المقالات

16 يناير 2021

عيد الغطاس رؤية وشهادة

يوحنا المعمدان لم يكن يعرف المسيح، مع أنه سمع عنه كثيراً، وقد راجع بتؤدة في عزلته الطويلة في البرية كل ما قاله الأنبياء عن المسيَّا، ولكن لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً! لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله. وبينما يوحنا يصلِّي وهو في حيرته كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟ سمع صوت الله يرن في أُذنيه: اذهب إلى بيت عبرة عبر الأردن وهناك اِكرز وعمِّد بالماء للتوبة، لأنه من خلال المعمودية سيظهر المسيح لإسرائيل. فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس!! + «وأنا لم أكن أعرفه ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء ... وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس.» (يو 1: 31 - 33) ترك يوحنا عزلته الطويلة في البراري وترك معها كل الوسائل الشخصية التي جاهد أن يكتشف بها المسيَّا، وانطلق يكرز ويعمِّد، بكل غيرة وحماس، مئات وأُلوف؛ وفي قلبه لهفة أشد ما تكون اللهفة أن يرى العلامة، فكان يترقَّب رؤية الروح القدس في كل لحظة، وهو نازل من السماء ليعلن المسيَّا. وكان قلبه يخفق بشدَّة، لعل يكون أيُّ آتٍ إليه هو المسيَّا! سر ظهور المسيح واستعلانه ليوحنا المعمدان: هذه الصورة المبدعة التي يرسمها إنجيل القديس يوحنا لبدء خدمة المعمدان وظهور المسيَّا تحمل في الواقع أسراراً عميقة، فالإنجيل ينبِّه ذهننا بشدَّة: أولاً: أن ظهور المسيح في ذاته واستعلانه عموماً يستحيل أن يتم بالاجتهاد أو الترقُّب، إنما يتم فقط بتدبير الله من خلال معمودية الماء للتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء»، حيث التركيز في معمودية الماء يقع على التوبة «واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.» (مت 3: 6) ثانياً: أن معرفة المسيح شخصيًّا يستحيل أن تتم إلا بواسطة الروح القدس! الروح لم يره أحد وهو نازل من السماء غير يوحنا المعمدان، الرؤية هنا خاصة، انفتاح ذهني لإدراك ما لا يُدرَك واستعلان شخص المخلِّص والفادي «وأنا لم أكن أعرفه ... ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو ...». لأنه إن كنا حقًّا نعيش الغطاس ونعيِّد للغطاس، أي نعيِّد للظهور الإلهي، أي ظهور الابن بالآب والروح القدس معاً، ونعيِّد ليوحنا الرائي والشاهد والمعمِّد، فيتحتَّم أن يكون عندنا يقين هذا الاستعلان، أي المعرفة بابن الله، المعرفة القائمة على يقين الرؤيا والشهادة، أي بالروح القدس والآب! أو كما يقول إشعياء النبي: «عيناً لعين»!! واصفاً ذلك اليوم يوم استعلان المسيح للإنسان إن على الأردن (الغطاس) أو في جرن المعمودية (الإيمان بالمسيح)، هكذا: «صوت مراقبيك، يرفعون صوتهم يترنَّمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون.» (إش 52: 8) «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»: هذه أقوى شهادة سمعتها البشرية من نحو المسيح، لاحظ أن المسيح لم يكن قد بدأ خدمته الجهارية وإجراء آياته ومعجزاته، بل لم يبدأ بعد في الإعلان عن نفسه وعن علاقته بالآب، بل لاحظ أن يوحنا لم يكن يعرف شيئاً عن الصليب والقيامة! فإن كانت شهادة يوحنا بلغت هذا اليقين، وهو لم يتعرَّف بعد على سر الخلاص بذبيحة الصليب وسر التبرير بالقيامة، فكم ينبغي أن يكون يقين شهادتنا نحن وقد أدركنا هذا كله؟ ولكن ما هو إذن سر عجز شهادتنا وضمور معرفتنا للمسيح؟ أليس واضحاً كل الوضوح من حوادث عيد الغطاس، أن ذلك بسبب عدم انتباهنا لدور الروح القدس في فتح الذهن لكشف أسرار الله أمام المعرفة لإدراك حقيقة المسيح لبلوغ يقين الشهادة؟ ولكن لا يزال إنجيل عيد الغطاس يحتجز سرًّا هاماً وخطيراً في هذا الأمر. فالله اشترط على يوحنا المعمدان أن المسيح سيظل مجهولاً عنده، إلى أن يرى الروح نازلاً ومستقرًّا عليه!! هنا دور الروح القدس ليس مجرَّد علامة تشير إلى المسيح؛ بل هو وسيط معرفة، وسيط انفتاح ذهن. الروح القدس أعطى ذهن يوحنا المعمدان قدرة رؤيوية عالية جدًّا، أعلى من درجة النبوَّة التي عاش بها في البراري. لقد سمع المعمدان مراراً كثيرة صوت الله في قلبه من جهة حياته ورسالته التي جاء ليتممها أمام وجه الرب «الذي أرسلني لأعمِّد بالماء، ذاك قال لي». ولكن لم تنفتح عينا ذهنه لمعرفة مَنْ هو المسيح - مع أنه قريبه بالجسد - إلا بنزول الروح القدس! يقين الرؤيا: إن رؤية الأشياء والأشخاص والتعرُّف عليهم عن قرب، يؤدِّي إلى يقينية عقلية، فالعين والأذن مع بقية الحواس توصِّلان إلى المخ صورة متكاملة عن الشيء أو عن الشخص يفهمها العقل، ويختزنها، ويحولها إلى معرفة وإدراك بيقين عقلي هو أشد ما يملكه الإنسان من مفهوم اليقينية! ولكن هناك يقينية أخرى موهوبة للإنسان أعمق جدًّا، وهي أعظم تأثيراً وأكثر شمولاً لمواهب الإنسان وكيانه، ينفتح عليها الإنسان كموهبة إلهامية باطنية في القلب، يدرك بها كل شيء وكل الناس وكل الخليقة، فوق إدراكات العقل والحواس وأعمق بما لا يُقاس، يدرك ما فيها وما لها من حقيقة ومدى ارتباطها السرِّي بالله وبنفسه وكل الكون المنظور وغير المنظور. هذه الموهبة الفائقة على العقل والحواس هي عطية من الله مغروسة في صميم طبيعة الإنسان، وقد يحوزها الحكماء والفلاسفة حتى غير المتدينين وغير المؤمنين بالمسيح. هذه الموهبة أُعطي أن يوجهها الروح القدس ويستخدمها في كشف أسرار الله نفسه والتعرف عليه!! «الروح يفحص كل شيء (في قلب الإنسان ووعيه الروحي) حتى أعماق الله!!» (1كو 2: 10) فإذا حل الروح القدس في إنسان أو انسكب في ذهنه وأناره، كما استنير ذهن يوحنا المعمدان، يعمل في الحال بهذه الموهبة الفائقة التي في طبيعة الإنسان، فينفتح الذهن على أسرار الله، وبالتالي على المسيح بصفته الوسيط الوحيد بين الله والناس، والحامل همَّ البشرية والضامن خلاصها وتجديدها ورفعها إلى حضن الآب. وما قاله يوحنا المعمدان بعد هذه الرؤيا مباشرة عن المسيح مشيراً إليه: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وكأنه يرى مستقبل الخلاص كله والصليب والذبح والموت والقيامة في ومضة خاطفة؛ هذا يوضِّح مدى انفتاح الذهن ساعة حلول الروح القدس، ومدى قدرة الروح القدس في الانطلاق ببصيرة الإنسان لرؤية فائقة شاملة لكل سر الله لمستقبل خلاصنا!! هذه هي يقينية الرؤيا في حضرة الروح القدس وبتوسُّطه، التي لا يقف عند حد حتى أعماق الله، لا يحجزها حاجز لا من الزمان ولا من عجز الإنسان! وبهذا تكون خبرة البشرية بيقينية الرؤيا الممتدة في الله. وكل مستقبل الخلاص، والتي نالتها في يوم عماد المسيح حيث انفتحت البصيرة الإنسانية - ممثَّلة في يوحنا المعمدان - ساعة حلول الروح القدس على المسيح وقت العماد لتكشف أعماق سر الخلاص المكتوم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وتتقابل وجهاً لوجه، بل «عيناً لعين» - كما يقول إشعياء - مع الله الآتي إلينا في المسيح وتشهد له في جرأة: «هذا هو ابن الله»؛ هذه الخبرة التي نالتها البشرية وهي على عتبة العهد الجديد تُعتبر من أثمن ذخائر الكنيسة التي نالتها بحلول الروح القدس على المسيح، فأعطت سر العماد أهميته الفائقة كباب حي فعَّال دخلت منه البشرية في سر الله، حيث رأت خلاصها رؤيا اليقين والشهادة حتى وقبل أن يبدأ أو يتم! ومن هنا صار عيد الغطاس يحمل لنا أول حركة حيَّة من الروح القدس في صميم جسم الكنيسة، أول رعشة أصابت العظام الميتة أصابت يوحنا المعمدان، فانتقلت كخبرة للكنيسة كلها ولا تزال، حيث انتقلت في الحال من يقينية الرؤيا إلى يقينية الحركة، لأن كل رؤية يقينية بالروح القدس هي معرفة الحق، وأما كل شهادة يقينية فهي حركة بالحق! والاثنان فعلان صميميان من أفعال الروح القدس! «الروح القدس يرشدكم إلى جميع الحق»، «الروح القدس يشهد لي.» (يو 15: 26) أي أن استعلان المسيح العام يتم بالمعمودية، بالاعتراف بالخطايا والتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل لذلك جئت أُعمِّد بالماء». أما استعلان المسيح الخاص، أي معرفته معرفة شخصية، فهذا يتم بالروح القدس. يوحنا لم يعتمد بالروح القدس، ولكنه أخذ من رؤية الروح القدس وهو نازل مستقراً على المسيح، نال تعميداً ذهنيًّا تعرَّف به في الحال على الرب. ومع الرؤية الذهنية كانت الرؤية السمعية، لقد انفتحت أذن يوحنا لسماع صوت الله نفسه يشهد لابنه مُعلناً ليوحنا أعظم سر أدركته البشرية، سر علاقة الآب بالابن وعلاقة الحب بينهما، العلاقة التي كانت مخفية عن إدراك كل بني الإنسان واستُعلِنت أول ما استُعلِنت ليوحنا، لبدء الكرازة. + «وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقَّت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السموات أنتَ ابني الحبيب الذي به سررت.» (مر 1: 10 و11) هنا يكشف الإنجيل عن كيف تعرَّف المعمدان ليس فقط على المسيَّا، بل على مَنْ هو المسيَّا: أنت ابني الحبيب!! لذلك يعلن يوحنا المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1: 34) إعلان يوحنا هذا الذي سلّمه للبشرية بالإنجيل نقله إلينا كشهادة عيان وسلَّمه لنا كمن رأى وسمع، رأى الروح رؤيا العين، وسمع صوت الله سماع الأذن بيقين روحي أعمق ألف مرة من اليقين الحسي، لهذا شهد، وشهد بيقين الرؤيا: «وأنا قد رأيت وشهدت». هذا هو عيد أول رؤيا للروح القدس! وهو عيد أول شهادة إنسان للمسيح تمت بالروح القدس، أنه ابن الله. والروح القدس بنزوله من السماء مهَّد في الحال في قلب يوحنا لسماع صوت الآب بوضوح. شهادة المعمدان للمسيح تمَّت بالروح القدس والآب. عيد الغطاس هو في حقيقته عيد الشهادة للمسيح، بالنسبة للكنيسة وبالنسبة لكل نفس تسعى لإدراك المسيح «أنا لم أكن أعرفه». «أنا لم أكن أعرفه»: هذا هو حال يوحنا المعمدان الذي دُعي نبيًّا للعلي من بطن أمه، وتعيَّن أن يتقدَّم أمام وجه الرب ليُعدَّ طرقه بل ويعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا. بينما ظل هو في أشد الشوق لمعرفته، وهذا في الحقيقة هو حالنا نحن، دعينا للخلاص والكرازة بالخلاص بل والشهادة للمسيح ابن الله، ولا نزال في أشد الحاجة إلى معرفته. وإن كنا نشهد فشهادتنا بالكلمة ينقصها يقين المعرفة: «وأنا رأيت وشهدت»!! وكأنما نعيش قبل عيد الغطاس! يقين الشهادة: كانت شهوة المعمدان أن يتعرَّف على المسيح، ولكن بمجرَّد حصوله على ”معرفة المسيح“ انطلق يشهد له في الحال أمام الكهنة واللاويين «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»، «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدَّامي ... الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه ... الذي يعمد بالروح القدس.» (يو 1: 30 و27 و33) هنا يوحنا يلغي نفسه تماماً، فالذي يحل سيور الحذاء في البيت اليهودي هو العبد المشتَرَى!! ثم إن كان المسيح الذي ينادي به هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فيوحنا بهذه الشهادة يصفِّي عمله ورسالته، بل وينهي على كل خدمته، وهو يؤكِّد ذلك بنفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 3: 30) هذا إن كانت المعرفة من الروح القدس حقًّا، لأن عمل الروح الأساسي هو الشهادة للمسيح . لذلك فإن معرفة المسيح إن كانت بالروح القدس فهي طاقة حركة لا يمكن أن تنحبس، بل لابد أن تُستعلن كالنور وتنتقل من إنسان لإنسان: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.» (مر 16: 15) شخص المسيح، عن قرب، جذاب للغاية، معرفته تأسر القلب، وتسبي الروح، وبحلول الروح القدس تصبح حضرة المسيح مالئة لكل كيان الإنسان؛ لأن الروح يأخذ ما للمسيح ويعطينا، فلا يعود الإنسان يشعر بحاجة إلى ذاته أو أن يكون له كيان منفصل أو عمل أو وجود أو أمل ذاتي: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص». هنا تفريغ وملء. معرفة المسيح تفرِّغنا من ذواتنا وتملأنا بالمسيح نفسه بالحق، بالحياة، بالقيامة، بالسلام الفائق للعقل. هذا يضطلع به الروح القدس حتى يمتلئ الإنسان بكل ملء الله، كما يقول الكتاب (أف 3: 19). وفي موضع آخر يقول: «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «وأنتم مملوؤون فيه.» (كو 3: 20) هذا التفريغ من الذات والملء بالمسيح هو الذي يُـخرج الإنسان عن كيانه وعن مكانه، فيطلقه ليبشِّر بلا حدود وبلا قيود، حتى إلى الموت يبشِّر ويشهد بما رأى «وأنا رأيت وشهدت». يستحيل على إنسان تعرَّف على المسيح حقًّا وذاق ونظر طيب الرب، أن يسكت أو أن يستطيع أحد أن يكتم صوته. المسيح عبَّر عنها أنها «مناداة من على السطوح» (مت 10: 27)، والمعمدان عرف ذلك وكان يمارسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (مر 1: 3)! لأن التعبير عن مقدار الأثر والتعلُّق الذي يتغلغل كيان الإنسان الذي انفتح ذهنه بالروح القدس على المسيح، لا يمكن أن تشرحه كلمات بسهولة. الكلام مهما كان بليغاً ورصيناً يظل عاجزاً عن تصوير عذوبة ومحبة وعمق شخص ابن الله. تأثير السيرة على الشهادة: ولكن الشهادة للمسيح تبلغ حد يقينيتها الأعلى، عندما تزكيها سيرة الإنسان نفسه. إن شهادة المسيح ليوحنا المعمدان توضِّح سر نجاح المعمدان الفائق الوصف في التعرُّف على المسيح والشهادة له وسط ظلام الأجيال وعمى الرؤساء والحكماء والعلماء: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحرِّكها الريح (ثبات مبادئ يوحنا)؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ إنسان لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك (خشونة حياة يوحنا وتقشُّفه ونسكه في البراري). لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي! (روح وسيرة يوحنا المعمدان فاقت مستوى جميع الآباء والأنبياء) الحق الحق أقول لكم: إنه لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (الوحيد الذي امتلأ بالروح القدس وهو في بطن أُمه!)» (مت 11: 7 - 9 و11)، وهذا رد ضمني على الذين يعترضون على قيمة المعمودية في الطفولة. والسؤال هنا هو: هل ألغى العهد الجديد عظمة يوحنا وتكريم المسيح له بهذه الشهادة المفرحة جدًّا لنفوسنا؟؟ في الحقيقة ما كتبه الإنجيليون عن يوحنا يمكن تلخيصه في كلمتين: نصرة بالروح، وقوَّة بالروح، وطاعة بلا لوم، وهذه هي العلامة السريَّة لكل ممتلئ بالروح القدس!! إن حياة يوحنا الداخلية وسيرته طابقت متطلبات الشهادة للمسيح تطابقاً فائق الدقة والوصف، لذلك جاءت شهادته بيقين فائق شهد لها الإنجيل!! «يوحنا شهد له.» (يو 1: 15) إن الشهادة للمسيح، لكي ترتفع إلى درجة اليقينية كيقينية شهادة المعمدان تحتاج إلى متطلبات عميقة داخلية مقدَّسة يستحيل استيفاؤها إلا بالملء من الروح القدس!! هذا هو يوحنا المعمدان والمسيح المنحني تحت يده، وهذا هو عيد الغطاس الأول بأعماقه وجذوره الضاربة في أساس الكنيسة وميراثها من جهة الشهادة للمسيح عن رؤيا واستعلان وامتلاء بالروح: «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله». رؤيتنا وشهادتنا: والآن نقلة ختامية من الأردن ويوحنا والمسيح المنحني تحت يد المعمدان إلى واقعنا الكنسي والفردي: أين عيد الغطاس منا؟ ما هي رؤيتنا؟ وما هي شهادتنا؟ نحن لا نتكلَّم عن الرؤى والأحلام، لأن الحكم فيها وعليها من أصعب الأمور بسبب عوامل التزييف الذي يقوم به اللاشعور في تصوير المناظر والأحلام حسب هوى الذات المريضة، هذا بالإضافة إلى عدم نفعها لا بالكثير ولا بالقليل من حيث تغيير السلوك. ولكننا نتكلَّم من جهة رؤيا القلب في يقين الوعي والإرادة، أي النظر الروحي الواعي والدائم للتعرُّف على شخص المسيح كمخلِّص وكفادٍ، في تأمل، في صلاة، في مناجاة، في حب لا تشوبه المنافع الشخصية، أو التنافس، أو الحسد والغرور، أو طلب المجد والمديح والظهور. ثم هل سماؤنا مفتوحة؟ أو بمعنى آخر هل حصولنا على العون الإلهي من الأعالي هو طلبنا الأول والأخير وهو إلحاحنا الذي ننام فيه ونستيقظ به؟ «رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب الذي صنع السماء والأرض.» (مز 120: 1 و2)إن كان هذا رجاؤنا وإلحاحنا وشوقنا وقلقنا، فالروح القدس يسبق ويمهِّد ويُعدُّ القلوب والرؤوس، لأنه لا ينسكب إلا على الرؤوس المنحنية والقلوب التي برَّح بها الحنين، رؤساء ومرؤوسين، فيفك العقول والقلوب من أسر الذات، ويطلق الألسنة من سجن الخطية، يطلقها بالتسبيح والتهليل والشهادة للمسيح بملء الفم والقلب وصحو العقل واليقين وقوة لا تعاند، والعلامة دائماً أبداً أن «المساكين يُبشَّرون.» (لو 7: 22)وإن السماء التي انفتحت لعين المعمدان وقلبه، وسماع صوت الآب، ورؤية الروح القدس نازلاً، بنوع من الاستثناء الذي تجاوز كل خبرات الماضي بكل أمجادها، قد صار هذا لنا حقًّا مشروعاً وميراثاً دائماً، ضمنه المسيح بوعد ثابت لا يمكن الرجوع فيه: «من الآن ترون السماء مفتوحة» (يو 1: 51) وهذا هو تحقيقها: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله» (أع 7: 56). ولماذا كان لنا نحن أيضاً هذا الوعد الذي تحقَّق لإستفانوس الشهيد بالعيان، ولماذا هذا الامتياز الفائق بهذه الرؤيا الدائمة: «من الآن»، إلا لكي نرى ما رأى يوحنا فتدخل شهادتنا منطقة اليقين! «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»!
المزيد
09 يناير 2021

تأملات روحية «والكلمة صار جسداً» ج3

يا لعظمة سر التجسُّد وميلاد المُخلِّص: في ذكصـولوجيـة عيـد الميـلاد المجيـد التي تُنشدها الكنيسة بفرحٍ وتهليل، نُرنِّم قائلين: [حينئذ امتلأ فمنـا فرحـاً ولساننـا تهليلاً، لأن ربنا يسوع المسيح وُلِدَ في بيت لحم... السلام لمدينة إلهنا، مدينـة الأحياء، مسكن الصدِّيقين، التي هي أورشليم. السلام لـكِ يـا بيت لحـم مدينـة الأنبياء الذين تنبَّأوا عن ميلاد عمانوئيل. اليوم أشرق لنا نحن أيضاً النور الحقيقي مـن مـريم العذراء، العروس النقيَّة. مريم وَلَـدَت مُخلِّصنا مُحـب البشـر الصالح، في بيت لحم اليهوديـة كـأقوال الأنبيـاء... هـا السموات تفرح، والأرض تتهلَّل لأنها (أي العذراء مريم) وَلَدَت لنا عمانوئيل نحن معشر المسيحيين]. + والقديس غريغوريـوس الناطق بالإلهيات في عظته عن: ”الثيئوفانيا - ميلاد المسيح“ يُردِّد بتهليل قائلاً: [كلمة الله ذاتـه، الأبدي الذي هـو قبل كل الدهور، وهو غير المنظور، غير المفحوص، وغير الجسدي، البدء الذي مـن البدء، النور الذي مـن النور، مصـدر الحياة والخلـود، صـورة الجمال الأصلي الأول، الخَتْم الـذي لا يزول، الصورة التي لا تتغيَّر، كلمة الآب وإعلانه؛ هذا أتى إلى صورتـه، وأَخَذَ جسداً لأجل جسدنـا، ووحَّد ذاته بنفسٍ عاقلة لأجل نفسي لكي يُطهِّر الشَّبَه بواسطه شَبَهه، وصار إنساناً مثلنا في كلِّ شيء مـا عدا الخطية، إذ وُلِدَ من العذراء التي طُهِّرَت أولاً نفساً وجسداً بالروح القدس. وهكذا حتى بعد أن اتَّخذ جسداً ظـلَّ إلهاً، إذ هـو شخصٌ واحد من الاثنين (لاهوت وناسوت). يا له مـن اتِّحادٍ عجيب، الكائن بذاته يأتي إلى الوجـود، غير المخلوق (كـإله) يُخلَق (أي يتَّحد بناسـوت خَلَقَه هـو بـالروح القدس في أحشاء العذراء)، غير المُحوَى يُحوَى بواسطة نفسٍ عـاقلة تتوسَّـط بـين الأُلوهـة والجسد المادي. ذاك الذي يمنح الغِنَى يصير فقيراً، فقد أَخَذَ على نفسه فقر جسدي، لكى آخُذ أنـا غِنَى لاهوته. ذاك الذي هو الملء يُخلي نفسه، لأنه أخلى نفسه من مجده لفترةٍ قصيرة ليكون لي نصيبٌ في مِلْئه. أيُّ صلاحٍ هذا! وأيُّ سرٍّ يُحيط بي! اشتَرَكتُ في الصورة (عندما خلقني على صورته)، ولم أَصُنْها؛ فاشْتَرَكَ (هو) في جسدي لكي يُخلِّص الصورة (التي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط)، ولكي يجعـل الجسد (المائت) عديم الموت... هـذا العمل الأخير (أي تجسُّـد كلمة الله) يليق بـالله أكثر مـن الأول (أي الخلق)، وهو سامٍ جداً في نظر الفاهمين]. «وُلِدَ لكم اليوم... مُخلِّص هو المسيح الرب»: في بشارة مـلاك الرب للـرعاة، يقـول لهم: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو 2: 11،10). وما نُركِّز عليه في هـذه الآيـة هـو قـول الملاك: «... أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ... مُخَلِّصٌ». فقد وُلِدَ لنا المُخلِّص المسيح الرب لكـلِّ واحـدٍٍ منَّا شخصياً. فقد وُلِدَ المُخلِّص لأجل خلاص كلِّ واحدٍ فواحد، لكلِّ مَن يؤمن بـه ويقبله مُخلِّصاً له. هكذا يكون ميلاد المخلِّص، وهكـذا تُردِّد الكنيسة كما ذَكَرنا في ذكصولوجية الميـلاد: ”وَلَدَت (العذراء) لنا عمانوئيل نحن معشر المسيحيين“. وفي نبوَّة إشعياء النبي يقول: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَـدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُـونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ: عَجِيباً مُشِيراً، إِلهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ» (إش 9: 6). وتُنشد الكنيسة في لحـن ”Xere ne Maria“ قائلة: ”السلام لكِ يا مريم الحمامة الحسنة، التي وَلَدَت لنا الله الكلمة“. وكذلك تقول الكنيسة في لحن التوزيع ”Piwik `nte `pwn'“: ”خبز الحياة الذي نزل لنا من السماء، وَهَبَ الحياةَ للعالم“. + ويقول القديس كيرلس الكبير: [... إنَّ الربَّ - رغم أنه هو الله - ظهر لنا. ورغم أنه في صورة الآب، هو ذو تفوُّق فائق وشامل، فقد أَخَذَ شكل عبد. ولكن، رغم هذا، فإنه هو إلهٌ وربٌّ، فهو لم يَزَل كما كان (إلهاً قبل أن يتجسَّد)](1). كلمة الله وُلِد كإنسانٍ من العذراء مريم: للمسيح ميلادان: فهو لكونه كلمة الله وابن الله الوحيد فله ميلادٌ أزلي قبل كل الدهور من الآب: «فِي الْبَدْءِ (منذ الأزل) كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ» (يو 1: 2،1)؛ ولأنه تنازَل وأتى إلى عالمنا الساقط لكي يُخلِّصه ويَهَبه الحياة الأبدية، فقد وُلِدَ ميلاداً زمنياً مـن العذراء القديسة مريم: «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غل 4: 5،4) + ويقـول القديس كيرلس الكبير في هـذا الصدد: [الكلمة الذي من الله الآب، دُعِيَ إنساناً رغم كونـه بـالطبيعة الله، لأنـه اشترك في الدم واللحم مثلنا (عب 2: 14). وعندمـا حـدث ذلك (أي تجسَّـد) لم يفقد شيئاً مِمَّا له (أي لاهوته). وإذ أَخَـذَ طبيعة بشريـة مثلنا (أي مُماثلة لنا في كـلِّ شيء مـا خـلا الخطية وحدها) لكنها كاملة؛ (إلاَّ أنـه) ظلَّ أيضاً الله ورب الكل، لأنـه هو هكذا فعلاً، وبطبيعته، وبـالحقِّ، مـولودٌ مـن الآب (قبـل كـل الدهور) رغم تجسُّده... ورغـم أن العـذراء مريم وَلَدَت الهيكل (كلمة شائعة عند الآباء للدلالة على ناسوت المسيح) المُتَّحد بالكلمة، إلاَّ أنَّ عمانوئيل قيل عنه، وهـذا حـقٌّ: «(الربُّ) مـن السماء» (1كو 15: 47)، لأنه من فوق، ومولودٌ من جوهـر الآب. وإن كان قد نزل إلينا عندما صار إنساناً إلاَّ أنـه من فوق... ولذلك نقول إنَّ ابن الإنسان نزل من السماء، وهذا تدبير الاتِّحاد، لأن الكلمة وَهَبَ لجسده كل صفات مجده وكل ما هو فائقٌ وخاصٌ بالله](2). كلمة الله غير مخلوق، ولكن جسده مخلوق: لقـد سـقط الهراطقـة في فكـرٍٍ منحرف، واختلط عليهم الأمـر، ولم يُميِّزوا بين كلمـة الله غير المخلوق؛ وبين ناسوته الذي اتَّحد به بحسب التدبير، وهو ناسوت مخلوق. وهذا الأمر يشرحه القـديـس أثناسيوس الرسـولي في رسـالتـه ضد أبوليناريوس قائلاً: [لقـد علَّم الآباء أنَّ الابـن مساوٍ للآب في الجوهر، وأنـه ”إلهٌ حقٌّ مـن إلهٍ حقٍّ“، أي أنه كامل من كامل، ثم أضافوا مؤكِّدين: ”نزل من السماء لأجل خلاصنا، وتجسَّد وتأنَّس“. وبعد ذلك نعترف بأنه ”تألَّم وقام“. وحتى لا يُخطئ أحد إذا سمع أنَّ الكلمة تألَّم ومات، ويعتقد أن الله الكلمة قـد تغيَّر جوهـره، أكَّـد الآباء بكـلِّ وضوح، أنَّ الابن غير مُتغيِّر ولا متألِّم... أخبرونـا يـا مَـن اخـترعتم إنجيـلاً جديـداً خاصّاً بكم... مِِن أيِّ مصدرٍ أخـذتم البشارة التي تجعلكم تقولون إنَّ الجسد (الذي اتَّحد به كلمة الله) ”غير مخلوق“؟ أَلا يجعلكم هـذا تتخيَّلون أَمْرَيْن لا ثالث لهما: إمَّا أنَّ لاهوت الكلمة قد تحوَّل إلى جسدٍ، وإمَّا أنكم تعتقـدون أن تدبـير الآلام والموت والقيامة خيالٌ لم يحدث. وهـذان التصوُّران، كلاهما خطـأ؛ لأن جوهـر الثالـوث هـو وحـده غير المخلوق، والأبـدي، وغير المتألِّم وغير المُتغيِّر. أمـا المسيح حسب الجسـد (رو 9: 5)، فقد وُلِدَ مـن الناس الذيـن قيـل عنهم: ”إخوتـه“، بـل تغـيَّر (ناسوتـه وتمجَّـد) بقيامتـه فصـار بعـد قيامتـه «بـاكـورة الراقديـن» (كو 1: 18)... فكيف تُسـمُّون الناسـوت الذي تغيَّر مـن الموت إلى الحياة ”غير مخلـوق“؟ وكيف تفترضـون العكس، عندمـا تُسـمُّون غير المخلـوق (كلمة الله) بـالمُتغيِّر؟ لأنكم عندما تُسمُّون جوهر الكلمة غير المخلـوق بالمُتغيِّر، فأنتم تُجدِّفون على أُلوهيـة الكلمـة. وعندمـا تصفون الجسـد المُتغيِّر المُكـوَّن مـن عظامٍ ودمـاءٍ ونفسٍ إنسانية، أي كل مكوِّنـات أجسادنـا، والذي صار ظاهراً ومحسوساً مثل أجسادنا؛ تصفون كل هذا بأنه ”غير مخلوق“، (فإنكم) تسقطون سقوطـاً شنيعاً في خطأيـن: أولهمـا: إنكم تفترضـون أنَّ الآلام التي احتملهـا (المسيح جسديّاً) هي مجـرَّد خيـال، وهـذا تجديف المانويين؛ أو إنكم تعتَبِرون أنَّ اللاهـوت له طبيعة ظاهرة محسوسة، رغم أنه جوهرٌ غير مخلـوق، وبـالتالي فهـو غير ظاهـر ولا محسوس، وهـذا التصوُّر الأخير يضعكم مع الذين يتصوَّرون أنَّ الله كائنٌ في شكلٍ بشريٍّ جسداني (وهي بدعة تقول إنَّ الله في جوهره مثل الإنسان له أعضاء بشريـة)...](3). تجسُّد كلمة الله لم يَحدَّ من وجوده كإله في كلِّ مكان: وكما يقول بولس الرسول: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (كو 2: 9). ولكن بالرغم من تجسُّد كلمة الله، إلاَّ أنه بلاهوته كائنٌ في كلِّ مكان ولا يخلو منه مكان. وهـذا مـا يُوضِّحه القديس أثناسيوس الرسولي: [لأنـه لم يكـن محصوراً (كـإله) في الجسد - كما يتوهَّم البعض - أو أنه بسبب وجوده في الجسد كان كـل مكانٍ آخر خالياً منه، أو أنـه بينما كـان يُحرِّك الجسد كـان العالم محروماً من أفعال قدرتـه وعنايته. غير أنَّ الأمـر العجيب والمُدهش جداً هـو أنـه مع كونه هـو الكلمة الذي لا يحويه شيء، فإنه هـو نفسه يحوي كـل الأشياء. وبينما هـو موجودٌ في كل الخليقة؛ فإنه، بحسب جوهره، هو مُتميِّز عـن كل الخليقة. فهو حاضرٌ في كل الأشياء بقدرتـه فقط، ضابطاً كل الأشياء ومُظهِراً سيادتـه على كـل شيء وعنايتـه بكلِّ شيء، وواهباً الحياة لكلِّ شيء. ومـع إنه يحوي كل الأشياء ولا يحتويه شيء، إلاَّ أنه كائنٌ كلِّيةً في أبيه وحده. وهكذا حتى مـع وجوده في جسدٍ بشري، مُعطياً الحياة له، فقد كـان مـن الطبيعي أن يمنح الحياة للكون كله في نفس الوقت... لم يكُن (كلمة الله) مُقيَّداً بسبب الجسد (الذي اتَّحد به)، بل بالحري كـان يستخدم جسده. ولذلك فهو لم يوجد في الجسد فقط، بل كان موجوداً بـالفعل في كـلِّ شيء... وهـذا هو الأمر العجيب، أنه بينما كان يتصرَّف كإنسانٍ، كان ككلمة الله يُحيي كـل الأشياء، وكابنٍ كـان كائناً في أبيه. ولذلك عندما وَلَدَته العذراء، لم يَعتَرِه أي تغيُّر (من جهة لاهوته)، ولا تدنَّس بحلوله في الجسد؛ بل بالعكس فهو قد قدَّس الجسد أيضاً](4). افتقر وهو الغَنِي، لكي نستغني بفقره: لقـد أوضح القديس بـولس ولخَّص تـدبير التجسُّد في هـذه الكلمات: «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِـنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كو 8: 9). فكلمة الله هو الغََنِي بلاهوته وقدرته الإلهية، لكنه من أجلنا ومن أجل خلاصنا، سُرَّ أن يفتقر أي يُخلي ذاته من مجد لاهوتـه، ويأخـذ جسـداً وضيعاً يتَّحد بـه ويصـير في شِـبْه النـاس؛ لكي نستغني نحـن الفقراء بـالخيرات العتيدة وبـالشركـة مـع الله وبـالحياة الأبديـة بواسـطة تجسُّـد كلمـة الله. ولذلك يقول القديس يوحنا في إنجيله: «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَـا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يـو 1: 16)، ويقول أيضاً القديس بولس: «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُـوَ رَأْسُ كُـلِّ رِيَاسَـةٍ وَسُلْطَانٍ» (كو 2: 10). ويُوضِّح بطرس الرسول الغايـة النهائية مـن تجسُّد ابـن الله، بـأن نصـير: «شُرَكَـاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ» (2بط 1: 4). وفي الختام، نذكُر مرد إنجيل باكر عيد الميلاد، إذ من أجلنا: ”غيرُ المُتجسِّد تجسَّد، والكلمةُ تجسَّم. غيرُ المُبتدئ ابتدأ، غير الزمني صار زمنياً“. (1) ”تفسير إنجيل لوقا“، الأصحاح الثاني، العظة الثانية. (2) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 4. (3) ”ضد أبوليناريوس“: 3. (4) ”تجسُّد الكلمة“، 17: 5،4،1.
المزيد
05 يناير 2021

«والكلمة صار جسداً» (يو 1: 14)

كلمة الله ربنا يسوع المسيح:- نَعْلَم أن الله خَلَقَ الإنسان على صورتـه ومثاله، وأعطاه شـركة في قوة كلمته الحيَّة، ووهبه نعمة الروح القدس عندمـا نفخ في أنفه نسمة الحياة، هذه النعمة التي تُهيِّئ الإنسان للشركة مع الله والتمتُّع بالحياة الأبديـة معه. ولكـن عندما تعدَّى الإنسان وصية الله، سقط مـن النعمة، وتعرَّى من الروح القدس الحافظ له والذي يطبع صورة الله في كيانه البشري؛ وبـالتالي سـاد عليـه الفسـاد والموت، وتشوَّهت صورة الله التي خُلِقَ عليها ولكن الله، مـن قِبَل صلاحـه ومحبته لنا، لم يترك خليقته تهلك هكـذا ويسـود عليها الموت. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي[من غير اللائق أن تهلك الخليقة وترجع إلى العدم بالفساد، تلك الخليقة (ويقصد ”البشر“) التي خُلِقَت عاقلة، وكان لها شركة في الكلمة. وأيضاً لأنه سيكون مـن غير اللائـق بصلاح الله أن تَفْنَى خليقتـه بسبب غوايـة الشيطان للبشـر. ومـن ناحيةٍ أخرى، كـان سيصبح مـن غير اللائق على الإطلاق أن تتلاشى صنعة الله بيـد البشـر، إمـا بسبب إهمالهم أو بسبب غوايـة الشياطين. فطالما طـال الفسـاد الخليقة العاقلة، وكـانت صنعة الله في طريقها إلى الفناء، فما الـذي كـان يجب على الله الصالح أن يفعله؟ أيـترك الفسـاد يُسيطر على البشر، والمـوت ليسود عليهم؟ وما المنفعة، إذن، من خِلْقتهم منذ البدء؟ لأنـه كـان أفضل، بالحري، ألاَّ يُخلَقوا بـالمرَّة مـن أن يُخلقـوا وبعد ذلـك يُهمَلوا ويَفْنَوا... كان يجب، إذن، أن لا يُترَك البشر لينقادوا للفساد، لأن هـذا يُعتَبَر عملاً غير لائق ويتعارَض مع صلاح الله](1).وبسبب التعدِّي والسقوط تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان، وانطمست ملامحها في كيانه البشري، دون أن يفقدها؛ ولكنه فَقَد النعمة الإلهية التي تؤهِّله للبلوغ إلى مثـال أو كمـال الصورة الإلهية التي طبعها الروح القدس فيه.ولا يمكـن للإنسان أن يستعيد بنفسـه بهاء الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها، لأنه ليس هـو صورة الله. ولا يمكن لخليقةٍ أخرى أو ملائكة أن تُجدِّد صورة الله التي انطمست في الإنسان، لأنهم ليسوا صُوَراً لله. لذلك، بحسب عِلْم الله السابق ومعرفته الأزلية، جاء كلمة الله نفسه، الذي هو صورة الله الأزلية، والذي بـه خُلِقَت كل الخليقة؛ جـاء ليُجدِّد الصـورة التي جُبِـلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط. + ويوضِّح هـذا الأمـر القديس أثناسيوس الرسولي بقوله[وكما أنـه لـو كـانت هناك صورة لشخصٍ مرسومة على قماش مُثبَّت على لوحـةٍ خشبية، وتلطَّخت هـذه الصورة مـن الخارج بالأقذار، ما أدَّى إلى اختفاء ملامحها؛ ففي هذه الحالة لابد مـن حضور صاحب الصورة نفسها ثانيةً لكي يمكن إعـادة تجديـد الصورة على نفس قماش اللوحة. فلا يُلقي بالقماش، لأن صورته رُسِمَت عليه، بل يُجدِّد الرسم عليه مرَّةً أخرى.وعلى هذا النحو، فقد أتى إلى عالمنا كُلِّي القداسة ابـن الآب، إذ هو صورة الآب، لكي يُجدِّد الإنسان الذي خُلِقَ مرَّة على صورتـه، ويُخلِّص مَن قد هلك بمغفرة الخطايا...](2). كلمة الله أخلى ذاته من مجد الأُلوهة:- لقد تواضَع كلمة الله ونزل إلى عالمنا الفاسد لكي يُخلِّص جنس البشر، ويُعيد إليهم ما فقدوه من نعمـة إلهية، ويُجـدِّد فيهم الصورة الإلهية التي تشوَّهت. ولكنه لكي يصير إنساناً كان لابد له أن يُخلي نفسه من بهاء ومجد لاهوته، دون أن يُفرغ نفسه مـن لاهوتـه. وكما يقول بولس الرسول: «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (في 2: 6-8). + وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس الكبير[إنَّ الله الكلمة بطبيعته كامل مـن كل الوجوه، ومِن مِلْئه يُوزِّع عطاياه للخلائق. ونحن نقول عنه إنه ”أفرغ ذاته“ دون أن يمسَّ هذا بطبيعته (الإلهية)، لأنه عندما أفرغ (أخلى) ذاته لم يتغيِّر إلى طبيعةٍ أخرى، ولم يصبح أقل مِمَّا كان عليه، لأنه لم ينقص شيئاً. هـو غير مُتغيِّر مثل الذي ولـده (الآب)، ومثله تمامـاً غير عُرضة للأهواء. ولكن عندمـا صار جسداً أي إنسانـاً، جعل فقـر الطبيعة الإنسانية فقـره، ولذا قال: «سأسكب مـن روحي على كـلِّ جسد» (يوئيل 2: 28)](3). كلمة الله صار جسداً (أي إنساناً) مع بقائه إلهاً كما كان منذ الأزل:- في رسالتـه الأولى ضد الآريـوسيين، أراد القديس أثناسيوس الرسولي أن يوضِّح أن كلمة الله مـن حيث لاهوته هو غير مُتغيِّر، إذ يقول[إن كـان الكلمة مُتغيِّراً وقابلاً للتحوُّل، ففي أيَّة نقطـة، إذن، سيتوقَّف (عـن التغيير)؟ ومـاذا ستكون نهاية عملية تطوُّره هذه؟... لأنه كيف لا يكون كاملاً هذا الذي هو مساوٍ لله؟ أو كيف لا يكون غير مُتغيِّر هـذا الذي هـو واحد مع الآب، وهو نفسه ابنه مـن ذات جوهره؟ ولأن جوهـر الآب غير مُتغيِّر، فبالضرورة يكـون مولوده الذاتي أيضاً غير متغيِّر](4) أمَّـا في تنازُله وتجسُّده، فكلمة الله لم يفقد شيئاً من لاهوته المساوي للآب في الجوهر، ولم يتحوَّل بالتالي لاهوته إلى جسدٍ؛ بل صار كلمة الله جسداً مع بقائه إلهاً بسـرٍّ لا يُنطَق بـه. وهذا ما نُردِّده في التسبحة اليومية، وخـاصةً مـرد ثيئوطـوكية يوم الخميس: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابـن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“.ويشـرح القديس أثناسيوس الرسولي كيف صار الكلمة جسداً، قائلاً[(لقد) صـار الجسد (الذي اتَّحد به كلمة الله) هـو جسد الإله، ليس كمساوٍ له في الجوهر، لأنه ليس أزليّاً مع الكلمة؛ وإنما ”صار“ معه بالطبيعة جسده، دون أن ينفصل عن اللاهوت بسبب قوَّة الاتِّحاد. وظلَّ جسداً من نسل داود وإبراهيم وآدم الذيـن تناسلنا منهم جميعاً. ولـو كـان الجسد مُساويـاً لجوهر الكلمة وأزليّاً معه... لأصبحت كـل الخلائـق السماويـة مساوية في جوهر الله خالق كـل الأشياء... إنَّ المساوي في الجوهـر لـه في الحقيقة ذات صفات الجوهـر، أي أنـه غير مُتغيِّر وغير قابـل للموت. وهنا لا يجوز الكلام عـن الاتِّحاد مـا دام الناسوت مساوياً في الجوهر لأقنوم الكلمـة، بـل لا يبقـى مجـالٌ للاتِّحاد الأقنومي](5). لاهوته لم يُفارق ناسوته:- يشرح القديس كيرلس الكبير اتِّحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح الواحد، قائلاً[عندما نقول إنَا كلمة الله اتَّحد بطبيعتنا، فإنَّ كيفية هـذا الاتحاد هي فـوق فَهم البشر... فهو اتِّحادٌ لا يوصَف وغير معروف لأيٍّ من الناس سوى الله وحده الذي يعرف كل شيء... لكن إذا طُلِبَ منَّا أن نُحدِّد كيفية اتِّحاد اللاهوت بالناسوت، وهـو أمرٌ يفوق كل فَهم بل صعبٌ جداً! نقول: إنه من اللائق أن نعتقد أنَّ اتِّحاد اللاهوت بالناسوت في عمانوئيل، هو مثل اتِّحاد نفس الإنسان بجسده... فإذا ضُرِبَ الجسد أو جُرِحَ بالحديد مثلاً، فإنَّ النفس تحزن مع جسدها، ولكن بطبيعتها لا تتألَّم بالآلام المادية التي تقع على الجسد ويمكننا أن نرى أيضاً الجمرة مثالاً لكلمة الله المُتَّحد بالطبيعة البشرية دون أن يفقد خواصه؛ بل حـوَّل مـا أخذه (أي الطبيعة البشريـة) وجعله متَّحداً به، بـل بمجده وبعمله. لأن النار عندمـا تتصل بالخشب تستحوذ عليه، لكن الخشب يظلُّ خشباً، فقط يتغيَّر إلى شكل النار وقـوَّتها، بـل يصبح له صفات النار وطاقتها، ويُعتَبَر واحـداً معهـا. هكـذا أيضاً يجب أن يكـون اعتقادنـا في المسيح، لأن الله اتَّحـد بـالإنسانية بطريقـةٍ لا يُنطَق بها، ولكنـه أَبقى على خواص الناسوت على النحـو الذي نعرفـه، وهـو نفسـه لم يفقد خواص اللاهوت عندمـا اتَّحد بـه (بالناسوت)، بـل جعلـه واحـداً معـه، وجعـل خـواص (الناسوت) خواصه، بل هو نفسه قام بكل أعمال اللاهوت فيه (أي في الناسوت)](6). كلمة الله صار إنساناً كاملاً:- لقـد سـقط أبوليناريـوس أسقف اللاذقيـة في سوريـا (من 372-392م) هـو نفسه في الهرطقةٍ عندما هاجَمَ هرطقة آريـوس الذي كـان يُشيع أنَّ الرب يسوع هو بِكْر خليقة الله، وبالتالي فهو مجازاً إلهٌ ثانوي، خَلَقه الله لكي يخلق بـه كـل الكائنات؛ ولذلك فإنـه مـن جوهر مختلف عـن جوهر الله، وبالتالي فهـو غير مسـاوٍ للآب في الجوهـر. أمَّا أبوليناريوس فهـو يَعتَبِر أنَّ لاهوت ابن الله حلَّ محل النفس البشريـة في الناسوت الذي اتَّحد بـه، وبالتالي فكلمـة الله اتَّحـد بطبيعـة بشريـة ناقصـة. وقـد نَسِيَ مـا حـدَّده آبـاء الكنيسـة، ومنهـم القديس غريغوريوس اللاهوتي القائل: ”ما لم يتَّحد بـه الرب عندما تجسَّد هـو مـا بَقِيَ بدون شفاء، أمَّا ما اتَّحد بأُلوهيته فقد خَلَص. إذا كان نصف كيان آدم فقط (أي الجسد) قد سقط، فإنَّ ما اتَّحد به الرب هو نصف آدم، وبالتالي خَلَص هذا النصف“(7) فـالخلاص تحقَّق باتِّحاد لاهـوت ربنا يسوع المسيح بكلِّ مُكوِّنات الناسوت، فكلُّ ما اتَّحد به كلمة الله نـال الخلاص، وما لم يتَّحد به كلمة الله لم يَنَل الخلاص، بل يبقى في الموت. ولذلك يُكمِل القديس غريغوريوس اللاهوتي كلامه قائلاً[لقد حُكِمَ على عقلنا، وهذا يعني أنه قد حُكِمَ على جسدنا أيضاً. فإذا كان الرب قـد اتَّحد بما هو وضيع (أي الجسد) لكي يُقدِّسه، فهل لا يتَّحد بما هـو سـامٍ (أي النفس البشرية) لقد سقط آدم بعقله أولاً، ولذلك كـان على المسيح أن يأخذ عقلاً إنسانياً لكي يُقدِّس العقل الإنساني](8) لقد اتَّحد كلمة الله بكلِّ الكيان الإنساني، نفساً وجسداً، وبـذلك نـال الإنسان بجملته الخلاص: نفساً وجسداً. ومعنى هـذا أن كـل ثمار وقـوَّة هـذا الاتِّحاد الأقنومي بين اللاهـوت والناسوت في المسيح يسوع، تُنقَل إلى كل الكيان البشري لقـد سقط الهراطقـة في هـذا الخطأ لأنهـم يعتقدون أنَّ الشرَّ هـو جزءٌ مـن الخليقة، وأنَّ له جوهـراً وكيانـاً صنعه الله. أمَّـا آبـاء الكنيسة، فيؤكِّدون أن الشرَّ بلا جوهر وبلا كيان، بل هو من اختراع العقل البشري، وأنَّ الإنسان بطبيعته ليس شريـراً، وإنمـا يصبح شريراً إذا مارَس الخطية والشـر وحتى الطبيعة البشريـة، بعد السقوط، لم تَصِر طبيعـة شريـرة، إذ لم تُخلَق شريرة، بل هي طبيعة مريضة تحتاج إلى العلاج. ولأن من سِمات الصورة التي جُبِلَ عليها الإنسـان: العقل والإرادة والحريـة؛ فصار، إذن، كلُّ إنسان مسئولاً عـن اختياراتـه، وفي النهايـة سيتحمَّـل نتيجـة هـذه الاختيارات. فـالطبيعة البشريـة لم تتحـوَّل نتيجة السقوط إلى شـرٍّ، بـل أُدخِلَ عليها الشر، وسـاد عليها الفسـاد، وتسلَّط عليها الموت بسبب التعدِّي. ولذلك صارت مُحتاجة إلى الخلاص والحياة الأبدية وفي تفسيره لآيـة سِفْر نشيد الأنشاد: «أنـا نرجس شارون، سوسنة الأودية» (2: 1)، يُشير القديس كيرلس الكبير، في سرٍّ، إلى أنَّ الناسوت الذي اتَّحد به كلمة الله كان ناسوتاً كاملاً، قائلاً [السوسنة واحـدة مـن اثنين (الرائحة وجسم السوسنة). وغيـاب رائحـة السوسنة لا يجعلها سوسنة. وكـذلك غياب جسم السوسنة لا يُفسِّر وجـود رائحة السوسنة، لأن في جسم السوسنة رائحتها... لأنـه عندما أراد (كلمة الله) أن يُعلِن عن ذاته مـن خلال الجسد، جعل فيه (أي في الطبيعة البشرية كلها) كل ما يخص اللاهوت](9). (1) ”تجسُّد الكلمة“، 6: 4-7، 10. (2) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 2،1. (3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 5. (4) ”ضد الآريوسيين“، 10: 35. (5) ”ضد أبوليناريوس“: 13. (6) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 9،8. (7) رسالة 101. (8) رسالة 101؛ ومقالة 22: 13. (9) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 10.
المزيد
02 يناير 2021

تأملات روحية «والكلمة صار جسداً»

(يو 1: 14) خلقة الله للإنسان:- منـذ الأزل يحيـا الثالـوث القدوس: الآب والابـن والـروح القدس، في شـركة المحبة الإلهية، مكتفياً بهذه الشركـة العميقة بين أقـانيم الثالـوث القدوس في الجوهـر الإلهي الواحـد، كمُحب ومحبوب ومحبة، فجوهـره الإلهي هـو المحبة: «الله محبة» (1يو 4: 8).ولكـن الله مِـن فيـض محبتـه وعِظَـم جُـوده وصلاحه، خَلَـق الخليقة وأوجدها مـن العدم وبدون مادة موجودة سَلَفاً (كما كـان يُروِّج بعض الفلاسفة أنَّ المادة أزلية)، بل بكلمته الحيَّة، كما يقـول بـولس الرسـول: «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُـوَ ظَاهِرٌ» (عب 11: 3). ولأن الله هـو نبع الصلاح والمحبة، فقد خَلَقَ الإنسان واهباً إيَّاه نعمـة الخِلْقة على صورتـه ومثاله، مـانحاً إيَّاه الحيـاة الأبـديـة إن ظـلَّ الله في معرفـة الإنسان، طائعاً لأوامره الإلهية ووصاياه.وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي [الله صالحٌ، بل هـو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بـأيِّ شيء، وهـو لا يحسد أحداً حتى على الوجود. ولذلك خَلَقَ كلَّ الأشياء مـن العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا. وبنوعٍ خـاص تحنَّن على جنس البشر. ولأنـه رأى عـدم قُدرة الإنسـان أن يبقى دائماً على الحالة التي خُلِقَ عليها، أعطاه نعمةً إضافية، فلم يكتفِ بخَلْق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض؛ بـل خلقهـم على صـورتـه، وأعطاهم شركة في قوة كلمته، حتى يستطيعوا - بطريقةٍ ما، ولهم بعضٌ مـن ظِلِّ الكلمة، وقـد صاروا عُقـلاء - أن يبقـوا في سـعادةٍ ويَحْيَوْا الحيـاة الحقيقيـة، حيـاة القدِّيسين في الفردوس](1). سقوط الإنسان:- ولأن الله خَلَق الإنسـان على صورته ومثاله، ومِـن سـمات هـذه الصـورة العقل والحريـة والإرادة، دون سائر المخلوقـات الأرضية؛ أصبح الإنسان حُرّاً في اختياراته. فإن استمرَّ في طاعة الله وحِفْـظ وصايـاه سيَنْعَم بـالشركـة مـع الله، وسيصل حتماً ليكون على مثال الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها؛ ولكن إن خالَفَ وصايـا الله، ولم يكُن الله هـو مركـز حياتـه، بل ذاتـه وأنانيته هما محـور حياتـه، فحينئذ سيسقط مـن النعمة التي وُهِبَت له، وتُنزَع منه هـذه النعمة الإلهية الحافظـة له، ويُهيمن عليه الفساد، ويسود عليه الموت مع أنه خُلِقَ في البداية ليحيا: «إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَلاَ هَلاَكُ الأَحْيَاءِ يَسُرُّهُ. لأَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْجَمِيعَ لِلْبَقَاءِ؛ فَمَوَالِيدُ الْعَالَمِ إِنَّمَا كُوِّنَتْ مُعَافَاةً، وَلَيْسَ فِيهَا سُمٌّ مُهْلِكٌ، وَلاَ وِلاَيَـةَ لِلْجَحِيمِ عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ الْبِرَّ خَالـِدٌ. لكِـنَّ الْمُنَافِقِينَ هُـمُ اسْتَدْعَوُا الْمَـوْتَ بـِأَيْدِيهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ» (حكمة 1: 13-16) وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي[(لقد) خَلَقَ الله الإنسانَ، وكـان قصده أن يبقى في عدم فساد. أمَّا البشر، فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكَّـروا في الشـرِّ وابتدعـوه لأنفسهم فقـد حُكِمَ عليهم بحُكْم الموت الذي سبق إنذارهم بـه. ومِن ذلك الحين لم يبقوا بعد كما خُلِقوا، بـل إنَّ أفكارهم قادتهم إلى الفساد، ومَلَكَ عليهـم المـوت؛ لأن تعـدِّي الوصيـة أعـادهم إلى حـالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجِـدوا مِـن العـدم، هكـذا أيضاً بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن](2) ولكـن القديس كيرلس الكبير يُصـرِّح أنَّ ما فَقَدَه الإنسان نتيجة لسقوطه، هـو الروح القدس عينه، ذلك الذي نَفَخَه الله في أنف آدم عندما خَلَقَه على صورتـه ومثالـه، وبـالتالي صـار الإنسان مُعرَّضاً لكلِّ عوامل الفساد والموت، فيقول[(لقـد) فـارَقَ الـروح القـدس الطبيعـة البشريـة التي صـارت مريضـة في كـلِّ البشر، ولكي تعـود الطبيعة البشريـة مـن جديـد إلى حالتها الأولى (التي خُلِقَـت عليها)، احتاجت إلى رحمة الله، لكي تُحسَـب بموجـب رحمة الله مُستحقَّة الروح القدس](3). هل التوبة وحدها تكفي لعودة الإنسان إلى حالته الأولى؟ إن الفساد الذي حـلَّ بالإنسان نتيجة للسقوط، وسيادة المـوت عليـه، قـد هيمَن على الكيـان البشري ككلٍّ. فقد تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان - ولم يفقدها - لكنه فَقَـدَ القدرة على مُشابهـة هـذه الصـورة الإلهيـة، وذلك بتَعَـرِّيـه مـن الـروح القـدس. فـأصبحت مجـرَّد التوبة، لا تكفي لعودة الكيان البشري إلى ما كـان عليه قبل السقوط، وبالتالي عـدم قدرة الإنسـان على اقتناء الروح القدس الذي فَقَده.ويُوضِّح القديس أثناسيوس الرسولي هذا الأمر بقوله [لكن التوبة تعجز عن حِفْظ أمانة الله، لأنه لن يكون الله صادقاً إنْ لم يظلَّ الإنسان في قبضة الموت (لأنـه تعدَّى فحُكِمَ عليه بـالموت كقول الله)، ولا تقـدر التوبـة أن تُغـيِّر طبيعـة الإنسان، بل كـل ما تستطيعه هـو أن تمنعهم عن أعمال الخطية. فلو كان تعدِّي الإنسان مجرَّد عملٍ خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أمَّا الآن بعد أن حـدث التعدِّي، فقد تورَّط البشر في ذلك الفساد الذي كان هـو طبيعتهم، ونُزِعَت منهم نعمة مُمَاثلة صورة الله](4) ولكن، ليست التوبة فقط هي التي لا يمكن أن تُجدِّد كيـان الإنسان الذي تشوَّه بـالتعدِّي، ولكن ”بعـد أن خَلَق الله الإنسـان، وصـار موجـوداً، استدعت الضرورة علاج ما هـو موجود (فعلاً)، وليس مـا هـو غير موجود“. وأيضاً لا يمكن لأيَّة خليقة أخرى أن تكـون لديها القدرة على تجديـد خِلْقة الإنسـان على مثال الصورة التي جُبِلَ عليها. فـالإنسان مخلوقٌ على مثال تلك الصورة الإلهية، وليس هو الصورة عينها؛ كما أنَّ أيَّة خليقـة أخرى ليست هي صورة الله التي على مثالها خُلِقَ الإنسان. هل يمكن تجديد كيان الإنسان بأَمرٍ إلهي؟ ويستطرد القديس أثناسيوس الرسولي في توضيح هذه النقاط قائلاً[في البدء لم يكـن شيءٌ موجوداً بالمرَّة. فكلُّ مـا كـان مطلوبـاً هـو مجرَّد نُطق مـع إرادة (إلهيـة) لإتمـام الخَلْق. ولكـن بعـد أن خُلِـقَ الإنسـان، واستدعت الضـرورة عـلاج ما هو موجودٌ، وليس مـا هـو غير موجود؛ عندئذٍ كـان مـن الطبيعي أن يَظهر الطـبيب والمُخلِّـص فيمـا هـو موجـودٌ، لكي يشفي الخلائق الموجودة (فعلاً) ثم ينبغي أن يُعرَف هذا أيضاً، أنَّ الفساد الذي جرى (للطبيعة البشرية)، لم يكن خارج الجسد، بل كان مُلتصِقاً بـه. وكـان الأمر يحتـاج إلى أن تلتصـق بـه الحيـاة بـدلاً مـن الفسـاد، حتى كما صـار المـوت في الجسـد، تصـير الحياة في داخـل الجسـد أيضاً](5). وهل يمكن لأيَّة خليقة أخرى أن تُجدِّد كيان الإنسان؟ وفي مَثَلٍ واقعي يسرد القديس أثناسيوس الرسولي هذه القصة التي توضِّح مَقْصده [أيُّ مَلِكٍ، وهو مجرَّد إنسان بشري، إذا امتلك لنفسه بـلاداً، (فهل) يترك مواطنيه لآخريـن يستعبدونهم؟ وهـو لا يَدَعهم يلتجئون لغيره؛ لكنه يُنذرهم برسائله، ثم يُرسل إليهم أصدقاءه مـراراً، وإنْ اقتضـى الأَمـر يذهـب إليهم بشخصه، لكي يوبِّخهم بحضوره، كآخر وسيلة يلجأ إليها. وكـلُّ ذلك لكي لا يصيروا خُدَّاماً لغيره فيذهب عمله هباءً أَفـلا يُشفق الله بـالأَوْلَى على خليقته، كي لا تضلَّ عنه وتعبد الأشياء التي لا وجود لها، وبالأكثر عندما يَظهر أنَّ هذه الضلالة هي سبب هلاكهم وخرابهم؟! وليس لائقاً أن يهلك هؤلاء الذين قد كانوا مرَّةً شركاء في صورة الله إذن، فما هـو الذي كـان مُمكناً أن يفعله الله؟ وماذا كـان يمكن أن يتمَّ سوى تجديـد الخليقـة التي وُجِـدَت على صـورة الله مـرَّةً أخرى ولكن كيف كـان مُمكناً لهـذا الأمـر أن يحدث إلاَّ بحضور نفس صورة الله، مُخلِّصنا يسوع المسيح؟ فذلك الأمر كـان مُستحيلاً أن يتمَّ بواسطة البشر، لأنهم هُم أيضاً خُلِقوا على مثال تـلك الصـورة (وليسوا هـم الصورة عينـها)؛ ولا أيضـاً بـواسـطة الملائكـة، لأنهـم ليسـوا صُوَراً (لله). ولهذا أتى كلمة الله بذاتـه، لكـي يستطيع، وهـو صـورة الآب، أن يُجدِّد خِلْقـة الإنسـان، على مثال الصورة (الإلهية)](6) ضرورة تجسُّد كلمة الله ذاته رأينا أنه لا توجد وسيلة واحدة تستطيع أن تُحقِّق خلاص الإنسان، وتُجدِّد صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط، كمـا يقول القديس أثناسيوس: ”لـو كانت الخليقة كافية، لما حدثت كـل هـذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عـن الله“. ويستطرد قائلاً: ”لقد سبق وأن أعطى الله البشر إمكانية أن يعرفوه عن طريق أعمال الخليقة. أمَّـا الآن، وبعد السقوط، فإنَّ هـذه الوسيلة لم تَعُد مضمونة، وبالتأكيد هي غير مضمونـة، لأن البشر أهملوهـا سابقاً؛ بـل إنهم مـا عـادوا يرفعون أعينهم إلى فوق، بـل صاروا يشخصون إلى أسفل“(7).فبسبب عدم نفع كل هـذه الوسائل، وأيضاً بسبب أن تجسُّد كلمة الله كان في فكر الله من قبل تأسيس العالم وخِلْقة الإنسان، لذلك يقول القديس كيرلس الكبير[صار الابـن الوحيد كلمة الله إنسانـاً، وظهر للذين على الأرض بجسدٍ مـن الأرض، ولكنه خـالٍ مـن الخطية، حتى فيـه وحـده تُتـوَّج الطبيعـة البشريـة بمجد عدم الخطية، وتغتني بـالروح القـدس، وتتجـدَّد بـالعودة إلى الله بالقداسة. وكما قلتُ، فـإن الطبيعة البشرية قد مُجِّـدَت فيه، وصارت فيـه مُستحقَّة للحصول على الروح القدس الذي لن يفارقها (فيما بعد) كما حدث في البدء، بـل صارت مسرَّتـه (أي الـروح القدس) أن يسـكن فينا. لـذلك أيضاً كُتِبَ أنَّ الـروح القدس حـلَّ على المسيح واستقرَّ عليه (يو 1: 32). فالمسيح هو كلمة الله الذي لأجلنا صـار مثلنا، وفي صـورة العبد، ومُسِحَ كـإنسانٍ حسـب الجسد، ولكنـه كـإله يَمْسَح بروحه الذين يؤمنون به](8)فلا يمكن أن تتجدَّد صورة الله التي تشوَّهت في الإنسان، إلاَّ بواسطة كلمـة الله نفسـه الذي جَبَل الإنسـان على مثـال هـذه الصورة. ولا يمكن أن يُغلَب الموت الذي تغلغل داخـل الكيان الإنساني إلاَّ بواسطـة مَـن هـو الحيـاة عينها، أي كلمة الله، فتتواجَه الحياة مع الموت السائد على الإنسان داخل الطبيعة البشريـة نفسها، والتي اتَّحد بها كلمة الله وشابهنا في كلِّ شيء ما خلا الخطية وحدها. ولكن كما نقول في مَرَد ثيئوطوكية الخميس من التسبحة اليوميـة: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“ويقول القديس أثناسيوس الرسولي[لقـد تحدَّثنا، إذن، وبـاختصار... عـن سبب ظهوره (أي ظهور كلمة الله) في الجسد، وأنه لم يكُن مُمكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم الفساد إلاَّ المُخلِّص نفسه، الذي خَلَقَ منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكُن مُمكناً أن يُعيد خَلْقَ البشر ليكونوا على صورة الله إلاَّ هـو صورة الآب. ولم يكُن مُمكناً أن يجعل الإنسان غير مائتٍ إلاَّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها](9). (1) ”تجسُّد الكلمة“، 3: 3. (2) ”تجسُّد الكلمة“، 4: 4. (3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1. (4) ”تجسُّد الكلمة“، 7: 4،3. (5) ”تجسُّد الكلمة“، 44: 4،2. (6) ”تجسُّد الكلمة“، 13: 5-7. (7) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 7،5. (8) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1. (9) ”تجسُّد الكلمة“، 20: 1.
المزيد
01 يناير 2021

شخصيات من الكتاب المقدس داود النبى

"..وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي" أع 13: 22 مقدمة يقول بروفسور بليكي: الناس دائماً واحد في واحد، وأما داود فمجموعة واحدة، إذ قد جمع في شخصيته العظيمة أشتاتاً متعددة من الشخصيات، فهو كأخنوخ في السير مع الله، وكإبراهيم في إيمانه القوي، وكإسحق في تأمله العميق، وكيعقوب في كفاحه ونضاله، وكموسى في التهاب وطنيته، وكيشوع في خياله وهمته، وكجدعون في شجاعته وقوته، وكصموئيل في عدالته وغيرته، كان نبياً، وكان شاعراً، وكان مرنماً، وكان ملكاً، وكان إنساناً، كان كل هذه على حدة، وكان كل هذه مجتمعة معاً!!.. يقول هيجل الفليسوف: إن الشخصيات العظيمة تلقى علينا المزيد من المتاعب في تحليلها، للصفات المختلفة المتباينة فيها، وقد دعا مكارتني داود: "الرجل المتناقض" الذي جمع ما يشبه المتناقضات في حياته،.. وإذا كان فوسدك قد ذكر أن المسيح هو الإنسان الوحيد الكامل الذي وازن بين الكمالات الإلهية في نفسه، كاللطف والصرامة، والفرح والحزن، والغيرة والمحبة والقداسة، فلا توجد فضيلة فيه على حساب الأخرى، فإن داود ربما كان أقرب الناس إلى ابنه الأعظم، مع فارق التناقض الواسع الذي سببته الخطية في حياة الملك الإسرائيلي القديم، ومع ذلك فإن هذا الرجل هو الذي قال عنه الله: "وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع مشيئتي!! لم يكن داود معصوماً كالمسيح، ولكنه أدى دوره في الحياة، ويكفيه فخراً أن يكون من أقرب الكواكب اللامعة، إلى شمس البر، إلى ابن الإنسان، إلى ابن الله!!.. وأرجو أن تعلمنا قصته في الصواب والخطأ، كيف نتمسك بالصواب وننتصر على الخطأ، ولذا أرجو أن نراه من النواحي التالية: داود وشخصيته العظيمة اسمه داود أو "المحبوب" يعتقد أنه ولد على الأغلب في عام 1085ق.م أو نحو ذلك، وأبوه يسى البيتلحمي، وكان له سبعة من الأخوة وأختان، ومسح على الأغلب في السابعة عشرة من عمره، وصرع جليات وهو في العشرين، وملك على بيت يهوذا في الثلاثين، وعلى كل إسرائيل في السابعة والثلاثين والنصف من العمر، ومات في السبعين أو حوالي 1015ق.م على حساب بعض الشراح،... ومع أنه كان أصغر أولاد يسى، إلا أنه كان أقرب إسرائيلي إلى قلب الله،... ولعلنا ندرك هذه الحقيقة من خلال ما تميز به من صفات. داود الحلو الجميل الروح وهذه أول صفة تقابلنا مع هذه الشخصية القديمة: "وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر"... ومن المؤكد أنه إذا قورن باليآب أو أبيناداب أو شمة أو واحد من إخوته الآخرين، لربما تفوق عليه واحد في الجمال الجسدي، ولكن قياس الله يمتد إلى الداخل، ولا يقف عند منظر العينين أو طول القامة، بل يتغور إلى القلب،.. لم يكن في إسرائيل من هو أطول من شاول،.. لكن قلبه مع ذلك كان أبعد القلوب عن انتظار الله،... لكننا نأتي الآن أمام قلب بشري، كان حلواً وجميل الروح أمام الله،.. إن مأساة الإنسان في العادة أنه يقيس الأشخاص بمقاييس تختلف عن مقياس الله، فقد يقيسهم بالسن، والأكبر هو الأفضل، ولو صح هذا من الوجهة العسكرية أو السياسية، لما سمح اليونانيون للإسكندر الأكبر أن يقود جيوشهم وهو في العشرين من عمره ليغزو العالم وهو في الثلاثين، ولما قادت جان دارك الجيش الفرنسي وهي في الثامنة عشر من عمرها، ولما ظهر وليم بت في انجلترا، وهو من ألمع السياسيين في كل تاريخها الطويل!!... ولو أن القياس بالجمال الجسدي لأخرجنا الكثيرين من عباقرة الدنيا وفلاسفتها العظام، ولما أتيح لسقراط أن يرسخ فلسفة اليونانيين، ولتوماس كارليل أن يبدع بين الانجليز، ولما استطاع ملتون الأعمى أن يرسل إلينا روائع الفردوس المفقود والمردود!!.. ولو حكمنا على الناس بثرواتهم. لأخرجنا من الدائرة الصيادين تلاميذ المسيح، بل أكثر من ذلك لأخرجنا من العالم سيد الكل: "الذي لم يكن له أين يسند رأسه".. إن القياس الأعظم في الإنسان يتمشى على ضربات قلبه ووجيب مشاعره وعمق أسراره،.. مع القلب المجدد النقي الطاهر أمام الله!! متى ولد داود الولادة الجديدة؟ لا نعلم، غير أنه من المؤكد أنه عرف الله وتمتع بالميلاد الثاني قبل مسحه ملكاً،…. وأنه من الصباح الباكر في الحياة عزف بقيثارته أمام الله، أحلى الأغاني وأروع الأناشيد!!… ما أسعد أن يأتي أولادنا في صبح الحياة أمام الله كداود، وما أجمل أن يغنوا له كالعصافير المبكرة في أعشاشها، قبل أن يسمعهم العالم أغانيه ومباذله!… وإذا كانوا قد قالوا إن الرئيس إدوارد تجدد في السابعة من عمره، وأن بوليكاربوس واسحق ووتس عرفا المسيح في التاسعة من العمر، وأن متى هنري وروبرت هول جاءا إلى السيد في الحادية عشرة من العمر. فكم أتمنى أن يأتي أولادنا مع صموئيل وداود، ودانيال وتيموثاوس، ليقولوا لإلههم: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع!!.. داود الرقيق القلب وقد كان داود من أرق القلوب التي ظهرت على هذه الأرض، ويكفي أن أمامك مثلين أو ثلاثة على هذه الرقة الدقيقة العجيبة، فهو في أول شبابه وربما في السادسة عشرة من العمر، إذ ظهر فجأة أمامه دب وأسد، واختطفا شاة صغيرة من بين القطيع، وصرخت الشاة،.. ورأت الصرخة في قلب الفتى البطل، ولم يستطع تحمل صرخة الاستنجاد، ودخل الغلام في معركة الحياة والموت من أجل صرخة حيوان أعجم صغير في الواقع أني لا أعرف في الأرض من هو أرق من هذا الشخص في كل التاريخ إلا واحداً فقط قال: "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف" والفرق بين داود وابن داود في هذا الشأن واضح، لقد عرض داود حياته من أجل شاة،... وعندما عد الشعب وجاء الغضب الإلهي بالوباء ومات من إسرائيل سبعون ألفاً: "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك عليَّ وعلى بيتي"... وكشف له الله عن الذبيحة والفدية!!... وأما الآخر فقد بكى على أورشليم، ولم يقف عند هذا الحد. بل أخذني وأخذك من أنياب الأسد، ومات على الصليب من أجلي ومن أجلك!!... ورقة القلب أيضاً تراها في معاملته لشاول الذي كان يطارده، ويريد القضاء على حياته، ومع ذلك فعندما وقع شاول في يده، وقطع طرف جبته يقول الكتاب: "وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول" وقد تتعجب وتستغرب لهذا، ولكنك لو عرفت المعركة الداخلية في قلب داود، لرأيت مدى الحساسية في قلب الرجل،.. لقد شجعه الذين معه على قتله، ويبدو أن الشيطان قال له: إنه بضربة واحدة ينتهي كل شيء،.. ورفض داود فكر الشيطان،... لكن قلبه ضربه مع ذلك، على مجرد التفكير الداخلي في قتل الرجل!!.. وأية رقة أبلغ من هذه الرقة، إلا في ذاك الذي رفض أن يترك أذن ملخس عبد رئيس الكهنة مقطوعة وهم يهاجمونه يوم الصليب، وأبرأها، ومن فوق الصليب صاح: اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!! وأما الثالثة فكانت يوم أن تأوه داود، وذكر البئر القديمة- بئر بيت لحم- التي كان يشرب منها وهو غلام صغير،... وكان في حرب مع الفلسطينيين، فقال: من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب فشق ثلاثة من الأبطال محلة الفلسطينيين واستقوا ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب، وحملوه وأتوا به إلى داود، فلم يشأ داود أن يشربه بل سكبه للرب وقال: حاشا لي من قبل إلهي أن أفعل ذلك!! أأشرب دم هؤلاء الرجال بأنفسهم لأنهم إنما أتوا به بأنفسهم، ولم يشأ أن يشربه"... لم يعد أمامه ماء بل دماً، قدمه الأبطال حباً فيه، مغامرين بحياتهم،.. ونظر إليهم وإلى الماء وقال: هذا شيء رهيب إنه أقدس من أن تلمسه شفتاي،.. وسكبه سكيباً للرب!! كان أحدهم يسير مع تولستوي في الطريق، وإذا به يرى الرجل يسرع إلى جواد مريض ويحتضنه ويقبل رأسه، وقال الرجل: لقد تصورت تولستوي لا يقبل حصاناً، بل كأنما يقبل أخاه ابن أمه وأبيه،... ولكنها هي الرقة التي يرتفع إليها عظماء الناس، وقد تمكنت من داود من هامة الرأس إلى أخمص القدم!!.. داود الصلب الإرادة إذا أردت أن تعرف تكوين داود النفسي من هذه الناحية يمكنك أن تراه خلال عبارته القائلة في المزمور الثامن عشر: "يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس".. ومع أن هذه العبارة تكشف في الأصل عن الفتى المفتول العضلات، لكنها تقودك أكثر إلى الإرادة الحديدية المتمكنة من هذا الشاب، ويكفي أن تلقي نظرة على ذلك التمثال المبدع الذي صنعه ميشيل أنجلو لداود، والذي فيه يبدو مفتوح العينين، وقد تصلبت عضلات وجهه وعنقه، ويده المرفوعة إلى عنقه وهي تحمل حجراً يقبض عليه،... إنك يوم تنظر إلى هذا التمثال، ستكتشف أقوى تصميم أو عزم يمكن أن يظهر في حياة الإنسان على الأرض!!.. ولعلنا نذكر هنا كلمات الكسندر هوايت: إن داود لم يعرف حياته قط، أنصاف الحلول أو يرضى بها، وسواء أمسك بالسهم أو الوتر أؤ العود أو المقلاع، فهو الإنسان الذي يشد عزمه وتصميمه إلى النهاية،.. وليست هنا قوة على الأرض تستطيع أن تجعله يتراجع عما يمكن أن يكون قد استقر عليه،... عندما صمم على مواجهة جليات لم يفلح فيه تقريع أخيه وقسوته في التعبير،... لقد عزم على مقاتلة الجبار، ولن يتزحزح قط، حتى ولو اختبأ الإسرائيليون جميعاً في شقوقهم ومغاراتهم،.. وعندما صمم على أن يعود بالتابوت من بيت عوبيد آدوم: "كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب" حتى ولو احتقرته ميكال زوجته وهي تنظر إليه راقصاً،.. إن داود راقصاً أو مغنياً أو مقاتلاً، أو خادماً،... كان يفعل هذا بإرادة من حديد، لا تعرف التخاذل أو التراخي دون تفرقة بين أسد يقتله، أو جبار يصرعه، أو بذل يقدمه لله بذات الإحساس والمشاعر والإرادة الصلبة الثابتة!!.. داود القوي الإيمان تعجب السيد المسيح من إيمان قائد المئة الذي لم ير في إسرائيل إيماناً يماثل إيمانه،.. ولعل شاول وهو يرى داود يواجه الفلسطيني الجبار، تملكه ذات العجب، وهو يراه يعود برأسه أمامه،.. مع أن داود سبق وذهب إلى القصر الملكي لكي يعزف للملك، ويبدو أنه لم يبق هنالك فترة طويلة، فقد كان الجنون يصيب الملك بين الحين والآخر، ويبدو أنه عاد إلى رعاية الأغنام، وانقضت ثلاث سنوات، وأضحى دواد في العشرين من عمره، ونبت شاربه وذقنه، على صورة تغيرت معالمه فيها أمام الملك، وبالإضافة إلى أن العمل الذي عمله كان مذهلاً إلى الدرجة التي لا يمكن أن تربطه بالغلام الذي رآه من ثلاث سنوات وبقى عنده في القصر فترة من الزمن، وعلى أي حال، لقد ظهر الشاب أعجوبة أمام الملك،.. أعجوبة لا نظير لها أو مثيل، ولم يسأل الملك عنه، بل سأل عن أبيه أيضاً، لعل خصائص الوراثة يمكن أن تكون السبب، ولعله ابن أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم كما يقولون!!.. غير أن الأمر لا يرتد إلى ميراث يحمل ابن عن أبيه، فقد يحذو الولد حذو أبيه، ويتمثل به، لكن الأمر هنا أبعد عمقاً وأشد أثراً!!... إن رصيد الولد لم يأته قط من أبيه، بل جاءه من مصدر آخر،.. عبر عنه هو أمام الملك،.. لقد كان رصيده محفوظاً في وجدانه عندما التقى بالدب والأسد،..: "قتل عبدك الدب والأسد جميعاً وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عير صفوف الله الحي وقال داود: الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب، ينقذني من يد هذا الفلسطيني، وقال شاول لداود: اذهب، وليكن الرب معك"... ولعله من الواجب أن نقف وقفة تأمل في مفهوم الإيمان بالنسبة لشاول، وبالنسبة لداود،.. فالإيمان عند شاول لا يزيد عن كلمة قالها: "اذهب وليكن الرب معك"وما أكثر الذين يؤمنون بالله إيمان شاول، فهم لا ينكرون وجوده، وهم يؤمنون أنه قوي وقادر على كل شيء، ومع ذلك فإن هذا الإيمان لا يزيد عن مجرد فكرة نظرية غير قابلة للاختبار مثلهم مثل رجل أقام فوق شلالات نياجرا سلكاً عالياً ومشى عليه وهو يحمل آخر، وصاح واحد من المعجبين: يا له من بطل عظيم... وقال البطل للصائح: هل تريد أن تجرب؟ فارتد فزعاً إلى الوراء وقال: كلا!!.. لكن الإيمان عند داود كان أكثر من ذلك، كان حياة!! وقد وصل داود إلى الحقيقة التي لا يعثر عليها سوى الأبطال!! إما أن إيمانه حقيقي وصادق يثق فيه بالله القادر على كل شيء!!.. أو أن الموت أفضل من الإيمان الذي لا يزيد عن فقاعة خيالية من الهواء في الحياة!!.. والفارق –ولا شك- مهول ورهيب،.. أيها الأخ: إنك ستجد على الدوام في قصة الحياة، أسداً أو دباً، أو جليات، أو مشكلة مستعصية بهذه الصورة أو تلك،.. وستبقى مصدر الرعب أو الفزع لك، إذا عشت تواجهها ولا يزيد لديك الله عن كلمة تؤمن بها، تقرؤها في كتاب أو تسمعها في عظة،.. حتى تدخل إلى المشكلة، وترى الله أكثر من كلمة، إذ تراه الله الحي القادر على كل شيء. وطوبى لجميع منتظريه!!.. داود الشجاع الجسور إن هذه الرؤيا الإلهية أعطت داود أن يكون واحداً من أشجع الناس الذين ظهروا على هذه الأرض،.. والسؤال الذي يبدو مذهلاً: لماذا خاف الإسرائيليون جميعاً ابتداء من شاول إلى أبنير إلى جميع أفراد الجيش؟؟: "ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطين هذا ارتاعوا وخافوا جداً".. ولماذا لم يخف داود؟!!.. وباديء ذي بدء أن داود لم يكن من طينة أخرى تختلف عن إخوته الثلاثة في المعركة ومن الإسرائيليين جميعاً، كما أنه لم يستخف على الإطلاق بالرجل العملاق الذي يواجهه، فهو يعلم أيضاً أنه مخيف ومرعب،.. ومع ذلك فإنك لا ترى ذرة واحدة من الخوف تستولى عليه) بل بالحري إن داود تعجل اللقاء، راكضاً إليه: "وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني".. ولكن الفارق الحاسم أن الفلسطيني لم ير أمامه سوى غلام صغير حقير، ورأى داود الفلسطيني ولكن رأى الله أيضاً، وإذا بالعملاق يصبح قزماً لا يرتفع إلا أقل القليل عن الأرض،... وهذه الرؤيا بعينها هي التي فرقت بين داود وبقية الإسرائيليين،.. إن سره العميق حوله أغنية في المزمور السابع والعشرين، ليتعلم منه من يريد أن يتعلم أعظم دروس الشجاعة في الأرض: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب عندما اقترب إليَّ الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا، إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي إن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن".. ترى هل عرفت السر؟!!. داود الغيور الملتهب كان داود أيضاً الرجل الغيور المتلهب في غيرته، وقد لاحقته هذه الغيرة من الصبا حتى آخر الشيخوخة، إذ كانت في حقيقتها تعبيراً إزاء إحساسه بشخص الله وكرامته ومجده،.. عندما ذهب إلى المعركة، كان كل ما ينتظر منه، أن يكون زائراً أو متفرجاً،.. لكن منظراً ظهر أمامه ألهب النار في قلبه، منظر جليات يجدف على الله الحي،.. وهو لا يستطيع أن يحتمل المنظر أو يسمع الكلمات!!... وقد غامر بحياته لأن الموت عنده أهون من إهانة اسم الله، والتجديف على شخصه الكريم... ولم يكن الأمر مجرد اندفاع الشباب يغلي الدم في عروقه إذا ما رأى مالا يطيق رؤياه، بل هي أكثر من ذلك، الغيرة التي جعلته حتى آخر العمر: "أذكر يا رب داود كل ذله كيف حلف للرب نذر لعزيز يعقوب لا أدخل خيمة بيتي لا أصعد على سرير فراشي لا أعطي وسناً لعيني ولا نوماً لأجفاني أو أجد مقاماً للرب مسكناً لعزيز يعقوب".. لقد كان ذله الكبير أنه: "لما سكن الملك في بيته وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه أن الملك قال لناثان النبي أنظر. إني ساكن في بيت من أرز وتابوت الله ساكن داخل الشقق" وهل يجمل به أن يعيش في بيت يبدو أجمل منظراً، وأعظم بهاء من بيت الله؟؟ وفي الحقيقة أن علاقة الإنسان ببيت الله هي واحد من أهم العلامات أو المؤشرات على حقيقة غيرته، والتهاب روحه كانت صرخة حجي النبي: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب"... عندما دخل المسيح الهيكل. ووجد الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً، فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة فتذكر تلاميذه غيرة بيتك أكلتني!!.. داود الواسع الصبر ومن الغريب أن داود -مع ذلك- كان واسع الصبر، ومن أعظم الناس إتقاناً للتوقيت الإلهي،... فإذا كان آساف هو الكاتب للمزمور الخامس والسبعين، والقائل عن الله: "لأني أعين ميعاداً أنا بالمستقيمات أقضي، ذابت الأرض وكل سكانها أنا وزنت أعمدتها" فإن داود عاش هذه الحقيقة بالتمام، لم يتعجل قط يوماً من أيام الله، مسحه صموئيل للعمل الإلهي،.. غير أنه عاد إلى أغنامه يرعاها حتى يدعوه الله إلى العمل،.. ثم طارده شاول، وعاش سنوات في البرية طريداً مشرداً يقود مئات من البؤساء المطرودين، وجاءه الوقت الذي كان يمكن أن يختزل الميعاد بضربة واحدة، ولكنه رفضها: "وقال داود حي هو الرب أن الرب سوف يضربه أو يأتي يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب".. كان فناً من أصعب الفنون فن الانتظار، لرجل خلقه الله بطبع ناري ملتهب، إلا أنه هو القائل: "لأني لك يا رب صبرت أنت تستجيب يا رب إلهي"وقد دخل هذا الصبر يوماً من الأيام في أدق امتحان، عندما خرج عليه شمعي بن جيرا يلعنه وهو هارب من أورشليم أمام ابنه أبشالوم، ولم يطق أبيشاي بن صرويه صبراً على هذا السب، فقال: لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك دعني أعبر فأقطع رأسه فقال الملك مالي ومالكم يا بني صرويه، دعوه يسب لأن الرب قال سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيراً عوض مسبته بهذا اليوم"... أجل، وليس هناك ما يكشف في القدرة على الصبر أكثر من التعرض للإيذاء والافتراء والاختلاق مما ليس له أساس من الصحة والحق!!. داود الوديع المتواضع وهنا نقف أمام فيضان من العظمة الحقيقية، عندما قتل جليات، وهتفت له الأمة بأكملها وكان في العشرين من عمره، وكان يمكن أن تأخذه نشوة الغرور، ويطالب بوعد الملك في الزواج من ابنته، خاصة وقد أمر شاول عبيده تكلموا مع داود سراً قائلين هوذا قد سر بك الملك وجميع عبيده قد أحبوك فالآن صاهر الملك فتكلم عبيد شاول في أذني داود بهذا الكلام فقال داود هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك وأنا رجل مسكين وحقير!!.. وعندما طارده شاول فيما بعد قال له: "وراء من خرج ملك إسرائيل وراء من أنت مطارد، وراء كلب ميت وراء برغوث واحد".. لقد وقفت أمام هذه الوداعة مذهولاً، ولم أعرف بين الناس من تفوق عليها سوى واحد جلس -وهو رب السموات والأرض- متعباً على التراب عند بئر سوخار يتحدث مع امرأة ساقطة، بأرق حديث يمكن أن تسمعه الأذن البشرية، وهو القائل: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.. كان يوحنا فم الذهب يقول: إن أساس الفلسفة الوداعة، وبهذا المعنى كان داود فيلسوفاً كبيراً، أدرك أنه مهما يعظم الإنسان فهو دودة حقيرة، هو تراب، هو لا شيء، أمام الله في الوجود!!... طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض!!.. داود المحب الكبير ومع أن هذه الصفة كان يمكن أن نضعها أول صفات داود، لكني آثرت أن أضعها الصفة الثامنة، التي نحزم بها صفاته، وهي كما يقول الرسول بولس "رباط الكمال"،.. وفي الحقيقة أن هذه الصفة تقف خلف صفاته جميعاً، وتعطيها الحياة والقوة والغذاء لقد أحب الله، وأحب الآخرين، وأحب الخدمة، وحول هذا الحب مزامير خالدة في مسمع الله والإنسان: "أحبك يا رب قوتي" "أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي" لقد أعطى الله كل حبه، وعندما رقص أمام التابوت بكل قوته، كان يرقص رقصة الحب الكامل لله، وعندما جلس في حضرة الله وهو يصرخ غارقاً في فيضان هذا الحب: "من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا"... وإذ خاف أن يتراجع إحساسه في يوم ما هتف هتافه العميق: "باركي يا نفسي الرب وكل ما في بطني ليبارك اسمه القدوس باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته"... وعندما أحب الناس، أحب الجميع. كان حبه ظاهراً في نشيده الذي رثى به يوناثان: "قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان كنت حلواً لي جداً محبتك لي أعجب من محبة النساء".. لم يكن داود "المحبوب، بل أكثر من ذلك "المحب"، وقد صدق من قال: إن تكن محبوباً ذاك لا شيء أما أن تحب فذاك كل شيء!!. داود ومدارسه الكبرى وقف واحد من شعراء الغرب -من ابن يسى الأصغر- يهتف للوجه الوديع، والدهن المهراق ينساب على رأسه وهو يواجه خدمته المليئة بالتعب والمجد، وتابعه في القصر الملكي، وفي ميدان المعركة، وهو يلمع بالرجاء، وهو محاط بالعزلة، والجروح التي أتته من الصديق، والعطايا التي أخذها من الأعداء،.. والحياة الممتلئة بالإيمان، والذنب، والدموع والدماء، والانتصار. ولعلنا مع هذا الشاعر وغيره نسأل: ما هي المدارس التي دخلها داود وصنعت منه الشخص العجيب الذي أشرنا إليه، وعرفه التاريخ؟!!.. لعلها: مدرسة الآباء والأجداد كان داود أكثر أولاد يسى التقاطاً لتاريخ آبائه وأجداده، ومع أننا لا نكاد نعرف الكثير عن يسى أبيه سوى أنه ابن عوبيد بن بوعز من راعوث، ومع أننا لا نعرف شيئاً عن أمه،.. إلا أنه يبدو بوضوح أن الصبي كان على أوفى علم بتاريخ آبائه وأجداده وأنه كان غنياً جداً بالذكريات التي جاءته عن هؤلاء الآباء، وعن معجزات الله معهم، وأنه إذا كان جدعون قد تساءل في حزن وألم عن العجائب التي حدثه آباؤه عنها، والتي صنعها معهم الرب،.. فإن داود كان أكثر تفهماً وشوقاً لهذا الإله، وكان ينتظر من بكور الحياة أن تأتي الكثير من صور العجائب والمعجزات على يديه!!.. كانت مدرسة الآباء والأجداد من أخصب مدارس الحياة في الابن الأصغر ليسي البيتلحمي، وعلى وجه الخصوص أنه كان من النوع الذي يحن إلى الذكريات القديمة، وقد حن ذات يوم إلى جرعة من البئر التي كان يشرب منها من أيام الصبا،.. ومن المؤكد أنه كان يشرب جرعات حلوة كثيرة، من بئر الذكريات العظيمة لآبائه وأجداده الأقدمين!!.. مدرسة الطبيعة وجهت "هيلين كيلر" سؤالاً عجيباً -وهي عمياء وصماء وبكماء- إلى عدد كبير من الأزواج: ما لون عين زوجتك؟!! ومن الغريب أن أكثرهم –وقد فوجيء بالسؤال لم يستطع أن يصف لون عين زوجته!!.. وما أكثر الذين لهم العيون التي تبصر ولا تتأمل، لكن عين داود لم تكن من هذا النوع، وهي تتأمل الطبيعة العظيمة، التي صنعها الله!!.. لقد أمسك الرجل قيثارته وغنى أحلى الأغاني، وهو يرى هذه الطبيعة الفاتنة: “أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض… حيث جعلت جلالك فوق السموات… إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده” “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يبدي علماً لا قول ولا كلام لا يسمع صوتهم في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم، جعل للشمس مسكناً فيها وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق، من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيهاولا شيء يختفي من حرها”.. كان “صموئيل كوكس” يضع زهرة بيضاء تذكره بجمال الله ونقاوته وقداسته، وهو يعمل بين العمال الذين امتلأت حياتهم من طين الخطية والدنس، واستنشق داود أجمل الزهور، وعلمه شذاها أن يغني أحلى الأغاني لله!!.. مدرسة الألم لم تكن الحياة عند داود سهلة هادئة رضية، بل هو الرجل الذي التقى بكافة ألوان الصعاب والمتاعب من مطلع حياته إلى نهايتها وكان أشبه بذلك الإنسان الذي صاح طالب أن يرفع الله عنه الحمل الثقيل، وأجاب الله على صلاته، ولكن بصورة أخرى إذا أعطاه الكتف القوية التي تستطيع حمل الحمل... ونحن نستطيع أن نصور لك الطريق التي سار فيها، والتي التقى فيها من الشباب الباكر بالدب والأسر، وجليات وشاول، وسار ليرى أبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا، ويوآب بن صرويه، وغيرهم ممن حولوا حياته تعباً وألماً وعذاباً متصلاً، فإذا تركنا التي جاءته خطيته البشعة، في قصة بثشبع وأوريا، وإذ تجاوزنا تلك التي جاءته من غفلته وحماقته، يوم ترك صقلغ دون حماية، فأحرقت عن آخرها، فإن السؤال ما يزال باقياً: لماذا يسمح الله بالعذاب من مطاردة شاول له سنوات متعددة، لا يصبح فيها بائساً فحسب، بل -أكثر من ذلك- زعيم البؤساء إذ لحق به كل متعب ومدين ومتضايق وجرب فيها أن يسلك سلوك الأفاقين الجائعين السالبين، حتى شاء الله أن يضع في طريقه أبيجامل لتمنعه من سفك الدماء وانتقام يده لنفسه؟!! إن الجواب على ذلك واضح في أن مدرسة الألم كانت مدرسة التدريب التي يبدو أنها ضرورية في حياة جميع أولاد الله، وهم يسيرون في الطريق الضيق في الأرض، كما أني كشفت في الوقت عينه الإحسان والرحمة والخير والجود التي لا يترك الله أولاده دون أن يرتوا منها، فإذا ظهر في الطريق شاول، فإن هناك يوناثان، وإذ ظهر أخيتوفل، فإن هناك برزلاي الجلعادي، وإذا ظهر نابال، فهناك أبيجايل، وهكذا،… وهي –إلى جانب هذا كله- المدرسة التي تكشف عن انتصار الله الأعظم،… وهي التي علمته أن أشد الظلمة ما كانت خلف الباب، فإذا قيل عنه أنه عندما دخل صقلغ، وكانت المدينة كتلة من الفحم الأسود، وكانت –إذا جاز التعبير “الهباب” الذي وصل إليه، فإنه بعد أيام لا يسترد فقط كل ما أخذ منه بل ينادي به ملكاً على بلاده!!… لقد رأى خلال الألم أغلى الدروس وأعمقها مما سار مطبوعاً في وجدانه مدى الحياة!!.. مدرسة الواجب وقد تكون هذه المدرسة أعلى مدارس داود وأعظمها، إذ أن الواجب علمه الأمانة إلى الموت وكم وقف هذا الرجل على أبواب الموت وهو يقدس الواجب ولو أنه عاد إلى أبيه يوم هاجمه الدب والأسد، واختطفا الشاة الصغيرة، دون أن ينقذها لما لامه أبوه أو لامه أحد، لكن واجبه المقدس هو الذي دعاه أن يغامر بحياته لإنقاذها،... ومع أنه كان أصغر جداً من أن يواجه جليات، لكن الواجب المقدس عاد مرة أخرى ليرتفع أمام عينيه، وهو يرى أن الحياة لا معنى لها، أمام عملاق يجدف على إلهه ويهين مجده!!..عندما طلب إلى "ليفنجستون" أن يعود إلى انجلترا، وقد داهته الأمراض والمتاعب،.. أجاب الرجل الذي قدس الواجب: أن أعود إلى انجلترا لتكرمني الملكة، هذا شيء عظيم،.. لكني لا أستطيع لأجل رسالتي العظميى التي يطلبها مني يسوع المسيح!!... ولقد أخذ جسده بعد أن مات ليدفن في مقابر العظماء بانجلترا،... لكنه كان جسداً بلا قلب، لأن وصيته أن ينزع قلبه ليدفن في أفريقيا، في البلاد التي أحبها وخدم سيده فيها!!.. لقد عاش ومات وقلبه للمسيح في خدمة أفريقيا!!.. كان الإحساس بالواجب هو رسالة داود العظيمة من مطلع العمر إلى نهاية الحياة!!.. داود وضعفاته المحزنة لست أدري لم حرص الكتاب المقدس على أن يبرز ضعفات داود، ومنها ما لا يسقط فيه أبسط المؤمنين وأضعفهم؟!! أغلب الظن أن الكتاب أراد أن يحذرنا جميعاً (أقوياء وضعفاء) بأن قتلى الخطية أقوياء، وأنه لم ينتصر عليها في الأرض سوى شخص واحد، قال: “من منكم يبكتني على خطية” وأننا ينبغي أن نجاهد حتى الدم ضد مكرها، وختلها، وكذبها، وغدرها، وسلطانها،.. على أنه في الوقت نفسه أعطانا أنشودة الرجاء، لأنه ليس المهم –كما قال أحدهم- أن يسقط المرء كما سقط داود سقطته الشنيعة، التي لم يعرف شاول بن قيس مثيلاً لها، لكن الأهم أن شاول بن قيس لم يعرف في حياته المزمور الحادي والخمسين مزمور التوبة أمام الله… وعندما نتحدث عن خطايا لنكن مشبعين بالحذر، وبالرجاء أيضاً!!.. ولنعلم أننا ضعفاء مثله، وأقوياء بالرب أيضاً عندما نلوذ برحمته وإحسانه وجوده!!.. ضعف الإيمان وهل رأيت العملاق، وهو يواجه الدب والأسد، وجليات، والقائل إن نزل على جيش لا أخاف؟؟ هذا العملاق، عندما يطارد شاول ويصيبه الإعياء، يضعف ويصبح واحداً منا، ويقول ليوناثان بن داود "كخطوة بيني وبين الموت"، وعندما يذهب إلى أخيش ملك جت، ويسمع الملك من عبيده: "أليس هذا داود ملك الأرض، أليس لهذا كن يغنين في الرقص قائلاً ضرب شاول ألوفه وداود ربواته، فوضع داود هذا الكلام في قلبه وخاف جداً من أخيش ملك جت فغير عقله في أعنيهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم وأخذ يخربش على مصاريع الباب ويسيل ريقه على لحيته فقال لعبيده هوذا ترون الرجل مجنوناً فلماذا تأتون به إلى العلي محتاج إلى مجانين حتى أتيتم بهذا ليتجنن علي، أهذا يدخل بيتي"وأكثر من هذا أن الرجل بعد فترة من الزمن عاد إلى أخيش، وأعطاه أخيش صقلغ، وكاد يحارب مع أخيش ضد شعبه وقومه،.. وهي فترات قاسية مظلمة ليس من السهل تصورها،.. ولكنها الصورة المحزنة عندما يضعف الإيمان في حياة الإنسان حتى ينقذه الله مرات أخرى ليعود إلى إيمانه الأول القديم!!.. ضعف التسامح ومع أن هذا الرجل كان صارم العدالة مع العماليقي الذي ادعى أنه قتل شاول وحمل إليه سلاحه، ومع الاثنين اللذين قتلا ابن شاول غدرا وغيلة تقرباً منه، إلا أن عواطفه تذبذبت مع ابنه أبشالوم صعوداً ونزولاً، فالولد إذ يقتل أخاه ويهرب، يعاوده الحنين من ناحيته، وإذ يعود بوساطة يوآب يسامحه داود بشرط ألا يرى وجهه، وإذ يثور عليه، ويعلن الفتنة ضده، لا يستطيع تنفيذ العدالة كاملة، كما فعلها يوآب، بل يبكي على ابنه ويتمنى لو ذهب هو مكانه في الموت،.. ومع أنه حلف لشمعي بين جيرة الذي لعنه قاسية ألا يموت، إلا أنه لم ينس إلى الموت هذه اللعنة، وطلب من سليمان أن يتعامل معه بالحكم التي تحدر شيبته إلى الهاوية، ومع أن يوآب خدمه خدمات لا يمكن أن تنسى، إلا أنه لم يستطع نسيان ما عاناه منه، وضم هذا إلى دم أبنير بن نير وعماسا بن يثر، وطلب من ابنه أن يتعامل معه بالصورة التي تحدر شيبته إلى الهاوية أيضاً!!.. ومع أن الكثيرين من الشراح يلفتون أنظارنا إلى أنه من الخطأ أن نحكم على داود وتصرفاته، بما علمنا إياه ابنه العظيم سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول...".. وأن داود في الكثير من هذه الأوضاع كان يتكلم بصفته الحاكم العادل الذي ينبغي أن يقتص عدالة الله من المذنب والمجرم، وأنه وإن كان قد سمح لشمعي بن جير أن يعود إلى بيته بقسم لا يستطيع تجاوزه، لكن شمعي كان ظالماً ينبغي أن ينال عقابه ولو بعد زمن لا لأنه أهان إنساناً، بل لأنه افترى على مسيح الرب بكل افتراء وتضليل، وأنه وإن كان قد أخذته الشفقة على ابنه فإنه كان يمثل صراع العدالة والحب في قلب ملك وأب في نفس الوقت!!.. أياً كان هذا كله، فإن الرجل كان أضعف من أن يصل إلى رحمة ذاك الذي قال عن صالبيه: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!!.. وأن المسيحية في شوطها الطويل نحو الغفران، كان لابد أن تصل إلى نور الظهيرة إذا قورنت بالشفق الجميل يظهر ساعة الشروق!!.. وأن داود مهما وصل في سمو نفسه، فهو واحد منا نحن الضعفاء الذين تتذبذب عواطفنا، بين السمو والانحدار،.. وأنه واجبنا الدائم أن ننتصر على الإنسان الضعيف فينا، لئلا نصل في ضعفنا إلى طلب القضاء على خصومنا ونحن على أبواب الموت والنهاية الأرضية.. السقطة الكبرى على أن هذه كلها، مهما كانت محزنة ومؤلمة، لا شيء على الإطلاق إلى جانب سقطته، بل وصمته الكبرى التي هوى فيها من القمة إلى القاع، في لحظة واحدة، وقد حرص الكتاب على تدوين القصة بكل بشاعتها ولوثتها وخستها، لكي تبقى مدى الأجيال عظة للأقوياء قبل الضعفاء، وللجبابرة قبل العاديين وللذين يأخذون المراكز في الصفوف قبل الذين هم في آخر الصفوف، أنه لا توجد في الإنسان مناعة ضد ميكروب الخطية،.. وأن جراثيمها يمكن أن تتكاثر وتسقط أعظم الأبطال، لولا رحمة الله ونعمته،.. ولقد عرف الشيطان كيف يأتي إلى الرجل، لقد جاءه في وقت الفراغ، وربما إهمال الواجب،.. كانت هناك معركة، ولو قاد داود الجيش، وقاتل في المعركة، لنجا،.. لكنه ترك غيره يؤدي الواجب، وصعد هو إلى أعلى السطح، ليرى امرأة تستحم، ومهما يكن جمال هذه المرأة، فإنها نعجة، لا يمكن أن تكون أجمل وأندر من النعاج الأخرى التي تملأ بيته،.. ولكنها الغريزة القبيحة في الإنسان التي تجعله يرى الممنوع -مرغوباً فيه، منذ ذلك اليوم الذي فيه أكل آدم من الشجرة الوحيدة المحرمة، دون أشجار الجنة العديدة الحلوة الشهية الثمر،... إلى أي حد كان بيت أوريا قريباً من بيت داود، لست أعلم!!؟.. لكنه يبدو أن التجربة كانت أقرب إليه بالكيفية التي خدرته، ولم يستطع معها محاولة الهروب،.. لكن لكن الأمر كان أفظع وأشد أو كما يقول توماس جودين في دراسته العميقة عن "تعدي الخطية": أنه أمر أوريا أكثر من "بثشبع" الذي أوقد غضب الله ضد داود،.. فإذا كانت الخطية قد فاجأته مع بثشبع، وأنه غلب منها بعنصر المباغتة والمفاجأة، فإن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لأوريا، ورفض الذهاب إلى بيته، فإذا لم يفلح التمويه، فلتكن القسوة الشديدة التي تترك البطل في مواجهة الحرب، مع التوصية بالتخلي عنه وتركه ليواجه الموت!!.. إن الخطية، تجر في ذيلها دائماً خطايا كثيرة متعددة، أشنع وأرهب وطريقها دائماً منزلق يسقط القديس الجالس على القمة إلى المنحدر الرهيب،.. والتستر على الخطية، يضيف إليها، خطايا أخرى متعددة، الكذب والغدر والنفاق والقسوة والكبرياء، والرياء،.. وأشر ما في الأمر أن داود استمر على هذا الحال ما يقرب من سنة حتى ولد الولد، وجاءه ناثان النبي،.. هل ذهب إلى بيت الله، هل رنم مع المرنمين؟؟ هل صلى مع المصلين؟؟ إننا نحمد الله كثيراً لأنه لم يترك مزموراً من مزاميره الخالدة في فترة الإثم،.. لقد تحطم تماماً، وعندما غنى مزمور التوبة العظيم كانت طلبته إلى الله "رد لي بهجة خلاصك" لأن الرجل لم تعد تحلو له القيثارة المغنية، ولم يعد له الصوت الطروب، ولم تعد له نقاوة القداسة، لقد أضحى صورة مخدوعة مخادعة للكثيرين والكثيرات!!.. كانت خطيته شنيعة هيهات أن تقتصر عليه، بل تجاوزت الظلام، لأنه ليس خفي لا يعرف ولا مكتوم لا يعلن أو يكشف، وكانت عثرة رهيبة للكثيرين من ذوي الإيمان النقي، وكانت شماتة وسخرية من أعداء الله والحق، وعلى قدر ما يأخذ الإنسان من امتياز ويتحمل من مسئولية على قدر ما تكون خطيته، لقد كانت خطية بيلاطس البنطي عظيمة جداً، لكن المسيح مع ذلك قال له: "لذلك أسلم إليه له خطية أعظم" لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر!!.. لماذا لم ينهض من تلقاء نفسه، ولما انتظر سنة بأكملها حتى جاءه ناثان النبي، أغلب الظن أنه كان أشبه بالوعل في الشبكة، أو العصفور في القفص، أو السمكة في السنارة،.. عندما ثار عليه الضمير، تصوره البعض يحاول مستميتاً أن يثبت أنه لم يفعل شيئاً،.. إنه ملك، وحقه على الرعايا لا ينازع فيه أحد، سواء كانت بثشبع أو أوريا، وله أن يتصرف فيهما كما يشاء أو يريد،.. ثم إنه لم يقتل أوريا، ولم تمتد عليه يد إسرائيل، بل قتل في الحرب، وحتى لو ذهب إلى أقسى مكان، فإن الله لو أراد له أن يحيا لأبقاه، والأرواح كلها بيد الله،.. وعندما مات لم يتنكر لزوجته فقد ضمها إليه، ورفعها إلى مركز الملكات، والوليد الذي جاء منها اعترف به، وأحبه، وتمنى أن يعيش!!... كل هذه وغيرها كانت بعض خياله حتى جاءه الحق أبلج كالنور ليقول: أنت هو الرجل!!.. إن السؤال الآخر الذي يمكن أن تلقيه علينا هذه القصة. كيف تاب داود، وما عناصر توبته الصحيحة؟!!.. من الغريب جداً أن داود يعتبر الشخص الثالث في هذه التوبة، وليس الأول أو الثاني،.. إن الأول هو الله الذي مد يده إلى الأسير في الخطية والله دائماً هو المحرك الأول لكل توبة في حياة الإنسان، ألم يقل إفرايم في لغة إرميا: "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" وألم يقل الرسول بولس: "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون".. والله دائماً هو الأعظم ألما، والأكثر رغبة، في أن ننهض من آثامنا، ونقوم من خطايانا،.. وكان الشخص الثاني ناثان النبي، ولم يتحرك ناثان من تلقاء نفسه بل حركة الله: "فأرسل الرب ناثان إلى داود".. وكان ناثان من أبرع الناس وأحكمهم وأشجعهم، والمثل الذي ينبغي أن يحتذى عندما يحمل المرء رسالة الله للناس، أن الشجاعة لابد أن تكون مقرونة بالحكمة والحكمة لابد أن تكون متسمة بالشجاعة، ونحن نعظهم أو نوبخهم، والله لا يطالبنا أن نكون مندفعين بدعوى الشجاعة أو الصراحة، ونحن نكلم الناس عن خطاياهم لأن رابح النفوس،.. وقد قال سقراط في بعض حكمه إذا وجدت ثوراً هائجاً، فليس من الشجاعة أن تقف في طريقه معرضاً صدرك لقرونه، بل إن الشجاعة أن تعرف كيف تقيده بالحرص والحكمة!!.. وكم يخطي بعض الوعاظ أو الخدام، أنه ما دامت هناك خطية ليقذفها الإنسان بكل حجر ممكن،.. لقد قتل داود جليات بحجر أملس، وقد جاءه هنا الحجر الأملس القاتل للخطية، من فم ناثان،.. لقد جهزه بالقصة المثيرة عن العدالة، وإذ رفع فيه روح العدالة، لم يفزع بعد ذلك، حتى ولو وضع رأسه على كفه أن يقول له: أنت هو الرجل!!.. كان دادو محظوظاً بإلهه، وكان داود محظوظاً بالواعظ الشجاع الحكيم الذي أيقظ إحساسه بالتوبة، ليكتب مزموره العظيم المزمور الحادي والخمسين، ولعلنا نلاحظ أن هذا المزمور قد سلم لإمام المغنيين، ليكون اعترافاً علنياً أمام الله والناس بالتوبة الصادقة!!.. ولعله من الغريب أن تلاحظ أن داود قال في المزمور: "إليك وحدك أخطأت" مع أنه أخطأ إلى بثشبع، وإلى أوريا، وإلى الأمة، ولكنه لم ير واحداً منها جميعاً، لأنها ابتلعت جميعها في الخطية أمام الله، وهو لم يعد يرى في الوجود كله، إلا الخطية، والخاطيء، والله، وخطيته أمام الله تجب كما يقولون رجال القانون كل خطية، وتحتويها، وتتضمنها،.. ومن الغريب أن هذا هو إحساس بولس عندما ركز النظر في خطيته بكيفية لم يعد يرى خاطئاً آخر أثقل منه وأرهب، وصاح: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا..".لم يكن داود في مزموره يبالي بما يصنعه الله به، أو أي عقوبة يوقعها عليه، إنما كان يعينه شيء واحد لا غير أن لا يطرح من أمام الله، أو يبعد عن وجهه: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"لم تكن الخطية منفردة، بل مست الأمة كلها، وحتى لا يتصور الناس أن الله لا يبالي بالخطية، حفظ الله روحه، وكشف في الوقت نفسه عن عدالته الصحيحة، فإذا كان قد قتل أوريا بسيف بني عمون، فسيلحق السيف بيته إلى الأبد، وإذا كان قد ارتكب الخطية في جنح الظلام، فسيأتي أقرب الناس إليه ليضطجع مع نسائه في وضح النهار، وتحت عين الشمس!!..كان الله صادقاً، وكان عادلاً، وكان محباً،.. ومات الولد، لكن من العجيب، أن أخاه سليمان سيكون هو المختار للملكة من بين أبناء داود، والذي من نسله يأتي المسيح مخلص العالم!!.. داود وخدماته ولعل آخر ما تنتهي به في قصة داود خدماته: "بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد".. ومع أنه ليس من السهل ذكر هذه الخدمات جميعاً، لكن يمكن أن نشير إلى أشهرها.. خدم مؤسساً وقد أسس هذا الرجل امبراطورية واسعة، ووحد الأمة بأكملها، حتى أنه يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الإسرائيلية، ويعتبر داود بحق من أقدم الملوك الذين يمكن أن يوصفوا بالقول: "بناة الملك" استولى على أورشليم التي كان يقطنها اليبوسيون المنحدرون من نسل كنعان، والتي كان يحكمها ملكي صادق أيام إبراهيم، وهي مدينة حصينة تقع على بعد ثلاثة وثلاثين ميلاً من البحر الأبيض، وأربعة عشر ميلاً من البحر الميت، وعندما أراد داود الاستيلاء عليها سخر منه أهلها، فقالوا هازئين ما معناه، إنهم سيجعلون من العميان والعرج حراساً لها، وعلى داود أن ينجح في مقاتلة هؤلاء إذا أراد أن يدخلها، ومن الجائز أنهم جاءوا بجماعة منهم على أسوار المدينة، وكانت هذه منتهى السخرية بداود وقوته، ومنتهى الاعتداد بقوتهم هم،.. وأخطأ اليبوسيون قوة خصمهم وبسالته وجرأته، وأكثر من ذلك نسوا قوة الله التي معه، وسقطت أورشليم في قبضة داود، وأكثر من ذلك نجح داود في تأسيس الدولة وتقويتها، لكي يقدمها لسليمان عزيزة من كافة الجوانب العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والروحية!!. خدم معطياً ولا شبهة في أنه قدم هبات كثيرة مادية للفقراء والمعوزين والمحتاجين، لكن أعظم عطاياه المادية كانت ما جهزه لبناء بيت الله، لقد أراد داود أن يبني بيتاً لله، إذ لم يرق في نظره أن يكون بيته أفضل من بيت الله، ومع أن الله رفض طلبه لأن يده تلوثت وتخضبت بالدماء، والله لا يريد لبيته -الذي يرمز إلى عظمته ومجده ونقاوته وسلطانه- أن تبنيه يد ملوثة بالدماء، ومع أن الله بيَّن أن البيت سيبنيه ابنه، إلا أن ذلك لم يمنع داود من أن يقدم هباته بسخاء إعداداً لهذا البيت، ولعل ما كتبه الكسندر هوايت بهذا الصدد أجمل ما كتب على الإطلاق إذ قال: "إن الله وحده هو السيد الذي يقدر نية عبيده كما يقدر خدمتهم، والله وحده هو الذي يعطي الأمر الكامل على هذه النية، كما يعطي على أفضل خدمة يقوم بها الإنسان، فواحدة من أعظم وأحسن خدمات داود لم تخرج عن حيز النية الطيبة، لكن الله كافأ داود على هذه النية وأجزل له العطاء كما لو أنه عاش ليرى قباب الهيكل تقع تحت ضوء الشمس".. ومع أن حرمان داود من القيام بهذا العمل العظيم كان له ولا شك وقع قاس على نفسه، إلا أنه جلس في حضرة الرب ليشكر إحسانات الله الغامرة التي أحس أنه صغير وقليل إزاءها، الإحسانات التي لم تكتف أن ترفعه هو، وتتمشى معه، وتحسن إلى الشعب الذي يملك عليه، بل أكثر من ذلك منحته عهداً أبدياً مباركاً في نسله الذي يثبت كرسيه إلى الأبد... في المسيح ابن الله المبارك إلى أبد الآبدين... خدم مرنماً لقد انتهت خدمات داود المادية، سواء في الامبراطورية التي أسسها أو الهيكل الذي أُعد له، ونقض، وامتدت إليه يد الخراب، ولكن داود مرنم إسرائيل سيبقى ما بقيت الأرض، وما بقيت هناك موسيقى تعزف بين الناس، هل قرأت أو غنيت معه مزاميره الخالدة العظيمة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن القيمة الروحية لهذه المزامير العظيمة، وسنأخذ على سبيل القياس لا الحصر واحداً منها، وهو المزمور الثالث والعشرين مزمور الراعي، هذا المزمور الذي يطلق عليه بلبل المزامير والذي وصفه هنري وردبيتشر بالقول: "إنه هدأ أحزاناً كثيرة أكثر من كل ما صنعته فلسفة هذا العالم، وأعاد إلى السجن أفكاراً رديئة، وشكوكاً سوداء، وأحزاناً مسرنة أكثر من الرمال التي على الشاطيء.. لقد عزى ذلك المجموع النبيل من الفقراء، وأعطى الشجاعة لجيش الفاشلين، وأرسل بلسان وسكينة إلى قلوب المرضى، وأسرى السجون، والأرامل في حزنهن القاسي، والأيتام في عزلتهم الشديدة، كما أن الجنود المتحضرين ماتوا بسكون وهم يستمعون إلى هذا المزمور، بعد، بل سيغني لأولادي وأولادهم كل الأجيال، ولن يضم جناحيه حتى يصبح السائح الأجير آمناً، عندما ينتهي الزمان، وعندما يطهر راجعاً إلى أحضان السماء، وتختلط موسيقاه بألحان وأنغام الفرح السماوي الأبدي"!!
المزيد
26 ديسمبر 2020

المقالة الثالثة والعشرون في البتولية وصفاتها

إن بولس الرسول المشير الفاضل يعلمنا كلنا قدر بتولية النفس وطهارتها، ويحتسب درجة البتولية أفضل وأعلي من العالم لأنه قال: من له امرأة يهتم في كيف يرضي امرأته فأما المستسير بالبتولية فيهتم في أن يرضي الرب. فذاك الاهتمام يؤدي إلي العذاب وهذا يؤدي إلي الحياة الخالدة، فالطوبى للإنسان الذي يهتم في أن يرضي الرب ويحفظ جسده طاهراً ليصير هيكلاً مقدساً طاهراً للمسيح الملك. أيها الإنسان قد صرت باختيارك هيكلاً للـه لا بإلزام وغضب بل بإثرة ونشاط، وقد عرفت أن من يكن إنساناً للإله العلي يسكن روح اللـه فيه فإن كان منظفاً نقياً يقدسه ليكون استعماله مأثوراً لسيده، أسمع يا أخي المخلص ما أقول لك وأكتب ألفاظ حقارتي في قلبك، منطق ذاتك وتضرع بأمانة صافية مهذبة ورجاء ومحبة، أنتصب كالرجل الشهم لتحفظ هيكل اللـه من سائر الأفكار الدنسة والنجسة المزروعة من العدو، صر بجملة نفسك غنياً معايناً بمداومة تجارب العدو لأن تجارب الخبيث تتقاطر دائماً لتجد إنساناً مسترخياً ومتنزهاً لتفسد هيكل جسد ذاك الشقي لئلا يكون مأثوراً لاستعمال سيده، فأحذر علي نفسك لئلا توجد قابلاً بذاتك تجارب العدو، أتجهل أيها الأخ من هم المحاربون الخبثاء والمجلبون الأفكار الدنسة والشهوات الرديئة هم ” الغضب والاضطراب، السخط والمماحكة، وعبودية الآلام ” فهؤلاء هم المجربون الذين لا يخجلون، والأردياء الذين لا يكفون ولا يشبعون من الشر وإذا غلبوا يدارك برازهم دائماً لأن أصل الشهوة وقح لا يخزى، أقتلع أيها الأخ أصل الشهوة من قلبك لئلا ينبت ويينع فلو قطعتها ربوات مرات تنبت بقدر ذلك إن لم تقتلع بالجملة جدرها ، جاهد متواتراً لتكون هيكلاً للـه بلا دنس وبلا عيب، إن هيأت هيكلك للـه فالإله القدوس يعطيك عوضه الفردوس المطرب لنياحتك، صر بانتصارك علي الآلام والأفكار الدنسة حافظاً هيكلك قديساً ليكون بَهياً للـه ومقبولاً، أصغِ إلي ذاتك ألا تُدخل في الهيكل عوض السيد الأقدس الطاهر العدو النجس فيفسد هيكلك لأنه عدو ماقت الخير فإنه وقح فاسد الخلق لا يخجل تنتهره مراراً كثيرة وتخرجه إلي خارج وهو يتواقح فيلاكم ويزاحم ليدخل، أما اللـه الغير محدود الطاهر القدوس فما أبتعد هو بل أنت طردته، إذ أدخلت الدنس وصرفت القدوس، أبغضت الملك وأحببت المارد، أبعدت عين الحياة وتقلبت في الحمأة، عدمت النور وشاركت الظلمة، من أجل رخاوتك أسلمت ذاتك إلي العدو النجس، إن الإله القدوس أثر أن يسكن في هيكلك دائماً أما أنت فأحزنت السيد الصالح الرب الذي لا يشبع منه، التائق أن يعطيك ملكه لأن الصائرين هياكل لا عيب فيها وطاهرة يسكن اللـه فيهم، فإن آثرت أن يسكن اللـه في هيكل جسدك كافة أيامك التي تعيشها علي الأرض فاللـه القدوس يسكنك في فردوسه في النور الذي لا يقاس والحياة التي لا تموت إلي أبد الدهر بفرح عظيم وينجيك هناك، أتراك سمعت هذا أو قرأته أن يوماً واحداً في نور ملك اللـه كألف سنة في هذا الدهر، أفتح قلبك أيها الأخ وأقبل أن تشتاق إلي اللـه كافة أيامك فإن الاشتياق إلي اللـه هو حلاوة واستنارة وسروراً دائماً، إن صبوت إليه دائماً يسكن فيك سرمداً، إن اللـه غيور طاهر وقدوس يسكن في نفس الذين يتقونه ويصنع مراد الذين يحبونه، أتؤثر أن تكون للـه هيكلاً نظيفاً لا عيب فيه، أتخذ أيقونته في قلبك دائماً وأعني بأيقونة اللـه لا المرسومة بألوان الأصباغ علي ألواح خشب أو علي شئ آخر بل تلك الصورة المزخرفة العجيبة في النفس المرسومة فيها بالأعمال الحسنة بالأصوام بالحميات بالمسك بالاعتدال النفيس بالاسهار والصلوات، فألوان صورة السيد السمائي هي اعتدال الفضائل الأفكار النقية التعري من الأرضيات مع الطهارة والوداعة جميعاً، لا يكلل في العالم أحد خلواً من جهاد، وفي سيرة النسك بغير حرص وجهاد لا يمكن أحد أن ينال الإكليل الذي لا يذبل والحياة الخالدة، لأن هذا العالم يضاهي جلبة فالمجاهدون الكاملون بوداعتهم يضعون ذاتهم في المقام بلا خوف، أما المسترخون والخبثاء فيهربون برخاوتهم من الجهاد، فالمجاهدون الكاملون النساك وذوو الحمية والنسك قدام أعينهم الفردوس المطرب منتظرين كل حين أن يتمتعوا بكافة الخيرات في النور المؤبد والحياة الفاقدة الموت، أفتؤثر أن تجاهد وتظهر كاملاً ألبس الفضائل كثوب وإذا لبست فضيلة فجاهد ألا تنزعها، أرهب الخمر لئلا تفضحك وتعريك من الفضائل كما عرت الصديق في القديم، أتعرف قوة الخمر أم لا ؟ أسمع أنا أخبرك: نوح الرجل الصديق والبار البهي في الجيل الفاسد الذي أستحق أن يسمع من اللـه أقوالاً ومدائح لأن اللـه قال له: إياك وحدك شاهدت صديقاً في هذا الجيل الفاسد، هذا الصديق الذي غلب طوفان المياه غُلِبَ من نبيذ قليل ونام، إن المياه التي لا توصف كميتها ما غلبته والخمر اليسيرة كشفت جسد الصديق الصائر رئيس آباء الأمم، وهذا النبيذ أيضاً أسترق لوط البار في نومه لأنه سرق به من أبنتيه وحملتا منه بضد الطبيعة. الصديقون والأبرار ما شفقت عليهم الخمر، فأنت الشاب الحقير كم أولى بِها أن تغلبك، أرهب النبيذ لأنه لا يشفق علي الجسم ألبتة بل يضرم فيه نار الشهوة الرديئة، لا يتراخى جسمك بحرارته لئلا تقتنص من قبل الأفكار الرديئة والدراسة القبيحة فتكون غير فاعل بشركة الجسد وبالعقل تشارك الهذيذ الردئ، إن الخطية نفسها ضلال وصنم فإن تقدمت تمسك منها وتندم كل حين وتعانق كل وقت أصنام الخطيئة المتخائلة لناظر الذهن فتتخيل معاينتها وتكثر مناجاتها، وإذا ذقت حلاوة دراستها ترخي فكرك وتنغلب إنغلاباً لا يبرأ، وتخطئ خطأً لا يستوضح فيصيح الناظرون يشاهدونك واضحاً حاوياً كافة الوداعة وأنت في ضميرك تتعذب باطناً متندماً حزيناً بلا انقطاع لأن للإنسان ضميراً يوبخه وعادة الشهوة الرديئة المألوفة حين تكمل يتبع الحزن أثارها فيرى وجهه بالزي الظاهر وديعاً وهو من داخل لا دالة له بالكلية قدام اللـه، ترى من لا يبكي وينوح ومن لا يحزن إنه في طرفة عين واحدة يتراخى الفكر فتخطئ حينئذ إلي اللـه عمداً وتطرد منه الموهبة السماوية أعني الطهارة والبتولية، لأنه حينما يكون هيكل الجسد قديساً وطاهراً يسكن فيه الإله الأعلى فإن أنفسد الهيكل وتدنس في الحين يتركه السيد، وعوض النور السمائي والأقدس يدخل الدنس ويقطن مستوطناً تدخل لذة الشهوة الرديئة وتدنسه كل وقت، ترى من يخطر هذا في قلبه بغير دموع وهو أن الإله القدوس رفض الهيكل وسكنته الشهوة الرديئة، أتعرف ذلك فأبتعد منه لأنه من أين وإلي أين سقط إن من أصابه ذلك لا يشبع من الدموع والزفرات، من أنغلب برخاوته في الجهاد ورأى آخر غالباً في الجهاد والصراع مشهوراً بالأكلة والرايات وظافراً والجماعة يمدحونه محيطين به، تكتنفه ندامة موجعة ويعذب ذاته الحزن، فيقول في نفسه لِمَ في لحظة واحدة أنغلبت للفكر وهربت من الجهاد، فها الذين أكملوه في مجد عظيم ومدائح جسيمة وأنا أختفي بخجل لأني أنهذمت منه، كذلك يوم المجازاة إذا أبصر المسترخون والخطاة الصديقون والأبرار بسرور عظيم بعضهم في الفردوس وآخرين في الملك، آخرين في السحب يتطايرون في النور، وهم في النار التي لا تطفأ والظلمة القصوى، حينئذ تحدق بِهم ندامة عظيمة مرهوبة، وبكاء لا ينفع. فلذلك أطلب إليك يا أخي المحبوب أن تصير مشابِهاً للآباء الكاملين القديسين الذين لا عيب فيهم، أسلك علي آثار الآباء السائرين بالبتولية الطاهرة، وبالنسك المهذب، والصلاة والصوم حب النسك تُقْ إلي الصلاة مخاطباً السيد لأن كل صلاة نقية مقدسة تخاطب بها السيد، صلاة المشتاقين إلي اللـه ترتقي متواتراً بفرح عظيم إلي السماء والملائكة ورؤساء الملائكة يبتهجون بِها ويقيمونَها أمام عرش السيد الأقدس العالي سيد الكل وحينئذ يكون السرور، حين يقدمون قدام اللـه صلوات الصديقين الوادين للـه. أحرص إذاً أيها الأخ كي تصير مضاهياً سيرة الآباء القديسين وفضائلهم، أسلك في طريق سيرتهم، إنسك نظيرهم إنسك بالمعقول، إنسك بالروح، إنسك بالجسد، إنسك بالزي، في الطعام، باللسان، بالناظر، بالفكر، بالضحك، لتستبين في كل شئ كمجاهد كامل، أصغِ إلي ذاتك وأحذر أن توجد إذا صليت متنزهاً طموحاً، إذا أنتصبت تصلي إلي اللـه فقف بخشية ورعدة، أطرح من قلبك وما يحوط به الفكر والاهتمام بسائر الأرضيات، صر بكليتك أجمع في ساعة الصلاة ملاكاً سمائياً وجاهد أن تكون صلاتك مقدسة ونقية بلا وسخ ولا عيب حتى إذا بلغت الأبواب السمائية وقرعت للحين تفتح لها، وإذا أبصرها الملائكة ورؤساء الملائكة يستقبلونها كلهم مسرورين ويقدمونها إلي عرش السيد الطاهر الأقدس والشاهق، صر كل وقت في ساعة الصلاة كالشاروبيم والساروفيم ماثلاً أمام اللـه. أيها الأخ أدرس هذه الأقوال وترنم بها بخشية وبهجة فإنها ترزق النفس أغذية روحانية، وتنتزع منها مرارة العالم الباطل وتحليها وتخففها من ثقل المهمات الأرضية والأمور الوقتية، كل ما سمعته أحرص أن تحفظه بعقلك دائماً فيرتاح اللـه فيك وتجد دالة في الساعة المرهوبة المرعبة إذا جاء المسيح ليجازي كل أحد نظير عمله. له المجد دائماً وعلينا رحمته آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
24 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس الفتية الثلاثة

ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون وما بهم ضرر ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة" دا 3: 25" مقدمة لست أعلم لماذا يطلق الناس عليهم على الدوام الثلاثة فتية؟... من الحق أنهم وصلوا إلى بابل، وهم فتيان صغار فى طراوة العمر وربيع الحياة، لكن من المؤكد أنهم تقدموا مع الزمن، وتجاوزوا - على الأغلب - الخامسة والثلاثين، عندما واجهوا امتحانهم الأعظم أمام أتون نبوخذ ناصر، ولقد وصفوا فى القصة سبع مرات بأنهم « رجال »... ومع ذلك فأنت لا تكاد تذكرهم رجالاً أو شيوخاً، بل هم فى ذهنك مع الدوام الفتيان الثلاثة هل توقف الزمن هنا ليمنحهم شباباً خالداً لا يمكن أن ينال منه الضعف أو الوهن أو العجز بأية صورة من الصور!!؟ فى الحقيقة، إن الشباب روح قبل أن يكون جسداً، وما أكثر الذين يعيشون فى جسد الشباب وهم شيوخ، … وما أكثر الشيوخ الذين يحملون روح الشباب مهما امتدت بهم الحياة أو ناء ما تحت الوهن أو الضعف الجسدى!! … والثلاثة الفتية كانت أسماؤهم العبرية مرتبطة باللّه – فحنانيا يعنى « اللّه حنان »، وميشائيل يعنى « من مثل اللّه!!؟.. » وعزريا « اللّه يعين». وحاول السبى أن ينسيهم هذا الارتباط بتغيير أسمائهم، وإضافة آلهة الكلدانيين إلى أسمائهم الجديدة، فأخذ حنانيا اسم « شدوخ » أو « أمر آخ » وآخ كان معبود القمر عند البابليين أو كما ندعوه الآن « سدراك » وميشائيل أضحى « ميشخ » أو تحول: « من مثل اللّه » إلى « من مثل آخ » وهو عندنا الآن ميخائيل، والثالث وكان اسمه « عزريا » وقد أعطى « عبد نغو » وعبد نغو معبود العلم عند البابليين،... على أن هذا التغيير فى الأسماء، لم يغير نبضة واحدة من نبضات قلوبهم التى تنبض باسم إلههم الواحد القديم، وبارتباطهم به فى الحياة أو الموت على حد سواء!!.. ولقد اكتسب هولاء الرجال شبابهم الخالد، فى قصة التاريخ، وها نحن نتابعهم اليوم فيما يلى: الثلاثة الفتية وسبب ظهورهم لسنا بحاجة إلى تكرار ما أشرنا إليه فى الحديث عن دانيال - ونحن نتحدث عن شخصيته - إذ أنه الفتى الأول إلى جانب هؤلاء الثلاثة فى المسرحية التى ظهرت على أرض بابل عندما سار هذا الفوج الأول من المسبيين إلى السبى، وعلى الأغلب ما بين عامى 605 و604 ق.م.، وكان الغلمان الأربعة فى سن واحدة قدرها البعض بخمسة عشر عاماً، وقدرها آخرون بسبعة عشر عاماً، فإذا كان الأمر كذلك، وعلى ما تتجه إليه الترجمة السبعينية، أن أتون النار حدث فى العام الثامن عشر من حكم نبوخذ ناصر عندما صنع الملك البابلى تمثال الذهب تخليداً لانتصاراته العظيمة، وتمجيداً لآلهته « بيل »، فإن الفتيان الثلاثة يكونون قد واجهوا التجربة بعد سماعهم بخراب أورشليم ومجئ الفوج الكبير اللاحق لهذا الخراب من المسبيين أى حوالى عام 685 ق.م.، أو بعد الخامسة والثلاثين من أعمارهم، فى سن الرجولة الواعية الكاملة، وقد أخذ إلى السبى الملكان يهوياكين وصدقيا، وكان إرميا فى أورشليم، ودانيال فى بابل، ويبدو أنه كان غائباً فى مهمة ما عن المدينة!!ولعله من اللازم أن نشير إلى أن إرميا كان قد تنبأ بأن مدة السبى ستكون سبعين عاماً، وقد حذر الشعب من الإصغاء إلى الأنبياء العرافين المدعين كذباً الذين دأبوا على خداعهم بأن اللّه سيرجعهم سريعاً إلى بلادهم، وطلب إليهم أن يبنوا بيوتاً ويغرسوا جنات، ويتزوجوا، ويصلوا لأجل البلاد التى هم فيها لأن وقتاً متسعاً لهذه كلها، لابد أن ينقضى قبل رجوعهم.. كان الكثيرون من المسبيين ينظرون إلى السبى كشر مطلق سمح به اللّه الذى تركهم ونسيهم، ولكن الحقيقة كانت على عكس ذلك، إذ أنه سباهم لأنه يفكر فيهم ويحبهم ويقصد لهم آخرة فياضة بالسلام والرجاء: « لأنه هكذا قال الرب. إنى عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامى الصالح بردكم إلى هذا الموضوع لأنى عرفت الأفكار التى أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب، أفكار سلام لا شر لأعطيكم آخرة ورجاء، فتدعوننى وتذهبون وتصلون إليّ فأسمع لكم. وتطلبوننى فتجدوننى إذ تطلبوننى بكل قلبكم، فأوجد لكم يقول الرب وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التى طردتكم إليها يقول الرب، وأردكم إلى الموضع الذى سبيتكم منه » " إر 29: 10 - 14 "على أنه من الواجب مع ذلك، أن نتعرف على حياة المسبيين وشعورهم العميق فى السبى، ولسنا نظن أن هناك مزموراً حزيناً يضارع فى حزنه، المزمور المائة والسابع والثلاثين، ومع أن كاتبه مجهول (ويعتقد البعض أنه من سبط لاوى).. ومع أننا لا نستطيع أن نقبل بحال ما روح العنف والقسوة التى كانت سمة العهد القديم فى الانتقام، والتى جاءت فى ختام المزمور«أذكر يارب لبنى أدوم يوم أورشليم القائلين هدوا هدوا حتى إلى أساسها يابنت بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذى جازيتنا طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة »... إلا أننا مع ذلك ندرك إحساس المسبيين، والعواطف الوحشية التى تتملك الأسير وهو يرى رد فعل المعاناة التى عاناها، واشتدت عليه،... غير أن روح االمسيح يمنعنا الآن من مثل هذا الأسلوب، وقد صلى هو لصالبيه من فوق الصليب، مرتفعاً فوق الحقد والضغينة باسمى لغة سمعها الإنسان على الأرض: «إغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون » " لو 23: 34 " وفى الوقت عينه، من اللازم أن نتحسس مشاعر الفتية الثلاثة من هذا المزمور،... لقد كانوا على ولاية بابل، وعندما بلغهم خراب مدينتهم علقوا أعوادهم على الصفصاف، ولم تنقطع الدموع من عيونهم!!... ومع أن بابل كانت أجمل مدينة فى الدنيا فى ذلك التاريخ، كانت مدينة الحدائق المعلقة التى جمعت أبهج ما يمكن أن تمتلئ به العين، وكانت المدينة الممتلئة بالأنهار والغدر ان تتدفق منها الحياة تدفقاً، وأشجار الصفصاف ترتفع عالية شامخة ترسل ظلالها البعيدة هنا وهناك، لكن جمال المدينة نفسه، كان عذاباً لمشاعرهم وعواطفهم، كلما ذكروا بلادهم الخربة التعسة التى أضحت أطلالا وأنقاضاً!!... لقد كانت بابل قفصاً من ذهب، طلب إلى الطائر السجين أن يغرد ويرفع صوته وهو داخله بالأغنية والطرب!!ولم تكن المأساة أن يمتنع الطائر الأسير المهاجر عن الغناء،... بل طلب إليه أن يغنى أغنية لإله غريب، وهنا الطامة الكبرى، بل هنا البلاء الذى لا يعد له بلاء آخر، لقد كان على الثلاثة الفتية، أن يستبدلوا أعوادهم بأعواد أخرى، ومزاميرهم بمزامير أخرى، ويهللوا فى وقت نكبتهم، بالترنيم لإله غريب!!صنع نبوخذ ناصر تمثالا عظيما من ذهب، تصوره البعض ذهباً خالصاً، وتصوره آخرون خشباً مغشى كله بالذهب، وارتفاعه ستون ذراعاً أو ما يقرب من ثلاثين متراً، وعرضه ستة أذرع أو ما يقرب من ثلاثة أمتار، وقد ظن البعض أنه تمثال نبوخذ ناصر نفسه، والأرجح أنه تمثال لآلهته، وقد دعى لتدشين التمثال القادة والرؤساء وحكام الولايات، فاجتمع جمع غفير من كل القبائل والأمم والألسنة، وكان لابد أن يكون الثلاثة الفتية الموكلون على أعمال ولاية بابل، بين الحاضرين!!.. ومن الواضح أن دانيال لم يكن بالمدينة، وإلا لكان القائد أو رجل الطليعة.. وكان على زملائه الآخرين أن يواجهوا الامتحان هذه المرة بمفردهم،... وواجهوه على النحو العظيم الذى أثار التاريخ بأكمله!!. الثلاثة فتية والشكوى ضدهم عند سماع الموسيقى لامست جميع الرؤوس الأرض، إلا ثلاثة رؤوس لم تنحن للتمثال لأنها لا يمكن أن تنحنى إلا للّه وحده، وسارع الكلدانيون بالشكوى لنبوخذ ناصر، ولعل هناك أكثر من سبب لهذه الشكوى، بل لعل بعضها يختفى وراء البعض الآخر، ومع أنها قد تكون الأسباب الحقيقية، لكنها مع ذلك تلبس مسوح غيرها من الأسباب،... ولو أننا حاولنا أن نحلل أسباب الشكوى لرأيناها أولا غيظ الرأس المنحنى من الرأس الذى لا يعرف الانحناء لبشر، والناس دائماً يبحثون عن الرؤوس المتساوية ولا يقبلون رأساً يرتفع فوق رؤوسهم ليكشف ضعفهم ونقصهم وهزالهم وهزيمتهم،.. ولو أننا بحثنا الصراعات القاسية فى كل العصور والأجيال، لرأينا الكثير منها لا يزيد عن تناطح الرؤوس، وتصارع الرياسات، وتقاتل المناصب،... وما من شك بأن الحسد لعب دوره العظيم فى هذا المجال، فالثلاثة الفتية ليسوا كلدانيين وأعمال ولاية بابل بين أيديهم، هم غرباء أجانب، لم يكتفوا بأن يزاحموا الوطنيين فى مراكزهم، بل أكثر من ذلك يرأسونهم ويسودون عليهم،... فإذا أضفنا إلى ذلك أنهم عقبة كأداء فى طريق الفساد والرشوة والانتهازية والوصولية التى عاشوا عليها، أو يحلمون باستغلالها، والكسب الحرام من ورائها،... تبين لنا مدى االحنق والغيظ، وانتهاز الفرص للاضرار بهم والإيقاع بأشخاصهم، والأمل فى إسقاطهم من الحياة العالية المرتفعة التى وصلوا إليها!!... ومن المتصور أيضاً أن هذا كله استتر وراء الغيرة على الدين، فمن هم هؤلاء الذين يجرؤون على رفع رؤوسهم تجاه « بيل » معبود نبوخذ ناصر ومعبودهم؟!.. وأنهم ينبغى أن يكونوا أوفياء أمناء تجاه آلهتهم العظيمة التى ينبغى أن ترتفع على كل الآلهة التى يتعبد الناس لها فى الأرض!!.. كانت شكوى الكدانيين على الثلاثة الفتية خليطاً من البواعث الدفينة والظاهرة، التى تمتزج فى حياة الناس، وتكون حقدهم وتعصبهم وضغينتهم وانتقامهم دروا بها أو لم يدروا على حد سواء!! الثلاثة الفتية وولاؤهم للّه كان ولاء الثلاثة الفتية للّه نموذجاً من أروع نماذج الولاء فى كل العصور ويخيل إلى أن هناك علاقة بين أسمائهم العبرية، وهذا الولاء، ويمكن أن نأخذ صورة منها، فاسم أحدهم « ميشائيل »... أو « من مثل اللّه!!؟ أو من هو الإله الذى يمكن أن يكون نداً ومثيلا للّه!!؟ لا أحد!!... وهيهات أن يكون له مثيل بين الآلهة أو تماثيلها وأنصابها أيضاً!!.. فليصنع نبوخذ ناصر تمثالا لبيل، وليطلق على ميشائيل اسم ميشخ أو من هو مثل « آخ » معبود القمر،... فهذا أمر لا يقبله ميشائيل، حتى ولو تحول أشلاء تذروها الرياح، فمن مثل اللّه عنده؟!!.. ومن فى السماء أو الأرض يدانى اللّه أو يقاربه؟..!! ألم يغن موسى فى بركته التليدة: « ليس مثل اللّه يايشورون. يركب السماء في معونتك والغمام فى عظمته. الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت » " تث 33: 26 و27 "... وألم يقل إشعياء: « فبمن تشبهوننى فأساويه يقول القدوس » " إش 40: 25 " بمن تشبهوننى وتسووننى وتمثلوننى لنتشابه " " إش 46: 5 ".. وألم يهتف ميخا: « من هو إله مثلك غافر الإثم، وصافح عن الذنب لبقية ميراثه، » " ميخا 7: 18 "... وقد كان ممتنعاً على الإسرائيلى لهذا السبب أن يحاول تصوير اللّه فى أية صورة أو نصب أو تمثال يتقرب به إليه، ومن ثم جاءت الوصية: لا تصنع لك تمثالا منحوتاً ولا صورة ما مما فى السماء من فوق، وما فى الأرض من تحت، وما فى الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأنى أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء فى الأبناء فى الجيل الثالث والرابع من مبغضى » "خر 20: 4 و5 "... والعبرانى بهذا المعنى لا يقبل أن يرى آلهة بجانب اللّّه، أو تمثالا أو صورة يتقرب بها إليه، مهما بلغت ذروة الفن أو الجمال،... لأنها - فى أفضل الحالات - ليست إلا مسخاً لجلاله الفائق الحدود!!... فإذا أضفنا اسم «حنانيا » إلى اسم ميشائيل، نعرف سبباً آخر للولاء للّه، فنحن لا نعظم اللّه لمجرد أن عظمته لا تحاكيها أو تدانيها أية عظمة أخرى، وهو أعلى من السموات التى ليست بطاهرة أمام عينيه وإلى ملائكته ينسب حماقه!!... إن السبب الثانى للولاء هو حنوه ومحبته وجوده وإحسانه، إذ أنه اللّه الحنان المشفق الرحيم الجواد، الذى يمطر علينا بالإحسان والعطف والمحبة والرأفة!!.. لقد أدرك الثلاثة الفتية حنان إلههم فى قلب الأسر والسبى والمتاعب والالام، فهو لم يكتف أن يجنبهم أهوال الاستعباد التى كان يمكن أن تطحنهم طحناً، كعبيد أسروا فى الغزو والحرب، بل رفعهم وعظمهم وجعلهم سادة على مستعبديهم، وقادة فى ولاية بابل،... فإذا جئنا إلى عزريا أو « اللّه يعين » أدركنا أن اللّه لم يتخل عن شعبه فى وقت المأساة والضيق، بل كان على العكس، أقرب ما يكون إليهم، وهم لا يدرون،...: « وقالت صهيون قد تركنى الرب وسيدى نسينى. هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك. هوذا على كفى نقشتك. أسوارك أمامى دائما ».. " إش 49: 14 - 16 "ولست أظن أن الولاء المسيحى للّه يعرف أسباباً أفضل من عظمة اللّه، وحنوه، وعنايته التى ظهرت فى شخص يسوع المسيح مخلصنا، وعندما أوقد الشيطان أتونه العظيم ضد الكنيسة، وأثار عليها أرهب وأشنع صور الاضطهاد عادت مرة أخرى بطولة ميشائيل وحنانيا وعزريا فى آلاف الآلاف الذين غنوا فى قلب الأتون المحمى سبعة أضعاف وصار ناراً مشتعلة بحبهم العظيم للّه فى يسوع المسيح الرب والمخلص!!فإذا تحولنا من سر الولاء إلى مظهره، رأيناه أولا فى الشجاعة الخارقة، وهل يمكن أن يعرف العالم شجاعة أعلى وأسمى من شجاعة الشهيد الذى تبدو الصورة الأولى لشجاعته فى انتصاره على نفسه، قبل أن ينتصر على إنسان أو مخلوق آخر؟!، وعندما ينتصر الإنسان على نفسه فإن ألف نبوخذ ناصر لا يستطيعون أن يفعلوا معه شيئاً. عندما هدد الإمبراطور يوحنا فم الذهب، قائلا إنه يستطيع أن يفعل ضده الكثير، قال له القديس القديم،: إنه أعجز من أن يفعل معه شيئاً، وإذ قال هل: أنفيك... قال الذهبى الفم: إن أى مكان ترسلنى إليه، سأجد هناك صديقى الذى لا تستطيع أن تفصلنى عنه!.. وإذ قال له: آخذ ثروتك أجابه: إنك لا تستطيع، لأن لى كنزاً فى السماء لا تصل إليه يدك!!.. وإذ قال له: أقطع عنقك... كان الجواب: يوم تفعل ذلك فإنما أنت تحرر الطائر السجين من القفص الذى حبس فيه... وأدرك الإمبراطور أن إنساناً كهذا لا يمكن قهره على الإطلاق،.. كان انتصار الفتية الثلاثة، أولا وقبل كل شئ، انتصاراً على النفس، فلم يعد واحد منهم يفكر فى الشباب الذى يترصده الموت على أرهب صورة،... ولم يعد واحد منهم يفزع من أجل المنصب الذى يوشك أن يضيع، ولم تعد الحياة بجملتها، بما فيها من متعة وجلال، ومجد أرضى، تساوى قلامة ظفر، تجاه مجد اللّه وجلاله وعظمته وخدمته!!.. ألم يأت بعدهم بمئات السنين من قال: « والآن ها أنا أذهب إلى أورشليم مقيداً بالروح لا أعلم ماذا يصادفنى هناك، ولكننى لست أحتسب لشئ ولا نفسى ثمينة عندى حتى أتمم بفرح سعيى والخدمة التى أخذتها من الرب يسوع لأشهد ببشارة نعمة اللّه » " أع 20: 22 - 24 "؟!عندما انتصر الفتية الثلاثة على أنفسهم، استطاعوا الانتصار على الامبراطور العظيم الطاغية،... ومن العجيب أن ثلاثة عزل من كل سلاح، يقفون أمام أعظم إمبراطور فى عصره، الامبراطور الذى دانت له الدنيا، وقهر الممالك، وأذل أعناق الرجال،... ولعل هذا الامبراطور فى معركته مع الفتية لم تقع عينه قط على من هو أجرأ أو أشجع منهم على الإطلاق، كيف لا، وهم ينادونه باسمه دون تملق أو زلفى أو خوف أو فزع أو مداهنة أو رياء، ومن غير إضافة أى لقب،... وفى الواقع، لا يمكن أن تعرف الدنيا فى كل الأجيال، جرأة كجرأة الشهيد الذى يخوض معركة الحق من أجل اللّه!!كانت المعركة بين نبوخذ ناصر والفتية، هى ذات المعركة القديمة، بين المنظور وغير المنظور، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الأمانة والحماقة، ومن المؤكد أنه لم يكن هناك تكافؤ بين الطرفين، فحسب النظرة البشرية كانت الكفة أرجح بما لا يقاس نحو رجل يملك قوة الدنيا بأكملها بين يديه، وبين ثلاثة من الأسرى المنبوذين الذين لا حول لهم ولا قوة وما هم إلا ثلاث من النمل تحت أقدام فيل رهيب ضخم ولكن حسب النظرة الأعمق، هم المسلحون بقوة رب الجنود إله إسرائيل!!فإذا عدنا ننظر إلى القوة التى يمتلكونها نجدها أشبه بدرجات سلم متصاعدة، أما الدرجة الأولى التى تمس الأرض فهى أنهم ثلاثة معاً وليسوا واحداً،... ومع أن كثيرين من أبطال التاريخ ذهبوا إلى معاركهم منفردين وراء ذاك الذى قال « دست المعصرة وحدى » " إش 63: 3 "... لكن المسيح نفسه، وهو القادر على كل شئ وله فى جثسيمانى أن يحس بوجود تلاميذه معه، وقال لبطرس وابنى زبدى،: « أمكثوا هنا واسهروا معى » " مت 26: 38 ".. « أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة؟ " مت 26: 40 " كان من أقسى ما عانى فى جثسيمانى وحدته تجاه أكبر معركة مرت فى التاريخ،... وما أجمل أن يجد الإنسان منا فى لحظات المحن والمتاعب والتجارب والآلام، من يؤنسه بكلمة أو يبتسم له أو يشجعه أو يعينه بأية صورة من الصور،... وقد وجد الفتية الثلاثة هذا التشجيع فى الشركة التى تربطهم فى الإيمان والمصير!!.. عندما وقف لاتيمار مع صديقه ردلى وقد حكم عليها بالموت حرقاً... قال لاتيمار لزميله: تشدد فإننا سنضئ اليوم فى انجلترا كمشعل بنعمة اللّه لن ينطفىء أبداً!!وكانت الدرجة الثانية من السلم يقين الفتية بأنهم يدخلون معركة نبيلة شجاعة من أعظم وأروع المعارك على ظهر هذه الأرض، وقد سبق فى دراستنا للشخصيات أن أشرنا إلى ما قاله جورج فرند سبرج وهو قائد من أعظم القواد الألمان لمارتن لوثر، وهو يدخل باب مجمع ورمس لمحاكمته التليدة الرهيبة: « أيها الراهب المسكين... إنك ذاهب إلى معركة أنبل وأعظم من كل المعارك التى خضتها أنا، أو أى واحد من القادة، فإذا كانت قضيتك عادلة فتقدم باسم اللّه »... وكما تقدم الثلاثة الفتية العظام، تقدم مارتن لوثر إلى معركة الإصلاح التى لم تغير تاريخ أوربا فحسب، بل غيرت التاريخ المسيحى كله!!على أن الدرجة العليا فى السلم، كانت يقين الفتية أنهم لا يدخلون المعركة منفردين،... إذ لم يكن هذا هو الاختبار الأول لهم، فقد سبقت لهم النجاة من يد الرجل البطاشة، عندما أعلن اللّه لدانيال على صورة معجزية خارقة للعادة حلم نبوخذ ناصر وتفسيره،... إنهم يؤمنون بإله قوى قادر على كل شئ، وعندما يرون نبوخذ ناصر أمامهم، فى ضوء اللّه، يضحى العاتية الجبار أقل من نملة تدب على الأرض، وهم لذلك يخاطبونه بدون لقبه، قائلين: « يانبوخذ نصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر، هوذا يوجد إلهنا الذى نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك، وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذى نصبته »... " دا 3: 17 و18 " وجند الطاغية كل قواه وسلطته، فالأتون يحمى سبعة أضاف، الفتية يقيدون، وأقوى رجال الحرب يقذفون بهم فى قلب الأتون، والنار الملتهبة فى شدتها وعنفها تقضى على القاذفين!!.. الثلاثة الفتية ونصرهم العظيم فى معسكرات الاعتقال الشيوعية، قبض على جمع من الشباب، وكانوا عشرين على ما أتذكر، ودخل الضابط الشيوعى، وعدهم قائلا أنتم عشرون وقال شاب: لا، بل نحن واحد وعشرون، وعد الضابط مرة أخرى،... وقال: أنتم عشرون. ورد عليه نفس الشاب: بل واحد وعشرون، وإذ أعاد العد، قال: ومن هو الواحد والعشرون!! فأجاب الشاب: إنه الرب يسوع المسيح!!.. وإذا كان المسيح معنا فى كل وقت، فإنه أدنى إلينا وألصق بنا ونحن فى الأتون،... ومن اللازم أن نشير إلى أن الثلاثة الفتية كانوا يؤمنون بالنصر، سواء عاشوا أو ماتوا!!.. فإذا عاشوا فهم شهود قدرته، وإذا ماتوا فهم أوفياء لمحبته، ومن المثير أن نبوخذ نصر قذف بهم موثقين، فإذ به يراهم محلولين يتمشون فى وسط الزتون، وما بهم ضرر ومعهم رابع شبيه بابن الآلهة،... لقد أخطأ الرجل أعمق الخطأ، سواء فى فهم قيودهم، أو فى فك هذه القيود،... لقد ظن أن يقيدهم بحبال البشر وما درى أن قيدهم الحقيقى هو حب اللّه، الذى يعيشون من أجله، ويموتون فى سبيله،... ولقد ظن أن النار ستأتى عليهم وعلى قيودهم معاً، وما عرف أو أدرك أنهم أحرار، يتمتعون بأكمل صور الحرية رغم قيودهم، أحرار فى ذلك الذى حل قيودهم وفكها، وسار معهم داخل الأتون الملتهب، دون أن ينالهم أدنى ضرر، إذ هو القائل: « فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً » " يو 8: 36 "ولا حاجة إلى القول إن القصة تتكرر فى كل عصور التاريخ بهذه الصورة أو تلك، من أتون التجارب ونيران الاضطهاد والمصاعب، ولكن ابن اللّه يظل هناك على الدوام، لا يتغير ولا يتبدل، مهما كانت النتائج التى تتمخض عنها الأحداث، وقد اشتعلت النيران طوال ثلاثة قرون فى مطلع التاريخ المسيحى، وحمى الأتون سبعة أضعاف،... ولكن المسيحية خرجت من قلبه، وجوليان الإمبراطورى يصيح: لقد غلبت أيها الجليلى!!... إن الدرس العظيم الذى يعطيه الثلاثة الفتية للعالم، إلى جانب الولاء المطلق للسيد، هو اليقين الذى لا يتزعزع فى جوده وحبه،... وفى وجوده على صورة خارقة عجيبة تفوق الإدراك والوصف، وتحير العقول وتذهلها كما تحير نبوخذ نصر وتعجب هو والمرازبة والشحن والولاة ومشيرو الملك وهم يرون « هؤلاء الرجال الذين لم تكن للنار قوة على أجسادهم، وشعرة من روؤسهم لم تحترق وسراويلهم لم تتغير ورائحة النار لم تأت عليهم " دا 3: 27 "!! هل لنا مثل هذا الإيمان، مهما تغيرت أو تلونت ظروف الحياة... ومهما أحاطت بنا الصعاب والمتاعب؟!!.. تحدث هنرى ورد بيتشر عن أبيه، وكان خادماً للّه، وقد مرت به ظروف قاسية صحية ومادية فى كثير من الأوقات، قال الابن: لا أنسى أننا كنا نتناول الشاى فى المطبخ، وإذا بأمى تقول لزوجها، وكانت هادئة وديعة،... لا أعلم كيف نواجه المصروفات والفواتير، وهى تخشى أن تموت فى بيت من بيوت العجزة المسنين،... وأجاب الزوج قائلا: ياعزيزتى: لقد وثقت باللّه طوال أربعين عاماً خلت، ولم يخذلنى قط طوال هذه السنين،... وأنا لست مستعداً بعد أن أبدأ الآن بعدم الثقة فيه!!.. وقال بيتشر الابن: لقد أيقظتنى هذه العبارة، وكانت لى أفضل قانون للإيمان،... لقد اجتزت فى بكور أيامى بين المرض والفقر وألوان المتاعب والضيقات، دون أن تغيب عن ناظرى، أو يتباعد رنينها عن أذنى: « لقد وثقت باللّه أربعين عاماً، ولست مستعداً بعد أن أبدأ الآن بعدم الثقة فيه »!! إنحنى نبوخذ نصر، إنحنى الملك العظيم أمام ملك الملوك ورب الأرباب، وسجل أمام اللّه والتاريخ فى مواجهة الأتون: « تبارك إله شدرخ وميشخ وعبد نغو، الذى أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلوا عليه وغيروا كلمة الملك وأسلموا أجسادهم لكيلا يعبدوا أو يسجدوا لإله غير إلههم. فمتى قد صدر أمر بأن كل شعب وأمة ولسان يتكلمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبد نغو فإنهم يصيرون إرباً إباًً وتجعل بيوتهم مزبلة إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجى هكذا.. حينئذ قدم الملك شدوخ وميشخ وعبد نغو فى ولاية بابل » " دا 3: 28 - 30 "نعم، وليكن اسمه مباركاً إلى أبد الآبدين آمين فآمين!!...
المزيد
19 ديسمبر 2020

المقالة الثانية والعشرون في الرحيل من هذا العالم

الطوبى لمن أبغض العالم الإنساني وتركه، وصارت تلاوة حياته من اللـه وحده مفرداً. الطوبى لمن مقت الخطية الرديئة ورفضها، وأحب اللـه وحده الصالح والمتعطف على البشر. مغبوط من صار على الأرض بمنزلة ملاك سمائي، ومضاهي الشاروبيم، حاوياً أفكاراً بكل وقت طاهرة نقية. مغبوط من صار طاهراً للـه وقديساً، ونقياً من كافة النجاسات والأفكار والأفعال الخبيثة. مغبوط من صار بجملته حراً للرب من كل أمور هذا العالم الباطل، مغبوط من تمكن في عقلة ذلك اليوم العتيد الرهيب فحرص أن يداوي بالدموع جراحات نفسه، مغبوط من صار بكليته مثل سحابة تسكب الدموع كل حين وطفأَ اضطرام نار الآلام الخبيثة، مغبوط من يسلك في طريق وصايا الرب صانعاً كل وقت منازل تلمع صفاءً بالأمانة والمحبة، مغبوط من نجح في عادات النسك الصالحة موقناً أنه يأخذ من اللـه ملكاً سمائياً، مغبوط من يتذكر أمر القول المرهوب فأقام فمه حافظاً يرصده آلا يسقط من الوصية، مغبوط من صارت نفسه كالنصبة الجديد نصبها الغضة الحاوية دائماً دموعاً من أجل اللـه مثل ساقية الماء، الطوبى لمن غرس في نفسه نصبات حسنة أي الفضائل وسير القديسين، مغبوط من يسقي غروسه بالدموع إذا صلي لتصير غروسه مرضية للـه ومثمرة، الطوبى لمن أضطرم بمحبة الرب كمحترق بالنار فأحرق كل فكر دنس من نفسه، الطوبى لمن صار باختياره كأرض جيدة صالحة مثمرة زرعاً جيداً مائة وستين وثلاثين، الطوبى لمن وجد في حقل نيته البذار الجيد الذي زرعه السيد في حقله، مغبوط من وجد الدرة الخطيرة السمائية فأباع ما له على الأرض وأبتاعها وحدها، الطوبى لمن وجد الكنز المخبوء في الحقل فرفض كافة الأشياء معاً وأقتناه وحده، الطوبى لمن يتذكر دائماً يوم انصرافه ويحرص أن يوجد في تلك الساعة وافر النشاط وبلا خوف، الطوبى لمن وجد دالة في ساعة الفراق إذا فارقت النفس الجسم بخوف وأوجاع لأن الملائكة يجيئون يأخذون النفس ويفرقونها من جسدها ويقفون بها أمام موقف الختن الذي لا يموت والقاضي المرهوب جداً، خوف عظيم في ساعة الموت إذا فارقت النفس الجسم بخوف ونحيب لأن النفس في ساعة الفراق تقف أمامها أعمالها التي عملتها في النهار والليل الصالحة والطالحة، والملائكة متسارعون أن يخرجوها من الجسد فإذا رأت النفس أعمالها تجزع من الخروج، تفارق نفس الخاطئ بخوف وجزع الجسد وتمضي مرتعدة لتقف في مجلس القضاء الذي لا ينقضي فيقتسرونها أن تخرج من الجسد فإذا أبصرت أعمالها كلها تقول لهم بخوف ” أعطوني مهلة ساعة واحدة حتى أخرج ” فتجيب النفس أعمالها كلها: أنتِ صنعتينا فمعكِ نمضي إلى حضرة القاضي. فلنمقتن يا أخوتي هذا العالم الباطل ولنحب المسيح وحدة القدوس والفادي نفوسنا لأننا لا نعرف في أية ساعة يكون انصرافنا ولا يعلم أحد منا يوم الفراق وساعته لأنه بغتة حين نكون متخطرين ومتنعمين على الأرض بلا اهتمام يدهمنا الأمر المرهوب فتؤخذ النفس من الجسم وتمضي نفس الخاطئ في ساعة ويوم لا تتوقعهما موعوبة خطايا ولا اعتذار لها، فلهذا الحال أطلب إليكم أن نصير أحراراً ولا نتقيد بعبودية هذا العالم الباطل الوقتي الموعوب شكوكاً وفخاخاً ومقانص الموت، فلنجنح نفوسنا ولنطيرها عن الشكوك والفخاخ لأن الخبيث كل يوم يطمر دائماً فخاخه قدام نفوسنا لكي ما إذا أقتنصها بالشكوك والفخاخ يقتنصها إلى العذاب الأبدي، فلنصغِ إلى ذاتنا حذرين أن نسقط في فخاخ الموت، لأن فخاخ العدو موعبة حلاوة فلا تنحل أنفسنا لحلاوة فخاخه التي هي الاهتمام بالأمور الأرضية لأن الأقوال والأفكار والأفعال الخبيثة هي الفخ، فلا تستحل أيها الأخ بحلاوة المرئي، لا تتراخَ وتنحل بدراسة الأفكار الخبيثة فإن الفكر الخبيث إذا وجد مدخلاً للنفس يحلي لها الدراسة الخبيثة ويصير الفكر الخبيث كالفخ في النفس فلا ينطرد بالصلاة والدموع ولا بالحمية والسهر فصر منذ الآن متيقظاً ومعتوقاً من كافة الأشياء الأرضية لتنجى من فخاخ الأفكار ومن الأفعال الخبيثة، لا تتراخَ طرفة واحدة وتتلُ في مناجاة الفكر الخبيث، لا تدع أن يلبث الفكر الخبيث في نفسك، أيها الأخ أهرب دائماً إلى اللـه بالصلاة والصوم والدموع لتنجى من كافة الفخاخ والشكوك والآلام، لا تترجى أيها الأخ أنكَ تعيش على الأرض زماناً طويلاً فتتراخى في دراسة الأفكار الخبيثة والأفعال الرديئة فيوافي بغتة أمر الرب ويصادفك أيها الخاطئ ليس لك وقت توبة واستغفار، فماذا تقول أيها الأخ للموت في ساعة الفراق لأن الأمر يدهم فلا يتركك ساعة على الأرض، وكثير ممن ظنوا أنهم يعيشون زماناً طويلاً على الأرض فجائهم الموت بغتة، إن رجلاً خاطئاً وموسراً حاسباً سنيناً كثيرة على الأرض يعيشها في راحة ونعيم عاقداً باصابعه حساب رأس المال والرباء موزعاً عدد ثروته في سنين زمان طويل فدهمه الموت بغتة ففي طرفة واحدة بطل الحساب والغنى واهتمام العالم الباطل، جاء الموت أيضاً فصادف رجلاً صديقاً متصور الموت دائماً بين عينية غير خائف من وروده ومفارقة الجسد متوقعاً أمله دائماً بين عينيه كما يليق بالفقيه الروحاني منتظر الفراق والمثول في مقام الرب، أستعد في كل حين بمصباحك مثل عاقل ونشيط، تفقد نفسك كل ساعة بالدموع والصلوات ما دمت تجد وقت أمهال، أحرص يا حبيبي فإن زمانك يجئ بجملته موعباً عدم أمانة، رخاوة، ونية، قساوة، فلا يسمح لك أن تفتكر في الرؤيات الفاضلة لأنه يدهشك. يا أحبائي قد عرفتم كيف أن الأشياء الخبيثة كلها تشب وتنشئُ كل يوم الأمور الرديئة، فالخبث يسبق بسعيه فيدل على الاختلاط الآتي والحزن العتيد أن يكون على وجه كافة الأرض هذه تنتج من أجل خطايانا كلها كل يوم ومن أجل رخاوتنا ينبت الخبيث على الأرض فلنصر متيقظين محاربين وادين للـه غالبين كل وقت قتال العدو كاملين، ولنعلم عادات الحرب لأنها لا ترى، وعادات هذا القتال هي التعري من الأرضيات، إن أنتظرت الموت كل يوم لا تخطئ، إن تعريت من الأمور الأرضية فلا تنهزم في الحرب، إن أبغضت الأرضيات وأحتقرت الوقتيات تستطيع مثل محارب ذي شهامة أن تأخذ راية الغلبة فإن الأشياء الأرضية تسحب إلى أسفل، والآلام تظلم عيني القلب في القتال، لهذه الحال يغلبنا الخبيث في موقف القتال لأننا نقتني الأرضيات، وبالاهتمام بالأرضيات نخدم اللذات، كلنا اليوم نحب الأرضيات وعقلنا قد تسمر في الأرض من أجل رخاوتنا، النهار قد مال إلى المساء وقد انتهى منذ الآن زماننا ونحن من أجل عدمنا الأمانة نظن أنه سيمتد ويطول، ها ملكوت السموات على الأبواب ونحن عن هذا الأمر لا نؤثر أن نسمع ذكراً، العلامات والآيات التي قالها الرب صارت ! أي أوبئة ومجاعات وزلازل مفزعة وحروب هذه كلها نعتقد بها كمنام يحدث بها بعضنا بعضاً، فاستماع مسماع هذه المخاوف ومعاينتها لا تذهلنا. فلنهرب يا أحبائي إن الساعة الحادية عشرة هي، ومسافة الطريق طويلة جداً، فلنحرص أن نوجد في الطريق ولنكن متيقظين ولنستفق من النوم غير هاجعين، فإننا لا نعلم متى أو في أية ساعة يجئ سيد كافة الأرض، فلنخفف ذاتنا من ثقل واهتمام الأرضيات فقد قال لنا الرب أن لا نهتم بشئ ألبتة، وأوصانا أن نحب الكل معاً فنحن قد طردنا هذه المحبة فهربت من الأرض فتكاثرت الخطايا وغشا الظلم الكافة معاً كل واحد منا يتمني الأشياء الأرضية ويورثها، ويتهاون بالمناقب السماوية، ويبتغي الوقتيات، ولا يحب الأمور المستأنفة، أتؤسر أن تكون سمائياً أبغض دائماً الأمور والأشياء التي على الأرض وأرفضها وانسك وأشتهي ملكوت السموات، لا تظن أن كثير عمل النسك وتعبة وتقول أني حقير وضعيف ولا أستطيع أنسك، تفهم كلمات مشورة نفيسة وصالحة، تأمل ما لك أيها الأخ المحب للمسيح إن آثرت أن تسافر إلى بلد أو موطن بعيد لا تستطيع أن تسير كافة مسافة الطريق في لحظة واحدة هكذا هو الملك السماوي ونعيم الفردوس بالأصوام بالنسك بالسهر يبلغ إليه كل واحد، فالحمية والدموع والصلاة والسهر والمحبة هي المنازل المؤدية إلى السماء، لا ترهب أن تصنع ابتداءً حسناً للطريقة الجليلة المؤدية إلى الحياة، أرغب أن تسلك في الطرق فإن وجدت ذاتك وافر النشاط فالطريقة نفسها في الحين تتيسر أمام رجليك وتفرح سالكاً فيها وتصنع فيها منازل طرباً مبتهجاً وفي كل منزل تتقوى مسالك نفسك، ولا تجد صعوبة في الطريقة المؤدية إلى السماء لأن الرب السماوي هو بذاته صار طريق حياة للمؤثرين أن يذهبوا بفرح إلى أبي الأنوار، أيها المسيح المخلص صر لي طريق حياة مؤدية إلى الآب هذه وحدها هي السرور ونهايتها المملكة السمائية، لقد صرت لي أيها السيد يسوع الإله طريق حياة واستنارة فأغترفت بذاتي من الينبوع مواهب موعبة شوقاً فصارت نعمتك في قلب عبدك نوراً وفرحاً وحلاوة في فم عبدك أحلي من العسل والشهد وصارت في نفس عبدك كنزاً (أي مسكنة ) وطردت الفقر والأثم، صارت نعمتك لعبدك ملجأً وقوة نصراً وسمواً وفخراً وأغذية كافة الحياة، كيف يصمت عبدك من وفور لذة محبتك أيها السيد، ونعمتك التي فتحت فمي بلا استحقاق، كيف يصمت لساني عما ينفعه من تسبح وتمجيد المعطي الخيرات وكيف أجترئ أن أحبس أمواج النعمة النابعة في قلب الخاطئ الموعبة حلاوة في المواهب الجزيلة إني أرتل تمجيداً لسيد السمائيين المعطي خادمه المواهب السمائية بتعطفة الجزيل على البشر، أُعظم نعمتك أيها المسيح المخلص لأنني إذا عظمتها أعظم بها ولا أكف أن أتلو بلساني تمجيد نعمتك أيها السيد المسيح المخلص، ولا تصمت معزفتي من الترنم بترنيمات روحانية، إن شوقك يجذبني إليك يا فخر حياتي ونعمتك تحلي ذهني لأنجذب وراءك ليصير قلبي لك أرضاً صالحة قابلة بذاراً جيداً تندية نعمتك بنداء الحياة الأبدية لتحصد نعمتك من أرض قلبي كل حين غمراً جيداً تخشعاً سجوداً طهارةً وكافة المرضيات لك، أسترجع نفسي إلى صيرة ( حظيرة ) فردوس النعيم مع الخروف الذي وجد، فلتوجد نفسي في النور، إن ذلك الخروف لما وجدته حملته على منكبيك، فأما نفسي هذه غير المستحقة فأقتدها بيدك وقدمتها كلاهما إلى أبيك الطاهر الذي لا يموت حتى أقول في نعيم الفردوس مع كافة القديسين المجد للآب الذي لا يموت وللابن الذي لا يموت والروح القدس الذي لا يموت والسجود للمعطي الحقير مواهب سمائية ليقرب غمر التمجيد لملك كافة البرايا له المجد إلى الأبد وعلينا رحمته. آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
18 ديسمبر 2020

معلومات لاهوتية عن شهر كيهك

مواضيع عامه تسبحة كيهك تسمى (سبعة وأربعة) إذ أن ترتيبها الأساسى عبارة عن أربعة هوسات، وسبعة ثيئوطوكيات وكلمة هوس hwc معناها تسبحة. وكلمة ثيئوطوكية مشتقة من كلمة ثيئوطوكوس qe`otokoc ومعناها والدة الإله أى أنها تختص بعقيدة التجسد من والدة الإله العذراء القديسة مريم وهنا نضع أمامنا أربعـة أسـئلة حول تسبحة شهر كيهك لماذا فى شهر كيهك ؟؟؟ لماذا للعذراء القديسة مريم ؟؟؟ لماذا سبعة وأربعة ؟؟؟ لماذا أثناء الليل؟؟ أولاً : لماذا شهر كيهك ؟؟ الكنيسة تكثر التسبيح فى شهر كيهك وقبل عيد الميلاد (29 كيهك) استعداداً لاستقبال ميلاد ربنا يسوع المسيح، وكأنها تُعد الأرض كلها بالتسبيح لتصير سماء ثانية يحل فيها الكلمة المتجسد وتُعد قلوبنا أيضاً بالتسبيح لتصير سماء ثانية يسكن فيها المسيح. ولعل فى ذلك إشارة إلى اعتكاف السيدة العذراء من سن 3 سنوات وهى تداوم التسبيح والتمجيد لله حتى استحقت أن تسمع البشارة السماوية من فم رئيس الملائكة غبريال بأن المولود منها يدعى ابن الله وهكذا عندما نعتكف نحن أيضاً فى الكنيسة بالتسبيح والتمجيد خلال هذا الشهر المبارك ننتظر ميلاد ربنا يسـوع المسيح " والكلمة صار جسداً وحل بيننا " ولكى نتأهل أن يحل المسيح بالإيمان فى قلوبنا ولذلك ارتبطت تسابيح شهر كيهك بمعانى كثيرة عن التجسد الإلهى والميلاد العجيب والرموز والنبوات التى أشارت إليها وذلك وبصفة خاصة فى الثيئوطوكيات التى وُضعت أساساً لتأكيد عقيدة التجسد الإلهى من العذراء والدة الإله بعد مجمع أفسس سنة 431م برئاسة القديس العظيم البابا كيرلس الأول عمود الدين، وذلك ضد بدعة نسطور الذى أنكر أن السيدة العذراء والدة الإلـه qe`otokoc وكانت خطورة ذلك أنها لو لم تكن والدة الإله لما كان المسيح هو الله ولذلك جاءت السبع ثيئوطوكيات تتحدث بعبارات لاهوتية منظومة وقوية عن التجسد والميلاد ورموز العذراء مريم فى العهد القديم وارتباطها بالتجسد الإلهى مثل أنها قدس الأقداس، والتابوت المصفح بالذهب، وغطاء التابوت، وقسـط المن، والمنارة الذهب، والمجمرة الذهـب، وعصا هارون، وزهرة البخور، والعليقة، والسلم الذى رآه يعقوب، وجبل سيناء، والجبل الذى رآه دانيال، والباب الذى رآه حزقيال، ومدينة الله، والسحابة، والفردوس العقلى، والسماء الثانية الجديدة، وعجينة البشرية، والمرأة المتسربلة بالشمس، ولوحى العهد وهذه الرموز وردت بصورة مركزة فى الثيئوطوكيات وتحدثت بها وعنها المدائح المنظومة باللغة العربية باستفاضة، وتتكرر أيضاً فى الطروحات التى تُقرأ أثناء تسبحة سبعة وأربعة وتحدثت الثيئوطوكيات عن ارتباط هذه الرموز بالعذراء القديسة مريم بكونها والدة الإله وبالتالى تحدثت عن التجسد الإلهى كعقيدة أساسية فى إيماننا المسيحى عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد وهنا نشير إلى أن الكنيسة بالإشارات الكثيرة عن التجسد والميلاد فى نغم مفرح وجميل تؤهلنا للاستعداد باشتياق لهذا اليوم المفرح يوم عيد الميلاد فندرك عظمة محبة الله وتواضعه إذ أنه " أخلى نفسـه آخذاً صورة عبد صائراً فى (يو1: 14). - (اف 3 : 17). (3)- (1تى3: 16) شبه الناس " فنمجده بقلوب نقية فى هذا العيد المبارك، ولعلنا ندرك أن الاسـتعداد لأى شئ فى حياتنا يجعل لنا فيه فائدة كبيرة فكلما أعددنا نفوسـنا وقلوبنا فى شهر كيهك كلما استفدنا من عيد الميلاد فى حياتنا، وكان له فاعلية روحية عميقة ثانياً : لماذا العذراء القديسة مريم ؟؟ لعله أصبح واضحاً من حديثنا عن الاستعداد لميلاد ابن الله أن تسابيح شهر كيهك ترتبط بوالدة الإله التى استحقت أن تكون السماء الثانية، وهى أيضاً تدعونا أن نتشبه بها خلال هذا الشهر لتكون قلوبنا سماء ثانية لربنا يسوع المسيح مولود بيت لحم ولذلك – وكما سبق أن قلنا – أن كلمات التسابيح وخصوصاً الثيئوطوكيات تتحدث بإفراط عن التجسد، وعن العذراء القديسة مريم ونمجدها لأنها استحقت هذه النعمة العظيمة وهذا التطويب للعذراء القديسة مريم نطق به الوحى الإلهى على فمها الطاهر عندما قالت " فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى أليس تطويبنا للعذراء من يوم أن نطقت بهذه العبارة النبوية إلى هذا الجيل وإلى كل الأجيال ألا يتحقق هذا فى التسابيح الكنسية اليومية (من خلال الثيئوطوكيات اليومية السبعة)، ومن خلال تسابيح شهر كيهك بصورة أعظم وأعمق ثالثاً : لماذا سبعة وأربعة ؟؟ أساس التسبحة فى الكنيسة أربع هوسات، وسبع ثيئوطوكيات (كتاب التسبحة يسمى الأبصلمودية) والهوسات الأربعة هى الهوس الأول : وهو تسبحة موسى النبى بعد عبور البحر الأحمر(3) (فى 2: 7). (2)- (لو1: 48). (3)- (خر15)موسى وعبــور البحر الأحمر الهوس الثانى : وهو المزمور 135 وهو تسبحة شكر لله " أشكروا الرب لأنه صالح وأن إلى الأبد رحمته " الهوس الثالث : وهو تسبحة الثلاث فتية القديسين فى آتون النار| الهوس الرابع : وهو المزامير 148، 149، 150 وهى مزامير تسبيح وشكر لله على فم الخليقة كلها بكل كائناتها الثلاثة فتية القديسين ومعهم رابع شبيه بابن الآلهة أما السبع ثيئوطوكيات فهى مرتبة لكل يوم من أيام الأسبوع السبعة، وهى كما سبق أن أشرنا أنها مليئة بالعبارات اللاهوتية والرموز النبوية التى تتحدث عن التجسد الإلهى وحلول الله بيننا، وعن العذراء بكونها والدة الإله ولعل رقم (7) يمثل كل أيام الأسبوع (أى كل يوم) ورقم (4) يمثل كل الأرض (الجهات الأربعة) أى كل مكان فكأن التسـبيح بسبعة وأربعة يشـير (وردت فى تتمة سفر دانيال الإصحاح الثالث) إلى التسـبيح كل يـوم فى كل مكان، مثلما نصلى فى تحليـل صـلاة الغروب " وننهض للتسابيح والصلوات كل حين وفى كل مكان نمجد اسمك القدوس " ومعنى عبارة كل حين وفى كل مكان أى تصير الأرض كالسماء لأن التسبيح فى السماء كل حين وفى كل مكان وكأننا بهذه التسابيح فى سبعة وأربعة نتشوق أن تتحول الأرض إلى سماء يسكن فيها العلى فالتسبيح فى شهر كيهك هو إعداد الأرض كلها، وإعداد قلوبنا بصفة خاصة أن تكون كالسماء لكى يسكن فيها الله الكلمة المتجسد وهكذا يرتبط التسبيح دائماً بحلول الله وسكناه ولذلك تلقب الكنيسة العذراء بأنها السماء الثانية التى سكن فيها العلى (ثيئوطوكية السبت). ويضاف إلى الأربعة هوسات والسبع ثيئوطوكيات أجزاء أخرى مثل مجمع القديسين والإبصاليات (إبصالية yalia أى ترتيـلة) وذكصولوجـيات ( ذكصولوجية dozolojia أى تمجيد) ومدائح منظومة باللغة العربية، وطروحات (تفسير) تقال بعد كل هـوس، وكل ثيئوطوكية، وعلى نفـس المعانى الواردة بها لزيادة الشرح والتوضيح لكى يشترك الكل فى الفائدة الروحية رابعاً : لماذا أثناء الليل (السهر) ؟؟؟ اعتادت الكنيسة أن تسهر فى التسابيح الكيهكية طوال الليل حيث تبدأ السهرة بتسبحة قوموا يا بنى النور `e `p]wi ten ,qhnou وكأنها تدعونا أن تحول ظلام الليل إلى نور كما يقول معلمنا بولس الرسول " جميعكم أبناء نور وأبناء نهار لسنا من ليل ولا ظلمة فلا ننم كالباقين بل لنسهر ونصح"(1) وفى هذه التسابيح تدريب روحى على السهر فى تسبيح مملوء بالاشتياق والحب وكأنه حوار بين الكنيسة العروس والمسيح عريسها وهو متعة روحية جميلة يستمتع بها السهارى المستعدون كالعذارى الحكيمات وفى نهاية السـهرة طوال الليل نفرح بشـروق شمـس البر فى باكر النهار "ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر" والمتقون الرب هم الذين يسهرون فى الصلاة والتسابيح، فيشرق لهم العريس السماوى شمس البر فى نهاية كل سهرة روحية ونقول فى صلاة باكر " أيها النور الحقيقى الذى يضئ لكل إنسان آت إلى العالم أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر " وعبارة " أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر" تشير إلى مجئ المسيح شمس البر فى ميلاده الذى نستعد له بهذه التسابيح والسهرات الروحية.إلهنا الصالح محب البشر يعطينا أن نشترك فى هذه الأيام المباركة بالاستعداد والتسابيح ونقاوة القلب حتى ننال بركة عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح بفرح روحى ولا يكون هذا الكلام مجرد معلومات طقسية للمعرفة العقلانية فقط ولكن يكون دافعاً للممارسة والتمتع بحياة الكنيسة ونقول مع ربنا يسوع المسيح "إن علمتم هـذا فطوباكم إن عملتموه ".كل عام وأنتم بخير .
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل