلهية،... ويصل إليهم الإحساس بصورة ما، وتبدو الأمور كما لو أننا على أبواب نهضة عظيمة!!. لكن التأثر هنا وقتى، ويظل الميت ميتاً، إلى أن يدخل روح اللّه بقوته العظيمة من الرياح الأربع: « الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتى ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح »... " يو 3: 8 " وهنا يبدو البرهان العظيم أمام حزقيال، إذ أن الموتى لم يقوموا فحسب، بل قاموا على أقدامهم جيشاً عظيماً جداً جداً!!.. وإذا كانت هذه الرؤيا عند النبى القديم تتحدث عن الحياة التى دبت فى المسبيين ليعودوا إلى وطنهم وبلادهم، فإنها تتحدث إلينا، كما قال أحدهم عن عمل اللّه فى الموتى بشتى صور حياتهم، إذ حيث يكون هناك قلب ميت، أو كنيسة ميتة، أو مدرسة أحد ميتة، أو اجتماع شباب ميت، أو قضية ميتة، أو حق ميت، فإن من واجبنا أن نتشدد ونتشجع، لأن العظام اليابسة ستتحرك. واللحم سيكسيها، والعصب سيتأتى إليها، وروح اللّه سينهضها من الموت المخيف إلى الحياة القوية.. رابعاً: العودة إلى العبادة فى هيكل اللّه: وهذا ينقلنا إلى الأصحاحات الأخيرة من سفر حزقيال (من الأربعين إلى الثامن والأربعين) ونحن نشغل هناك برؤيا الهيكل الجديد الذى يحل محل الهيكل المدمر، وقد كان على حزقيال، وقد بلغ على الأغلب منتصف السبعين عاما المحددة لعدوة المسبيين - أن يتحدث عن بناء الهيكل، وعودة العبادة فيه،... ومع أن زربابل بنى الهيكل الذى أقيمت فيه العبادة، لكن هيكل زربابل لم يكن بنفس الصورة أو المقاييس، بل إن هيكل زربابل لم يكن شيئاً إلى جانب هيكل سليمان القديم،.... وقد دفع هذا الشراح إلى أن يروا فى رؤيا حزقيال شيئاً أعظم من هيكل سليمان، وهيكل زربابل، فاليهود إلى اليوم، يحلمون ببناء الهيكل على الصورة التى رآها حزقيال، والذين يأخذون بنظرية المجئ الثانى قبل الألف سنة. يتصورون الأمر كذلك،... وإن كنا من جانبنا لا نأخذ بها الرأى، بل نعتقد أن مجد هذا الهيكل العظيم يتحقق فى كنيسة المسيح التى خرجت عن الحدود اليهودية، وانطلقت فى آفاق الأرض، وقد اتسعت جنباتها لتضم كل الممالك والأمم والشعوب والألسنة، ولعله من الملاحظ أن الأمة اليهودية لم تعرف فى أمجد تاريخها، الحدود المذكورة فى نبوات حزقيال واتساعها، وأنه لا يمكن أن تتحقق هذه بالمعنى الواسع العظيم، إلا فى المفهوم الروحى فى يسوع المسيح، والدليل على ذلك مستمد من نبوات حزقيال نفسها، وإلا فما معنى القول: « وداود عبدى يكون ملكاً عليهم ويكون لجميعهم راع واحد فيسلكون فى أحكامى ويحفظون فرائضى ويعلمون بها »؟.. "حز 37: 24 " ويستحيل حرفيا أن يكون داود ملكاً، إلا إذا كان المقصود هو ابن داود، ابن اللّه الرب يسوع المسيح!!.. خامسا: مياه نهر الحياة: والذى يؤكد هذا المعنى هو رؤيا حزقيال للحياة الخارجة نحو المشرق من تحت عتبة الهيكل، والمياه تزداد عمقاً كل ألف ذراع، فهى فى أول الأمر مياه إلى الكعبين، ثم إلى الركبتين، ثم إلى الحقوين، ثم إلى نهر سباحة طام لا يمكن عبوره، على ما جاء فى الأصحاح السابع والأربعين،... ومن الملاحظ بادئ ذى بدء أن المياه تخرج من تحت عتبة المقدس، أو فى لغة أخرى من المكان الذى يرمز إلى حضور اللّه،... المياه التى وصفها إشعياء « مياه شيلوه الجارية » " إش 8: 6 " أو هى خير اللّه وإحسانه وبركاته على ما جاء فى وصف إرميا بالقول: « الرب ينبوع المياه الحية » " إر 17: 13 " وإذا كانت هذه المياه قد بدأت هادئة متدرجة فإنها لم تلبث أن تحولت بعد ستة قرون - كما قال أحد المفسرين - إلى نهر المسيحية الذى لا يعبر، فى خلاص المسيح للجنس البشرى بفعل الروح القدس الفعال والعظيم،!!.. وقد كان على النهر أن يمر فى البرية حتى يبلغ البحر الميت،... وقد كان اليهود فى ذلك الوقت، أشبه بالبرية، والبحر الميت، وكل إنسان أو أمة يبتعد عن السيد المسيح ليس إلا ميتاً حتى يأتى نهر الحياة بالشفاء والإثمار!!.. وحقاً قال السيد المبارك: « أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل » " يو 10: 10".. فإذا كانت الرؤيا قد تحققت جزئياً ومبدئياً فى عودة اليهود من السبى، وبعث الحياة فيهم - فإنها قد تحققت فى المعنى الأعمق والأكمل فى موكب الجنس البشرى، وهو يأخذ طريقه فى المسيح، حتى نصل إلى الشاطئ الأبدى.. « وأرانى نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور خارجاً من عرش اللّه والخروف فى وسط سوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتى عشرة ثمرة وتعطى كل شهر ثمرها. وورق الشجرة لشفاء الأمم. ولا تكون لعنة ما فى ما بعد. وعرش اللّه والخروف يكون فيها وعبيده يخدمونه. وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم. ولا يكون ليل هناك ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس لأن الرب الإله ينير عليهم وهم سيملكون إلى أبد الآبدين ».." رؤ 22: 1 - 5 ".ونحن نذكر حزقيال فى المنظر الأول عند نهر خابور، وهو يقول: « فجئت إلى المسبيين عند تل أبيب الساكنين عند نهر خابور، وحيث سكنوا هناك سكنت » " خر 3: 15 "- لعلنا نذكر منظراً أعظم وأبهى وأجل بما لا يقاس، إذ نذكر ذاك الذى جاء إلينا فى الجسد نحن المسبين بسبى أقسى وأشد، وحيث سكنا، هناك سكن، حتى صعد إلى هضبة الجلجثة ليموت على خشبة الصليب، ويحررنا من استعباد أقسى وأمر من استعباد بابل، لنهتف أمام عرشه العظيم فى صيحة النصر: « سقطت سقطت بابل العظيمة ».. " رؤ 18: 2 ".. « أفرحى لها أيتها السماء والرسل القديسون والأنبياء لأن الرب قد دانها دينونتكم » " رؤ 18: 02 "... آمين فآمين..
المزيد
21 أكتوبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس حزقيا

حزقيا " والتصق بالرب ولم يحد عنه "2مل 18: 6 مقدمة يتفق الكثيرون " مع فيكتور هوجو " على أن نابليون خسر معركة ووترلو لا لشىء إلا لأن اللّه كان ضده،.. كما يؤكد آخرون أن انسحاب الإنجليز من " دنكرك " فى الحرب العالمية الثانية قد تم بمعجزة إلهية، ولو أن هتلر هاجم انجلترا فى ذلك الوقت - ولم يتحول إلى روسيا - لكسب الحرب، ولكن القدير كان قد رتب له الهزيمة فانهزم،.. وعندما دخل ماك آرثر معاركه الضارية مع اليابان، بعد تدمير الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربر، لم يستند قط إلى قوة أمريكا العسكرية، أو عبقريته كرجل من رجال الحرب العظام، بل كان سنده الأعظم الالتجاء إلى القدير، وقبيل خوض المعركة أرسل إلى راعى كنيسته يقول له: ها أنا أواجه معركة قاسية مجهولة فأرجو أن تركع أمام اللّه وتصلى من أجلى فى نفس المكان الذى ركعت أنا فيه عندما انضممت إلى عضوية الكنيسة، وحيث تعودت المثول فى حضرة الله هناك، ونجح ماك آرثر مستنداً إلى ذراع القدير!!... كان الملك القديم حزقيا واسمه يعنى " الرب يقوى " قد وضع شعاراً عميقاً بسيطاً له، هو أعظم شعار يمكن أن يضعه إنسان أمامه فى الأرض: الالتصاق بالرب... وهو شعار مثير فى بساطته، وقوته، فالالتصاق شئ يمكن أن يفعله الطفل الصغير وهو يلتصق بأمه أو يمسك بأبيه، وهو فى قوته الشئ الوحيد الذى به يواجه الإنسان الأمور فى كل أوضاعها المختلفة فى الأرض،... وهو أقصرالطرق وأضمنها إلى النجاح والفلاح.وها نحن لذلك نتابع قصة الملك القديم فيما يلى:- حزقيا والظروف السيئة التى أحاطت به:- لم تكن الطريق أمام حزقيا سهلة هينة ميسورة، بل إن هذا الرجل القديم تفتحت عيناه على الخرائب والأطلال من كل جانب فى الداخل أو الخارج على حد سواء،... كان أبوه آحاز الملك الذى حكم يهوذا لمدة عشرين عاماً، وكانت من أسوأ السنين التى عرفتها البلاد،... فقد أغرقها فى الشر والوثنية، إذ نبذ عبادة الله، وأغلق الهيكل بعد أن دنسه ونجسه، وعبر ابنه فى النار، وعبد الآلهة الوثنية بكل ما اشتملت عليه عبادتها من شر وشهوانية وقسوة، ومن ثم توالت عليه، وعلى شعب يهوذا، الفواجع والكوارث، إذ هاجمه الأراميون والإسرائيليون وعاثوا فى الأرض فسادا، وقتلوا وذبحوا العشرات من الألوف، وسبو لأنفلسهم سبايا لا تحصى ولا تعد،... ومع ذلك فقد أبى أن يستعين عليهم بالرب، بل استعان بملك آشور، فلم يعنه الملك الذي بعد أن قضى على أضداده، تحول إليه، ونكل به وبشعبه تنكيلا قاسياً بعد أن استولى على الكثير من كنوز بيت الرب والملك والرؤساء!!.إن قصة حزقيا تصلح أن تكون تعزية وتشجيعاً لأولئك الذين تتفتح عيونهم على الحرب والأنقاض، حيث أفسد آباؤهم كل شئ وتركوا لهم تركة مثقلة قاسية ومع أنهم ليسوا مسئولين عما فعله الآباء، لكنهم يستطيعون - بالاستناد إلى اللّه - السير فى أرض الخراب وإعادتها إلى المجد السابق، إن كان لها مجد قديم، أو ربما إلى ما هو أفضل من الماضى المجيد، حتى ثبت إيمانهم فى الله، واعتمادهم عليه!! حزقيا والإصلاح العظيم الذى قام به:- ويعتبر حزقيا واحداً من أعظم المصلحين الدينيين فى التاريخ، وكل إصلاح فى العادة يبدأ بظهور رجل من أبطال اللّه يقود حركة الإصلاح، أو كما قال أحدهم: " إن النهضة التى حدثت فى قرية سامرية - كما جاء فى إنجيل يوحنا - بدأت بامرأة تشهد عن يسوع وما فعل معها، ونهضة يوم الخمسين ظهرت بقيادة بطرس بقوة الروح القدس، والنهضات التى حدثت فى آسيا الصغرى وشمال اليونان فى القرن الأول، كانت ثمرة وعظ الرسول بولس، وقد ألهب سافونا رولا فلورنسا، وأيقظ لوثر أوربا، وقامت نهضة الوسليين وهو ايتفيلد، لتحول الحياة الدينية والأدبية فى إنجلترا تحويلا كاملا، وقام فنى بنهضته العظيمة فى منتصف القرن التاسع عشر، وأشعل مودى النهضة فى الجزر البريطانية وأمريكا فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر!!.. وفى الحقيقة أن النهضات لا تبدأ عشوائية، بل يلزم أن يكون وراءها رجل، ورجل للّه!!.. وهذا الرجل يلزم، ودائماً، أن يكون خاضعاً بالتمام للروح القدس، ومحفوظاً فى النقاوة بسكنى الروح القدس، وممتلئاً بالعاطفة الملتهبة لخلاص النفوس، وفاهما بالتمام لمشيئة اللّه، وممسوحاً بمسحة القوة، حتى ولو بدا وعظه وتعليمه بسيطين، فإن الجماهير الغفيرة تقبل تحت الإحساس بذنبها، إلى الاعتراف بالرب مخلصها.وفى النهضة التى نشير إليها نجد رجلا استخدمه اللّه ليغير الحياة الدينية لأمته تغييراً كاملاً، ولم يكن هذا الرجل إلا حزقيا، الملك الذى يقف على رأس أمة ممزقة تعسة ضعيفة "...! ولعلنا نستطيع إدراك قلب الرجل الملتهب متى تبينا أنه لم يضع دقيقة واحدة فى القيام بحركة الإصلاح، إذ بدأه فى السنة الأولى لتولى العرش، وكان فى أوج القوة والشباب، فى الخامسة والعشرين من عمره،... لقد كان - كما يبدو - ضيق الصدر محزون النفس بما يفعل أبوه من شرور وآثام، ويبدو أن أمه" أبى بنت زكريا " هى التى كانت تغذى فيه هذا الضيق على الدوام كما يبدو أن إشعياء كان له أيضاً دخل فى الأمر، ولعل الأحوال السيئة التى باتت عليها المملكة جعلته يؤمن إيماناً سديداً بأن الكوارث التى حاقت بها، لم تأت إلا لابتعاد الشعب عن اللّه. وتستطيع أن تدرك هذا بوضوح من حديثه النبيل العظيم مع الكهنة واللاويين إذ يقول: " لأن آباءنا خانوا وعملوا الشر فى عينى الرب إلهنا وتركوه، وحولوا وجوههم عن مسكن الرب وأعطوا قفا... فكان غضب الرب على يهوذا وإسرائيل.. "إن اللّه دائماً فى حاجة إلى رجل ليصنع به الإصلاح العظيم،... ولقد أشرنا إلى يوحنا وسلى عندما انحطت انجلترا فى القرن الثامن عشر إلى أحط الدركات الخلقية، إذ كانوا - كما يقولون - يجدون حانة للخمور مقابل أربعة بيوت للسكن، وانتشرت الدعارة وتزايدت الجرائم، إلى أن أنهض اللّه له رجلا، لم يكن صاحب عرش أو جيش أو ثروة أو سلطان، إذ كان مجرداً منها جميعاً، ولكنه كان يملك ما هو أعظم، فقد كان يوحنا وسلى " رجل الله، الرجل الذى نادى فى إنجلترا، بإنجيل المسيح، ولقد ظل وسلى يتنقل فى انجلترا من مكان إلى مكان ما بين الشوارع والأزقة والمدن والقرى والمصانع والمناجم، يعظ يومياً ما بين عظتين وخمسة عظات، فعل مالا تفعله قوات العالم مجتمعة!!. فإذا كان وسلى قد فعل كل هذا فى القرن الثامن عشر بعد الميلاد، واحتمل فى سبيل ذلك، مالا يكاد يحتمله بشر، فإن حزقيا فعل الشئ ذاته فى القرن الثامن قبل الميلاد،... لقد أدرك حزقيا قوة الكلمة الإلهية، وأرسل الوعاظ والسعاة إلى جميع إسرائيل ويهوذا، ينادون بالعودة إلى الرب، واستقبل الناس الكلمة، كما يحدث فى النهضات، ما بين ساخر وضاحك، وبين مؤمن وتائب: " فكانوا يضحكون عليهم ويهزأون بهم إلا أن قوما من أشير ومنسى وزبولون تواضعوا واتوا إلى أورشليم " " 2 أى 30: 10 و11 "وغير خاف أن العنصر الأول من عناصر الإصلاح، لابد أن يكون شيئاً سلبياً، إذ هو التطهر من كل دنس وشر، ولا يمكن لأية نهضة أن تقوم، ما لم تبدأ بالتوبة، والتائب الأول هو رجل النهضة وخادمها.ولقد دعا حزقيا الكهنة واللاويين: " وأدخل الكهنة واللاويين وجمعهم إلى الساحة الشرقية وقال لهم: اسمعوا لى أيها اللاويون. تقدسوا الآن وقدسوا بيت الرب إله آبائكم وأخرجوا النجاسة من القدس " " 2 أى 29: 4 - 5 ". وأى خادم لا يستطيع المناداة بالتطهير ما لم يكن هو قد تطهر وتقدس؟ أوكما يقول الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: " فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح " " 2 تى 2: 21 ". وإلى جانب الخادم المطهر يأتى بيت الله المطهر،... وقد أخرج حزقيا الأصنام والنجاسات من الهيكل، وطهر الأوانى المقدسة، وأعد بيت الله للعبادة الطاهره النقية وهى حقائق تشير إلى ما ينبغى أن تكون عليه الكنيسة، إذا رامت أن تغير العالم أو تصلحه وتنهضه،.. ولقد أدرك حزقيا، فى هذا كله أن الروح لابد أن يسبق الحرف، وأن العبرة - كل العبرة - ليست بمجرد الطقس فى حد ذاته، بل بماوراء الطقس من معنى ومغزى، ومن ثم نجده يتجاوز عن عمل الفصح فى وقته، إذ أن الميعاد قد فات، وهو لا يمكن أن ينتظر إلى العام التالى، لئلا تفتر المشاعر المتوثبة الملتهبة، ولا مانع عنده من أن يعمل الفصح فى الشهر التالى... إن حزقيا يدرك جيداً أن اللّه لا يخدعه الطقس الخارجى أو المظهر الشكلى دون الحقيقة الداخلية المباركة العميقة!!.. وهذا حق، وليس أدل عليه من أن قيافا صنع الفصح وأكله،.. ثم صلب يسوع المسيح وهكذا ارتكب أكبر جريمة فى التاريخ!!.. عمل حزقيا الفصح واشترك إسرائيل ويهوذا فى إقامته معا لأول مرة بعد سليمان، وإذ أهمل الشعب هذه الفريضة، نسى نظامها وشروطها، ومع ذلك صلى حزقيا إلى الله وقد هيأوا قلوبهم لها، فشفاهم الرب متجاوزاً عن نقصهم وضعفهم،... ولا يجوز لنا أن ننسى أن لب الاصلاح والنهضة عند الملك القديم، على أي حال، كان الفصح،... وهو ذات الشئ فى كل نهضة واصلاح فى العصر الحديث، لأن فصحنا المسيح قد ذبح لأجلنا،...ولا نهضة إلا بالتبشير بيسوع المسيح وإياه مصلوباً... عندما عاد " مودى " من رحلته الموفقة الأولى إلى انجلترا، وتحدثت الصحف عن نجاحه هناك، حدث أن امرأة كانت تسمعه يتكلم كثيراً عن الصليب قبل ذهابه، وإذ عاد ذهبت لتسمعه، فإذا بأول عظة يعظها أيضاً كانت عن دم المسيح، فاقتربت منه المرأه وقالت له: كم أنا آسفة يامودى إذ سمعتك اليوم تتكلم عن هذا الموضوع المخيف، لقد ظننت أنك أسقطته من وعظك، والآن أعرف أنك لا يمكن أن تكون واعظاً ناجحاً، وإذا بمودى يجيبها: يا سيدتى: إذا لم يكن المسيح قد تكلم عن هذا الموضوع، وكذلك أيضاً الرسل، بل إذا لم يكن المسيح قد وعظ به، فإنى أكون قد قرأت كتابى المقدس بكيفية خاطئة هذه السنين الطويلة، ولا أكون قد عثرت على مفتاح الكتاب... ويكون الكتاب بجملته مغلقاً أمامى، وإذا لم أعظ عن الصليب، وأهملته، فلا يكون هناك شئ بعد لأعظ عنه،... احذفى العقيدة المباركة عن الدم من الكتاب،... وإذا بكل شئ ينهار!!..نجح حزقيا وكانت عناصر نجاحه: الواعظ الطاهر، وبيت الله المقدس، وكلمة الله الحية الفعالة، ورسالة الدم االمسفوك، وهى عناصر كل نهضة عظيمة عرفها التاريخ بعد ذلك.. حزقيا والسياسة البشرية العقيمة: - ويبدو أنها حكمة الله الدائمة، أن يتركنا لنجرب جهدنا البشرى الخائب، وسياسة الذكاء أو التحالف مع الأشرار أو مهادنتهم، ومن الحق أن حزقيا لم يبدأ بالتحالف مع ملك آشور، بل هذه كانت التركة التى خلفها له أبوه، الذى كان يدفع الجزية لآشور، وعندما اعتلى حزقيا العرش ضاق بهذا الوضع فاتفق مع الفلسطينيين والفينيقيين على أن يقوم جميعهم بالعصيان الشامل العام على آشور، ووعدتهم مصر التى كانت فى ذلك الوقت دولة قوية بالمؤازرة والمعونة، وقد تحمس الشعب اليهودى تحمساً بالغاً لهذا العصيان، ولكن إشعياء لم يكن موافقاً على هذه الحركة إذا لم يكن مطمئناً إلى الاستناد إلى أية قوة غير قوة الله، ولكن الحماس الوطنى غطى فى ذلك الوقت على صوت النبِى، وقام الشعب بتحصين أورشليم حتى اضحت - كما قال أحدهم - أشبه بجبل طارق،... فى هذا الوقت كان سنحاريب مشغولا بإخضاع الممالك الشرقية، ولما تم إخضاعها تحول كالسيل الجارف ناحية الغرب، فأخضع المدن الفلسطينية، وعند عقرون التقى بجيش مصر فهزمه وأخذ يتحرك ناحية مدن يهوذا، وأخذ يخضعها الواحدة تلو الأخرى، ورأى حزقيا فشل سياسته، فأرسل يعلن استعداده للتسليم بشروط الصلح، ولندع سنحاريب نفسه يصف الموقف فيما جاء من كتاباته التى اكتشفها رجال الآثار فى أوائل هذا القرن: " أما حزقيا ملك يهوذا الذى لم يركع أمام قدمى فقد حاصرت واستوليت على 46 مدينة من مدنه القوية وقصوره ومدنه الصغيرة كما سبيت 150 و200 شخصاً من الأشخاص صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً، وحصلت على خيول وبغال وجمال وقطعان ماشية، مما لا يحصى ولا يعد، أما أورشليم عاصمته فقد بدت كالعصفور المحبوس فى قفص أمامى، وقبل سنحاريب ما قدمه حزقيا، وكان ثمناً فادحاً، جعله يقشر الذهب الذى على أبواب الهيكل ليرد الغزو، وتراجع سنحاريب، ونحن لا نعلم لماذا سمح الله بتسليم مدن يهوذا، ولكنه يبدو أنه أراد أن يلقن حزقيا الدرس الذى يحتاجه المؤمنون فى كل عصر وهو خطر التحالف مع الأشرار، أو الاتكال على الجهد البشرى الذى لا ينفع، أو الدبلوماسية التى إن نجحت فإن نجاحها على الدوام ناقص مشوه مبتور، ولا تستطيع أن تصل بالممسكين بها إلى بر الأمان والسلامة!!.. حزقيا والاتكال على الله:- ونحن هنا أمام درس من أعظم دروس التاريخ وأصدقها وأبقاها على مدى الأيام، لقد عاد حزقيا كالطفل الصغير يلوذ بأبيه ويلتصق به، ولم يصنع أكثر مما يفعله الطفل الباكى الصارخ الذى يرتمى فى حضن أبيه!!.. لقد عاد سنحاريب، بعد أن ترك أورشليم، إلى محاصرتها من جديد،.. وكان حزقيا والمدينة أشبه بالفأر فى المصيدة أو العصفور فى القفص، أو السمكة فى الشبكة،... واستلم حزقيا رسائل التهديد: " فأخذ حزقيا الرسائل من أيدى الرسل وقرأها ثم صعد إلى بيت الرب ونشرها حزقيا أمام الرب ". " 2 مل 19: 14 " وسنقرأ القصة كلها من هذه الرسائل بل سنتعلم منها جميعاً كيف نبسط فى بيت اللّه أية أوراق يمكن أن تكون فاصلة فى أعظم المآزق التى نتعرض لها فى حياتنا على هذه الأرض!!.لقد بدت أوراٍق سنحاريب المهددة لحزقيا أوراق: " شدة وتأديب وإهانة "... ولعله يقصد بالشدة أنه وصل إلى يوم من أشد الأيام وأقساها التى مرت بحياته،... وحسن جداً فى الأيام الشديدة من الحياة، أن نحمل أوراق الموت والإعدام، ونبسطها أمام اللّه، فنكشف أمام عينيه خطر الحياة أو الاضطهاد أو الرضى أو التعب أو المعاناه،... ليست كل أيامنا واحدة، أو رخاء أو هدوءً أو أمناً أو سلاماً أو راحة،... إذ سرعان ما تتغير وتتبدل الأيام، وتأتى أيام سنحاريب القاسية التى نضعها أمام اللّه،... ولم يكن الأمر فى نظر حزقيا شدة فحسب بل تأديباً أيضاً،... ولعله أدرك أن مهادنة الأشرار أو الثقة بهم أو الاطمئنان إليهم تحمل معها كل الكوارث،... لقد دفع ما يقرب من نصف مليون من الجنيهات، فى محاولة التفاهم الأولى مع سنحاريب، وقشر الذهب الذى على الهيكل، لعل هذا يرضيه،... وكانت النتيجة أنه فتح شهيته أكثر للعدوان والابتلاع، وهو يدرك الآن النتيجة الحتمية للمداورة مع الخطاة أو الاتفاق مع الأثمة. وكان الأمر الثالث عنده " الإهانة " وهى إهانة لاسم اللّه الذى جدف عليه قبل أن تكون إهانة لحزقيا والأمة كلها... لقد قرأ حزقيا أوراقاً قاسية ومذلة ومهينة!!. ذهب حزقيا بالأوراق إلى بيت اللّه، ونشرها هناك أمام اللّه، ولعلك تلاحظ كيف نشرها فى حضرة القدير،.. لقد نشرها أولا وقبل كل شئ: متضعاً، إذ مزق ثيابه وتغطى بمسح وركع فى حضرة اللّه، والنفس المتضعة تكسب كل شئ فى حضرة الله.. وعلى العكس ليس هناك شئ يمقته القدير مثل النفس المتعجرفة المتكبرة، وشتان ما بين حزقيا المتضع، وسنحاريب الذى قال له اللّه: " من عيرت وجدفت؟ وعلى من عليت صوتاً وقد رفعت إلى العلاء عينيك على قدوس إسرائيل" " 2 مل 19: 22 ".عندما أراد الرومانيون أن يصنعوا تمثالا للامبراطور قسطنطين، كانت طلبته أن يصنعوا تمثاله، وهو راكع على قدميه،... إن أى إنسان مهما قوى فى الأرض لا يزيد فى واقع الحال عن الصورة التى ذكرها إشعياء: " هل تفتخر الفأس على القاطع بها أو يتكبر المنشار على مردده، كأن القضيب يحرك رافعه، كأن العصا ترفع من ليس هو عوداً " " إش 10: 15 " ولا يجوز لإنسان ما أن يرفع عينيه تجبراً وتكبراً على اللّه... ونشر حزقيا الأوراق تائباً،... لقد ذهب إلى اللّه يعترف بحماقته فى محاولة التفاهم أو الاتفاق مع سنحاريب، أو الاتجاه إلى المصريين أو غيرهم ضده، أو كما أفصح ارميا بعد ذلك: " هكذا قال الرب: ملعون الرجل الذى يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه وعن الرب يحيد قلبه... مبارك الرجل الذى يتكل على الرب ويكون الرب متكله ".. ونشر حزقيا الأوراق مقراً بعجزه الكامل، فهو لا يأتى مستنداً إلى جيش أو قوة بشرية أو معونة تأتيه من هنا أو هناك، بل هو مثل المرأة الماخض: " لأن الأجنة قد دنت إلى المولد ولا قدرة للولادة "... وليس هناك إحساس بالعجز مثل هذا الإحساس على أنه كان عظيماً وهو يقدم الأوراق إلى شريكه الأعظم، الذى قال: " جدف على غلمان سنحاريب "... وخير لنا أن ندرك أن اللّه شريكنا فى كل شئ، وأنه من واجبنا أن نضع الأوراق بين يدى الشريك الذى معه أمرنا... فى تلك الأيام التى كثرت فيها الحروب بين أسبانيا وفرنسا، حدث ذات مرة أن الأسبان حاصروا جيشاً فرنسيا حصاراً قاسياً، وطلبوا من قائده التسليم، وإذا بالقائد يمسك ورقة ويربطها فى سهم ويقذف بالسهم، وكان على العبارة: " لا يمكن أن نسلم ومعنا ملك " ونحن نستطيع فى كل الظروف أن نؤكد للعالم أن قوتنا فى الشريك الذى لا يمكن أن يتخلى عنا!!... وآخر كل شئ أنه بسط الأوراق مصلياً، وقد صلى معه اشعياء، ولم تكن صلاته فى الواقع إلا كشفا للأمور كلها، ومع أن اللّه يعلم كل شئ،... لكنه يريدك أن تبسط المشكلة بنصها وفصها!!... ومع أن اللّه فى كل مكان، ويسمع ولو من أطراف الأرض، إلا أنه يسر كثيراً بالنفس التى تشق الطريق إليه وتركع بين يديه!!.. وإذا كان آخر ما تتجه إليه أفكار العسكريين فى حروب المستقبل استخدام الفضاء والكواكب الأخرى فى شن الهجوم على المواقع التى يريدون اكتساحها فى الأرض،... وإذا كانت هذه هى آخر أحلام عباقرة الحروب فمن اللازم أن نذكرهم أن هذا ليس بالأمر الجديد على المؤمن،... لقد طلب حزقيا نجدة من عالم آخر غير عالمنا الأرضى، فجاءته نجدة السماء من العالم غير المنظور،... وضرب ملاك اللّه فى ليلة واحدة مائة وخمسة وثمانين ألفاً من جيش سنحاريب، وإذا هم فى الصباح جثث هامدة، وإذا بالطاغية يعلم أن: " الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون "... وإننا نستطيع أن نغنى أغنية المرنم العظيم: " لولا الرب الذى كان لنا لولا الرب الذى كان لنا عندما قام الناس علينا إذا لابتلعونا أحياء، عند احتماء غضبهم علينا إذا لجرفتنا المياه، لعبر السيل على أنفسنا، إذا لعبرت على أنفسنا المياه الطامية، مبارك الرب الذى لم يسلمنا فريسة لأسنانهم، انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين، الفخ انكسر ونحن انفلتنا، عوننا باسم الرب الصانع السموات والأرض "..!!. حزقيا والمرض القاتل الذى شفى منه:- وإذ نتحول من معركة سنحاريب، إلى معركة أخرى دخلها الملك حزقيا، وهى أيضاً معركة حياة أو موت،.. بل هى - فى تتعبير أدق - معركة انتزاع الحياة من بين براثن الموت، أو معركة إلغاء حكم الإعدام، إن صح هذا التعبير،... وهى معركة تفجر عدة قضايا ما تزال تشغل الناس فى كل جيل وعصر، وتثير سيلا من الأسئلة المحيرة، والتى لابد من مناقشتها، ولعل أهمها:- أولا: قضية العمر المحدود، وقد درجنا على القول " العمر بيد اللّه "، فإذا " كانت أيامه محدودة وعدد أشهره عندك وقد عينت أجله فلا يتجاوزه " " أيوب 14: 5"، فكيف يقال إن اللّه بعد أن حكم عليه بالموت، عاد فأطال عمره خمسة عشر سنة، ومع أننا لا نستطيع أن نبلغ القصد الإلهى الأعلى، إلا أن نفس الإطالة تؤكد أن العمر محدود، وإن اللّه لا يترك حياة الإنسان تتخبط فى الأرض حتى يوقفها حادث عابر، أو حظ عاثر كما يقولون،.. فما يبدو عابراً أو مصادفة أو شيئاً غير متعمد، لو أدركنا الحقيقة لوجدناه يخضع لحكمة إلهية عظيمة، ولعل خير مثال على ذلك ما حدث مع يهوشافاط وآخاب فى راموت جلعاد: " وأمر ملك آرام رؤساء المركبات التى له الاثنين والثلاثين وقال: لا تحاربوا صغيراً ولا كبيراً إلا ملك إسرائيل وحده، فلما رأي رؤساء المركبات يهوشافاط قالوا: إنه ملك إسرائيل فمالوا عليه ليقاتلوه فصرخ يهوشافاط... وإن رجلا نزع فى قوسه غير متعمد وضرب ملك إسرائيل بين أوصال الدرع فقال لمدير مركبته: رد يدك وأخرجنى من الجيش لأنى قد جرحت " " 1 مل 22: 31 - 34 ".. لقد دافع اللّه عن يهوشافاط عندما صرخ، وأطلق اللّه السهم غير المتعمد بيد الجندى ليقضى على الرجل الذى كان لابد أن يموت فى المكان والزمان المعينين: " فمات الملك وأدخل السامرة فدفنوا الملك فى السامرة وغسلت المركبة فى بركة السامرة فلحست الكلاب دمه وغسلوا سلاحه حسب كلام الرب الذى تكلم به " " 1 مل 22: 37 و38 ".. إن الكلب الذى يقف خصيصاً للحس الدم، لا يترك مجالا لتصور الصدفة!!... والقضية الثانية التى يفجرها مرض حزقيا هى تشابك الأسباب الإلهية بالأسباب الظاهرة البشرية،.. فمن المؤكد أن مرض حزقيا كان كافياً لقتله، وكان اللّه صادقاً كل الصدق فى إبلاغه بالموت، كالقول إن المسموم الذى يسرى السم فى جسمه لابد أن ينتهى إلى الموت، وأغلب الظن أن خراجا قاتلا أرسل السم فى جسم حزقيا، غير أن المسموم يمكن أن يجد مجالا للنجاة، إذا عمل مثلا مشرط الطبيب فيه أو استخدمت وسائل ناجحة فى الوقت المعين... أو أن القضية - فى لغة أخرى - تشابك الإرادة الإلهية وحرية الإنسان،... وقد دخل على المرض القاتل أمران بشريان لو تخلف واحد منهما أو كلاهما لمات الملك بدون أدنى شك، وهذان الأمران هما: الصلاة الصارخة إلى اللّه، واستخدام الوسيلة البشرية بوضع قرص تين على الدبل فيبرأ، وكلا الأمرين جزء من قانون اللّه الذى وضعه للناس، فى قدرة الصلاة، واستخدام الوسائل البشرية من أدوية أو أطباء، أو كما قال واحد من أبرع الأطباء العالميين، وكان جراحاً إنجليزياً: " أنا أجرى العملية واللّه الذى يشفى "،... وهنا نفهم كيف يفعل اللّه كل شئ، لأنه أمر فى قضائه الأعلى أن يجتاز حزقيا أبواباً، وأمر أن تنطلق الحرية البشرية فى أوسع حدودها، فإذا بحزقيا يصرخ أمام الله، ويقبل اللّه صراخه، ودموعه،... ويقبل الوسيلة التى هى فى حد ذاتها لا شئ، ولكنها إعلان لنشاط الإنسان فى حدود طاعة اللّه، ويجوز أيضاً القول إن حزقيا ساهم فى الشفاء باستسلامه لمشيئة اللّه، فهو لا يملك إلا أن يصرخ ويصلى، وساهم أيضاً باستخدام الوسيلة البسيطة القاصرة فى حد ذاتها، واثقاً من القدرة الكامنة خلفها!! والقضية الثالثة التى يثيرها المرض المشار إليه: هو: " هل للصلاة قدرة على أن توقف الإرادة الإلهية أو تغيرها، كما يبدو من ظاهر الأمر "؟.. والحقيقة أن الصلاة لا تغير إرادة اللّه، بل بالحرى تتمها وتنفذها، أو هى الجزء الفعال الخفى فى إتمام هذه الإرادة الصحيحة، المجيدة المباركة، ولو تخلف هذا فى قصة حزقيا لكان المرض كافياً لقتله، أعلن اللّه حقيقة المرض، وترك للمريض مع ذلك استئناف الحكم الإلهى!!.. واللّه يريد فى القصة أن يفتح الباب بلا حدود أو سدود أو قيود أمام قدرة الصلاة العجيبة أمام اللّه،... لقد طلب حزقيا علامة، وكانت العلامة رجوع الظل الدرجات " التى نزل بها بدرجات آحاز عشر درجات إلى الوراء"، فرجعت الشمس عشر درجات من الدرجات التى نزلتها،... ومهما اختلف الشراح فى تفسير هذه المعجزة، وهل هى كسوف للشمس كما يعتقد البعض، أو هى رؤية صحيحة، حدثت أمام العيون للمزولة التى كان يقاس بها الزمن فى ذلك التاريخ أو هو تغيير دوران الأرض، كلها، كما حدث يوم يشوع،؟... فإنها على أى حال معجزة كبيرة بالنسبة للإنسان، وصغيرة جداً بالنسبة للقدرة الإلهية، ومهما كانت المعجزة فى نظر الإنسان، فهى لا شئ أو أقل من لا شئ، أمام اللّه جلت قدرته!!... واللّه يمكن أن يهز الكرة الأرضية كلها عند صرخة واحد من أولاده فى ضيق أو مأزق!!... وفى هذا تشجيع دائم للإنسان ليقتحم المستحيل أو الطريق المسدود،... وهى صوت يكرر أمام الموت الثابت المؤكد قول المسيح لمرثا قديماً: " ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد اللّه "؟... ما أروع وأعظم استئناف حكم الموت أمام الجلال الإلهى! حيث يصلى الإنسان صلاة حزقيا الملك، أو حيث يصرخ إيليا إلى الرب: " وقال أيها الرب إلهى: أ أيضاً إلى الأرملة التى أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها "؟! " 1 مل 17: 20 "، أو حيث تترك الشونمية ابنها مسجى فى البيت، إلى اليشع الذى يعيده مرة أخرى إلى الحياة!!.. يا أبناء اللّه فى كل جيل وعصر: ليست هناك حدود إلى الأبد أمام إيمان أصغر أبناء اللّه، فعليكم بالصلاة فى كل مشكلة ومأزق!!..وهكذا اجتاز حزقيا باب الموت، الذى دخله أمامه فى يوم وليلة مائة وخمسة وثمانون ألفاً من جنود سنحاريب ملك آشور. حزقيا وغيمة الغروب:- وجاءت الغيمة الغريبة التى طالما لفت الكثيرين من الأتقياء من ملوك يهوذا عند الغروب، ونحن ما نزال نلح فى السؤال: لماذا يصر الكتاب على ذكر هذه الغيمة التى خيمت على حياة حزقيا والتى وصفها كاتب سفر الأخبار " وهكذا فى أمر تراجم رؤساء بابل الذين أرسلوا إليه ليسألوا عن الأعجوبة التى كانت فى الأرض، تركه اللّه ليجريه ليعلم كل ما فى قلبه "2 أى 32: 31 ".. لقد جاء هؤلاء من بابل موفدين من قبل الملك لتهنئة حزقيا على شفائه، وأعجب به الظل الراجع فى المزولة!!... وأراهم حزقيا مجده وكنوزه وعظمته!!.. وعادوا إلى بابل وعيونهم مفتوحة على هذه الكنوز، حتى يأخذوها ويسلبوها فى يوم من الأيام!!... وقد أوضح الكتاب هذه الحقيقة ليؤكد أكثر من مغزى ومعنى، أولها وأهمها: أن الترك الإلهى لأقوى مؤمن فى الأرض، أشبه بالتيار الكهربائى الذى ينتهى من السلك فى نفس اللحظة التى يعزل فيها التيار عنه فنضحى فى الحال لعبة الشيطان مهما كانت قوتنا واختبارنا السابقين، ونحن، نرى هنا كيف يفشل الإنسان الذى: " تركه الرب ليجربه ليعلم كل ما فى قلبه "... كما أن الغيمة فصلت الرجل الذى أخذ بالإعجاب بنفسه بعد الأعجوبة الكبرى، ومركز القوة الذى وصل إليه،... وهى للأسف تجربة الناجحين عندما يأخذهم الشيطان بالغرور والكبرياء، وقد نسو للحظة دموع الألم والفشل والقنوط التى كانوا عليها،... لقد عاد الرجل من أبواب الموت، وهز اللّه من أجله الأرض كلها، وارجع الشمس إلى الوراء ومن مثله بين الناس؟!!.. وفى ظل الغيمة دخل الرجل فى الحماقة القاسية إذ فتح كنوزه أمام اللص الذى يسيل لعابه، وطرح القدس للكلاب، والدرر أمام الخنازير التى تدوسها بالأقدام، وترجع لتمزقه!!... مسكين حزقيا إنه واحد منا جميعاً أمام ذاك الذى " السماء ليست بطاهرة أمام عينيه وإلى ملائكته ينسب حماقة فكم بالحرى سكان بيوت من طين الذين أساسهم فى التراب ويسحقون مثل العث "!!... وهو واحد منا نحن الذين نحتاج على الدوام لحكمته وسنده وقوته وعونه ورحمته صارخين مع موسى: " إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا " ومع داود: " لا تطرحنى من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه منى "..!!... المكان أعطى السلام يقول رب الجنود »... "حجى 2: 9 ".
المزيد
14 أكتوبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس حجى

حجى " هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا فى بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب "" حج 1: 4 " مقدمة لست أعلم كم بكى حجى كلما وقعت عيناه على منظر بيت اللّه وهو أطلال دارسة!!؟.. ولست أعلم هل كان صغيراً عندما أخذ إلى السبى مع أبويه، وقضى هناك سبعين عاماً، ثم عاد ليرى صورة طوتها الأيام، صورة البيت القديم فى مجده الشامخ وصورته الآن بعد أن تحول أنقاضاً وخراباً!!؟.. إن هناك قلة من المفسرين تتجه إلى ذلك!!.. على أن البعض الآخر يصوره، على العكس، فى شرخ الشباب وقد استوى عوده، وهو يذهب ويجئ إذ ولد فى وطنه وبلده، ليرى كل صباح ومساء بيت اللّه الخرب، والذى وضع أساسه، وعجز الواضعون عن أن يتقدموا إلى البناء، وتراكمت الأحجار هنا وهناك، وعلى مقربة منها قصور مغشاة بناها الراجعون من السبى!!.. وأية مقارنة يمكن أن يتصورها العقل،.. بين إنسان يستريح فى قصره، وبيت اللّه خراب؟!!.. لم يبك حجى فحسب، بل لعله امتلأ غيظاً وسخطاً ومرارة وأسى، كيف يبنى الإنسان بيته الأرضى بكل حماس وهمة وغيرة وبذل، وهو لا يعطى بيت اللّه عشر معشار ما يفعل بمسكنه وبيته وقصره؟!! ولكنها هى مأساة الإنسان فى كل العصور، عندما يوازن بصدق وحق بين ما يفعله من أجل بيته وأسرته وأولاده،... وما يفعله، أو بالحرى، لا يفعله فى بيت اللّه!!.. إنها فاجعة تروى، وعبرة تحكى، ولعل حجى النبى ينتصب أمامنا من وراء العصور القديمة، ليحدثنا كيف يحدث هذا ونحن نتابع روايته وقصته!!.. حجى وأيامه لعلنا - وقد درسنا فيما سلف بعض شخصيات الأنبياء - أن نلاحظ أن المجموعة الأولى التى كانت أدنى إلى الامبراطورية الأشورية والتى ارتبطت نبوتها بها عن قرب أو بعد هى مجموعة يونان، ويوئيل، وعاموس، وهوشع، وإشعياء، وميخا، وناحوم أما التى ارتبطت بالعصر البابلى فتشمل: حبقوق، وصفنيا، وإرميا، ودانيال، وحزقيال، وعوبديا،.. أما المجموعة الثالثة فهى التى جاءت بعد السبى، وهى مجموعة حجى، وزكريا، وملاخى، ولا يكاد المرؤ يعلم بالتمام كم كان عمر حجى عندما تنبأ إلا أنه وقد تنبأ فى السنة الثانية لداريوس الملك، فمن المعتقد أن نبوته كانت سنة 520 ق. م. ونحن نعلم أن الغرض الأول من عودة المسبيين إلى أورشليم كان بناء الهيكل وإرجاع العبادة كما فى الأيام القديمة الخوالى، ويبدو أن المسبيين بدأوا بذلك، لكنهم أحسوا بعد قليل بضعفهم وعجزهم عن العمل. وإذا تابعنا سفر عزرا فإننا ندرك أنهم لم ينشطوا من اليوم الأول فى بناء بيت اللّه، كما كان منتظراً، بل ظلوا سبعة شهور دون أن يفعلوا شيئاً تقريباً، ثم رأوا أنه إذا لم يكن بد من البدء، فمن واجبهم - على الأقل - أن يقيموا المذبح للعبادة، وقد قاموا فعلا بذلك، ثم شرعوا فى السنة التالية فى وضع حجر الأساس لهيكل اللّه، ولكنهم بعد وضع الحجر توقفوا عن العمل، فى وجه الصعوبات الخارجية، والداخلية معاً،.. أما الصعوبات الخارجية فكانت راجعة إلى وجود الأعداء المتربصين بهم، الحريصين على مقاومة كل جهد فى بناء بيت اللّه،... أما الداخلية، فترجع لإحساسهم بقلة عددهم وعدتهم، إذ هم عدد قليل فقير متعب، ليس لهم من دفاع. إذ أن جيشهم ضعيف لا يقوى على حمايتهم، كما أنهم لا يستطيعون الصعود إلى الجبال لجلب الأرز اللازم للعمل، إذ يكبدهم هذا مشقة فوق طاقتهم، فكان أن توقفوا عن العمل، أو بالحرى، أجلوه إلى وقت آخر. وهذان الأمران على الدوام هما اللذان يعطلان بناء بيوت اللّه وإقامة العبادة فى كل عصر، إذ يحسب المؤمنون أنهم أقلية ضعيفة غير قادرة على مواجهة كافة الصعوبات المرتبطة بالعمل!!.. حجى والحاجة إلى بيت اللّه ترتبط نبوة حجى ببناء الهيكل ارتباطاً كاملا، ولا حاجة إلى القول بأن الهيكل كان أهم شئ فى حياة شعب اللّه، إذ أنه مركز تجمعهم، والتفافهم حول عقيدتهم وإيمانهم باللّه، وقد كتب توماس كارليل فى كتابة « الأبطال وعبادة البطولة » قائلا: « تعد ديانة الإنسان من كل وجه، الحقيقة الأساسية بالنسبة له، لأى إنسان أو أية أمة من الناس،... إن الشئ الذى يؤمن به الإنسان عملياً،... ويضعه فى قلبه، ويرتبط به فى هذا الوجود السرى، ويرى حياته ومصيره هناك، هذا الشئ بكل تأكيد هو أهم ما يواجهه فى الحياة. ويقرر تبعاً لذلك كل أوضاعه الأخرى... فإذا حدثتنى عنه، فإنك تحدثنى إلى أبعد الحدود، عمن هو هذا الرجل، وأى نوع من الأشياء لابد سيفعل »... ومن ثم نعلم كمسيحيين وكمؤمنين أثر الكنيسة فى حياتنا وحياة أولادنا!!... كتب دكتور ف. أ. اتكنز فى واحد من كتبه الصغيرة، يقول إنه خرج من الكنيسة فى مدينة نيويورك فى يوم أحد، وقد أخذ يتفرس فى وجوه الناس، ورأى كثيرين من الذين يسيرون فى الشوارع ولا رابط لهم بكنيسة ما، ووجوههم صلبة قاسية، وبعضهم يمتلئون بالكآبة والتعاسة البادية على مظهرهم،.. غير أنه اقترب من الكنيسة المشيخية فى الشارع الخامس، وكان المصلون خارجين منها، وإذا وجوههم تلمع بالأمل والرجاء والبهجة والانتصار، وكانت هذه هى الكنيسة التى يعظ فيها فى ذلك الوقت دكتور جويت،... ومع أن الكنائس قد لا تجد وعاظاً مقتدرين مثل هذا الواعظ المشهور، لكن كلمة اللّه نفسها لها القدرة والفاعلية، لترفع الإنسان فوق المعاناة والآلام والضيقات والشدائد!!... كان العائدون من السبى فى أمس الحاجة إلى الهيكل الذى يمكن أن يعطيهم بسمة الرجاء رغم أطلال الخراب التى وجدوها أمامهم!!.. حجى والعقبات أمام بناء بيت اللّه عاد الرعيل الأول من السبى، وكانت رغبتهم الأولى بناء بيت اللّه، ولعلهم كانوا جذوة ملتهبة من الحماس والرغبة فى أن يروا هذا البيت قائماً فى أسرع وقت، ولكن العقبة تلو العقبة ظهرت أمامهم فى الطريق، إذا بالجذوة تنطفئ، وإذا بهم ينصرفون عن العمل، وتنقضى ستة عشر عاماً بعد وضع حجر الأساس دون أن يحركوا ساكناً،... وانتهوا - كما ذكر حجى - إلى أن الوقت لم يحن لبناء هذا البيت، وربما يكون مفيداً جداً أن نقف من هذه العقبات التى تتكرر كثيراً، وبصورة مشابهة عند إقدام الكثيرين على بناء بيوت اللّه، فى العصور المختلفة من التاريخ!!.. ولعله من اللازم أول الأمر أن نخرج شخص اللّه من أن يكون عقبة فى الأمر، إذ أنه على العكس من ذلك، يرغب كل الرغبة، فى أن ننشغل جميعاً ببناء بيوته، وليس أدل على ذلك من سخطه على خراب البيت، ولعنته التى أصاب بها الناس، وتنبيهه لزربابل والشعب عن طريق النبيين: حجى وزكريا، إن الخراب فى حد ذاته قاس، وهو مناقض لمشاعر اللّه وقلبه، وهو لا يستطيع أن يبصره دون حزن وألم، وعندما خلق عالمنا لم يستطع أن يبقى على الأرض خربة وخالية، ولمسها لمسة الحياة والجمال والقوة والعمران،... فإذا كان الخراب فى ذاته مروعاً أمام اللّه، فإن خراب الخراب، إن صح التعبير، هو خراب بيوت اللّه بالذات،... وإذا كان بعض الذين عادوا من السبى، وفى ذكرياتهم القديمة - وهم شيوخ تجاوزوا السبعين عاماً - صورة بيت اللّه العظيم الذى قوضه نبوخذ نصر وأتى عليه بعد كل المجد الذى كان عليه، والجهد الخارق للعادة الذى بذله سليمان فى بنائه،.. إذا كانت هذه الصورة تحزن وتبكى إنساناً، مهما تكن رقة قلبه، فإنها فى الواقع تدمى قلب اللّه وتملؤه بالضيق والألم والحزن والمرارة،... ويكفى أن تسمع القول الإلهى: « ولماذا يقول رب الجنود. لأجل بيتى الذى هو خراب » " حجى 1: 9 ".. فإذا عن للإنسان أن يسأل بعد ذلك: ولكن إذا كانت هذه هى رغبة اللّه، وهذا قصده،... إذاً لماذا يترك هذا البيت يخرب وينجس؟ ولماذا يسمح بأن تمتد إليه معاول الهدم، على الصورة البشعة المتكررة فى التاريخ؟؟. ولماذا يسمح بأن تقوض كنائس وتخرب أو تغلق أبوابها؟!. إن الجواب الواضح لا يمكن أن نجده بعيداً عن يسوع المسيح، الذى كشف عن أمرين جوهريين أساسيين فى قلب اللّه، أولهما غيرته المطلقة على هذا البيت، الغيرة التى جعلته يضع سوطاً، ويطهر الهيكل، من الباعة، والصيارف، والرؤساء، الذين حولوا البيت إلى مغارة لصوص،... والصورة الثانية هى نبوته عن الهيكل، عندما تفاخر التلاميذ بعظمة بنائه، وأكد لهم أنه سيهدم حتى الأساس دون أن يترك حجر على حجر لا ينقض!!..، وإذا كان المسيح قد واجه خطية العالم بصليبه العظيم، فإنه لا يمكن أن تغلق كنيسة أمام عينيه دون أن يطعن مرة أخرى فى جنبه بحربة الصليب!!.. على أن المأساة تبلغ أقصاها فى الموازنة بين بيت اللّه، وبيوت الناس بين الجهد الذى يبذل فى بيت اللّه، والجهد الذى يبذل فى بيوت الناس،... والفاجعة الكبرى أن الناس على قدر ما يبذلون فى بناء بيوتهم ويزينونها بسخاء حتى تبدو تحفا رائعة،.. وعلى قدر ما يفخرون بذلك ويتباهون، فالأمر على العكس تماماً فى بيت اللّه، إذ تقبض اليد وتجد مالا يحصى ويعد من أسباب الاعتذار من المساعدة أو المساندة أو المساهمة،... إن أى بيت عادة، يكشف مظهره ومبناه عن صاحبه وساكنه، فالفقير لا يمكن أن يملك قصراً، والغنى يرفض أن يسكن فى كوخ، وأنت لست فى حاجة إلى حساب دقيق حتى تعرف ساكن البيت من مجرد نظرة إلى بيته،... وقد وضع الناس فى أيام حجى، وإلى اليوم مايزالون يضعون اللّه ونفوسهم فى الوضع العجيب الغريب،... لقد مر الشاب ذات يوم بكنيسة من الكنائس فى مدينة من المدن المصرية، وكانت أقرب إلى عشة من عشش الفراخ، وتعجب الشاب أبلغ العجب، إذ أن بعض أعضاء هذه الكنيسة كانوا من أغنياء البلاد، وكانوا يملكون القصور الشامخة، فى المدينة نفسها، وفى غيرها من المدن،... وعجب الشاب، وقد امتلا من المرارة والأسى، كيف يرضى هؤلاء أن يناموا ليلة واحدة فى بيوتهم المغشاة، وبيت اللّه خراب،... وهل يقبل هؤلاء وغيرهم أن يبدو اللّه الذى لا تسعة سماء السموات، والأرض موطئ قدميه، هل يرضوا أن يبدو السيد العظيم، كاليتيم والفقير والبائس الذى لا يملك إلا كوخاً خرباً ليسكن فيه!!؟... إن كل من يهتم ببيته، وينسى بيت اللّه، يضع اللّه فى هذا الوضع المخجل الجارح!! فإذا أخذنا الأمر من وجهة أخرى، فإنه من الصعب على الإنسان أن يواجه نفسه بهذه الحقيقة الجارحة المعراة، والضمير مهما كان من عثراته لا يمكن أن يواجه هذا المنطق دون خجل، ولابد للضمير أن يجد حلا للمشكلة، وهذا الحل الأحمق يأتى بنوع من المداورة فى التفسير، فإذا كان الإنسان يرفض أن يرى بيت اللّه خرباً أو أدنى إلى الأكواخ، وهو يرفض أن يتهم نفسه بالشح والبخل، فالأفضل أن يربط بين البناء والتأجيل، فالوقت لم يبلغ أو يأت بعد لبناء البيت،... وضع اليهود الأساس، ثم توقفوا عن العمل، وظل التوقف ستة عشر عاماً، فما العذر!!؟ ليس هناك من عذر إلا أن الوقت لم يحن، وسيأتى يوم ما، فيه لابد أن نبنى وننهض للعمل،!!... وهنا مرة أخرى تأتى الموازنة بين بيوت الناس وبيت اللّه، عندما يبنى الإنسان مسكناً أو قصراً، إنه لا يهدأ أو يستريح حتى يتممه، والأفضل أن يغشيه، ويبدع فيه بكل ما فى هندسة الديكور من فن وجمال،... وهو لا يقبل أن يرجئ اللمسات الفنية الأخيرة قبل أن يسكن فيه، بل هو حريص على السرعة والإبداع معاً،... وهو غير ضنين بكل جهد أو مال فى هذا السبيل،... أما بيت اللّه فهذا شأن آخر، وأمر آخر، وأسلوب آخر،... والتأجيل هنا مريح، ومعقول، ويهدئ النفس تماماً،... ومأساة التأجيل هنا ليست مثيرة ومزعجة فحسب، بل أكثر من ذلك تقود إلى نوع من الختل والخداع، يفقد معه الإنسان سلامة التفكير، والقياس الصحيح، إذ يصبح التأجيل الواقع الذى يألفه الناس، ولا يرون غيره،... فإذا أنت مررت بالخراب أياما وشهوراً وسنوات، وارتسم أمام عينيك، وأضحى من معالم الحياة، فإن التغيير بعد ذلك يصبح أمراً يوشك أن يكون شاذاً وغير مألوف!!.. فإذا نهض السائل يقول: « أليس من واجبنا التغيير؟ يجد الجواب السريع: لقد ورثنا الخراب عن آبائنا ونحن لا نستطيع أن نغير الواقع بين يوم وليلة،... فليبق إلى أن تأتى أيام أفضل يمكن معها عمل مثل هذا التغيير!!... وإذا كان الإنسان فى حد ذاته سخط على آبائه الذين أورثوه الخراب،... فمن الغريب أو العجيب أنه يرضى أن يورث أبناءه ذات الخراب،... وكان بالأولى أن يفعل العكس، لعله يعطيهم حياة أيسر وأسهل،... إنه يذكرنا بأحد المهاجرين، الذى عرض فى الولايات المتحدة مزرعة وبيتاً بثمن بخس، يكاد يقرب من تكاليف البيت فقط، وعندما سئل عن السبب أجاب: إن أقرب كنيسة ومدرسة أحد على بعد عشرين ميلا من المكان، وهو لا يستطيع أن يرى أولاده محرومين من بيت اللّه، ومن العبادة المسيحية!!.. والذين يهتمون بأن يبنوا بيوتاً مغشاة، كان أولى بهم أن يهتموا ببناء بيت الرب، حتى يستطيعوا أن يورثوا أولادهم أثمن ما يورث الإنسان فى الأرض،... الإيمان الذى سكن فى آبائهم وأجدادهم من قبل!!.. ومن الواضح دائماً أن الإنسان بطبعه ملول، فإذا جنح إلى التأجيل، فإنه سيجنح فى العادة إلى المزيد منه، وهذه كارثة التأجيل فى الحياة،.. فإذا أجل الإنسان الخلاص،... فيخشى أن يضيع منه، متقسياً بغرور الخطية..، وما أكثر ما خرج شاب من اجتماعات النهضة، تحت تصميم أن يودع ماضيه الآثم، وإذ يرى الشيطان منه هذا التصميم، لا يقاومه فى المبدأ، ولكن يصارعه فى التوقيت، وهنا الطامة الكبرى، والتى مثلها فيلكس الذى سمع بولس يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة، فارتعب، وخرج من الإرتعاب من باب التأجيل الموارب، وهو يقول للرسول: « أما الآن فاذهب ومتى حصلت على وقت أستدعيك »... " أع 24: 25 " ومن المؤسف أنه استحضر بولس مراراً كثيرة بعد ذلك،...... ولكن لا للتوبة، بل على أمل أن يعطيه بولس دراهم ليطلقه!!... وقد قاوم السيد المسيح التأجيل فى الخدمة، سواء فى الذى أراد أن يقوم بها بعد أن يموت أبوه ثم يدفنه، أو فى ذاك الذى طلب أن يودع الذين فى بيته!!.. وكلاهما أشبه بمن قال فى أيام حجى: « إن الوقت لم يبلغ لبناء بيت الرب » "حجى 1: 2 ". وقد صح اللّه هذا الوضع الخاطئ بمعاودة التأمل فى التأجيل، إذ طلب من الشعب: « اجعلوا قلبكم على طرقكم » " حجى 1: 5 " أى أن يفكروا بعمق أكثر، واهتمام أعمق، فى الطريق التى يسلكونها،... كما طلب المسيح من تلميذيه المشار إليهما أن يتجنبا التأجيل، تاركاً للموتى روحيا أن يدفنوا موتاهم، أو محدثاً عن الخطر الذى يلحق بمن يضع يده على المحراث ثم ينظر إلى الوراء!!.. وثمة أمر آخر ينبغى إدراكه، أن اللّه - وإن كان هو القادر على كل شئ ويمكن أن يقيم من الحجارة أعظم مبنى رآه الإنسان ليكون بيت عبادة له - إلا أن سياسته الدائمة أن يبنى عمله بسواعد الإنسان وشركته، وهو يذكرنا بما حدث فى الحرب العالمية الثانية، إذ دمرت القنابل كنيسة ألمانية، أعادها الألمان بعد الحرب، ولم يتغير فيها سوى تمثال للمسيح قطعت ذراعاه، وعندما أراد البعض أن يضعوا الذراعين، رفض الآخرون، إذ قالوا: إن ذراع المسيح فى الأرض هى تلاميذه وأتباعه وخدامه بين الناس،... ولو وعى الشعب أيام حجى هذه الحقيقة لأدركوا أنهم أمام أعظم امتياز، وأرهب مسئولية،... وأن اللّه أعطى سليمان امتيازه العظيم ببناء الهيكل، وأعطى جستنينان الأمبراطور امتيازاً، وأعطى المهندس وليم ويكهام، وهو يبنى كنيسة من أعظم الكنائس الإنجليزية، أن يكتب على النافذة: « هذا العمل صنع وليم ويكهام »... ولما سأله ادوارد السابع ملك إنجلترا متعجباً: ماذا يقصد بذلك، أجاب: « إن بناء الكنيسة قد منحه شرفاً ومجداً وإمتيازاً، فهو لم يبن الكنيسة، لكن الكنيسة هى التى بنته »... واللّه على الدوام يتحدى تلاميذه وأتباعه، إذ يضع الإمتياز مع المسئولية جنباً إلى جنب، فإذا أمسك بهما الإنسان كان أسعد ما يكون، إذا لم يتنبه إليهما يسمع الصوت « لأجل بيتى الذى هو خراب وأنتم راكضون كل إنسان إلى بيته ».. " حجى 1: 9 ".وهناك الحقيقة التى تتبع هذا، أن الإنسان لابد أن يركض، ولا يمكن أن يعيش فى فراغ،... ولعل هذا ما قصده اللّه بالقول: « وأنتم راكضون » فإذا كانت الأيام تدور، وهو يركض مع الزمن، ولا يمكن أن يعود إلى الوراء، فإنه من جانب الحياة والعمل، سيركض أيضاً..، وهو إذاً لم يركض فى خدمة بيت اللّه، فإنه سيركض ويملأ الفراغ فى بيته وشهواته وأعماله،... « أليس جهاد للانسان على الأرض وكأيام الأجير أيامه »؟.. " أيوب 7: 1 " والأمر كله يتوقف على القبلة التى يركض إليها، ومن المؤسف أن الشعب أيام حجى، عندما تركوا بيت اللّه بعد أن وضعوا الأساس، حملوا أدواتهم معهم، أدوات البناء، ليبنى كل واحد بيته، ومسكنه، ودائرته الخاصة،.. ومن العجيب أن جميع الاعتذارات التى منعتهم من بناء بيت اللّه، تلاشت، وذهبت كالبخار ههنا،.. كانوا فقراء عن الانفاق، وقد عادوا من السبى، وكان عذرهم الحاجة وضيق ذات اليد،... لكن هذا العذر لم يظهر وهم يبنون بيوتهم على الشكل الفخم، والصورة الجميلة،... كانوا خائفين متعبين منهوكى القوى، لعل غيرهم يأخذ مكانهم فى بناء بيت اللّه،... أما فى بناء بيوتهم، فهم لا يعرفون الراحة أو الهدوء، حتى يخرج كل شئ على الوجه الأجمل والأكمل!!.. والحقيقة الأخيرة فى العقبات، والتى يصح أن تذكر، هى أن عمل اللّه لا يمكن أن يكون سهلا أو فسحة أو نزهة، إنه دائماً عمل شاق ممتلئ بالصعاب والمتاعب والعقبات، ولعل مجده الصحيح فى صعوبته وقسوته،... إن قلب المسيحية العظيم صليب حمله سيدها، ودعا إليه أتباعه على الدوام: « إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعنى » " لو 9: 23 " إن مجد الحياة فى صعابها المقهورة وفى مشاقها التى ينبغى التغلب عليها، إن المسيح لم يدع أتباعه ليعيشوا أطفالا، بل ليضحوا أبطالا،... وهو لم يدعهم إلى نزهة خلوية، بل إلى معركة دامية!!.. وهو يقول هنا لبناة بيت اللّه: « اصعدوا إلى الجبل وأتوا بخشب وابنوا البيت فأرضى عليه وأتمجد قال الرب ». "حجى 1: 8 " إنها معركة الصعود إلى الجبال، وقطع الأخشاب هناك، وحملها، مهما يكلف ذلك من مشقة أو عرق أو دموع،... وهو عمل اللّه الذى يدعو إليه من ينبغى أن يكافحوا ويبذلوا: « فاشترك أنت فى احتمال المشقات كجندى صالح ليسوع المسيح ». " 2 تى 2: 3 " أجل!! وليس فى المسيحية أو فى عمل اللّه إكليل دون جهاد أو صليب!!.. حجى والعودة إلى بناء بيت اللّه تنبأ حجى النبى، وسمع الناس نبوته، وكان الأثر الواضح ثلاثياً على الأقل. أولا: الخوف: « وخاف الشعب أمام وجه الرب » " حجى 1: 12 " ونحن نعجب أن يرتبط بناء بيت اللّه بالخوف،... ولكن الحقيقة أن الشعب أدرك سراً كان خافياً عليه، أو لم يكن واضحاً له كل الوضوح لقد تلاحقت الكوارث الطبيعية أمامه، إذ جف الزرع، وذهب الضرع، وضاعت المحاصيل: « زرعتم كثيراً ودخلتم قليلا. تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تتدفأون. والآخذ أجرة يأخذ أجرة لكيس منقوب »... "حجى 1: 6 " « انتظرتم كثيراً وإذا هو قليل ولما أدخلتموه البيت نفخت عليه... لذلك منعت السموات من فوقكم الندى ومنعت الأرض غلتها، ودعوت بالحر على الأرض وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت وعلى ما تنبته الأرض وعلى الناس وعلى البهائم وعلى كل أتعاب اليدين ».. "حجى 1: 9 -11 "« مذ تلك الأيام كان أحدكم يأتى إلى عرمة عشرين فكانت عشرة. أتى إلى حوض المعصرة ليغرف خمسين قورة كانت عشرين. قد ضربتكم باللفح - وباليرقان وبالبرد فى كل عمل أيديكم وما رجعتم إلى يقول الرب » "حجى 2: 16 و17 " وما من شك أن الشعب كان حائراً لا يدرى سر هذه النكبات الملاحقة،حتى وضع آخر الأمر إصبعه على السر،... لقد كانت جميعها عقاباً من اللّه لانصراف الناس عن بناء بيته، وهم فى سبيل بيوتهم وحياتهم الخاصة الممتلئة بالأنانية،... ولعلنا نلاحظ هنا وضعاً معكوساً، إذ كان الناس يحتجون، بأنهم لا يستطيعون بناء بيت اللّه، لأنهم فقراء لا يملكون شيئاً، ومحاصيلهم ضائعة، وثروتهم لا تمكنهم على الإطلاق من البذل فى سبيل البناء كانوا، فى لغة أخرى، يرون النتيجة سبباً، ورأى اللّه العكس، إذ أنها لعنة اللّه عليهم، وهم منصرفون إلى بيوتهم، دون بيت اللّه أو مجده، لقد طلب إيليا من أرملة صرفة صيداء، وهى تقش عيدانها لتأكل لقمتها الأخيرة مع ابنها، طلب منها كعكة صغيرة، ولكن ينبغى أن تكون له أولا!!.. ومهما يكن من ضيق ذات اليد، فإنه لا يجوز أن نبدأ العمل بعد أن تتحسن الأحوال، وتكثر الثروة، ويتسع الغنى،... إن اللّّه يهتم بفلسى الأرملة، قبل أن يهتم بأنهار الأموال التى تأتى إلى هيكله!!.. فإذا تقاعس المرء عن خدمة اللّه وهو فقير، فإن الفقر لن ينتهى، بل يتزايد ويصبح لعنة تلاحق صاحبها أينماذهب!!... ولعلنا نلاحظ فى أقوال حجى لا الفقر فحسب، بل تتابعه وتزايده، فالمحصول عندما يذهب إلى البيت يتناقص هناك، وعندما يتحول نقوداً فى الجيب، نجد أن الجيب نفسه منقوب، تضيع من ثقوبه البقية الباقية،... وقد ازدادت الرهبة عند الشعب، لا التى يمكن أن تصيبه، بل للبركة التى - على العكس - تضيع منه، فإن السخاء فى خدمة اللّه وبيته مصحوب دائماً بالبركة: « فمن هذا اليوم أبارك». "حجى 2: 19"... إن ما نضعه فى بناء الكنائس سيكون دائماً مصحوباً بفيض البركات الإلهية!!.. وهى حقيقة مؤكدة، إن ما تبقى عليه يضيع، وما نبذله يتحول كالبذار التى توضع فى الأرض ليتضاعف نتاجها وثمرها، وعندما أدرك الشعب هذه الحقيقة خاف أمام الرب، وأدرك تقصيره الشنيع... ثانيا: السبب الثانى لعودة الشعب إلى العمل، هو ذاك التحريك الداخلى لروح اللّّه فى زربابل وفيهم، « ونبه الرب روح زربابل بن شألتئيل وإلى يهوذا وروح يهوشع بن يهوصادق الكاهن العظيم وروح كل بقية الشعب ». "حجى 1: 14 " لقد ملأهم روح اللّه جميعاً بالإحساس بالتقصير والمهانة والحاجة إلى الحركة التى لابد أن تقوم بينهم للبناء،... هذا الوازع الداخلى الذى سيطر عليهم جميعاً، أعادهم إلى الحركة والعمل،... ونحن لا يمكن أن نعمل أو ننجح دون سيطرة روح اللّه علينا، وتحريك عواطفنا ومشاعرنا الداخلية، وتوجيهنا إلى العمل بثبات وهمة!! ثالثا: على أن السبب الثالث والأهم،... هو وعد اللّه بمعونتهم ومساندتهم فالآن تشدد يازربابل يقول الرب وتشدد يايهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم وتشددوا ياجميع شعب الأرض يقول الرب وأعملوا، فإنى معكم يقول رب الجنود » "حجى 2: 4 " قال أحدهم: « إقذف بى فى أى معركة، ولكن أعطنى أولأ يقين النصر، وأنا لا أتردد »... وها نحن نرى اللّه يؤكد هذا اليقين للجميع، وأنه مهما كانت العقبات التى تواجههم، فإن اللّه أقوى وأعظم وأقدر على كل مشكلة وصعوبة!!! حجى ومجد بيت اللّه كان الشعب محتاجاً إلى كلمة أخرى، إذ أنه مهما كان قوياً أو متشدداً أو صبوراً على العمل، فإنه لا يمكن أن يقيم بيتاً كالبيت القديم، الذى شاده سليمان بعد أن وفر له داود ما استطاع أن يوفر، وبعد أن بذل فيه سليمان - والمملكة فى أوج مجدها وغناها - وما بذل،... ولعل الخيال لعب دوره فى هذا المجال، خاصة وأن الشعب لم يعد له ملك، بل أضحى له وال هو زربابل، والأمة بعد السبى لاتزيد عن ولاية من الولايات التى يحكمها الفرس وهى مهما أعطى داريوس، فإنه لا يمكن أن يعطى شيئاً يقابل ما كان يملك سليمان فى مجده العظيم،.... لكن اللّه - مع هذا كله - يتحدث قائلا: «وأزلزل كل الأمم، ويأتى مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً قال رب الجنود. لى الفضة ولى الذهب يقول رب الجنود. مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول "حجى 2: 7 - 9 ". فكيف يمكن أن يكون هذا؟... إنه هيهات أن يكون دون أن تزلزل أوضاع كثيرة، ويتغير كل شئ على وجه الأرض،... وقد حدث هذا فى يسوع المسيح، وبه،... كان من المستحيل أن يكون البيت الذى بناه زربابل، بيتاً أعلى وأسمى أجمل، من البيت القديم، الذى بناه سليمان، وكان من المستحيل أيضاً أن زربابل الراجع من السبى، يمكن أن يكون الخاتم الذى يرمز إلى القوة والسلطة والمجد، فى بيت داود،... كان الأمر أبعد وأعمق وأشمل وأكمل،.... ولم يكن زربابل القديم إلا رمزاً له، والبيت المتواضع القديم أيضاً لم يكن إلا صورة باهتة له!!... كان « زربابل » الحقيقى هو الرب يسوع المسيح،... وكان البيت القديم إشارة إلى كنيسة المسيح التى ستملأ الأرض كلها،... وتحول الأمر من اليهود إلى الأمم عندما جاء المسيح » مشتهى كل الأمم » ليبنى بيته وكنيسته فى الأرض!!... ولم تعد العبادة التى جاء بها المسيح عبادة طقسية: « هكذا قال رب الجنود اسأل الكهنة عن الشريعة قائلا: إن حمل إنسان لحماً مقدساً فى طرف ثوبه ومس بطرفه خبزاً أو طبيخاً أو خمراً أو زيتاً أو طعاماً ما، فهل يتقدس؟ فأجاب الكهنة وقالوا لا، فقال حجى إن كان المنجس بميت يمس شيئاً من هذه فهل يتنجس فأجاب الكهنة وقالوا يتنجس. فأجاب حجى وقال هكذا هذا الشعب وهكذا هذه الأمة قدامى يقول الرب وهكذا كل عمل أيديهم وما يقربونه هناك هو نجس »... "حجى 2: 11 - 14 " لأن الأمة لم تصل فى روحها إلى ما وراء الطقوس والفرائض، سلباً وإيجاباً، بل هى تقف عند المنجس أو غير المنجس، دون أن تبلغ اللباب الذى تحدث عنه المسيح، عندما سألته السامرية السؤال الطقسى أو الفرضى: « آباؤنا سجدوا فى هذا الجبل وأنتم تقولون إن فى أورشليم الموضع الذى ينبغى أن يسجد فيه، قال لها يسوع يا امرأة صدقينى أنه تأتى ساعة لا فى هذا الجبل ولا فى أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تتعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. اللّه روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا » " يو 4: 20 - 24 " وهذا هو التفسير الصحيح لأقوال حجى، وقد جاءت ساعته، فحل يسوع المسيح محل زربابل، وحلت الكنيسة محل الهيكل... وحلت العبادة الروحية بالروح والحق محل المنجس أو المقدس على أوضاع الشريعة القديمة،... وهى ذات الرؤيا التى أبصرها بطرس فى الملاءة العظيمة المربوطة بأربعة أطراف والمدلاة على الأرض، والتى طلب فيها اللّه منه أن يذبح ويأكل، وإذا هو يصيح: « كلا يارب لأنىلم آكل قط شيئاً دنساً أو نجساً، وإذا بالصوت يصير إليه ثانياً: « ما طهره اللّه لا تدنسه أنت »!!.. " أع 10: 14 و15 "وإذا هو على باب كرنيليوس، بل على باب الأمم العظيم المفتوح لهم بنعمة يسوع المسيح!!.. أجل لقد هدم نبوخذ نصر هيكل سليمان، وهدم تيطس الرومانى الهيكل الذى بناه هيرودس فى ست وأربعين سنة، وتبعثر اليهود فى كل أركان الأرض، ونهضت كنيسة المسيح التى لا تقهر، ومجدها يملأ كل الأرض،... وستبقى حتى تعود له كنيسة مجيدة لا دنس فيها أو غضن، أو شئ من ذلك عندما تنزل من السماء، عروساً مزينة لرجلها: « مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود، وفى هذا المكان أعطى السلام يقول رب الجنود »... "حجى 2: 9 ".
المزيد
07 أكتوبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس حبقوق

حبقوق والبار بإيمانه يحيا "" حب 2: 4 " مقدمة كان دانيال وبستر، يتحدث فى أحد الأيام إلى عدد من الفنانين المشهورين حول بعض المناظر والرسوم المسرحية، قال لهم: إنه يدهشنى أن واحداً من الفنانين لم يحاول أن يرسم منظراً لقطعة لا نظير لها فى أجمل قطع الآداب الإنسانية، فسألوه: وما هى؟ فأجاب: صورة حبقوق النبى وهو جالس فى وسط الخراب يغنى رغم كل شئ أغنية الإيمان المبتهج الفرح.ومن الواضح أن حبقوق ارتفع إلى ذروة الإيمان، بعد المناقشة المحاجية والمجادلة والصلاة، والوقوف على المرصد، والانتصاب على الحصن،.. أو فى عبارة أخرى أن إيمانه لم يكن اعتباطاً، أو اندفاعاً بدون تأمل أو عقل، بل كان على العكس بعد التفكير العميق والتأمل النفاذ، فهو إيمان فيلسوف طرح القضية بعمق ليخرج بالنتيجة الرائعة، أن الإيمان ليس مضاداً للعقل أو رافضاً لنشاطه وقوته، بل هو الإيمان الذى يأخذ العقل معه، ويحلق به فى جو الحياة، وسماء الوجود، مرتفعاً على أجنحة الإيمان،... وهو الذى علم فى عبارة من أعظم عبارات الكتاب المقدس، كيف يمكن للإنسان أن يعيش أسمى حياة، وأروع حياة وأعظم حياة، وذلك بالإيمان وحده،... فالبار بإيمانه يحيا، من هو هذا الرجل الفيلسوف، والذى رفض أن يحكمه العقل وحده أو يتحكم فيه، فسار حاملاً عقله فى درب الإيمان العظيم!.. إن هذا ما نريد أن نضعه أمامنا،... نحن ندرس هذا الرجل بين الشخصيات المختلفة المتعددة فى الكتاب المقدس، ولعلنا نراه بعد ذلك فيما يلى: حبقوق ومن هو!!؟ لا نكاد نعرف عن حبقوق شيئاً خارج السفر الذى يحمل اسمه، كما لا نعلم - على وجه التحقيق - هل اسمه اسم علم غير مشتق أم مجرد كناية ورمز؟، يقول البعض إن اسمه مأخوذ من أصل أشورى: « حمبقاقى » وهى فصيلة من نبات الحدائق، ويعتقد آخرون أنه من « حبق » العبرية التى تعنى « يشبك اليدين » أو « يحتضن » وكاسم علم إما تدل على إنسان يحتضن آخر أو يحتضنه آخر، وقبل لوثر المعنى الأول فقال: « إن حبقوق يعنى المحتضن، أو الإنسان الذى يحتضن آخر، أو يضمه بين ذراعيه.. وقد سار فى تفسيره على هذا القياس فقال: « إن حبقوق يحتضن شعبه ويضمه بين ذراعيه... فهو يعزيهم وينهضهم كإنسان يحتضن شخصاً أو طفلا باكياً مؤكداً له أن الأمور، بإذن اللّه، ستصير إلى أحسن.. » أما عن مولده وتاريخه، فلا نكاد نعلم شيئاً، ظن البعض نسبة إلى ما جاء فى ختام الأصحاح لرئيس المغنين على آلاتى ذوات الأوتار،... أن عمله كان فى فرق المغنين فى الهيكل، وبذا يكون من سبط لاوى، وإذا فمثله مثل إرميا وحزقيال اللذين وصلا إلى مصاف الأنبياء من بين اللاويين، وقد وجد فى قصة قديمة فى إحدى المخطوطات تأييد لذلك، بينما ظن آخرون أنه من سبط يهوذا، وقال غيرهم إن هناك تقليداً يرجع بنسبه إلى سبط شمعون، وأنه ولد فى بيت زوخار، وهى قرية صغيرة شمال لدة، وأنه حين أتى نبوخذ نصر إلى أورشليم ترك بلاده إلى استراقين غرب العريش بستة وعشرين ميلاً، وأنه رجع إلى بلاده بعد السبى بعامين، وأنه دفن قرب جبعة،، وعرف قبره فى زمن يوسابيوس وجيروم، ولا يفوتنا أن نذكر أن هناك تقليداً غريباً ينسب إلى بعض الربيين أنه ابن المرأة الشونمية الذى أعطى لها بمعجزة وأقامه أليشع.. ولكن الحقائق الثابتة المعروفة ضد ذلك تماماً،... وقد كان حبقوق كاتباً أخاذ الأسلوب رائع التعبير، وقد قال عنه أحدهم: أنه يشابه إشعياء فى سموه، وإرميا فى عواطفه، وداود فى طاعته، وبولس فى ثقته، كما أن وصفه لعظمة اللّه فى الأصحاح الثالث من سفره ربما لا يوجد له مثيل فى الكتاب المقدس!! وأغلب الظن أنه كتب نبوته عام 603 ق. م. بعد قيام الكلدانيين بغزواتهم الواسعة وهزيمتهم لآشور عام 612 ق.م. ولفرعون نخو ملك مصر عام 605 ق.م. فى موقعة كركميش المشهورة!!.. حبقوق المشتكى وصف أحد الشراح حبقوق بالقول: « إنه المفكر الفيلسوف الذى يعد من أعظم أحرار الفكر فى التاريخ، ذو الحزم والسريرة الصافية الذى يملك قوة وابتداعاً خارقين، وهو العطوف بين الأنبياء وواعظ البشائر الإلهية!!.. ووصفه آخر أنه توما العهد القديم، إذ أنه الرجل الذى لا يؤمن قبل أن يضع كل شئ فى موضع البحث والنقاش والدراسة والاختبار... وهو أكثر الأنبياء استعمالا لعقله ومنطقة فى المحاججة والمناقشة مع اللّه،... وهذا واضح من مطلع سفره. « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص. لم ترينى إثماً وتبصر جوراً. وقدامى اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها؟! لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم بتة لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجاً »... "حب 1: 2 - 4 ".لقد طرح حبقوق سؤالا ما يزال يطرحه إلى اليوم ملايين الناس من أبناء اللّه، وهم يصرخون إلى اللّه ليلا ونهاراً: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع؟ أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص؟ »... كانت المشكلة أمام حبقوق، ذلك الفساد الذى استشرى فى داخل البلاد، والذى حاول بعض ملوك يهوذا، عبثاً، مقاومته، وكان آخرهم الملك الرقيق القلب يوشيا الذى مات فى معركة مجدو، والذى تنبأ حبقوق فى أيامه،... والسؤال مع ما فيه من شجاعة خارقة تبلغ بها الجرأة إلى حد أن تقول للّه: « لا تسمع » و« لا تخلص »... إلا أنه سيبقى سؤال العقل المشتكى أمام اللّه مما يحس به المؤمنون من الواقع الأليم،... واللّه لم يغضب من هذا السؤال، ولا يمكن أن يغضب من أى سؤال يمليه العقل المخلص لواحد من أبنائه!!.. كان السؤال فى الواقع هو الصراع الذهنى بين الواقع الذى يعيشه المؤمن فى العالم، وبين الانتظار للّه فى حل المشاكل والمتاعب!!.. ماذا حدث أمام حبقوق، وفى عصره؟؟ كانت هناك فى البلاد أغلبية شريرة فاسدة، تفعل كل ما يفعله الأشرار الفاسدون الفاسقون، وقد أحاطت هذه الأغلبية بالأقلية التقية، وسحقتها تحت أقدام الظلم والاغتصاب والتعسف، فشت الرشوة، حتى أصبح الالتجاء إلى القضاء عبثاً، إذ عوجت الأحكام برشوة القضاء،.. وعندما يفسد القضاء فى أمة، فقل على الأمة السلام، لأن القضاء هو الملاذ الأخير للبؤساء والمتضايقين والمنكوبين والمعتدى عليهم،.. ومقياس تقدم الأمم أو تأخرها يقاس فى العادة بمقياس نزاهة القضاة أو فسادهم.. وقد رأى حبقوق كيف جمدت الشريعة بأحكام القضاة الفاسدين المرتشين!!.صلى حبقوق اللّه وصرخ وهو يتألم لآلام التعساء المنكوبين، دون أن يجد نتيجة ظاهرة، فوضع السؤال الذى يتكرر فى كل الأجيال والعصور: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع. أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص »؟؟.. نحن لا ننكر أن هذا السؤال من أهم الأسئلة التى يطرحها العقل البشرى!! لماذا لا يسمع اللّه؟ أو بتعبير أدق: لماذا يبدو كما لو أن اللّه لا يخلص شعبه من الظلم الصارخ البين الملحوظ من الجميع؟ من الواضح أن حبقوق، وهو يشتكى لم يظهر فى شكواه أن اللّه لا يسمع أو لا يخلص، لأن الأقلية التى يشتكى باسمها، ارتكبت شراً أو خطأ،.. ومرات كثيرة ما لا يسمع اللّه، أو لا يخلص، لأن المصلى أو الصارخ لم يتخلص بعد من شره أو خطيته وهكذا يأخذ الجزاء نتيجة خطية معينة، أو إثم واضح لديه،.. لقد أخطأ شمشون فقلعت عيناه، وأخطأ داود فأخذت ثمرة الخطية من الأرض، رغم أنه صلى لبقاء الولد،... وصاح إرميا فى مراثيه: « لماذا يشتكى الإنسان الحى الرجل من قصاص خطاياه؟ لنفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع إلى الرب. لنرفع قلوبنا وأيدينا إلى اللّه فى السموات. نحن أذنبنا وعصينا. أنت لم تغفر إلتحقت بالغضب وطردتنا. قتلت ولم تشفق. إلتحفت بالسحاب حتى لا تنفذ الصلاة ».. " مراثى 3: 39 - 42 " لكن شكوى حبقوق لا يبدو فيها أن هناك خطية معينة عند الأقلية التقية، واللّه يريدهم أن يتحرروا منها قبل أن يمد لهم يد المعونة والمساعدة!!.وكانت الأيام التى عاشها حبقوق أشبه بأيامنا هذه التى يحيط فيها الفزع بالكثيرين من أبناء اللّه محلياً أو فى العالم كله، عندما يحاول الشرير أن يسحق المؤمن، ويرفع المؤمن صلاته إلى اللّه،... ولكن اللّه يأتى إليه فى الهزيع الرابع،... ولعل حزقيا وهو يدعو إشعياء للصلاة قائلا: « لأن الأجنة دنت إلى المولد ولا قوة على الولادة » " إش 37: 3 " كان فى خياله أو فى تفكيره، وهو يتعجب: لماذا يترك اللّه أبناءه حتى يصبح الواحد منهم كالمرأة الماخض التى تتلوى من الألم قبل أن تأتيها نجدة السماء ومعونتها!!.. إن هذه السياسة الإلهية مرات كثيرة ما تكون ضرورية لإنسان سريع النسيان يلزمه أن يصل إلى الاختبار: « حين أعيت فى نفسى ذكرت الرب »... " يونان 2: 7 " وهى التى تعلن مجد اللّه الواضح الكامل العظيم!!... قال أحدهم: جاءتنى برقية أن أختى التى تقيم على بعد 500 ميل ستجرى لها عملية جراحية خطيرة، وأن الأمل فى نجاح العملية واحد فى المائة، وصليت من أجلها ثلاث ساعات متوالية، وقمت وكلى يقين أنها ستحيا، وفى اليوم التالى دعيت إلى محادثة تليفونية،... وقال العامل: إنها إخطار بوفاة... ورفضت أن أصدق،... على أنها كانوا يطلبون منى أن أحضر فى القطار التالى فقد تحسنت الحالة، وأختى تطلب أن ترانى.... وكتبت أمى إلى كتاباً تقول: إنه فى الساعة الخامسة والنصف من مساء اليوم الذى صليت فيه فتحت أختى عينيها وقالت: أماه لقد صلى أخى من أجلى، واللّه أخبره أنى سأشفى!!..فى الحقيقة كثيراً ما تكون تأجيلات اللّه لإظهار مجده الأعظم!!... عندما سمع المسيح خبر مرض لعازر، لم يذهب بسرعة، وفعل عكس ما كان ينتظر، إذ بقى فى مكانه يومين، لا لأنه لا يسمع أو لا يجيب، بل لأنه يرغب أن يكون مجد اللّه أعلى وأعظم وأجل!!.على أية حال... عندما رفع حبقوق شكواه إلى اللّه بهذه الصورة، تركه لينفس عن نفسه وعن المظلومين والأبرار معه واللّه على استعداد أن يستمع إلى النفس المريرة التى تأتى إليه لتسكب عصارة أحزانها وسر شكواها وأنه سيقبل من يجاهد معه ويصارعه، ولو استعمل ألفاظاً جريئة كموسى عندما قال: « ياسيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب، لماذا أرسلتنى فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب وأنت لم تخلص »... " خر 5: 22 و23 " أو كإيليا عندما صرخ إلى الرب وقال: « أيها الرب إلهى أ أيضاً إلى الأرملة التى أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها » " امل 17: 20 "... إنه يعرف أن هذه الألفاظ لا تخرج إلا من قلوب معاتبة عامرة باليقين والاتكال عليه!! إطرح كل شكواك أمام الرب وتحدث بمخاوفك وآلامك وعبر عنها كما تشاء نفسك الإنسانية، مادمت قد اختبرت اليقين المبارك أنك بن اللّه!!.. حبقوق الحائر أجاب اللّه على شكوى حبقوق، فبين له أنه يجهز عقاباً رهيباً للاشرار والأثمة، وأن هذا العقاب لن يكون بعد زمن طويل، بل أنه قريب، وفى أيامهم، وهو رهيب إلى درجة لا تكاد تصدق، إذ أنه سيقيم « الكلدانيين، الأمة المرة القاحمة السالكة فى رحاب الأرض، والتى ستدمر الممالك، وتستولى على المساكن، وهى تندفع بصورة هائلة ومخيفة: « وخيلها أسرع من النمور وأحد من ذئاب المساء، وفرسانها ينتشرون، وفرسانها يأتون من بعيد ويطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل. يأتون كلهم للظلم. منظر وجوههم إلى قدام ويجمعون سبباً كالرمل. وهى تسخر من الملوك، والرؤساء ضحكة لها، وتضحك على كل حصن وتكوم التراب وتأخذه »،. "حب 1: 6 - 10 ".وإذا يسمع حبقوق هذا يرتعب ويصعق،... إنه كان ينتظر عقاباً وتأديباً، ولكنه لم يخطر بباله أن يتحول العقاب تدميراً رهيباً على هذه الصورة،.. ومما ضاعف الرعب عنده، أن الكلدانيين لن يتصوروا، (وقد نجحوا هذا النجاح وجمعوا المسبيين كما يصطاد السمك بالشص والشبكة) أن هذا من فضل اللّه عليها بل أنها ستراه من فضل آلهتها الوثنية التى تتعبد لها، الأمر الذى جسمه نبوخذ نصر فى تمثاله العظيم، وطلب إلى كل الشعوب أن تنحنى أمام هذا التمثال، إقراراً بفضل آلهته عليه فى انتصاراته وغزاوته الواسعة العظيمة!!.. وقارن حبقوق بين الشر الذى يرغب فى دفعه، والشر الذى سيسمح به اللّه على شعبه، فوجد أن الشر الحاضر أهون بما لا يقاس من الشر الآتى، وفزع، إذ كيف يعالج اللّه شراً بشر أقسى وأرهب وأشد!! وكيف يحدث هذا واللّه القدوس موجود، وهتا تغير سؤال حبقوق، فهو لم يعد يسأل سؤاله الأول عن اللّه، الذى تصور أنه لا يسمع ولا يخلص من الشر، بل وجد سؤالا أهم وهو يقول للّه: « عيناك أطهر من أن تنظر الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين وتصمت حين يبلع، الشرير من هو أبر منه » " حب 1: 13 ". لئن كانت الأغلبية حوله شريرة، إلا أنها فى قياس الشر هى أبر من الأمة الغازية،... فكيف يسمح اللّه، أن يبتلع شعبه مهما يكن فعلهم من الوثنية الطاغية التى لا تعرف اللّه، والتى تأثم وآخر الأمر تحمد آلهتها وتبخر لها؟!!.. حبقوق المنتظر ألقى النبى سؤاله وصعد على المرصد ووقف، وعلى الحصن انتصب ليرى ماذا يقول له الرب، وماذا يمكنه هو أن يجيب على ما يقوله اللّه،.. وطبعا ليس من الضرورى أن يكون هناك مرصدا أو حصن مادى، ولكن المقصود هو ارتفاع النفس، والتطلع برجاء وانتظار وثقه نحو الرب، لتسمع كلمته وتناجيه وتحاجه.. وهنا يمكن أن نستمع إلى كلمات « ألكسندر هوايت » وهو يقول: « أصعد كل يوم إلى حصن حبقوق العالى وخذ معك صلاته ورجاءه: « ألست أنت منذ الأزل يارب إلهى قدوسى، لا نموت » " حب 1: 12 " وهذا هو الإيمان الذى أمكن أن يعيش به البار فى كل أجيال كنيسة اللّه، فلم يمت إنسان تحت يد العدو متروكاً من قوة اللّه ونعمته!!.. وقد جاء اللّه إلى النبى بالجواب: « فأجابنى الرب وقال: اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكى يركض قارئها، لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد وفى النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها ستأتى إتياناً ولا تتأخر »!! " حب 2: 2 و3 ". عدد الرب مظالم الكدانيين، فويل، أول الأمر، للكسب الشرير، كسب أولئك الذين يغنمون بالظلم والفساد والإثم. ويبنون بيوتاً عالية يصرخ فيها الحجر والخشب ضد صاحبه، وضد المكسب الحرام الذى سيكون لخزى البيت ودماره وضياعه!!... وويل للقاسى العنيف، رجل الدماء الذى يطغى وهو يسحق تحت أقامه الضعفاء المساكين،... وويل للشهوانى الآثم الذى يسكر الضحية، ويكشف عورتها، ويفرق معها فى الدنس والإثم،... وويل لمن ينحنى للتمثال المنحوت، ويتعبد للوثن، وينسى أن الرب فى هيكل قدسه. ويلزم أن تسكت قدامه كل الأرض، فى روح الولاء والخشوع والتعبد!!.. حبقوق المنتصر أدرك حبقوق، آخر الأمر، أن الكلدانيين ليسوا إلا عصا استخدمها اللّه ثم كسرها بعد ذلك تكسيراً،... وأدرك حبقوق أن اللّه الذى أخرج شعبه من مصر بقوة وذراع عظيمة، هو الذى يتمشى فى موكب العصور بقوته القادرة، وسلطانه الرهيب،... وسبيل المؤمن على الدوام مركز فى العبارة العظيمة الخالدة: « البار بإيمانه يحيا » أن أن المؤمن سيحيا فى وسط الأخطار والمخاوف والحروب بثقته فى اللّه، ويقينه فى حراسته وخلاصه، هذا هو المعنى الأول والمستفاد من الآية،... على أن المعنى البعيد العميق يشير إلى أن خلاص النفس البشرية من خراب الخطية وشرها يرجع دائماً إلى اليقين باللّه والإيمان به،... وعلى هذا بنى بولس العقيدة العظيمة عن التبرير بالإيمان، وامتلأ لوثر سلاماً واطمئناناً وهو يضع دعائم إصلاحه المجيد.كان الأصحاح الثالث من سفر حبقوق أغنية رائعة منتصرة خرج بها حبقوق من وسط الخراب والدمار بالفرح والترنم وختمها بالكلمات التى قال « أسبرجن » عنها إنها ينبغى أن تكتب بماء الدهب: « فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل فى الكروم، يكذب عمل الزيتونة، والحقول لا تصنع طعاما، ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر فى المذاود، فإنى أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصى، الرب السيد قوتى ويجعل قدمى كالأيائل ويمشنى على مرتفعاتى »! "حب 3: 17- 19" هل يستطيع الإنسان أن يمسك قيثارته ويغنى، فى مثل الظروف التى يتحدث عنها حبقوق؟؟ هل يمكنه الغناء فى أرض الحاجة والمجاعة والتعب، يذهب إلى التينة فلا يجد حتى الزهور، وينتقل إلى الكرمة فلا يجد عنا قيد العنب، ويتحول إلى الزيتونة فيجدها وقد امتنعت عن الإثمار،.. يترك هذه إلى الحقول، فلا يجد حنطة أو طعاماً... يذهب إلى الحظيرة فلا يجد غنماً، وإلى المذاود فلا بقر هناك!!.. كان من المنتظر أن يبكى ويتذكر وينتحب،... ولكنه رغم كل هذا يغنى!!.. ما سر حبقوق؟؟،.. وما سر كل مؤمن مثيله ونظير للّه؟؟!!.. إن السر يرجع فى الحقيقة؟ إلى أن الخراب مهما حدث، ومهما أخذ، لا يمكن أن يأخذ منه ثروته وقوته الحقيقية التى هى شخص اللّه،... ترك بولس أرضه وبيت أبيه، ترك امتيازاته، وظروفه الحسنة، وسار فى أرض الخراب لا يملك شيئاً، ولكنه مع ذلك قال: « لكن ما كان لى ربحاً لهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إنى أحسب كل شئ أيضاً خسارة من من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربى الذى من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكى أربح المسيح »... " فى 3: 7 و8 " ولم يكن بولس وحده فى هذا، بل ما أكثر القديسين والأبطال الذين غنوا فى أرض الخراب،... فقد « يوحنا بنيان » أمنه وهدوءه وقضى فى السجن اثنى عشر عاماً، وهناك كتب كتابه العظيم " سياحة المسيحى "... عاشت فرانسس هفرجال « حياتها » الصحية العليلة، ولكنها ارتقت فوق علتها، وغنت أعظم الأغانى والترانيم!!.. إن الحقيقة التى لا مراء فيها هى أن وجود اللّه فى أرض الخراب، يحولها إلى جنة وارفة مكتملة الجمال والجلال والبهجة!!..على أن حبقوق كان يؤمن - إلى جانب هذا - بخلاص اللّه فى أرض الخراب، إذ أن معونة اللّه هناك أقوى وأظهر وألمع،... ألم يدخل يوسف السجن، ورأت نفسه أقسى ضروب الآلام والتعاسات؟ ولكن اللّه دخل معه هناك ليخرجه إلى الحرية والسيادة والمجد،... ألم يكن موسى ملقى فى السنط على حافة النيل فى أرض الخراب؟ ولكن اللّه مد له فى الحياة على الصورة العجيبة التى وصل إليها!!.. ألم يقف اللّه فى كل العصور والأجيال مع البؤساء والمعوزين والمتألمين، على النحو العجيب الذى جعلهم يتمشون على مرتفعات الحياة فى أقسى الأوقات وأدق الظروف!!.. بعد أن قامت الحرب العالمية بعامين، جاءت أوقات دقيقة على القديسة « لليان تراشر »، وقد انقطعت كل المعونات والمساعدات،... وبلغت الحالة أقصاها فى يوم من الأيام، فجمعت لليان أربعمائه وخمسين من البنات، وظللن يصلين يوماً بأكمله، وفى ثانى يوم دعيت هذه السيدة لمقابلة عاجلة مع السفير الأمريكى فى القاهرة، وقال لها السفير: إن سفينة للصليب الأحمر كانت معدة للذهاب إلى اليونان، وبها أطعمة وملابس، ولكن الأوامر صدرت لها وهى فى عرض البحر الأبيض أن تذهب إلى الإسكندرية، لأن اليونان قد اكتسحتها قوات المحور، وطلب السفير من « تراشر » أن تأخذ كل ما تحتاجه من السفينة المذكورة،... وغنت القديسة وفتياتها أغنية الفرح فى أرض الخراب!!. لست أظن أن هناك ما يمكن أن نختم به قصة حبقوق، أفضل من ذلك القول الذى قاله أحدهم وهو يسمع عن العذاب الأحمر فى الصين أو فى روسيا أو فى شتى ألوان المتاعب والاضطهادات بين الناس متسائلا: ألا يجوز أن نقول ما قاله حبقوق قديماً: « حتى متى يارب أدعو وأنت لا تسمع، أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص!!؟.. وكان الجواب: « أكتب الرؤيا وانقشها على الألواح ليركض قارئها لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد وفى النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها تأتى إتياناً ولا تتأخر»..!!..
المزيد
05 أكتوبر 2021

المسيح المحرر

" أرسلنى لأُنادى للمأسورين بالإطلاق " ( لو 4 : 18 ) أول عظة بدأها الرب يسوع ، كانت فى مجمع الناصرة ، واقتبس عنوانها من سفر إشعياء ، مُعلناً أن هذا النبى الذى سبق التجسد الألهي بنحو سبعمائة عام ، قد تنبأ عن مجئ المسيح الفادى ورسالته الخلاصية ، فلم يأت المسيح واعظاً ولا منذراً فقط ، ولكن مخلصاً الناس من العبودية لإبليس وللخطية . وهى نفس رسالة كل خادم ، وكل مسيحى ومسيحية ، لكسب الأهل والأصدقاء والعالم إلى بيت الله ، وللتحرر من قيود الشر والإثم والظلم . وما أكثر الأسرى فى هذا الزمان : أسرى الحروب والتمييز والأضطهاد : أسرى الحروب عادة ماينالون قسوة فى المعاملة من اسراهم ، وربما يظلون فى غياهب السجون أعواماً قد تمتد لعدة سنوات يعانون فيها من مرارة الأسر ، وهناك العديد من الأسري نتيجة الظلم الواقع من الأنسان علي اخيه نتيجة عدم حرية العقدة والاضطهاد الواقع علي الأقليات لاسيما في العالم الثالث ووسط أجواء الصراع الديني والتعصب الأعمي والمضطهدين من اجل الاختلاف في الرأي او الجنس او العرق .ورغم تجريم القانون الدولي والأقليمي والمحلي للظلم والتمييز وسوء معامله الاسري الا انه شتان بين الواقع والقوانين ومن أجل هذا نصلي ونطلب ليفتح الله عيون العمي ويستنيروا ويعطي الله القادة والمسئولين الحكمة والقوة لأقرار السلام الدائم والشامل والعادل ورفع الظلم وتطبيق قواعد العداله والمساواة بين جميع المواطنين أسرى الخطية والعادات الشريرة : أدمان المكيفات والخمر والتدخين ، والدنس ، وكل العادات الشريرة ، وقال القديس اغسطينوس : " إن عبد الشهوة أذل من عبد الرق " ، ونحن نشعر بحالاتهم الصحية والنفسية والمادية البائسة ، ونعطف عليهم ، ونسعى لخلاصهم وعلاجهم روحياً ، ونرشدهم للمختصين إذا أحتاجوا للعلاج الطبى ، فربما يكون موتهم فى شبابهم بسبب ما هم فيه ( جا 7 : 17 ) لقد جاء الرب ليعطي القوة والنعمة والحكمة لكل من يريد الخلاص نعم جاء لتكون لنا حياة وليكون لنا ملء الحياة الفاضله الكريمة .اننا لن نحيا الا حياة واحدة وحيدة فلماذا نهدر حياتنا ووزناتنا وطاقاتنا وأمكانيتا فيما يضر ونحي نعاني المرارة ونخسر ابديتنا ،ان المسيح له المجد يدعو كل نفس للتحرر من قيود العادات الضارة والمهلكة ويريد لنا ان نتغير ونغير حياتنا ونعرف ارادة الصالحة المرضية ونعمل بها .أن التوبه تعني الرجوع الي الله والحياة المقامة في المسيح يسوع القائم منتصرا علي الشيطان والخطية والضعف والقادر ان يحرر الخطاة ويعطيهم قوة القيامة والانتصار علي الشر. أسرى الفكر : وهو تقييد الفكر ، بأفكار خُرافية ، مثل تصديق أثر العين ( الحسد ) والسحر ، والحظ ، والتشاؤم بأمور مُعينة ، والجن والعفاريت (عالم الغيبيات ) .او ان يفكر الانسان فقط في الارضيات وينسي الله والحياة الروحية ،او ان يتعصب الانسان لفكرة او لبني جلدته او دينه ،او يحي الانسان لنفسه في أنانيه مفرطه حتي داخل الاسرة الواحدة ويحي متغرباً عن أخوته غير مشاركا لهم همومهم وافراحهم ... الخ . دور الرب يسوع فى تحرير الخطاة : سدد الدين القديم ، وحررهم من سجن الجحيم ، وكان إبليس قبل الفداء والقيامة يقبض على روح الميت ، ويدفع به إلى الهاوية ، ففتح الرب الفردوس ، بعدما قيد عدو الخير ، وحد من سلطانه وسطوته . يُحرر الله النفوس من العادات القاتله للنفس ، والمهلكة للجسد ويقوينا بوسائط النعمة – لكسر قيود الفساد ، مثل أغسطينوس ، وموسى الأسود ، وبلاجية ، ومريم المصرية .وهو يمد يده لكل نفس مكبلة بسلاسل الدنس ، ومرتبطة بعبودية الخطية ، والتى تحاول عبثاً الإتكال على ذاتها وحدها فلا تستطيع الفكاك منها ، بينما يناديها الرب لتأتى إليه ليكسر لها قيودها ، ويحررها من عبودية الخطية ، ومن اي عادة ردية ، تجلب الهموم والعار والفقر والمرض الشديد والموت المفاجئ . وهذه دعوة لكل مؤمن وأنسان ، إلى المناداة للمأسورين بالإطلاق من سجن الخطية والشهوات العالمية ، ولكى يُقبلوا إلى حرية مجد أولاد الله .اننا نسير علي خطي المخلص الذي كان وسيبقي يجول يصنع خيراً ويشفي كل مرض وضعف في الشعب الحصاد كثير والفعلة قليلون لنطلب من رب الحصاد ان يرسل فعلة لحصاده. لنكون اذاً رسل سلام وسط ظلمة هذا العالم ورائحة المسيح الذكية التي يشتم منها الأخرين قوة المحبة والبذل والعطاء ، لنكون سفراء لمملكة السماء نطلب عن المسيح له المجد من الناس ان يتصالحوا مع أنفسهم واخوتهم والله. استخدمنا يارب لسلامك واجعلنا أواني مقدسة لحلولك لنزرع المحبة ونشعل نور الأيمان في القلوب ندعوا في الناس بالتوبة فقد أقترب ملكوتك نعلن بشري الخلاص للمقيدين ورساله الحرية للخطاة نختفي ويظهر مجدك ايها الاله المحب للبشر ليختفي الظلم ويعلن حبك وعدلك ورحمتك وينتشر الهي أننا نصلي من أجل العالم الحزين ليفرح، والمريض ليشفي، والخاطي لكي يتوب ويرجع اليك وانت ضابط الكل فأعمل فالجميع ليخلصوا والي حضنك ليرجعوا فيفرح الزارع والحاصد ويستعلن حبك لكل بشر ..أمين
المزيد
31 أغسطس 2021

الدينونة العامة للبشر "وسيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات" (قانون الإيمان)

هذا هو الحدث الذي به ينتهي التاريخ. وما يحدث "بعد" الدينونة النهائية ليس مُعتَبَراً من التاريخ، بل هو الأبدية الفائقة على والخارجة عن التاريخ. كما أنه بحلول هذا الحدث يكون تدبير الخلاص الشفائي للبشرية قد اكتمل. وهكذا يأتي التاريخ البشري إلى نهايته، حيث لم يَعُدْ زمان للعمل بعد؛ بل فقط نتيجة الإيمان والعمل في هذه الحياة الحاضرة. الدينونة الأخيرة: التعاليم المختصة بالتعليم عن الدينونة الأخيرة يُردِّدها الذين يتلون قانون الإيمان، وكانوا قديماً يردِّدونه باللحن والترتيل، ولم يبقَ إلاَّ الترتيل للبند السابق على بند "الدينونة" وهو: "وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي، آمين"؛ وكذلك للذين يُصلُّون والذين يستمعون لصلوات القدَّاس الإلهي للبند المختص بالدينونة: "ورسم يوماً للمجازاة، هذا الذي يظهر فيه ليدين المسكونة بالعدل، ويُعطي كل واحد حسب أعماله" (قداس القديس باسيليوس)؛ وكذلك للذين يُداومون على قراءة أو الاستماع للإنجيل المقدس. ومن بين ما تتضمَّنه الدينونة، الفرز والفصل والتمييز بين الأبرار وغير الأبرار، كما سيرد في بقية المقال، كما سيقف "كل واحد" في وضع الدينونة. وفي قانون الإيمان المُبكِّر المُسمَّى "قانون الرسل"، يعترف بأنَّ المسيح "سوف يأتي ليدين الأحياء والأموات". ثم أتى التأكيد على ذلك في قانون الإيمان الصادر عـن مجمع نيقية المسكوني عام 325م، الذي أُضيف عليه هذا البند في مجمع القسطنطينية المسكوني عام 381: "وسيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات"، مُضيفاً: "الذي ليس لمْلْكه انقضاء". الدينونة الأخيرة هي فرز المختارين من غير المختارين، ليقضي كل فريق أبديته: إما للحياة في حضرة الله، أو بعيداً عن حضرة الله. والدينونة لن تكون فقط للأفراد "كل واحد"، بل وأيضاً هناك دينونة وقضاء للشعوب: «لأنه جاء ليدين الأرض، يدين المسكونة بالعدل، والشعوب بأمانته» (مز 96: 13). والدينونة الأخيرة هي قمة العمل القضائي الذي بدأ في التاريخ للأفراد والشعوب والأُمم. أما المسيح فسيكون هو الديَّان الأخير لكل أعمال البشر والشعوب الذين سيقفون أمام كرسي الدينونة، كما أوضح القديس يوحنا ذهبي الفم(1). كلمات أحداث الدينونة: يأتي، يجلس، يُميِّز: ثلاثة أفعال تصف عمل الدينونة التي يُجريها ابن الله كما صوَّره مَثَل الدينونة الأخيرة: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القدِّيسون معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيُميِّز بعضهم من بعض، كما يُميِّز الراعي الخراف من الجِدَاء (جمع "جَدْي")» (مت 25: 32،31). وأما الحَدَث الأساسي في الدينونة الأخيرة، فهو الفصل والتمييز بين مَن سيكونون مع الله إلى الأبد، وبين مَن سيكونون بعيداً عن حضرة الله، كما يقول القديس إيرينيئوس(2). وكما كان في ميلاد الابن الكلمة، وتجربته، وآلامه، وقيامته، وصعوده؛ هكذا سيكون في الدينونة الأخيرة، حيث سيكون للملائكة القديسين حضور فعَّال في هذا الحَدَث: (مَثَل القمح والزوان): «والحصَّادون هم الملائكة... يُرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم» (مت 13: 41،39). (مَثَل الشبكة): «يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار» (مت 13: 48). «فيُرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح، من أقصاء السموات إلى أقصائها» (مت 24: 31)، (مت 25: 31 - النص أعلى). «لأن الرب نفسه بهُتاف، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله، سوف ينزل من السماء، والأموات في المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحياء الباقين سنُخطف جميعاً معهم في السُّحُب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب» (1تس 4: 17،16). آيات مُعزِّية في أيام الضيقات التي تمر بالأقباط في هذه الأيام: «حتى إننا نحن أنفسنا نفتخر بكم في كنائس الله، من أجل صبركم وإيمانكم في جميع اضطهاداتكم والضيقات التي تحتملونها، بَيِّنة على قضاء الله العادل، أنكم تؤهَّلون لملكوت الله الذي لأجله تتألمون أيضاً. إذ هو عادلٌ عند الله أنَّ الذين يُضايقونكم يُجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا، عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته» (2تس 1: 4-7). «أمواج بحر هائجة مُزبِدَةٌ بخزيهم. نجوم تائهة محفوظٌ لها قتام الظلام إلى الأبد. وتنبَّأ عن هؤلاء أيضاً أخنوخ السابع من آدم قائلاً: "هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه، ليصنع دينونةً على الجميع، ويُعاقب جميع فُجَّارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها"» (رسالة يهوذا: 13-15). توقيت الدينونة: بعد قيامة الأموات تأتي الدينونة. فالأموات يقومون لكي يُدانوا: «إذاً لا تحكموا في شيء قبل الوقت، حتى يأتي الرب الذي سيُنير خفايا الظلام ويُظْهِر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله» (1كو 4: 5).والإنجيل يضع التأكيد على أن الدينونة الأخيرة ستكون عند «انقضاء العالم» (مت 13: 39). الدينونة الحاضرة وعلاقتها بالدينونة الأخيرة: ولكن يؤكِّد إنجيل يوحنا على كلام المسيح عن الدينونة الحاضرة. فالدينونة الأخيرة النهائية ستكون في الواقع تسجيلاً لِمَا يُحقِّقه بعض الناس من دينونة حكموا بها على أنفسهم منذ الآن من جهة علاقتهم الحاضرة بالمسيح: «الذي لا يؤمن به قد دِينَ (أي حَكَم على نفسه) لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد» (يو 3: 18). والضمير الحسَّاس يُسابق الزمن في دينونة نفسه: «خطايا بعض الناس واضحة (أمام ضمائرهم) تتقدَّم إلى القضاء (الدينونة)، وأما البعض فتتبعهم» (1تي 5: 24). الدينونة ليست فكرة عقلية، بل "يوم" لابد قادم وننتظره: والدينونة ليست فكرة عقلية، بل هي حَدَث لابد قادم وننتظره كيوم مُحدَّد يُسمَّى في الإنجيل: «قيامة الدينونة» (يو 5: 29)، و«يوم الدين» (2بط 3: 7)، و«ذلك اليوم» (مت 7: 22؛ 2تي 4: 8)، و«يوم الغضب (الإلهي) واستعلان دينونة الله العادلة» (رو 2: 5)، «لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل، برجل قد عيَّنه» (أع 17: 31). وليس المهم هو التحديد الزمني ليوم ومكان الدينونة، بل المهم أن يكون لدينا اليقين بحَدَث الدينونة المزمع أن يأتي: «لأن الله يُحضر كل عملٍ إلى الدينونة، على كل عمل خفيٍّ، إنْ كان خيراً أو شراً» (سفر الجامعة 12: 14)، «يأتي إلهنا ولا يصمت. نارٌ قُدَّامه تأكل، وحوله عاصفٌ جداً، يدعو السموات من فوق، والأرض، إلى مُداينة (دينونة) شعبه» (مز 50: 4،3). الدينونة عَهَدَ الله بها إلى مَن سبق وأُدين من البشر: أسماء الديَّان في العهد الجديد متنوعة، وأول اسم هو: «الله ديَّان الجميع» (عب 12: 23؛ رو 2: 5،3). 1. ويُنسب أحياناً إلى الآب: «أنا لستُ أطلب مجدي، يوجد مَن يطلب ويدين» (يو 8: 50)، «لأنه أقام يوماً هو فيه مُزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عيَّنه مُقدِّماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات» (أع 17: 31)، «الذي إذ شُتِمَ لم يكن يشتم عِوَضاً. وإذ تألَّم لم يكن يُهدِّد، بل كان يُسلِّم لمَن يقضي بعدل» (1بط 2: 23) 2. أو يُنسب إلى الروح القدس: «ومتى جاء ذاك (الروح القدس) يُبكِّت العالم على خطية وعلى برٍّ وعلى دينونة» (يو 16: 8). 3. ولكن كثيراً ما يُستعلن شخصياً أنَّ الدينونة ستقوم بواسطة ابن الله المتجسِّد، أي المسيح نفسه: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده...» (مت 25: 31)، «وأوصانا (المسيح) أن نكرز للشعب ونشهد بأنَّ هذا هو المُعيَّن من الله ديَّاناً للأحياء والأموات» (أع 10: 42)، «لكي تجثو باسم يسوع كلُّ رُكبة مِمَّن في السماء ومَن على الأرض ومَن تحت الأرض» (في 2: 10)؛ وذلك لأنه يعرف وقد اختبر ضعفاتنا: «لأنه في ما هو قد تألَّم مُجرَّباً يقدر أن يُعين المجرَّبين» (عب 2: 18)، فهو القادر أن يدين الأحياء والأموات كواحد كان منهم. الآب أعطى كل الدينونة للابن: «لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن» (يو 5: 22). لأنه من منطلق الرحمة، فإنه بإنسانٍ حقيقي، أي ابن الإنسان الذي شارك البشر في أحوالهم، وتجرَّب بكل نوع من التجارب؛ بهذا الإنسان يجب أن تكون دينونة البشر. فهذا الشفيع الإله والإنسان في وقت واحد هو الذي «أعطاه (الله) سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان» (يو 5: 27). وسبب تكليف الابن بالقيام بالدينونة هو «لأنه ابن الإنسان». العلاقة بين تألُّم الابن والحُكْم عليه بالموت في عهد "بيلاطس البنطي"، وبين تكليفه بدينونة البشر: فهذا الديَّان يحمل في جسده جروح آلامه وموته من أجل الذين حكموا عليه بالموت. الديَّان هو الرجل الذي عُلِّق على الصليب مُداناً من أجل خطايا العالم. إنه لائق جداً أنَّ ابن الله المتجسِّد الذي جاء ليُخلِّص البشرية من خطاياها هو هو نفسه الذي يكون ديَّان الخطية في نهاية الزمن. إنَّ عمل الفداء لابد أن ينتهي بنفس الشخص الذي بدأه. سرُّ العدالة والرحمة الإلهيتين: يظن الكثيرون أنَّ العدالة الإلهية هي مثل العدالة البشرية. وهذا محض وهم وبُعد عن الحقيقة. فكما عَلَت السموات عن الأرض، هكذا تعلو مفاهيم العدالة الإلهية عن العدالة البشرية.فالعدالة البشرية قاطعة وحاسمة وبتَّارة، لأنها خاضعة لشريعة "الحرف" القاتل أي نصوص قانون العقوبات. أما سر العدالة الإلهية فهو أنها مغموسة بدم الرحمة الإلهية، وهذا مفقودٌ في العدالة البشرية! العالم كله مُدان أمام الله، لكي يرحم الجميع: وتظهر هذه التضادة الرهيبة بوضوح في رسالة القديس بولس الرسول إلى مسيحيي روما، فهو يُصوِّر البشرية كلها - يهوداً وغير يهود، وهو التقسيم الطائفي الذي كان سائداً في أيام القديس بولس - بأنها كلها مُدانة ومحكوم عليها بالموت بقوله: «لأن الله أغلق على الجميع -يهوداً مفتخرين بيهوديتهم، وغير يهود عائشين في ضلال الوثنية - معاً في العصيان (أي وضع الجميع معاً في سجن الاستعداد لحُكْم الموت بسبب العصيان)»، ولكنه أسرع واستدرك في الحال وقـال: «لكـي يـرحم الجميع» (رو 11: 32)؛ أي المفتخرين بديانتهم والذين غرقوا في شهوات الوثنية معاً، يرحمهم الله معاً كما حَكَمَ عليهم أولاً بالموت معاً! هذا ليس موجوداً في قانون العدالة البشرية! وهو ما سيُميِّز عدالة الله في الدينونة الأخيرة، ولكن كيف؟ هذا لا يقدر أحد أن يشرحه أو يستخرج منه أي تعليق؛ بل فقط أن يطلب الجميع الرحمة الإلهية أمام العدالة الإلهية. وهذا ما تصرخ به الحناجر البشرية في كل قدَّاس، بعد ذِكْر يوم الدينونة: "ورَسَمَ يوماً للمجازاة، هذا الذي يظهر فيه ليدين المسكونة بالعدل" (القداس الإلهي)؛ فيكون المردُّ هو التوسُّل ردّاً على هذه المقولة: "كرحمتك يا رب ولا كخطايانا". سرُّ العدالة الإلهية: القاضي والمحامي هما شخص المسيح: ويكمن الفارق الرهيب بين العدالة البشرية المحكومة بقانون "الحرف" القاتل وبين العدالة الإلهية المغموسة في دم حَمَل الله الحامل خطايا العالم؛ أنه في العدالة الإلهية يجلس القاضي لكي يحكم في شكاية الشيطان ضد الإنسان، وإذا بالقاضي ينزل إلى منصة الدفاع ليكون هو "المحامي" و "الشفيع" عن الإنسان ضد شكايات الشيطان ضده. وهذا ما يُصوِّره بولس الرسول: «مَنْ سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يُبرِّر! مَن هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا!» (رو 8: 34،33) أما نصيب هذا المُشتكي ضد المختارين فقد رآه القديس يوحنا الرائي هكذا: «الآن صار خلاص إلهنا وقدرته ومُلْكه وسلطان مسيحه، لأنه قد طُرح المُشتكي على إخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً» (رؤ 12: 10).من هذا نفهم أنَّ الرحمة الإلهية في الدينونة الأخيرة هي في مجملها عدل، وعدل الديَّان هو رحمة بما لا يُقاس. ونقص الرحمة الإلهية اللامحدودة أو نقص العدل الإلهي اللامحدود، لا يمكن أن يكون هو دينونة الله. وهاتان الصفتان: العدل والرحمة، ليستا متناقضتين، بل مُكمِّلتان بعضهما للبعض. وقد ظهرتا هكذا على الصليب في كمال مشترك بصورة باهرة لا يمكن إدراكهما بالعقل المجرَّد. إنهما متَّحدتان في اليوم الأخير بطريقة متكاملة وبحكمة لا يمكن فحصها.وهكذا فإنَّ محبة الله لا يمكن تحقيقها بعدل غير رحيم، ولا برحمة غير عادلة. ذلك لأن هذا الديَّان هو "فاحص القلوب" (مز 7: 9)، الذي «بيده نسْمتُك، وله كل طُرُقك» كما قال الرب لبيلشاصَّر الملك الذي حاكم دانيال النبي (دا 5: 23)، إنه «العارف قلوب الجميع» (أع 1: 24). الراحة والرهبة في حضرة الديَّان: المؤمن لا يرهب أو يخاف من الدينونة الأخيرة، لأنه لا يقف أمام قاضٍ آخر غير شفيعنا والذي قضيتنا بين يديه. والقديس بولس كان واثقاً أنه محفوظٌ بيد "الرب الديَّان العادل" وله عنده: «إكليل البـر الذي يَهَبه لي في ذلك اليوم» (2تي 4: 8).
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل