المقالات

17 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إشعياء

" فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد " إش 6: 1 مقدمة كان إشعياء واحداً من أعظم عمالقة التاريخ، وسفره هو الأول بين ما يطلق عليها: «أسفار الأنبياء الكبار »، ولا تستطيع أن تقرأ سفره دون أن ترتقى الهضاب العالية، وتمد بصرك إلى الآفاق البعيدة التى تجتاز العصور والأجيال، وتأتى إلى آخر الأيام فى الرؤى المذهلة العجيبة،... أليس هو الرجل الذى بدأ نبوته بذلك المنظر المهيب للسيد وهو جالس على كرسيه العالى والمرتفع، وأذياله تملأ الهيكل؟؟.. ومن ذا الذى يمكن أن يرى السيد فى مجده العظيم، والملائكة واقفون بين يديه، دون أن يحس بحاجته إلى الارتقاء إلى أعلى مقام عن هذه الأرض، ليخشع فى فزع قائلا: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6: 5 ".. وأليس هو الرجل الذى طوى مئات السنين، ونقلنا فى الأصحاح الثالث والخمسين إلى هضبة الجلجثة، لنرى دقائق الصلب وتفاصيله، كمن يراها رؤيا العيان، ويكتب عنها من تحت الصليب،... وأليس هو النبى الذى اخترق حجب المستقبل القريب والبعيد، فأوقفنا على هضاب آيته لاحقة لتاريخه،... فرأينا كورش يجتاح الممالك، ويطويها، ويسقطها تحت قدميه، ويعطيه اللّه اسمه قبل أن يولد بمائة وخمسين عاماً،... ولم يكن كورش إلا رمزاً لذلك الذي خرج غالباً ولكى يغلب، والذى يقود أعظم المعارك فى الأرض، ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم... فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل،... ولا يتعلمون الحرب فيما بعد » "إش 2: 2 - 4 " لأنى هأنذا خالق سموات جديدة وأرضاً جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال » " إش 65: 17 ".ولعلنا نتأمل الآن هذا الرجل العظيم من فوق هذه الربى والهضاب العالية لنراه مع سفره ونبواته وهو يحدثنا فيما يلى: إشعياء من هو!!؟ الاسم « إشعياء » يعنى « خلاص يهوه » أو « خلاص الرب » وهو ابن « آموص » أو « القوى » وقد أطلق على زوجته « النبية » وربما كان القصد فى ذلك أنها زوجة النبى، وإن كان البعض يظن أنها كانت تملك موهبة النبوة، وقد ولد له ولدان اسم الأول « شآر ياشوب » أو « بقية سترجع » ولعل القصد من ذلك رجوع البقية من السبى، أو رجوع البقية إلى اللّه برسالة إشعياء، والثانى: « مهير شلال حاش بز » ويعنى « سلب يعجل خراب يسرع » والمقصود بذلك أنه على قدر السرعة فى جمع الأسلوب ونهبها، على قدر ما يأتى الخراب المعجل،... وقد أوضح النبى أن نبوته جاءت فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا، ومن المعتقد أنه ولد قبل موت عزيا بعشرين عاماً على الأقل، وإذا صح التقليد القائل بأنه مات منشوراً على يد منسى الملك، فمن المتصور أنه عاش حتى بلغ التسعين من عمره أو ما بين عامى 780، 690 ق.م. ومن الجدير بالذكر أنه فى ذلك التاريخ بنيت مدينة روما، والتى كانوا يطلقون عليها « المدينة الخالدة » وقد عاش إشعياء على مر الأجيال والتاريخ أكثر عظمة وجلالا وخلوداً،... وفى تصور الكثيرين أن إشعياء كان ينتسب إلى البيت الملكى، وأنه على أية حال كانت له المكانة التى تجعله يعطى المشورة للملك آحاز، والذى لاذ به الملك حزقيا أمام غزوة سنحاريب للبلاد، وحصاره لأورشليم، ومن الثابت أنه كان شجاعاً حازماً، لا يعرف المداورة أو المهادنة فى كل ما يتصل بالدين،... يستوى عنده فى ذلك الملك أو غير الملك، ألم يقل للملك آحاز: « اسمعوا يا بيت داود. هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهى أيضاً » " إش 7: 13 " وقال للملك حزقيا: اوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش » " إش 38: 1 "، هوذا تأتى أيام يحمل فيها كل ما فى بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل. لا يترك شئ يقول الرب » " إش 39: 6 " وقد صور إسرائيل فى مرتبة أدنى من الحيوان فى مطلع سفره « الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه. أما اسرائيل فلا يعرف شعبى لا يفهم. ويل للأمة الخاطئة الشعب الثقيل الإثم نسل فاعلى الشر أولاد مفسدين ». " إش 1: 3 و4 " « كيف صارت القرية الأمينة زانية » " إش 1: 21 " « لأنه شعب متمرد أولاد كذبة ».. " إش 30: 9 " ومع هذه الشجاعة الحازمة كان رفيق القلب شديد الحدب والعطف، ويكفى أن نراه يقول: « لذلك قلت اقتصروا عنى فأبكى بمرارة. لا تلحوا بتعزيتى عن خراب بنت شعبى » "إش 22: 4 " بل لعله كان يبكى تجاه آلام الآخرين، حتى ولو كانوا من الأمم، وهو القائل عن موآب: « يصرخ قلبى من أجل موآب » " إش 15: 5 "« لذلك أبكى بكاء يعزير على كرمة سمة أوريكما بدموعى ياحشبون وألعالة ». " إش 16: 9 " كان يندد بالخطية أشد تنديد، وفى الوقت نفسه يبكى على الخطاة،... ومن الجانب الآخر كان فرحه عظيماً بالأمم التى تجرى إلى اللّه: « ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم »" إش 2: 2"« ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجداً » " إش 11: 10 "« فى ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجئ الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور ويعد المصريون مع الأشوريين فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة فى الأرض بها يبارك رب الجنود قائلا مبارك شعبى مصر وعمل يدى آشور وميراثى إسرائيل » "إش 19: 23 - 25 ". لم يكن الرجل ضيق الأفق، محدود النظرة، تمتلكه نعرة الجنس، تحجب رؤياه عن العالم الواسع الذى لا حياة لهن بدون اللّه،... على أن هذا لا يعنى أنه لم يكن غيوراً لوطنه، متحمساً له، يهتم بالدفاع عنه ورعايته، لقد كان وطنياً من طراز ممتاز، وهو القائل لآحاز: احترز واهدأ. لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبى هاتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وآرام وابن رمليا » " إش 7: 4 ".. كما قال لحزقيا: « هكذا يقول الرب إله إسرائيل الذى صليت إليه من جهة سنحاريب ملك آشور هذا هو الكلام الذى تكلم به الرب عليه: احتقرتك استهزأت بك العذراء ابنة صهيون. نحوك أنغضت ابنة أورشليم رأسها » "إش 37: 21 و22".وكان إشعياء، مع ذلك، رجلا عميق التعبد والاحترام للّه،... ولعل الرؤيا التى رآها فى الهيكل، تركت طابعها العميق فى حياته بجملتها!!.. وهو لا يرى هذا التعبد فى مجرد العبادة الشكلية والطقسية أو الظاهرية، فالذبائح لا قيمة لها: « لماذا كثرة ذبائحكم يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر » " إش 1: 11" والاهتمام بأيام معينة فى نظره باطل وكذب: « رأس الشهر والسبت ونداء المحفل لست أطيق الإثم والاعتكاف » " إش 1: 13 " كما أن الهيكل فى حد ذاته لا معنى له: « هكذا قال الرب: السموات كرسى والأرض موطئ قدمى. أين البيت الذى تبنون لى وأين مكان راحتى » " إش 66: 1 " إن العبرة عند اللّه بالحياة الروحية العميقة فى روح الطاعة: « إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض » "إش 1: 19" وحياة البر وخوف اللّه: « وإلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامى » "إش 66: 2 " كان إشعياء يعيش على الدوام أمام اللّه العلى: « لأنه هكذا قال العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه. فى الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيى روح المتواضعين ولأحيى قلب المنسحقين » "إش 57: 15 " « أدخل إلى الصخرة وأختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته » " إش 2: 10 "... ولا حاجة إلى القول بأن الرجل كان شديد الثقة باللّه، كامل الاعتماد عليه، ومن ثم كان يرفض تماماً التحالف مع آشور أو مصر،... وقد قاوم مثل هذا التحالف ما وسعته المقاومة سواء فى حياة الملك آحاز أو الملك حزقيا،... ومع أن مصر واشور كانتا الدولتين العظميين، قبل أن تظهر بابل فى الأفق،... إلا إنه كان يعتقد بحق، أن الإيمان باللّه وحده، هو الذى يعطى الإنسان اطمئنانه الكامل، وسلامه الدائم،... وأن الدول المتحالفة إذا أعانت بعض الوقت، فسيلحقها العجز بعد ذلك، وتضحى عبئاً، لا عوناً، وأكثر من ذلك إنهاء تحول المتحالف معها إلى فريسة يمكن أن تبتلعها متى أتيحت لها الفرصة، وسنح الوقت!!.. وقد كان الرجل صادق المشورة فى هذا المجال، بل كان واثقاً من النتيجة عندما استمع حزقيا الملك، وقد أدرك هذا الاختبار، فتعاون أولا مع آشور، ثم عاد ليواجهها معتمداً على اللّه،... وسقط عند أبواب عاصمته زهرة الجيش الأشورى مائة وخمسة وثمانون ألفاً من الجنود فى ليلة واحدة!! ومن المسلم به أن إشعياء كان واسع الثقافة، بلغ السمت والقمة بين الأنبياء، فلم يتفوق عليه أحد منهم من الوجهة الإنسانية. فى فخامة اللفظ، وجلال التعبير، ورصانة الأسلوب،... وقد قيل أنه لم يبره أحد قط منهم فى الجمع بين فخامة العبارة، ودسامة التفكير، إذ لم تكن فصاحته على حساب المعنى، أو معناه على حساب التعبير الجزل الجميل!!ولم يكن عند الرجل رتابة فى الأسلوب أو قصور فى المنطق، بل تحس وأنت تقرأ سفره أنك تسير بين أعلى القمم وأعمق الوديان،... ولعل هذا كان الباعث الأكبر عند عدد من النقاد، إلى الزعم بأن هناك أكثر من إشعياء فى كتابة السفر... وقالوا إن هناك إشعياء الأول والثانى وربما الثالث.. لأنهم تصوروا أن شخصاً واحداً لا يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه هذا السفر العظيم فى أصحاحاته الستة والستين!!.. ومع أن التاريخ اليهودى أو الكنسى، كان فيه ما يشبه الإجماع على أن إشعياء وحده هو كاتب السفر، ولم يشذ عن هذا الإجماع، سوى بن عزرا فى القرن الثانى عشر الميلادى، والذى قال إن الأصحاحات من الأربعين إلى الستة والستين ربما لا تكون من عمل إشعياء، ولم يجاره فى الكنيسة المسيحية سوى كاتب ألمانى اسمه كوبى (Koppe) الذى زعم أن هذا الأصحاحات كتبت على الأغلب بعد السبى البابلى، وتمشى فى إثره بعد ذلك، من تمشى من النقاد، وحجتهم فى الغالب أن الإصحاحات الأخيره المشار إليها، كتبت كما لو كان السبى البابلى حقيقة قد وقعت، وأن إشعياء (الثانى كما يزعمون) لم يكن قد ولد عندما جاء كورش، وأن قرابة مائة وخمسين عاماً أو تزيد، كانت لابد أن تمر قبل أن يأتى ذلك الملك العظيم المشار إليه فى إشعياء!! وأن الأسلوب فى الجزئين من السفر شديد التغير، مما يحتمل معه أن شخصاً مجهولا يمكن أن يطلق عليه إشعياء الثانى كتب الأجز اء الأخيرة من السفر بعد السبى، وضمت إلى إشعياء!!. وقد بلغ التصور عند نقاد آخرين إلى أن سبعة من الكتاب اشتركوا فى كتابة هذا السفر، وليس مجرد إشعياء ثان فقط!!... على أن أعظم علماء الكتاب قد قاوموا هذا التصور مقاومة حادة ونادوا بوحدة السفر ونذكر منهم فى ألمانيا... جاهن، وهستنبرج، وكلينرت، وهافرنك، وستاير، وكايل، وديلتش، ورينو شمعان،... وفى إنجلترا، هندرسون، وهاكستبيل، وكاى، ويورك، ودين باين سميث، وبروفسور بركس، وبروفسور ستانلى ليسز... وقد بنى هؤلاء وغيرهم، وحدة السفر على أسس خارجية، وأخرى داخلية،... أما الخارجية فتظهر من أن الترجمة السبعينية وهى الترجمة المعروفة من سنة 250 ق.م. تنسب الكتاب كله لإشعياء بن آموص، وابن سيراخ الذى عاش حوالى سنة 180 ق.م لا يتردد فى نسبة الأجزاء الأخيرة إلى إشعياء،... كما أن مخطوطات وادى قمران، وهى أحدث مخطوطات اكتشفت عام 1947 ق.م. بقرب البحر الميت ويرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الأول والثانى قبل الميلاد يظهر فيها سفر إشعياء كاملا منسوباً إلى إشعياء بن اموص!! كما أن اقتباسات العهد الجديد والسيد المسيح والرسول بولس، تظهر دائماً منسوبة إلي إشعياء، فقد جاء فى الأصحاح الثالث من إنجيل متى: « فإن هذا هو الذى قيل عنه بإشعياء النبى القائل صوت صارخ فى البرية »... " مت 3: 3 " وفى إنجيل لوقا الأصحاح الرابع قيل عن السيد المسيح: فدفع إليه سفر إشعياء النبى، ولما فتح السفر وجد الموضع الذى كان مكتوباً فيه روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين.. الخ " لو 4: 17 و18 " وفى إنجيل يوحنا فى الأصحاح الثانى عشر: « ليتم قول إشعياء النبى الذى قاله يارب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب » " يو 12: 38 "وقول بولس فى الأصحاح العاشر من رسالة رومية: « لأن إشعياء يقول يارب من صدق خبرنا... ثم إشعياء يتجاسر ويقول وجدت من الذين لم يطلبونى.. إلخ » " رو 10: 16 و20 " أما عن تنوع الأسلوب، من الواجهة الداخلية، فما لا شك فيه، أن شاعرية أو عبقرية إشعياء، إذا جاز هذا التعبير، وتمكنها من ناصية المنطق والبلاغة، يمكنها أن تسمو وتبسط، دون أن يكون هناك مساس بالكاتب الواحد، ومن ثم فنحن نرى رغم هذا التنوع، الفكر الواحد المطبوع، فاللّه السيد الذى رآه: « جالسا على كرسى عال ومرتفع وأزياله تملأ الهيكل " إش 6: 1 ".. هو نفسه: « العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه » " إش 57: 15 ".. والشعب الذى وصف بالتمرد والعصيان: « ربيت بنين ونشأتهم وأما هم فعصوا علىّ» " إش 1: 2 ".. « فإنك رفضت شعبك بيت يعقوب لأنهم امتلأوا من المشرق » " إش 2: 6 ".. « ذكرنى فنتحاكم معا، حدث لكى تتبرر، أبوك الأول أخطأ وسطاؤك عصوا علىّ » " إش 43: 26، 27 " كما أن اتساع النظرة وإعطاء الفرصة للأمم، قد جاءت فى أول السفر وآخره، ويكفى أن نشير هنا: « فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدى والعجل والشبل والمسمن معاً وصبى صغير يسوقها. والبقرة والدابة ترعيان. تربض أولادهما معاً والأسد كالبقر يأكل تبناً ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان. لا يسوؤون ولا يفسدون فى كل جبل قدسى لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطى المياه البحر» " إش 11: 6 - 9 ".. « الذئب والحمل يرعيان معاً والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يهلكون فى كل جبل قدسى قال الرب » " إش 65: 25 "فإذا قيل آخر الأمر كيف يمكن أن يكون الحديث عن السبى البابلى كأمر واقع، وإن يذكر اسم كورش الفارسى الذى لم يأت بعد،.. كان الرد ميسوراً: أن نبوات إشعياء ترى النهاية منذ البداءة « لأنه معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله » " أع 15: 18 ".. وقد تحدثنا عندما تعرضنا لشخصية يربعام كيف أن النبى تنبأ عن يوشيا الملك الذى سيأتى ويذبح كهنة المرتفعات ويحرق عظامهم، قبل ولادته بزمن طويل... وقد امتدت النبوة إلى هضبة الجلجثة لتصفها بدقة، كما لو كان الواصف ينظر إلى الصليب بمرأى عينيه، وقد سار الرجل بنا إلى آخر الأيام، لنرى الصورة اللامعة للأرض بعد أن تتحرر من الخطية والدنس!! والحقيقة أن السهم القاتل لنظرية إشعياء الثانى يكمن فى أن الآخذين بها، حاولوا حل الصعوبة، بصعوبة أفدح وأقسى إذ كيف يمكن التصور منطقياِ، أن هذه الأصحاحات الأخيرة من سفر إشعياء بما فيها من أروع النبوات أو التعاليم، تصدر عن نبى مجهول، جاء بعد السبى، ولا يعرف الناس عنه شيئاً، ويعلن هذه الروائع، ويكتبها، ويغيب فى التاريخ من غير علم أو دراية من أحد!!.. إن الفهم الكتابى الصحيح، واجماع التقليد فى المجمع اليهودى والكنيسة المسيحية يؤكدان أن إشعياء بن آموص هو الكاتب الوحيد لسفره الشامخ العظيم بين أسفار الكتاب االمقدس، دون أدنى شبهة أو تردد!! إشعياء ورؤياه وكانت هذه الرؤيا نقطة التحول فى تاريخ الرجل، أو بتعبير أدق، هى دعوة اللّه العليا التى بها ناداه إلى الخدمة العظيمة،... ومن العجيب أن أعظم الرجال على الأرض، هم الذين تغيرت حياتهم، وغيروا حياة الناس، لأن رؤيا اللّه حولت تاريخهم بأكمله،.. ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم، فقام برحلته الخالدة،... وظهر لموسى فى العليقة، فقام برسالته العظيمة،... وظهر لجدعون، فحوله من الخائف من ظله إلى بطل من أبطال الأجيال،... ومن المثير أن الجنرال فوشى الذى كسب الحرب العالمية الأولى يقول إنه فى 26 مارس عام 1918 ظهر له اللّه فى رؤيا وأعطاه يقيين النصر!! ولم يكن هذا الجنرل خرافيا، ولكنه آمن باللّه ورؤيته وانتصر!!... وها نحن الآن نتابع رؤيا إشعياء من جوانبها المختلفة: الرؤيا والسيد قال إشعياء فى مطلع الأصحاح السادس: « فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، فإذا قارنا هذا بما جاء فى إنجيل يوحنا الأصحاح الثانى عشر والعدد الحادى والأربعين: « قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه »... أدركنا أن السيد المسيح هو الذى ظهر لإشعياء فى مجده وجلاله وعظمته فى هيكل اللّه فى أورشليم،... وقد حدثنا إشعياء عن وقت الرؤيا، غداة وفاة الملك عزيا، ولعل إشعياء كان ذهنه مشغولاً وممتلئاً بعزيا الملك، وكان عزيا من أعظم الملوك الذين ظهروا فى حياة إسرائيل،... ولكنه فعل فى أخريات حياته شيئاً تعساً محزناً، إذ حاول أن يكول ملكاً وكاهنا معاً، فطرده اللّه لكبرياء قلبه، بعد أن أصيب بالبرص، وبقى فى بيت برصه إلى يوم وفاته،... إنه على أية حال كان يمثل الإنسان البشرى العظيم، ونقطة النقص والضعف اللاحقة بعظمته.. لكن إشعياء تحول من الملك الناقص، إلى الملك القدوس، رب الجنود، الذي له وحده عرش الجلال والكمال،... تحول من المشهد الأرضى إلى اللّه الذى السماء ليست بطاهرة أمام عينيه، وإلى ملائكته ينسب حماقة!!... والمسيح دائماً هو مثال الكمال، عندما ما نفجع فى برص الناس ونقصهم وضعفهم وخيانتهم وقصورهم،... على أن الرؤيا تكشف عن جانب آخر، إذ تكشف عن الملك الدائم، عندما يتحول الملك من إنسان إلى آخر، أو عندما نتطلع فلا نجد أحداً يملأ المكان، ويستولى علينا اليأس والقنوط،... مات عزيا الملك وبقى الملك السرمدى الأبدى الحى الذى لا يموت، وهى الرؤيا التى نحتاج إليها فى أتعس الأوقات وأحلك الليالى، عندما صرخ دوجلاس زعيم العبيد فى الولايات المتحدة، وهو يعدد الظروف التعسة القاتلة التى تواجه العبيد البائسين هناك وهو يقول: كل شئ ضدنا!!.. الظروف ضدنا!!.. الناس ضدنا!!.. صاحت فيه امرأة زنجية: ولكن يا دوجلاس اللّه حى ولم يمت!!.. فثاب الرجل إلى رشده، وأدرك أن العروش على الأرض تهوى، ولكن اللّه يسود فى عرشه ويملك ويحكم!!.. هل نستطيع أن نرى اللّه مستقراً وجالساً على كرسى عال ومرتفع مهما أحاط بنا الظلام والفزع والضيق والحزن والأضطراب؟؟. الرؤيا والملائكة لم يكن إشعياء محتاجاً أن يرى اللّه فحسب، بل كان عليه أن يرى كيف يخدم السرافيم اللّه والكلمة « سرافيم » من أصل عبرى معناه « الملتهبين » « الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة » " مز 104: 4 " وكان لكل واحد ستة أجنحة، فهناك جناحان للطيران، وبهما يطير ملتهباً فى غيرته لخدمة اللّه!!... والخدمة المسيحية، لابد أن تكون هكذا،... كان واحد من خدام اللّه الصينيين، وكان غيوراً للمسيح، فى الولايات المتحدة، ينتقل فى القطارات وهو يوزع النبذ المسيحية، وذات مرة رأى أمامه سيدة تبدو غنية وأنيقة، وقدم لها نبذة عن الخلاص،... وإذا سألته عما فيها قال: إنها قصة جميلة أرجو أن تقرأيها، فصاحت في ووجهه: لا أريد، وألقتها فى وجهه،.. وقد راعه أكثر أن الكمسارى قال له: إن هذا ممنوع وتألم الرجل، وهو يسأل نفسه كيف يمكن أن يمنع هذا فى بلد خرج منه المرسلون إلى العالم لينادوا ببشرى الخلاص؟... ولكن واحداً من الجالسين تقدم إليه وهز يده قائلا: إنك هززت قلبى من الأعماق، إذ أرى أحدهم يشتغل بعمل سيده!!... كان هذا الخادم يأخذ أجنحة السرافيم وهو يقف فى الطريق يصلى ويرنم بالأغانى المسيحية، وقد هز نفوساً كثيرة بحياته الملتهبة فى خدمة سيده!!... على أن السرافيم يعطوننا صورة أخرى، صورة الإتضاع فى حضرة اللّه، إذ يغطى كل واحد منهم وجهه بجناحين، لأنه لا يجسر أن ينظر إلى وجهه اللّه!!... وفى الحقيقة إن الاتضاع من أهم صفات الخادم المسيحى، وما ير هذا الخادم نفسه على وضعها الحقيقى فى حضرة اللّه، كما كان يرى داود نفسه كبرغوث أو كلب ميت أو لا شئ على الإطلاق،... فإنه لا يستطيع أن يقوم بالخدمة أبداً!!.. تقابل أحد خدام اللّه مع عضو ثرثار، وكان هذا العضو يتحدث كثيراً، ويكرر الكلام، والراعى مستعجل يريد الذهاب إلى مكان ما، وأخيراً قال له: أنا مشغول وينبغى أن أذهب بسرعة!!... ألا تعرف من أنا!!؟... وقال العضو: نعم أعرف، فانت الواعظ!!... ولكن هذه الكلمة رنت فى أذن خادم اللّه وقال: هل ينظر الناس إلى أنا، وهل أوجه الالتفات إلى نفسى أم إلى المسيح!!؟… وذهب إلى بيته، وأغلق على نفسه، وظل هناك حتى صلب الإنسان العتيق … وعاد ليعظ: « ينبغى أن ذلك يزيد وأنى أنا أنقص » " يو 3: 03 ز.. كان هناك واعظ ينقلونه من كنيسة إلى كنيسة، لأنه كان جافاً ويترك الجفاف فى كل مكان ذهب إليه!!.. وقال له الشخص المسئول فى المجمع: أنا لا أستطيع أن أعينك فى كنيسة، إنهم يصفونك بالقصبة العجوز الجافة … وبكى الرجل العجوز وقال: أعطنى هذه الفرصة الأخيرة … فعين فى قرية، وفزعت القرية إذ سمعت بخبر تعيينه.. لكنه دخل إلى مخدعه، وصارع مع اللّه، وعندما خرج، خرج إنساناً آخر، حتى كانوا يصفونه بالقول: إن القصبة العجوز اشتعلت فيها النار بعد الاتضاع والبكاء فى حضرة اللّه!! … وكان الجناحان الأخيران يغطيان القدمين، وهو الأمر الثالث فى الخدمة، ونعنى به الاحترام الكلى لعمل اللّه ورسالته، … تعود أحدهم أن يدخل الكنيسة دون أن يرفع قبعته، وإذ سأله الراعى عن السر فى ذلك … قال: لا تؤاخذنى لعدم رفع القبعة، فقال الراعى: لا مؤاخذه. فهذا ليس بيتى!! … إن من أهم مقومات الخدمة المسيحية الإجلال والاحترام الكامل للّه وبيته وخدمته ورسالته!! الرؤيا والنفس بعد أن أبصر إشعياء اللّه، والملائكة، رأى نفسه وحالته فصاح: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين » (إش 6: 5) هذا ما أحس به إشعياء وهو فى بيت اللّه، ونحن فى العادة نرى تصرف الناس فى بيت اللّه يختلف إلى حد كبير عن هذه الرؤيا إذ عندما يحضرون، ما أكثر ما يهنئون الواعظ على العظة البليغة الممتازة الى ألقاها، وينصرفون إلى الراعى دون أن يروا أنفسهم!!... وقال أحدهم: إن الكثيرين يذهبون بعد ذلك إلى بيوتهم يههنئون أنفسهم بالبركة والتعزية التى حصلوا عليها، ثم يأكلون طعامهم ويشربون شرابهم، ويمكن أن يقال لهم: لقد أكلتم، واحتسيتم وامتلأتم من القهوة أو الشاى، لأنكم لم تروا أنفسكم وخطاياكم لكى يصيح الواحد منكم: ويل لى إنى هلكت » جاء فى قصة قديمة أن شاباً غنياً استجاب لرسالة المسيح، وعمده الرسول يوحنا، وعندما علم أبوه بذلك خيره أن يختار فى أربع وعشرين ساعة بين دينه القديم وثروة أبيه، أو المسيح يسوع!!... وقال الشاب: إنى أختار المسيح، وخرج من بيت أبيه وعاش فى أوساط المسيحيين الفقراء مدة عامين،... وفى يوم عيد الميلاد كان يتجول فى غابة، وكانت نفسه فى أقسى حالات التجربة، وتصادف أن تقابل مع كاهن وثنى، وسأله الكاهن: لماذا يتجول بعيداً عن أصحابه وهداياهم!!؟ … ثم ابتدره – على ما تقول القصة – بالسؤال: هل يمكن أن يعطيه – أى للكاهن - اسم المسيح، وفى مقابل ذلك سيعطيه الكاهن ما يشتهى من ثروة وجاه ونفوذ؟!!... وقبل الشاب المبادلة، وسار فى إتجاه بيته القديم، ليجد أباه فى ضجعة الموت، وقال له الأب: إنى آسف يابنى لأنى عاملتك هذه المعاملة القاسية... هل لك أن تعلمنى عن السر المسيحى؟ وارتبك الشاب وهو يقول: « انتظر يا أبى قليلا... حتِى أشرح لك السر!!. وقال له الأب: لا أستطيع الانتظار، ومات بين يديه!!... وصرخ الشاب وهو يدرك أن سر تلعثمه راجع إلى أنه خضع للتجربة، فبكى وهو يقول « ويل لى إنى هلكت » وانحنى أمام اللّه تائباً!!... لقد عرت الرؤيا الإلهية إشعياء وشعبه، فرأي البرص يملأه ويملأ الأمة بأكملها!!... عندما رأى بطرس جلال المسيح صاح: « أخرج من سفينتى يارب لأنى رجل خاطئ» "لو 5: 8 " نرى هل رأيت هذه الصورة أيها القارئ وأنت فى حضرة اللّه؟!!. الرؤيا والتطهير ما أن اعترف إشعياء بخطيته حتى أدرك فى الحال ما قاله الرب على لسانه: « هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج إن كانت حمراء كالدودى تصير كالصوف » (إش 1: 18).. ولم يحتج إلى وقت حتى يظهر، إذ طار واحد من السرافيم، وقد أخذ جمرة من على المذبح ومس بها شفتيه، والسؤال: لماذا هى جمرة، ولماذا أخذت من على المذبح!!؟ إنها جمرة لأنها تشير إلى عمل الروح القدس النارى... ومن على المذبح لأنها تشير إلى عمل المسيح الكفارى... واللّه ينتزع خطايا إشعياء وخطاياى وخطاياك بفداء المسيح، وتأثير الروح القدس،... ولعلنا نلاحظ هنا أن السيد لم يوبخ إشعياء على خطاياه، أو ينظر إليه بغضب، أو يذله بها، بل سارع فى الحال إلى تطهيره عندما اعترف بها.جاء فى قصة أن أحد المؤمنين القديسين بعد أن تتجدد عرض للكثير من الضعفات والتجارب التى أسقطته، وحلم ذات يوم أنه ذهب إلى السماء، وإذ رأى المسيح أحنى رأسه خجلا، وقال: يا سيدى إن خطاياى كثيرة... وأنا حزين عليها!!... ولشدة دهشته سمع السيد يقول: « إنى لا أذكر البتة خطية لك، لقد محوتها جميعاً!!.. الرؤيا والرسالة «من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟ ».. " إش 6: 8 " ونحن نلاحظ هنا أن اللّه لم يوجه الدعوة مباشرة إلى إشعياء أو يأمره بها، لقد أعطاه مطلق الحرية للاختيار أو الرفض، … وهو القائل دائما: إن أراد أحد أن يأتى ورائى!!.. " مت 16: 24 “ ومن العجيب أن الدولة لا تترك لأحد أبنائها الحرية ليقبل الواجب أو يرفضه، فالمواطن لا يدفع الضريبة بالاختيار، والجندى لا يذهب إلى الجندية بملء إرادته، لكن اللّه لا يرغم أحداً على الرسالة التى يلزم أن يؤديها!!.. إنه يطلق النداء العام، وعليك أن تقبل أو ترفض،.. وقد أجاب إشعياء على الرسالة بالإيجاب وهو يقول: « ها أنذا أرسلنى » … " إش 6: 8 "… ومع أن الرسالة كانت من أصعب الرسائل وأقساها، إذ تحدث عن خراب بلاده لأنها لا تطيع اللّه، والنفس التى لا تطيع، معرضة للضياع على الدوام!!،كان على الرجل الذى ترك حياة القصور أن يدفع الضريبة، فى سبيل الخدمة، … وقد فعل على أعظم وجه يمكن أن يفعله نبى أو رسول أو خادم للّه فى الأض!!.. إشعياء والفكر اللاهوتى فى سفره سفر إشعياء غنى بالأفكار اللاهوتية، ومع أنه ليس من السهل حصرها فى صفحات، إلا أنه يهمنا أن نركز النظر على أهم صورها!!.. ويمكن أن نراها بوضوح فى: سيادة اللّه ومن الواضح أن إشعياء علم بوضوح وحدانية اللّه فهو، يذكر: « أنا الرب وليس آخر، لا إله سواى... أليس أنا الرب ولا إله آخر غيرى. إله بار ومخلص. ليس سواى » " إش 45: 5، 21 ".. هذا الإله المهيب العظيم المرتفع، الذى يعلو على كل متعظم وعال: « أدخل إلى الصخرة واختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته، توضع عينا تشامخ الإنسان وتخفض رفعة الناس ويسمو الرب وحده فى ذلك اليوم. فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعال، وعلى كل مرتفع فيوضع » " إش 2: 10 - 12 "... وستسقط أمام عظمة اللّه كل الآلهة التى هى من صنع الناس: « وامتلأت أرضهم أوثاناً، يسجدون لعمل أيديهم، لما صنعته أصابعهم... وتزول الأوثان بتمامها... فى ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية التى عملوها له للسجود للجرذان والخفافيش ليدخل فى نقر الصخور، وفى شقوق المعاقل من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض » " إش 2: 8، 18، 20، 21 " « الذين يصورون صنما كلهم باطل ومشتهياتهم لا تنقطع وشهودهم هى. لا تبصر ولا تعرف حتى تخزى.. من صور إلهاً وسبك صنما لغير نفع » (إش 44: 9، 10).. وأمام سيادة اللّه وعظمته، ما هو الإنسان، مهما علا شأنه وامتدت قوته؟ أنه كما صوره إشعياء: « كفوا عن الإنسان الذى فى أنفه نسمة لأنه ماذا يحسب » " إش 2: 22 ".. « الجالس على كرة الأرض وسكانها الجندب الذى ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن. الذى يجعل الغطاء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل … فبمن تشبهوننى فأساويه يقول القدوس؟ ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه. من الذى يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء لكثرة القوة، وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد. لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل قد اختفت طريقى عن الرب وفات حقى إلهى. أما عرفت أم لم تسمع؟ إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا ويعيا. ليس عن فهمه فحص. يعطى المعيى قدرة ولعديم القوة يكثر شدة الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثرون تعثراً وأما منتظرو الرب فيجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون " إش 40: 22، 23، 25 - 31 ". قداسة اللّه وقد سمع إشعياء فى الهيكل هتاف السرافيم: « قدوس قدوس قدوس »، والتعبير فى مفهومه العبرى تعبير عن القداسة الكلية المرتفعة المتعالية، وهى عندنا - كمؤمنين بالثالوث - هى الصفة الإلهية للاب والابن والروح القدس وهى ليست مجرد الانفراد والعزلة عن الخطية، أو الكمال الأدبى المطلق، بل هى - أكثر من ذلك - السمو المرتفع الذى ينفرد به اللّه وحده!!.. وهذه القداسة هى التى لا يمكن أن تتقابل مع الخطية أو تتهاون معها،.. والخطية هى القذارة والاتساخ والبرص، ولهذا صرخ إشعياء فى التو والحال: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشقتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6: 5 "... والخطية هى العصيان: « ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا على ّ » " إش 1: 2 " وهى المرض: « من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية. لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت ».. " إش 1: 6 " وإشعياء يؤكد أن عقابها رهيب، وأن يوم اللّه لابد أن يقضى على الخطية والخطاة. الإيمان باللّه والإيمان، عند إشعياء، يرتبط بالسكينة والهدوء، والاطمئنان والأمن: « إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا » " إش 7: 9 " « من آمن لا يهرب » " إش 28: 16 " « لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم » " إش 03: 51 ".. وهو الذى يعطى الإنسان السلام العميق فى وسط زوابع الحياة وعواصفها!!.. خلاص اللّه وقد رأى إشعياء عمانوئيل، والابن العجيب، الإله السرمدى، يتدخل بالخلاص فى حياة الأمة، ويكفى أن نركز أبصارنا آخر الأمر على الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء،.. وقد صاح جيروم عندما بدأ فى ترجمته من العبرانية إلى اللاتينية وهو يقول: « بالتأكيد إن هذا الأصحاح من مبشر فى العهد الجديد أكثر منه من نبى فى العهد القديم!!.. وقال ديلتش العالم الألمانى العظيم فى اللغة العبرانية والمفسر المشهور فى القرن التاسع عشر: « إن الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء، يبدو كما لو أن كاتبه كتبه وهو تحت الصليب فى الجلجثة... إن هذا الأصحاح هو الأصحاح المركزى، إنه أعمق وأسمى أصحاح، فى العهد القديم »، وقد حاول البعض أن يعتبره موجهاً إلى إسرائيل ورمزاً له، لكن هؤلاء لم يستطيعوا أن يفسروا كيف ينطبق هذا على إسرائيل فى الأوضاع المختلفة، وهو يشير إلى فرد بوضوح لا يقبل شكاً، بل إن هذا الأصحاح يتحدث عن شخص سيكون ضحية لأجل آخرين وإسرائيل لم يكن فى يوم من الأيام هذه الضحية،.. إن هذا الأصحاح هو حديث عن المسيح لا سواه!!.. ولعله من الملاحظ أن الجزء الأخير من الأصحاح الثانى والخمسين، وهو مرتبط تماماً بالأصحاح الثالث والخمسين، قد تحدث عن مجد المسيح، قبل أن يتحدث عن اتضاعه، وهو يرينا الحقيقة المؤكدة قى قصد اللّه الأزلى، أن الصليب سينتهى إلى المجد، وهذا المجد ليس أكيداً فحسب، بل هو عظيم ورائع أيضاً!!.. فإن نصرته ستكون حاسمة، وستسكت الملوك والأمراء والأمم والأجيال!! ومن المؤسف أن إسرائيل كثيراً ما رفض أن يصدق ما أعلنه الرب، وأظهر به ذاته وذراعه،... وقد نبتت آلام عبد الرب أو المسيح من مولده فهو العود الرطب الذى نبتت فى الأرض اليابسة، وجاء من أم فقيرة قروية، ولم يكن له أين يسند رأسه، ومع أنه أبرع جمالا من بنى البشر، إلا أن الحياة القاسية التى وجد فيها، لم تجعل الناس يتطلعون إليه ليبصروا جماله أو يشتهوا منظره... إن مأساة البشر أنهم ينظرون إلى الجمال عندما تحف به المظاهر الخداعة، والأوضاع الشكلية،.. وعندما جاء المسيح إلى أرضنا خلواً من هذه المظاهر احتقره الناس، ولم يحتقروه فحسب، بل خذلوه أيضاً، أو فى لغة أخرى، إن الاحتقار لم يكن سلبياً ساكناً فحسب، بل أكثر من ذلك كان متحركاً موجعاً، قد يحتقر إنسان آخر دون أن يتعامل معه، ويظل احتقاره تعبيراً دفيناً فى القلب، ولكن المسيح لم يحتقر فحسب، بل خذل من الناس الذين رفضوا مجيئه ونداءه ورجاءه وشركته. وقد تحول هذا إلى وجع عميق فى قلبه. وإلى حزن عميق فى نفسه، فحوله إلى رجل أوجاع ومختبر الحزن. وما يزال المسيح إلى اليوم يعانى من هذا الوضع من الكثيرين فما يزال الكثيرون يحتقرونه، ويخذلون آماله فيهم، ومايزال يبدو أمامنا، وقد رفضه الناس، رجل الأوجاع والخبير بالألم والحزن العميق. ومن الملاحظ أن النبى كشف عن الألم النيابى للمسيح، إذ أن الذين رأوا الألم فى ظاهره ظنوه ألماً أصيلا أو عقاباً: « ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من اللّه مذلولاً ».. " إش 53: 4 ".. لكن الأمر لم يكن كذلك، بل كان الألم النيابى الذى يحمله إنسان لأجل آخرين، وقد حمل المسيح أحزان الناس وأوجاعهم، إذ رفعها عن كاهلهم، لقد جال هو فى أرض فلسطين، ورأى المرضى والمتألمين والحزانى، فرفع عنهم أحزانهم وأوجاعهم ومراضهم وفى سبيل ذلك تعب هو وتوجع وأن... على أنه فى المعنى الأعمق، حمل عنا أوجاع الخطية وشرها وإثمها على الصليب، ولم تكن الآلام النيابية آلاماً هينة، بل كانت فى منتهى القسوة والعنف، فهو لم يجرح من أجل معاصينا فحسب، بل سحق أيضا بالحزن والعار الذى كسر قلبه...، ولم يؤدب، بل ضرب بالسياط، وقد كان هذا من أجلنا نحن العصاة الأثمة المتمردين، ولم يكن هناك من سبيل إلى الخلاص من عصياننا وشرنا وتمردنا والعودة إلى السلام والصحة، إلا بآلامه من أجلنا، فهذه آلام كفارية تكفر عنا أمام اللّه، وفى الوقت نفسه مطهرة تشفينا، وتعيدنا إلى صوابنا عندما نقف أمام آلامه من أجلنا!!... لقد ضللنا وأثمنا، ولكنه كان هو حمل اللّه الذى يرفع خطية العالم!! على أنه من الواضح أيضاً أن آلام المسيح لم تكن قهراً أو رغماً عنه، قد يؤخذ الجندى ليموت من أجل بلده، ولكنه يؤخذ فى كثير من الأحايين قهراً، أما المسيح فقد كان موته اختيارياً تطوعياً. ظلم فقبل الظلم والمذلة، دون أن يحتج أو يشكو، ولقد كان مثلا عجيباً فى تحمل الضغط والدينونة عندما حكم عليه، وهكذا بدا فى موته عظيماً، لأنه تطوع بهذا الموت لأجل الآخرين!!.. ومن العجيب أن تكون هذه الآلام برضى اللّه وسروره، إذ سر بأن يسحقه بالحزن، وقد سر اللّه بهذه الآلام إعلاناً عن محبته للخطاة، وتأكيداً للنصر الذى سيتأتى عنها، وقد كانت هذه مشورة الرب لخلاص البشر!! كان إشعياء - كما أسلفنا - يعنى « خلاص الرب » وقد أدنانا - فى حديثه عن سيادة الرب، وقداسته، والإيمان به - من الخلاص العجيب الذى أعده لنا اللّه كاملا على هضبة الجلجثة، والذى يدعونا إليه بقوله العظيم الكريم: التفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصى الأرض لأنى أنا اللّه وليس آخر »..!!.. " إش 45: 22 ".
المزيد
12 ديسمبر 2020

المقالة الحادية والعشرون في ورود ربنا يسوع المسيح الثاني

يا بني النور تقدموا وهلموا، وأسمعوا صوت مخلصنا، الصوت المغبوط المبارك الهاتف إليكم: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم ملك السماوات “. فأحذروا يا إخوتي أن يعدم أحدكم هذا الميراث السعيد، فإنه ها هو على الأبواب، إن النور نزل إلينا فأنارنا، وأدنانا إليه، وأصعدنا معه، فإذ نزل إلينا، صار من أجلنا مثلنا ليجعلنا مثله. من لا يموت نزل إلى المائتين ؛ وحين جعلهم غير مائتين، أرتقى إلى الآب، وسيجيء بمجد أبية المبارك يدين الأحياء والموتى. صار لنا طريق حياة مملوءة نوراً ومجداً، لنسلك نحن في النور إلى الآب، تعالوا يا أحبائي لنسلك في الطريق التي أوراها لنا الرب، لنصل بسرور إلى مملكته، ولنأخذ زاداً وزيتاً في أوعيتنا، فليست الطريق قصيرة. فلنشد أحقائنا بالحق، ومثل أناس وعبيد حافظين منتظرين سيدهم، نوقد مصابيحنا، ونستفيق بشهامة، لأننا منتظرون أن نستقبل ربنا من السماوات مقبلاً، فلا نتناعس فيما بعد لئلا تنطفئ مصابيحنا. ها قد وافى النور، فولى الليل وأتى النهار، يا بني النور بادروا إلى النور أخرجوا بفرح إلى استقبال ربكم. أروه فضائلكم، أتوا إليه بنسككم، وحميتكم، وسهركم، وأتعابكم، ودموعكم، وهجركم للقنية، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا، ولا ينظر أحد منكم إلى الرذائل التي وراء، بل فليعبد ناظر النفس إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظركم فوقاً، متأملاً ذلك الجمال والسرور، يا وارثي الآب ومساهمي ميراث ابن اللـه الحي. إن هذه النعم قد وهبها اللـه لنا فبماذا نكافئه، هلموا فلنطرح عنا كل اعتناء واهتمام هذا الدهر، ولنخدمه وحده بحرص عظيم ونشاط جزيل، فها يومه بالحقيقة قرب، ووروده بتأكيد حان. هلموا إذاً يا إخوتي، فلنعد ذاتنا، ونتيقظ منتظرين ربنا الختن السمائي الذي لا يموت، فإنه ها يشرق، ها يبلغ، لأن تلك الصرخة تصير بغتة، ها الختن وارد فأخرجوا إلى استقباله يا معشر الذين أحببتموه وأعددتم ذاتكم لمعاينته في مجده، لأن كافة الذين اشتاقوا إليه يفرحهم في حجلته الأبدية المنيرة البهية التي لا توصف. فأحذروا يا إخوتي إذا صار ذلك أن يوجد أحدكم ماسكاً مصباحه مظلماً لا زيت فيه، أو لابساً أطماراً بالية متسخة فيدان، ويحكم عليه بالظلمة البرانية، وبذلك العقاب الدهرى الذي لا يفنى، حيث البكاء وتقعقع الأسنان. فلنحذر ذاتنا يا أحبائي، فإننا لا نعلم متى يجئ ربنا، لأنه كالسارق في الليل، ومثل الفخ يوافي ذلك اليوم، وكبرق حاد هكذا يكون حضور الرب. لأن البوق يضرب، فتتزعزع الأرض من أساساتِها، وترتعد السماوات مع قواتِها، والموتى يقومون كلهم. يا أحبائي من لا يلومه قلبه في تلك الساعة، ابسطوا عذر ضعفي فإنني أظن أن كل نسمة ترتعد في تلك الساعة، لكن نعمة اللـه تقوي وتفرح قلوب الصديقين، فيختطفون في السحب إلى استقباله، أما المضجعون والعاجزون الذين يشبهوني فيلبثون على الأرض مرتعدين. فلنخفف ذاتنا يا إخوتي من الأرض قليلاً، لنرتقي بسهولة إلى السماء، ماذا ينفعنا العالم الذي قيدنا بِهمومه ؟ أم ماذا نربح من تزيين الثياب سوى نار لا تطفأ، أو ماذا تسبب لنا تطييب ألوان الأغذية سوى تعذيب أبدي؟ اعرفوا بتأكيد أننا إن لم نجاهد في هذا الزمان القصير، فإننا نزمع هناك أن نندم إلى أبد الدهر. يا إخوتي لِمَ نتوانى ولِمَ نضجع، لماذا لا نغذي أنفسنا ؟ لأن يوم الرب أقترب منا، لِمَ لا نطرح عنا كل اهتمام غير نافع ونخفف ذاتنا من ثقل الأمور الأرضية. أما قد عرفتم أن الباب ضيق وضاغط، ولا يستطيع الجزيل القنية أن يدخل فيه، وهو إنما يحب الذين لا قنية لهم، الذين قد ضيقوا على ذاتِهم باختيارهم بالنسك والتعب، والذين أعدوا ذاتَهم لمعاينة الختن السمائي الباقي في مجده، ويورثهم ملك السماوات. لأن ها يصوت ربنا قائلاً: أسرعوا إحضاركم، وتعالوا إليَّ، وليتكاثر عددكم فيَّ وفي خدر ربكم، ولتتعاظم صفوفكم مع الملائكة والقديسين في الضياء. فأنتم يا أولادي لا تقتنوا على الأرض شيئاً، ولا تَهتموا بشىء، لأن الختن مستعد للمجيء في سحب السماء بمجد أبيه المبارك، يدعو كل واحد منكم باسمه، ويتكئه في طغمة القديسين المتصرفين في النور الذي لا يوصف في الحياة الأبدية التي لا تبلى ولا تنفذ نظير أعماله وأتعابه. فلنحرص يا إخوتي، فلنحرص في هذا الزمان اليسير، ولا نضجع هنا لئلا نندب إلى الدهور التي لا نَهاية لها، حيث لا تنفع الدموع والزفرات، حيث لا توبة، إن حرصكم يسر به الملائكة ورؤساء الملائكة، وونيتكم يفرح بِها العدو، احرصوا يا سروري، احرصوا أن أسر أنا بكم، وأنتم بي إلى الدهر. لك أجثو ساجداً أيها الرب يسوع المسيح ابن اللـه الحي، أعطني ولكافة الذين يحبونك أن نعاينك بمجد في ملكك، ونرثه مع كافة الذين يحبوك وتاقوا إليك. يا أحبائي إن توانينا وأضجعنا في هذا الزمان اليسير، فلا تكون لنا دالة في ذلك اليوم المخوف، لأننا لا نجد حجة عن خطايانا، لأنه منذ أنحدر إلينا ربنا ومخلصنا أنتزع كل حجة لأنه وهب لنا حين جاء الحياة الأبدية. كنا أعداء صالحنا، أرضيين فصرنا سماويين، مائتين فدعينا غير مائتين، بني الظلمة فصرنا بني النور، مستأسرين ففدينا، عبيداً للخطية فحررنا، مساكين فأغنينا، ضائعين فوجدنا، ممقوتين فأحببنا. ظالمين فزكينا، غير مرحومين فرحمنا، خطاة فخلصنا، ترباً ورماداً فصرنا بنيناً للـه، عراة فسترنا، وصرنا وارثين للـه، ونظير ابنه في ميراث هذه النعم، قد وهبها لنا ربنا فبماذا نكافئه ؟ يا أحبائي هلموا فلنطرح عن ذاتنا كل اعتناء واهتمام هذا العالم الباطل، ونخدمه بحرص عظيم ونشاط كبير وحده، فها يومه حان بالحقيقة، ووروده دنا منا بتأكيد. تعالوا فلنعد ذاتنا ونتيقظ منتظرين ربنا الختن الذي لا يموت كأنه أشرق وتلألأ وأقبل، تناهى الليل والنهار أقبل. يا بني النور بادروا إلى النور، أخرجوا إلى استقباله بفرح، أروه فضائلكم، قدموا له نسككم ومسككم، سهركم وأتعابكم، دموعكم وزهدكم، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا. لا ينظر أحدكم إلى الوراء بل ناظر نفسكم فليكن إلى العلا ناظراً، إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظرك فوقاً متأملاً ذلك الفرح الذي لا يفنى، الذي لا تشبع منه نفوسكم من معاينة مجده وبَهائه وحسنه. من يجع فليصبر، لأن ها مائدة الملكوت تنتظره. من يعطش فليثبت، فها نعيم الفردوس أستعد له. من يسهر ويصلي ويرتل ويبكِ فليتأيد، فإن سرور حجلة ربه تعزيه. فإذ قد عرفنا هذه كلها يا إخوتي فلا نقتني على الأرض شيئاً، لأن كل أحد منكم في ذلك اليوم سيرى أية فضيلة قد أقتناها من هنا أو أي أتعاب أحتملها، أو أي نسك أو أي سهر أظهره. أترى إذا أشهر الشهداء جراحات العذاب والعقوبات، والنساك الشجعان نسكهم وحميتهم، وما لهم من الصبر والحزن والزهد، فالمضجعون والعاجزون والمتنزهون بماذا يفتخرون ؟ أبرخاوتِهم وونيتهم وهلاكهم، الويل لهم إذا توانوا، يا للأسف إذا أضجعوا. تعالوا يا أحبتي، تعالوا نحرص، هلموا نسجد له، ولننح ونبكِ أمامه بجراءة ليعطينا استنارة نفس، فنتفطن حيل عدونا ومعاندنا وماقت الخير، الذي يجعل قدامنا مزلقات ومعاثر ومضرات كثرة الاقتناء، وتنزه هذا الدهر، واللذة البشرية. وانتظار طول زمان هذه الحياة الحاضرة، وجزعاً من النسك، وعجزاً عن الصلوات، ونوماً في الترتيل، وراحة بشرية. فبمقدار ما يحرص ذلك نضجع ونتوانى، بقدر ما يمكن ذاك نتهاون نحن، فلنعلم موقنين أن أيامنا قصرت، والوقت قد أزف، ورب المجد سيجيء بحسن بَهائه، وبقوات ملائكته المرهبين، فيجازي كل واحد نظير عمله. فأخشى يا إخوتي أن يتم فينا قول القائل: أنَهم سيجيئون من المشارق والمغارب، والجنوب والشمال، ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملك السماوات، وأنتم تلقون خارجاً. إليك أتضرع أيها المسيح نور الحق، وابن الآب المبارك، صورته وشعاع أقنومه، أيها الجالس عن يمين عظمته، أيها الابن الذي لا يُدرك، المسيح الذي لا ينتهي أثره، الإله الذي لا يفحص. يا فخر وسرور الذين يحبونك، أيها المسيح حياتي، خلصني أنا الخاطئ في ملكك، إن الفاعل المتعوب ينتظر أن يأخذ حقوق أجرته، ويلي فإن لساني يتعب في تلاوة التمجيد، لا تجازيني نظير أعمالي بل خلصني بنعمتك، وترأف عليَّ بتحننك فإنك أنت هو المبارك والممجد إلى الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
10 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إسحق

"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31 مقدمة لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية: إسحق.. من هو؟!! إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!!على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!.. إسحق وقصة السلام مع الناس وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني: إسحق وأخوه كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!..إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!.. إسحق وأبوه كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، ‎.. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، ‎.. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!.إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!.. إسحق وولداه وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، ‎.. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،..هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!.. إسحق والعالم الخارجي ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن ‎الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!..فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!! إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً"..كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ‎، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى..لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!..لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد
08 ديسمبر 2020

أهم 10 معلومات عن شهر كيهك

تقوم الكنيسة في شهر كيهك بتكريم السيدة العذراء مريم أم الله . خلال هذا التقرير سنلقي الضوء على أهم 10 معلومات عن الشهر الكيهكي . شهر كيهك هو الشهر الرابع من السنة الطقسية العاطفة تجاه العذراء في هذا الشهر يقوم المؤمنين بإظهار عاطفتهم تجاه السيدة العذراء مريم ، حتى تقوم بإظهار عاطفة الأمومة لكل إنسان اتخذها شفيعة له . أصل تسميته يعود أصل تسميته إلى الإله "كاهاكا" اله الخير علاقة الشهر الوثيقة بالسيدة العذراء ينظر المؤمنين خلال شهر كيهك إلى إتمام سر التجسد ، حيث يتأملون الله الذي اخذ شكل إنسان وولد من العذراء ليخلص شعبه . الشهر المريمي يسمى شهر كيهك بالشهر المريمي نسبة للسيدة العذراء . اللحن الكيهكي للشهر الكيهكي لحن خاص داخل الكنيسة يسمى " اللحن الكيهكي" . مدائح كيهك قام المتنيح الأنبا "اثناسيوس ميخائيل الزيات" الأسقف الفخري على كرسي الفيوم ، بجمع مدائح الشهر الكيهكي في العالم الشرقي والغربي . تسبحة الشهر الكيهكي تسمى تسبحة كيهك " سبعة وأربعة" لان ترتيبها الأساسي عبارة عن أربعة هوسات وسبعة ثيئوطوكيات . شهر كيهك وميلاد الرب يسوع تكثر الكنائس من التسبيح في الشهر المريمي قبل أعياد الكريسماس ، استعدادا لعيد الميلاد المجيد . كيهك وتطويب العذراء قالت السيدة العذراء بعد أن بشرها الملاك جبرائيل بأنها ستكون أما للمسيح الذي يخلص شعبه من خطاياهم . " فهوذا منذ ألان جميع الأجيال تطوبني " ، لذلك تقوم الكنائس بتطويبها قبل أعياد الميلاد. روماني صبري
المزيد
05 ديسمبر 2020

المقالة العشرون في أيهما أفضل البكاء أم الضحك

بدء انقلاب نفس العابد الضحك والدالة، فإذا رأيت ذاتك فيهما، فأعرف أنكَ قد انتهيت إلى قعر الشرور، فلا تفتر متضرعاً إلى اللـه أن ينجيك من هذا الموت. الضحك والدالة يهلكان أثمار العابد، الضحك والدالة يجعلانه يتكردس إلى الآلام القبيحة، الضحك والدالة يحدرانه إلى أسفل، وقد قال أحد القديسين عن الدالة: أن الدالة ريح الشوب تفسد أثمار العابد. وعن الضحك أسمع الآن، الضحك يطرح النوح خارجاً، وينقض الفضائل المبنية، الضحك يُحزن الروح القدس، ولا ينفع النفس، ويفسد الجسد، يطرد الفضائل، وليس فيه ذكر الموت، ولا دراسة العذاب. أنزع مني يارب الضحك، وأعطيني النوح والبكاء الذين تطلبهما مني. بدء النوح أن يعرف الإنسان ذاته، وليكن نوحاً لا من أجل إنسان ولا لنشاهد الناس، لكن من أجل اللـه العارف مكتومات القلب، لكي ما نُطوَّب منه ونغبط. ولنكن من الآن حسان الوجه، مبتهجون بالروح القدس بمواهب الرب باكين نائحين بمعقولنا، مستعطفين اللـه كي يحفظنا من كل نوع خبيث لئلا نعدم ملك السماوات بالخيرات التي عدها اللـه للذين يرضونه. النوح يبني ويحفظ، النوح يروض النفس ويرضها نقية طاهرةً، النوح يولد العفة، ويقطع اللذات، ويقوم الفضائل. وماذا أقول أيضاً: النوح يطوب من اللـه ومن الملائكة، فلذلك واحد من تلاميذ الرب قال: ينبغي أن يعود ضحككم نوحاً وفرحكم اكتئاباً. تواضعوا إذاً تحت يد اللـه العزيزة فيعليكم. ماذا أصنع أنا الخاطئ، إذ لم أنح ولم أبكي على نفسي بتخشع، لأنني أتكلم ولا أعمل، ويلي كيف أتَهاون وكيف أتوانى في خلاصي ؟ ويلي لأنني بمعرفة أخطئ، أعرف فعل الشر ولا أعطف ذاتي عنه، ويلي فإنني بلا معذرة لأنه بأقوالي يحسبني قوماً أنني من ذوي اليمين، وبأفعالي أقف عن اليسار. لك يارب، أيها الصالح والفاقد الحقد وحدك، أعترف بخطيئتي، وإن صمت أنا تعرف كل الأشياء وليس شيء مكتوماً من اتجاه عينيك، لكن قد قلت يارب بنبيك: قل خطاياك لكي ما تخلص. قد أخطأت يارب قد أخطأت، ولست أهلاً أن أتفرس وأبصر علو السماء من قبل وفور آثامي، لأنني من أجل لذة يسيرة تَهاونت بالنار. ماذا أصنع أنا الأشقى من كل الناس ؟ أبكي على ذاتي ما دام يوجد وقت تقبل فيه الدموع، هب لي أيها الصالح الرحوم وحدك دموع خشوع، لكي ما أتوسل بِها إليك أن تطهر وسخ قلبي. ويلي ماذا أصنع في جهنم وفي الظلمة القصوى حيث البكاء وصرير الأسنان، ماذا أعمل نحو الزمهرير والعذاب الذي لا ينقضي، والدود النافث السم الذي لا يرقد، وماذا أصنع عند تَهويل الملائكة الموكلين بالعقوبات، لأنَهم مرهبون وغير راحمين. من يعطي لرأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأجلس أبكي ليلاً ونَهاراً لأستعطف الإله الذي أسخطه. يا نفس قد أخطأْت فتوبي، فإن أيامنا تعبر عبور الظل بعد قليل أيضاً وننصرف من هنا، يا نفس أنت عازمة أن تعبري في أماكن مخيفة، فلا تسوفي يوماً فيوماً أن تعودي إلى الرب. يا نفسي طردتِ بالأفعال الدنسة الملائكة القديسين الذين يحفظونك، فلا تمنحي ذاتك راحة ولا تفتري حدقة عينيك من السجود للإله الصالح المتعطف على البشر ليعطيك معونة من العلي. يا إخوتي نحن مزمعون ليس بعد حين طويل أن نعبر أماكن مخيفة، وغير ممكن أن لا نعبر تلك الطريق، وليس أحد من هنا يرافقنا للمعونة، لا والدان ولا إخوة ولا أصدقاء ولا جنس ولا غنى ولا شيء من نظائر هذه. فلا نتوانى في الأعمال الصالحة التي سنجدها في زمان الحاجة، ولنستفق في هذا الدهر لئلا يقبض علينا بعد الفراق رؤساء الظلمة، ومن المُعِين والفادي في تلك الساعة من أيديهم إن صودفنا مجردين من ستر اللـه. إن رؤساء الظلمة متمردون وغير رحومين، لا يرهبون ملكاً ولا يكرمون أميراً، ولا يبجلون صغيراً ولا كبيراً، سوى العائش بالديانة البهية فقط، صاحب الأعمال الصالحة، من وجه هذا يرهبون ويعتزلون ويخافون ويولولون منهزمين بتسارع كثير. كما كتب: أن النعمة والرحمة سابغتان على مختاريه وتعهده لأبراره. ويقول أيضاً: إن نفوس الصديقين بيد الرب، ولا يمسهم العذاب، لأن عدلهم يتقدم فيصير قدام وجوههم، ومجد اللـه يجللهم. حينئذٍ يصرخون، فيستجيب لهم الرب، وفي حين تكلمهم، يقول هاأنذا قد حضرت لأن صادقاً الواعد. مغبوط من يوجد حراً في ساعة الفراق، لا نتوانى يا إخوتي الأحباء، ولا نجذب إلى ذاتنا الأشياء الأجنبية الضارة البالية، لأن تلك الطريق تحل كل شيء. إذا حانت ساعة الفراق تذبل اللذات، وتَهلك التنعم والشرف الباطل، فيبيد الغنى وحب الرئاسة إذا حضرة ساعة الفراق، وهذه كلها ونظائرها تنحل وتزول. أيها الرب إذا تذكرت تلك الساعة فأَخر ساجداً لصلاحك ألا تسلمني إلى الذين يظلمونني، لئلا يفتخر أعدائي على عبدك، مصريّ أسنانَهم، ومفزعي نفسي الخاطئة. يقولون: قد حصلت في أيدينا ؛ ودفعت إلينا، فهذا اليوم الذي كنا ننتظره. يارب لا تنسى رأفاتك، لا تكافئني نظير أثمي، ولا تعرض بوجهك عني، لا تقل لي حقاً أقول لك أنني ليستُ أعرفك، أنت يارب أدبني لكي أبرأ برأفاتك، ولا تشمت بي العدو بل أخمد تَهويله، وبطل كافة حيله، وامنحني الطريق إليك غير مذمومة. أيها الرب الصالح عزني لا باستقامتى لكن برأفاتك، ومن أجل صلاحك الجزيل خلص من الموت نفساً مغمومة. اذكر أيها الصالح أنني لما أخطأت وجرحت بكلوم تقارب الموت، ما لجأت إلى طبيب أخر، ولا بسطت يدي إلى إله غريب، بل إلى خيريتك، لأنك أنت إله الكل الماسك كل نسمة. أنت يارب قلت اسألوا تعطوا، نقني أيها الرب قبل الوفاة من كل خطيئة، ولا ترفض طلبتي أيها الرب الصالح، ها فمي غير مستحق يهتف إليك، وقلبي غير نقي، ونفسي مدنسة بالخطايا. أستجب لي يارب من أجل صلاحك لأنك لا تطرح وسيلة التائبين بالحقيقة. أما توبتي أنا فغير نقية بل مفسودة، لأني أتوب ساعة وأخطئ وأسخطك ساعتين، وطد قلبي بمخافتك، أقم رجلي على صخرة التوبة، ليغلب صلاحك الرذيلة التي فيَّ. يا من فتحت عيون العميان، أفتح عيني ذهني المظلمتين، يا من طهرت البرص بكلمة، طهر أدناس نفسي، لتصر يارب نعمتك فيَّ كالنار تحرق الأفكار النجسة التي فيَّ لأنك أنت هو النور الذي يفوق كل سرور، الراحة التي تسموا على كل راحة، الحياة الحقيقية، الخلاص الباقي إلى الأبد. لك وحدك أجثو ساجداً متضرعاً، أنا المستوجب كل عذاب، أنا المستحق كل عقاب. إليك أيها الفادي أبتهل متوسلاً ألا يدركني المضاد في الانقضاء، لكن أنت بما أنك صالح وغير حقود ورحوم، انْهض أعضائي التي هشمتها الخطيئة، أضئ قلبي الذي أظلمته الشهوة الخبيثة. ونجني من كل عمل خبيث، وألمع فيَّ يارب يسوع المسيح مخلص العالم محبتك الكاملة، وأكتب اسم عبدك في سفر الحياة، وأهب لي نِهاية صالحة، لكي ما أرفع راية الظفر، وأسجد بلا خجل أمام عرش ملكك مع كافة القديسين. إنه بك يليق المجد إلى الدهور. آمين. فأطلب إليكم يا إخوتي الأحباء، المختارين من اللـه، أن تطلبوا من أجلي أنا الخاطئ إلى اللـه، كما طلب الرسل من أجل الكنعانية، لأنكم أنتم المستحقون أن تشفعوا فيَّ أنا الغير مستحق، أيها المكرمون اسألوا فيَّ أنا الحقير لكي ما تدخل طلبتي في جملة طلباتكم المقبولة قدام اللـه. لأنه يليق بك العز والعظمة والمجد الآن ودائماً وإلى كافة الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
03 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس أستير

«ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك» مقدمة هل نحن في عالم يعتني به الله؟ وما مبلغ عنايته؟ وما مدى تدخلها في أحوال الناس وظروفهم وأحداثهم وحوادثهم؟،أي السبل تسلك؟ وما وسائلها التي تتذرع بها لبلوغ مقاصدها البعيدة المتعددة المترامية؟ كل هذه أسئلة تثار، والناس يقفون ازاءها مختلفي الفكر، موزعي الاتجاه، متبايني المنطق، فمنهم من لا يؤمن بالعناية اطلاقاً، لأنه لا يؤمن بوجود إله.. ويتخذ من مظاهر هذا الكون والاضطراب والفوضى التي تتمشى فيه سندًا لحجته وقوة لها... ألم يقل عمر الخيام في فلسفة بائسة يائسة محزونة: «ما هذه القبة الزرقاء فوقنا إلا صحن مقلوب يزحف تحته البشر ويحيون ويموتون، فلا ترفع لهذه القبة يدا في طلب العون فهي صماء بكماء عاجزة مثلي ومثلك». ومنهم من يظن أن الله لا يكاد يبالي بآلام الناس وأحزانهم وتعاساتهم، كلورد بيرون، أو نأي عنهم فنفض يديه منهم كما زعم توماس كارليل، ومنهم من يؤمن بالعناية بكيفية مجملة عامة تسيطر على مصاير الجماعات والشعوب والأمم ولكنه لا يكاد يصدق تدخلها في تلك الأمور الصغيرة الدقيقة العادية التي يألفها الناس في حياتهم من أكل وشرب ولبس ومرح وبكاء ودخول وخروج وما أشبه! غير أن هناك من يؤمن بالعناية في أوسع وأدق ما تشمل من معنى، العناية الجامعة المانعة، العناية التي ترعي الصغير والكبير على حد سواء، فتحصى شعور الرءوس كما تعد الشعوب والممالك، وتهتم بعصفور صغير كما تهتم بأمة بأسرها، العناية الحكيمة الحلوة المحبة المبصرة التي صاح ازاءها كلفن: «اني لا أؤمن بعناية الله كإله فحسب، بل بعنايته كآب محب مشفق»... إزاء هذه كلها ماذا تحدثنا قصة أستير!؟ وأي ضرب من العناية تكشف لنا؟ وما أثر العناية في توجيه التاريخ والشعوب والأفراد والحوادث؟ ذلك ما أريد أن نتأمله في اتجاهين: أستير: من هي؟ كانت أستير فتاة يهودية ولدت في السبي في شوشن القصر، ويقول التقليد ان أباها مات وهي جنين في بطن أمها، كما ماتت أمها أثناء ولادتها، فهي فتاة حزينة بائسة، خرجت إلى عالم لم تتذوق فيه حنان الأمومة، وعطف الأبوة، ولم يكن لها من عائل سوى ابن عمها الفقير مردخاي، الذي تكفل بها منذ الصغر، ولعله هو الذي دعاها «هدسة» أي «آس» ذلك النوع من الشجر القصير الصغير الظليل الجميل الدائم الأخضرار العطري الرائحة، والاسم يشير إلى جمال فائق فتان تعلوه مسحة من الكآبة والوحشة والتعاسة التي أورثها الفقر واليتم والسبي، على أنها دعيت فيما بعد أستير، والكلمة سواء كان معناها «نجمة» أو «عشتاروث» آلهة الخصب والشباب والجمال، فإنها تحدثنا عن هذا الجمال حين نضج واكتمل وتألق، وسار في طريقه إلى العظمة والإبهاء والقصور، كما أنها كانت فتاة رضية الخلق، وادعة النفس، متواضعة الروح، تروق لها الدعة والبساطة والهدوء، فهي في تجملها لا تميل إلى الإفراط والإغراق الأمرين اللذين كان يتطلبهما الاستعداد للدخول إلى الملك، وحين بلغت العرش لم يبهرها الصعود السريع المفاجيء، عن الحياة الوديعة القديمة، كنت أظنها ستنسي مردخاي أو تتحاشاه، أو تذكره لماما في شيء من الأنفة والكبرياء.. أليس الفاصل بينهما الآن وسيعًا كبيرًا هائلاً لا يستطاع تخطيه، أليست هي الآن نجمة الإمبراطورية الفارسية العظيمة، وهو مجرد واحد من الرعايا اليهود الأصاغر، لكن الملكة القديمة لم تفعل، ومن العجيب أنها ظلت على روح كاملة من الولاء والطاعة له، كما كانت عنده في بيته الفقير: «وكانت أستير تعمل حسب قول مردخاي كما كانت في تربيتها عنده» أنها في الواقع صورة النفس العظيمة التي لا يلوثها الغرور أو تفتنها الكبرياء، فتشيح بذكراها عن الأيام البسيطة الصغيرة الساذجة الأولى... رفع أحشويرش إلى المجد شخصين، فقتل المجد أحدهما، وأزكى الثاني، قتل خلق هامان، وأزكى عظمة أستير!.. ولعل أستير كامرأة وملكة قديمة، تعطي صورة من أقدم وأدق الصور للشخصية اليهودية في مختلف العصور، ومن العجيب أننا يمكن أن نرى فيها الكثير من الصور التي نراها في اليهودي في القرن العشرين كما كانت في القرون السابقة على الميلاد، سواء بسواء، فهي أولا صورة اليهودي المنعزل الذي لا يمكن أن يختلط بغيره، والذي حقت عليه نبوة بلعام القديمة: «هو ذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يحسب».. كان اتصالها الدائم بمردخاي وشعبها، ولم تستطع حياة الترف والبذخ والمجد العالمي أن تفصلها عنهم أو تجعلها قريبة التنكر أو التجاهل لهم!!.. ومن الواضح أن الكثير من الجنسيات والشعوب، قد ذابت على مر الأجيال في الأماكن التي انتهت إليها، إلا اليهود أنفسهم الذين مهما اختلطوا أو ارتبطوا بغيرهم من الأمم أو الحضارات إلا أنهم إلى اليوم في أمريكا أو أوروبا أو أي مكان آخر من العالم، لا يمكن إلا أن يعيشوا في وحدة داخلية متعصبة كاملة!!.. وهي أيضًا تمثل اليهودي في سريتها، إذ لم تخبر أحدًا بحقيقة مولدها وجنسها وشعبها كما أوصاها مردخاي، والتقليد يقول إن احشويرش لما بهره جمالها يوم دخلت إليه، وأراد تمليكها، حاول أن يتعرف على شيء من أصلها وأهلها وعشيرتها وجنسها، ولكنها استطاعت أن تصرفه بمهارة ولباقة عن السؤال بكثرة ما شغلته ووجهت إليه من أسئلة عن الملكة السابقة وشتي، وفي الواقع ليس هناك أستاذ في الدنيا، كاليهودي في فن التخفي، والحياة السرية العميقة الغامضة، ويرد رجال النفس هذا للحياة المشردة التي يعيشها في كل التاريخ، على أنها إلى جانب هذا كله، يضع لنا كتاب الله قصة حياتها، كفتاة يهودية مؤمنة، في عصر الوثنية والظلام وقد عاشت في شوشن تحيط بها الوثنية من كل جانب، لكنها لم تستطع قط أن تؤثر فيها أو تنتصر عليها، أو تنسيها الحياة العظيمة القديمة التي كانت لأجدادها إبراهيم واسحق ويعقوب، كانت تؤمن بالله في أرض الوثنية، وتعيش متطلعة إليه بالحق في عالم الضلال. وعندما واجهها الخطر، وواجه قومها، كانت أنبل صورة يقدمها الإنسان من أجل شعبه، وعقيدته، ودينه، وسعت إلى الخطر بقدميها، وهي تصوم وتصلي هي وجواريها قائلة قولها العظيم الرائع «إذا هلكت هلكت» ان صورة أستير يمكن أن تكون عظة لجميع المؤمنين في كافة الأوطان والشعوب والأمم والممالك، إذ أن المؤمن الصحيح ينبغي أن يكون وطنياً متفوقًا في وطنيته، على استعداد أن يبذل كل شيء من أجل الآخرين من إخوته وأحبائه ومواطنية، وعليه أن ينسى نفسه، ويدفع الضريبة ما بلغت لمجد الله أولاً، وخير إخوته وأحبائه وشعبه ومواطنيه بعد ذلك، ولا شبهة على الإطلاق، في حياتنا كمسيحيين بعد خمسة وعشرين قرنًا من الزمان من هذه الفتاة القديمة، أن نشير إلى أن الإيمان الصحيح والوطنية الصحيحة يسيران على الدوام في خطين كاملي الاستقامة والامتداد والتوازي، وإن كنا نتحفظ في الأسلوب الذي اتبعته هذه الملكة القديمة، إذ كانت ضاربة قاسية في الانتقام لشعبها، الأمر الذي أثار حفيظة مارتن لوثر عليها، وجعله شديد التبرم منها ومن قسوتها، ومع أن الكثيرين حاولوا أن يدافعوا عنها، من هذا القبيل، إذ ذكروا أنها فيما فعلت، لم تكن في موقع الهجوم أو الاستعداء على الساكن الآمن الهادي، بل كانت تدفع ظلمًا صارخًا قاسيًا مروعًا، وكانت في موقع الدفاع والحماية لنفسها وشعبها! على أنه مهما تكن حجتها في ذلك، فمن الواضح أن روح العهد الجديد في المسيح يسوع لا يمكن أن تقبل هذا الأسلوب على الإطلاق، ولا يجوز الالتجاء إليه بتاتًا الآن، وقد رفضه المسيح بوضوح، عندما طلب ابنا زبدي نارا من السماء تحرق قرية سامرية، لم تعط السيد مكانًا وضيافة وترحابا، وقال لهما في زجر قاس: «من أي روح أنتما» وكأنما يريد أن ينبهما، أن روح إيليا النبي الملتهب الغيور، لا يجوز في العهد الجديد أن تأخذ صورة القسوة والانتقام والثأر، على أي حال لقد كانت هذه المرأة تعمل في عصرها القديم بروح العصر وأسلوب ونظامه وإيمانه، وهي فيما خلا ذلك تعطي صورة رائعة لانتصار عناية الله أزاء ظلم لم يكن له على الإطلاق، ما يبرره، من هامان المدمر الرهيب القاسي.. أستير والعناية قد يكون من الغريب في سفر أستير أن لفظ «الله» جل جلاله لم يرد في السفر، لكن عناية الله ظهرت في كل سطر فيه ونحن يمكن أن نراها فيما يلي: أستير وامتياز العناية ليس في قصص التاريخ أمثلة كثيرة لشخصيات ترتفع من الحضيض إلى المجد بهذه الصورة، فتاة فقيرة يتيمة من شعب مرذول تدبر لها العناية أن ترقي عرش امبراطورية فارس، ومن أجل هذا التدبير وفي أعقابه يرتفع أناس ويسقط آخرون، وتتلفت الفتاة الفقيرة لتجد نفسها في هذا الجو الملكي العظيم، سيدة سيدات فارس، والملكة المدللة المحبوبة، لم هذا! ألكي تلهو وتسر؟ ألكي تتمتع بأطايب الملك وخمر مشروبه؟ ألكي تغرق في الحياة البازخة الناعمة؟ ألكي تأمر وتتسلط وتستبد؟ كلا، بل أن للعناية قصدًا ثابتًا علويًا كريمًا، بدأ في أول الأمر عند مردخاي ظنًا: «من يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك» ثم تحول هذا الظن يقينا بعد أن جاء الفرج، وتحققت النجاة على يديها، إنه الامتياز يتحول إلى مسئولية لازمة، والتملك يضحي وديعة مؤكدة، والسيطرة تمسى أمانة واجبة!!. هذه قصة ما نعطي دائمًا، دعاها الله وزنات، ومن الناس من يأخذ خمسًا وآخر وزنتين، وآخر وزنة، أيا كان عددها، فهي على كل ودائع وامتيازات لم يحرم منها واحد قط في هذه الحياة! فما هي وزنتك أو وزناتك وماذا عملت بها وكيف تصرفت فيها! هل أنت ممن يضيفون إلى ما في حوزتهم «ياء النسب» جسدي، عقلي، ثروتي، ملكي، مجهودي، كدي، نشاطي؟ أم أنت ممن يعتقدون أن هذه من الله وينبغي أن ترد لمجده! إن الإجابة على هذين السؤالين، هي التي تضع الفرق بين إنسان العالم وإنسان الله، بين الإنسان الخارج عن وضعه، والإنسان حيث وضعته إراده الله.. من الأقوال المأثورة عن لوثر: «أني أؤمن أن الله خلقني وخلق كل الموجودات، وأنه أعطاني وما يزال يصون لي جسدي ونفسي، بكل ما أملك من أعضاء، وحواس، وعقل، وروح، وجهز لي ثوبي وطعامي وعائلتي وبيتي، ومنحني الكل دون استحقاق، لأرد له الجميع حمدا وشكرًا وطاعة وخدمة» على أنه يوجد من الناس من نسمعه يقول: إني على استعداد أن أخدم وأبذل وأجود بكل مالدي لو أن ظروفي أوفق وأحسن وأيسر، لو أن الله ينقلني بين طرفه عين وانتباهتها، من خمول الذكر والضعة والفقر، الى الرفعة والسؤدد والمجد، كما نقل أستير! مثل هذا أريد أن أذكره بقصة شابين وشابة، كان ثلاثتهم برمين بالحياة وظروفهم، وبسوء تصرف الناس فيما يملكون ويعلمون! كان الأول يقول آه لو أنني غنى لنثرت الذهب على الفقراء، وأشبعت الجياع، وكسوت العرايا، ولأنشأت الملاجيء والمستشفيات ودور العجزة، يا للأسف أني لا أملك مالا، لكن هذا الشاب على الأقل كان يمكنه أن يقتسم - ولو لمرة واحدة - مع جار له جائع لقمة خبز أو بعض آدام، وأبدا ما فكر أو حاول أو فعل!... وأما الثاني فكان ينعي على الخدام إهمالهم وقصورهم في التبشير كان يقول لو أنني خادم لهززت المنبر، ووبخت الشرير، وأرعدت الخاطيء، وقويت البائس، وأعنت المسكين،... غير أنه ما فكر مرة وهو يذهب صباح كل أحد إلى الكنيسة بالسيارة، أن يحدث سائقها عن الدين أو يدعوه إلى الدخول إلى بيت الله بدلا من الانتظار في الخارج ساعة العبادة،... أما الثالثة وكانت عانسًا لم تتزوج فقد كانت تشكو البيوت وسوء التربية وفساد الأخلاق، وتتمنى لو وهبها الله زوجًا وبيتًا وولدا إذن لأحسنت قيادتهم ورعايتهم والسهر عليهم وجعلتهم جميعًا في شركة سامية صالحة مع الله، ومن الغريب أنها نسيت أن عندها خادمة لم تر منها سوى القسوة والاستبداد والإهمال وسوء المعاملة. أيها الصديق تمسك بما عندك، وأحسن العمل به، مهما يبدو صغيرًا حقيرًا تافهًا، ولا تنس أن أرملة فقيرة ألقت في غفلة من الناس ووعي البشر فلسين حقيرين في خزانة بيت الله، ولكن رقيب الناس رآها وامتدحها ومجدها مجدًا لم يعرفه الأغنياء والأثرياء وأرباب الكنوز، ولا تنس أن ولدا صغير أنقذ نلسن في معركة من معاركه الأولى فكسب لانجلترا النيل وكوبنهاجن والطرف الأغر،.. ليتك تسمع أخيرًا عند ختام الحياة هذه العبارة الإلهية الكريمة: «نعما أيها العبد الصالح والأمين كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير أدخل إلى فرح سيدك!..». أستير ووقت العناية لعلة من المثير هنا أن ندرك أن عناية الله لا تقع من حيث الزمان على الإطلاق أمام عنصر المفاجأة، وما نتصوره نحن صدفة أو عارضًا أو مفاجأة، لا يمكن أن يكون كذلك أمام الله الذي يجمع الزمان كله بين يديه، ويرتبه ترتيبًا زمنيًا دون أن يترك دقيقة أو ثانية واحدة من غير حساب، وكان في قصة أستير، لابد أن يرتب للحوادث ويعدها، كما يلحقها دون أن تفلت نأمة أو حركة من بين يديه، فأعد أستير للملك، بعد خلع الملكة وشتي، بما يقرب من عشر سنوات على الأقل، فأضحت المملكة المحظوظة والمحبوبة، قبل ظهور المؤامرة بوقت طويل، كما أنقذ الملك أحشويرش من مؤامرة خصييه، وأجل مكافأة مردخاي للوقت المناسب، وجعل القرعة تقع في آخر شهر من شهور السنة حتى يمكن الوصول إلى أرجاء الإمبراطورية كلها، دون أن تسقط نقطة واحدة من دم الضحايا، وعند التنفيذ من ذلك، يأتي في اللحظة الأخيرة، في الهزيع الرابع، فلا ينقذ مردخاي إلا في صباح اليوم الذي كان سيصلب فيه. كما أن الشعب نفسه ينجو، عندما اقترب الأجل المحدد للخلاص منهم، والقضاء عليهم! لقد تعلمت من ذلك أن الله يمسك في العادة بأطراف التاريخ، وقبل أن يدبر الشر يحتاط هو للأمر ويعد العدة، كما أنه يبصر الخفيات العميقة التي ربما لا يستطيع أصحابها اكتشافها بعد تحت أضالعهم وبين جوانبهم، ويعد المنقذ قبل الاضطهاد، ويوجد المصلح قبل تغلغل الفساد، لا تخف إذن ولا ترتع، وتقول... لقد ضعنا، وقد انهد الأمل وانطوى الرجاء، وضاعت الفرصة، ألا فاعلم أن الزمن لا يسبقه أو يتأخر عنه واذكره يقول: «من اغتصاب المساكين من صرخة البائسين الآن أقوم يقول الرب اجعل في وسع الذي ينفث فيه».. «اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد، وفي النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتيانًا ولا تتأخر».. تستطع أن تترنم أومن بك يا صخر الدهور ومنية الآكام الدهرية!.. أستير وسعة العناية في أي مكان تعمل العناية، وعند أي حدود تنتهي، قديمًا كان الوثنيون يعتقدون أن لكل آلهة مكانًا خاصًا لا تبرحه، بل تسيطر عليه وتعمل فيه، وكانوا يظنون أن آلهة الجبال لا تصلح للوديان، وآلهة البحر لا تصلح للبر، كان لكل آلهة منطقة خاصة لا تتجاوزها أو تتعداها، وكان اليهودي يحتاج إلى زمن طويل حتى يفهم سعة العناية بالمعنى الذي عرفه فيما بعد، ألم يقل يعقوب بعد أن بارح بيت أبيه، وصادف في البرية مكانًا رأى فيه الله: «حقاً إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم» لكن قصة أستير تعلمنا جميعًا أن العناية في كل مكان، في شوشن، كما في الهند، وكوش، في كل أرض أحشويرش، بل في كل مكان على هذه الأرض!!. أيها الصديق ألا تستطيع أن تغني مع داود في مزموره العجيب عن العناية: «من خلف ومن قدام حاصرتني وجعلت علي يدك. عجيب هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيعها، أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب إن صعدت إلى السموات فأنت هناك وإن فرشت في الهاوية فها أنت إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضًا تهديني يدك وتمسكني يمينك، فقلت إنما الظلمة تغشاني فالليل يضيء حولي. الظلمة أيضًا لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء كالظلمة هكذا النهار»؟... ومع ماري سليسر التي صاحت «ما كنت أجرؤ أن أفعل شيئًا أو أجزم أمرًا إلا ليقيني أنني أراه دائمًا في الطريق أمامي»... لقد أبصرته هاجر في الصحراء حيث ظنت نفسها وحيدة، ورأه يونان في بطن الحوت حين التف عشب البحر برأسه، واختبره الثلاثة فتية في أتون النار، وعرفه دانيال في جب الأسود، وجاء إلى يوحنا في بطمس.. ليس هناك مكان يختفي عنه عينيه.أيتها الأم التي لها ابن ناء عنها في أقصى الأرض اذكري الله وصلي لأجل ولدك فإن الرب إلى جواره، أيها الأب الذي لا تعلم ماذا ما يجري في بيتك فكر في الله لأنك لا تستطيع أن تصون دارك دون عنايته، ذكرنا يارب أن نعلم أنك كما أنك بعيد عنا فأنت إلى جوارنا أيضًا جداً قريب. أستير وقوة العناية وما أقواها من عناية تلك التي تسخر خليطًا عجيبًا من الناس، فيهم الملك وفيهم الصعلوك، فيهم السيد وفيهم العبد، فيهم الطيب، وفيهم الماكر، فيهم البسيط وفيهم الشرير، فيهم المتكبر وفيهم الوديع، فيهم المؤدب وفيهم فظ الأخلاق، هذا والملك أحشويرش يضع لنا التاريخ صورة مرعبة لحياته تماثل ما نقرأ في سفر أستير، أنه لم يكن ملكًا بل كان وحشًا همجيًا شهوانيًا مستبدًا متغطرسًا في ثياب ملك، جرد أكبر جيش عرفه التاريخ القديم لمحاربة اليونان، وعمل جسرًا من السفن على بوغاز الدردنيل، ولما هاجت الزوبعة وكسرت سفنه أمر بجلد البحر وقطع روؤس المهندسين الذي شادوا الجسر، كان لا يعرف الرحمة أو تتطرق الرقة إلى قلبه، مع الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء، توسل إليه صديق اسمه بسياس أن يعفي ولده الأكبر من الذهاب إلى الحرب وكان قد قدم أولاده الخمسة الباقين، فما كان منه إلا أن شطر الولد شطرين، وأمر الجيش أن يمر بينهما ليعرف الجميع كم هو حازم صارم، ما أقوى العناية التي تستغل مثل هذا، وهامان بكبريائه وعجرفته، وأنانيته، ودهائه،... ووشتي بوداعتها وفضيلتها،.. وأستير بجمالها وحيويتها، ومردخاي بتعصبه وغيرته، وغيرهم من المعلومين لنا أو المجهولين لدينا، كل هؤلاء تستغلهم العناية أبرع استغلال وأوفاه، بعواطفهم وميولهم، ونزعاتهم ومواقفهم، أشرارًا وأخيراً معاً، سواء كانوا في القصر أم على الطريق، داخل الحجاب أم في الخارج، ممن يصعب الوصول إليهم أو من يبلغهم الجميع... تأمل كذلك أيضًا كيف تشق العناية سبيلها في المستحيل، فهذه شريعة مادي وفارس لا يمكن أن تتغير، وما تصدره من أحكام لا يستطيع تفاديه، وقرار الإمبراطورية، لا يستطيع الإمبراطور نفسه أن يعدل عنه بعد ما أصدره، فما فائدة الصلاة أو الصوم، لقرار أضحى واجب التنفيذ، ولا توجد قوة على الأرض يمكن أن تلغيه، لكن هل يعجز الله على الانتصار على أي قرار بشري. إن الإيمان يؤكد أنه حتى ولو لم تتدخل أستير، وسكتت عاجزة عن أن تفعل شيئًا، فإن النجاة ستأتي بأي سبيل آخر، وتتخطى كل النظم والنواميس والقوانين، حتى ولو كانت أقسى نواميس الطبيعة أو شريعة مادي وفارس التي لا تتغير، لم يستطع الإمبراطور أن يعدل عن قراره، ولكنه أصدر الأمر للشعب المجني عليه بأن يستعد للدفاع عن نفسه، وأن يجد كل معاونة في الإمبراطورية للقضاء على خصومه، أنه يشبه في ذلك ما فعله سلطان قديم قيل إنه أصدر قرارا بأن يجلد كل من يرى وهو يشرب خمرا ثمانين جلدة، وكان لهذا السلطان صديق شاعر يدمن الخمر وأراد السلطان تكريمه، فطلب منه أن يتمنى عليه بأي طلب، فأجابه الشاعر لا رغبة لي ولا أمنية الا أن أشرب خمرًا وأعفى من العقوبة فقال له السلطان: ولكن هذا محال لأني كيف أنقض حكمًا عاماً أذعته، ورجاه أن يطلب شيئًا آخر، غير أن الشاعر لم يكن عنده غير هذا الطلب، ففكر السلطان وفكر بدافع إعزازه للرجل كيف يخلصه من العقوبة، واخيرًا اهتدى إلى حل.. أن يضرب الشاعر ثمانين جلدة إذا أبصر يشرب خمرًا، على أن يضرب من يشهد عليه مائة جلدة، فكان الناس إزاء هذا الحكم يضحكون ويتندرون قائلين: من يدفع ثمانين جلدة للشاعر ليأخذ بدلاً منه مائة.. وهذا ما فعله أحشويرش تمامًا ليخرج من مأزق القرار الأول الذي أصدره، وبذلك استطاع المظلوم لا أن يدفع عن نفسه الظلم فحسب، بل أن يتخلص من ظالمه أيضًا. على أي حال أنها العناية الإلهية العجيبة، التي تمسك بالشر لتحول منه إلى الخير، أو كما ذكر يوسف الصديق لإخوته، «أنتم قصدتم لي شرًا أما الله فقصد به خيرًا لكي يفعل كما اليوم» أو كما قال شمشون: «من الآكل خرج آكل ومن الجافي خرجت حلاوة» أو كما هتف أساف قائلاً: «لأن غضب الإنسان يحمدك، بقية الغضب تتنطق بها» وما أكثر اختبارات القديسين التي لا تنتهي في كل التاريخ من هذا القبيل. وهي العناية التي تأتي للضعيف العاجز ليأخذ قوته وأمنه وهدوءه وسلامه، كذلك الطائر الذي صوره وردثورث وقد دفعته الرياح العاتية في بلاد النرويج، وهو مقرور يكاد يموت من البرد، وحاول أن يقاوم بجناحيه الواهنتين الضعيفتين، ولكن الريح دفعته دفعًا نحو المحيط فأغمض عينيه واستسلم، ولكنه لم يسقط في المحيط، بل طرحته العاصفة في بقعة مشرقة هادئة في شمال انجلترا.. أليست هذه هي صورة حياتنا جميعًا حين نرفرف في مواجهة المتاعب بأجنحة ضعيفة مرتعشة لا تلبث أن تخور، وتكف عن كل محاولة ومجهود، ولكن عناية الله تظهر عندئذ.لقد علم عصفور صغير قذفت به الزوبعة إلى غرفة تشارلس ويسلي، حيث وجد من المرنم الموهب حنانا وعطفا عبرا به أرض الخوف والموت والهلاك، علمه هذا العصفور أن يرنم ترنيمته الحلوة التي مطلعها: من يسوع المعتمد لاجئا أرجو النجاة بينما الأرياح قد غمرتني بالمياه أعطني الستر الحصين ريثما يأتي الحمام وأهدني المينا الأمين خاتمًا لي بالسلام ألا يجمل أن نقول بعد هذا كله: «منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي» «هل تسلب من الجبار غنيمة وهل يفلت سبي المنصور فإنه هكذا قال الرب حتى سبي الجبار يسلب وغنيمة العاتي تفلت وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك وأطعم ظالميك لحم أنفسهم ويسكرون بدمهم كما من سلاف....».... طوبى لجميع المتكلين عليه!!...
المزيد
28 نوفمبر 2020

المقالة التاسعة عشرة في معرفة الجهاد وهي رسالة بعث بها إلى أولوجيوس العابد

أيها الأخ لما نظرت ثمر الطاعة، بادرت أن أكتب إليك عن الأشياء التي أمرتني بتلخيصها. تقوى الرب ابتداء صالح. الشيخوخة الحسنة مكرمة في النفس المحبة المسيح. من يصغِ إلى ذاته في كل مكان يسلم.من يحب أحاديث العالم، ما بغض العالم.الحطب يشعل النار ويزيد التهابِها، والأحاديث العالمية تنهض الآلام في قلب العابد.أيها الأخ إن كنت تؤثر أن تنفع القاصدين إليك، فلا تضر ذاتك.من يحب محادثة النساء، يستنهض على ذاته شيطان الزنا.إذا سمع والداك عنك سمعاً صالحاً، يسران أكثر من سرور النبيذ وطرب الخمر. من يحب السكر ؛ يخسر فوائد كثيرة، وقد قيل أنه يعمل أشياء ما لا يجب افتعالها، ويبدد ثروته، ويُدفع إلى الأعداء مثل غريب لأن السكر أعمى ذهنه. أيها الأخ صر ورعاً، فإن الورع يولد سجية سلامية، والسجية السلامية تنتج عدم التألم، وليكن ورعك مقترناً بالتواضع، حتى تصير عابداً محقاً، وترث المحبة والعفة. أيها الأخ إن كثرة الكلام تسود الذهن وتظلمه، وإذا أظلم الذهن أنقاد إلى عدم الحياء، وعدم الحياء هو أم الزنا.من يحب السكوت يلبث بلا قلق، ولا يغيظ قريبه، أما الضحك والدالة يضران المبتدئ كمضرة السم القاتل، ولا يوافقانه أصلاً، لأن الرب إنما طوب الذين يبكون وينوحون.إن انغلاب العابد أن يسمع دفعتين على المائدة: أسكت. حب الصمت يا أخي ؛ ليثبت الورع عندك. أحفظ التورع ؛ ليصونك من الزنا. من يجاوب الرئيس ولا يخضع له، فلا يبطئ أن يتكردس في المساوئ. من يطع وعظ من هو أكبر منه، يسر مع الصديقين. من يفتخر بقوته، يبعد عن ذاته معونة اللـه. أما المفتخر فليفتخر بالرب. من يحب الشغب الذي يشغل الذهن، ويبغض السكوت، يحزن حزناً كثيراً. ومن يسكت بتواضع، يسر الرب. من لا يقدم اختبار الوقوف في الصلاة الجامعة بثبات، يخسر فوائد كثيرة، ومن يقف بتورع وصبر، يستجاب له. من يتكلم كلاماً باطلاً في أوان الصلاة الجامعة يحصل له لوم مضاعف، لأنه يبطل من الصلاة والترتيل بالكلام. من يفاوض، يسبب لذاته خسارة. من يحب النسك، سيكون متوافر القوة. ومن يحب السكر، يثبت في لا شيء. من يبغض العمل، فذاك فضولي هو، لأن البطالة تسبب شهوات كثيرة، ومن يحب العمل، يبقى بلا حزن. من يفتخر بجسامة شأن والديه، فذاك غير مختبر، لأنَهما في مصاف القتال لا ينفعانه. أكرم أيها الأخ الصغار والكبار ليعليك الرب، لأن من يواضع ذاته يُرفع. ذلل رأسك للرئيس وللمتقدمين في رفقة الإخوة، أخضع بالرب فإن ثمر الخضوع مخافة اللـه، والتواضع لا يظهر بأن تتواضع لمن هو أعظم منك شأناً بل بمنح الإكرام للصغار الأدنياء جداً. فقد كتب: ” أنا أشرف الذين يشرفونني، ومن يستحقرني يهان “. فنحن فلنشرف اللـه لكي ما يشرفنا مع جماعة قديسيه، وبماذا نشرفه؟ بحفظ قول وصاياه، لأنه قد كتب: “ليس ملكوت اللـه بكلام بل بقوة” وأيضاً: ” ليس كل من يقول يارب يارب يدخل ملكوت السماوات بل الذي يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات “. فقبل كل شيء أيها الأخ أتقِ اللـه بالحقيقة فإن تقواه يضئ عيني ذهنك، حب التواضع فإن التواضع الذي من أجل اللـه هو سور لا ينقب قدام وجه العدو، وصخرة مصادمة تكسر حيل الشيطان ونشاب الخبيث المحمي. إن وضعت في فكرك أن تصبر من أجل الرب على السب والخسارة والازدراء ستكون كمحارب بطل مشتمل بالسلاح دائماً على المقاومين، وإذا رآك حينئذ أعداؤك متخذاً مثل هذا الحرص يتساقطون من قدام وجهك. إن شئت أن تحاضر بلا تعب، فأحفظ طهارة جسدك مع المحبة، لأن المحبة هي أم الفضائل، والطهارة مصباح وعضد لها، إن السكوت نور الفضائل، وسورها مخافة اللـه. فلنحفظ الآن أيها الأخ طهارة جسدنا بمخافة اللـه ليحصينا الرب مع ملائكته القديسين، لأن من يحب الطهارة، يسر به الروح القدس، ويعطيه الصبر. فالطهارة إذاً تقوم بالحمية والوداعة والسكوت بمحبة. فلذلك نحتاج أن نبتعد عن كل أخ يسلك سيرة غير مرتبة، لئلا نمنح الذين يبصروننا وهماً، لأن الرسول يقول: ” نتقدم فنفطن برؤيات حسنة أمام الرب والناس، فإن كان أحد يحب السجس فنحن ليس لنا مثل هذه العادة ولا لكنائس اللـه “. فلهذا يجب اضطراراً أن نقبل عظات الناس المتقين الرب، ولا نرضي ذاتنا كما يعلمنا القائل: ” كل واحد منكم فليرضي قريبه في الخير لإبتناء منفعته “. وأيضاً حتى يخجل المنتصب بإذائنا، ولا يكون له أمر طالح يقوله عنا لأن رب المجد قد قال: ” فليشرق نوركم هكذا أمام الناس ليعاينوا أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات “. ولا نضيع القداسة بحجة المواساة، فإن للعدو عادة مثل هذه أن يبدل بالخير الشر، لأن من يخطئ ويفتكر أن يكتم ذلك يطغي ذاته، لأن ليس شئ خفياً لا يشتهر. إن أخطر لك العدو شهوة بشرية فقل له: حاشا لي أن أُحزن الروح القدس الذي خُتمت به يوم الافتداء. فإنه قد كُتب: ” كل خطية يصنعها الإنسان هي خارج جسده، أما من يزني فإلى جسده يخطئ “. أما القتال الصائر بالذهن، فقد عرفته بعض المعرفة، لأن أخاً قال له أخ: أن الأفكار الدنسة تقلقني. فأجابه: أن الشيوخ القديسين قد أمروا قوماً أن يتركوا الأفكار كي تدخل إلى داخل وحينئذ يقاتلونَها، أما الضعفاء كثيراً فأوصوهم أن لا يناجوها ألبته، لكي لا بدوام الفكر يصعب ألم شفائه. فقال حينئذ الأخ: وما معنى أن تترك الأفكار تدخل إلى داخل، وحينئذٍ تقاتل ؟ فقال له: أسمع متى أحضر العدو لأحد فكراً قبيحاً أو فكراً دنساً، في الحين تقيم له في الذهن امرأة جميل وجهها، أو أحد الأشياء التي تفضي إلى الفساد، فإذا رأى المحارب ذلك بالذهن، لا ينزعج من مثل هذه الأفكار بل ينتصب مقابلها، ويحارب بشهامة وبسرعة. ثم يفتح لها ويغلق عليها، فإذا صارت داخل مع الصورة التي حاربته بِها، يقول للأعداء: أنه بِهذه الواقفة معكم آذيتموني كل يوم، وخبلتم ذهني الآن أشاء أن أعرف بالدقة ما الحاجة إليها.فيأمر أن يحضر له سكيناً بذهنه، فإذا أخذها يفتح بِها بطنها قائلاً: أشاء أن أعرف أجمالاً أو نتناً وقيحاً، فإذا فتح جوفها يجد داخله الأشياء التي نعرفها كلنا، فتظهر بعض قباحة الشهوة.فإذا شاهد المضادون انكسارها، يحدثون شغباً مريدين أن يستحقروا فكر الأخ، حتى إذا كدروا ذهنه بأفكار أُخر، يبطلون الجهاد المنصوب، خوفاً من أن يظهر خزيهم بالكمال. فيقول المحارب المنتصب بإذائهم: لِمَ ترومون أن توردوا أشياء أخر عوض تلك، فإنني لا أترككم أن تخرجوا إلى أن أفحص جملة الأمر بالتأكيد، إن كان بالحقيقة أهلاً أن يُحب ما تمدحونه.فحينئذ يحبس الأخ الجثة في الخزانة الباطنة ثلاثة أو أربعة أيام، وبعدها يفتحها مريداً أن يعاين الجثة، فقبل أن يدخل إلى داخل، تلتقيه النتانة التي لا تُحتمل، فيسد بيده فمه ومنخريه، ويشير للأفكار المضادة ومؤازري الخطيئة نِهاية الأمر. ثم يقول لهم: ماذا تجاوبون عن هذه ؟ فيخزون حينئذ، وينحلون كدخان في الهواء، ويصبح الأخ أعلى من الآلام، مؤازراً من قبل النعمة، فيعترف للرب ويقول: أشكرك أيها الرب إلهي فإنك لم تسلمني إلى أيدي أعدائي بل خلصتني من شرك القانصين، وأنارتني نعمتك لأتفطن بِهذه الرؤيات، وأخلص بِها من شركهم.فلنتخذ يا إخوتي مخافة اللـه نصب أعيننا كل حين لكي ما يسترنا، لأنه خلواً من ستر اللـه لا يحسب الإنسان شيئاً ؛ فإن رداءة صناعة أعدائنا كثيرة، لكن معونة اللـه المحيطة بالإنسان أكثر منها، ولا سمح لنا أن نبصرها بأعيننا.فلنحب إذاً الإله الذي يعيننا ويخلصنا حباً بكل قلوبنا كما نحب أنفسنا، وليكن في عقلك أيها الأخ الحبيب كل يوم وفاتك، أي فزع يشتمل النفس في ذلك اليوم.يا أخي الحبيب إن كنت قد عملت شيئاً صالحاً في هذا العالم الذي سكنته، إن كنت قد احتملت الحزن والتعيير من أجل الرب، وصنعت الفضائل التي ترضيه، تصعدها الملائكة مرفوقة بفرح عظيم إلى السماوات.لأنَها مثل فاعل نشيط حريص، عمل في كافة النهار، ينتظر الساعة الثانية عشرة لكي ما يقبل بعد العمل أجرته ويستريح. هكذا نفوس الصديقين تنتظر ذلك اليوم، أما نفوس الخطاة فيشتملها في تلك الساعة خوف وجزع بمنزلة مجرم قد قبض عليه الأعوان يقتادونه إلى مجلس القضاء.لذلك ترتعد نفوس الظالمين في تلك الساعة لمعاينة عذاب الظُلمة البرانية الدهرية التي لا نَهاية لها.وإن قال أحد: اطلقوني أمضي إلى ذلك العالم لأتوب، فيسمع، حيث كان لك زمان ولم تتب، فالآن لم تتب، حين فتح المقام للكافة لم تجاهد، أفتروم الآن أن تجاهد، فقد غُلقت سائر الأبواب، وعبر زمان الجهاد، أما قد سمعت القائل: ” تيقظوا فإنكم لا تعرفون الساعة “. فإذ قد تقدمنا وعرفنا هذا يا أخي الحبيب، ما دام لنا زمان فلنتب لكي ينقذنا اللـه من الرجز الذي يحل بأبناء المعصية، ويؤهلنا لحظ القديسين. صلِ من أجلي أنا الخاطئ، فإني أقول ولا أعمل، فإنه قد كتب: ليعترف بعضكم لبعض بالخطايا، وليصلِّ بعضكم على بعض لتشفوا، لأنه يليق باللـه المجد إلى الدهور. آمين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
26 نوفمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس آساف

"لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار" مز 73: 3 مقدمة ربما لا يجد المرء في كل ما خطه القلم البشري، وصفا أروع وأبلغ من وصف المؤمن عندما يسقط فريسة الشك، مما كتبه يوحنا بنيان في كتاب: "سياحة المسيحي"، إذ صور هناك السائح المسيحي ومن معه يسيرون، ليجدوا أنفسهم وهم لا يدرون في أرض غريبة، وإذ ينامون ليلتهم يستيقظون في الصباح ليجدوا أنفسهم في قبضة جبار عات اسمه "جبار اليأس".. وقد أمسك بهم ليطوحهم في عنف وقسوة، في جب مظلم رهيب اسمه "قلعة الشك" ولعل بنيان وهو يصور هذه الحقيقة، كان يكشف عن خبيئة نفسه، عندما أحاط به الشك العاصف، بعد أن دخل السجن في 12 نوفمبر عام 1660م بعد أن اقتحم رجال الشرطة الكنيسة الصغيرة التي كان يعظ فيها وكانت عظته في ذلك اليوم مما جاء في إنجيل يوحنا: "فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجاً فوجده وقال له أتؤمن بابن الله" يو 9: 35.. وكان بينان يقول للحاضرين مخاطباً كل فرد فيهم. "أتؤمن بابن الله"؟ فأخذته الشرطة وقدمته للمحاكمة إذ كان شارل الثاني ملك انجلترا يحارب ويضطهد المؤمنين الأحرار الذين لا يريدون أن يخضعوا أنفسهم سوى لصوت الله والكتاب المقدس والضمير، وقد طلب القضاة من بنيان أن يمتنع عن الوعظ التبشيري مقابل أن يتمتع بالحرية والأمن، ولكنه رفض ليبقى في السجن اثنى عشر عاماً ذاق خلالها كل أنواع التجارب والآلام والأهوال، كانت زوجته وأولاده يزورونه في السجن، وكان أشد ما يؤلمه رؤية ولده الصغير الأعمى ولقد صاح مرة: “يا طفلي المسكين.. ما أكثر ما ترى في حياتك من مأساة، وإن كنت لا أستطيع أن أتحمل مر النسيم عليك”!. وخاض بنيان معركة الشك، وانتصر فيها الانتصار الحاسم، وكتب كتاب “سياحة المسيحي” و“الحرب المقدسة” من زنزانة السجن ودون أن تناله الهزيمة بأية صورة من الصور،.. وقبل بنيان بما يقرب من ستة وعشرين قرناً، دخل آساف ذات المعركة، وهو يرى مظاهر الصراع القاسي بين الخير والشر، وخرج إلى العالم بمزاميره المنتصرة. ولعل قصته يمكن أن تعطينا لذلك أغلى الدروس: آساف وتجربته ليس هناك من شك أن المزمور الثالث والسبعين قد كتبه آساف النبي المرنم في إسرائيل، وأن عشرة مزامير أخرى تحمل اسم آساف، وقد يختلف الشراح في نسبة بعضها إليه،.. ولكن الطابع العام المتقارب في هذه المزامير يكشف عنه المزمور الثالث والسبعون، وهو التجربة التي أحس بها آساف تجاه مشكلة الشر في الأرض، وقد أثرت ظاهرة الشر في أفكار الرجل، وعواطفه، وكانت على وشك أن تغير مساره وتاريخه بالتمام، كيف يمكن تفسير ظاهرة الشر مع وجود الله الكلي الحكمة، والقدرة، والمحبة؟ وكيف تبدو هذه الظاهرة فيما تترك من طابعها المدمر الرهيب الملحوظ بين الناس!!.. لقد بدت عند آساف أولاً: في ثروة الأشرار المتزايدة: "هوذا هؤلاء هم الأشرار ومستريحين إلى الدهر يكثرون ثروة".. وبدت عند أيوب من قبل يوم قال: "عندما أتذكر أرتاع وأخذت بشرى رعدة لماذا تحيا الأشرار ويشيخون نعم ويتجبرون قوة، نسلهم قائم أمامهم معهم وذريتهم في أعينهم بيوتهم آمنة من الخوف وليس عليهم عصا الله ثورهم يلقح ولا يخطيء، بقرهم تنتج ولا تسقط يسرحون مثل الغنم رضعهم وأطفالهم ترقص".. وبدت في لغة المسيح سيدنا في صورة مؤلمة قاسية مثيرة: "كان إنسان غني وكان يلبس الأرجوان والبز ويتنعم كل يوم مترفهاً وكان مسكين اسمه لعازر الذي طرح عند بابه مضروباً بالقروح ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه".. ولست أعلم لماذا يضع الله الرجلين جنباً إلى جنب وفي مكان واحد، وعلى هذه الصورة الرهيبة من التباين والتباعد! وهل قصد المسيح أن يصور حال الدنيا على هذا الوضع الغريب الذي يتقابل فيه فقر المؤمنين مع غنى الأشرار، ولئن كان لعازر لم يتحدث إلينا عن الآلام النفسية العميقة التي كانت تملأ قلبه، وهو يقارن بين حاله وحال الغني الذي يتنعم كل يوم وهو على قيد خطى قليلة منه،.. غير أن آساف تحدث عن عمق ألمه وتجربته، وهو لا يرى مجرد الأغنياء فحسب، بل تزايد ثرواتهم على نحو رهيب، وكلنا مرات كثيرة "آساف" في الحياة المعاصرة، ويكفي أن تقرأ الصحف أو الكتب أو المجلات، لكي نرى مدى الصعود الغريب السريع لأشر الناس في الأرض، وهم يتحولون من أصحاب الآلاف إلى عشرات الألوف إلى مئات الألوف إلى أصحاب الملايين، والبلايين والمليارات،.. وهل نقرأ عن الأموال التي لا تعد ولا تحصى، ويحصل عليها الناس بأشر الأساليب، وأفحش الوسائل، وأقسى السبل، وليذهب الحق والخير والفضل والهدوء والراحة والسلام، إلى الجحيم ما داموا يصلون إلى معبودهم الذي رفعوه إلى مستوى الله، وعبدوه بكيفية يمكن أن يقال معها بكل يقين ما قاله السيد: "لا تقدروا أن تخدموا سيدين الله والمال"؟!. إن المال عند الأشرار وخلفه الحروب والمفاسد والشرور التي قلبت كل الأوضاع في الأرض، فأعطت من لا ينبغي أن يأخذ، وأخذت ممن ينبغي أن يساعد وبنت قلاعاً للشيطان ينبغي أن تهدم،.. وهدمت قلاعاً لله ينبغي أن تقوم وترتفع!!.. كل هذا يمكن أن يقترب بالمؤمن من خطوة الانزلاق ليقول. "أما أنا فكادت تزل قدماي لولا قليل لزلقت خطواتي" "هوذا هؤلاء هم.. الأشرار يكثرون ثروة".. وكانت التجربة الثانية أمام آساف: راحة الأشرار: ".. ومستريحين إلى الدهر".. وقد بدت هذه الراحة أمامه: "إذ رأيت سلامة الأشرار لأنه ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يصابون".. فإذا ترجمنا هذا الكلام، فإننا نجد عاموس واحداً من أبرع المترجمين القدامى إذ يقول: "ويل للمستريحين في صهيون والمطمئنين في جبل السامرة.. أنتم الذين تبعدون يوم البلية وتقربون مقعد الظلم المضطجعون على أسرة من العاج، والممتدون على فراشهم، والآكلون خرافاً من الغنم، وعجولاً من وسط الصيرة الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر، والذين يدهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف"... وإذا حولناه إلى لغة العصر الحديث، فإنه يعطي صورة للإنسان الذي اخترع المخترعات الحديثة، الإنسان الذي يطلق عليه "إنسان الأزرار، فهو يمد إصبعه ليضغط على الزر، وهو متمدد في مكانه، أو جالس على نغم الموسيقى، في أمكنة التكييف، وقد طوع لنفسه كل شيء في السفر، والسكن، والملبس والمشرب، ولا يكلفه هذا كله، سوى أن يضغط بطرف إصبعه على الزر، والدنيا كلها عند قدميه، وهو يرى نفسه في راحة ما بعدها راحة وفي عز ما بعدها عز،.. هذا في وقت قد يشقى فيه المؤمن، وهو يجد لقمته بصعوبة بالغة في أرض العرق والدموع!!.. وهو قد يعاني من هذا أو ذلك، فيجف نهره في أرض المجاعة، وهو يتنقل في حاجته بين عطايا الغربان أو مساندة أرملة فقيرة تقش عيدانها، باحثة عن لقمة عيش ستأكلها هي وابنها الصغير، ثم يموتان جوعاً بعد ذلك،.. كلنا آساف في بعض المواطن ونحن نرى هذا الوضع المقلوب في الأرض!!.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن آساف رأى شيئاً، إذ رأى الكبرياء المذهلة التي تتملك الأشرار: "تقلدوا الكبرياء.. جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشى في الأرض".. أي أنهم لبسوا الكبرياء كالقلادة في العنق، إذ يبدو عنقهم ملتوياً، وأفواههم شامخة إذ يتكلمون بكبرياء المرتفعين في لغة نبوخذنصر القائل: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟"، دون أن يعلموا أن العلي متسلط في مملكة الناس،.. أو في لغة آدوم الذي قيل عنه: "تكبر قلبك قد خدعك أيها الساكن في محاجي الصخر رفعة مقعده القائل في قلبه من يحدرني إلى الأرض".. والكبرياء دائماً ساخرة مستهزئة، تتعالى على الله والناس، وهي أشبه بقبضة الغلام الصغير الذي رفع عينيه نحو السماء، ولوح بقبضته مهدداً القدير،.. ومن المتصور أن يحتمل كل هذا كما يحتمل عبث الأطفال. ولكن المشكلة عند آساف أن هذا قد انصرف إلى الظلم البين الرهيب الذي وقع المؤمنون ضحيته، إذ: "لبسوا كثوب ظلمهم،.. ويتكلمون بالشر ظلماً من العلاء يتكلمون".. أو في لغة حبقوق: "حتى متى يا رب ادعو وأنت لا تسمع أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص لم تريني اثما وتبصر جورا وقدامى اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم بتة لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجاً":.. ألم يدفع هذا سليمان إلى القول: "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجري تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معز لهم ومن يد ظالميهم قهر أماهم فلا معز لهم فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس".. وقد فاضت الكأس آخر الأمر عند آساف بأن الأشرار في كل هذا قد طرحوا الله وراء ظهورهم، فهم لا يكادون يرونه أو يبالون به: "وقالوا كيف يعمل الله وهل عند العلي معرفة".. إنهم يعيشون ويفعلون دون أن يقيموا للقدير حساباً، أو يروا فيه رقيب الناس المطلع على الظاهر والخفي في الحياة!!.. آساف المصاب هذه المظاهر الشريرة انتهت بآساف إلى الحالة الشقية التعسة التي وصل إليها في القول: "وكنت مصاباً اليوم كله وتأدبت كل صباح".. لقد أدرك آساف بأن هذه المظاهر الشريرة لابد أن تصيب أحداً، إذ هي غير طبيعية، وغير متفقة مع ناموس العدالة الإلهية، فإذا كان الأشرار: "ومع البشر لا يصابون".. فإن الإصابة بدورها تتحول إلى المؤمنين، وهي إصابة دائمة ومتكررة، إذ أنها اليوم كله وتتجدد كل صباح، أو في لغة أخرى: إنها كالمرض المزمن العميق الذي تظهر له مضاعفات متعددة على الدوام،.. مرض المؤمن برؤية الشرير في الأرض،.. عاد هنري دراموند ذات يوم إلى بيته، ووجهه ناطق بالأسى والألم العميق، وإذا سأله أحدهم: هل أنت مريض؟.. أجاب: نعم أنا مريض بالناس وبشرهم وخبثهم وحقدهم وقساوة قلوبهم ووحشيتهم التي لا تنتهي!!.. فما هو نوع المصاب الذي وصل إليه آساف؟ لقد أصيب أولاً بالحسد: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار"... ولقد صور واحد من المؤمنين هذه الغيرة في القول: إنه كان شريكاً مع آخر في شركة تجمعهما معاً،... وذات مرة دعاه شريكه إلى عمل آخر، غير أنه رفض إذ أن هذا العمل لا يمكن أن يتم إنجازه مع الاحتفاظ بالمباديء الصحيحة السليمة، وبعد فترة وكان الآخر قد ذهب إلى العمل، وأصاب نجاحاً مادياً كبيراً- فرق بينه وبين شريكه من الوجهة المادية إلى حد بعيد،.. أرسل المؤمن إلى أحد الرعاة يقول له: ها أنا قد تمسكت بالمباديء المسيحية العلمية!!.. ولكن ماذا كانت النتيجة!!؟.. أليست هذه صرخة الكثيرين من أبناء الله، الذين يصابون بالألم العميق، عندما يؤخذ حقهم ليعطي لمن لا يستحق؟، والذين كلما تمسكوا بالحق والشرف والأمانة والصدق، كلما واجهوا السجن والآلام، والتشريد، والمتاعب، وما أشبه؟!كتب أحدهم مقالاً عن ابراهام لنكولن تحت عنوان "الفاشل العظيم" وهو يروي قصة المتاعب التي لاقاها الرجل حتى مصرعه الأخير، نتيجة تمسكه بالمبدأ، ورغبته في عدم التخلي عنه مهما كان الثمن... عندما سقطت الظلمة على عيني ملتون قال له الأطباء: ينبغي أن تكف عن العمل إذا رمت أن تبقى على بصرك، أما هو فأجاب: كلا أن أكون أعمى وأتمم عمل الله وإرادته، خير عندي من أن أبصر بعيداً عن هذا العمل والإرادة،.. قد يفقد الشاب شيئاً ما، كان يمكن أن يحصل عليه، لو سلك السبيل العالمي، وقد يأتيه الشيطان ليهمس في أذنه، والآن ماذا أخذت؟!! وقد يصل إلى النقطة التي وصل إليها آساف: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار" وثمة أمر آخر ضاعف الألم والصعوبة عند الرجل القديم، هو أنه المصاب الذي لم يحصد نتيجة سريعة يمكن أن تعطيه تعويضاً عما ضاع منه أو فاته إلى الدرجة التي اهتزت معها الأسس الدينية عنده: "حقاً قد زكيت قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يدي"... وإنها مصيبة، وأية مصيبة أن يتقوض في أعماق الإنسان الإحساس الداخلي بقيمة الدين أو فائدته!!... إن مثوبة الحق الأولى والأهم، ليس في أنه يمكن أن يعطي مغنماً مادياً أو أدبياً، بل لأنه أولاً وقبل كل شيء هو الحق، ونقاوة القلب في حد ذاتها هي أهم مكافأة للإنسان حتى ولو عذب أو مات شهيداً،.. لكن المؤمن مع ذلك يعيش منتظراً نتيجة محسوسة لحياته الدينية في مواجهة المتطلبات والمشاكل التي تربطه بالعالم!!.. فإذا أضيف إلى ذلك أن المصاب كان قاسياً وشديداً، لأنه كان مكبوتاً: "لو قلت أحدث هكذا لغدرت بجيل بنيك".. وقد يهون المصاب إذا وجد المتألم أذنا تسمعه أو تعطف عليه،.. لكن آساف تحول إلى مرجل مكبوت شديد الغليان، ولعل مشاعره كانت ذات المشاعر التي أصابت إرميا عندما تحدث إلى الله قائلاً: "قد أقنعتني يا رب فاقتنعت وألححت علي فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بي لأني كلما تكلمت صرخت ناديت ظلم واغتصاب لأن كلمة الرب صارت للعار وللسخرية كل النهار فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع" لم ينجح إرميا في الاحتفاظ بالصمت، والامتناع عن ذكر اسم الله، إذ ملأت النيران قلبه، وحاصرت عظامه، حتى تكلم ونطق،.. وكانت المشكلة بالنسبة لآساف تختلف إلى حد ما، فهو لا يريد أن يتكلم، وعلى وجه الخصوص أمام الشباب، لأنه لو تحدث إليهم عن الشكوك التي تملأ نفسه وصدره، لأجهز على إيمانهم الغض الحديث بالله،.. وقد انتهى الموقف بالنسبة للمصاب أنه أضحى واقفاً على حد الضياع والكارثة، وقد أضحت الطريق أمامه رخوة زلقة، كادت تزل معها قدماه، ولولا قليل لزلقت خطواته،.. لقد أضحى آساف أشبه بالمريض الذي يقف على الخط الفاصل بين الحياة والموت!!.. كان مرضه عميقاً، وكان مرضه خطيراً!!.. آساف والعلاج كيف أمكن أن يجد آساف علاجاً لهذا الضياع الذي أوشك أن يلم به؟؟ لقد وجد العلاج في تأدية الواجب رغم الشكوك العميقة التي كانت تملأ صدره، لقد كان آساف نبياً، ورائياً، وموسيقياً،.. وربما استمر سنوات متعددة يحيط الضباب برؤياه، وتحيط الأحزان بصنوجه وموسيقاه،.. لكنه لم يكف عن الخدمة، أو يتقاعس عن الرسالة أو يطوح بآلاته الموسيقية حتى يعود مرة أخرى إيمانه بالله،.. كانت المعركة الداخلية بينه وبين نفسه أمام الله،.. وكان أشبه بالواعظ الإنجليزي العظيم فردرك روبرتسن، الذي كانوا -لفرط بلاغته وإبداعه- يطلقون عليه "واعظ الوعاظ"، إذ كانت عظاته نموذجاً رائعاً يمكن أن يتعلم منه الوعاظ كيف يتكلمون ويعظون!!.. هذا الرجل خاض في حياته معركة من أقسى معارك الشك، حتى انتصر دون أن يتراجع أو يتقهقر عن الرسالة والخدمة،.. إن أعظم علاج للشك، هو الاستغراق في الخدمة، وبذل الجهد المتواصل فيها، إذ أن التجربة تفرخ دائماً في أحضان الفراغ والبطالة، والجندي الذي يشغل نفسه بالصراع في المعركة، ليس عنده من الوقت أو المجال ما يجعله ينساق هنا أو هناك وراء أحابيل الخطية أو شراكها المخادعة!!.. على أن آساف -مع ذلك- وجد المكان العظيم للانتصار على الوساوس والشكوك "مقادس العلي" حيث دخل هناك إلى الشركة العميقة مع الله،.. لقد عزل نفسه عن العالم، إذ أنه لا يستطيع أن يرى الرؤية الصحيحة، وزيف العالم أمام عينيه، ولا يستطيع أن يسمع صوت الله، وضجيج العالم يملأ أذنيه،.. ومن ثم فهو في حاجة إلى المكان الهاديء العميق في بيت الله، إلى الخلوة الصحيحة مع سيده وإلهه دون مقلق أو مزعج،.. ولعله السيد المسيح كان يقصد هذا المعنى عندما قال: "ادخل إلى مخدعك واغلق بابك"... فليس يكفي أن ندخل المخدع، بل نغلق الباب على كل ما يصل بيننا وبين العالم الخارجي بغروره وشروره وأوهامه وخياله، وهناك نتحدث إلى الله، وهناك نسمع صوته،.. هل نستطيع في الكنيسة والمخدع والعزلة مع الله، أن نواجه كافة المتاعب والمخاوف، والشكوك والصراع، ونجد الحل الذي نفتقر إليه ولا نجده في أي مكان آخر؟.. وقد وجد المصاب علاجه في صفاء الرؤية: “حتى دخلت مقادس العلي وانتبهت”.. لقد سقطت القشور عن عينيه، وانتبه، وماذا رأى؟.. لم يعد يرى المظاهر المخادعة، بل أضحى يبصر الرؤيا الحقيقية، ولم يعد الأشرار أمامه بالصورة القديمة، رآهم في سقوطهم الكامل العظيم،.. رأى مزالق الضياع، رأى البوار بل رأى الخراب المباغت، رأى الاضمحلال، رأى الدواهي المضنية، رآهم كالحلم العابر الذي ذهب كالخيال عند التيقظ،.. ولقد ملأت هذه الرؤية قلبه ونفسه، حتى أدرك أنه كان بليداً ولا يعرف وكان أشبه بالبهيم فيما تصور،.. لقد عرف كل ذلك عندما أدرك فكر الله ورأيه وهدايته في قلب المخاوف والوساوس،.. في الكلمة "انتبهت" الفرق الحاسم بين البصر والبصيرة، وبين ظاهر المنظر وعمق الحقيقة، ولعل هذا هو الذي دعا المرنم أن يقول: "اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك".. إذ لا يمكن أن يعثر الإنسان على الحقيقة من تلقاء نفسه دون مساعدة أو مساندة الله، في مقادس العلي!!.. عش حياة التأمل والصلاة، وادخل إلى عمق الشركة، وهناك تعثر على الحقيقة التي لا شك فيها!!... آساف والأغنية انجابت الزوبعة عن قلب الرجل، وصفا الجو من الغيوم الكثيفة التي حجبت الشمس، ورفع الرجل صوته مغنياً للرب الصالح، واستهل مزموره بالقول: "إنما صالح الله"، أو يمكن أن تكون العبارة: "بالتأكيد صالح الله".. أو أنه ليس هناك شك أو ريب في الله الصالح، أليس هذا عين ما قاله إرميا في مراثيه: "طيب هو الرب للذين يترجونه للنفس التي تطلبه" وقاله حبقوق بعد العاصفة النفسية التي اجتاحته: "فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل في الكروم يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المذاود فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي الرب السيد قوتي ويجعل قدمي كالأيائل ويمشيني على مرتفعاتي".. من عهد غير بعيد حدث زلزال مروع في الجزء الغربي من الولايات المتحدة، وقد دمر هذا الزلزال كثيراً من المباني والممتلكات، غير أنه عوض أصحابها تعويضاً لم يكن في الحسبان إذ كشف في قلب الأرض التي مزقها عن مناجم غنية بالذهب،.. وكم تأتي التجارب القاسية بغنى الاختبارات، التي تؤكد أن الرب طيب وصالح وإلى الأبد رحمته!!... لقد تحدثنا في مطلع الأمر عن يوحنا بنيان، وما من شك أن دخوله إلى السجن كان بمثابة الكارثة المروعة له،.. لقد أراد أن يبشر جيله، في الكنيسة الصغيرة التي كان يعظ فيها، وشاء له الله أن يمنع من ذلك، ليتكلم إلى عالم أوسع وأعظم، وأكثر امتداداً فيما كتب عن الرحلة الخالدة، من مدينة الهلاك إلى جبل صهيون وقاد أجيالاً وراء أجيال في سياحته العظيمة إلى المدينة الخالدة التي صانعها وبارئها الله!!... كان الرب صالحاً وهو يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة!!كشف آساف في الدراما الخالدة التي كتبها لا عن الفصل الأول فقط في حياة الأشرار بل عن الفصل الأخير أيضاً، وقد تأكد الرجل أن الشر قد يكسب معركة، ولكنه لابد أن يخسر الحرب، وقد كان دقيقاً في التصوير إذ ربط بين يد الله الخفية، وبين المظهر الفجائي، ففي الوقت الذي نرى فيه يد الله في القول: "حقاً في مزالق جعلتهم أسقطتهم إلى البوار".. نجد الحوادث الظاهرة، أو أسباب الثانوية المباشرة: "كيف صاروا للخراب بغتة اضمحلوا فنوا من الدواهي".. وقد يتعجب الناس للسقوط المفاجيء، الذي قد يأتي في أوج المجد والقوة، حسب المظهر الخارجي،.. ولكن الشر أشبه بالنمل الأبيض، الذي يدخل في جسم الخشب ليأكل لبه، وعندما يستعمل الخشب في بناء المنازل أو الكباري، لا تلبث أن تنهار، وبهذا المعنى ينخر الشر والفساد والخطية في حياة أي فرد أو أمة، وتقوضها فجأة أبشع تقويض!!.. وقد رأى آساف كل هذا، وأمكنه أن يرى الله خلف كل هذه النهاية الرهيبة الداوية في حياة الأشرار،... وإذا قرأنا المزامير الأخرى خلاف المزمور الثالث والسبعين -والتي يعتقد أن آساف كاتبها- نجد الله لا يبدو في صورة الساكن الذي لا يتحرك أمام آثام الأشرار أو خطاياهم، بل نراه شديد القوة والبطش: "الله معروف في يهوذا اسمه عظيم في إسرائيل كانت في ساليم مظلته ومسكنه في صهيون هناك سحق القسى البارقة المجن والسيف والقتال".. "اللهم في القدس طريقك أي إله عظيم مثل الله أنت الإله الصانع العجائب عرفت بين الشعوب قوتك فككت بذراعك شعبك بني يعقوب ويوسف أبصرتك المياه يا الله أبصرتك المياه ففزعت ارتعدت أيضاً اللجج سكبت الغيوم مياها أيضاً سهامك طارت صوت رعدك في الزوبعة أضاءت المسكونة ارتعدت ورجفت الأرض في البحر طريقك وسبلك في المياه الكثيرة وآثارك لم تعرف هديت شعبك كالغنم بيد موسى وهرون" وغنى آساف آخر الأمر بالمكان الذي اختاره في هذه الدراما العظيمة، إذ أخذ مكانه إلى جانب الله: "ولكني دائماً معك أمسكت بيدي اليمنى برأيك تهديني وبعد إلى مجدك تأخذني" لم يعد يرى في السماء أو الأرض إلا شخص الله: "ونصيبي الله إلى الدهر" "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي، جعلت بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك".. أين هذا من المكان الآخر مكان الأشرار، ممن ابتعدوا عن الله، وكانوا بهذا كمن يرتكب الفسق والزنا "لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون تهلك كل من يزني عنك".. "لأن خارجاً الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان وكل من يحب ويصنع كذباً"... هل تعرف أيها القاريء الصديق: أين مكانك في مسرحية الحياة؟؟. كان هناك مبشر في نيويورك تعود أن يطرق نوافذ البارات، وعندما يطل السكارى والمعربدون يسمعونه يقول لهم: "لأن أجرة الخطية هي موت"... وهي الكلمة التي يستطيع آساف أن يقولها لكل البعداء عن الله،.. وفي الوقت عينه يستطيع أن ينادي المؤمنين، ولو في قلب المتاعب والآلام والتجارب... "وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا!!"...
المزيد
21 نوفمبر 2020

المقالة الثامنة عشرة في استعداد العابد للأجل وملازمته القراءة والسكوت

إن سيرة الصديقين لبهية ؛ وكيف صارت بَهية جميلة إلا بالصبر، فحب الصبر أيها العابد بما أنه أم الشجاعة، أما المترنم داود فطوب قائلاً: ” أصطبر للرب وأحفظ طريقه “. وأما بولس فيعلم كيف تقتنى هذه الفضيلة بقوله: ” إن الحزن يصنع صبراً “.فإذا تصرفت في هذه الفضيلة تجد الرجاء ينبوع الصالحات، والرجاء لن يخزى، فأخضع الآن للرب، وتضرع إليه، فتصادف من هذه ما يتلوه فيعطيك كافة مسائلات قلبك.فماذا يكون أسعد غبطة من هذا، أن تقتني سمعاً من الملك هكذا صارخاً بوداعة، من ذا لا يؤثر أن تكون مسامع القاضي مفتوحة وسامعة له، أنت أيها الأخ فاعل الفضيلة أستأجرك المسيح لكرمه فما دام لك وقت أعمل الصلاح.أسمع بولس الرسول قائلاً: ” مهما زرعه الإنسان إياه يحصد “. أزرع في الروح فتحصد حياة أبدية، لأنه زعم من يزرع في جسده من جسده يحصد بلاء.أسمع الواعظ النصوح قائلاً: ” ازرعوا في ذاتكم العدل فتقطفون ثمر الحياة “.لا تسأم من العمل إذ تشاهد قدامك الرجاء، لأنه حيث الجهادات فهناك رايات الغلبة، وأين ما تكون الحروب فهناك الكرامات، وحيث ما يكون الصراع فهناك الأكاليل، فإذ تشاهد هذه الفوائد فروض نفسك بالصبر.أصرخ مع ذاتك كل حين مع القديسين قائلاً: تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب. هيئ للانصراف أعمالك وأستعد في الحقل، فالحقل هو هذا العالم، خذ مثالاً نافعاً العهد العتيق والعهد الجديد.سيج حول قطعانك بالأشواك، متكاتفاً بالصوم والصلاة بالتعليم إن كان لك مثل هذا السياج، فلا يدخل الوحش أعني المحال.فلح نفسك مثل كرم جيد، وكما أن محافظي الكروم يصفقون بأيديهم ويزعقون بصوتِهم ويُعرِّفون بذلك الذين يغتالونَهم، كذلك أهتف أنت بالصلاة، وكبر بالترنيم، فتطرد الثعلب الوحش الخبيث الذي هو المحال، الذي عنه يقول الكتاب: ” اقتنصوا بذاتكم ثعالباً صغاراً…. الخ “.صد العدو كل حين، إن رشق قلبك بشهوة قبيحة، إن رمى بمقلاع نفسك، وزج فيها أفكاراً دنسة، فأنصب نحوه ترس الأمانة، وألبس خوذة الرجاء، وأستل سيف الروح الذي هو قول اللـه، وإذا تسلحت مقابل العدو فأصبر ولا تسأم في الحرب.فُقْ في كل شيء، وقل: أنا لا تخفى عني معقولاته، أفرح في كل حين كما كتب قائلاً: فليعرف كافة الناس دعتكم، وليبرق تقوى اللـه في قلبك. لا تكن جندياً طارحاً سلاحه، ولا فاعلاً جباناً وعاجزاً. لا تَهرب من الأكاليل، فالعمر قصير والدينونة طويلة، تبصر في هذه أيها العابد.أصرخ بقلبك وقل مع القديسين: “تشجع وليتأيد قلبك وأصبر للرب”.شابه داود برميه حجر واحد مع المحارب، فالملائكة وقوف يبصرون سيرتك. لأننا قد صرنا مشهداً للعالم والملائكة والناس، فإن رأوك تقوِّم الفضيلة ظافراً يُسرون، وإن رأوك مغلوباً ينصرفون مقطبين، لأنَهم لا يحتملون أن يشاهدوا الشياطين يقهقهون عليك. أخرط عوض السيف مخافة اللـه، لأن خشية اللـه هي كسيف ذي حدين يقطع كل شهوة خبيثة.فأتخذ في عقلك كل وقت خشية اللـه، متذكراً في عقلك اليوم الأخير المخوف، حين تضطرم السماوات وتنحل، وتحترق الأرض وكافة الأعمال التي فيها، حين تنتشر النجوم كالورق، والشمس والقمر يظلمان، ولا يمنحان ضوءهما.حين يظهر ابن اللـه وينحدر من السماوات إلى الأرض، وقوات السماوات تضطرب حين يتسارع إحضار الملائكة، وتتواتر أصوات الأصوار، وقدامة نار محرقة جارية عدواً تنظف المسكونة، وحوله زوبعة شديدة حين تصير زلازل مرهبة، وبروق لم تصر أبداً ولن تصير إلا في ذلك اليوم، حتى قوات السماوات يشملهم الرعب والرعدة.فكيف مزمع أن نكون يا إخوتي ؟ أية خشية أو أي رعب يشملنا ؟ تأمل يا أخي بني إسرائيل في البرية، أنَهم ما استطاعوا أن يحتملوا الضباب والظلام وخوار الأصوار، وصوت المتكلم في وسط النار، بل أبو أن يزيدهم كلمة. لأنَهم بالحقيقة ما احتملوا ما كان بازائهم، ومع هذا أنه لم ينحدر بغضب، ولا خاطبهم بسخط بل بتسلية محققاً عندهم أن الذي معهم هو الإله.أسمع إذا يا أخي إن لم يستطيعوا احتمال وروده الذي كان بتسلية حين لم تلتهب السماوات وتنحل ؛ وما الأرض وما فيها احترقت ؛ ولا ضربت الأصوار شديداً كما يزمع هو أن يتوق ذلك الصور فينبه الراقدين منذ الدهر، ولا ظهرت نار تغسل كافة المسكونة، ولا صار شيء من الخوف العتيد أن يصير، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يحتملوا.فماذا نصنع إذاً، إذا أنحدر بغضب وغيظ لا يقاسان، وجلس على عرش مجده، وأستدعى الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربِها، وكافة الأقطار إلى محاكمة شعبه، ليجازي كل أحد نظير أعماله.الويل لنا، كيف سبيلنا أن نكون حين نمثل عراة بادية أعناقنا ؛ مزمعين أن ندخل إلى الموقف المرهوب، أفِّ أين حينئذ شجاعة البشرة ؟ أين الجمال المزور الغير نافع ؟ أين التذاذ الناس بالآلام ؟ أين حينئذ الدالة الموقحة الفاقدة الحياء ؟ أين حينئذ زينة الثياب ؟ أين وقتئذٍ لذة الخطيئة النجسة ؟ أين حينئذ المحتسبون أن الزنا بالذكور لذة ؟ أين حينئذٍ الذين كانوا يشربون الخمر على الطبول والأغاني الموسيقية، ولا يعاينون أعمال الرب ؟ أين حينئذ العائشون بالنفاق والتواني ؟ أين حينئذٍ التنعم والبطر ؟. كل تلك عبرت وزالت وانحلت بمنزلة الرياح. أين محبة الفضة وحب الاقتناء ؟ أين الكبرياء النافرة الإنسانية الرافضة الكل، المحتسبة ذاتِها وحدها أنَها شيء ؟ أين وقتئذٍ الشرف الفارغ الباطل والمجد الإنساني ؟ أين التمرد ؟ أين الملك ؟ أين الرئيس ؟ أين المدبر ؟ أين السلطان ؟ أين المتبدخون بكثرة الغنى ؟ والمتهاونون باللـه ؟. هناك إذا أبصروا يتعجبون هكذا، ويقلقون ويتزلزلون، ويشملهم الرعب والمخاض كالتي تلد، ويسحقون بريح عاصف. أين حينئذٍ حكمة الحكماء ؟ أين مكرهم الباطل ؟ اضطربوا وناموا كالسكارى وابتلعت كافة حكمتهم، أين حينئذٍ الحكيم ؟ أين الكاتب ؟ أين الملتمس هذا الدهر الباطل ؟ يا أخي ردد الفكر كيف سبيلنا أن نكون إذا طولبنا أن نؤدي جواباً عن الأعمال التي عملناها ؛ إن كانت صغاراً أم كباراً، لأنه على كلمة بطالة سنعطي القاضي العادل جواباً. كيف يجب أن نكون لنجد في تلك الساعة نعمة أمامه ؟ وأي فرح يستقبلنا إذا عُزلنا عن يمين الملك. كيف نزمع أن نكون إذا سلم علينا الصديقون وصافحونا ؟ هناك يقبلك إبراهيم واسحق ويعقوب، وموسى وداود وباقي الأنبياء، والرسل والشهداء وجماعة القديسين الذين أرضوا اللـه في حياة أجسادهم، وجماعة الذين سمعت هنا سيرتِهم وتعجبت منها وكنت تريد أن تعاينهم، هم يجيئون إليك هناك فيقبلونك ويسلمون عليك مبتهجين بخلاصك. كيف تكون حينئذٍ ؟ وكيف هو ذاك الفرح الذي لا ينعته وصف، إذا قال الملك للواقفين عن يمينه ببشاشة: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم “. فحينئذٍ يا أخي تأخذ ملك حسن البهاء ؛ وتاج الجمال من يد الرب، وتملك مع المسيح، وترث الخيرات التي أعدها اللـه للذين يحبونه، وتكون بلا هم ؛ ولا يذهلك حزن. تفكر يا أخي ما هو التملك في السماوات، والملك مع المسيح الذي هو معاينة وجهه الأقدس كل حين، وأنه هو يكون لك نجماً، لأنه في ذلك الحين تعطيك الشمس لا أنواراً للنهار كما قال إشعياء، ولا القمر يضئ لك بالليل، لكن الرب يكون لك نوراً أبدياً، والإله مجدك. أنظر يا أخي أي شرف ومجد قد أعد للذين يتقونه وللحافظين وصاياه ؛ وأفتكر في هلاك الخطاة إذا دخلوا إلى المجلس الرهيب، أي خزي يشملهم أمام القاضي العادل حين لا يكون لهم جواب اعتذار. أي خجل يكتنفهم إذا افرزوا إلى يسار الملك، أي ظلمة تسقط عليهم إذا كلمهم بسخطه، وأقلقهم بغضبه قائلاً: ” انصرفوا عني أيها الملاعين إلى النار الأبدية المعدة للمحال ورسله “. بأي ندب يولولون منتحبين نائحين ؛ مساقين ليعذبوا إلى الدهور التي لا أخر لها، كيف مكان البكاء وصرير الأسنان الذي يفرق منه الشيطان نفسه ؟ كيف جهنم النار ؟ كيف الدود الذي لا يرقد ونفثات السم ؟ ما أصعب تلك الظلمة البرانية، كيف الملائكة الموكلون بعذاب الغير رحومين يعيرون ويقرعون بجفاوة، يزعق المعذبون بدوام وليس من يخلصهم، والرب لا يستجيب لهم. وحينئذٍ يعرفون أن كل أمور العالم باطلة، والأشياء التي ظنوها هنا مستلذة وجدوها أمر من المر والصدى. أين حينئذ لذة الخطيئة المسماة لذة كاذبة ؛ لأن ليست لذة إلا مخافة الرب ومحبته، وبالحقيقة هذه اللذة تملأ النفس وتشبعها شحم وسمن. حينئذ يعرفون ذاتِهم، والأفعال التي فعلوها، ويعترفون أن حكومة اللـه مقسطة قائلين: أننا سمعنا بِهذا، ولم نشاء أن نرجع عن أعمالنا الخبيثة. فلا ينتفعون من هذه إذا قالوها. ويلي ويلي أنا المقتنص بخطايا لا تقاس، لأنني أخطأت أكثر من عدد رمل البحر، وقد انحنيت تحتها كما من حمل حديد، وليس لي دالة أتفرس وأبصر علو السماء. إلى من ألتجئ إلا إليك أيها المحب للإنسان، إلا إليك أيها المحتمل السوء، ألهم ارحمني كرحمتك العظمى، وككثرة رأفاتك أمح أثمي، أغسلني كثيراً من ذنوبي، وطهرني من خطيئتي. فأنني عارف أثمي، وخطيئتي أمامي كل حين، إليك وحدك أخطأت، وقدامك صنعت الإثم، فإذ صنعته ألتجئ إليك بما أنك عديم الحقد، إياك خالفت، وإليك لجأت من أجل كثرة خيريتك وتعطفك. وأتوسل هاتفاً أعرض بوجهك عن خطاياي، وأمح كافة آثامي من أجل اسمك، لأن ليس لي شيئاً أقربه إليك، لا عملاً صالحاً، ولا قلباً نقياً، لكنني أثق برأفاتك، وأطرح ذاتي أمامك، لكي ما تجدد فيَّ قلباً نقياً، وتوطدني بروح رئاسي حتى لا أتكردس بسهولة في الخطية بل أعبدك منذ الآن ببر وعدل كافة أيامي، لأنه إياك تسبح كافة قوات السماوات، ولك المجد والعز إلى الدهور. فأطلب إليكم إذاً يا إخوتي، بما أن هذه الأشياء تنتظر، فلنسارع لنكون عنده بسلامة غير مدنسين ولا عيب فينا. إذا وافتك شهوة خبيثة أو فكر ردىء، فأستل هذا السيف الذي هو التفكر في مخافة اللـه، فيقطع كل قوة العدو. عوض البوق لك الكتب الإلهية، لأنه كما أن البوق إذا ضُرب يجمع الجند، هكذا الكتب الإلهية إذا هتفت إلينا تجمع أفكارنا إلى مخافة اللـه، لأن أفكارنا مثل الجند الذين يحاربون أعداء الملك. وأيضاً كما أن البوق إذا ضُرب في وقت القتال يُنهض نشاط المجاهدين الشجعان على الذين يقاتلونَهم، هكذا الكتب الإلهية تستنهض نشاطك إلى الخير، وتشجعك على الآلام. فلذلك يا أخي كلف ذاتك بكل طاقتك أن تقرأها بمداومة، لتقرع أفكارك التي شتتها العدو برداوة صناعته وسوء حيلة، لأنه ينشئ نتائج خبيثة، وربما يجلب أحزاناً أو رفاهية وسعة كثيرة، لأنه يصنع هذه بمكره وخبثه حتى يغرب الإنسان من اللـه. لأنه إذا صارع إنساناً بالأفكار، ولا يستطيع أن يقهره ويحطمه، فحينئذٍ يجلب غموماً لكي ما يسود ذهنه ويظلمه، فيجد فسحة أن تزرع المقاصد التي يؤثرها، ويبدي أن يخطر للإنسان فيقول بأقسام: أنني منذ صرت أعمل الخير رأيت أياماً رديئة، فأعمل إذاً المساوئ لكي ما تجئ الخيرات. فحينئذٍ إن لم يكن الإنسان مستفيقاً يبتلعه كالهاوية حياً. فإن لم يمكنه بِهذه أن يقتسره، يجلب له حينئذٍ السعة، ويعليه ويطغيه بالسعة التي هي أصعب وأشر كافة الآلام، لأنَها تجعل الإنسان متكبراً لا يتقي اللـه، تجذب العقل وتسحبه إلى قعر اللذات. وتصيره أن يجعل في السماء فم التجديف، لأنه قد كتب ” جعلوا أفواههم في السماء “. هذه تجعل الإنسان لا يعرف اللـه، ولا يعرف ضعف طبيعته، ولا يوم الوفاة، هذا طريق كافة الشرور، من يحب أن يمشي في هذا الطريق يصل إلى أبواب الموت، هذه هي الطريق التي قال عنها الرب أنَها عريضة واسعة مؤدية إلى الهلاك. فها قد سمعت يا أخي أن العدو يجلب وقتاً سعة ووقتاً غموماً وضيقة، فالشىء الذي يختبر به نية الإنسان ويراها جانحة إليه يحاربه بِها. فلذلك تيقظ يا أخي بتحرز وحرص دائماً أن تلاصق قراءة الكتب الإلهية، ولا تفصل ذاتك منها، لتتعلم كيف يجب أن تَهرب من فخاخ العدو، وتستدرك الحياة الأبدية. لأن قراءة الكتب الإلهية تسلي القلب الحقيقي، فلذلك لا تتوانى في نفسك بل ثابر على القراءة والصلوات، وأشتغل بَها ليستضئ ذهنك وتصير تاماً كاملاً لا ناقصاً. آخرون يتفاخرون بمخاطبة الرؤساء المعظمين والملوك، فأفتخر أنت أمام الملائكة بأنك تخاطب اللـه بالروح القدس بالكتب الإلهية، لأن الروح القدس هو المتكلم بِها. فأحرص إذاً أن تفاوض الكتب الإلهية، وواظب على الصلوات، لأنه بمقدار ما تخاطب اللـه بِها يتقدس جسمك ونفسك وروحك. فأعرف هذا أنك تتقدس بمقدار قراءتك واستماعك، وأحرص أن تفاوضها بمداومة، وإن كانت يداك مشغولتين فصلي بذهنك، فإن حنه المغبوطة صلت، فشفتاها كانتا تتحركان فقط، وأما صلاتِها فدخلت في مسامع الرب الصباؤوت، لأنه أعطاها سؤالها. فلهذا إن كانت يداك مشغولتين، فأتلُ بذهنك، فإن اللـه يستمع من الساكتين. وإن كنت لا تعرف أن تقرأ، فأذهب إلى حيث تسمع وتنتفع دائماً، فأنه قد كتب: إذا رأيت إنساناً فقيهاً فادلج ( أسرع ) إليه، ولتسحق قدماك درج ( سُلَم ) أبواب منزله. وهذا يا أخي يفهمه لا الذين يعرفون أن يقرءوا فقط بل والذين لا يعرفون معاني الأقوال التي يقرءونَها. أحذر أيها العابد أن تتوانى في الموهبة التي مُنحتها من المسيح، لكن أحرص وأطلب كيف ترضيه، وتنال تطويب القديسين، فقد كتب: مغبوطون الذين يفحصون شواهده ويتبعونه بكل قلوبِهم. وأحذر أن يقطعك العدو إذا عزمت أن تقرأ، إذ يجلب عليك الضجر ويلقيك في تغلبات يسحب بِها ذهنك إلى كل جهة ويقول لك: أعمل هذا الأمر ما دام عمله يسيراً ثم أقرأ بلا اهتمام. فيبتدئ يخطر لك هذه، ويمنحك نشاطاً في عمل اليد ليشغلك بِها، ويعوقك عن أن تقرأ وتنتفع، لأنه إذا رأى أخاً يداوم القراءة وينتفع بِهذه الحجج وأكثر منها يجتهد أن يعيقه، فلا تذعن له، وصر كالآيل الذي يعطش ويشتاق أن يجئ إلى عيون المياه أي الكتب الإلهية لتشرب منها وتبرد عطشك الملتهب فيك بالآلام. ولاتركنَّ أن أصف لك المنفعة الصائرة من القراءة، فكما قلت: إذا منحك اللـه أن تعرف منها كلمة لا تُهملها تعبر عنك، بل أتلوها درساً، وأكتبها في قلبك، وأحفظها في حاسة ذكرك غير ممحوة. فقد كتب: ” أني أتلو حقوقك “. وأيضاً: ” خبأت في قلبي أقوالك لكي لا أخطئ إليك “. وأيضاً: “بماذا يقوم الشاب سبله؟ بحفظه أقوالك”. أرأيت أيها الأخ أنه بتكرار أقوال الرب يقوَّم طريق الإنسان، لأن من ذا يتذكر أقوال الرب فلا يتقوم، اللهم إلا إن كان غير مختبر وشقي، فمثل هذا لا يذكر بالجملة بل والذى يشعر أنه يذكره ينساه. ولمثل هذا يقول اللـه: ” لم تُحدث بحقوقي وتأخذ بفمك ميثاقي “. ويأمر أن ينزع منه الشىء الذي يظنه له، فماذا يظن في ماله ؟ يظن أن له أمانة لأنه يدعى مسيحياً، وبأفعاله يجحد ذلك، فهو أشر من الكافر. فلذلك يأمر أن ينتزع ما له من الروح القدس، الذي أخذه في يوم الافتداء، فيصير ذلك الإنسان بمنزلة جرة نبيذ، ترشح رشحاً كثيراً، وبرشحها تضيع النبيذ. فكافة الذين يبصرونَها ولا يعرفون الأمر الصائر، يظنون أنَها مملوءة، فإذا فتشت حينئذ يظهر للجماعة أنَها موضوعة فارغة. هكذا ذلك الإنسان إذا أختبر في يوم الدينونة المهول، وصودف مصفراً حينئذٍ تصير أموره ظاهرة للكل، ونظيره الذين في ذلك اليوم يقولون للملك: أيها الرب أليس باسمك تنبأنا وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فيجيب الملك ويقول لهم: حقاً أقول لكم لست أعرفكم. أرأيت أيها الأخ أن مثل هذا ليس بالجملة شيئاً، فتذكر أنت إذاً الأقوال التي سمعتها وقوم طريقك، أحذر أن تدع النسيان أن ينحدر فيخطفها من قلبك، أحذر أن تترك الطير الخبيث ينزل فيأكل زرع ابن اللـه، فإنه هو قال: أن البذار هو القول الذي سمعتموه. أخفِ البذار في بطون الأرض لكي ما يثمر، أي أخفِ قول التعليم في صميم قلبك ليثمر للـه بالتقوى، فإذا قرأت أقرأ باهتمام وتعب، وأعبر في الفصل بثبات كثير، ولا تسر في تقليب الورق فقط، فإن كانت الحاجة ماسة فلا تعجز أن تكرر الفصل مرتين وثلاثة ومراراً كثيرة لتفهم قوته. وإذا عزمت أن تجلس لتقرأ، فأطلب أولاً إلى اللـه قائلاً: يا ربي يسوع المسيح أفتح مسامع قلبي وناظري لأسمع أقوالك وأفهمها، فأصنع مشيئتك، فأنني ساكن في الأرض، فلا تكتم عني وصاياك. أكشف حجاب عيني، فأتأمل عجائبك من شريعتك، لأنني عليك أتوكل يا إلهي أن تضئ قلبي. نعم يا أخي أطلب إليك أن تبتهل إلى اللـه كل حين هكذا، لكي ما يضئ عقلك، ويوضح لك قوة أقواله. فإن كثيرين ضلوا إذ وثقوا بذهنهم، وزعموا أنَهم حكماء فحمقوا، وإذ لم يتفطنوا ويفهموا المكتوبات تكردسوا في التجديف وهلكوا. وإن وجدت في كل قراءتك كلمة مستعجم فهمها، فأحذر أن يعلمك الخبيث أن تقول في ذاتك ليس هكذا المعني كما يذكر هذا القول، لأنه كيف يمكن أن يكون هكذا أو نظيره. لكن إن كنت تؤمن باللـه فصدق أقواله، وقل للخبيث: أنصرف ورائي يا شيطان فإنني اعرف أن كلمات اللـه كلمات طاهرة فضة محماة مصفاة سبعة أضعاف، وليس فيها شئ صعب ولا معوج، لكنها كلها ظاهرة للذين يفقهون، ومستقيمة لذوي العلم. وأنا إذ لا فهم لي لست اعرفها، أنا اعرف أنَها مكتوبة بمعنى روحاني لأن الرسول يقول: إن الناموس روحاني. ثم بعد هذا ارفع طرفك إلى السماء وقل: يارب أنا أصدق أقوالك ولا أقاومها بل أني أرتضي بأقوال روحك القدوس، أنت يارب خلصني لأجد نعمة أمامك، أنا لست ألتمس شيئاً آخر إلا أن أخلص فقط وأنال رحمتك أيها المتحنن. لأن لك الملك والمجد والعز والاقتدار إلى الدهور. آمين. أقتنِ السكوت أيها الأخ بما أنه سور حصين، لأنه يجعلك أعلى من الآلام. فأنت تقصد في الاستعلاء، والآلام تروم إحدارك إلى أسفل، فأقتنِ السكوت بمخافة اللـه، فلا تصل إليك كافة نبل العدو ولا تضرك.الصمت المقترن بمشيئة اللـه هو مركبة نارية من أقتناها يصعد إلى السماء، ويقنعك بذلك إيليا النبي كيف أحب السكوت وتقوى اللـه فصعد إلى السماء. يا للسكوت نجاح العُبَّاد، يا للسكوت السُلَّم السماوي، السكوت طريق ملك السماء، السكوت أم التخشع، السكوت مسبب التوبة، السكوت مرآة ترى الخطايا، موضح للإنسان ذنوبه، سبيل الدموع، والد الوداعة، مسكن للتواضع.يجيب الإنسان إلى الترتيب السلامي، مقترن بمخافة اللـه، منير الذهن، جاسوس الأفكار، ومحتسب الإفراز، والد كل خير، توطيد الصوم، ومعوق هيام البطن، مسبب المثابرة على الصلاة والقراءة، سكون الأفكار، وميناء صاحي، جاعل النفس بلا اهتمام.نير صالح ووقر خفيف ينيح ويحمل من يحمله، سرور النفس والقلب، لجام العينين والسمع واللسان.يا لك من سكون مبغض العربدة وعدو الوقاحة، أم الوداعة سجن الآلام، مؤازر كل فضيلة، مسبب هجر الاقتناء، حقل المسيح المثمر الأثمار الصالحة، مقترن بخشية اللـه، سور وحصن للمريدين أن يجاهدوا من أجل ملك السماوات.نعم أقتنِ يا أخي هذا الحظ النفيس كما اقتنته مريم ولن ينتزع منها.أرأيت أيها الأخ ما قدر السكوت، وكيف الرب يمدح من أقتناه، أقتنيه فتتنعم بربك جالساً عند رجليه ملتصقاً به وحده وقل بدالة: لصقت نفسي وراءك وإياي عضدت يمينك، من أجل هذا تمتلئ نفسي كأنَها ممتلئة من شحم ودسم.أقتنِ هذا السكوت فإنه أحلى من العسل، لأن خبزاً وملحاً في سكوت أفضل من تنضديد ألوان الأغذية الفاخرة بِهم وحزن.أسمع القائل: تعالوا إليَّ يا معشر المتعوبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.فالرب يشاء أن يريحكم من الهموم والغضب والأتعاب، وغموم هذا الدهر، يشاء أن تكون بلا هم من عمل لبن مصر، يريد أن يدخلك البرية أي السكوت، ليضئ سبلك بعمود السحاب لكي يطعمك المن أي خبز السكوت وعدم الهم، ويورثك الأرض الصالحة أعني أورشليم التي في العلا.نعم يا حبيبي حب السكوت وإياه أقتنِ لتتنعم بطرق شواهد اللـه كمن يتنعم بكافة الغنى، أقتنيه بمخافة اللـه فيكون إله السلامة معك.لأن به يليق المجد والعز الآن وإلى آباد الدهور. آمين. أطلب إليكم أيها الإخوة المحبوبون من اللـه، أن تحرصوا كل يوم، وتتذكروا هذه التعاليم، متذكري الأمانة الرجاء المحبة التواضع.اختموا كل حين الصلوات وتلاوة الكتب الإلهية بالسكوت، لأن هذه الفضائل إذا كانت حاضرة عندكم وذائدة فيكم فلا تكونوا في معرفة ربنا يسوع المسيح بطالين ولا غير مثمرين.والعابد الذي لم يقتني هذه بل يتوانى في خلاصه هو أعمى شحاذ قد أشتمله نسيان خطاياه القديمة، وصح علية المثل أنه كالكلب الراجع إلى قيئه، كالخنزير الذي يستحم ويتمرغ في حمأته.فإن الذين هربوا من أدناس العالم بمعرفة ربنا يسوع المسيح ويلتفون بِها ويلتفتون ثانياً وينغلبون فقد صارت أواخرهم أشر من أوائلهم، ولقد كان أفضل لهم ألا يعرفوا طريق الحق، أوفق لهم من أنَهم بعد ما عرفوا عادوا إلى ورائهم.فمنذ الآن يا أحباء المسيح وجنده المصطفين ؛ لنتناول الأسلحة من التعاليم المقدم ذكرها، ونحفظها في قلبنا، لنستطيع أن نجاهد الجهاد النفيس، ونطأ كافة قوة العدو، وننجى من السخط الموافي الذي يحل بأبناء المعصية، ونجد رحمة ونعمة في ذلك اليوم المرهوب أمام القاضي العادل المجازي كل أحد نظير أعماله.الذي به وحده يليق المجد إلى آباد الدهور. آمين. مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل