الكتب

القديس يوحنا كاسيان مؤسس رهبنة الغرب

وُلد يوحنا كاسيان نحو عام 360 م. (اكتفينا هنا بعرض موجز لسيرة وأعمال كاسيان إذ أفردنا له كتابًا كاملًا ضمن هذه السلسلة اخثوس ΙΧΘΥΣ بعنوان "القديس يوحنا كاسيان")، ونال تعليمًا أدبيًا في شبابه، ونحو عام 380 م، انضم كاسيان وصديقه جرمانوس إلى دير في بيت لحم حيث قضى هناك عدة سنوات وتأدب بآداب أديرة سوريا، ثم قدم إلى مصر مع صديق جرمانوس ليتتلمذ على أيدي قديسيها وبعد أن قضى الصديقان سبع سنوات في مصر، عادا إلى ديرهما في بيت لحم، لكن ما لبثا أن زارا مصر مرة ثانية وبعد ذلك ذهب كاسيان إلى القسطنطينية حيث سامه القديس يوحنا فم الذهب شماسًا، وهناك شهد كاسيان وجرمانوس الأحداث التاريخية المؤدية إلى خلع ونفى فم الذهب وفي عام 404 م. ذهب إلى روما حاملًا رسالة التماس إلى البابا أنوسنت Innocent من أكليروس القسطنطينية يؤيدون فيها القديس يوحنا فم الذهب، ومكث هناك لفترة من الوقت، وربما كانت سيامته كاهنًا بيد أنوسنت في ذلك الوقت. ومن روما عاد كاسيان إلى فرنسا حيث استقر في مرسيليا وأسس ديرين وسط الغابات الكثيفة أحدهما للرهبان ويُقال أنه بُني على قبر القديس بقطر وهو شهيد من عصر دقلديانوس والآخر دير للعذارى. ولما كان لكاسيان من خبرة ودراية بالأنظمة الرهبانية في مصر، كان يُنظر إليه كمرجع ومصدر ثقة، ويُعد هو المنظم والمدبر الأول للرهبنة الغربية إذ نقل كل التراث القبطي من تعاليم وتسابيح وصلوات إلى الغرب. أما عن الدور التأريخي الهام الذي لعبه كاسيان، فنراه جليًا عند دراستنا لكتابيه "المناظرات"و "المؤسسات": المناظرات: أو المقابلات Conferences وهي أحاديث كاسيان وجرمانوس مع مشاهير الآباء الأقباط والتي يقدمون فيها التعاليم الرهبانية القبطية. المؤسسات: وفيه شرح كاسيان القوانين الرهبانية، والخطايا الثمانية التي تعيق الإنسان في جهاده الروحي. ويُعد هذان العملان من الأعمال الهامة في التأريخ للرهبنة والنسك القبطي في القرن الرابع، إذ يمدنا بصورة حية عن الأنظمة والتقاليد الرهبانية في ذلك الوقت مع التعريف بآباء تلك الفترة. وبجانب هذين العملين التاريخيين كتب كاسيان بحثًا في سبع مجلدات "عن التجسد ضد نسطور".

القديس كيرلس الكبير رسائلة ضد النسطورية

قال عن نفسه "إنني قد وعدت نفسي على أن اقبل لأجل المسيح كل أنواع التضحية والعذاب إلى أن ألاقى الموت الذي أقبله بفرح من أجل غاية كهذه... فلا شيء يخيفني لا الشتائم ولا الاحتقار ولا التعذيبات أيا كانت ولكن يكفيني أن يكون الإيمان كاملًا ومحفوظًا!!" أولًا: نشأة القديس 1- تربى القديس في كنف خاله القديس البابا ثيؤفيلس فشب على معرفة العلوم الدينية والشغف بقراءة الكتب المقدسة وأقوال الآباء وسيرهم كما انه كان يمتلك موهبة حفظ الألحان الكنسية وترديدها. 2- وقد ألحقه خاله بالمدرسة اللاهوتية بالإسكندرية لدراسة العلوم الفلسفية التي تعينه على الدفاع عن المسيحية ضد الهراطقة والمبتدعين فتمكن من دراسة جميع العلوم الدينية والفلسفية وتهذب بكل العناية الفائقة منذ الصغر وحتى تخرجه. 3- ولم يكتف خاله بذلك بل أرسله إلى البرية في جبل النطرون إلى دير أبي مقار حتى يتتلمذ على الأنبا سيرابيون تلميذ الأنبا مقار الذي أوصاه بأن يقوم بتهذيبه بكل العلوم الكنسية والنسكية ومكث بالفعل مع أستاذه مدة خمس سنوات تمكن خلالها من التهام كل كتب البيعة وأجاد بإتقان كل علوم الكنيسة وأعطاه الرب الإله نعمة وفهم قلب عجيب حتى كان إذا قرأ كتابًا مرة واحدة بحفظه عن ظهر قلب. 4- وهكذا بعد كل هذه الدراسات عاد إلى الإسكندرية حيث خاله الذي امتدح نبوغه العظيم المبكر بقوله "إنك بهذه الدراسات ستبلغ أورشليم السمائية في موضع سكنى القديسين" وعلى الفور قام خاله برسامته شماسًا وقد كان القديس كيرلس إذا ما وقف ليرتل الإنجيل تمنى المؤمنون ألا ينتهي من القراءة لرخامة صوته. 5- ثم بعد ذلك رسمه قسًا وكلفه بالقيام بالوعظ رغم صغر سنه فحاز إعجاب السامعين ونال رضى جميع الكهنة والعلماء في جيله حيث أنه برع في فهم الأسفار المقدسة وشرحها ببراعة عجيبة. وكان البابا ثيؤفيلس بشكر الله إذ رزقه ولدًا روحيًا قد شب بالنعمة والحكمة.

القديس ايلاريون الكبير أب رهبان فلسطين

وُلد هذا القديس حوالي سنة 292 م. بالقرب من غزة من والدين وثنيين ثريين من أغنياء المدينة وتقع قرية (طاباتا) التي ولد فيها على بعد خمسة أميال جنوبي غزة في شمال سيناء نشأ محاطاً بكل أسباب العناية والترف، وتثقف بالعلوم اليونانية، وإذ كان أبواه يريدان أن يستزيد أبنهما من دراسة علوم ذلك العصر ليمكنه أن يتبوأ مركزاً عظيماً، أرسلاه إلى الإسكندرية ليتقى العلم في مدرستها ويتعمق في دراسة الفلسفة والمنطق. وعاش هذا الصبي كما يقول جيروم مثل وردة بين الأشواك، قادماً إلى الإسكندرية معقل العلم، كي يتقن فن البلاغة والخطابة والفلسفة، إذ أنها كانت أكثر الأعمال شهرة آنذاك إلا أن الله بعنايته الساهرة، كما يقول معلمنا القديس بولس (لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً) (رو8: 29)، إذ بينما كانت غاية إيلاريون من ذهابه إلى الإسكندرية أن يستزيد من حكمة هذا العالم وينهل من معارفه المتعددة، كانت نعمة الله -قبل إيمانه بالمسيح- تقوده لغاية أسمى من طلب العلوم، وتعده لرسالة أعظم لقد سمح الله أن يكون قدومه بهيجاً إلى الإسكندرية في زمان البابا بطرس خاتم الشهداء، وفي عهد القديس أرشيلاوس عميد مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وهناك أظهر إيلاريون، على الرغم من حداثة سنه، مثابرة عظيمة في تلقى العلوم بغير ملحوظة تعلم على يد القديس أرشلاوس مبادئ الإيمان المسيحي، إذ كانت المدرسة اللاهوتية السكندرية تدرس الفلسفة المسيحية النابعة من صفحات الكتب المقدسة، باعتبارها أشهر معهد عقلي في العالم المسيحي الأول، ومهد اللاهوت في العالم المسيحي.

القديس ميثوديوس الاوليمبى

أولًا: سيرته: كان ميثوديوس الذي يدعى أيضًا "يوبوليوس"، أسقفًا أولًا لمدينتى "أوليمبوس" و"باتارا" كما يشهد بذلك العديد من قدامى الكُتاب ثم انتقل بعد ذلك -بحسب شهادة القديس جيروم- إلى إيبارشية كرسى صور في فينيقية "لبنان" وفي نهاية آخر الاضطهادات العظيمة التي مرت بالكنيسة، نحو عام 213 م.، استشهد في "خالكيس" في "أوبية" (جزيرة يونانية)، ولو أن البعض يرى أنه نال إكليل الشهادة في خالكيس التي في سوريا حيث أنها الأقرب إلى صور، وإن شهادة القديس جيروم يجب أن تقهم هكذا، ويؤكد آخرون أنه تألم تحت حكم دسيوس وفاليريان ولو أن هذا مثار جدال بين المؤرخين، ذلك لأنه كتب ضد أوريجانوس بعد فترة طويلة من نياحة Adamantius، بل وكتب أيضًا ضد بورفيرى الذي كان حيًا أثناء حكم دقلديانوس قال أبيفانيوس عنه: "رجل متعلم ومدافع شجاع جدًا في الحق". ثانيًا: كتاباته: 1- وليمة العشر عذارى: من الواضح أن ميثوديوس كتب "وليمة العشر عذارى" لتكون نظير مسيحي لـ"الوليمة" التي كتب عنها أفلاطون. 2- عن الإرادة الحرة: مضمون الكتاب يسعى ليثبت -في شكل حوار- إن إرادة الإنسان الحرة هي المسئولة عن الشر، ويبدو أن هذا العمل موجه ضد أتباع فالنتينوس وضد الغنوسيين. 3- عن القيامة: عبارة عن حوار دار في بيت الطبيب أجلاوفون، وهو يقع في ثلاثة كتب يفند فيها ميثوديوس نظرية العلامة أوريجين في القيامة بجسد روحاني، ويؤكد أن جسد القيامة هو نفس الجسد البشرى بعينه شارحًا أن المسيح تجسد لكي يحرر الجسد ويقيمه ويرفض ميثوديوس فكرة أوريجانوس عن الوجود السابق للنفس، وكتب ضده بعنف وهاجم التعاليم الواردة في كتاب "المبادئ" عن النفس كسجن للجسد وعن أبدية الخليقة وعن طبيعة الجسد المقام، ورفض فكره عن غاية الله من خلق العالم ونهايته وشرح أن الإنسان كان في البدء غير مائت في النفس والجسد وأن الموت وانفصال النفس عن الجسد هو من نتائج حسد إبليس فقط، وأن غاية الفداء هو جمع ما فرقه الشيطان. 4- عن الحياة والأعمال العاقلة: يتضمن الكتاب الحث على الكفاف والرضى بما أعطاه الله لنا في هذه الحياة، وعلى أن نضع كل رجائنا في حياة الدهر الأتي. 5- الأعمال التفسيرية ثلاثة أعمال تفسيرية الأول: موجه إلى امرأتين فرينوب وكيلونيا، ويتحدث عن فرز الطعام وشريعة العهد الجديد. الثاني: بعنوان "إلى سيستليوس عن البرص" وهو حوار بين شخص يدعى يوبليوس وآخر يدعى سيستليوس عن المعنى الرمزي للأصحاح الثالث عشر من سفر اللاويين. الثالث: وهو تفسير رمزي لأمثال (15:30... إلخ) "عن بنات العلوقة اللواتي لا يشبعن" والعدد الثاني من المزمور الثامن عشر "السموات تنطق بمجد الرب والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 2:18). 6- ضد بورفيرى: كتب بورفيرى الفيلسوف خمسة عشر كتابًا "ضد المسيحيين" نحو عام 270 م.، ففند ميثوديوس هذا العمل ودحضه تمامًا، ولكن هذا الرد قد فُقد ولا نعلم عنه شيء. 7- الأعمال المفقودة: من أعمال القديس ميثوديوس المفقودة: عن الكاهنة (العرافة). عن الشهداء. تفسيره لسفر التكوين. تفسيره لسفر نشيد الأنشاد.

القديس يوحنا التبايسى

نشأته: يُدعى يوحنا الرائي إذ كانت له موهبة التنبؤ بالمستقبل، كما دُعي نبي مصر، ويوحنا السائح. قال عنه القديس يوحنا كاسيان: "نال موهبة النبوة من أجل طاعته العظيمة، فصار مشهورًا في كل العالم". رآه القديس جيروم على أطراف مدينة ليكوس (أسيوط)، ووضعه في قائمة كتابه "مشاهير الآباء"، في الفصل الثاني وتحدث عنه في شيء من التفصيل، خاصة حديث القديس يوحنا معه هو ورفقائه، وهو حديث روحي عملي ممتع، اقتبس منه القليل يلقب أيضًا بيوحنا المتوحد الأسيوطي لأنه وُلد بمدينة أسيوط عام 305 م. كان أبواه مسيحيين، وكانت صناعته النجارة والبناء. في سن الخامسة والعشرين تنيّح والداه فسلَّم أخته وأمواله لعمه ثم ذهب لدير أنبا مقار حيث ألبسه الأنبا إيسيذورُس والأب أبامون الإسكيم `cxhma.

العلامة لاكتانتيوس

* في كتاب "مشاهير الرجال" تحدث القديس جيروم عن لوسياس كاليوس فيرميانوس لاكتانتيوس، وذكر أن أفريقيا لم تكن فقط مهد تدريبه في علوم البلاغة، بل وكانت أيضًا مكان ميلاد أول أعماله -والتي فُقدت- وهى "الوليمة والتي كتبها عندما كان شابًا صغيرًا، وقد ترك لاكتانتيوس موطنه عندما استدعاه الأمبراطور دقلديانوس (284-304) إلى نيقوميدية في بثينية -العاصمة الجديدة للشرق- واستدعى معه فلافيوس النحوي ليُدرسا البلاغة اللاتينية، ولكنه لم يكن موفقًا، إذ يخبرنا جيروم أنه "لعدم وجود تلاميذ لكونها مدينة يونانية، أنصرف إلى الكتابة" لكنه ظل أستاذًا في نيقوميدية إلى أن اندلعت نيران الاضطهاد سنة 303 فترك منصبه لأنه كان قد صار مسيحيًا، وهكذا ترك بثينية ما بين عام 305 وعام 306، وفي نحو عام 317 استدعاه الإمبراطور قسطنطين الكبير -وهو في سن طاعن- إلى تريف بفرنسا ليهذب ويًدرس لأكبر أبنائه المدعو كريسبوس، ولا نعرف شيء عن تاريخ نياحته.

العلامة بنتينوس السكندرى

يرى المؤرخون الأقباط أن العلامة بنتينوس ولد بالإسكندرية من أصل مصري، أما القول بأنه يوناني فهذا مجرد تخمين وحدس، على اعتبار أنه كتب باليونانية، ولغة الكتابة لا تقطع بحقيقة جنسيته الكاتب، ولاسيما في العصر الذي كانت فيه اللغة اليونانية لغة الثقافة في العالم ويرى البعض أنه من صقلية، مستندين في ذلك إلى تلقيب اكليمنضس السكندري لأستاذه بنتينوس بـ"النحلة الصقلية"، لكن هذا الرأي لا يمكن الأخذ به لأن النحل الصقلي كان له شهرته العالمية في ذلك الزمان، وكان تلقيب بنتينوس بالنحلة مجرد إشارة انسياب أقواله العسلية وعذوبة تعليمه المشبع وما يحمله من قوت وغذاء أما عن زمن ولادته، فعلى ما يبدو أنه وُلد في أوائل القرن الثاني الميلادي، لكن يصعب تحديد سنة ميلاده بدقة. 2) نشأته الثقافية والفلسفية اتفق المؤرخون على أن بنتينوس كان رواقياً وفيلسوفاً مشهوراً، ويشهد بذلك يوسابيوس القيصري المؤرخ الكنسي والقديس جيروم أيضاً، فكان بنتينوس رواقياً غايته القصوى الأخلاق والإيمان بالله مصدر كل الخيرات، متهذباً بالفلسفة اليونانية التي جعلته معلماً وفيلسوفاً، وتعلم في المدرسة الرواقية Stoic، وكان محباً للطهر والفضيلة ويذكر التاريخ الكنسي شهادة العلامة أوريجين عنه أنه مثال أو بالأحرى أقدم مثال يمكن أن يُورده عن معلم مسيحي استطاع أن يفيد من دراسته الوثنية وكان بنتينوس دائم القراءة في الثقافة اليونانية، ومدحه تلميذه العلامة أوريجين قائلاً أنه في دراسته للفلسفة إنما يتمثل ببنتينوس ويحاكيه، إذ أن بنتينوس ربح الكثير من المثقفين خلال معرفته للفلسفة، وحاجج العقلانيين والفلاسفة ليكسبهم للمسيح يسوع، فهذا الاتجاه ادخله بنتينوس،وتطور على يدي تلميذه اكليمنضس وأعيد ترتيبه وصياغته منهجياً بواسطة أوريجين ويُنسب للعلامة بنتينوس إدخال الفلسفة والعلوم إلى مدرسة الإسكندرية لكسب الهراطقة والوثنيين المثقفين الذين أعدت لهم دراسات خاصة تقدم الأساسيات الإيمانية مستخدمة الفلسفة كسلاح للمحاججة والإقناع، ثم دراسات متقدمة عن الحكمة الإلهية والمعرفة الروحية.

القديس ديديموس الضرير

سيرة ديديموس الضرير وُلد ديديموس الملقب ب"الضرير The Blind" عام 313م، (اسم ديديموس هو اللفظ اليوناني المرادف لاسم توما) وفي الرابعة من عمره أصيب بمرض في عينيه أفقده بصره كما يخبرنا بلاديوس ، ولكن رغبته ومحبته الشديدة للمعرفة ذللت أمامه كل عقبة، فبرغم فقدان بصره وفقره، ورغم أنه لم يتعلم القراءة في مدرسة ولا حتى النطق الأول للحروف، إلا أن ذلك كله لم يثبط عزيمته، فتعلم الأبجدية بحروف منحوتة في لوح من خشب، وتعلم بنفسه كيف يقرأها بطريقة اللمس، وبذا سبق برايل Braille بخمسة عشر قرنًا في استخدام الحروف البارزة للعميان، ويقول سقراط المؤرخ الكنسي أنه بهذه الطريقة علم نفسه قواعد اللغة والبلاغة والفلسفة والمنطق والحساب والموسيقى، وقد درس كل هذا بعمق حتى أنه كان يستطيع أن يناقش كل من درس هذه العلوم من الكتب العادية، ويقول ﭼيروم أنه (تعلم الهندسة أيضًا التي كانت تحتاج إلى النظر أكثر مما سواها حتى كان أعجوبة لكل ناظر إليه فانتشر صيته وذاع اسمه في كل مكان). وفى عام 346م أسند القديس أثناسيوس الرسولي إليه مسئولية إدارة مدرسة إسكندرية اللاهوتية كما يخبرنا روفينوس ، بسبب ذكائه وقدرته على الاستيعاب ودقة ملاحظته وعلو حجته، وقد كان ديديموس آخر معلمي المدرسة المشهورين، إذ أُغلقت المدرسة العظيمة بعد نياحته بفترة وجيزة، وكان ﭼيروم وروفينوس من أشهر تلاميذ ديديموس، وقد أطنب ﭼيروم كثيرًا في مدح ديديموس ويذكر دومًا أنه معلمه his magister وأكد علو قدرته في التعليم ومقدار الأثر الذي تركه في لاهوت الغرب والشرق معًا ، وكان يفتخر بأنه تلميذه وانه اتخذه أستاذًا وقدوة له في دراسة الكتاب المقدس، كما ترجم له كتابه (عن الروح القدس) الذي يقول في مقدمة ترجمته: (إن ديديموس له عينان كعيني عروس نشيد الأنشاد، فهو في معرفته يحمل صفات الإنسان الرسولي، له فكر نير وكلمات بسيطة). ويسميه روفينوس Rufinus (النبي) و(الرجل رسولي) ، ويخبرنا سوزومين المؤرخ أن تأثير ديديموس في إقناع الشعب بصحة تعاليم مجمع نيقية ضد الاربوسيين كان لا يُضارع، إذ استطاع أن يجعل كل من يسمعه قادرًا أن يكون حكمًا في هذا الموضوع ، فبالرغم من أن الحركة الأريوسية كانت على أشدها في ذلك الوقت، وبالرغم من تعرض الأساقفة والمعلمين المستقيمي الرأي للاضطهاد من الحكام المدنيين المؤيدين للأريوسيين، إلا أن اللاهوتي السكندري وقف يجاهد مع القديس أثناسيوس بعد أن أُعجب بعبقرية وشجاعة باباه وحكمته الرسولية، غير مبال بالاضطهاد والمتاعب، وحارب بقايا الوثنية التي تمثلت فيما سُمى بالأفلاطونية المحدثة وسائر الفلسفات الأخرى، لذلك يقول سقراط المؤرخ: (كان ديديموس عند الناس حصنًا متينًا وسندًا قويًا للديانة المسيحية حتى قبل أن يتولى رئاسة المدرسة اللاهوتية، وهو يُعد خصمًا عنيدًا كسر شوكة أتباع أريوس وأفحمهم في مناظراته معهم). ولم يكن في الإسكندرية من يستطيع فلسفة أفلاطون أوضح مما يفسرها ديديموس، ولا من يتحدث بطلاقة عن أرسطوطاليس قدره. وشهد لقدرة ديديموس في المعرفة والمحاججة والإقناع كثيرون وأهمهم إيسيذور البيلوزومى الذي وصفه بأنه (باحث مدقق لا يمكن أن يفوته شيء) كما يشهد له ليبانيوس Libanius في إحدى رسائله التي أرسلها إلى الدوق سباستيان وهو من الهراطقة المانيين الذين اضطهدوا الإسكندرانيين أثناء نفى البابا أثناسيوس الرابع، وهو يقول: (إذا لم تكن قد تعرفت على ديديموس فأنت لم تعرف هذه المدينة العظمى الإسكندرية بعد، لأنه هو الذي يسكب عليها من تعاليمه لتثقيف الشعب ليل نهار). ويروى بلاديوس عن ديديموس -وقد زاره 4 مرات في خلال عشرة سنوات - إنه في يوم من الأيام كان حزنه عميقًا على المسيحيين الواقعين تحت اضطهاد يوليانوس الجاحد (من سنة 360 - سنة 363)، فصرف يومًا كاملًا في الصلاة والصوم وهو يطلب من الله أن يرفع الضيقة عن شعبه، حتى تعب ونام وإذ به يرى خيولًا بيضاء تجرى وكان راكبوها يهتفون قائلين: قولوا لديديموس أن يوليانوس قد مات اليوم الساعة السابعة، قم وكل، وأرسل إلى أثناسيوس الأسقف لكي يعرف هو أيضًا ما قد حدث، فكتب تاريخ اليوم والساعة اللذين سمع فيهما الصوت وإذ بهما قد تزامنا تمامًا مع الوقت الذي قُتل فيه يوليانوس. ولكن ديديموس لم يجذب معاصريه بتعليمه وفكره المستنير فقط، بل أيضًا بنسكه وحياته التقوية إذ أنه عاش حياة ناسك، ويُروى أن القديس العظيم الأنبا أنطونيوس عندما زار ديديموس أثناء وجوده في الإسكندرية لأول مرة دفاعًا عن الإيمان المستقيم ضد الأريوسيين، دخل قلاية ديديموس وطلب منه أن يصلى ووقف يسمعه باتضاع ثم جلسا يتحدثان في الكتب المقدسة، وسأله أبو الرهبان إن كان حزينًا على فقدان بصره، فلما صمت ديديموس أعاد الأنبا أنطونيوس عليه السؤال مرة ثانية، فأجابه قائلا أنه يحس بحزن شديد بسبب ذلك، فقال له كوكب البرية (إني لمتعجب من حزنك على فقد ما تشترك فيه معك أقل الحيوانات، ولا تفرح متعزيًا لأن الله وهبك بصيرة أخرى لا يهبها- تقدس اسمه- إلا لمحبيه، وأعطاك عينين كأعين الملائكة بهما تبصر الروحيات، بل وبهما تدرك الله نفسه ويسطع نوره أمامك، فأزال الظلام عن عيني قلبك واستنرت) فتعزى ديديموس بهذا القول طوال حياته ورواه لتلميذه ﭼيروم عام 368م حينما زاره ومكث عنده شهرًا كاملًا كما يخبرنا في مقدمة شرحه لرسالة أفسس، ويعلق ﭼيروم على هذه القصة بقوله: (أفضل للإنسان كثيرًا أن تكون له الرؤية الروحية من أن تكون له الرؤية الجسدية، ويمتلك عينين تميزان الخطية من الحق) . ويروى بلاديوس في الفصل الرابع من تاريخه اللوزياكي عن ديديموس: (حدث أن طلب منى أن أصلي في قلايته ولما لم أستجب لطلبه، روى لي هذه القصة: دخل انطونيوس هذه القلاية للمرة الثالثة لزيارتي وإذ سألته أن يصلى ركع في الحال وصلى ولم يضطرني إلى تكرار الطلب، مقدما لي مثلًا في الطاعة، والآن إن كنت تود أن تقتفى آثاره- كما يبدو عليك إذ تعيش في خلوة بعيدًا عن الأهل طالبًا الفضيلة- فابعد عنك روح المقاومة) . فكانت صداقة ديديموس والأنبا أنطونيوس أيقونة لألفة العلم مع النسك إذ لم يكن ديديموس معلما فحسب بل كان أولًا ناسكًا يحيى علمه اللاهوتي قبل أن يعلمه، ونلحظ في كتاباته المسحة النسكية التي عاشها وتشربها من أبو الرهبان، لذلك عندما يتكلم عن الروح القدس يتكلم عن عمله ودوره في خلاصنا، وإذا تكلم عن المعمودية اظهر بركاتها ومفاعيلها ودورها في تجديدنا فربط المعرفة بالحياة (17). وتنيح العلامة السكندري عام 398م وله من العمر 85 عامًا، قضى منها 52 عامًا مديرًا لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية (من عام 346 إلى 38) وضعفت المدرسة بموته.. وهكذا طل يعلم ويكتب ويدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية زهاء النصف القرن، تولى على كرسي الكرازة المرقسية أثنائها أربعة من الآباء البطاركة: البابا أثناسيوس (328-372م) البابا بطرس الثاني (373-378م) البابا تيموثاوس الأول (379-384م) البابا ثيؤفيلس (385- 411م).

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل