المقالات

20 أبريل 2019

أسبوع الآلام

أسبوع الآلام هو أقدس أيام السنة, وأكثرها روحانية…. هو أسبوع مملوء بالذكريات المقدسة في أخطر مرحلة من مراحل الخلاص, وأهم فصل في قصة الفداء. وقد اختارت الكنيسة لهذا الأسبوع قراءات معينة من العهدين القديم والحديث, كلها مشاعر وأحاسيس مؤثرة للغاية توضح علاقة الله بالبشر. كما اختارت له مجموعة من الألحان العميقة, ومن التأملات والتفاسير الروحية. ويسمونه أسبوع الآلام, أو أسبوع البصخة المقدس, أو الأسبوع المقدس. ففي اللغة الإنجليزية يقولون عنه The Holy Week (الأسبوع المقدس), وكل يوم فيه هو أقدس يوم بالنسبة إلى أسمه في السنة كلها. فيوم الخميس مثلًا يسمونه The Holy Thursday أي الخميس المقدس. ويوم الجمعة يسمونه The Holy Friday أي الجمعة المقدسة, وهكذا… كان هذا الأسبوع مكرسًا كله للعبادة, يتفرغ فيه الناس من جميع أعمالهم, ويجتمعون في الكنائس طوال الوقت للصلاة والتأمل. كانوا يأخذون عطلة من أعمالهم, ليتفرغوا للرب ولتلك الذكريات المقدسة. ولا يعملون عملًا على الإطلاق سوى المواظبة على الكنيسة والسهر فيها للصلاة, والاستماع إلى الألحان العميقة والقراءات المقدسة…. ما أكثر الناس الذين يأخذون عطلة في الأعياد والأفراح, وفي قضاء مشاغلهم. ولكن ما أجمل أن نأخذ عطلة لنقضيها مع الله في الكنيسة. الملوك والأباطرة المسيحيون كانوا يمنحون عطلة في هذا الأسبوع. كانوا يمنحون جميع الموظفين في الدولة عطلة ليتفرغوا للعبادة في الكنيسة خلال أسبوع الآلام. وقيل إن الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير كان يطلق الأسرى والمساجين في هذا الأسبوع المقدس ليشتركوا مع باقي المؤمنين في العبادة, لأجل روحياتهم وتكوين علاقة لهم مع الله. ولعل ذلك يكون تهذيبًا لهم وإصلاحًا. وكان السادة أيضًا يمنحون عبيدهم عطلة للعبادة. فإن كان الوحي الإلهي قد قال عن اليوم المقدس "عملًا من الأعمال لا تعمل فيه", فإنه قال أيضًا "لا تصنع عملًا ما, أنت وابنك وابنتك, وعبدك وأمتك وبهيمتك, ونزيلك الذي داخل أبوابك" (خر10:20). حقًا إن عبدك وأمتك لهما أيضًا حق في أن يعبدا الله مثلك, وأن يشتركا في قدسية تلك الأيام. من حق الخدم أن يتفرغوا أيضًا من أعمالهم لعبادة الرب. وهكذا حتى في أعمق أيام الرق, لم تسمح الكنيسة بأن تكون روحيات السادة مبنية على حرمان العبيد. بل الكل للرب, يعبدونه معًا ويتمتعون معًا بعمق هذا الأسبوع وتأثيره ……وقوانين الرسل -في أيام الرق- كانت تحتم أن يأخذ العبيد أسبوع عطلة في البصخة المقدسة, وأسبوعًا آخر بمناسبة القيامة. فهل أنت تعطل خدمك وموظفيك خلال أسبوع الآلام؟؟ ومن المعروف طبعًا, أن الناس إن تفرغوا للعبادة في هذا الأسبوع, وعاشوا خلاله في نسك, فسوف لا يحتاجون إلى خدم يخدمونهم. وكانت مظاهر الحزن واضحة تمامًا في الكنيسة. أعمدة الكنيسة ملفوفة بالسواد. الأيقونات أيضًا مجللة بالسواد. وكذلك المانجليا, وبعض جدران الكنيسة ……الألحان حزينة, والقراءات عن الآلام وأحداث هذا الأسبوع. المؤمنون جميعًا بعيدون عن كل مظاهر الفرح. السيدات تحرم عليهن الزينة خلال هذا الأسبوع. فلا يلبسن الحُلى, ولا يتجملن, ولا يظهر شيء من ذلك في ملابسهن….الحفلات طبعًا كلها ملغاة. الكنيسة كلها في حزن, وفي شركة الآم المسيح. فهل نحن نحتفظ بهذا الحزن المقدس خلال هذا الأسبوع؟؟؟ أو على الأقل هل نحتفظ بوقارنا فيه؟؟ أم نحن نقضى أوقات كثيرة منه في عبث ومرح ولهو. ونكون خارج الكنيسة في وضع يختلف عن وضعنا داخل الكنيسة؟؟!! وكانت الكنيسة في هذا الأسبوع تعيش في نسك شديد. بعض النساك كانوا يطوون الأسبوع كله. أو يطوون ثلاثة أيام ويأكلون أكلة واحدة. ثم يطوون الثلاثة أيام الباقية. وكثير من المؤمنين كانوا لا يأكلون شيئًا من الخميس مساءًا حتى قداس العيد. وغالبيتهم كانوا لا يأكلون في أسبوع الآلام سوى الخبز والملح فقط وإن لم يستطيعوا, فالخبز والدقة. أما الضعفاء, فعلى الأقل كانوا لا يأكلون شيئًا حلو المذاق من الطعام الصيامي كالحلوى والمربى والعسل مثلًا. لأنه لا يليق بهم أن يأكلوا شيئًا حلوًا وهم يتذكرون آلام الرب لأجلهم. كما كانوا لا يأكلون طعاما مطبوخًا. بسبب النسك من جهة, ولكي لا يشغلهم إعداد الطعام عن العبادة من جهة أخرى. وفي كل هذا النسك كانوا يذكرون آلام السيد المسيح. غالبية الأسرار كانت تعطل ما عدا سرى الاعتراف والكهنوت. ما كانوا يمارسون المعمودية ولا الميرون في أسبوع الآلام, وما كان يرفع بخور ولا تقام قداسات, إلا يوم خميس العهد وسبت النور. وطبعًا من الاستحالة ممارسة سر الزواج. أما سر مسحة المرضى, فكانت تقام صلواته في جمعة ختام الصوم, قبل أسبوع الآلام. كذلك لم تكن تقام صلوات تجنيز في هذا الأسبوع. ومن ينتقل فيه لا يرفع عليه بخور, بل يدخل جثمانه إلى الكنيسة ويحضر صلوات البصخة, ويقرأ عليه التحليل مع صلاة خاصة. وصلوات الأجبية كانت تعطل في أسبوع الآلام. ويستعاض عنها بتسبحة البصخة. وذلك لأن صلوات الأجبية تقدم لنا مناسبات متعددة, ونحن نريد أن نتفرغ لآلام المسيح فقط….فمثلا صلاة باكر, نتذكر فيها ميلاد المسيح, وصلاة نصف الليل نتذكر فيها مجيئه الثاني, وصلاة الساعة الثالثة نتذكر فيها حلول الروح القدس….ونحن نريد في هذا الأسبوع أن نركز على آلام المسيح فقط. وحتى صلاة الساعة السادسة التي تذكرنا بصلبه, وصلاة الساعة التاسعة التي تذكرنا بموته, نؤجلها إلى يوم الجمعة الكبيرة, لأننا نريد أن نتتبع المسيح في هذا الأسبوع خطوة خطوة. ومن جهة المزامير ننتقى منها في هذا الأسبوع ما يناسب. ونترك باقي مزامير التي تشمل معاني كثيرة غير الآلام وغير أحداث هذا الأسبوع المقدس. لماذا سمى هذا الأسبوع بأسبوع البصخة؟؟ كلمة بصخة معناها فصح ومأخوذة من قول الرب في قصة الفصح الأول "لما أرى الدم, أعبر عنكم" (خر 13:12). كانت النجاة بواسطة الدم في يوم الفصح الأول. والفصح يرمز إلى السيد المسيح "لأن فصحنا أيضًا المسيح قد ذبح لأجلنا" (1 كو 5). ونحن في هذا الأسبوع نذكر الآم السيد المسيح الذي قدم نفسه فصحًا لأجلنا, لكي حينما يرى الآب دم هذا الفصح يعبر عنا سيف المهلك, فلا نهلك. نتذكر أن دمه كان عوضًا عنا. وأنه لا خلاص إلا بهذا الدم, كما حدث يوم الفصح الأول (خر 12). إنها أيام مقدسة أيام البصخة هي أيام مقدسة, أو هي أقدس أيام السنة. فما الذي نقصده بأنها أيام مقدسة؟؟ المفروض طبعًا أن كل أيام حياتنا مقدسة…. وفى كل يوم يمر علينا، نصلى في صلاة الشكر قائلين: "احفظنا في هذا اليوم المقدس وكل أيام حياتنا بكل سلام….". نقول هذا في كل يوم من أيام حياتنا، لأن حياتنا التي أشتراها الرب بدمه، أصبحت حياة مقدسة، قدسها الرب بهذا الدم. ومع ذلك لا ننكر أن هناك أيامًا مقدسة أكثر من غيرها….. ولعل أول إشارة لذلك هي تقديس يوم للرب كل أسبوع. وعن ذلك يقول الكتاب في قصة الخليقة: "وبارك الرب اليوم السابع وقدسه" (تك3:2). ثم أمر الإنسان قائلًا: "أحفظ يوم السبت لتقدسه" (تث 12:5). أنه يوم الرب، يوم مقدس يوم باركه الرب وقدسه, وطلب إلينا أيضًا أن نقدسه…. يسمونه في اليونانية (كيرياكى) أي الخاص بالرب، أي يوم الرب…. هو يوم مخصص للرب، لا نعمل فيه عملًا من الأعمال حسب الوصية. وكذلك في كل الأيام المقدسة التي أشار إليها الرب (لا23). أنها أيام لها قداسة غير عادية، ليست كباقي الأيام. الحياة كلها مقدسة. ولكن أيام الرب لها قداسة غير عادية، تفوق قداسة باقي الأيام. لأنها مخصصة للرب. وهناك أوقات لها قدسية خاصة، لاعتبارات روحية معينة. فمع أن الحياة كلها مقدسة، لكن أوقات الصلاة مثلًا, أوقات التأمل، أوقات الرؤى والاستعلانات…. هي أوقات لها قدسية من نوع خاص غير عادى…. وهناك أيام مقدسة في حياة كل إنسان. فاليوم الذي ظهر فيه الرب لشاول الطرسوسي (أع 9)، هو يوم له قدسية خاصة. واليوم الذي رأى فيه القديس يوحنا الحبيب رؤياه التي سجلها في سفر خاص، هو أيضًا يوم له قدسية خاصة. وأيام الأعياد كذلك لها قدسيتها. وكذلك أيام الصوم هي أيام غير عادية. وإن كانت أيام الصوم الكبير هي أقدس أيام السنة، وأسبوع البصخة هو أقدس أيام الصوم الكبير، يمكننا إذن أن نقول: إن أسبوع البصخة هو أقدس أيام السنة. الصوم فيه أعلى درجات النسك أكثر من أي صوم آخر، والعبادة فيه على مستوى أعمق، حيث يجتمع المؤمنون معًا في الكنيسة طوال الأسبوع يرفعون الصلوات بروح واحدة، ويستمعون إلى قراءات منتخبة من العهدين القديم والجديد، مع ألحان لها تأثير خاص، وطقس كنسي ينفرد به هذا الأسبوع المقدس. وذكريات هذا الأسبوع عميقة في تأثيرها، نتبع فيها السيد المسيح خطوة خطوة، ونحن نرتل له تسبحة البصخة المعروفة "لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين، يا عمانوئيل إلهنا وملكنا". والمشاعر الروحية في هذا الأسبوع، لها عمقها الخاص. الناس يكونون فيه أكثر حرصًا وتدقيقًا وجدية، وأكثر تفرغًا لله. طبعًا التفرغ الكامل هو الوضع الأساسي. فإن لم يتوفر، يتفرغ الإنسان على قدر إمكانه، ويعطى الوقت لله…. إنه أسبوع ندخل فيه في شركة الآم المسيح. نضع أمامنا كل آلامه من أجلنا، في انسحاق قلب، وفي توبة صادقة، لكي نستعد للتناول في يوم الخميس الكبير، اليوم الذي أعطى فيه الرب عهده المقدس لتلاميذه الأطهار، وأسس هذا السر العظيم….. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
01 مارس 2019

دعوة إلى التوبة

إن الله المحب للبشر ، بدافع من محبته لأولاده ، يدعوهم للتوبة ذلك لأنه " يريد أن الجميع يخلصون "( 1 تي 2: 4 ) هو لا يشاء أن يهلك أحد ، بل أن يقبل الجميع إلي التوبه ( 2 بط 3: 9 ) وهو من أجل خلاصهم مستعد أن يتغاضي عن أزمنه الجهل ( أع 17 : 30 ) بل إنه يقول في محبته العجيبة " هل مسرة أسر بموت الشرير إلا برجوعه فيحيا " ( حز 18 : 3 ) هو يحبنا ويريدنا بالتوبة أن نتمتع بمحبته يريد بالتوبة أن يشركنا في ملكوته ، ويمتعنا بمحبته إنها ليست مجرد أوامر يصدرها الله علي أفواه أنبيائه القديسين ، بل هي دعوة حب للخلاص " توبوا وارجعوا ، لتمحي خطاياكم "( أع 3: 19 ) " من رد خاطئاً عن طريق ضلاله يخلص نفساً من الموت ، ويستر كثرة من الخطايا "( يع 5: 20 ) إذن هذا الأمر من أجلنا نحن ومن خلاصنا ، الذي جعله يتجسد ويتألم لأجلنا ، والذي لا نستطيع أن نناله إلا بالتوبة لذلك نري في دعوته لنا للتوبة ، مشاعر الحب إذ يقول " إرجعوا إلي ، أرجع إليكم "( ملا 3: 7) ، " توبوا وارجعوا ( حز 14: 6) ، " إرجعوا إلي بكل قلوبكم إرجعوا إلي الرب إلهكم "( يوئيل 2: 12 ، 13) ويقول في محبته علي لسان أرمياء النبي " أجعل شريعتي في داخلهم ، واكتبها علي قلوبهم واكون لهم إلهاً ، وهم يكونون لي شعباً أصفح عن إثمهم ، ولا أذكر خطيتهم بعد "( أر 31 : 33 ، 34) وفي دعوته لنا للتوبة ، وعد بتطهيرنا وغسلنا إنه يقول " إغتسلوا ، تنقوا ، أعزلوا شر أفعالكم وهلم نتحاجج يقول الرب : إن كانت خطاياكم كالقرمز ، تبيض كالثلج " ( أش 1: 16، 18) ويقول" أرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون من كل نجاستكم ومن كل أصنامكم أطهركم وأعطيكم قلباً جديداً "( حز 36 : 25 ، 26)وهو يدعونا للتوبة ، لأننا نحن نحتاج إليها فهو يقول " ما جئت لأدين العالم ، بل لأخلص العالم "( يو 12 : 47) ، " لا يحتاج الأصحاح إلي طبيب بل المرضي لم آت لأدعو أبراراً بل خطاه إلي التوبة "( مر 2: 17) نعم إن إبن الإنسان جاء يطلب ويخلص ما قد هلك " ( متي 18 : 11) هذه التوبة إذن من صالحنا وليست أمراً مفروضاً علينا ولنا نحن كامل الإختيار الله يدعونا للتوبة ثم يقول " إن شئتم وسمعتم ، تأكلون خير الأرض وإن أبيتم وتمردتم ، تؤكلون بالسيف "( أش 1: 19 ،20) و الصالح لنا ان نسمع ونطيع ، من اجل نقاوتنا ومن أجل أبديتنا ، ومن أجل أبديتنا ، ومن أجل أن نتمتع بالله هوذا الرسول يمسي دعوته لنا للتوبة " خدمه المصالحة " وينادي " تصالحوا مع الله "( 2كو 5: 18 ، 20) فهل نحن نرفض أن نتصالح مع الله ؟! وهل من صالحنا رفض المصالحة ؟!التوبة نافعه ، مهما كان أسلوبها ، باللين أو بالشدة ولهذا يقول القديس يهوذا الرسول " إرحموا البعض مميزين وخلصوا البعض بالخوف ، مختطفين من النار مبغضين حتي الثوب المدنس من الجسد " ( يه 22، 23) . كان القديس يوحنا المعمدان شديداً في مناداته بالتوبة ( متي 3:8-10) ويقول القديس بولس الرسول لأهل كورنثوس " الآن أنا أفرح ، لا لأنكم حزنتم ، بل لأنكم حزنتم للتوبة "( 2 كو 7: 9) ولذلك كان بعض القديسين في عظاتهم يجعلون الناس يبكون ، وكان ذلك نافعاً لهم كما كانت عقوبات الكنيسة نافعة للتوبه و للخلاص لذلك كانت الدعوة للتوبة ، أهم موضوع في الكتاب لكي يتنقي الناس ، ولكي يخلصوا ولما كانت التوبة لازمه للخلاص ، بذلك أرسل السيد المسيح قدامه يوحنا المعمدان ، يهيئ الطريق أمامه بالتوبة ، فنادي بالتوبة قائلاً " توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات "( متي 3: 2) هذا الملكوت الذي لا يمكن ان تنالوه إلا بالتوبة وقد للناس معمودية التوبة وهكذا عمل التوبه سبق عمل الفداء والمعمدان سبق المسيح و السيد المسيح نفسه نادي للناس بالتوبه " من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز قائلاً : توبا لأنه قد اقترب ملكوت السموات "( متي 4: 17) وكان يقول " قد كمل الزمان ، واقترب ملكوت الله ، فتوبوا وآمنوا بالإناجيل "( مر 1: 15) ولما أرسل الإثني عشر " خرجوا يكرزون ان يتوبوا " ( مر 6 : 12 ) وقبيل صعودة أمر أن يكرز باسمه للتوبه ومغفرة الخطايا لجميع المم مبتدأ من أورشليم "( لو 14 : 47) كان اول كارز بالتوبه هو نوح وتبعه أنبياء كثيرون مثل أشعياء ( أش 1 )، وحزقيال ( حز 18 ) ، ويونان ( يون 3) ، ويوئيل (يوء 2) ، وأرمياء أر 31 ) وهي أيضاً واضحه كل الوضوح في اسفار العهد الجديد و الدعوة إلي التوبه هي عمل جميع الرعاة و المعلمين و الوعاظ ورجال الكهنوت وكل المرشدين إلي التوبه هي عمل جميع الرعاة و المعلمين و الوعاظ ورجال الكهنوت وكل المرشدين الروحنيين وهي واضحة في أقوال الآباء . لقد اهتم الآباء جداً بالدعوة إلي التوبه :قال القديس الأنبا أنطونيوس : أطلب التوبة في كل لحظة وقال القديس باسيليوس الكبير :" جيد ألا تخطئ وإن اخطأت ، فيجد ألا تؤخر التوبه وإن تبت ، فيجد ألا تعود إلي الخطية وإن لم تعد ، فجيد أن تعرف أن هذا بمعونه من الله وغن عرفت فجيد ان تشكره علي ما أنت فيه " وقال مار اسحق :" في كل وقت من هذه الأربع و العشرين ساعه من اليوم ، نحن محتاجون إلي التوبة " وقال أيضاً " كل يوم لا تجلس فيه ساعة بينك وبين نفسك ، وتتفكر بأي الأشياء أخطأت ، وبأي أمر سقطت ، وتقوم ذاتك فيه لا تحسبه من عدد ايام حياتك "إن الدعوة إلي التوبه لازمه للكل ومما يستلفت النظر : إن الدعوة للتوبة ، وجهت حتي إلي ملائكة الكنائس السبع, فالرب يقول لملاك كنيسة أفسس " أذكر من أين سقطت وتب "( رؤ 2: 5) وكلمه " تب " يقولها أيضاً لملاك كنيسة برجامس ( رؤ 2: 16 ) وملاك كنيسة ساردس ( رؤ 3 : 3) ، ولملاك كنيسة لاودكية ( رؤ 3: 19 ) وقد أرسل الله ناثان النبي لينادي بالتوبة إلي داود النبي مسيح الرب أن دعوة الله بالتوبة تحمل شعور الإشفاق علي أولادة فهو يريد الذين ضلوا أن يرجعوا إليه ، ليكون لهم نصيب في الملكوت وفي ميراث القديسين ، وفي شركة الكنيسة لأن السلوك الخاطئ يمنع شركتنا بالله (1 يو 1: 6) ، ويمنع شركتنا مع بعضنا البعض " ولكن إن سلكنا في النور ، كما هو في النور ، فلنا شركة مع بعضنا البعض ودم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية "( 1 يو 1: 7) والله يقبل التائبين وأمثلة ذلك كثيرة في الكتاب :لقد قبل الإبن الضال في سوء حالته ( لو 15 ) وقبل المرأة السامرية التي كان لها أكثر من خمسة ازواج ( يو 4) وقبل اللص اليمين علي الصليب علي الصليب ( لو 23 : 43) وصلي من اجل صالبيه لتغفر لهم خطيتهم ( لو 23 : 34 ) وصلي من أجل صالبيه لتغفر لهم خطيتهم ( لو 23 : 34 ) وقيل زكا رئيس العشارين ( لو 19 : 9) ومنحه الخلاص صالبيه لتغفر لهم خطيتهم ( لو 23 : 34 ) وقبل متي العشار وجعله رسولاً من الأثني عشر ( متي 10 : 3) ويكفي قوله : من يقبل إلي ، لا أخرجه خارجاً ( يو 6: 37 ) بل أكثر من هذا ، ان الرب هو الذي يقف علي الباب ويقرع منتظرا من يفتح له ( رؤ 3: 20 ) فإن كان يفعل هذا ، فبالحري يفتح لمن يقرع أبواب رحمته الإلهية ومن جهة مراحم الرب علي الخطاة ، صدق من قال : إن مراحم الرب اقوي من كل دنس الخطية إن أبشع الخطايا واكثرها – بالنسبة إلي مراحم الله – كأنها قطعه طين قد ألقيتها في المحيط انها لا تعكر المحيط ، بل يأخذها ويفرشها في أعماقه ، ويقدم لك ماء رائقاً وقبول الله للتوبة ، إنما يكشف عن اعماق محبته الإلهية لذلك لا نستكثر خطيتنا علي فاعليه دمه ولا نستكثرها علي عظم محبته وعظم رحمته وقد قال احد الشيوخ القديسين : لا توجد خطية تغلب محبة الله للبشر إنه هو الذي يبرر الفاجر ( رو 4: 5 ) أقول هذا حتي لا ييأس الخطاه إذا نظروا إلي خطاياهم لا تيأس في هذه النقطة أتذكر خطاباً وصلني من أحد الشبان منذ 22 عاماً قرأته فتأثرت كثيراً ، لدرجة أنني بكيت ثم أرسلت له رداً ، أذكر أنني قلت له في مقدمته " وصلني خطاباك يا أخي المحبوب ، ويخيل إلي أنني قرأته مراراً قبل أن أراه إنه صورة حياة أعرفها ، وقصة قلوب كثيرة " نعم ، إنها حرب تتعب كثيرين . أفكارها معروفه ، تتكرر في اعترافات الناس وفي اسلئتهم الروحية وسنحاول أن نتناول هنا كل فكر منها ، لنرد عليه . الشكوى الأولى : أنا يسئت . لا فائده منى إعلم يا أخي أن كل أفكار اليأس هي محاربة من الشيطان إنه يريدك أن تيأس من التوبة ، سواء من إمكانيتها أو من قبولها ، حتي تشعر أنه لا فائده من الجهاد ، فتستلم للخطية ، وتستمر فيها وتهلك نفسك فلا تسمع للشيطان في شئ مما يقوله لك وكلما تحاربك فكرة من أفكار اليأس ، رد عليها بقول ميخاالنبي : لا تشمتي بي يا عدوتي ، فإن إن سقطت أقوم ( مي 7: 8) وأعلم إن اليأس يقود إلي الإندماج في الخطية بالأكثر ، فيتدرج الخاطئ من سئ إلي أسوأ وربما في اليأس يحاربة الشيطان بأن يبعد عن أب اعترافه ، وعن كل إرشاد روحي وعن الكنيسة كلها لكي ينفرد به بلا معونه !! إن حرب اليأس حورب بها الأنبياء و القديسون فقال داود النبي : كثيرون يقولون لنفسي : ليس له خلاص بإلهه ( مز 3) ولكنه يرد علي هذا فيقول " أنت يارب هو ناصري ، مجدي ورافع رأسي " إن داود لم ييأس من سقطته ، بل بكي عليها وتاب ورده الله إلي رتبته الأولي . بل كان الله يفعل خيرات كثيرة مع عديدين ، وهو يقول " من أجل داود عبدي "( 1مل 11: 32 ، 34 ، 36) .فلا تيأس إذن ، وتذكر الذين تابوا من قبل وإن كنت قد يئست من نفسك ، فإن الله لم ييأس من خلاصك لقد خلص كثيرين ، وليست انت اصعب منهم جميعاً وحيث تعمل النعمه فلا مجال لليأس تقدم إذن إلي التوبه بقلب شجاع ، ولا تصغر نفسك . 2- يقول : كيف اتوب ، وانا عاجز تماماً عن القيام من سقطتي ؟ لا تخف الله هو الذي سيحارب عنك والحرب للرب ( 1 صم 17 : 47 ) ولا تهتم مقاومتك ، ضعيفه أم قوية فالله قادر أن يخلص بالكثير أو بالقليل إن الله أقوي من الشيطان الذي يحاربك ، وسيطرده عنك فلا تنظر إذن إلي قوتك ، إنما إلي قوة الله واصرخ وقل : توبني يارب فأتوب ( أر 31 : 18) وإن كنت عاجزاً عن أن تقيم نفسك ، فالرب قادر أن يقيمك إنه هو الذي " يقيم الساقطين ، ويحل المقيدين " ( مز 145 ) ،" رجاء من ليس له رجاء ومعين من ليس له معين " كن كالجريح الذي كان ملقي علي الطريق بين حي وميت عاجزاً عن ان يقوم ولكن السامري الصالح أتاه وأقامه ( لو 10 : 30 ) او كن كالموتي الذين أقامهم الرب ، ولا قدرة لهم ولا حياة . 3- تقول : حالتي رديئة جداً ، وفاقده الأمل أتراها فاقده الأمل ، أكثر من العاقر التي لها الرب " ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد " ( أش 54: 1) وأعطاها اكثر من ذات البنين ؟! إن حالتك قد تكون فاقدة الأمل من وجهة نظرك أنت اما الله فله رجاء فيك لا تجعل أملك إذن في نوعية حالتك ، إنما في غني الله الذي يعطي بسخاء ، وفي حبه وفي قدرته . 4- تقول : ولكنني لا أريد التوبه ، ولا أسعي إليها طبعاً ، هذا أسوأ ما في حالتك ومع ذلك فلا تيأس ويكفي ان الله يسعي لخلاصك وهو يريد لك ان تخلص وصلوات قديسين كثيرين ترفع من أجلك مع تشفعات ملائكة والله قادر أن يجعلك تريد هذه التوبه وتذكر قول الرسول " لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل المسرة "( في 2: 13) صل وقل : أعطني يارب الرغبة في أن أتوب أن الخروف الضال لم يبحث كيف يرجع ، ولكن صاحبه بحث عنه وأرجعه إليه وكذلك كان الحال مع الدرهم المفقود ( لو 15 ) . 5- تقول : هل من المعقول ان أعيش طول عمري بعيداً عن الخطية ، بينما قلبي يحبها ؟! لو تبت عنها سأرجع إليها ! إن المغالطة التي يلقيك بها الشيطان في اليأس ، هي انك ستعيش في التوبه بنفس هذا القلب الذي يحب الخطية ! كلا ، فسيعطيك الرب قلباً جديداً ( حز 36 : 26 ) وسينزع منك محبة الخطية وحينئذ لن تفكر أن ترجع إليها بل علي العكس ، إن الله سيجعلك في توبتك تكره الخطية و تشمئز منها شعورك الحالي سيتغير . 6- تقول : حتي إن تبت ، ستبقي أفكاري ملوثه بصور قديمه لا تخف ففي التوبه سينقي الله فكرك وتصل إلي تجديد الذهن " الذي قال عنه الرسول ( رو 12 : 2) كم كانت الصورة الرديئة التي في ذاكره أوغسطينوس ، وفي ذاكره مريم القبطية ! ولكن الرب محاها ، ليتقدس الفكر بمحبته وثق أن الذين عادوا للتوبه ، كانوا في حالة أقوي بل كثير منهم منحهم الرب مواهب ومعجزات مثل يعقوب المجاهد ، ومريم إبنه أخي إبراهيم المتوحد ، ومريم القبطية و التائب محبته أكثر ، كالخاطئة التي أحبت كثيراً ، لأنه غفر لها الكثير ( لو 7: 47 ) وداود في توبته كان أعمق حباً واتضاعاً . 7- تقول : وهل يغفر الرب لي ؟ وهل يقبلني ؟ إطمئن ، فإنه يقول " من يقبل إلي لا أخرجه خارجاً "( يو 6: 37 ) وقد قال داود النبي " لم يصنع معنا حسب خطايانا ، ولم يجازنا حسب آثامنا كبعد المشرق عن المغرب ، أبعد عنا معاصينا لأنه يعرف جبلتنا ،يذكرنا أننا تراب نحن "( مز 103 ) إنه لا يقبلنا فقط ، بل يغسلنا فنبيض أكثر من الثلج ( مز 50) ولا يعود يذكر لنا خطايانا ( أر 31 : 34 ، حز 33: 16 ، عب 8: 12 ) تذكر أن نفسك غالبيه عند الرب من اجلها تجسد وصلب . 8- تقول : ولكن خطاياي بشعه جداً أجيبك بقول الكتاب " كل خطية وكل تجديف بغفر للناس "( متي 12 : 31) حتي الذين تركوا الإيمان ورجعوا إليه ، غفر لهم وكذلك الذين وقعوا في بدع وهرطقات وتابوا ، غفرت لهم وبطرس الذي انكر المسيح وسب ولعن وقال لا اعرف الرجل ، غفر له وليس هذا فقط ، بل أعيد إلي درجه الرسولية و الرعاية حتي الذين كانوا في موضع القدوة ، مثل هرون رئيس الكهنة الذي اشترك مع بني اسرائيل في صنع العجل الذهبي ليعبدوه ( خر 32 : 2-5 )، لما تاب غفرت له وهوشع الكاهن العظيم ، انتهر الرب من أجله الشيطان ، وألبسه ثيباً جديدة (زك 3: 1-4) . 9- تقول : ولكني تاخرت كثيراً . فهل هناك فرصة ؟ هكذا قال أوغسطينوس في اعترافاته " تاخرت كثيراً في حبك " والرب قبله إنه قبل أصحاب الساعة الحادية عشرة وكافأهم بنفس المكافأة ( متي 20: 9 ) وقد قبل اللص اليمين علي الصليب ، في آخر ساعات حياته وطالما نحن في الجسد ، هناك فرصة للتوبه لذلك نقول في صلاة النوم " توبي يا نفسي مادمت في الأرض ساكنه .." لأن الرجاء في التوبة لا يتبدد إلا في الهاوية ، حيث قال أبونا إبراهيم للغني " بيننا وبينكم هوة عظيمة "( لو 16 : 26 ) فما دمت في الجسد ، امامك فرصة للتوبة ، فانتهزها . 10- تقول أخشي أن تكون خطيتي تجديفاً علي الروح القدس أقول لك إن التجديف علي الروح القد س، هو الرفض الكامل الدائم مدي الحياة لكل عمل للروح القدس في القلب ، فلا تكون توبة ، وبالتالي لا تكون مغفرة ولكن إذا تبت ، تكون قد استجبت لعمل الروح فيك ولا تكون قد استجبت لعمل الروح فيك ولا تكون خطيتك تجديفاً علي الروح قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
27 فبراير 2019

فوائد النسيان

من النسيان ما هو ضار وما هو نافع. والنسيان الضار ليس هو موضوعنا في هذا المقال. ومن أمثلته: أن ينسى المرء واجباته الدينية أو مسئولياته العملية. أو أن ينسى وعوده أو عهوده أو بالأكثر أن ينسى إحسانات الله إليه. وما يشبه ذلك وهو كثير على أن النسيان ليس كله شرًا. فقد سمح به الله من أجل نفع الإنسان وفائدته، لو أنه أحسن استخدامه. فالإنسان الحكيم يعرف ما الذي ينبغي أن ينساه، وما الذي ينبغي أن يتذكره. وسنحاول في هذا المقال أن نشرح بعض المجالات التي يحسن فيها النسيان: فمن فوائد النسيان مثلًا أن ننسى إساءات الناس إلينا ننساها لكي نستطيع أن نسامح وأن نغفر ونصفح. ولكي لا يملك الغضب على قلوبنا بسببها. وننساها لكي نهرب من شيطان الحقد ومن شيطان الكراهية إذا ثبتت في أذهاننا. فالذي ينسى أخطاء الناس إليه، يمكنه أن يقابل الكل ببشاشه، ويملك السلام قلبه، ولا يختزن فيه شرًا من جهة أحد. لذلك، إذا أساء إليك أحد، لا تحاول أن تسترجع في ذهنك إساءته إليك، ولا تتحدث مع الناس عما فعله بك ذلك المسيء، ولا تفكر في أية إهانة لحقت بك. لئلا يرسخ كل ذلك في ذاكرتك ويتعبك ولا تنسَ فقط أخطاء الناس إليك، وإنما كل أخطائهم عمومًا لأنك لو تذكرت على الدوام أخطاء الناس، لاسودت صورتهم في نظرك، ولعجزت أن تجد لك من بينهم صديقًا! إنه يندر أن يوجد أحد ليست له أية أخطاء. فلو أننا تذكرنا لكل أحد أخطاءه، لما استطعنا أن نتعامل مع أحد. وربما يدخل الشك إلى قلوبنا من جهة الناس جميعًا. وربما لا نستطيع أن نتكلم باحترام مع كل أحد من هنا تبدو فائدة نسيان أخطاء الناس.. كما يجب أن ننسى لهم أخطائهم، لكي نطلب من الله نسيان خطايانا وفى نفس الوقت الذي ننسى فيه أخطاء الناس، علينا أن نذكر خطايانا الخاصة لكي نصل إلى التوبة وإلى الاتضاع. موقنين تمامًا أنه إن نسينا خطايانا، سيذكرها لنا الله. أما إن ذكرنا خطايانا فسوف يغفرها لنا الله. إذن فليذكر كل أحد خطاياه، وينسى خطايا غيره. بعكس المتكبر الخالي من الحب، الذي دائمًا ينسى نقائصه، ودائمًا يذكر نقائص غيره، أو يتحدث عنها من فوائد النسيان أيضًا أن ننسى فضائلنا، حتى لا نقع في الكبرياء والإعجاب بالنفس... فإن عملت خيرًا، أو إن شاءت نعمة الله أن تعمل خيرًا بواسطتك، فلا تذكر ذلك ولا تتذكره. لئلا يجلب لك التذكار مديحًا من الناس، تستوفى به أجرك على الأرض، دون أن يختزن لك الأجر في السماء فالذي يفعل خيرًا، عليه أن يخفى الأمر، ليس فقط عن الناس، إنما حتى عن نفسه هو، بالنسيان حقًا، إن الذي يذكر فضائله، أو يُظهر فضائله، إنما يقع في الغرور والخيلاء، ويفقد الكثير من ثوابه. لذلك إنسَ الخير الذي تعمله. وإن ألحّ عليك الفكر في تذكره، أنسب ذلك إلى عمل نعمة الله معك، وليس إلى إرادتك الخيرّة. واشكر الله الذي هيّأ لك الظروف التي ساعدتك. واذكر أيضًا أن ذلك العمل كان يمكن أداؤه بطريقة أفضل من التي عملته بها... من فوائد النسيان أيضًا أن ننسى المتاعب والضيقات: أحيانًا يكون التفكير في متاعب الضيقة أشد إيلامًا وضررًا من الضيقة ذاتها. لذلك من الخير لك أن تكون الضيقات خارجك وليست داخلك. أي لا تسمح لها بالدخول إلى فكرك، ولا الاختلاط بمشاعر قلبك لئلا تتعبك. أي حاول أن تنساها. وإن ألحّ عليك الفكر ولم تستطع أن تنسى، حاول أن تنشغل بالقراءة أو بالعمل أو بالحديث مع الناس، لكي تبعد الفكر عنك وتنسى.. وعندما تنسى ضيقاتك ومتاعبك وآلامك، ستدرك أن النسيان نعمة وهبها الله. وستشكر الله الذي جعلك تنسى... أليس في معالجة المرضى المتعبين بأفكارهم ومشاكلهم النفسية، يقدم لهم الأطباء أدوية لكي تشتّت تركيز أفكارهم، فينسون! وبهذه الطريقة يحاول الإنسان أن يشترى النسيان بالطب والدواء والمال... إذن مبارك هو الله أن يهب النسيان مجانًا لمن يحتاجونه.. إذن إنسَ المتاعب والهموم، لأن تذكرها يجلب الأمراض النفسية والعصبية وأمراضًا أخرى. وهنا ندرك فوائد النسيان من فوائد النسيان أيضًا، أن ينسى الإنسان الأسباب المعثرة التي تجلب له الخطية... فقد يقرأ شاب قصة بذيئة، أو يرى منظرًا خليعًا، أو يسمع كلامًا مثيرًا... وإن لم ينسى كل هذه الأمور، تظل تشغل فكره وتحاربه روحيًا، فتضيّع نقاوة قلبه. ولذا من الخير له أن ينسى... وقد يقع شاب آخر في مشكلة عاطفية، ويحاول من أجل إراحة قلبه أن ينسى. وإذا استطاع ذلك، يعترف إن النسيان نعمة عظيمة لذلك حاول أن تنسى كل ما يعكر نقاوة قلبك. لا تجلس وتفكّر في أي شيء ينجس فكرك أو مشاعرك. وإن عبر أيّ من هذه الأمور على ذهنك، فلا تستبقه، بل اطرده بسرعة، ولا تعاود التفكير فيه، لكيما تنساه من فوائد النسيان أيضًا أن تنسى كل الأمور التافهة، لكي تُبقى في ذهنك الأمور النافعة لك ولغيرك تصوّروا مثلًا لو أن إنسانا تذكرّ كل ما يمر عليه طوال يومه، أو طوال أسبوع أو شهر، من كل الأمور التافهة التي تختص بالأكل والشرب وأحاديث الناس ومناظر الطريق، وأيضًا كل القراءات وكل الأحداث هل مثل هذا الشخص تحتمل طاقة فكره وذاكرته أن تخزن فوق ذلك كله، المعلومات اللازمة له والأساسية؟! لا أظن ذلك... من أجل هذا يسمح الله -لفائدتنا- أن ننسى التافهات، لكي تتبقى في ذهننا الأمور الهامة فقط. أما الذين يتذكرون كل الأمور التافهة، أو يهتمون بها فلا ينسوها... هؤلاء ستكون أحاديثهم تافهة أيضًا كذلك تصوّروا مثلًا إن أراد أحد أن يصلى. ووردت في ذهنه وذاكرته كل الأخبار والأحاديث التي عبرت به في يومه... أتراه يستطيع أن يركز في فكره في الصلاة؟! أم يسرح فيما يتذكره!وأيضًا إن أراد أحد أن يذاكر درسًا، أو أن يكتب بحثًا، أو أن يناقش موضوعًا هامًا، أتراه يستطيع ذلك، بينما في ذهنه كل التافهات التي مرّت به طوال يومه؟ أليس من المفيد له أن ينساها، ولو إلى حين!إن النسيان إذن هو عملية غربلة حيوية، تغربل في الذهن وفي الذاكرة جميع المعلومات والمعارف والمناظر والسماعات، التي وردت إلى العقل، فتستبقى النافع منها، وتطرد ما لا يفيد، عن طريق النسيان لذلك فلنحاول جميعًا أن نتحكم في ميزان ذاكرتنا. فلا نستبقى فيها إلا كل ما يفيدنا. أما الباقي فننساه. من أجل هذا، سمح الله بوجود النسيان. على أنه يجب أن نكون حكماء في معرفة ما يفيدنا نسيانه. وما يجب علينا أن نتذكره. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
13 فبراير 2019

ثلاثة تفاصيل لفضيلة الأمانة

لست أقصد مجرد الأمانة في المال والأمور المادية، أي أن الإنسان لا يكون سارقًا أو ناهبًا لغيره إنما أقصد الأمانة بوجه عام في كل حياة الإنسان الروحية، في تفاصيل ثلاثة أمانة في علاقته مع الله، ومع الناس، ومع نفسه كثيرون بدأوا الحياة معًا. ولكن بعضهم وصل، والبعض لم يصل، والبعض تأخر. فما السبب في كل ذلك؟ السبب هو مقدار أمانة كلِّ منهم. فالذين وصلوا هم الذين كانوا في غاية الأمانة في أداء دورهم في الحياة والقيام بواجباتهم ومسئولياتهم على أكمل وجه والأمانة تشمل الأمور العالمية، كما تشمل الأمور الروحية. فكما يهتم الإنسان بروحياته، ينبغي أن يكون أمينًا في كل عمل يعمله. فالتلميذ ينبغي أن يكون أمينًا في دراسته، في مذاكراته ومراجعته ونجاحه وتفوقه. وكذلك العامل في إتقانه لعمله وحفظه لمواعيده. وبالمثل الموظف وكل من هو في مسئولية. فيوسف الصديق كان إنسانًا روحيًا وأمينًا في عمله، سواء في خدمته لفوطيفار حتى ازدهر عمل الرجل. كما كان خادمًا في عمله كوزير تموين لمصر، حتى أنقذها وأنقذ البلاد المحيطة لها من المجاعة وتوجد في الحياة العملية أمور لاختبار الأمانة: مثال ذلك: هل من الأمانة أن يحصل شخص على شهادة مرضية زائفة، يقدمها للحصول على عطلة من العمل بدون وجه حق. وهو في ذلك لا يكتفي بأن يكون غير أمين، إنما يوقع الطبيب معه ويجره إلى الخطأ معه! كذلك من يأخذ بدل سفر بدون وجه حق، أو يطلب بمكافأة على عمل زائد Over time بينما يمكن القيام بنفس العمل في الوقت العادي بدون زيادة!والأمثلة كثيرة من جهة عدم الأمانة في الحياة العملية: منها من ينقل الأخبار بطريقة غير أمينة. أو من لا يكون أمينًا على سرّ اؤتمن عليه. كذلك من لا يؤدى أية مهمة كُلّف بها بالأمانة المطلوبة. الأمانة تجاه الله * فقلبك الذي هو ملك لله، لا تفتحه لأعدائه. وهكذا فإن الإنسان الأمين نحو الله وحفظ وصاياه، لا يتساهل مع أية خطية، ولا يتراخى مع الفكر الخاطئ، بل بكل أمانة يطرده بسرعة ولا يقبل أن يفصله أي فكر أو أية مشاعر عن محبة الله وعن طاعته وحفظ وصاياه. وهو يحفظ تلك الوصايا ولا يحيد عنها أمينًا في تنفيذها، لا يلتمس في ذلك ولا تبريرًا، وينتصر على كل العوائق. * وهو أمين أيضًا في صلواته وكل نواحي عبادته، وأمين في عقيدته وفي إيمانه وفي تقديم صورة مشرقة عن الإنسان المؤمن. وهو أمين في خدمة بيت الله وفي دعوة الناس إليه. ويفعل ذلك بكل جدية. يبدأ يومه بالله وينهيه بذكر اسمه. ويحيا باستمرار في حياة الشكر، يشكر الله على نعمته وستره ورضاه. ولا يتذمر مطلقًا على مشيئة الله... وهو باستمرار حريص أنه لا ينطق باسم الله إلا بخشوع يليق بعزة الله وجلاله ومجده والأمين في علاقته بالله يكون أمينًا في نذوره وعهوده. يعرف أنه من الخير له أن لا ينذر من أن ينذر ولا يفي. كما يكون أمينًا أيضًا في واجباته المالية من نحو الله. أمانة الإنسان نحو نفسه يضع أمامه مصيره الأبدي. فيهتم بروحه ونقاوة قلبه. ويكون أمينًا كل الأمانة في مقاومة الخطية، وفي السلوك في حياة الفضيلة والبر. ويعطى روحه غذاءها اليومي من الصلوات والتراتيل وقراءة كتاب الله والتأمل فيه. ولا يقتصر على مجرد الاهتمام بالجسد واحتياجاته. بل يجعل روحياته في المرتبة الأولى من اهتماماته، بحيث ينمو كل حين في حياة البر، حتى يصل إلى الكمال النسبي الممكن له كإنسان كذلك يكون أمينًا في تثقيف نفسه بكل مصادر المعرفة والحكمة. حتى ينمو في عقله وفكره وذكائه. وإن كان طالب علم، يكون أمينًا في دراسته لكي يصل – ليس فقط إلى النجاح – إنما إلى التفوق أيضًا والامتياز والإنسان الأمين لا يعتذر مطلقًا بقلة إمكانياته، إنما يحاول أن ينمى إمكانياته وقدراته بكافة الطرق. وهو لا يعتذر بالعوائق والموانع، بل يبذل كل جهده للانتصار عليها. وفي كل يقوّى إرادته فلا تخور ولا تضعف والإنسان الأمين لا يتساهل مع نفسه في أي شيء. بل يضبط نفسه تمامًا. وذلك أنه إن تساهل من جهة أخطاء الحواس، تحاربه الأفكار. وإن تساهل مع الأفكار، تحاربه الشهوات. وإن تساهل مع الشهوات، يسقط في العمل الخاطئ. إنه في أمانته يكون كالجبل الراسخ تصدمه العواصف والأنواء فلا تنال منه شيئًا والإنسان الأمين نحو نفسه، يكون أمينًا من جهة وقته. فيستغل كل دقيقة من حياته لفائدته وفائدة الآخرين... وهو يدرك تمامًا أن الوقت جزء من حياته لا يجوز له أن يبدده ويحرص أن يكون وقته في صالحه وليس ضده، بحيث لا يندم على وقت قضاه في عمل ما الإنسان الأمين على نفسه، يعرف أن له نفسًا واحدة إن خسرها خسر كل شيء وليس ما يعوضها وهكذا يذكر باستمرار انه "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه". لذلك فهو يهتم بحاضر نفسه ومستقبلها. ويحرص على خلاص نفسه... أمانته نحو الآخرين الإنسان الأمين يحرص على الآخرين كما يحرص على نفسه. ويهتم بخلاصهم كما يهتم بخلاص نفسه إنه لا يكتفى بأنه لا يؤذى أحدًا، بل يبذل جهده لعمل الخير نحو كل أحد. ويكون كالشمعة التي تضئ لكل أحد، وكالشجرة التي تظلل على كل من يحتمي بها. ويكون صانع خير وصانع سلام مع الكل والإنسان الأمين يحتفظ بأسرار الناس لا يفشى شيئًا منها ولو لأقرب المقربين إليه. ولا يفضح ضعفات أحد بل يكون سترًا له وغطاء... وإن وجد أحدًا محتاجًا إلى معونة لا يقصر في إعانته، ويفعل ذلك في سرية بحيث لا يخجله أمام غيره... ويكون معينًا لمن ليس له معين، ونورًا للسائرين في الظلمة وأمانته نحو الآخرين تلزمه أن يشاركهم في أحزانهم وفي أفراحهم، وتقتضيه الأمانة أن يزور المريض منهم، وأن يعزى من يحتاج إلى عزاء. وأن يقدم النصيحة المخلصة لمن يلزمه النصح، وأن يشترك في حل مشاكل من هو في ضيقة، مادام هذا الأمر في قدرته. ويكون قلبًا محبًا للكل، ويحترم الصغير منهم والكبير. ولا يحتقر الساقط بل يساعده على القيام على أن هناك من يسأل بعد كل هذا: ولكن ماذا استطيع أن أفعل، إن كان لا يمكنني الوصول إلى هذا المستوى؟ وإن كنت -على الرغم من ضعفي- أريد أن أكون أمينًا الأمانة كلها، فكيف أبدأ. أرجو -إن أعطاني الرب فرصة- أن أجيب عن هذا السؤال، فإلى اللقاء. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
06 فبراير 2019

تدريبات على الهدوء

إذا أردت أن تدرب نفسك على الهدوء -وبخاصة هدوء القلب وهدوء الأعصاب وهدوء الحياة- فعليك بالنصائح الآتية: 1- لا تسمح لأي شيء أن يثيرك. بل تقبّل كافة الأمور بنفس هادئة، لا تنفعل كثيرًا بالأسباب الخارجية مهما كانت تبدو متعبة، ولا تقلق وتضطرب. وإن انفعلت، حاول أن تضع هدوءا لانفعالك، وأن تهدئ نفسك. ولا تتصور أو تتخيل نتائج خطيرة سوف تحدث، فهذا التخيل سوف يزعجك. وقل لنفسك: إن كل مشكلة لها حل أو بضعة حلول. فكرّ إذن في الحلول، حينئذ يدخل الهدوء إلى قلبك. وإن عجزت عن إيجاد حلّ، استشر غيرك. وإن عجز الغير أيضًا، فأعطِ المشاكل مدى زمنيا تحل فيه. واطلب معونة الله وتدخله وستره. وباستمرار اجعل المشاكل تدور حولك من الخارج، دون أن تدخل إلى قلبك فتؤذيك. إن الأمواج الهائجة إذا صدمت السفينة من الخارج لا تضرها. ولكن إن وُجد ثقب في السفينة تدخل منه المياه، حينئذ تكون السفينة في خطر. احرص إذن على عدم وجود ثقوب في نفسك تدخل منها المشكلة إلى أعصابك لتحطمها. 2- كن دائمًا قوى القلب قوى الإيمان، واسع الصدر في مقابلة المتاعب، بحيث لا تتضايق بسرعة. واعلم أن الضيقة قد سميت هكذا، لأن القلب قد ضاق عن أن يتسع لها. أما القلب الواسع فإنه لا يتضيق بشيء. إن قطعة من الطين إذا ألقيت في كوب من الماء فإنها تعكره. أما إذا ما ألقيت في المحيط فإنها لا تعكره. بل يفرشها في أعماقه ويقدم لك ماءً رائقًا... اعرف يا أخي أنه إذا وقع حجر على جبل، فأنه لا يهزه. ولكن إن وقع هذا الحجر على زجاج فإنه يهشمه ويفتته. لهذا كن جبلًا لا زجاجًا. 3- مما يفيدك في حياتك، أن تكون لك روح المرح وبالبشاشة. فإنها تجلب للإنسان هدوءًا في النفس، واسترخاءً في الأعصاب، وتبعد عنه الكآبة والاضطراب. ومهما كان الجو مكهربًا وصاخبًا، فإن الإنسان المرح، يستطيع بفكاهة لطيفة أن يزيل جو التوتر.. وعمومًا فإن المتصفين بالمرح، تكون أعصابهم هادئة. بل إنهم بالأكثر يمكنهم أن يهدئوا غيرهم أيضًا. كما أن الوجوه البشوشة تشيع الهدوء في الآخرين. لهذا درّب نفسك على البشاشة والمرح، وتقبّل كثيرًا من الأمور بهذه الروح... 4- كذلك أن أردت أن تكسب الهدوء، يمكنك ذلك بمعاشرة الأشخاص الهادئين، بعكس الذين يختلط دائمًا بالمضطربين والثائرين، فإنهم ينقلون إليه عدوى مشاعرهم. فالخائفون ينقلون إليه خوفهم، والمتشائمون ينقلون إليه تشائمهم. وكذلك فالذين يحاربهم الشك والضيق ينقلون إلى غيرهم الشكوك والضيقات. أما معاشرة الهادئين فإنها تمنح الثقة والطمأنينة والسلام. قد تقرأ خبرًا مزعجًا فتتعلق. ثم تقابل شخصًا هادئًا فتجده قد تقبّل الخبر بمنتهى الثقة وهو مطمئن تمامًا أنه سوف لا يحدث شيء متعب على الإطلاق. ويشرح لك، فيبدأ الاطمئنان يزحف من نفسه إلى نفسك فتهدأ. ألست ترى إذن أنك بمعاشرة الهادئين يمكنك أن تمتص إيمانهم وهدوءهم، وتأخذ من سلامهم الداخلي سلامًا لنفسك... وتأخذ أيضًا نموذجًا وقدوة من طباعهم الهادئة، وتحاول أن تحاكيها إذ تعجبك وتريحك. وتتعود على طريقة تفكيرهم في مقابلة المشاكل والضيقات، وتتعلم من ذكائهم كيف يستوعب العقل المشكلة ويهضمها، وكيف يمكنه إن يفهم الأمور ويحل المشاكل ويستنتج الطرق الصالحة لعلاجها، كما تتعلم أيضًا من إيمانهم ومن طول بالهم واحتمالهم وصبرهم. إن معاشرة الهادئين هي من أفضل أنواع المهدئات. 5- كذلك درّب نفسك على عدم الاندفاع وعدم التسرع. واعرف أن قلة الصبر تدل على عدم هدوء الإنسان في الداخل. فالإنسان الهادئ يكون دائمًا طويل البال. فإن اضطرب يفقد القدرة على الصبر. ولا يستطيع أن ينتظر حتى تحُلّ الأمور. إنما يريد أن يعمل الآن أي عمل، أو يتكلم أي كلام، أو يتخذ أي قرار!! وفي ذلك ما يضره. 6- ما دمت لم تصل بعد إلى فضيلة الهدوء، أبعد إذن بقدر إمكانك عن أسباب الإثارة وكل مصادرها. ابحث ما هي الأسباب التي تجعلك تفقد هدوءك، سواء كانت منك أو من الخارج. وتحاشى هذه الأسباب وبخاصة في المعاملات. وكما قال أحد الحكماء "لا تأخذ وتعطى مع إنسان يقاتلك به العدو". وابعد عن المناقشات الحادة. ولا تستصحب غضوبًا. وابعد أيضًا عن القراءات التي تفقدك الهدوء، وعن سماع الأخبار التي تزعجك. 7- وفى معاملاتك مع الآخرين لا تفترض المثالية في جميع الناس. فإن قوبلت بتصرف خاطئ من البعض، لا تتضايق. فالناس هكذا: فيهم الطيب والرديء. ولا تتوقع أنك ستتعامل مع ملائكة أو قديسين، إنما مع بشر عاديين، لا نسمح لأخطائهم من نحونا أن تقلقنا..! وأيضًا لا ترد على أحد وأنت غضبان. إنما انتظر إلى أن تهدئ نفسك، ثم أكمل الحديث معه، أو على الأقل اصمت. فليس من صالحك ولا من صالحه أن تناقشه وأنت في حالة توتر. واحذر من أن ترد على الإساءة بإساءة، وإلا تكون قد شابهت المسيء في أخلاقه... 8- ابعد عن استخدام العنف بكل أنواعه، ولا تواجه العنف بالعنف. فليس هذا هو أسلوب الروحيين. فالإنسان الروحي لا يغلبنّه الشر، بل يغلب الشر بالخير. وإذا تملكتك الحيرة في التصرف، فشاور أحد الحكماء واعمل بمشورته. فإنك بهذا تضيف إلى فكرك فكرًا أكثر خبرة. وتتعلم الحياة عمليًا... 9- لا تلجأ إلى العقاقير لكي تحصل على الهدوء. واعلم أن استخدام المسكنات والمهدئات والمنومات لها ردود فعلها واحذر من أن تتعودها إنها كلها تتيهك عن نفسك، دون أن تحل مشاكلك أو تزيل متاعبك. إنما اعمل على حلّ إشكالاتك داخل نفسك، وبحلول عملية وطرق روحية. واعرف أن الذي يتعود تعاطي المسكنات، قد تصبح إدمانًا ولا تفيده بل قد يضطر إلى إزادة كمياتها. وما أن يفيق منها حتى يجد نفسه كم هي بنفس متاعبها وبدون حلّ... 10- كذلك لا تلتمس الهدوء بالانطواء والهرب. ولا تظن أنك في انطوائك على نفسك قد صرت هادئًا! كلا، فهذا مرض آخر وليس هدوءًا.. فإن كانت لك مشكلة في بيتك، لا تظن أن حل المشكلة هو في هروبك إلى النادي أو المقهى أو إحدى السهرات، بينما تظل المشكلة قائمة كما هي. لا تصلح إلا بمواجهتها، ومعرفة أسبابها وحلها عمليًا.. 11- تعوّد الهدوء في دخولك وخروجك، وفي طريقة كلامك بحيث تكون ألفاظك هادئة ليست فيها كلمة عنيفة أو جارحه. وقبل أن تلفظ كلمة فكرّ في نتائجها وفي تأثيرها على غيرك... وإذا كتبت خطابًا غير هادئ، فلا ترسله بسرعة. بل اتركه يومًا أو يومين، وأعد قراءته، وغيرّ ما يلزم تغييره فيه. وكل فكر يلحّ عليك، لا تسرع في تنفيذه ولا تطاوعه. بل أنتظر حتى تفحصه في هدوء... 12- أخيرًا، أنصحك بأن تعطى جسدك ما يحتاجه من الراحة ولا ترهقه. فإن الإنسان في حالة الإرهاق، تكون أعصابه عرضة لعدم الاحتمال، وربما يفقد هدوءه ويتصرف بغضب أو عصبية لأتفه الأسباب مما يندم عليه فيما بعد. لذلك لا تدخل في مناقشة حادة وأنت مرهق. ولا تأخذ قرارًا مصيريًا وأنت مرهق. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
30 يناير 2019

الأنبا أنطونيوس المعلم

كثيرون ترهبوا. وكثيرون كانوا قديسين، وسواحًا، ومتوحدين، ولم ينالوا شهوة الأنبا أنطونيوس الأنبا بولا السائح مثلا، ترهب قبل الأنبا أنطونيوس. وفى لقاء هذين القديسين، كان الأنبا بولا يخاطب الأنبا أنطونيوس بعبارة يا أبني، فيرد عليه بعبارة يا أبى. كان الأنبا بولا أكبر منه سنًا، وأقدم منه في هذه السيرة الملائكية. ولكنه لم ينل نفس الشهرة، لأنه لم يكن مثل الأنبا أنطونيوس أبا لرهبان كثيرين. ولم يكن مثله أبا لمدرسة من المدارس كان الأنبا أنطونيوس أبا لرهبنة. كان أبا لمدرسة رهبانية، لأول مدرسة رهبانية. وكان أبا لفكرة معينة انتشرت في كل مكان أنه لم يتزوج، ولم ينجب أبنا. لكن له مئات الآلاف من الأبناء. له أبناء في كل بلد من بلاد العالم. كل رهبان العالم أولاد الأنبا أنطونيوس عندما يدخل الأنبا أنطونيوس إلى الملكوت، يقول لله: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب" (إش8: 18)، يدخل وراءه ألوف ألوف، وربوات ربوات... لأنه أب لمدرسة. تتلمذ عليه تقريبًا كل قادة الرهبنة في مصر:- فمثلا كان من تلاميذه الأنبا آمون أبو جبل نتريا، أبو منطقة القلالي. وقد رأى الأنبا أنطونيوس روح الأنبا آمون وهى صاعدة إلى السماء، تزفها الملائكة في فرح.. وكان من تلاميذه أيضًا، القديس الأنبا مكاريوس الكبير، أتى وتتلمذ عليه وألبسه الأنبا أنطونيوس إسكيم الرهبنة `cxhma. وأشتغل معه، وشهد له بقوله: [إن قوة عظيمة تخرج من هاتين اليدين] وتتلمذ عليه الأنبا بيشوي، أو الأنبا سيصوى (شيشوي) من أباء الجبل الشرقي، هو وتلاميذه. وتتلمذ عليه القديس الأنبا بولس البسيط، والأنبا بيساريون، والأنبا سرابيون وتتلمذ عليه القديس الأنبا ببنوده رئيس أديرة الفيوم. وقد كتب إليه القديس الأنبا أنطونيوس رسالته العشرين وتتلمذ عليه القديس الأنبا إيلاريون الذي نشر الرهبنة في سوريا وفى فلسطين وعندما كان يأتي إلى الأنبا أنطونيوس أحد من تلك المناطق يطلب إرشاده، كان يقول لهم في أتضاع: [لماذا تأتون إلى، وعندكم الأنبا إيلاريون؟] وتتلمذ عليه شيوخ عديدون انتشروا في الأرض كلها ونشروا الرهبنة في كل مكان.. وأصبح الأنبا أنطونيوس أبا لفكرة، ولمدرسة، ولطريق حياة، أبا لمنهج روحي له فروعه في كل مكان وأطال الله عمر الأنبا أنطونيوس ولد سنة 251 م، ورقد في الرب سنة 356 م. وله من العمر 105 سنة شيخا كبيرا في الأيام العجيب أن الأنبا أنطونيوس، لم يتتلمذ عليه رهبان فقط إنما تتلمذ عليه أيضا البابا البطريرك كان القديس الأنبا أثناسيوس الرسولي البابا العشرون من تلاميذه. درس عليه الروحيات. تلقى عنه أيضا كثيرا من أفكاره اللاهوتية إن بعض العلماء، حينما يدرسون فكرة أثناسيوس اللاهوتية، إنما يرجعون كثيرا من أفكاره اللاهوتية إلى القديس أنطونيوس الكبير حقا إن هذا لعجيب والقديس أنطونيوس تتلمذ عليه كثيرون لم يروا وجهه أبدًا.. لقد تتلمذوا على حياته، على سيرته التي نشرها في الغرب القديس أثناسيوس الرسولى في كتابه (حياة أنطونيوس). وهذا الكتاب كان سببًا في انتشار الرهبنة في روما وفى بلاد الغرب. فترهب كثيرون هناك وأتى العديد منهم إلى مصر. لمجرد أنهم تنسموا حياة القديس الأنبا أنطونيوس وكان لهذا الكتاب تأثيره في هداية أوغسطينوس لقد تأثر أغسطينوس تأثيرًا عميقًا بسيرة القديس أنطونيوس، فتاب، وترك حياة الفجور، بل صار راهبًا وقديسًا.. ومصدرا من مصادر الحياة والتأملية في العالم.. بفضل سيرة الأنبا أنطونيوس والقديس الأنبا أثناسيوس الرسولى، كاتب هذه السيرة، حينما كان يذهب إلى آي مكان من بلاد أوربا، كانوا يسألونه عن أنطونيوس، وعن أخبار الرهبنة في مصر، وعن الرائحة الزكية التي تفوح من البرية.. وهكذا كان للأنبا أنطونيوس تأثير في أمكنة عديدة جدا لا توضع تحت حصر وكثيرون كانوا يأتون من بلاد الشرق والغرب، لكي يتتلمذوا على القديس الأنبا أنطونيوس في التدبير الرهباني. وكان بعض الفلاسفة يأتون إليه، ويسألونه، ويحاورونه، ويندهشون كثيرا من علمه ومن ذكاءه لدرجة أنهم قالوا له في إحدى المرات: [أنت لا تملك الكتب، ولا تقرأ الكتب، فمن أين لك هذه المعرفة وهذا الفهم العجيب؟] فأجابهم بسؤال عجيب: [أيهما أسبق: العقل أم المعرفة؟ فلما قالوا له: العقل طبعا أسبق، أجابهم: إذن المعرفة يمكن أن يلدها العقل، بدون كتب..]!وكان يقول: [أنا أن أردت معرفة شيء، أصلى إلى الله، فيكشف لي، وأتأمل في آيات الكتاب، فأفهم منها. فلا حاجة بي إلى الكتب] وكما أن الناس كانوا يأتون من مشارق الدنيا ومغاربها إلى الأنبا أنطونيوس، يطلبون منه كلمة منفعة، يجعلونها دستورا لحياتهم كذلك فإن الإمبراطور قسطنطين الكبير أرسل إليه رسالة،يطلب منه فيها بركاته وصلواته. ولما لم يقرأ القديس هذه الرسالة لتوه. تعجب تلاميذه. فقال لهم: [لا تتعجبوا من هذا، بل تعجبوا بالأكثر أن الله يرسل لنا الرسائل كل يوم في كتابه المقدس، ونحن لا نسرع إلى قراءتها]..! محاربته للأريوسية:- كان الأنبا أنطونيوس في نظر الناس نبعًا كبيرًا للقداسة، ومعلمًا كبيرًا للروحيات.. وكانت كل كلمة تخرج من فمه هي كلمة ثقة وصدق لدرجة أنه عندما انتشرت الأريوسية في الإسكندرية، نتيجة للشكوك العنيفة التي أثارها الأريوسيون ضد لاهوت السيد المسيح، طلب الآباء الأساقفة من القديس أنطونيوس أن ينزل لكي يقول كلمة فيسند بها تعليم البابا أثناسيوس الرسولى ونزل الأنبا أنطونيوس، إلى الإسكندرية، وهو فوق المائة من عمره، وقضى ثلاثة أيام، فيها ثبَّت الناس في الأيمان ويقول المؤرخون أن الأيام الثلاثة التي قضاها الأنبا أنطونيوس في الإسكندرية كان لها مفعول السحر في الناس وكانت أكثر دسما من سنوات عديدة في التعليم كانت كلمة التعليم تخرج من فم الأنبا أنطونيوس، تسندها قداسة سيرته، وتسندها المعجزات، وتسندها ثقة الناس به إنه رجل الله. فكل ما يقوله هو كلام من الله إن الشخص العادي حينما يتكلم، ربما يحتاج إلى أدلة كثيرة، وإثباتات وبراهين كثيرة لكي يقنع الناس،أما الإنسان القديس، الذي يشهد الله بآيات ومعجزات، الإنسان القديس الذي هو موضع ثقة الناس بروحياته. فيكفى أن يقول كلمة وينتهي الآمرهكذا كانت كل كلمة للأنبا أنطونيوس.. لها ثقل عجيب! وكان الأنبا أنطونيوس يعلم، ليس فقط بالكلام، وإنما أيضًا بالرسائل. وله عشرون رسالة، أرسلها إلى أولاده ترجمت هذه الرسائل إلى العربية، وهى موجودة في مخطوطاتنا في الأديرة، آخرها رسالته إلى تلميذه ببنوده وقد طبع البعض هذه الرسائل ونشرها وكانت موضع دراسة لعلماء كثيرين. وللقديس أنطونيوس تعاليم كثيرة ضمنها بستان الرهبان خاصة بنصائحه إلى أبنائه الرهبان، في النسك والروحيات وله سيرته وحياته المقدسة التي كان يتغذى بها الناس وتعاليمه كانت إما في كلمات قليلة يرد بها أو في عظات طويلة كما في رسالته، وفى سيرته وله في كتاب سيرته التي وضعها القديس أثناسيوس، عظة طويلة قالها عن ضعف الشياطين، وأنه ليست لهم القدرة الخيالية التي يخشاها الناس لذلك لا داعي أبدا لأن يخافهم الناس ويرتعبوا منهم.. إنها عظة طويلة وكلمات الأنبا أنطونيوس كان لها تأثيرها، ليس في الأشخاص العاديين فقط إنما أيضا في شيوخ الرهبنة وقادتها ومرشديها.كانوا جميعا يعرفون أنه يتكلم بالروح القدس ولم تكن كلماته فقط نافعة للتعليم، أو سيرة حياته فقط نافعة للتعليم، وإنما حتى مجرد ملامح وجهه زاره مرة ثلاثة من الرهبان، أخذ اثنان منهم يسألانه عن بعض أمور. أما الثالث فبقى صامتا. فسأله الأنبا أنطونيوس، لماذا لا يطلب شيئا مثل زميليه؟ فأجاب: يكفيني مجرد النظر إلى وجهك يا أبى وقد قال القديس أثناسيوس عن الأنبا أنطونيوس: [من الناس كان مضطرب القلب أو مر النفس، ويرى وجه الأنبا أنطونيوس، إلا ويمتلئ بالسلام..] لعله كان أيضا من مصادر السلام بالنسبة إلى الأنبا أثناسيوس نفسه في وسط ضيقاته الكثيرة وكان الأنبا أنطونيوس يحب الإفراز، آي الحكمة والتمييز والمعرفة ففي إحدى المرات سأله أولاده عن الفضيلة العظمى في الرهبنة. فقال لهم: إنها الإفراز، لأن كثيرين صاموا، وأضروا أنفسهم بصومهم. وكثيرين صلوا وفشلوا في صلواتهم، بسبب عدم الإفراز. وله عظة عن الإفراز في بستان الرهبان ذلك لأن الشخص الذي يقتنى الإفراز والتمييز، يستطيع أن يميز بين النافع والضار اللائق وغير اللائق. لذلك أهتم الأنبا أنطونيوس بفضيلة الإفراز. وهو أيضا كانت له هذه الفضيلة ولم يكن يفرح بالآراء بقدر ما كان يفرح بالعمل الروحي الفاضل، وبخاصة الباطني منه في إحدى المرات زاره بعض الرهبان، وسألهم في تفسير رأيهم آية معينة، فأبدى كل منهم وجهة نظره. وكان الأنبا يوسف معهم فبقى صامتا. فسأله القديس الأنبا أنطونيوس عن رأيه في تفسير الآية، فأجاب: صدقني يا أبى أنى لا أعرف وهنا قال له الأنبا أنطونيوس: [طوباك يا أنبا يوسف، لأنك عرفت الطريق إلى كلمة لا أعرف]. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
10 يناير 2019

لماذا جاء السيد المسيح إلى عالمنا

هذا يوضحه الإنجيلى بقوله: "لأن أبن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو10:19) وهذ1 يعنى الخطاة الهالكين. ولماذا جاء يخلصهم؟ السبب أنه أحبهم على الرغم من خطاياهم!! وفى هذا يقول الكتاب: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد, لكى لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية" (يو16:3). أذن هو حب أدى إلى البذل, بالفداء. قصة ميلاد المسيح إذن, هى فى جوهرها قصة حب. أحب الله العالم, العالم الخاطئ , المقهور من الشيطان, المغلوب من الخطية……العالم الضعيف العاجز عن أنقاذ نفسه! أحب هذا العالم الذى لا يفكر فى حب نفسه حباً حقيقياً, ولا يسعى إلى خلاص نفسه……بل العالم الذى فى خطيته أنقلبت أمامه جميع المفاهيم والموازين, فأصبح عالما ضائعاً. والعجيب أن الله لم يأت ليدين هذا العالم الخاطئ, بل ليخلصه، فقال: "ما جئت لأدين العالم, بل لأخلص العالم" (يو47:12). لم يأت ليوقع علينا الدينونة, بل ليحمل عنا الدينونة. من حبه لنا وجدنا واقعين تحت حكم الموت, فجاء يموت عنا. ومن أجل حبه لنا, أخلى ذاته, وأخذ شكل العبد, وصار إنساناً. كانت محبة الله لنا مملوءة أتضاعاً, فى ميلاده, وفى صلبه. فى هذا الأتضاع قبل أن يولد فى مذود بقر, وأن يهرب من هيرودس, كما فى إتضاعه أطاع حتى الموت, موت الصليب, وقبل كل الآلام والإهانات لكى يخلص هذا الإنسان الذى هلك. رأى الرب كم فعلت الخطية بالإنسان!!! فتحنن عليه….. كان الإنسان الذى خلق على صورة الله ومثاله قد أنحدر فى سقوطه إلى أسفل, وعرف من الخطايا ما لا يحصى عدده, حتى وصل إلى عبادة الأصنام "وقال ليس إله"….."الجميع زاغوا وفسدوا معاً" (مز 1:14-3)….. ووصلت الخطية حتى إلى المواضع المقدسة. الإنسان وقف من الله موقف عداء. ورد الله على العداء بالحب!!!! فجاء فى محبته "يطلب ويخلص ما قد هلك". وطبعاً الهالك هو الإنسان الذى عصى الله وتحداه, وكسر وصاياه, وبعد عن محبته, "وحفر لنفسه آباراً مشققة لا تضبط ماء" (أر 13:2)……ولكن الله – كما أختبره داود النبى "لم يصنع معنا حسب خطايانا, ولم يجازنا حسب أثامنا, وإنما….كبعد المشرق عن المغرب, أبعد عنا معاصينا" (مز10:103-12). ولماذا فعل هكذا؟ يقول المرتل: "لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن" (مز 14:103). حقاً إن الله نفذ (محبة الأعداء) على أعلى مستوى…. جاء الرب فى ملء الزمان, حينما أظلمت الدنيا كلها, وصار الشيطان رئيساً لهذا العالم(يو30:14) وأنتشرت الوثنية, وكثرت الأديان, وتعددت الآلهة…. ولم يعد للرب سوى بقية قليلة, قال عنها إشعياء النبى:"لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة, لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة"(إش9:1) وجاء الرب ليخلص هذا العالم الضائع, يخلصه من الموت ومن الخطية.وقف العالم أمام الله عاجزاً, يقول له: "الشر الذى لست أريده, إياه أفعل"…… "ليس ساكنا فى شئ صالح" ……"أن أفعل الحسنى لست أجد" (رو 17:7-19). أنا محكوم على بالموت والهلاك. وليس غيرك مخلص (إش 11:43). هذا ما تقوله أفضل العناصر فى العالم, فكم وكم الأشرار الذين يشربون الخطية كالماء, ولا يفكرون فى خلاصهم!! إن كان الذى يريد الخير لا يستطيعه, فكم بالأولى الذى لا يريده؟!إنه حقًا قد هلك ……لم يقل الكتاب عن المسيح إنه جاء يطلب من هو معرض للهلاك, وإنما من قد هلك….لأن "أجرة الخطية هى الموت" (رو 23:6). والرب فى سمائه أستمع إلى آنات القلوب وهى تقول: قلبى قد تغير: الله لم أعد أطلبه. والخير لم أعد أريده. والتوبه لا أبحث عنها ولا أفكر فيها, ولا أريدها. لماذا؟؟ لأن "النور جاء العالم, ولكن العالم أحب الظلمة أكثر من النور, لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو19:3). وما دام قد أحب الظلمة أكثر من النور, إذن فسوف لا يطلب النور ولا يسعى إليه!!! هذا العالم الذى يحب الظلمة, جاء الرب ليخلصه من ظلمته. "إلى خاصته جاء, وخاصته لم تقبله" (يو 11:1). وعدم قبولهم له معناه أنهم هلكوا. والرب قد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك. رفضهم له لا يعنى أنه هو يرفضهم. بل على العكس يسعى إليهم, لكى يخلصهم من هذا الرفض. "لأنه يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تى 4:2). كذلك جاء يطلب الوثنيين الذين يعبدون آلهه أخرى غيره. هم لا يعرفونه. ولكنه يعرفهم ويعرف ضياعهم. وقد جاء لكى يطلبهم "النور أضاء فى الظلمة. والظلمة لم تدركه" (يو 5:1) ولكنه لم يتركهم لعدم إدراكهم له. إنما جاء ليعطيهم علم معرفته. وقد قال للآب عن كل هؤلاء الذين جاء ليخلصهم: "عرفتهم أسمك وسأعرفهم, ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به, وأكون أنا فيهم" (يو 26:17). ما أكثر ما أحتمل الرب لكى يخلص ما قد هلك. لست أقصد فقط ما أحتمله على الصليب ولكنى أقصد أيضًا ما أحتمله أثناء كرازته من الذين رفضوه , حتى من خاصته!!! التى لم تقبله…. حقًا ما أعجب هذا أن يأتى شخص ليخلصك, فترفضه وترفض خلاصه. ومع ذلك يصر على أن يخلصك!!!! حتى الذين أغلقوا أبوابهم فى وجهه, صبر عليهم حتى خلصهم. كان فى محبته وفى طول أناته, لا ييأس من أحد…..جاء يعطى الرجاء لكل أحد, ويفتح باب الخلاص أمام الكل…."يعطى الرجاء حتى للأيدى المسترخية وللركب المخلعة" (عب 12:12). "قصبة مرضوضة لا يقصف, وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (مت 20:12). إنه جاء ليخلص, يخلص الكل. وكل هؤلاء مرضى وضعفاء وخطاة، ومحتاجون إليه. وهو قد قال: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى ما جئت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة" (مر 17:2). من أجل هذا, لم يجد المسيح غضاضة أن يحضر ولائم الخطاة والعشارين ويجالسهم ويأكل معهم ويجتذبهم إليه بالحب. ويقول للمرأة التى ضبطت فى ذات الفعل: "وأنا أيضًا لا أدينك" (يو 11:8) لأنه ما جاء ليدينها بل ليخلصها. وهكذا قيل عنه إنه "محب للعشارين والخطاة" (مت 19:11). بل إنه جعل أحد هؤلاء العشارين رسوًلا من الأثنى عشر (متى). وأجتذب زكا رئيس العشارين للتوبة وزاره ليخلصه هو وأهل بيته, وقال: "اليوم حدث خلاص لأهل هذا البيت إذ هو أيضا إبن لإبراهيم" (لو 9:19). فتزمروا عليه قائلين: "أنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ" ولكنه كان يطلب ويخلص ما قد هلك. إنه لم يحتقر الخطاة مطلقا, فالأحتقار لا يخلصهم! إنما يخلصهم الحب والأهتمام, والرعاية والأفتقاد, والعلاج المناسب…..العالم كله كان فى أيام المسيح "قصبة مرضوضة وفتيلة مدخنة". فهل لو العالم فسد وهلك, يتخلى عنه الرب؟! كلا… بل يعيده إلى صوابه. حتى الذين قالوا إصلبه, قدم لهم الخلاص أيضاً. وقال للآب وهو على الصليب: "يا أبتاه أغفر لهم , لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون" (لو 34:23). ولماذا قال: "أغفر لهم"؟….لأنه جاء يطلب ويخلص ما قد هلك. ولهذا فتح باب الفردوس أمام اللص المصلوب معه….. لم يكن ينظر إلى خطايا الناس, إنما إلى محبته هو.لم ينظر إلى تعدياتنا, إنما إلى مغفرته التى لا تحد. أما تعدياتنا فقد جاء لكى يمحوها بدمه. وحينما كان ينظر إليها, كان يرى فيها ضعفنا. لذلك قال له المرتل: "إن كنت للآثام راصداً يا رب, يا رب من يثبت؟! لأن من عندك المغفرة" (مز 130). إنه درس لنا, لكى لا نيأس, بل نطلب ما قد هلك. هناك حالات معقدة فى الخدمة نقول عنها: "لا فائدة فيها" , فنتركها ونهملها كأن لا حل لها, بل نقول إنها من نوع الشجرة التى لا تصنع ثمراً، فتقطع وتلقى فى النار (يو 10:3). أما السيد المسيح فلم ييأس مطلقاً, حتى من إقامة الميت الذى قال عنه أحباؤه إنه قد أنتن لأنه مات من أربعة أيام (يو 11). وهذا درس لنا أيضاً لكى نغفر لمن أساء إلينا. لأن الرب فى تخليصه ما قد هلك, إنما يغفر لمن أساء اليه. فالذى هلك هو خاطئ أساء إلى الله. والرب جاء يطلب خلاصه……!! كم ملايين والآف ملايين عاملهم الرب هكذا, بكل صبر وكل طول أناة، حتى تابوا وخلصوا. وبلطفه أقتادهم إلى التوبة (رو 4:2). كثيرون سعى الرب إليهم دون أن يفكروا فى خلاصهم.وضرب مثالاً لذلك: الخروف الضال, والدرهم المفقود (لو15). ومثال ذلك أيضا الذين يقف الله على بابهم ويقرع, لكى يفتحوا له (رؤ 20:3). وكذلك الأمم الذين ما كانوا يسعون إلى الخلاص, ولكن السيد المسيح جاء لكى يخلصهم ويفتح لهم أبواب الإيمان. ويقول لعبده بولس: "إذهب فإنى سأرسلك بعيداً إلى الأمم" (أع21:22) لما ذكر القديس بولس هذه العبارة التى قالها له الرب صرخ اليهود عليه قائلين إنه: "لا يجوز أن يعيش" (أع 22:22).ولكن هداية الأمم كانت قصد المسيح الذى جاء يطلب ويخلص ما قد هلك. جاء الرب يغير النفوس الخاطئة إلى أفضل.غير المؤمنين جاء يمنحهم الإيمان.والخاطئون جاء يمنحهم التوبة. والذين لا يريدون الخير جاء يمنحهم الإرادة. والذين رفضوه جاء يصالحهم ويصلحهم. وهكذا كان يجول يصنع خيراً (أع38:10). حتى المتسلط عليهم إبليس جاء ليعتقهم ويشفيهم. لذلك نحن نناديه فى أوشية المرضى ونقول له: "رجاء من ليس له رجاء, ومعين من ليس له معين. عزاء صغيرى النفوس, وميناء الذين فى العاصف". كل هؤلاء لهم رجاء فى المسيح الذى جاء يطلب ويخلص ما قد هلك….إنه عزاء الهالكين وأملهم لذلك دعى أسمه "يسوع" أى المخلص, لأنه جاء يخلص. ولذلك فإن ملاك الرب المبشر ليوسف النجار, قال له عن العذراء القديسة: "ستلد أبناً, وتدعو أسمه يسوع, لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت 21:1). مجرد إسمه يحمل معنى رسالته التى جاء من أجلها, أنه جاء يخلص ما قد هلك جاء يبشر المساكين, يعصب منكسرى القلوب. ينادى للمسبيين بالعتق, وللمأسورين بالإطلاق"(إش 1:61). ما أحلاها بشرى جاء المسيح بها. لم يقدم للناس إلهاً جباراً يخافونه….بل قدم لهم أباً حنوناً يفتح لهم أحضانه, يلبسهم حلة جديدة. ويضع خاتماً فى أصبعهم , ويذبح لهم العجل المسمن (لو 15). إلهاً يخلصهم من خطاياهم , ويمسح كل دمعة من عيونهم وهكذا أرتبط الخلاص بأسم المسيح وبعمله وفدائه. فإن كنت محتاجاً للخلاص, فأطلبه منه: يخلصك من عاداتك الخاطئة, ومن طبعك الموروث, ومن خطاياك المحبوبة, ومن كل نقائصك. ينضح عليك بزوفاه فتخلص, ويغسلك فتبيض أكثر من الثلج. هذه هى صورة المسيح المحببة إلى النفس, الدافعة إلى الرجاء فإن أردت أن تكون صورة المسيح, أفعل مثله. أطلب خلاص كل أحد. أفتقد سلامة أخوتك. وأولاً عليك أن تحب الناس كما أحبهم المسيح, وتبذل نفسك عنهم – فى حدود إمكاناتك – كما بذل المسيح. وتكون مستعداً أن تضحى بنفسك من أجلهم. بهذا تدخل فاعلية الميلاد فى حياتك ثم أنظر ماذا كانت وسائل المسيح لأجل خلاص الناس. أستخدم طريقة التعليم, فكان يعظ ويكرز, ويشرح للناس الطريق السليم , حتى يسلكون بالروح وليس بالحرف. وأستخدم أيضاً أسلوب القدوة الصالحة. وبهذا ترك لنا مثالاً, حتى كما سلك ذاك, ينبغى أن نسلك نحن أيضاً( 1يو 6:2). وأستخدم المسيح الحب, وطول الأناة, والصبر على النفوس حتى تنضج. كما أستخدم الأتضاع والهدوء والوداعة. وأخيرًا بذل ذاته, مات عن غيره, حامًلا خطايا الكل فأفعل ما تستطيعه من كل هذا. وأشترك مع المسيح, على الأقل فى أن تطلب ما قد هلك, وتقدمه للمسيح يخلصه وعلى الأقل قدم صلاة عن غيرك ليدخل الرب فى حياته ويخلصه. والصلاة بلا شك هى عمل فى إمكانك. ولا تكن عنيفاً ولا قاسياً فى معاملة الخطاة, بل تذكر قول الرسول: "أيها الأخوة إن انسيق إنسان, فأخذ فى زلة , فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة" (غل 1:6). كما إستخدم الرب روح الوداعة فى طلب الناس وتخليصهم قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
02 يناير 2019

جاء المسيح ينشر الحب

لهذا الشرق المُبارَك الذي وُلِدَ فيه المسيح، وبثَّ فيه تعاليمه، وللعالم كله لقد جاء المسيح ينشر الحُب. حيثما كان يتحرَّك، كان الحُب يتحرَّك. وأينما كان يقيم، كان الحُب يقيم. عرفه الجميع مُحبَّاً، ومُحبَّاً للجميع وكان يقول لتلاميذه: " وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حُبٌّ بعضاً لِبَعضٍ " ( يو 13 : 34، 35 )... تُرى لماذا اعتبر هذا الحب وصية جديدة؟ أليس لأنه يطلب لهم حُبَّاً من نوع خاص له عمقه. إنه الحُب الباذل، مثل حُبه هو الذي قال عنه" ليس لأحدٍ حُبٌّ أعظم من هذا: أنْ يَضعَ أحدٌ نَفْسَهُ لأجل أحِبَّائه " ( يو 15 : 13 ). وهكذا قيل عن محبته لتلاميذه: " إذ كان قد أحَبَّ خاصَّتَهُ الذين في العالم، أحَبَّهُم حتى المُنتهى " ( يو 13 : 1 ). وعبارة " حتى المنتهى " هنا، تعني أنها محبة بلا حدود ولم يكن الحُب لتلاميذه فقط، بل هى وصية للعالم كله... فلمَّا سألوه: ما هى الوصية العُظمى في الناموس ( أي الشريعة )؟ أجاب: " تُحِبُّ الربَّ إلهَكَ من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعُظمى. والثانية مثلها: تُحِبُّ قريبك كنفسِكَ. بهاتين الوصيَّتين يتعلَّقُ الناموس كله والأنبياء " ( مت 22 : 34 ـ 40 ) وكلمة ( قريبك ) هنا، تعني جميع البشر. لأننا كلنا أقرباء: أبناء أب واحد هو آدم، وأم واحدة هى حواء وطبيعي إن كان كل منا يحب جميع الناس، فلن يسرق أحداً، ولا يقتل أحداً، ولا يسئ إلى أحد، ولا يُدنِّس عفة أحد وإن كان يحب اللَّه، فلن يعصاه في شيء، ولا يكسر شيء من وصاياه. وبهذا يكون كلام السيد المسيح عن محبة اللَّه والقريب قد شمل كل نصوص الشريعة وكل وصايا الأنبياء والمحبة التي نشرها السيد المسيح تشمل محبة الأعداء أيضاً. فهو الذي قال: " أحِبُّوا أعداءكم. بارِكوا لاعِنيكم. أحسِنوا إلى مُبْغِضِيكُم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم " ( مت 5 : 44 ). وقال تعليقاً على ذلك: " لأنه إن أحبَبْتُم الذين يُحِبُّونكم، فأيُّ أجرٍ لكم؟! أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟ " ( مت 5 : 46 ). كما أنَّ اللَّه المُحب، هو أيضاً " يشرق بشمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين " ( مت 5 : 45 ) وهكذا توصي المسيحية بأنه " إن جاعَ عدُوُّكَ فأطْعِمْهُ. وإن عَطِشَ فاسْقِهِ " ( رو 12 : 20 ). وقد ضرب السيد المسيح مثل السامرى الصالح، الذي وجد يهودياً اعتدى عليه اللصوص وتركوه بين حي وميت. فلمَّا رآه سامري مسافر، نزل واعتنى به، وعالجه وحمله إلى فندق، وأنفق عليه ( لو 10 : 30 ـ 36 ). بينما اليهود لا يعاملون السامريين ( يو 4 : 9 ). والقصد من هذا المَثل العناية بالأعداء من جهة، ومعنى كلمة القريب من جهة أخرى إنَّ محبة السيد المسيح قد شملت الغرباء مثل السامريين، وقصته واضحة في هداية المرأة السامرية، ومدينتها ( يو 4 ) ورفضه معاقبة قرية سامرية أغلقت أبوابها في وجهه. وقوله لتلميذيه وقتذاك إنه " لم يأتِ ليُهلِكَ أنْفُسَ الناس بل ليُخلِّصها " ( لو 9 : 52 ـ 59 ) وشملت محبته الأمم أيضاً أي الـ Gentiles وكان اليهود لا يقبلونهم ولا يتعاملون معهم ولا يتزاوجون باعتبار أنهم من الكفرة غير المؤمنين. ولكن السيد المسيح تعامل معهم بحب. ولمَّا جاءه قائد مائة أُممي يطلب من أجل شفاء عبد له مُشرف على الموت، وقال له: " يا سيد، لست مُستحقَّاً أن تدخل تحت سقفي. لكن قُل كلمة فيبرأ غلامي ". فمدحه السيد المسيح وشفى غلامه. وقال للجمع المحيط " إني لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً مقدار هذا " ( لو 7 : 2 ـ 10 ) ومن محبته لهؤلاء الأمم ـ الذين كانوا يعبدون آلِهَة غريبة ـ دعا تلاميذه أن يبشِّروهم بالمسيحية ( أع 1 : 8 )، ( مر 16 : 15 ). وهكذا دخلوا في الإيمان، وتركوا عباداتهم وأصنامهم إذ قوبلوا بالمحبة وليس بالاحتقاروأحب السيد المسيح أيضاً العشارين والخُطاة، وجذبهم إليه. ومن أمثلتهم زكا العشار الذي لمَّا دخل المسيح إلى بيته، انتقده اليهود لأنه دخل عند رجل خاطئ. فردَّ المسيح قائلاً: " اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن لإبراهيم " ( لو 19 : 7 ـ 9 ). وقال عن رسالته أنه " جاء يطلب ويُخلِّص ما قد هلك " ( لو 19 : 10 ) ومحبة السيد المسيح بالذَّات شملت المرضى والمحتاجين وكل مَن صرعهم الشيطان. فكان يجول يصنع خيراً ويشفي جميع المُتسلِّط عليهم إبليس ( أع 10 : 38 ) " فأحضروا إليه جميع السُّقماء المُصابين بأمراضٍ وأوجاعٍ متنوعة، والمجانين والمصروعين والمفلوجين، فشفاهم " ( مت 4 : 24 ). وكانت المعجزات ممزوجة بالحُب، وأحياناً بعبارة " تحنن ". ونفس هذا الحنان كان له في مجال التعليم، إذ قيل عنه: " ولمَّا رأى الجموع تحنن عليهم، إذ كانوا منزعجين ومُنطرحين كغنمٍ لا راعي لها " ( مت 9 : 36 ). ونفس هذا الحنان أيضاً قيل عنه في معجزة إقامته ابن أرملة نايين من الموت ( لو 7 : 11 ـ 15 ) ومحبته شملت جميع الفقراء والمحتاجين. فقال عن الاهتمام بالجياع والعطاش والغرباء والعرايا والمحبوسين: " مهما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي قد فعلتم " ( مت 25 : 40 ). ووعد المهتمين بكل هؤلاء بالبركة والدخول إلى ملكوت اللَّه ومحبته شملت أيضاً كل البؤساء، والمُهمَّشين في المجتمع، والذين هم في ضيق. وقد قال إنه جاء لكي " يبشر المساكين، ويعصب منكسري القلوب، ويُنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق " ( إش 61 : 1، 2 ) كان ينشر الحُب الذي ترتبط فيه محبة اللَّه بمحبة الإنسان. كما يرتبط الحب بالإيمان وبالاحتمال. وهكذا تقول لنا المسيحية: " مَن لا يحب أخاه الذي يبصره، كيف يقدر أن يحب اللَّه الذي لم يبصره " ( 1يو 4 : 20 ). على أنَّ المحبة للإخوة، ينبغي أن تكون محبة عملية، وليست مُجرَّد كلام. فهكذا تعلمنا المسيحية " لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق " ( 1يو 3 : 18 ). وهكذا توصينا " بالإيمان العامل بالمحبة " ( غلا 5 : 6 ). فكل عمل خالٍ من المحبة، لا يقبله اللَّه المسيحية تُقدِّم لنا اللَّه المُحب، الذي أحبَّنا قبل أن نوجد ـ حينما كنا في عقله فكرة، وفي قلبه مسرة ـ ومن أجل هذا الحُب أوجدنا. وبالحُب منحنا البركة والرعاية والمواهب. وفي محبته لنا، ندعوه أباً. ونُصلِّي له قائلين: " أبانا الذي في السموات ". وفي محبته لنا ندعوه الراعي الصالح الذي يهتم بخرافه، ولا يستطيع أحد أن يخطفها من يده ( يو 10 : 11 ـ 28 ) إنه إلهنا الطيب الذي قال: " أنا أرعى غنمي وأربضها ... وأطلب الضال، وأسترد المطرود، وأعصب الجريح وأجبر الكسير " ( حز 34 : 15، 16 ). وهو الذي يعطينا دون أن نطلب، ويعطينا فوق ما نطلب. له المجد في محبته غير المحدودة. لقداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
26 ديسمبر 2018

العالم محتاج السلام

علي الرغم من كل ما في العالم من كنوز‏,‏ ومن خيرات لا تحصي‏,‏ ومن نتائج كثيرة لنمو العلم و المخترعات‏,‏ ومن نتائج عجيبة للمدنية والحضارة والعلم‏‏ ومع ذلك فإنه محتاج ولعلنا نسأل إلي أي شيء هو محتاج؟‏!‏ العالم محتاج إلي السلام وإلي الهدوء‏, فإلي أي مكان نذهب إليه نجد احتياج العالم إلي السلام, في هذا الجو المضطرب, والذي يموج بالاختلافات في كل بلد وفي كل مكان حتى إنك لا تتصفح الجرائد في أي يوم, إلا وتجد أخبار الصحف الرئيسية عن مشاكل العالم جملة, وعن المشاكل المحلية في كل بلد تجد هذا في العناوين الرئيسية فإن دخلت إلي التفاصيل تجد ما هو أبشع نعم هذا هو العالم الذي خلقه الله في سلام وفيه كان يعيش أبونا آدم في سلام حتى مع الوحوش كانت في سلام معه, ويعيش هو في سلام معها, وتأتي إليه ويسميها بأسماء وبنفس الوضع كان يعيش أبونا نوح مع الوحوش في الفلك ويهتم بها ويغذيها, ويتعهدها بالرعاية وإن كان السلام هكذا, فإن الله قد أوصانا قائلًا: وأي بيت دخلتموه, فقولوا سلام لأهل هذا البيت، ونص الآية هو: "وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلًا: سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ." (إنجيل لوقا 10: 5) وهكذا عندما كنت أزور أي بيت من بيوت أولادنا في المهجر, كانت أول عبارة أقولها عندما تخطو قدماي باب بيتهم, كنت أقول: قال الرب: وأي بيت دخلتموه فقولوا سلام لأهل هذا البيت والسلام معروف في كل تحياتنا مع بعضنا البعض فإن حضر أحد من سفر نقول له: حمدا لله علي السلامة وإن سافر, نقول له: مع السلامة, وإن وقع علي الأرض, نقول له: سلامتك. وأي اجتماع رسمي, نبدأه بالسلام الجمهوري. والسلام علي أنواع ثلاثة: سلام مع الله, وسلام مع الناس, وسلام داخل النفس, في الفكر وفي القلب, ما بين الإنسان وبين نفسه, ولذلك فالإنسان البار هو في سلام مع الله أما إذا بدأ بالخطية يبتعد عن الله, حينئذ يفقد سلامه الداخلي, ويحتاج أن يصطلح مع الله بالرجوع إليه. غير المؤمن يصطلح مع الله بالإيمان وحياة البر. أما المؤمن الخاطئ, فيصطلح مع الله بالإيمان وحياة البر وإلهنا المحب الغفور يكون مستعدًا لقبول ذلك الصلح, إذ يقول: ارجعوا إلي أرجع إليكم ويأتي هذا السلام أيضا بحفظ الله للإنسان: كما يقول: "وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ" (سفر التكوين 28: 15) أحفظك من حروب الشياطين, ومن الناس الأشرار وأحفظك من حروبك الداخلية, وأحفظ دخولك وخروجك.. وينضم إلي هذا المزمور وعود الله الكثيرة, كقوله: "هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ." (إنجيل متى 28: 20) وقوله عن الكنيسة: إن "أَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا." (إنجيل متى 16: 18). نقطة ثانية وهي سلام مع الناس, فيها يسلم الناس علي بعضهم البعض ليس فقط بالأيدي وإنما بالقلب والشعور أيضًا وإن كانت بينهم خصومة من قبل فإنهم يتصالحون. ولأنه قد يبدو من الصعب أن تصطلح النفس مع كثير من الأعداء والمقاومين, فإن الكتاب يقول: إن كان ممكنا, فعلي قدر طاقتكم سالموا جميع الناس, وقيل علي قدر طاقتكم فإن هناك أشخاصا تحاول أن تسالمهم وهم لا يريدون إما بسبب طباعهم, أو بسبب سلوكك الطيب يكشف سلوكهم الرديء, أو لأنهم يحسدونك بسبب نجاحك, أو بسبب تدبير أو بسبب تدابير معينة يدبرونها, أو لأي سبب آخر فهؤلاء أيضًا سالمهم حسب طاقتك وإن وجد خلاف فلا يكن بسببك أنت.. قد يعاكسك الغير.. ولكن لا تبدأ أنت بالخصومة تكن حساسًا جدًا من جهة احتمال أخطاء الغير, كن واسع الصدر حليمًا وتذكر أنه قيل عن موسي النبي: "وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ." (سفر العدد 12: 3) إن بدأ الغير بالخصومة فاحتمل, فقد قيل في الكتاب: "لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 19).. "لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 17). لذلك ابعد عن الغضب. ولا تعط فرصة لأحد أن يستثيرك فتخطئ واسمع هذه النصيحة الغالية: "لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ." (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 21).. واعرف أن الذي يحتمل هو الأقوى.. أما الذي لا يستطيع أن يحتمل فهو الضعيف. لأنه لم يقدر علي ضبط نفسه. † لا تطالب الناس بمثاليات لكي تستطيع التعامل معهم. نعم, بل تعامل معهم كما هم, وليس كما ينبغي أن يكونوا, وإلا فربما يأتي عليك وقت تختلف مع الجميع, إننا نقبل الطبيعة كما هي: الفصل المُمْطِر, والفصل العاصِف, والفصل الحار.. دون أن نطلب من الطبيعة أن تتغير لترضينا.. فلتكن هذه معاملتنا لمن نقابلهم من الناس, إنهم ليسوا كلهم أبرارًا أو طيبين. كثير منهم لهم ضعفات, ولهم طباع تسيطر عليهم, إنهم عينات مختلفة, وبعضها مثيرة, فلتأخذ منهم بقدر الإمكان موقف المتفرج وليس موقف المنفعل, وعاملهم حسب طبيعتهم بحكمة, ولكن احترس من معاشرة الأشرار الذين قد يجذبونك إلي الخطيئة معهم, "إِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 15: 33). النقطة الأخيرة هي السلام داخل النفس, أي السلام داخل القلب والفكر, والذي عنده مثل هذا السلام, يظهر أيضا هذا السلام في ملامح وجهه. فنجد أن ملامحه مملوءة سلامًا, ويستطيع أن يشيع السلام في نفوس الآخرين, وفي وجوده, يكون الجو مملوءًا سلامًا, ويكون مملوءا أيضا اطمئنانًا وذلك بسبب عمل الله معه, وعمل الله فيه أما الذي يفقد سلامه الداخلي, فإنه يقع في الاضطراب والخوف والقلق والشك. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل